الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174865 / تحميل: 5996
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

والظاهر أن القضية ذاتها كانت عجيبة عند سليمان ، بحيث تحذّر نملة صويحباتها من النمل تحذرهنّ من تحطيم سليمان وجنوده إياهن وهم لا يشعرون :فضحك من أجلها!

وقال بعضهم : كان ضحك سليمان سرورا منه بأن عرف أن النمل تعترف بتقواه وعدالته وتقوى جنوده وعدالتهم.

وقال بعضهم : كان ضحكه وتبسمه لأنّ الله أعطاه هذه القدرة ، وهي أنّه برغم جلجلة جيشه ولجبه فإنّه التفت إلى صوت النملة مخاطبة بقية النمل فلم يغفل عنها.

وعلى كل حال ، فإن سليمان توجه نحو الله داعيا وشاكرا مستزيدا فضله( وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ ) (١) .

أي ، لتكون لي القدرة أن استعمل هذه النعم جميعها في ما أمرتني به وما يرضيك ، ولا أنحرف عن طريق الحقّ فإن أداء شكر هذه النعم لا يكون إلّا بتوفيقك وإعانتك.( وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) وهو يشير إلى أن بقاء هذا الجيش وحكومته وتشكيلاتها الواسعة غير مهم بالنسبة إليه ، بل المهم أن يؤدي عملا صالحا يرضي به ربّه ، وحيث أن «أعمل» فعل مضارع فهو دليل على طلب استمرار التوفيق من قبل الله له.

والطلب الثّالث الذي طلبه سليمان من ربّه ، كما حكته الآية ، هو أن يجعله في زمرة الصالحين ، إذ قال :( وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ )

* * *

__________________

(١) «أوزعنى» من مادة (إيزاع) ومعناه «الإلهام» ، أو المنع عن الانحراف ، أو إيجاد العشق والتعلق ، إلّا أن أغلب المفسّرين اختاروا المعنى الأوّل.

٤١

بحوث

١ ـ معرفة سليمان بلغة الحيوانات ومنطقها

ليس لنا كثير معرفة بعالم الحيوانات وما يزال الغموض أو الإبهام يكتنف هذا العالم ويلقي عليه ظلاله ، بالرغم من التقدم العلمي في هذا المجال.

إنّنا نرى آثار ذكاء الحيوانات ومهارتها في كثير من أعمالها فبناء خلايا النحل بشكلها المنظّم الدقيق ، ودقة النمل في جميع ما يحتاج للشتاء ، وكيفية ذخيرته ومذخره! ودفاع الحيوانات عن نفسها عند مواجهتها العدوّ ، وحتى معرفتها بكثير من الأمراض ، والعثور على بيوتها وأوكارها من الأماكن البعيدة ، وقطع المسافات الطويلة للوصول إلى هدفها وتوقّعها عن حوادث المستقبل وأمثالها.

كل هذه الأمور تدل على أن في دنيا الحيوانات المجهولة كثيرا من الوسائل الغامضة التي لا نعرف حلّها!.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ كثيرا من الحيوانات تقوم بأعمال مذهلة نتيجة للتعلم والتربية يعجز عنها حتى الإنسان.

إلّا أنّه ليس من الواضح أنّ هذه الحيوانات إلى أية درجة هي خبيرة بدنيا الناس! ترى هل تعلم الحيوانات واقعا : من نحن؟! وما نعمل؟ وقد لا نعهد في هذه الحيوانات ذكاء بهذا المستوى ، إلّا أن هذا لا يعني نفيه وسلبه عنها.

فعلى هذا الحساب إذا كنّا قرأنا في القصّة السابقة أن النمل علم بمجيء سليمان وجنوده ، وحذر من البقاء ، وأنّه يجب التوجه نحو مساكنه لئلا يحطمه سليمان وجنوده وسليمان عرف هذا الموضوع تماما فلا مجال للعجب.

ثمّ بعد هذا فإن حكومة سليمان ـ كما قلنا آنفا ـ كانت خارقة للعادات مقرونة بالمعاجز ، فعلى هذا الأساس أبدى بعض المفسّرين اعتقادهم بأن هذا

٤٢

المستوى من الاطلاع والمعرفة ـ من قبل فئة من الحيوانات في عصر سليمان ، هو بنفسه إعجاز خارق للعادة ، ولا يمنع أن لا نرى ذلك عينه في سائر العصور والقرون.

والغرض أنّه لا دليل عندنا على حمل قصّة سليمان والنمل ، أو سليمان والهدهد ، على الكناية أو لسان الحال ، مع إمكان حفظ الظاهر وحمله على المعنى الحقيقي(١) !

٢ ـ سليمان وإلهامه الشكر لله

إن واحدة من أفضل العلامات لمعرفة الحكام الإلهيين وتمييزهم عن الحكام الجبابرة ، هي أن الجبابرة حين يصلون إلى القدرة يغرقون في الغرور والغفلة ، وينسون القيم الإنسانية كلّها ويندكّون بشدّة في أنانيتهم!

إلّا أن الحكام الإلهيين حين ينالون القدرة يحسّون بأعباء المسؤولية فيتوجهون نحو الله أكثر من أي وقت مضى ، ويسألونه العون والقدرة على أداء رسالتهم كما أن «سليمان» بعد أن وصل إلى تلك القدرة. كان أهم شيء عنده أن يسأل الله الشكر على نعمه ، والإفادة من هذه المواهب في مسير رضاه وسعادة عباده!.

وممّا يلفت النظر أن يبدأ طلبه بعبارة( أَوْزِعْنِي ) ومفهومه الإلهام الوجداني وإعداد القوى الباطنية كلها لأداء هذا الهدف الكبير. ومعناها : اللهم تفضل علي بقدرة وطاقة تجعلني أعبئ كل قواي الداخلية لأداء شكرك ، وأداء ما عليّ من مسئولية ودلّني على السبيل إليك ، لأنّ الطريق طويل صعب محفوف

__________________

(١) تحدثنا في تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام عن هذا الشأن أيضا

٤٣

بالمخاوف والمخاطر طريق أداء حقوق جميع الناس في مثل هذه الحكومة الواسعة.

إنّه لا يطلب الإيزاع على شكر نعم الله عليه فحسب ، بل يطلب في الوقت ذاته أن يؤدي الشكر على المواهب والنعم التي أنعمها الله على والديه لأنّ كثيرا من مواهب وجود الإنسان يرثها عن والديه وممّا لا شك فيه أن الإمكانات التي يمنحها الله للوالدين تعين الأبناء كثيرا في سبيل الوصول لأهدافهم.

٣ ـ سليمان والعمل الصالح

ممّا يلفت النظر أن سليمان رغم حكومته وسلطنته التي لا نظير لها ، وتلك القدرة الواسعة ، إلّا أنّه يطلب من الله يوفقه للعمل الصالح باستمرار ، وأهم من ذلك وأسمى أن يكون في زمرة عباده الصالحين.

ويستفاد من هذا التعبير :

أوّلا : أنّ الهدف النهائي من نيل القدرة هو أداء العمل الصالح ، العمل الجدير القيّم وكل ما سواه يعدّ مقدمة له!.

والعمل الصالح مقدمة ـ أيضا ـ لنيل رضا الله ـ الذي هو الهدف النهائي وغاية الغايات.

ثانيا : أنّ الدخول في زمرة «الصالحين» مرحلة أسمى من مرحلة أداء العمل الصالح ، لأنّ الأوّل يعني صلاح الذات ، والثّاني صلاح العمل «لا حضوا بدقّة».

وبتعبير آخر : قد يقوم الإنسان بعمل صالح ، إلّا أن هذا المعنى لا يعدّ جزءا من ذاته وروحه ونسيج وجوده ، فسليمانعليه‌السلام يطلب من الله أن يشمله بعنايته إلى درجة يتجاوز بها مرحلة كونه يعمل صالحا ، لينفد الصلاح إلى أعماق وجوده وروحه ، ولا يمكن تحقق هذا إلّا برحمة الله.

٤٤

فكم هو عزيز وغال أن يكون الإنسان عبدا صالحا لله ، بحيث يطلب سليمان من ربّه أن يدخله في عباده الصالحين ، على الرغم من جاهه وحشمته وجلاله الذي لا يشك فيها أحد ، وأن يحفظه الله من العثرات والزلات في كل آن ، وخاصّة ما قد يصدر من الإنسان وهو على رأس هيئة عظيمة وتشكيلات واسعة!

* * *

٤٥

الآيات

( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) )

التّفسير

قصّة الهدهد وملكة سبأ :

يشير القرآن في هذا القسم من الآيات إلى جانب آخر من حياة سليمانعليه‌السلام المدهشة ، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ.

