الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190833 / تحميل: 6904
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

بحوث

١ ـ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمي

صحيح أن القراءة والكتابة تعدّان ـ لكل إنسان ـ كمالا إلّا أنّه يتفق أحيانا ـ وفي ظروف معينة ـ أن يكون من الكمال في عدم القراءة والكتابة ويصدق هذا الموضوع في شأن الأنبياء ، وخاصة في نبوّة خاتم الأنبياء «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذ يمكن أن يوجد عالم قدير وفيلسوف مطّلع ، فيدّعي النبوّة ويظهر كتابا عنده على أنّه من السماء ، ففي مثل هذه الظروف قد تثار الشكوك والاحتمالات أو الوساوس في أنّ هذا الكتاب ـ أو هذا الدين ـ هو من عنده لا من السماء!.

إلّا أنّنا إذا رأينا إنسانا ينهض من بين أمّة متخلفة ، ولم يتعلم على يد أي أستاذ ، ولم يقرأ كتابا ولم يكتب ورقة ـ فيأتي بكتاب عظيم عظمة عالم الوجود ، بمحتوى عال جدا فهنا يمكن معرفة أن هذا الكتاب ليس من نسج فكره وعقله ، بل هو وحي السماء وتعليم إلهي ، ويدرك هذا بصورة جيدة!.

كما أنّ هناك تأكيدا على أمية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في آيات القرآن الأخرى ، وكما أشرنا آنفا في الآية (١٥٧) من سورة الأعراف إلى أن هناك ثلاثة تفاسير لمعنى «الأميّ» ، وأوضحها وأحسنها هو أنّه من لا يقرأ ولا يكتب.

ولم يكن في محيط الحجاز وبيئته ـ أساسا ـ درس ليقرأ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا معلم ليحضر عنده ويستفيد منه ، وقلنا : إنّ عدد المثقفين الذين كانوا يقرءون ويكتبون في مكّة لم يتجاوز سبعة عشر نفرا فحسب ، ويقال أن من النساء كانت امرأة واحدة تجيد القراءة والكتابة(١) .

وطبيعي في مثل هذا المحيط الذي تندر فيه أدنى مرحلة للعلم وهي القراءة والكتابة ، لا يوجد شخص يعرف القراءة والكتابة ولا يعرف عنه الناس شيئا وإذا ظهر مدع وقال ـ بضرس قاطع ـ إنّني لم أقرأ ولم أكتب ، لم ينكر عليه أحد

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذري طبع مصر ، ص ٤٥٩.

٤٢١

دعاءه ، فيكون عدم الإنكار دليلا جليّا على صدق مدّعاه ، وعلى كل حال فإنّ هذه الكيفية الخاصة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي نوهت عنها الآيات المتقدمة ، إنّما هي لإكمال إعجاز القرآن ، ولقطع السبيل أمام حجج المتذرعين بالأباطيل الواهية ، وفيها تأثير بالغ ونافع جدّا.

أجل ، إنّه عالم منقطع النظير ، لكنّه لم يدرس في مدرسة ، بل تعلّم من وحي السماء!.

تبقى هناك ذريعة واحدة يحتج بها المتذرعون ، وهي أنّ النّبي سافر إلى الشام مرّة أو مرتين «لفترة وجيزة ولغرض التجارة» قبل نبوته ، فيقولون : ربّما اتصل في بعض هاتين السفرتين بعلماء أهل الكتاب وتعلّم منهم هذه المسائل!.

والدليل على ضعف هذا الادّعاء منطو في نفسه ، فكيف يمكن أن يسمع إنسان جميع هذه الدروس وتواريخ الأنبياء والأحكام والمعارف الجليلة ، وهو لم يمض إلى مدرسة ولم يقرأ شيئا ، فيحفظ كل ذلك بهذه السرعة ، ويودعه في ذهنه ، ثمّ يبيّنه ويفصله خلال مدّة ثلاث وعشرين سنة؟! وأن يبدي موقفا مناسبا للحوادث غير المتوقعة والتي لم يسبق لها مثيل.

وهذا يشبه تماما أن نقول مثلا : إنّ فلانا تعلم قائمة العلوم والفنون الطبية كلّها في عدّة أيّام ، وأنّه كان مشرفا على معالجة المرضى في المستشفى الفلاني ، ومستشارا للأطباء ، هذا كلام أقرب إلى المزاح والهزل منه إلى الجد.

وينبغي الالتفات إلى هذه المسألة ، هي أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن بلغ مرحلة النبوّة ، يحتمل أن يكون قادرا على القراءة والكتابة ، حينئذ وذلك بواسطة التعليم الالهي وإن لم يرد في التواريخ أنّه استفاد من هذه الطريقة! ولم يقرأ شيئا بنفسه أو يكتب شيئا بيده ، ولعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجنب كل ذلك في طول عمره لئلا يتذرع المتذرعون فيثيروا الشكوك بنبوّته! الشيء الوحيد الذي جاء في كتب التأريخ أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كتبه بنفسه ، هو صلح الحديبية الذي جاء في مسند أحمد أن «النّبي أمسك القلم

٤٢٢

بيده وكتب معاهدة الصلح»(١) .

إلّا أنّ جماعة من علماء الإسلام أنكروا هذا الحديث ، وقالوا : إنّ هذا مخالف لصريح الآيات ، وإن اعتقد البعض بأنّه ليس في الآيات صراحة ، لأنّ الآيات ناظرة لحال النّبي قبل بعثته ، فما يمنع أن يكتب النّبي على وجه الاستثناء بعد أن نال مقام النبوّة في مورد واحد ويكون ذلك بنفسه معجزة أخرى من معاجزه!.

إلّا أن الاعتماد في مثل هذه المسألة على خبر الواحد مجانب للحزم والاحتياط ، ومخالف لما ثبتت في علم الأصول حتى لو قلنا أنّ هذا الخبر لا اشكال فيه.(٢)

٢ ـ طريق النفوذ في الآخرين

لا يكفي الاستدلال القوي المتين للنفوذ إلى قلوب الآخرين واكتسابهم بالكلام الحق ، فانّ أسلوب التعامل مع الطرف الآخر وطريقة البحث والمناظرة تترك أعمق الأثر في هذه المرحلة فكثيرا ما يتفق أن يوجد أناس مطّلعون ولهم يد طولى في البحوث العلمية الدقيقة ، إلّا أنّهم قلّما يوفقون للنفوذ إلى قلوب الآخرين ، بسبب عدم معرفتهم بكيفية المجادلة بالتي هي أحسن ، وعدم معرفتهم بالبحوث البنّاءة!.

وبتعبير آخر فإنّ النفوذ الى مرحلة الوعي ـ في المخاطب ـ غير كاف وحده ، بل ينبغي الدخول إلى مرحلة عدم الوعي الذي يمثل القسم الأكبر لروح الإنسان أيضا.

ويستفاد من مطالعة أحوال الأنبياء ، ولا سيما حال النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدىعليهم‌السلام ـ بصورة جيدة أن هؤلاء العظام سلكوا أحسن سبل الأخلاق

__________________

(١) مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٢٩٨.

(٢) ورد في صدد «النّبي الأمي» شرح مفصل آخر ذيل الآية (١٥٧) من سورة الأعراف.

٤٢٣

الاجتماعية وأسس المعارف النفسية والإنسانية ، لأجل تحقيق أهدافهم التبليغية والتربوية!.

وكانت طريقة تعاملهم مع الناس أن يكتسبوهم إليهم بشكل سريع فينجذبوا إليهم ، وإن كان بعض الناس يميل إلى أن يضفي على مثل هذه الأمور ثوب الإعجاز دائما ، إلّا أنّه ليس كذلك ، فلو اتبعنا سنتهم وطريقتهم لاستطعنا بسرعة أن نترك في الناس عظيم الأثر ، وأن ننفذ إلى أعماق قلوبهم.

والقرآن يخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله بصراحة فيقول :( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١) أو كثيرا ما يرى أنّ بعضهم بعد ساعات من الجدال والمناظرة ، لا أنه لا يحصل على تقدم في مناقشاته فحسب ، بل على العكس يجعل الطرف الآخر متعصبا ومتشددا في عقيدته الباطلة بصورة أكثر وذلك دليل على أنّه لم يتبع أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن.

فالخشونة في البحث ، وطلب الاستعلاء ، وتحقير الطرف المقابل ، وإظهار التكبر والغرور ، وعدم احترام أفكار الآخرين ، وعدم الجدية في المناقشات والبحوث ، كلها من الأمور التي تبعث على انهزام الإنسان في بحثه ، وعدم انتصاره على الطرف الآخر. لذلك فإنّنا نرى في مباحث الأخلاق الإسلامية بحثا تحت عنوان «تحريم الجدال والمراء» والمراد منه الأبحاث التي لا يطلب من ورائها الحق ، بل المراد منها الاستعلاء وإبراز العضلات لا غير!.

وتحريم الجدال والمراء ـ بالإضافة إلى الجوانب المعنوية والأخلاقية ـ إنّما هو لأنّه لا يحصل من ورائهما على نتيجة فكرية ملحوظة.

والجدال والمراء في حرمتهما متقاربان ، إلّا أن العلماء من المسلمين جعلوا فرقا بين كلّ منهما «فالمراء» معناه إظهار الفضل والكمال ، «والجدال» يراد منه تحقير الطرف المقابل!.

__________________

(١) آل عمران ـ الآية ١٥٩.

٤٢٤

وقالوا : إنّ الجدال هي المراحل الهجومية الأولى في البحث وأمّا المراء فيراد منه الصدّ الدفاعي في الكلام.

كما أنّ هناك قولا بأن الجدال في المسائل العلمية ، أمّا المراء فهو في الأعم منها «وبالطبع فإنه لا تضادّ بين هذه التفاسير جميعا».

وعلى كل حال ، فإنّ الجدال أو البحث مع الآخرين ، تارة يقع بالتي هي أحسن ، وذلك ما بيّناه بالشرائط المتقدمة آنفا ، وينبغي رعايتها بدقّة. وتارة يكون بغير الأحسن ، وذلك في ما لو أهملت الأمور التي ذكرناها في مستهل كلامنا على الجدال ، وجعلت في طيّ النسيان.

ونختتم هذا الكلام بعدة روايات بليغة ونافعة لنتعلم منها :

ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقا»(١) .

ونقرأ في حديث آخر أن سليمان النّبيعليه‌السلام قال لولده «يا بني إيّاك والمراء ، فإنّه ليست فيه منفعة ، وهو يهيج بين الأخوان العداوة»(٢) .

٣ ـ الكافرون والظالمون

نواجه في الآيات المتقدمة آنفا هذا التعبير( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ) ومرّة أخرى نواجه المضمون ذاته مع شيء من التفاوت فبدلا من كلمة «الكافرون» جاءت كلمة «الظالمون»( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) .

والموازنة بين التعبيرين تدلّ على أن المسألة ليست من قبيل التكرار ، بل هي لبيان موضوعين ، أحدهما يشير إلى جانب عقائدي «الكافرون» والآخر يشير إلى جانب عملي «الظالمون».

__________________

(١) سفينة البحار مادة مرأ.

(٢) إحياء العلوم.

٤٢٥

فالآية الأولى تقول : إنّ الذين اختاروا الشرك والكفر بأحكامهم المسبّقة الباطلة وتقليدهم الأعمى لأسلافهم ، لا يرون آية من آيات الله إلّا أنكروها وإن تقبلتها عقولهم»!

أمّا التعبير الثّاني فيقول : إنّ الذين اختاروا بظلمهم أنفسهم ومجتمعهم طريقا يرون فيه منافعهم الشخصية ، وعزموا على الاستمرار في هذه الطريق ، لا يذعنون لآياتنا. لأنّ آياتنا كما أنّها لا تنسجم مع خطهم الفكري ، فهي لا تنسجم مع خطهم العملي أيضا.

* * *

٤٢٦

الآيات

( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) )

التّفسير

أليس القرآن كافيا في إعجازه؟!

الأشخاص الذين لم يذعنوا ويسلّموا للبيان الاستدلالي والمنطقي الذي جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل ، ولم يقبلوا بكتاب كالقرآن

٤٢٧

الذي جاء به إنسان أمي كالنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله دليلا جليّا على حقانية دعوته تذرعوا بحجّة أخرى على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وهي أنّه لم لا تأت ـ يا محمّد ـ بمعجزة من المعاجز التي جاء بها موسى وعيسى( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

ولم لم يكن لديه مثل عصى موسى ويده البيضاء ونفخة المسيح؟!

ولم لا يهلك أعداءه بمعاجزه ، كما فعل موسى وشعيب وهود ونوح بأممهم المعاندين؟!.

أو كما يعبر على لسانهم القرآن في الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ) .

ومن دون شك فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت لديه معاجز غير القرآن الكريم ، كما أن التواريخ تصرح بذلك أيضا إلّا أن أولئك لم يكن قصدهم من وراء كلامهم الحصول على معجزة ، بل كان قصدهم ـ من جهة ـ أن لا يعتبروا القرآن شيئا مهما وكتابا إعجازيا ، ومن جهة أخرى كانوا يريدون معجزات مقترحة «والمراد من المعجزات المقترحة هو أن يأتي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طبقا لرغبات هذا وذاك بمعاجز خارقة للعادة يقترحونها عليه ، فمثلا يريد منه بعضهم أن يفجّر له الأرض ينابيع من الماء الزلال ، ويريد الآخر منه أن يقلب له الجبال التي في مكّة ذهبا ، ويتذرع الثّالث بأن هذا لا يكفي أيضا بل ينبغي أن يصعد إلى السماء ، وهكذا يجعلون المعجزة على شكل ألعوبة لا قيمة لها ، وآخر الأمر وبعد رؤية كل هذه الأمور يتهمونه بأنه ساحر».

٤٢٨

لذلك فإن القرآن يقول في الآية (١١١) من سورة الأنعام( وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ) .

وعلى كل حال فإنّ القرآن ، للرد على ذرائع هؤلاء المحتالين ذوي الحجج الواهية ، يدخل من طريقين :

فيقول أوّلا في خطابه لنبيه( قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ) أي قل لأولئك المعاندين أن الله يدري أية معجزة تناسب أي زمان وأي قوم ، وهو يعلم أي الأفراد هم أتباع الحق ، وينبغي أن يريهم المعاجز الخارقة للعادة ، وأي الأفراد المتذرعون وأتباع هوى النفس؟!

ثمّ يضيف القرآن معقبا أن قل( وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) فمسؤوليتي الإنذار ـ فحسب ـ والإبلاغ وبيان كلام الله ، أمّا المعاجز والأمور الخارقة للعادة فهي بأمر الله.

والجواب الآخر هو قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ) .

فهم يطلبون معاجز مادية «جسمانية» ، والقرآن بحد ذاته أعظم معجزة معنوية

وهم يريدون معجزة عابرة لا تمكث طويلا ، في حين أن القرآن معجزة خالدة تتلى آياته ليل نهار عليهم وعلى الأجيال من بعدهم.

ترى هل يعقل أن يأتي إنسان أمي وحتى لو كان يقرأ ويكتب فرضا بكتاب بهذا المحتوى العظيم والجاذبية العجيبة ، التي هي فوق قدرة الإنسان والبشر ، ثمّ يدعوا أهل العلم متحديا لهم للإتيان بمثله فيعجزون عن الإتيان بمثله؟!

فلو كانوا حقا طلاب معجزة ، فقد آتيناهم بنزول القرآن أكثر ممّا طلبوه إلّا أنّهم لم يكونوا طلاب معجزة ، بل هم متذرعون بالأباطيل!.

وينبغي الالتفات إلى أن التعبير( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ) إنّما يستعمل ـ غالبا ـ في

٤٢٩

موارد يكون الإنسان قد أدّى عملا فوق ما ينتظره الطرف الآخر ، وهو غافل عنه أو يتغافل عنه ، كأن يقول مثلا : لم أحصل على الخدمة الفلانيّة ، في حين أن الخدمة التي قدمت إليه ـ كما في هذه الحال ـ أكبر خدمة ، إلّا أنّه لا يعتبرها شيئا ، ونقول له : أو لم يكفك ما قدمناه؟!