٤٦

فيقول أوّلا :( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ) .

وهذا التعبير يكشف هذه الحقيقة ، وهي أنّه كان يراقب وضع البلاد بدقّة ، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شيء ، حتى لو كان طائرا واحدا.

وما لا شك فيه أنّ المراد من الطير هنا هو الهدهد ، لأنّ القرآن يضيف استمرارا للكلام( فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ) .

وهناك كلام بين المفسّرين في كيفية التفات سليمان إلى عدم حضور الهدهد.

فقال بعضهم : كان سليمانعليه‌السلام عند ما يتحرك تظلل الطير بأنواعها فوق رأسه فتكون مثل الخيمة ، وقد عرف غياب الهدهد من وجود ثغرة في هذا الظل!.

وقال بعضهم : كان الهدهد مأمورا من قبل سليمان بالتقصّي عن الماء كلما دعت الحاجة إليه وعند ما دعت الحاجة إلى الماء في هذه المرّة لم يجد الهدهد فعرف غيابه.

وعلى كل حال ، فهذا التعبير( ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ) ثمّ قوله :( أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ) لعله إشارة إلى أن غياب الهدهد هل كان لعذر مقبول أو لغير عذر؟

وعلى أيّة حال ، فان حكومة منظمة ومقتدرة يجب أن تجعل كل شيء يجري داخل اطار الدولة تحت نظرها ونفوذها حتى وجود طائر واحد وغيابه ، لا بدّ أن لا يخفى عن علمها ونظرها وهذا درس كبير لمن أراد التدبير.

ومن أجل أن لا يكون حكم سليمان غيابيا ، وأن لا يؤثر غياب الهدهد على بقية الطيور ، فضلا عن الأشخاص الذين يحملون بعض المسؤوليات ، أضاف «سليمان» قائلا:( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

والمراد من «السلطان» هنا هو الدليل الذي يتسلط به الإنسان من أجل إثبات قصده ، وتأكيد هذا اللفظ بـ «مبين» هو أنّه لا بد لهذا الفرد المتخلف من

٤٧

إقامة دليل واضح وعذر مقبول لتخلفه!

وفي الحقيقة فإنّ سليمان قبل أن يقضي غيابيا ذكر تهديده اللازم في صورة ثبوت التخلّف وحتى هذا التهديد جعله في مرحلتين تناسبان الذنب مرحلة العقاب بما دون الاعدام ، ومرحلة العقاب بالإعدام.

وقد برهن «سليمان» ضمنا أنّه ـ حتى بالنسبة للطائر الضعيف ـ يستند في حكمه إلى المنطق والدليل ، ولا يعوّل على القوّة والقدرة أبدا.

ولكن غيبة الهدهد لم تطل( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان :( فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) .

وكأن الهدهد قد رأى آثار الغضب في وجه سليمان ، ومن أجل أن يزيل ذلك التهجم ، أخبره أوّلا بخبر مقتضب مهم الى درجة أن سليمان نفسه كان غير مطّلع عليه ، برغم ما عنده من علم ، ولما سكن الغضب عن وجه سليمان ، فصّل الهدهد له الخبر ، وسيأتي بيانه في الآيات المقبلة.

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ جنود سليمان ـ حتى الطيور الممتثلة لأوامره ـ كانت عدالة سليمان قد أعطتهم الحرية والأمن والدعة بحيث يكلمه الهدهد دون خوف وبصراحة لا ستار عليها فيقول :( أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ) .

فتعامل الهدهد «وعلاقته» مع سليمان لم يكن كتعامل الملأ المتملقين للجبابرة الطغاة إذ يتملقون في البدء مدة طويلة ، ثمّ يتضرعون ويعدون أنفسهم كالذرّة أمام الطود ، ثمّ يهوون على أقدام الجبابرة ويبدون حاجتهم في حالة من التضرع والتملق ، ولا يستطيعون أن يصرّحوا في كلامهم أبدا ، بل يكنّون كناية أرق من الورد لئلا يخدش قلب السلطان غبار كلامهم!!.

أجل ، إنّ الهدهد قال بصراحة : غيابي لم يكن اعتباطا وعبثا بل جئتك بخبر يقين «مهم» لم تحط به! وهذا التعبير درس كبير للجميع ، إذ يمكن أن يكون موجود صغير كالهدهد

٤٨

يعرف موضوعا لا يعرفه أعلم من في عصره ، لئلا يكون الإنسان مغرورا بعلمه حتى لو كان ذلك سليمان مع ما عنده من علم النبوّة الواسع.

وعلى كل حال ، فإنّ الهدهد أخذ يفصّل لسليمان ما حدث فقال :( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ) .

لقد بيّن الهدهد لسليمان بهذه الجمل الثلاث جميع مواصفات هذا البلد تقريبا ، وأسلوب حكومته!

فقال أوّلا : إنّه بلد عامر فيه جميع المواهب والإمكانات ، والآخر إنّني وجدت امرأة في قصر مجلل تملكهم ، والثّالث : لها عرش عظيم ـ ولعله أعظم من عرش سليمان ـ لأنّ الهدهد كان رأى عرش سليمان حتما ، ومع ذلك يصف عرش هذه الملكة بأنّه عظيم.

وقد أفهم الهدهد بكلامه هذا سليمان أنّه لا ينبغي أن تتصور أن جميع العالم تحت «نفوذ أمرك وحكومتك»! وأن عرشك هو وحده العرش العظيم

ولما سمع سليمانعليه‌السلام كلام الهدهد غرق في تفكيره ، إلّا أن الهدهد لم يمهله طويلا فأخبره بخبر جديد خبر عجيب ، مزعج مريب ، إذ قال :( وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) فكانوا يفخرون بعبادتهم للشمس وبذلك صدّهم الشيطان عن طريق الحق( فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) .

وقد غرقوا في عبادة الأصنام حتى أنّي لا أتصور أنّهم يثوبون إلى رشدهم( فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) .

وهكذا فقد بين الهدهد ما هم عليه من حالة دينية ومعنوية أيضا ، إذ هم غارقون في الشرك والوثنية والحكومة تروّج عبادة الشمس والناس على دين ملوكهم.

معابدهم وأوضاعهم الأخرى تدل على أنّهم سادرون في التيه ، ويتباهون

٤٩

بهذا الضلال والانحراف ، وفي مثل هذه الظروف التي يرى فيها الناس والحكومة على خط واحد ، فمن البعيد إمكان هدايتهم.

ثمّ أضاف الهدهد قائلا :( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ ) (١) .

وكلمة «خبء» على وزن (صبر) معناها كل شيء خفي مستور ، وهي هنا إشارة إلى إحاطة علم الله بغيب السماوات والأرض ، أي : لم لا يسجدون لله الذي يعلم غيب السماوات والأرض وما فيهما من أسرار؟!

وما فسّره بعضهم بأن الخبء في السماوات هو الغيث ، والخبء في الأرض هو النبات ، فهو ـ في الحقيقة ـ من قبيل المصداق البارز.

والطريف في الآية أنّها تتكلم أوّلا عما خفي في السماوات والأرض ، ثمّ تتكلم عن أسرار القلوب!.

إلّا أنّه لم استند الهدهد من بين جميع صفات الله إلى علمه بغيب العالم وشهوده كبيره وصغيره؟!

لعل ذلك لمناسبة أن سليمان ـ بالرغم من جميع قدرته ـ كان يجهل خصائص بلد سبأ ، فالهدهد يقول : ينبغي الاعتماد على الله الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض.

أو لمناسبة أنّه ـ طبقا لما هو معروف ـ للهدهد حس خاص يدرك به وجود الماء في داخل الأرض لذلك يتكلم عن علم الله الذي يعلم بكل خافية في عالم الوجود.

وأخيرا يختتم الهدهد كلامه هكذا( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .

__________________

(١) كلمة «ألّا» مركبة من (أن ولا) كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسّرين ، وهي متعلقة بجملة (فصدهم) أو «زين لهم الشيطان» وقدروا لها اللام فتكون الجملة هذا النحو من التقدير «صدّهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله» إلّا أن الظاهر أن (ألّا) حرف تحضيض ومعناه (هلّا) وكما قلنا في المتن فإنّ هذه الجملة من كلام الهدهد تعقيبا على ما سبق ، وإن كان هناك من يقول بأنها استئنافية وإنها من كلام الله.

٥٠

وهكذا يختتم الهدهد كلامه مستندا إلى «توحيد العبادة» و «توحيد الرّبوبية» لله تعالى. مؤكدا نفي كل أنواع الشرك عنه سبحانه.

* * *

ملاحظتان

أـ الدروس التعليميّة

ما قرأناه في هذا القسم من الآيات ، فيه لطائف كثيرة ومسائل دقيقة ، يمكن أن يكون لها كبير الأثر في حياة الناس وسياسة الحكومات جميعا.

١ ـ فرئيس الحكومة أو المدير العام ، ينبغي عليه أن يكون دقيقا في دائرته أو تشكيلاته التنظيمية ، بحيث يتابع حتى غياب الفرد الواحد ويتفقده!

٢ ـ أن يراقب تخلف الفرد ، وأن يتخذ الحكم الصارم ، لكيلا يؤثر غيابه على

الآخرين.

٣ ـ لا ينبغي أن يصدر حكما غيابيا أبدا دون أن يمنح المتخلف الفرصة للدفاع عن نفسه ، مع الإمكان.

٤ ـ ينبغي أن يجعل لكل جريمة عقابا مناسبا وأن يكون العقاب بمقدار الذنب ، وأن يراعي سلسلة مراتبه.

٥ ـ أن على أي شخص ـ حتى لو كان أكبر الناس ، أو بيده أعظم المسؤوليات والقدرة الاجتماعية ـ أن يذعن للمنطق والدليل حتى ولو صدر من فم أضعف الخلق!.

٦ ـ ينبغي أن تحكم الصراحة في محيط المجتمع ، وأن يتمتع أفراده بالحرية بحيث يستطيع الواحد منهم عند اللزوم أن يقول لرئيس الحكومة :( أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ) !

٧ ـ من الممكن أن يكون أقل الأفراد على اطلاع ومعرفة ، في حين أنّ أكبر

٥١

العلماء وأصحاب النفوذ غير مطلعين ، لكيلا يغتر أيّ إنسان بعلمه!

٨ ـ في المجتمع البشري حاجات وضرورات متبادلة ، بحيث قد يحتاج أكبر شخص فيه ـ كسليمان مثلا ـ إلى مساعدة أدنى شخص حتى ولو كان مثل الهدهد!

٩ ـ بالرغم من أن في النساء قابليات كثيرة! وقصّة سليمان نفسها حاكية عن أن ملكة سبأ كانت تتمتع بدراية كبيرة وفهم عال ، إلّا أنّ قيادة الحكومة لا تتلاءم مع حالة المرأة وروحها وجسمها ، بحيث يتعجب الهدهد من هذه المسألة ويقول :( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ) !

١٠ ـ أغلب الناس على دين ملوكهم لذلك نقرأ في هذه القصّة أن الهدهد يقول في شأن الملكة وقومها :( وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

يتحدث الهدهد أولا عن سجودها ثمّ عن سجود قومها.

ب ـ الجواب على بعض الأسئلة

للمفسرين هنا بعض الأسئلة ، ومنها : كيف لم يحط سليمانعليه‌السلام بمثل هذه البلدة مع ما لديه من علم وإمكانات وفيرة في حكومته؟.

ثمّ كيف طوى الهدهد هذه المسافة بين اليمن ومركز حكومة سليمان الّذى كان في الشام «على ما يظهر»؟

وهل كان الهدهد قد ضل الطريق ثمّ اهتدى إلى ذلك المكان ، أو كان له غرض آخر؟!

أمّا في ما يخص السؤال الأوّل فيمكن أن يجاب عنه بأن سليمانعليه‌السلام كان ذا علم بوجود هذه البلدة ، إلّا أنّه لم يعرف خصائصها ، ثمّ إن صحراء الحجاز كانت تفصل بين اليمن والشام ، ولم تكن وسائل المواصلات بين البلدان يومئذ كما هي

٥٢

عليه في يومنا هذا «وبالطبع فإنّ علمه عن طريق الغيب والإلهام الإلهي موضوع آخر».

وأمّا قطع المسافة من قبل الهدهد ، فإنّها لم يكن عسيرة عليه لأنّنا نعرف بعض الطيور التي تقطع المسافة بين القطبين والفاصلة بين الشام واليمن إزاء تلك المسافة لا تعدّ شيئا.

وأمّا مجيء الهدهد إلى سبأ فكان ـ كما تقول بعض التواريخ ـ أنّ سليمان عزم على زيارة بيت الله الحرام ، فتوجه من الشام ليؤدي مناسك إبراهيمعليه‌السلام «أى الحج» ، وفي مسيره رغب في السير نحو الجنوب ، فواصل منطقة لا تبعد عن اليمن كثيرا فاغتنم الهدهد الفرصة عند ما استراح سليمان في تلك المنطقة وجاء إلى قصر ملكة سبأ فرأى ما رأى من المشهد المثير العجيب(١) .

* * *

__________________

(١) لا بأس بمراجعة دائرة المعارف لمحمّد فريد وجدي ، ج ١٠ ، ص ٤٧٠ مادة «الهدهد» بالرغم من أن الرّواية المذكورة هناك لم تخل من المبالغات!

٥٣

الآيات

( قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) )

التّفسير

الملوك مفسدون مخرّبون :

لقد أصغى سليمانعليه‌السلام إلى كلام الهدهد بكل اهتمام وفكّر مليّا ، ولعل سليمان كان يظنّ أن كلام الهدهد صحيح ، ولا دليل على كذب بهذا الحجم لكن

٥٤

حيث أن هذه المسألة لم تكن مسألة «ساذجة» بسيطة ، ولها أثر كبير في مصير بلد كامل وأمّة كبيرة! فينبغي أن لا يكتفي بمخبر واحد ، بل ينبغي التحقيق أكثر في هذا المجال :( قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) .

وهذا الكلام يثبت بصورة جيدة أنّه يجب الاهتمام في المسائل المصيرية المهمّة ، حتى لو أخبر بها «فردّ» صغير ، وأن يعجّل في التحقيقات اللازمة «كما تقتضيه السين» في جملة «سننظر»!.

سليمانعليه‌السلام لم يتهم الهدهد فيحكم عليه بالكذب ولم يصدّق كلامه دون أيّ دليل بل جعله أساسا للتحقيق!

وعلى كل حال ، فقد كتب كتابا وجيزا ذا مغزى عميق ، وسلّمه إلى الهدهد وقال له :( اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ ) (١) .

يستفاد من التعبير( فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ) أن يلقي الكتاب عند ما تكون ملكة سبأ حاضرة بين قومها ، لئلا تعبث به يد النسيان أو الكتمان. ، ومن هنا يتّضح أن ما ذهب إليه بعض المفسّرين بأن الهدهد ذهب إلى قصر ملكة سبأ ودخل مخدعها وألقى الكتاب على صدرها أو حنجرتها ـ لا يقوم عليه دليل ـ وإن كان متناسبا مع الجملة التي وردت في الآية التالية( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) .

ففتحت ملكة سبأ كتاب سليمان ، واطّلعت على مضمونه ، وحيث أنّها كانت من قبل قد سمعت بأخبار سليمان واسمه ، ومحتوى الكتاب يدلّ على إقدامه وعزمه الشديد في شأن بلدة «سبأ» ، لذلك فكّرت مليّا ، ولما كانت في مثل هذه المسائل المهمّة تستشير من حولها ، لذلك فقد دعتهم وتوجهت إليهم و( قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) .

__________________

(١) قال بعض المفسّرين : إن جملة «ثمّ تول عنهم» مؤخرة معنى ، وإن تقدمت في العبارة ، وأصلها هكذا : فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم وإنّما قدروا ذلك لأنّ تولّ عنهم معناه العودة والرجوع ، مع أن ظاهر الآية أنّه ألق الكتاب واعرض عنهم وانظر في مكان مشرف لترى رد فعلهم!

٥٥

ترى ، حقّا أن ملكة سبأ لم تكن رأت «حامل الكتاب» ، إلّا أنّها أحست بأصالة الكتاب من القرائن الموجودة فيه؟ ولم تحتمل أن يكون الكتاب مفتعلا ومفترى أبدا ...؟!

أم أنّها رأت الرّسول بأم عينيها ، ورأت كيفية وصول الكتاب الدهشة التي هي بنفسها دليل على أن المسألة واقعية ومهمّة ، ومهما كان الأمر فإنّها عوّلت على الكتاب بكل اطمئنان؟.

وقول الملكة :( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) «أي قيم» لعله لمحتواه العميق ، أو لأنّه بدئ باسم الله أو لأنّه ختم بإمضاء صحيح(١) . أو لأنّ مرسله رجل عظيم ، وقد احتمل كل مفسّر وجها منها ـ أو جميعها ـ لأنّه لا منافاة بينها جميعا. وقد تجتمع جميعها في هذا المفهوم الجامع!.