ثمّ بعد هذا كله ينبغي أن تكون المعجزة منسجمة مع ظروف «الزمان والمكان وكيفية دعوة النّبي» فالنّبي الذي يدعوا إلى مبدأ خالد ، ينبغي أن تكون معجزته خالدة أيضا.

والنّبي الذي تستوعب دعوته العالم وتستوعب القرون والأعصار المقبلة ، لا بدّ له من أن يأتي بمعجزة نيّرة «روحية وعقلانية» ليجلب إليه أفكار جميع العلماء والمفكرين ، ومن المسلّم به أن مثل هذا الهدف يتناسب مع القرآن ، لا عصى موسى ولا يده البيضاء.

وفي نهاية الآية يضيف القرآن للتأكيد والتوضيح بصورة أجلى ، فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

«ذلك» هنا إشارة إلى الكتاب المنزل من السماء ، وهو القرآن.

أجل ، إن القرآن رحمة «وسيلة» للذكرى والتذكر أيضا ، فهو للمؤمنين الذين فتحوا قلوبهم بوجه الحقيقة ، والذين يبتغون النور والطريق السويّ هو لهم رحمة إلهية يحسونها بكل وجودهم ، ويشعرون بالاطمئنان والدعة عنده وكلّما قرءوا آياته تذكروا ، فهي لهم ذكرى وأية ذكرى؟!

ولعل الفرق بين «الرحمة» و «الذكرى» أنّ القرآن ليس معجزة وذكرى فحسب ، بل هو إضافة إلى كل ذلك يحتوي على القوانين التي تمنح الرحمة والمناهج التربوية والإنسانية.

فمثلا كانت عصى موسى معجزة فحسب ، إلّا أنّها لم يكن لها أثر في حياة الناس اليومية ، غير أن القرآن معجزة ، هو في الوقت ذاته منهج كامل الحياة ورحمة أيضا.

٤٣٠

أيضا.

ولمّا كان كل مدع بحاجة إلى الشاهد ، فالقرآن يبيّن في الآية الأخرى أن خير شاهد هو الله( قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ) .

وبديهي أنّه كلّما كان اطلاع الشاهد وشهادته أكثر ، فإنّ قيمة الشهادة تكون أهم ، لذلك يضيف القرآن بعدئذ قائلا :( يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

والآن لنعرف كيف شهد الله على حقانية نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

يحتمل أن تكون هذه الشهادة شهادة عملية ، لأنّه حين يؤتي الله نبيّه معجزة كبرى كالقرآن ، فقد وقع على سند حقانيته وأمضاه.

ترى هل يمكن أن يأتي الله الحكيم العادل بمعجزة على يد كذّاب ، والعياذ بالله! فعلى هذا كانت طريقة إعطاء المعجزة لشخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بنفسها ـ أعظم شهادة على نبوته من قبل الله.

وإضافة للشهادة العملية المتقدمة ، نقرأ في آيات كثيرة من القرآن شهادة قولية في نبوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في الآية (٤٠) من سورة الأحزاب( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، وفي الآية (٢٩) من سورة الفتح أيضا( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ )

قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية كانت جوابا على ما قاله بعض رؤوساء اليهود من أهل المدينة ، أمثال «كعب بن الأشرف» وأتباعه ، إذ قالوا : يا محمّد ، من يشهد على أنّك مرسل من قبل الله ، فنزلت هذه الآية( قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ) !

كما يمكن أن تفسّر الآية المتقدمة بتفسير آخر وبيان ثان ، وذلك أنّ المراد من شهادة الله في الآية هي ما سبق من الوعد والذكر في كتب الله السابقة «كالتّوراة والإنجيل» ويعلم بذلك علماء أهل الكتاب بصورة جيدة!.

وفي الوقت ذاته لا منافاة بين التّفسيرات الثلاثة الآنفة الذكر ، ومن الممكن

٤٣١

أن تجتمع هذه التفاسير في معنى الآية أيضا.

وتختتم الآية بنحو من الوعيد والتهديد لأولئك الكفار بالله ، فيقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وأي خسران أعظم من أن يعطي الإنسان جميع وجوده في سبيل لا شيء؟! كما فعله المشركون ، فقد أعطوا قلوبهم وأرواحهم للأوثان والأصنام ووظّفوا جميع قواهم الجسمانية والإمكانات الاجتماعية والفردية في سبيل الإعلام والتبليغ لمذهبهم الوثني وأهملوا ذكر الله ، فلم يعد عليهم هذا إلّا بالضرر والخسران!.

وغالبا ما يشير القرآن إلى هذا الخسران في آياته ، وفي بعض الآيات يرد التعبير بكلمة «أخسر» وهي إشارة إلى أنّه ليس فوق هذا الخسران من خسارة ولا أعظم منه! (راجع آيات السور «هود ٢٢ والنمل ٥ والكهف ١٠٣»).

والمثل الأهمّ هو أنّه قد يتفق للإنسان أحيانا أن يتضرر في معاملته ويخسر رأس ماله ويغلب على أمره ، وقد تتسع هذه الدائرة أحيانا فيقل كاهله بالديون ، وهذه الحالة أسوأ الحالات والمشركون هم في مثل هذه الحالة ، بل قد يكونون سببا لضلال الآخرين وخسرانهم ، وكما يصطلح عليه : «الفشل سلسلة متصلة»(١) .

في الآيات المتقدمة عرض قسمان من ذرائع الكفار قبال دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أجيب عنهما :

الأوّل : كان قولهم : لم لا يأتي بمعجزة؟!

فأجاب القرآن : إن هذا الكتاب المنزل من السماء هو أعظم معجزة.

والثّاني : سؤالهم : من الشاهد على صدق دعواك وحقانية النبوة عندك؟

فأجاب القرآن : كفى بالله شهيدا بيني وبينكم يعلم ما في السماوات

__________________

(١) لنا في هذا الصدد بحث مفصل بيناه في ذيل الآية (١٠٣) من سورة الكهف.

٤٣٢

والأرض.

أمّا في الآية التالية فإشارة إلى الذريعة الثّالثة إذ تقول :( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) إذ يقولون : لو كان عذاب الله حقا على الكافرين فلم لا يأتينا!؟

فيجيب القرآن على هذه الذريعة بثلاثة أجوبة.

الأوّل :( وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ) .

وهذا الزمان المعين «الأجل» إنّما هو لهدف أصلي ، للارعواء عن باطلهم وتيقظهم ، أو إتمام الحجة عليهم ، فالله لا يستعجل أبدا في أمره ، لأنّ العجلة خلاف حكمته.

والثّاني : إن أولئك الذين يتذرعون بهذا القول ما يدريهم لعل العذاب يأخذهم على حين غرة من أنفسهم( وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .

وبالرغم من أن موعد العذاب ـ في الواقع ـ معين ومقرّر إلّا أن المصلحة تقتضي ألّا يطّلعوا عليه ، وأن يأتيهم دون مقدمات ، لأنّه لو عرف وقته لكان باعثا على تجرؤ الكفار والمذنبين وجسارتهم وكانوا يواصلون الذنب والكفر إلى آخر لحظة وحين يأزف الوعد بالعذاب فإنهم سيتجهون بالتوبة ـ جميعا ـ الى الله وينيبون إليه.

والحكمة التربوية لمثل هذا العقاب تقتضي أن يكتم موعده ، لتكون كل لحظة ذات أثر بنفسها ، ويكون الخوف والاستيحاش منها عاملا على الردع ، ويتّضح ممّا قلناه ـ ضمنا ـ أنّ المراد من جملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) لا تعني أنّهم لا يدركون أصل وجود العذاب. وإلّا فإنّ فلسفة العذاب والحكمة منه لا يكون لها أثر ، بل المراد أنّهم لا يعرفون اللحظة التي ينزل فيها العذاب ولا مقدماته ، وبتعبير آخر : إنّ العذاب ينزل عليهم كالصاعقة وهم غافلون.

ويظهر من آيات متعددة من القرآن أن التذرع بالحجج الواهية لم يكن

__________________

(١) «البغتة» مشتقة من «البغت» على زنة «وقت» ومعناه التحقق المفاجئ وغير المنتظر لأمر.

٤٣٣

منحصرا بأهل مكّة ، بل كثير من الأمم السابقين يلتجئون إلى مثل هذه الذريعة ، ويصرون على تعجيل العقوبة والعذاب!.