صحيح أنّهم (قوم سبأ) كانوا يعبدون الشمس ، إلّا أننا نعرف أن كثيرا من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بالله ـ أيضا ـ ويسمونه رب الأرباب ويعظمونه ويحترمونه.

ثمّ إن «ملكة سبأ» تحدثت عن مضمون الكتاب فقالت :( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) (٢) .

ومن البعيد ـ كما يبد وـ أن يكون سليمان كتب كتابه إلى ملكة سبأ بهذه العبارات «وهذه الألفاظ العربيّة». إذا فالجمل الأنفة يمكن أن تكون منقولة بالمعنى ، أو أنّها خلاصة ما كان كتبه سليمان ، وقد أدّتها ملكة سبأ بهذه الوجازة والاقتضاب إلى قومها.

__________________

(١) ورد في الحديث أن كون الكتاب كريما هو بخاتمه «تفسير مجمع البيان والميزان والقرطبي». وجاء في حديث آخر أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب رسالة للعجم ، فقيل له : إنّهم لا يقبلونها إلّا بالخاتم ، فأمر النّبي أن يصنع له خاتم ونقشه «لا اله إلّا الله محمّد رسول الله» وختم الرسالة أو الكتاب بذلك الخاتم «القرطبي ذيل الآيات محل البحث».

(٢) جملة «ألّا تعلوا علي» يمكن أن تكون بمجموعها بدلا من (كتاب) وبيان لمحتواه. كما يمكن أن تكون (أن) تفسيرية فهي هنا بمعنى (أي) ـ كما يحتمل أن (أن) تكون متعلقة بمحذوف وتقديره : أوصيكم ألا تعلوا إلخ.

٥٦

الطريف أن مضمون هذا الكتاب لم يتجاوز في الواقع ثلاث جمل :

الأولى : ذكر «اسم الله» وبيان رحمانيّته ورحمته.

الثّانية : الأمر بترك الاستعلاء والغرور لأنّ الاستعلاء مصدر المفاسد الفرديّة والاجتماعيّة.

والثّالثة : التسليم والإذعان للحق.

وإذا أمعنا النظر لم نجد شيئا آخر لا بدّ من ذكره.

وبعد أن ذكرت ملكة سبأ محتوى كتاب سليمان لقومها التفتت إليهم و( قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ ) .

لقد أرادت الملكة بهذه الاستشارة تقوية مركزها في قومها ، وأن تلفت أنظارهم إليها ، كما أرادت ضمنا أن تعرف مدى انسجامهم وميزان استجابتهم لما تقدم عليه من تصميم.

كلمة «أفتوني» مشتقّة من (الفتوى) معناها في الأصل الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الغامضة والصعبة فملكة سبأ أرادت بهذا التعبير أن تشعرهم بصعوبة المسألة أوّلا ، وأن يدققوا النظر ويجمعوا الرأي فيها ليتجنبوا الخطأ ثانيا.

«تشهدون» مأخوذ من مادة «الشهود» ، ومعناه الحضور الحضور المقرون بالتعاون والمشورة!.

فالتفت إليها أشراف قومها وأجابوها على استشارتها فـ( قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ ) .

وهكذا فقد أظهروا لها تسليمهم وإذعانهم لأوامرها كما أبدوا رغبتهم في الاعتماد على القوّة والحضور في ميدان الحرب.

ولمّا رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافا لميلها الباطني ، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون هذه القضية مدروسة ، لذلك( قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا

٥٧

قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً ) .

فيقتلون جماعة منهم ويأسرون آخرين ويطردون طائفة ثالثة ويخرجونهم من ديارهم ويخربون حيّهم وينهبون ثرواتهم وأموالهم.

ولمزيد التأكيد أردفت قائلة :( وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) .

وفي الحقيقة إن ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكة ، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة ، وأن سيرتهم تتلخص في شيئين :

١ ـ الإفساد والتخريب.

٢ ـ وإذلال الأعزة

لأنّهم يفكرون في مصالحهم الشخصية ، ولا يكترثون بمصالح الأمّة وعزتها وهما على طرفي نقيض دائما.

ثمّ أضافت الملكة قائلة : علينا أن نختبر سليمان وأصحابه ، لنعرف منهم وما يريدون؟ وهل سليمان نبيّ حقا أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذلّ الناس أم يحترمهم ويعزّهم؟

فينبغي أن نرسل شيئا إليه( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) .

فالملوك لهم علاقة شديدة بالهدايا ، ونقطة الضعف كامنة في هذا الأمر ، فيمكن أن يذعنوا للهدايا الغالية فإذا أذعن سليمان بهذه الهدية فهو ملك ، وينبغي أن نواجهه بالقوّة فنحن أقوياء وإذا ألح على كلامه ولم يكترث بنا فهو نبيّ ، وفي هذه الصورة ينبغي التعامل معه بالحكمة والتعقل!

ولم يذكر القرآن أية هدية أرسلتها الملكة إلى سليمان ، لكنّه بتنكيرها بيّن عظمتها ، إلّا أن المفسّرين ذكروا مسائل كثيرة لا يخلو بعضها من الإغراق :

قال بعضهم : أرسلت إليه خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ممتازة ، وقد ألبست الرجال ثياب النساء والنساء ثياب الرجال ، وجعلت الأقراط في آذان

٥٨

الرجال والا سورة في أيديهم ، وألبست الجواري تيجانا وكتبت في رسالتها إلى سليمان : لو كنت نبيّا فميّز الرجال من النساء!.

وبعثت أولئك على مراكب ثمينة ، ومعهم جواهر وأحجار كريمة ، وأوصت رسولها ـ في الضمن ـ أن أنظر كيف يواجهك سليمان عند وردك عليه ، فإن واجهك بالغضب فاعلم بأنه سيرة الملوك ، وإن واجهك بالمحبة واللطف فاعلم أنّه نبيّ.

* * *

بحوث

١ ـ آداب كتابة الرسائل

ما ورد في الآيات آنفة الذكر في شأن كتاب «سليمان» إلى أهل سبأ ، هو قدوة لكتابة الرسائل و «الكتب» وقد تكون من المسائل المهمّة والمصيرية إذ تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم وتبيّن روح الكلام في جملتين مدروستين.

ويظهر من التاريخ الإسلامي والرّوايات ـ بشكل واضح ـ أن أئمتنا الكرام عليهم الصلاة والسّلام ، كانوا يعنون بالاختصار والاقتضاب في إرسال الكتاب خاليا من الحشو والزوائد ، وهو مدروس أيضا.

فأمير المؤمنينعليه‌السلام يكتب إلى عماله وممثليه في بعض كتبه : «أدقوا أقلامكم ، وقاربوا بين سطوركم ، واحذفوا عنّي فضولكم ، واقصدوا قصد المعاني ، وإيّاكم والإكثار ، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار»(١) .

إن بري لسان القلم يجعل الكلمات أصغر ، وتقارب السطور وحذف الفضول ، لا يؤدي إلى الاقتصاد في الأموال العامة أو الشخصية فحسب ـ بل يقتصد في وقت الكاتب والقارئ أيضا وقد يضيع الفضول والتشريفات

__________________

(١) الخصال ـ للصدوق ، طبقا لما جاء في البحار ، ج ٧٦ ، ص ٤٩.

٥٩

الواردة في أثناء جمل الكتاب الهدف من كتابته ، فلا يصل الكاتب والقارئ إلى الهدف المنشود!

وفي هذه الأيّام أصبح من المألوف الإكثار في كتابة العناوين البراقة والألقاب الفخمة وزيادة المقدمات والحواشي والإضافات على خلاف ما كان في صدر الإسلام ممّا يهدر الكثير من الطاقات والأوقات والثروات.

وخاصة ينبغي الالتفات إلى أن الكتاب «الرسالة» في ذلك العصر كان يتطلب زمانا طويلا لإيصاله وبذل المال لحامل الكتاب ، ومع ذلك كانت الكتب موجزة مقتضبة ، ويمكن ملاحظة أمثلة منها في كتب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خسرو پرويز وقيصر الروم وأمثالهما.

وأساسا فإنّ رسالة الإنسان وكتابه دليل على شخصيته ، كما أن حامل الكتاب والرّسول دليل على شخصية المرسل أيضا.

يقول الإمام علىعليه‌السلام في نهج البلاغة : «رسولك ترجمان عقله ، وكتابك أبلغ من ينطق عنك»(١) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام «يستدل بكتاب الرجل على عقله وموضع بصيرته ، وبرسوله على فهمه وفطنته»(٢) .

والجدير بالذكر أنّه يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ ردّ الكتاب واجب كردّ السلام ، إذ نقرأ عن الإمام الصادق أنّه قال : «ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السلام»(٣) .

وحيث أن كل رسالة أو كتاب مشفوع عادة بالتحية ، فلا يبعد أن يكون مشمولا بالآية الكريمة( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ـ الجملة ٣٠١.

(٢) البحار ، ج ٧٦ ، ص ٥٠.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٢٧ «كتاب الحج أبواب العشرة باب ٣٢».

(٤) النساء ، الآية ٨٦.

٦٠

٢ ـ هل دعا سليمان إلى التقليد؟!

بعض المفسّرين استفادوا من كتاب سليمان أنّه دعا أهل سبأ إليه دون دليل! ثمّ أجابوا بأن مجيء الهدهد بتلك الصورة «المعجزة» بنفسه دليل على حقانية دعوته(١) .

إلّا أنّنا نعتقد أنّه لا حاجة إلى مثل هذه الردود والإجابات ، فوظيفة النّبي هي الدعوة. ووظيفة الآخرين التحقيق في أمره. وبتعبير آخر : إنّ الدعوة هي الباعث على التحقيق كما قامت بذلك ملكة سبأ ، فاختبرت سليمان وتحققت عنه ، أهو ملك أم نبيّ؟!

٣ ـ مداليل عميقة في قصّة سليمانعليه‌السلام

نلاحظ في هذا القسم من قصّة سليمانعليه‌السلام إشارات قصيرة إلى مسائل مهمّة أيضا :

أـ تتلخص «روح» دعوة الأنبياء في نفي الاستعلاء الذي يعني نفي كل نوع من أنواع الاستثمار والاستعمار ، والتسليم للحق والقانون الصحيح.

ب ـ بالرغم من أنّ أصحاب ملكة سبأ أعلنوا استعدادهم لخوض المعركة ، إلّا أن الطبع النسائي الشفاف في الملكة لم يكن موافقا على ذلك ، ولذلك عطفت انظارهم الى مسائل أخرى.

ج ـ ولو أن الملكة أذعنت لرأيهم في الحرب لكانت بعيدة عن الحقيقة والصواب ، وسنرى أن إقدامها على إرسال الهدية كان مثمرا ، وكانت نتيجة طيبة لها ولقومها ، وكان سببا لأن يهتدوا إلى طريق الحق والعدل ، ويبتعدوا عن سفك

__________________

(١) تفسير الرازي ، ذيل الآية مورد البحث.

٦١

الدماء!

د ـ ويستفاد من هذه القضية ضمنا أن المناهج التشاورية لا تنتهي إلى الحق دائما إذ كانت عقيدة الأكثرية هنا أن يلجأ وإلى القوّة والقتال في حين أن ملكة سبأ كانت ترى خلاف نظرتهم ، وسنرى أن الحق كان معها في نهاية القصّة!

ه ـ ويمكن أن يقال : إنّ هذا النوع من التشاور أو المشورة غير ما هو جار بيننا اليوم من التشاور فنحن نأخذ برأي الأكثرية على أنّه هو المعيار ، ونعطيهم حق التصويت والتصويب. في حين أن التشاور محل البحث هو مجرّد إبداء النظر من قبل الأكثرية ، والرأي الحاسم لقائد تلك الجماعة ولعل الآية( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) (١) تشير إلى هذا القسم الثّاني من التشاور. أمّا الآية الكريمة( وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) (٢) فناظرة إلى القسم الأوّل(٣) .

وـ قال أصحاب ملكة سبأ لها( نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ولعل هذا الاختلاف بين «القوة» و «البأس» في التعبير ، هو أنّ «القوة» إشارة إلى الكمية العظيمة من الجيش و «البأس الشديد» إشارة إلى كيفية العمل وروح الشجاعة والشهامة في الجيش ، أي أن مرادهم أنّهم مستعدون للقتال من الناحية «الكمية» ومن حيث «الكيفية» لمواجهة العدو أيضا.

٤ ـ علامات الملوك

يستفاد من هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن الحكومة الاستبدادية والسلطنة في كل مكان مدعاة للفساد وإذلال الأعزة لأنّ الملوك يبعدون عنهم

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٥٩.

(٢) الشورى ، الآية ٣٨.

(٣) لمزيد الإيضاح في موضوع الشورى يراجع تفسير الآية (١٥٩) من سورة آل عمران.

٦٢

الشخصيات الفذة ، ويدنون المتملقين ، ويبحثون في كل شيء عن مصالحهم ومنافعهم الذاتية ، وهم أهل رشوة وذهب ومال ، وبالطبع فإنّ الأمراء والأعوان القادرين على هذه الأمور أحبّ عندهم من غيرهم.

وبينما نرى تفكير الملوك ورغباتهم تتلخص في نيل الهدايا والجاه والمقام والذهب والمال نجد أنّ الأنبياء لا يفكرون إلّا بإصلاح أممهم!.

* * *

٦٣

الآيتان

( فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) )

التّفسير

لا تخدعوني بالمال :

خرج رسل ملكة سبأ بقافلة الهدايا وتركوا اليمن وراءهم قاصدين مقر سليمان «في الشام» ظنّا منهم أن سليمان سيكون مسرورا بمشاهدته هذه الهدايا ويرحب بهم.

لكن ما إن حضروا عند سليمان حتى رأوا ما يدهش الإنسان فإنّ سليمانعليه‌السلام مضافا الى عدم استقباله واكتراثه بتلك الهدايا( قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ )

فما قيمة المال ، إزاء مقام النبوّة والعلم والهداية والتقوى( بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) .

أجل ، أنتم الذين تفرحون بمثل هذه الزخارف ، فيهدي بعضكم لبعض

٦٤

فيشرق وجه تملع عيناه! إلّا أن هذه الأمور لا قيمة لها عندي ولا أكترث بها.

وهكذا فقد حقّر سليمانعليه‌السلام معيار القيم عندهم ، وأوضح لهم أن هناك معيارا آخر للقيمة تضمحلّ عنده معايير عبدة الدنيا ولا تساوي شيئا.

ومن أجل أن يريهم سليمان موقفه الحاسم من الحق والباطل ، قال لرسول ملكة سبأ الخاص :( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ ) .

و( أَذِلَّةً ) في الحقيقة حال أولى و( هُمْ صاغِرُونَ ) حال ثانية ، وهما إشارة إلى أن أولئك لا يخرجون من أرضهم فحسب ، بل بالإذلال والإحقار والصغار بشكل يتركون جميع ممتلكاتهم من قصور وأموال وجاه وجلال لأنّهم لم يذعنوا ـ ويسلموا ـ للحق وإنّما قصدوا الخداع والمكر!

وطبيعي أن هذا التهديد كان تهديدا جديّا جديرا بأن يؤخذ بنظر الإعتبار بالنسبة لرسل ملكة سبأ الذين كانوا عند سليمان!.

ومع ملاحظة ما قرأناه في الآيات السابقة من أنّ سليمان طلب من أولئك شيئين : ترك الاستعلاء ، والتسليم للحق( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) وكان عدم إجابتهم لهذين وتوسلهم بالهديّة دليلا على امتناعهم من قبول الحقّ وترك الاستعلاء ، ولذلك هدّدهم باستخدام القوة العسكرية.

ولو أنّ ملكة سبأ وقومها طلبوا من سليمان الدليل والمعجزة (على أنّه نبيّ مطاع) لأعطاهم الحق أن يتحروا ويفحصوا أكثر إلّا أنّ إرسال الهدية ظاهره أنّهم في مقام الإنكار.

واتضح كذلك أنّ أهمّ خبر مزعج أخبر به الهدهد عن هذه الجماعة «ملكة سبأ وقومها» أنّهم كانوا يعبدون الشمس ويسجدون لها من دون الله الذي له ما في السماوات والأرض فكان سليمانعليه‌السلام قلقا من هذا الأمر ومن المعلوم أن عبادة الأصنام ليست أمرا هيّنا تسكت عنه الأديان السماوية ، أو أن تتحمل عبدة

٦٥

الأصنام على أنّهم أقليّة دينية. بل تستخدم القوّة إذا لزم الأمر وتحطم الأصنام ويطوى الشرك ومريدوه من الوجود!.

وممّا بيّناه من توضيحات آنفا يظهر أنّه لا تنافي بين تهديدات سليمان والأصل الأساس( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) لأنّ عبادة الأصنام ليست دينا ، بل هي خرافة وانحراف.