وأخيرا فإنّ الجواب القرآني الثّالث يتبيّن في الآية إذ يقول :( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

فإذا تأخر عنهم عذاب الدنيا ، فإن عذاب الآخرة واقع لا محالة ، ومحيط بهم تماما وسيصيبهم حتما بحيث أنّ القرآن يذكره بصورة أمر فعليّ (وكأن جهنّم الآن محيطة بهم).

ويوجد تفسير آخر أكثر دقّة لهذه الآية ، وهو أنّ جهنم محيطة ، الآن فعلا بالكافرين ، من جهتين ـ بالمعنى الواقعي للكلمة.

الجهة الأولى : إنّها جهنم الدنيا ، إذ هم على أثر شركهم وتلوثهم بالذنب يحترقون بجهنم التي أعدّوها لأنفسهم ، جهنم الحرب وسفك الدماء ، جهنم النزاع والشقاق والاختلافات ، جهنم القلق والفزع ، جهنم الظلم ، وجهنم الهوى والهوس والعناد.

والجهة الثّانية : طبقا لظاهر الآيات في القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلا ، وكما تقدم سابقا فإنّ جهنّم موجودة في باطن الدنيا ، وبهذا فهي محيطة بهم على نحو الحقيقة وفي سورة التكاثر إشارة لها أيضا( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) الآيات ٥ ـ ٧ من سورة التكاثر(١) .

ثمّ يضيف القرآن( يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

يمكن أن تكون هذه الآية توضيحا لإحاطة عذاب جهنّم في يوم القيامة بالكفار ، ويمكن أن تكون بيانا مستقلا لذلك العذاب الأليم لهم الذي يحيط بهم

__________________

(١) لمزيد الإيضاح يراجع ـ في هذا الصدد تفسير الآية (١٢٣) من سورة آل عمران.

(٢) يرى بعض المفسّرين أن كلمة «يوم» متعلقة بفعل محذوف مقدر ، وقال بعضهم : هو متعلق بـ «محيطة».

٤٣٤

اليوم على أثر أعمالهم ، وفي غد يتجلى هذا العذاب بوضوح ويكون محسوسا ظاهرا.

وعلى كل حال فذكره لإحاطة العذاب( مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) وعدم ذكره لبقية الجهات ـ في الحقيقة ـ هو لوضوح المطلب ، وإضافة إلى ذلك فإن نار العذاب إذا امتدت ألسنتها من تحت الأرجل ونزلت على الرؤوس ، فإنها تحيط بجميع البدن أيضا وتغشى جميع أطرافه وجوانبه.

وأساسا فإنّ هذا التعبير مستعمل في اللغة العربية ، إذ يقال مثلا : إن فلانا غارق من قرنه إلى قدمه في مستنقع الفسق وعدم العفة ، أى إن جميع وجوده غارق في هذا الذنب ، وبهذا يرتفع الإشكال عند المفسّرين في ذكر القرآن للجهة العليا «من فوقهم» والجهة السفلى «من تحتهم» والسكوت عن الجهات الأربع الأخرى ، ويتّضح المراد منه بالتقرير الذي بيّناه!

أمّا جملة( ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التي يظهر أن قائلها هو الله تعالى ، فهي بالإضافة إلى أنّها نوع من العقوبة النفسية لمثل هؤلاء الأشخاص ، فهي كاشفة عن هذه الحقيقة ، وهي أن عذاب الله ليس إلّا انعكاسا للأعمال التي يقوم بها الإنسان نفسه في النشأة الآخرة!.

* * *

ملاحظات

١ ـ دلائل إعجاز القرآن :

لا شك أنّ القرآن أعظم معجزة للإسلام معجزة بليغة ، خالدة وباقية ، مناسبة لكل عصر وزمان ولجميع الطبقات الاجتماعية ، وقد ذكرنا بحثا مفصلا عن إعجاز القرآن في ذيل الآية ٢٣ من سورة البقرة ، ولا حاجة إلى إعادته هنا.

٤٣٥

٢ ـ التشبث بالحيل لإنكار المعجزات :

يصرّ بعض العلماء المتأثرين بالغرب ـ الذين يميلون إلى أن لا يعتدّوا بظواهر الأنبياء الخارقة للعادة ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس له معجزة غير القرآن ، وربّما يرون القرآن ليس معجزا ، في حين أنّ مثل هذا الكلام مخالف لآيات القرآن ، وللرّوايات المتواترة ، وللتأريخ الإسلامي أيضا.

«وقد بيّنا تفصيل هذا الكلام في ذيل الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء».

٣ ـ المعجزات الاقتراحيّة :

كانت أساليب المخالفين للأنبياء دائما هي اقتراحهم المعجزات التي يرتؤونها ، وكانوا بعملهم هذا يحاولون أن يحطّوا من قيمة المعجزات وعظمتها ويجروها إلى الابتذال من جهة ، وأن تكون في أيديهم ذريعة إلى عدم قبول دعوة الأنبياء من جهة أخرى ، لكن الأنبياء لم يستسلموا لهذه المؤامرات أبدا وكما رأينا في إجابتهم آنفا ، فإن المعجزة ليست باختيارهم لتكون مطابقة «لميلكم وهوسكم» كل يوم وكل ساعة نأتي بمعجزة كما تريدون بل المعاجز هي بأمر الله فحسب ، وهي خارجة عن أمرنا.

«وقد ذكرنا شرحا حول المعجزة الاقتراحية في ذيل الآية ٢٠ من سورة يونس».

* * *

٤٣٦

الآيات

( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) )

سبب النّزول

يعتقد كثير من المفسّرين أنّ الآية ـ من هذا المقطع ـ نزلت في شأن المؤمنين الذين كانوا تحت ضغط الكفار الشديد ، حتى أنّهم لم يستطيعوا أن يؤدوا وظائفهم الإسلامية ، فجاءت هذه الآية لتأمرهم بالهجرة من هذه الأرض.

كما يعتقد بعض المفسّرين أيضا أنّ الآية( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) وهي الآية الأخيرة ـ من المقطع محل البحث نزلت في شأن بعض المؤمنين الذين كانوا يتعرضون لأذى أعدائهم في مكّة! وكانوا يقولون لو هاجرنا إلى المدينة فليست لدينا دار ولا أرض ، من يطعمنا ويسقينا هناك؟ فنزلت الآية( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ).

٤٣٧

التّفسير

لا بدّ من الهجرة :

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين ، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسئولياتهم قبال المشاكل المختلفة ، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك ، فتقول الآية الأولى :( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) .

وبديهي أنّ هذا ليس قانونا خاصا بمؤمني أهل مكّة ، ولا يحدد سبب النّزول مفهوم الآية الواسع المنسجم مع الآيات الأخرى فعلى هذا لو سلب الإنسان حريته في أي عصر أو زمان ومكان بشكل كامل ، فإنّ بقاءه هناك لا يجلب عليه إلّا الذل «والخسران والضرر» والابتعاد عن أداء المناسك الإلهية ، فوظيفة الإنسان المسلم عندئذ الهجرة إلى منطقة «حرّة» يستطيع أن يؤدي فيها وظائفه الإسلامية بحرية تامّة أو حرية نسبية.

وبتعبير آخر : إنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبدا لله ، عبودية هي في الواقع سبب للحرية والكرامة والإنتصار في جميع الجهات وجملة( فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) إشارة إلى هذا المعنى ، كما ورد هذا التعبير في الآية (٥٦) من سورة الذاريات( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي والنهائي مستحيلا ، فلا سبيل عندئذ إلّا الهجرة ، فأرض الله واسعة ، وينبغي أن يهاجر الفرد نحو منطقة أخرى ، ولا يكون أسيرا لمفاهيم «القبلية والقومية والوطنية والبيت والأهل» في مثل هذه الموارد ، ولا يذل الإنسان نفسه من أجلها ، فإنّ احترام هذه الأمور هو فيما لو كان الهدف الأصلي قائما غير مخاطر به ، أمّا إذا أصبح الهدف الأصلي «عبادة الله» مخاطرا به فلا سبيل إلّا الهجرة!