* * *

ملاحظات

١ ـ ممّا ينبغي الالتفات إليه أن الزهد في الأديان السماوية لا يعني أن لا يتمتع الإنسان بماله وثرواته وإمكاناته الدنيوية ، بل حقيقة الزهد هي أن لا يكون أسير هذه الأمور بل أميرا عليها وقد بيّن سليمان هذا النبيّ العظيم بردّه الهدايا الثمينة على ملكة سبأ أنّه أميرها لا أسيرها.

ونقرأ حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «الدنيا أصغر قدرا عند الله وعند أنبيائه وأوليائه من أن يفرحوا بشيء منها ، أو يحزنوا عليه ، فلا ينبغي لعالم ولا لعاقل أن يفرح بعرض الدنيا»(١) .

٢ ـ ومرّة أخرى نجد في هذا القسم من قصّة سليمان دروسا جديرة بالنظر ، خافية في تعابير الآيات الكريمة :

ألف : إن الهدف من تعبئة الجيش ليس قتل الناس ، بل أن يرى العدوّ نفسه ضعيفا قبالها ، ولا يرى نفسه قادرا على مواجهة الطرف الآخر :( بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ) .

وهذا التعبير نظير ما أمر به المسلمون( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ

__________________

(١) تفسير روح البيان ذيل الآية محل البحث.

٦٦

تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ ) .(١)

ب ـ إنّ سليمانعليه‌السلام لا يهدد مخالفيه بالقتل ، بل يهددهم بالإخراج من القصور أذلة صاغرين ، وهذا الأمر جدير بالملاحظة.

ج ـ إنّ سليمان لا يستغفل مخالفيه ، بل يحذرهم بصراحة قبل الهجوم.

د ـ إنّ سليمان لا يطمع في أموال الآخرين ، بل يقول : «ما آتاني الله خير» فهو لا يرى مواهب الله منحصرة بالقدرة المادية والمالية ، بل يفتخر بالعلم والإيمان والمواهب المعنوية!.

* * *

__________________

(١) الأنفال ، الآية ٦٠.

٦٧

الآيات

( قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) )

التّفسير

حضور العرش في طرفة عين :

وأخيرا عاد رسل ملكة سبأ بعد أن جمعوا هداياهم وأمتعتهم إلى بلدهم ، وأخبروا ملكة سبأ بما شاهدوه من عظمة ملك سليمانعليه‌السلام المعجز وجهازه الحكومي ، وكل واحد من هذه الأمور دليل على أنّه لم يكن كسائر الأفراد ولا ملكا كسائر الملوك ، بل هو مرسل من قبل الله حقّا ، وحكومته حكومة إلهية.

وهنا اتّضح لأولئك جميعا أنّهم غير قادرين على مواجهته عكسريا ، بل إذا استطاعوا ـ فرضا ـ فهم على احتمال قوي في مواجهة نبيّ عظيم ذي سلطة

٦٨

واسعة!.

لذلك قررت الملكة أن تأتي بنفسها مع أشراف قومها إلى سليمان ، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليتعرفوا على دين سليمان؟

فوصل هذا الخبر ـ عن أيّ طريق كان ـ إلى سمع سليمانعليه‌السلام ، فعزم على اظهار قدرته العجيبة ـ والملكة وأصحابها في الطريق إليه ـ ليعرفهم قبل كل شيء على إعجازه ، ليذعنوا له ويسلّموا لدعوته لذلك التفت إلى من حوله و( قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) .

وبالرغم من أن المفسّرين أتعبوا أنفسهم للوقوف على علّة إحضار عرش الملكة ، وربّما ذكروا وجوها لا تنسجم مع مفاد الآيات ولا تتناسب وإيّاها!. إلّا أن من الواضح أنّ هدف سليمانعليه‌السلام من هذه الخطة إنّه كان يريد أن يظهر أمرا مهما للغاية خارقا للعادة ليذعنوا له دون قيد ، ويؤمنوا بقدرة الله من دون حاجة إلى سفك الدماء والمواجهة في ساحات القتال.

كان يريد أن ينفذ الإيمان إلى أعماق قلب ملكة سبأ وأشراف قومها ، ليستجيب الباقون لدعوته والتسليم لأمره!.

وهنا أظهر شخصان استعدادهما لامتثال طلب سليمانعليه‌السلام ، وكان أمر أحدهما عجيبا والآخر أعجب! إذ( قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ) (١) . فهذا الأمر علي يسير ، ولا أجد فيه مشقة ، كما أنّي لا أخونك أبدا ، لأنّي قادر على ذلك( وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) .

و «العفريت» معناه المارد الخبيث.

وجملة( وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) المشفوعة بالتأكيدات من عدّة جهات «إنّ والجملة الاسميّة ، ولام التوكيد» تشر الى احتمال خيانة هذا العفريت لذلك فقد

__________________

(١) كلمة «آتيك» ربّما كانت اسم فاعل مضاف إلى (الكاف) ويمكن أن تكون فعل ؛ مضارعا من (أتى) إلّا أن الاحتمال الأوّل يبدو أقرب للنظر!

٦٩

أظهر الدفاع عن نفسه بأنه أمين وفيّ.

وعلى كل حال فإنّ قصّة «سليمان» مملوءة بالعجائب الخارقة للعادات فلا عجب أن يرى عفريت بهذه الحالة مبديا استعداده للقيام بهذه المهمّة خلال سويعات وسليمان يقضي بين الناس ، أو يتابع أمور مملكته ، أو يقدم نصحه وإرشاده للآخرين.

أمّا الشخص الآخر فقد كان رجلا صالحا له علم ببعض ما في الكتاب ، ويتحدث عنه القرآن فيقول :( قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) .

فلمّا وافق سليمانعليه‌السلام على هذا الأمر ، أحضر عرش بلقيس بطرفة عين بالاستعانة بقوته المعنوية( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) .

ثمّ أضاف قائلا :( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) .

وهناك اختلاف بين المفسّرين وكلام طويل في أن هذا الشخص الذي جاء بعرش الملكة ، من كان؟! ومن أين له هذه القدرة العجيبة؟! وما المراد( عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ) ؟

إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا الشخص هو أحد أقارب سليمان المؤمنين وأوليائه الخاصين ، وقد جاء اسمه في التواريخ بأنه (آصف بن برخيا) وزير سليمان وابن أخته(١) .

وأمّا «علم الكتاب» فالمراد منه معرفة ما في الكتب السماوية المعرفة العميقة التي تمكّنه من القيام بهذا العمل الخارق للعادة!

وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المراد من (علم الكتاب) هو اللوح المحفوظ

__________________

(١) وما قاله بعضهم بأنه سليمان أو جبرئيل فلا دليل عليه وكونه سليمان نفسه (فهو) مخالف لظاهر الآيات قطعا!

٧٠

الذي علم الله بعضه ذلك الرجل «آصف» ولذلك استطاع أن يأتي بعرش ملكة سبأ بطرفة عين ، ويحضره عند سليمان!.

وقال كثير من المفسّرين : إنّ هذا الرجل المؤمن كان عارفا بالاسم الأعظم ، ذلك الاسم الذي يخضع له كل شيء ، ويمنح الإنسان قدرة خارقة للعادة!.

وينبغي القول أن «الاسم الأعظم» ليس كما يتصوره الكثير بأنّ مفهومه أن يتلفظ الإنسان بكلمة فيكون وراءها الأثر العجيب ، بل المراد منه التخلق بذلك الاسم والوصف ، أي على الإنسان أن يستوعب «الاسم» في نفسه وروحه ، وأن يتكامل علمه وخلقه وتقواه وإيمانه إلى درجة يكون بها مظهرا من مظاهر ذلك الاسم الأعظم ، فهذا التكامل المعنوي والروحاني (بواسطة الاسم الأعظم) يوجد في الإنسان مثل هذه القدرة الخارقة للعادة(١) .

كما أنّ للمفسّرين في جملة( قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) لكن بملاحظة الآيات الاخر من القرآن يمكن معرفة حقيقتها ففي الآية (٤٣) من سورة إبراهيم نقرأ :( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) .

ونحن نعرف أن الإنسان عند ما يستوحش ويذهل ، تبقى عيناه مفتوحتان على وتيرة واحدة كأنّهما عينا ميت لا تتحركان.

فبناء على ذلك فالمراد منه أنّني سأحضر عرش ملكة بلقيس قبل أن يتحرك جفناك(٢) .

* * *

__________________

(١) كان لنا في ذيل الآية (١٨٠) من سورة الأعراف بحث في شأن الاسم الأعظم ، فلا بأس بمراجعته.

(٢) ما يقوله بعضهم : إن المراد من (يرتد إليك طرفك) هو إلقاء النظرة على شيء ما وعودة النظرة للإنسان لا دليل عليه ، كما أن هذا التعبير لا يكون شاهدا على النظرية القائلة بخروج الشعاع من العين الواردة في الفلسفة ـ القديمة.

٧١

مسائل مهمة :

١ ـ الجواب على بعض الاسئلة

من الأسئلة ـ التي تثار حول الآيات آنفة الذكر ـ هذا السؤال : لم لم يقدم سليمان بنفسه على هذا العمل الخارق للعادة؟ فهو نبيّ كريم من قبل الله وذو معاجز! فلم حوّل هذا الأمر إلى «آصف بن برخيا»؟!

لعل الوجه في ذلك أن آصف كان وصيّه ، وكان سليمان يريد أن يبيّن موقعه في هذه اللحظة الحساسة للجميع(١) .

إضافة إلى ذلك فإن من المهم أن يختبر الأستاذ تلاميذه في الموارد اللازمة ويعرف جدارتهم ، وأساسا فإنّ جدارة التلاميذ دليل كبير على جدارة الأستاذ.

السؤال الآخر هو : كيف جاء سليمان بعرش ملكة سبأ وأحضره عنده دون إذنها؟.

فيقال : لعل ذلك لبيان هدف أسمى ، كمسألة الهداية وبيان معجزة كبيرة. ثمّ بعد هذا كله فإننا نعرف أن الملوك ليس لهم مال من أنفسهم ، بل أموالهم في الغالب مغصوبة من الآخرين!.

السؤال الآخر : كيف تكون لعفريت من الجن القدرة على أمر خارق للعادة كهذه الحادثة؟!

وقد بيّنا الجواب على هذا السؤال في الأبحاث المتعلقة بالإعجاز ، فقلنا : إن من الناس حتى غير المؤمنين من تكون له قدرة على بعض الأمور الخارقة للعادة (وذلك للرياضة المجهدة ومجاهدة النفس) إلّا أن الفرق بين ما يقومون به ممّا يخرق العادة وبين المعجزة هو أنّه لما كانت أعمالهم مستندة إلى قدرة بشرية محدودة فهي «أعمالهم الخارقة للعادة» محدودة دائما ، في حين أن المعاجز تستند إلى قدرة الله التي لا نهاية لها ، وقدرته كسائر صفاته غير محدودة!.

__________________

(١) هذا الجواب نفسه أجاب به الإمام الهادي يحيى بن أكثم كما جاء في رواية عن تفسير العياشي ذيل الآية محل البحث.

٧٢

لذلك نرى أن العفريت من الجن يحدّد قدرته ـ على فترة بقاء سليمان في مجلس القضاء والتحقيق في أمور البلد ، ليأتيه بعرش ملكة سبأ ، في حين أنّ آصف بن برخيا لم يحدد قدرته ، وتحديدها بارتداد الطرف هو في الحقيقة إشارة إلى أدنى فترة زمنية ممكنة ومن المسلم به أن سليمانعليه‌السلام يشجع الأعمال التي تبيّن للناس الأشخاص الصالحين ، ويباركها ، لا عمل العفريت الذي قد يوقع العوام والبساط في الوهم ، فيعدونه دليلا على تقواه وطهارته!.

وبديهي أن أيّ إنسان يقوم بعمل مهم في المجتمع ويكون عمله مقبولا فانّ أفكاره ومعتقداته ستتجذّر وتتحدّد في المجتمع بذلك «العمل» فلا ينبغي أن يأخذ العفاريت زمام المبادرة في حكومة سليمان الإلهية ، بل ينبغي أن يقوم به من عندهم علم من الكتاب ليؤثروا على أفكار الناس وعواطفهم.

٢ ـ القوة والأمانة شرطان مهمان

جاء في الآيات المتقدمة ـ والآية (٢٦) من سورة القصص ـ أن أهم شرط للعامل أو الموظف شيئان : الأوّل القوة ، والثّاني الأمانة!.

وبالطبع فإنّ المباني الفكرية والأخلاقية قد تقتضي أن يكون الإنسان حاويا على هاتين الصفتين «كما هي الحال في شأن موسى الوارد ذكره في سورة القصص» وقد يقتضي نظام المجتمع والحكومة الصالحة أن يتصف بهاتين الصفتين حتى العفريت من الجن إلزاما ولكن ـ على كل حال ـ فليس من الممكن القيام بأي عمل كبير أو صغير في المجتمع دون توفر هاتين الصفتين سواء كان مصدرهما «التقوى» أو «النظام القانوني» «فتأملّوا بدقة».

٣ ـ الفرق بين «علم من الكتاب» و «علم الكتاب» جاء التعبير في الآيات ـ محل البحث ـ عن الذي أتى بعرش ملكة سبأ في

٧٣

أدنى مدّة «وبطرفة عين» بـ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) بينما جاء في الآية (٤٣) من سورة الرعد في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يشهد على حقانيته( قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) .

في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن( الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ) الوارد في قصّة سليمان ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو وصي أخي سليمان بن داود ، فقلت : والآية( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) عمن تتحدث؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذاك أخي علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

والالتفات إلى الفرق بين «علم من الكتاب» الذي يعني «العلم الجزئي» و (علم الكتاب) الذي يعني «العلم الكلي» ، يكشف البون الشاسع بين آصف وعليعليه‌السلام .

لذلك نقرأ في روايات كثيرة أنّ الاسم الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا إنّما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ـ كان «حرف» واحد منه عند «آصف بن برخيا» وقام بمثل هذا العمل الخارق للعادة ـ وعندنا نحن الائمّة من أهل البيت ـ اثنان وسبعون حرفا ، وحرف واحد عند الله تبارك وتعالى استأثر به في علم الغيب عنده(٢) .

٤ ـ هذا من فضل ربّي

إن عبدة الدنيا وطلّابها المغرورين حين ينالون «القوّة» والاقتدار ينسون كل شيء إلّا أنفسهم وكل ما يقع في أيديهم يحسبونه من عند أنفسهم لا من غيرهم ،

__________________

(١) نقل هذا الحديث جماعة من المفسّرين وعلماء السنة بالعبارة ذاتها أو ما يقرب منها ، ولمزيد الإيضاح يراجع الجزء الثّالث من إحقاق الحق ، ص ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) راجع اصول الكافي وتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٩٠.

٧٤

كما كان قارون يقول :( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ) في حين أن عباد الله وخاصّته كلما نالوا شيئا قالوا :( هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي )

الطريف أن سليمانعليه‌السلام لم يقل هذا الكلام عند ما شاهد عرش ملكة سبأ عنده فحسب ، بل أضاف قائلا :( لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) .

وقرأنا في هذه السورة ـ من قبل ـ أن سليمانعليه‌السلام كان يرى جميع النعم التي يتمتع بها من نعم الله عليه ، وكان يدعو ربّه خاضعا فيقول :( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) !

أجل هذا هو معيار معرفة الموحدين المخلصين من عبدة الدنيا المغرورين وهذه سيرة الرجال العظماء في قبال غيرهم من الأنانيين!.

وبالرغم من أنّه اعتيد كتابة هذه العبارة المهمة( هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) من قبل المتظاهرين بالشكر على أبواب قصورهم «الطاغوتية» دون أن يعتقدوا بذلك أو يكون أدنى أثر من هذه العبارة في عملهم إلّا أن المهم هو أن تكتب على الباب وعلى جبين حياة الإنسان وفي قبله أيضا ، وأن يكشف عمله أن كل ذلك من فضل الله وأن يشكره عليه ، لا شكرا باللسان فحسب ، بل شكرا مقرونا بالعمل وفي جميع وجوده(١) .

٥ ـ كيف أحضر «آصف» عرش الملكة؟!

لم يكن هذا (الأمر) أوّل خارق للعادة نراه في قصّة سليمانعليه‌السلام ، أو في حياة الأنبياء بشكل عام وعلى من يحمل هذه التعبيرات على الكناية والمجاز ، ولا يؤخذ بظاهرها ، أن يبينوا موقفهم من معاجز الأنبياء.

ترى هل يرون الأعمال الخارقة للعادة للأنبياء وخلفائهم محالا ، وينكرونها

__________________

(١) كان لنا بحث مفصّل في أهميّة الشكر ، وتأثيره على زيادة النعمة ، وأقسام الشكر «التكويني والتشريعي» في ذيل الآية السابقة من سورة إبراهيم.

٧٥

كليّا؟! فهذا ما لا ينسجم مع أصل التوحيد ، ولا مع قدرة الله الحاكمة على قوانين الوجود ، ولا ينسجم مع صريح القرآن في آيات كثيرة أيضا.