٤٣٨

وفي مثل هذه الموارد يقول الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «ليس بلد بأحق بك من بلدك ، خير البلاد ما حملك»(١) .

صحيح أنّ حب الوطن والعلاقة بمسقط الرأس جزء من طبيعة كل إنسان ، ولكن قد يتفق أن تحدث في حياة الإنسان مسائل أهم من تلك الأمور ، فتجعلها تحت شعاعها وتكون أولى منها.

وفي مجال موقف الإسلام ونظرته من مسألة الهجرة والرّوايات الواردة في هذا الصدد ، كان لنا بحث مفصل في ذيل الآية (١٠٠) من سورة النساء.

والتعبير بـ( يا عِبادِيَ ) هو أكثر التعابير رأفة وحبّا للناس من قبل خالقهم.

وتاج للفخر أعلى حتى من مقام الرسالة والخلافة ، كما نذكر ذلك في التشهد حيث نقدم العبودية على الرسالة دائما «أشهد أن محمّدا عبده ورسوله».

من الطريف أنّه حين خلق الله آدم لقبه بـ «خليفة الله» ، وهو فخر لآدم ، إلّا أن الشيطان لم ييأس من التسويل والوسوسة له ، فكان ما كان ، ولكن حين بوأه مقام العبودية أذعن الشيطان له ويئس من إغوائه وقال :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .(٢)

والله سبحانه ضمن هذا الأمر فقال :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) .(٣)

ويتّضح ممّا ذكرناه ـ بصورة جيدة ـ أنّ المراد بالعباد ليس جميع الناس ـ في الآية محل البحث ـ بل هم المؤمنون منهم فحسب ، وجملة( الَّذِينَ آمَنُوا ) جاءت للتأكيد والتوضيح(٤) .

وحيث أنّ البعض بقوا في ديار الشرك ، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم

__________________

(١) الكلمات القصار ، رقم ٤٤٢.

(٢) سورة ص الآيتان ٨٢ ، ٨٣.

(٣) سورة الحجر ، الآية ٤٢.

(٤) جملة «فإياي فاعبدون» عطف على جزاء جملة الشرط المحذوف والتقدير «إن ضاقت بكم الأرض فهاجروا منها إلى غيرها وإيّاي فاعبدون».

٤٣٩

يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الأخرى التي تهددهم إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء ، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلا :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) .

فهذه الدنيا ليست بدار بقاء لأي أحد ، فبعض يمضي عاجلا ، وبعض يتأخر ، ولا بدّ أن يذهبوا جميعا ، وعلى كل حال ففراق الأحبة والأبناء والأقارب لا بدّ أن يقع ويتحقق ، فعلام يبقى الإنسان في ديار الشرك من أجل المسائل العابرة وأن يحمل عبء الذل والأسر على كاهله ، أكلّ ذلك من أجل أن يبقى بضعة أيّام أو أكثر؟!

ثمّ بعد هذا كلّه ينبغي أن تخافوا أن يدرككم الموت في ديار الكفر والشرك قبل أن تبلغوا دار الإسلام ، فما أشد ألم مثل هذا الموت وما أتعسه!

ثمّ لا تظنوا أن الموت نهاية كل شيء ، فالموت بداية لحياة الإنسان الأصلية ، لأنّكم جميعا( إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) إلى الله العظيم ، وإلى نعمه التي لا حدّ لها ولا انتهاء لأمدها.

والآية التالية تبيّن جانبا من هذه النعم فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) (١) .

فهم في قصور تحيط بها أشجار الجنّة من كلّ جانب ، الأنهار المختلفة التي لكلّ منها طعمه ولونه ، طبقا لآيات القرآن الاخر ، وهي ما بين الأشجار وتحت تلك القصور جارية أبدا (لاحظوا أن «غرف» جمع غرفة ، ومعناها البناء المرتفع المشرف على أطرافه).

والامتياز الآخر لغرف الجنّة أنّها ليست كغرف الدنيا وقصورها ومنازلها التي ما أن يضع الإنسان فيها قدمه حتى يسمع نداء «الرحيل» ، فغرف الجنّة دائمة

__________________

(١) «لنبوئنهم» من مادة «تبوئة» على زنة «تذكرة» معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم.

٤٤٠

( خالِدِينَ فِيها ) .

ويضيف القرآن معقبا في ختام الآية( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وبموازنة بسيطة بين ما ذكر آنفا في شأن الكفّار والمذنبين في الآيات السابقة ، وما ورد في هذه الآية ، تتّضح عظمة ثواب المؤمنين.

فالكفّار غارقون في نار جهنّم من قرنهم إلى قدمهم ، ويقال لهم على سبيل التوبيخ( ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أمّا المؤمنون فهم مقيمون في نعيم الجنّة وتحيط بهم رحمة الله من كلّ جانب ، وبدلا من كلمات التوبيخ يكلمون بكلام طيب ملؤه المحبّة واللطف الإلهي الكريم ، أجل يقال لهم :( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وبديهي أنّ المراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة ، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم ، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة.

وفي حديث عن نبيّ الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله يصف الجنّة فيقول : «إنّ في الجنّة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها» فنهض بعض أصحابه فقال :

يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمن هذه الغرف؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «هي لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وصلى لله بالليل والناس نيام»(١) .

والآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المؤمنون العاملون فتقول :( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

إذ يبتعدون عن الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شيء عزيز عليهم ، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم ويصبرون ، وتتلقى أنفسهم العذاب والأذى من أعدائهم من أجل حفظ إيمانهم ، ويواجهون الصعاب في جهادهم الأكبر «جهادهم مع النفس» وجهادهم أعداءهم بشدّة ، ويتحملون أنواع المشاكل فيصبرون!

__________________

(١) تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث ، ج ٧ ، ص ٥٠٧٥.

٤٤١

أجل ، هذا الصبر وهذه الاستقامة هما رمز انتصارهم وعامل فخرهم الكبير ، وبدونه لا يتحقق عمل إيجابي في الحياة.

ثمّ بعد هذا كلّه ، فهم لا يعتمدون على أموالهم ولا على أصدقائهم ، بل يعتمدون على الله ويتوكلون على ذاته المقدسة ، وإذ ابتغى ألف عدو هلاكهم تمثلوا قائلين : «امتحانك رحمة فلا أكترث بالأعداء».

وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيدا رأينا أن الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية ، فالصبر هو عامل الاستقامة أمام العوائق والمشاكل ، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.

وفي الحقيقة ينبغي الاستمداد من هاتين الفضيلتين (الصبر والتوكل) للأعمال الصالحة ، إذ بدونهما لا يمكن أن تؤدى الأعمال الصالحة بالمقياس الواسع(١) .

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ جواب لأولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا ، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر ، فالرازق هو الله ، لا لكم فحسب بل( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ) .

قليل من الدواب والحيوانات والحشرات ـ وكذلك الإنسان ـ يأتي برزقه من الصحراء والشجر إلى وكره ومسكنه كالنحل ـ التي تنتج العسل ـ والنمل ، وغالبا ما تكون الحيوانات بمثابة «طائر اليوم» أي كل يوم عليها أن تمضي لرزقها وتبحث عنه من جديد. وهكذا فإنّ ملايين الملايين من الحيوانات التي من حولنا ، في النقاط القريبة والبعيدة ، وفي الصحاري وأعماق البحار وأعالي

__________________

(١) تحدثنا عن حقيقة التوكل وحكمته وفلسفته بإسهاب في ذيل الآية (١٢) سورة إبراهيم ، وعن حقيقة الصبر لدى تفسير الآية (١٢) من سورة إبراهيم والآية (٢٤) من سورة الرعد والآية (٢٦) من سورة الأعراف.

٤٤٢

الجبال والأماكن الأخرى ، فإنّها كلّها تقتات من مائدة الله السرمدية.

وأنت أيّها الإنسان أقوى من تلك الحيوانات وأذكى في جلب الرزق ، فلم كلّ هذا الخوف من انقطاع الرزق؟!

ولم الركون إلى حياة الذل والاستكانة والفجور؟!

ولم تظل سادرا تحت وطأة الظلم والقهر والهوان والذل؟! اخرج أنت أيضا من داخل هذه الدائرة المظلمة ، واجلس على مائدة خالقك الواسعة ولا تفكر بالرزق!.