أمّا إذا قبلوا بإمكان المعاجز ، فلا ينبغي أن يفرقوا بين أن يكون البحث عن إحياء الموتى وإبراء العمي من قبل «عيسى بن مريم»عليه‌السلام ، أو عن إحضار عرش ملكة سبأ من قبل آصف بن برخيا.

ولا شك أن هنا علائق مجهولة وعللا لا نعزفها في هذا الأمر ، إذ نجهل ذلك بعلمنا «المحدود» ، لكننا نعرف أن هذا الأمر غير محال.

فهل استطاع «آصف» بقدرته المعنوية أن يبدل عرش بلقيس إلى أمواج من نور ، وبلحظة أحضرها عند سليمانعليه‌السلام ثمّ أرجعها إلى مادتها الأصليّة مرّة أخرى؟ هذا الأمر عندنا يلفّه الغموض.

وما نعرف أن الإنسان يقوم اليوم بأعمال بواسطة الطرق العلمية المتداولة ، كانت قبل مائتي عام تعدّ في دائرة المحال!.

فمثلا لو كان يقال لشخص ما قبل عدّة قرون : سيأتي زمان على الناس يتكلم الرجل في المشرق فيسمعه الآخرون ويرونه في المغرب في اللحظة ذاتها لكان يعد هذا المقال ضربا من الهذيان أو الحلم!

وليس هذا إلّا لأنّ الإنسان يريد أن يقوّم كل شيء بعلمه المحدود وقدرته القاصرة! مع أن ما وراء علمه وقدرته أسرارا خفية كثيرة!

* * *

٧٦

الآيات

( قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤) )

التّفسير

نور الايمان في قلب الملكة :

نواجه في هذه الآيات مشهدا آخر ، ممّا جرى بين سليمان وملكة سبأ فسليمان من أجل أن يختبر عقل ملكة سبأ ودرايتها ، ويهيء الجوّ لإيمانها بالله ، أمر أن يغيروا عرشها وينكّروه فـ( قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) .

وبالرغم من أن المجيء بعرشها من سبأ الى الشام كان كافيا لان لا تعرفه ببساطة ولكن مع ذلك فإنّ سليمان أمر أن يوجدوا تغييرات فيه ، من قبيل تبديل

٧٧

بعض علاماته ، أو تغيير ألوانه ومواضع مجوهراته ، ولكن هذا السؤال : ما الهدف الذي كان سليمانعليه‌السلام يتوخّاه من اختبار عقل (ودراية) ملكة سبأ وذكائها؟

لعل هذا الاختبار كان لمعرفة أي منطق يواجهها به؟ وكيف يأتي لها بدليل لإثبات المباني العقائدية؟

أو كان يفكر أن يتزوجها ، وكان يريد أن يعرف هل هي جديرة بأن تكون زوجة له ، أم لا؟ أو أراد ـ واقعا ـ أن يعهد لها بمسؤولية بعد ايمانها فلا بدّ من معرفة مقدار استعدادها لقبول المسؤولية!

وهناك تفسيران لجملة( أَتَهْتَدِي ) فقال بعضهم : المراد منها معرفة عرشها.

وقال بعضهم : المراد من هذه الجملة أنّها هل تهتدي إلى الله برؤية المعجزة ، أو لا؟!

إلّا أنّ الظاهر هو المعنى الأوّل ، وإن كان المعنى الأوّل بنفسه مقدمة للمعنى الثّاني.

وعلى كل حال( ... فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ ) والظاهر أن القائل لها لم يكن سليمان نفسه ، والّا فلا يناسب التعبير بـ «قيل» ، لأنّ اسم سليمان ورد قبل هذه الجملة وبعدها ، وعبّر عن كلامه بـ «قال».

أضف إلى ذلك أنّه لا يناسب مقام سليمانعليه‌السلام أن يبادرها بمثل هذا الكلام.

وعلى أي حال. فإنّ ملكة سبأ أجابت جوابا دقيقا و( قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ) .

فلو قالت : يشبه ، لأخطأت ولو قالت : هو نفسه ، لخالفت الاحتياط ، لأنّ مجيء عرشها إلى أرض سليمان لم يكن مسألة ممكنة بالطرق الاعتيادية ، إلّا أن تكون معجزة.

وقد جاء في التواريخ أن ملكة سبأ كانت قد أودعت عرشها الثمين في مكان محفوظ ، وفي قصر مخصوص فيه غرفة عليها حرس كثير!

ومع كل ذلك فإنّ ملكة سبأ استطاعت أن تعرف عرشها رغم كل ما حصل له

٧٨

من تغييرات فقالت مباشرة :( وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ) .

أي ، إذا كان مراد سليمانعليه‌السلام من هذه المقدمات هو اطلاعنا على معجزته لكي نؤمن به ، فإنّنا كنّا نعرف حقانيته بعلائم أخر كنّا مؤمنين به حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة فلم تكن حاجة إلى هذا الأمر.

وهكذا فأنّ سليمانعليه‌السلام منعها( وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) بالرغم من( إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ ) .

أجل ، إنّها ودعت ماضيها الأسود برؤية هذه العلائم المنيرة ، وخطت نحو مرحلة جديدة من الحياة المملوءة بنور الإيمان واليقين.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يجري الكلام عن مشهد آخر من هذه القصّة ، وهو دخول ملكة سبأ قصر سليمان الخاص.

وكان سليمانعليه‌السلام قد أمر أن تصنع إحدى ساحات قصوره من قوارير ، وأن يجري الماء من تحتها.

فلمّا وصلت ملكة سبأ إلى ذلك المكان( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ) (٢) فلما رأته ظنته نهرا جاريا فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري ، وكما يقول القرآن :( فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها ) (٣) .

__________________

(١) للمفسّرين أقوال مختلفة في فاعل (صدّ) وأنّ (ما) هل هي موصولة أو مصدرية ، فقال جماعة من المفسّرين. إن الفاعل هو سليمان كما بيّناه في المتن ، وبعضهم قال : بل هو الله ، والنتيجة تكاد تكون واحدة وطبقا لهذين التّفسيرين تكون «ها» مفعولا أوّلا و (ما كانت) مكان المفعول الثّاني ، وإن كان أصلها جارا ومجرورا ، أي وصدها سليمان أو الله عما كانت تعبد من دون الله. إلّا أن جماعة ذهبوا إلى أن فاعل صدّ ، هو (ما كانت) ، لكن حيث أن الكلام عن إيمانها لا كفرها فالتّفسير الأوّل أنسب وأمّا كلمة (ما) فقد تكون موصولة أو مصدرية.

(٢) «صرح» معناه الفضاء الواسع ، وقد يأتي بمعنى البناء العالي والقصر وفي الآية المشار إليها آنفا معناه ساحة القصر أي فضاءه الواسع ظاهرا.

(٣) «اللّجة» في الأصل مأخوذة من اللجاج ، ومعناه الشدّة ، ثمّ أطلق على ذهاب الصوت وإيابه في الحنجرة تعبير

٧٩

إلّا أنّ سليمانعليه‌السلام التفت إليها وقال :( إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ ) (١) . فلا حاجة الى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك.

وهنا ينقدح سؤال هام ، وهو أن سليمان نبيّ كبير ، فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق والصرح الممرد والبساط الممهّد! وصحيح أنّه كان حاكما مبسوط اليد ، إلّا أن الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبياء.

إلّا أنّه ، ما يمنع أن يري سليمان ملكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة يريها هذا المشهد لتذعن لأمره ، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية!

ما يمنعه ـ بدلا من أن يغير جيشا لجبا فيسفك الدماء ـ أن يجعل فكر ملكة سبأ حائرا مبهوتا بحيث لم تكن تتوقع ذلك أصلا خاصة أنّها كانت امرأة تهتم بهذه الأمور والتشريفات!

ولا سيما أنّ أغلب المفسّرين صرحوا بأن سليمان أمر أن يبنى مثل هذا الصرح والقصر قبل أن تصل ملكة سبأ إلى الشام ، وكان هدفه أن يريها قدرته لتذعن لأمره وتسلم له وهذا الأمر يدلّ على أن سليمانعليه‌السلام كان يتمتع في سلطانه بقدرة عظيمة من حيث القوّة الظاهرية وفق بها للقيام بمثل هذا العمل!.

وبتعبير آخر : إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة ، وقبول دين الحق ، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب ـ لم تكن أمرا مسرفا.

ولذلك حين رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع( قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

__________________

(لجة) على وزن (ضجة) ، أمّا الأمواج المتلاطمة في البحر فتسمى (لجة) على وزن (جبة) وهي هنا في الآية بهذا المعنى الأخير.

(١) «الممرد» معناه الصافي و (القوارير) جمع قارورة وهي الزجاجة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592