فأنت يوم كنت جنينا محبوسا في بطن أمّك ، ولا تصل إليك أية يد حتى من أبيك وأمك الرؤوم ، لم ينسك الله الذي خلقك ، وهيأ ما كنت تحتاج إليه لك بكل دقّة ، فكيف وأنت اليوم كائن قوي ورشيد؟!

وحيث أن إيصال الرزق للمحتاجين هو فرع علمه تعالى بحاجاتهم ، فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلا :( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

يسمع كلامكم كلّه ، ويعرف لسان حالكم ، ولسان حال جميع الدواب ، وهو خبير بحاجات الجميع ، ولا يخفى على علمه الذي لا حد له شيء أبدا.

* * *

٤٤٣

الآيات

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) )

التّفسير

الإقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر :

كان الحديث في الآيات السابقة موجّها إلى المشركين الذين أدركوا حقانية الإسلام ، إلّا أنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة ، خوفا من انقطاع الرزق عليهم.

٤٤٤

أمّا في هذه الآيات ، فالحديث موجه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي الواقع لجميع المؤمنين ، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق «الخلقة» ، و «الربوبيّة» ، و «الفطرة» ، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة ، ويريهم أن مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد الله الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم ، لا بأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.

فتبدأ الآية الأولى من هذه الآيات محل البحث ـ مشيرة إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية فتقول :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) !

لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول : إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان.

وبتعبير آخر : لا يشك في «توحيد الخالق» حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق ، وكانوا يقولون : إنّما نعبد أوثانا ليقربونا إلى الله زلفى ، فهم الوسطاء بيننا وبين الله ، كما نقرأ في الآية (١٨) من سورة يونس( وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) فنحن غير جديرين أن نرتبط بالله مباشرة ، بل ينبغي أن نرتبط به عن طريق الأصنام( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) .(١)

وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أية فاصلة ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، زد على ذلك : إذا كان الإنسان ـ الذي هو بمثابة الدرّة اليتيمة في تاج الموجودات ـ لا يستطيع أن يرتبط بالله مباشرة ، فأي شيء يكون واسطة الإنسان إلى الله؟!

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل :( فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الأحجار والأخشاب؟!

__________________

(١) الزمر ، الآية ٣.

٤٤٥

كلمة «يؤفكون» مشتقّة من «إفك» على زنة «فكر» ومعناها إعادة الشيء من صورته الواقعية والحقيقية ، وبهذه المناسبة تطلق الكلمة على الكذب وعلى الرياح المخالفة «للاتجاه» أيضا.

والتعبير بـ «يؤفكون» بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم ، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة.

والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها الله تعالى ، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان ، ومنافعه.

ثمّ يضيف القرآن تأكيدا لهذا المعنى ، وهو أن الله خالق الخلق ورازقهم ، فيقول :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ) فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام.

وما ورد بيانه في الآيات السابقة من أنّ المؤمنين حقّا هم وحدهم يتوكلون عليه ، فلأجل هذا المعنى ، وهو أن شيء بيده وبأمره ، فعلام يخشون من إظهار الإيمان ، ويرون حياتهم في خطر من جهة الأعداء.

وإذا كانوا يتصورون أنّ الله قادر ، إلّا أنّه غير مطّلع على حالهم ، فهذا خطأ كبير لـ( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

ترى هل يمكن لخالق مدبر يصل فيضه لحظة بعد أخرى لموجوداته ، وفي الوقت ذاته يكون جاهلا بحالها؟.

وفي المرحلة الثّانية يقع الكلام عن «التوحيد الربوبي» ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم ، فيقول :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ ) .

فهذا هو ما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن ، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم! فهم يعرفون أن الخالق هو الله ، وأنّه ربّ العالم ومدبره.

ثمّ يضيف القرآن مخاطبا نبيّه( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) . فالحمد والثناء لمن أنعم

٤٤٦

جميع النعم ، إذ لمّا كان الماء الذي هو مصدر الحياة لجميع الحيوانات من رزق الله فيكون واضحا أن الأرزاق جميعها صادرة من قبله أيضا.

قل الحمد لله «واشكره» ، لأنّهم يعترفون بهذه الحقائق.

وقل الحمد لله ، فمنطقنا قوي متين حيّ إلى درجة لا يستطيع أي أحد إبطاله أو تفنيده. وحيث أنّ أقوال المشركين من جهة ، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة أخرى ، يناقض بعضها بعضا ، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

وإلّا فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته ، فتارة يرى أن الخالق والرازق والمدبّر للعالم هو الله ، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس!. فمن جهة يعتقدون بتوحيد الخالق والرب ، ومن جهة أخرى يظهرون الشرك في العبادة.

ومن الطريف أنّ الآية لا تقول : «أكثرهم لا عقل لهم» بل تقول :( لا يَعْقِلُونَ ) ومعناها أنّهم لديهم العقول ، إلّا أنّهم لا يستوعبون ولا يتعقلون!

ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل ، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياسا إلى الحياة الأخرى الخالدة ، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني ، فيقول :( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

كم هو تعبير بليغ وبديع! لأنّ «اللهو» معناه الانشغال أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية.

أمّا «اللعب» فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي ، والهدف الخيالي أيضا ، ففي اللعب يكون أحد اللاعبين ملكا ، والآخر وزيرا ، والثّالث قائدا للجيش ، والرابع ـ السارق أو «الحرامي» ، والخامس يمثل القافلة وهكذا ، وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كل شيء إلى مكانته ، وكأن المسألة لا تعدوا

٤٤٧

طيفا أو خيالا فلا أثر ولا خبر.

فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة ، مبينا أن الحياة الدنيا هي نوع من الانشغال واللعب يجتمع الناس فيها وينشدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم ، وبعد أيّام يتفرقون ويختفون تحت التراب ، ثمّ يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان.

أمّا الحياة الحقيقية التي لا فناء بعدها ، ولا ألم فيها ، ولا قلق ولا خوف ولا تضاد ولا تزاحم ، فهي الحياة الآخرة فحسب لو كان الإنسان يعرف ذلك ، وكان أهلا للتدقيق والتحقيق!

أمّا الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة ، وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها ، ويأنسون بها ، فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة.

وينبغي الالتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان» على زنة «خفقان» هو الحياة ، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدريا(١)

وهذا التعبير( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) إشارة إلى أن الحياة الحقيقية هي في الأخرى ، لا في هذه الدار الدنيا ـ فكأنّ الحياة في الأخرى تفور من جميع أبعادها ، ولا شيء هناك إلّا الحياة.

وبديهي أن القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا ، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأخرى قياسا صريحا وواضحا وإضافة إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيرا لهذه المواهب ، بل ينبغي أن يكون أميرا عليها ، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبدا.

وفي المرحلة الثّالثة يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية ، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان ، وضمن مثال بديع جدّا وبليغ فيقول :( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ

__________________

(١) أصل الكلمة مشتق من «حيي» ومصدرها «حييان» ثم أبدلت الياء الثانية واوا فصارت حيوان.

٤٤٨

إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) .

أجل ، إنّ الشدائد والأزمات هي التي تهيء الارضية لتفتح الاجتماعية «الفطرة» الإنسانية ، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعا ، إلّا أن الآداب والمسائل الخرافية والتربية الخاطئة والتلقينات السيئة تلقي عليه ظلالا وأستارا ، ولكن حين تحدق بالإنسان الشدائد وتحيط به دوّامات المشاكل ، ويرى يده قاصرة عن الأسباب الظاهرية ، يتجه بدون اختياره إلى عالم ما وراء الطبيعة ، ويخلص قلبه من كل نوع من أنواع الشرك والكفر ، وينصهر في تنور الحوادث ، ويكون مصداقا لقوله تعالى :( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) .

وملخص الكلام : إنّه توجد في داخل قلب الإنسان دائما نقطة نورانية ، وهي خطّ ارتباطه بما وراء عالم الطبيعة ، وأقرب طريق إلى الله.

إلّا أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور ـ وخاصة عند السلامة ووفور النعمة ـ تلقي عليها أستارا ، غير أن طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار ، وتتجلى نقطة النور آنذاك.

وعلى هذا ، فإنّ أئمّة المسلمين العظام كانوا يرشدون المترددين في مسألة «معرفة الله» ويغرقون في الشك والحيرة بهذا الأمر.

وقصّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة الله ، والذي أرشده الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريق الفطرة والوجدان ، سمعناها جميعا إذ قال : يا ابن رسول الله ، دلّني على الله ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني!

فقال له الإمامعليه‌السلام : «يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قطّ؟

قال : نعم.

قال : فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟!

قال : نعم! قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من

٤٤٩

ورطتك؟!

قال : نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث».(١)

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة الله ، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول : إن هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاما قلائل :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) عاقبة كفرهم وشركهم إلى أين ستبلغ بهم؟

وأي ابتلاء ومصير مشؤوم سيقعون فيه؟! وبالرغم من أنّ ظاهر الآية هنا هو الأمر بالكفر وإنكار آيات الله إلّا أن من البديهي أنّ المراد منه التهديد وهذا تماما ينطبق مثلا على ما لو قلنا لمذنب جان : افعل ما بدا لك من إجرام ، إلّا أنّك سرعان ما تذوق مرارة عملك؟

ففي مثل هذه العبارات ، وإن استعملت صيغة الأمر فيها ، إلّا أنّ الهدف من ورائها هو التهديد وليس الطلب.

والطريف أن جملة( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) جاءت بصورة مطلقة ، فهي لا تقول : أي شيء يعلمون بل تقول : سيعلمون عاجلا ، هذا هو معنى( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

إطلاق الكلام هذا ليكون مفهومه واسعا ولا يتحدد ذهن السامع بأي شيء فنتيجة الأعمال السيئة هي عذاب الله ، الافتضاح في الدارين ، وكل أنواع الشقاء وسوء العاقبة!.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٤١» الطبعة الجديدة.

٤٥٠

ملاحظة

الشدائد واشراق القطرة :

سنتحدث بإذن الله في ذيل الآية الثلاثين من سورة الروم حول «فطريّة» أصل التوحيد ومعرفة الله بشكل مفصّل ، وما يلزم ذكره هنا هو أنّ القرآن المجيد يتحدث في آيات كثيرة عن المشاكل والصعاب على أنّها باعثة على ظهور الفطرة الإنسانية وبروزها «فالمشاكل والصعاب وسيلة لاشراق الفطرة».

يقول القرآن في بعض آياته :( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) .(١)

ويأتي هذا المعنى في سورة يونس ، ولكن بأسلوب آخر ، إذ يقول القرآن( إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ) (٢) كما ورد هذا المعنى في سورة الروم الآية (٣٢) وسورة الزمر الآية (٤٩) وسورة الإسراء الآيات (٦٧) ـ (٦٩) بعبارات أخرى وإشارات مليئة بالمعاني.

وفي الآيات ـ محل البحث ـ قرأنا أيضا أن المشركين في الحالات العادية يتجهون إلى الأصنام ، ولكن إذا سافروا في البحر وأحاطت بهم الأمواج والطوفان ، وأضحت سفينتهم كالقشة في وسط الأمواج المتلاطمة تتقاذفها هنا وهنا ، وانقطعت بهم السبل تتنور قلوبهم بنور التوحيد ويلقون جانبا جميع المعبودات المصنوعة ، ويخلصون قلوبهم كاملا ـ لكن خلوصا إجباريا لا قيمة له ـ فما أن يهدأ الطوفان وتتلاشى الأمواج وتعود الحالة الاعتيادية ، حتى تنزل الأسدال على الفطرة وتظهر أشواك الشرك والوثنية على هذه «الوردة».

__________________

(١) النحل ، الآيتان ٥٣ ـ ٥٤»

(٢) يونس ، الآية ١٢.

٤٥١

قد يقال : إنّ هذه الحالة من التوجه تحصل على أثر التلقين والرسوبات الفكرية من الثقافة الاجتماعية وأفكار المحيط.

ويمكن قبول مثل هذا الكلام فيما إذا كانت هذه المسألة تحدث خاصّة في موارد المتدينين أو الذين نشؤوا في محيط ديني ، ولكن مع الالتفات إلى أن هذه الحالة تظهر حتى عند أشد المنكرين لله ، وفي المجتمعات غير المذهبية ، فيتّضح حينئذ أن جذرها كامن في الضمير (غير الواعي) للإنسان ، وفي داخل فطرته وجبلّته!.

* * *

٤٥٢

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩) )

سبب النّزول

نقل في تفسير «الدر المنثور» عن ابن عباس ـ ذيل الآية محل البحث ـ أن جماعة من المشركين قالوا : يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلّا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلّتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس ، فانزل الله :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً ) وكانت جوابا لهم.

التّفسير

أشارت الآيات ـ التي سبق ذكرها ـ إلى بعض الحجج الواهية للمشركين ، وهي أنّنا نخاف على حياتنا إذا أظهرنا الإيمان ثمّ هاجرنا معك يا رسول الله ، وقد ردّ عليها القرآن بطرق مختلفة.

٤٥٣

وفي الآيات ـ محل البحث ـ يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ) أي أرض مكّة المكرمة.

في حين أن العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكّة ، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات ، إلّا أن هذه الأرض باقية على أمنها( وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) .

فالله المقتدر على أن يجعل في هذا البحر المتلاطم والطوفان المحدق بأرض الحجاز «من الفتن» حرم مكّة كالجزيرة الهادئة الآمنة وسط البحر. كيف لا يمكنه أن يحفظهم من أعدائهم؟! وكيف يخافون الناس الضعاف قبال قدرة الله العظيمة جلّ وعلا؟( أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ) .

وملخص الكلام ، إنّ الله القادر على أن يجعل في أرض مضطربة في وسط جماعة من الناس أنصاف وحشيين منطقة صغيرة آمنة ، فكيف لا يقدر على حفظ جماعة المؤمنين القلائل بين جماعات كثيرة من الكفار.

وبعد ذكر هذا الدليل الواضح ينتهي القرآن الى هذه النتيجة في الآية التالية( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ ) .

لقد قدمنا دلائل واضحة لكم على أنّه لا شيء أحق بالعبادة وأحرى بها من الله ، لكنّكم كذبتم على الله ، وصنعتم له شركاء بأيديكم ، وتدعون أن هذا هو منهج إلهي.

ومن جهة أخرى ، فإنّ القرآن الذي أنزلناه عليكم فيه دلائل الحق لائحة واضحة ، إلّا أنّكم لم تكترثوا به ، وألقيتموه وراءكم ظهريا! فهل يتصور ظلم أشدّ من هذا؟! لقد ظلمتم أنفسكم وظلمتم الناس جميعا ، لأنّ الشرك ظلم عظيم.

وبتعبير آخر : هل الظلم بمعناه الوسيع إلّا الانحراف وإخراج الشيء عن محلّه الجدير به ، وهل يرى أسوأ من أن يعدّ الإنسان حفنة من الأحجار المصنوعة التي لا قيمة لها أو الخشب المصنوع شركاء للخالق سبحانه الذي

٤٥٤

خلق السماوات والأرض.

إضافة إلى ذلك فإنّ الشرك مصدر جميع المفاسد الاجتماعية ، وفي الواقع إن المظالم الأخرى تسترفد منه ، عبادة الهوى ، عبادة المقام ، عبادة الدنيا ، كل منها نوع من الشرك.

ولكن اعلموا أنّ عاقبة الشؤم والخزي للمشركين( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ) .

من الجدير ذكره أنّ في القرآن الكريم ١٥ موردا عبّر فيها القرآن عن بعض الأفراد بأنّهم الأظلم ، وجميع هذه الموارد بدأت بجملة استفهامية( وَمَنْ أَظْلَمُ ) طبعا الاستفهام هنا استنكاري.

والتدقيق في هذه الآيات يدل على أنّ الآيات المذكورة وإن عالجت مسائل متنوعة ، إلّا أنّها جميعا تعود إلى الشرك ، فعلى هذا لا تضاد بينها أبدا. «لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (٢١) من سورة الأنعام».

وآخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وهي في الوقت ذاته آخر آية سورة العنكبوت ، تبيّن واقعا مهما ، وهي عصارة جميع هذه السورة ، وتنسجم مع بدايتها. ،

تقول الآية بالرغم من أن المشاكل المتعددة تحيط بطريق المسير إلى الله ، من قبيل مشكلة معرفة الحق ، ومشكلة وساوس الشياطين من الإنس والجن ، ومشكلة عناد الأعداء الألداء الظالمين الذين لا يرحمون ، ومشكلة الانحرافات الاحتمالية ، لكن هنا حقيقة ثابتة ، وهي أن الله يمنحكم القوّة والاطمئنان قبال المشاكل ويدافع عنكم ، تقول الآية :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) .

وفي معنى «الجهاد» هنا والمراد منه احتمالات متعددة. أهو جهاد الأعداء؟ أم جهاد النفس؟ أم الجهاد في سبيل معرفة الله عن الطرق العلمية؟

٤٥٥

للمفسّرين آراء في هذا المجال.

وكذلك في معنى «فينا» الذي ورد تعبيره في الآية ، هل المراد منه في سبيل الله؟! أم في سبيل الجهاد للنفس ، أم في سبيل العبادة ، أم مواجهة الأعداء؟

ولكن من الواضح أنّ التعبير بالجهاد له معنى واسع مطلق ، ومثله التعبير بكلمة «فينا» فالتعبير يشمل كل سعي وجهاد في سبيل الله ومن أجله ، وللوصول إلى الأهداف الإلهية ، كل ذلك يصدق عليه( جاهَدُوا فِينا ) سواء كان في سبيل كسب المعرفة! أو جهاد النفس ، أو مواجهة الأعداء ، أو الصبر على الطاعة ، أو الصبر على المعصية ، أو في إعانة الضعفاء ، أو في الإقدام على أي عمل حسن وصالح!

ويتّضح ممّا قلناه ضمنا أنّ المراد بـ «السبل» الطرق المتعددة التي تنتهي إلى الله ، سبيل جهاد النفس ، سبيل جهاد الأعداء ، سبيل العلم والثقافة. والخلاصة ، فإن الجهاد في كل طريق من هذه الطرق والسبل سبب لهداية المسير المنتهي إلى الله.

وهذا وعد وعده الله لجميع المجاهدين في سبيله ، وأكده بأنواع التأكيدات كـ «لام التأكيد والنون الثقيلة» وجعل التوفيق والإنتصار والرقي في محور شيئين هما «الجهاد» و «خلوص النية».

ويعتقد جماعة من الفلاسفة أنّ التفكر والمطالعة لا يوجدان العلم ، بل يهيئان روح الإنسان لقبول صور المعقولات ، وحين تتهيأ الروح الإنسانية للقبول يتنزّل «الفيض» من قبل الخالق المتعال وواهب الصور بالعلم و «الحكمة».

فعلى هذا ينبغي على الإنسان أن يجاهد في هذا الطريق ، إلّا أن الهداية بيد الله تعالى.

وما ورد في الحديث أنّه «ليس العلم بكثرة التعلم والتعليم ، بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء» ، فلعله إشارة إلى هذا المعنى أيضا.

* * *

٤٥٦

ملاحظتان

١ ـ الجهاد والإخلاص

يستفاد من الآية المتقدمة بصورة جيدة أنّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة عدم الموفقية ، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين : إمّا أنا قصّرنا في جهادنا ، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل ، وإذا اجتمع الجهاد والإخلاص ـ فبناء على وعد الله ـ فإن النصر والهداية حتميّان.

ولو فكّرنا جيدا لاستطعنا أن نعزو جميع المشاكل والمصائب في المجتمع الإسلامي الى التقاعد عن الجهاد وعدم الإخلاص ، فهما مصدرها.

فلم تأخر المسلمون ، الذين كانوا متقدمين بالأمس!؟

ولم يمدون يد الحاجة إلى الأجانب في كل شيء ، حتى في الثقافة والقوانين ، وحتى نظمهم الخاصة.

ولم يعتمدون على غيرهم من أجل حفظ أنفسهم من التيارات السياسية والهجومات العسكرية.

لم كان الآخرون جالسين يوما على مائدة المسلمين التي كان خوانها مبسوطا بالعلم والثقافة والمعرفة ، واليوم أصبح المسلمون جالسين على مائدة الآخرين؟!!

وأخيرا ، لم نرى المسلمين أسرى في قبضة الآخرين ، وأراضيهم مغصوبة من قبل الظالمين؟

الإجابة على جميع هذه الأسئلة منحصرة في سبب واحد ، هو «نسيانهم الجهاد» أو «عدم الخلوص في النية».

أجل ، لقد أهملوا الجهاد في الميادين العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية ، وتغلّب عليهم حب النفس وعشق الدنيا او طلب الراحة والنظرة الضيقة والأغراض الشخصيّة ، حتى أصبح قتلاهم على أيديهم

٤٥٧

أكثر من قتلاهم على أيدي أعدائهم!.

إنّ استغراب بعض المسلمين الذي انبهروا بحضارة الغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي ، وعمالة بعض الرؤساء والزعماء ، ويأس وانزواء العلماء والمفكرين كل ذلك سلبهم التوفيق الى الجهاد ، وكذلك حرمهم من الإخلاص.

ومتى ما ظهر قليل من الإخلاص بين صفوفنا ، وتحرك مجاهدونا حركة ذاتية ، فإن النصر يكون حليفنا واحدا بعد الآخر وتتقطع غلال الأسر ويتبدل اليأس إلى أمل مشرق ، وسوء الحظ الى حسن الحظ ، والذلة إلى العزة ورفعة الرأس ، كما تتبدل الفرقة والشتات إلى الوحدة والانسجام.

وما أعظم ما قاله القرآن! وما أبلغ إلهامه! إذ جمع في جملة واحدة الداء والدواء معا.

أجل إن الذين يجاهدون في سبيل الله تشملهم هدايته ، ومن البديهي أنّه مع هداية الله ، فلا ضلال ولا خسران ، ولا انهزام.

وإذا لاحظنا أن الآية مفسرة في بعض روايات أهل البيتعليهم‌السلام بآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأتباعهم ، فهي مصداق كامل لذلك «التّفسير» لأنّهم كانوا السابقين والمتقدمين في طريق الجهاد ، وليس في الآية دليل على تحديد مفهومها أبدا.

وعلى كل حال ، فإنّ كل إنسان يلمس هذه الحقيقة القرآنية في سعيه واجتهاده ، حيث يجد الأبواب مفتوحة عند ما يعمل لله وفي سبيل الله ، وتنتهي مشاكله السهلة والصعبة وتضحى بسيطة متحملة.

٢ ـ الناس ثلاثة أصناف :

فصنف لجوج معاند لا تنفعه أية هداية.

وصنف مجد دؤوب مخلص ، وهذا الصنف يصل إلى الحق.

وصنف ثالث أعلى من الصنف الثاني ، فهذا الصنف ليس بعيدا حتى يقترب

٤٥٨

من الحق ، ولا منفصلا عنه حتى يتصل به ، لأنّه معه أبدا.

فالآية المتقدمة( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ) إشارة إلى الصنف الأوّل.

وجملة( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ) إشارة إلى الصنف الثّاني.

وجملة( إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) إشارة إلى الصنف الثّالث.

ويستفاد ـ ضمنا ـ من هذا التعبير أن مقام «المحسنين» أسمى من مقام «المجاهدين» ، لأنّ المحسنين إضافة إلى جهادهم في سبيل الله لنجاة أنفسهم ، فهم مؤثرون غيرهم على أنفسهم ، ويحسنون إلى الآخرين ، ويسعون لإعانتهم.

ربّنا وفقنا توفيقا ترحمنا به ، فلا نكفّ أيدينا عن الجد والاجتهاد.

إلهنا ارزقنا الإخلاص حتى لا نفكر في سواك ، ولا نخطوا لغيرك.

إلهنا ارفع درجاتنا حتى نعلو على مقام المجاهدين وننال درجة المحسنين ، وارزقنا هدايتك في جميع أعمارنا.

آمين يا ربّ العالمين

انتهاء بسورة العنكبوت

* * *

٤٥٩
٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592