الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174919 / تحميل: 6001
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الآيات

( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) )

التّفسير

يجب الحزم في ساحة الحرب :

كما قلنا سائقا ، فإنّ الآيات السابقة كانت مقدمة لتهيئة المسلمين من أجل إصدار أمر حربي مهم ذكر في الآيات مورد البحث ، فتقول الآية :( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) (١) .

__________________

(١) «ضرب» مصدر مفعول مطلق لفعل مقدر ، والتقدير : اضربوا ضرب الرقاب ، كما صرّحت الآية (١٢) من سورة الأنفال بذلك إذ قالت :( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ) .

٣٢١

من البديهي أن «ضرب الرقاب» كناية عن القتل ، وعلى هذا فلا ضرورة لأن يبذل المقاتلون قصارى جهدهم لأداء هذا الأمر بالخصوص ، فإنّ الهدف هو دحر العدو والقضاء عليه ، ولما كان ضرب الرقاب أوضح مصداق له ، فقد أكّدت الآية عليه.

وعلى أية حال ، فإنّ هذا الحكم مرتبط بساحة القتال ، لأنّ «لقيتم» ـ من مادة اللقاء ـ تعني الحرب والقتال في مثل هذه الموارد ، وفي نفس هذه الآية قرائن عديدة تشهد لهذا المعنى كمسألة أسر الأسرى ، ولفظة الحرب ، والشهادة في سبيل الله ، والتي وردت في ذيل الآية.

وخلاصة القول : إنّ اللقاء يستعمل ـ أحيانا ـ بمعنى اللقاء بأي شكل كان ، وأحيانا بمعنى المواجهة والمجابهة في ميدان الحرب ، واستعمل في القرآن المجيد بكلا المعنيين ، والآية مورد البحث ناظرة إلى المعنى الثّاني.

ومن هنا يتّضح أنّ أولئك الذين حوّروا هذه الآية وفسّروها بأنّ الإسلام يقول : حيثما وجدتم كافرا فاقتلوه ، لم يريدوا إلّا الإساءة إلى الإسلام ، واتخاذ الآية بمعناها المحرّف حربة ضد الدين الحنيف ، محاولة منهم لتشويه صورة الإسلام الناصعة ، وإلّا فإنّ الآية صريحة في اللقاء في ساحة الحرب وميدان القتال.

من البديهي أنّ الإنسان إذا واجه عدوا شرسا في ميدان القتال ، ولم يقابله بحزم ولم يكل له الضربات القاصمة ولم يذقه حرّ سيفه ليهلكه ، فإنّه هو الذي سيهلك ، وهذا القانون منطقي تماما.

ثمّ تضيف الآية :( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) .

«أثخنتموهم» من مادة ثخن ، بمعنى الغلظة والصلابة ، ولهذا تطلق على النصر والغلبة الواضحة ، والسيطرة الكاملة على العدو.

وبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين فسّروا هذه الجملة بكثرة القتل في العدو وشدّته ، إلّا أنّ هذا المعنى لا يوجد في أصلها اللغوي ، كما قلنا ، ولكن لمّا كان دفع

٣٢٢

خطر العدو غير ممكن أحيانا إلّا بكثرة القتل فيه ، فيمكن أن تكون مسألة القتل أحد مصاديق هذه الجملة في مثل هذه الظروف ، لا أنّها معناها الأصلي(١) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية المذكورة تبيّن تعليما عسكريا دقيقا ، وهو أنّه يجب أن لا يقدم على أسر الأسرى قبل تحطيم صفوف العدو والقضاء على آخر حصن لمقاومته ، لأنّ الإقدام على الأسر قد يكون سببا في تزلزل وضع المسلمين في الحرب ، وسيعوق المسلمين الاهتمام بأمر الأسرى ونقلهم إلى خلف الجبهات عن أداء واجبهم الأساسي.

وعبارة( فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) وبملاحظة أنّ الوثاق هو الحبل ، أو كلّ ما يربط به ، يشير الى إتقان العمل في شدّ وثاق الأسرى ، لئلا يستغل الأسير فرصة يفر فيها ، ثمّ يوجّه ضربة إلى الإسلام والمسلمين.

وتبيّن الجملة التالية حكم أسرى الحرب الذي يجب أن يقام بحقّهم بعد انتهاء الحرب ، فتقول :( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) وعلى هذا لا يمكن قتل الأسير الحربي بعد انتهاء الحرب ، بل إنّ ولي أمر المسلمين ـ طبقا للمصلحة التي يراها ـ يطلق سراحهم مقابل عوض أحيانا ، وبلا عوض أحيانا أخرى ، وهذا العوض ـ في الحقيقة ـ نوع من الغرامة الحربية التي يجب أن يدفعها العدو.

طبعا يوجد حكم ثالث في الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع ، وهو استعباد الأسرى ، إلّا أنّه ليس أمرا واجبا ، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين ينفّذه عند ما يراه ضرورة في ظروف خاصة ، ولعلّه لم يرد في القرآن بصراحة لهذا السبب ، بل بيّنته الرّوايات الإسلامية فقط.

يقول فقيهنا المعروف «الفاضل المقداد» في «كنز العرفان» : إنّ ما روي عن مذهب أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الأسير لو أسر بعد انتهاء الحرب فإنّ إمام المسلمين مخيّر بين ثلاث : إمّا إطلاقه دون شرط ، أو تحريره مقابل أخذ الفدية ، أو جعله

__________________

(١) ينقل صاحب لسان العرب عن ابن الأعرابي أنّ : أثخن : إذا غلب وقهر.

٣٢٣

عبدا ، ولا يجوز قتله بأي وجه.

ويقول في موضع آخر من كلامه : إنّ مسألة الرق استفيدت من الروايات ، لا من متن الآية(١) .

وقد وردت هذه المسألة في سائر الكتب الفقهية أيضا(٢) .

وسنشير إلى هذا المطلب في بحث الرق الذي سيأتي في ذيل هذه الآيات.

ثمّ تضيف الآية بعد ذلك :( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) (٣) فلا تكفوا عن القتال حتى تحطّموا قوى العدو ويصبح عاجزا عن مواجهتكم ، وعندها سيخمد لهيب الحرب.

«الأوزار» جمع وزر ، وهو الحمل الثقيل ، ويطلق أحيانا على المعاصي ، لأنّها تثقل كاهل صاحبها.

والطريف أنّ هذه الأوزار نسبت إلى الحرب في الآية ، إذ تقول :( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) وهذه الأحمال الثقيلة كناية عن أنواع الأسلحة والمشاكل الملقاة على عاتق المقاتلين ، والتي يواجهونها ، وهي بعهدتهم ما كانت الحرب قائمة.

لكن متى تنتهي الحرب بين الإسلام والكفر؟

سؤال أجاب عنه المفسّرون إجابات مختلفة :

فالبعض ـ كابن عباس ـ قال : حتى لا تبقى وثنية على وجه البسيطة ، وحتى يقتلع دين الشرك وتجتث جذوره.

وقال البعض الآخر : إنّ الحرب بين الإسلام والكفر قائمة حتى ينتصر المسلمون على الدجال ، وهذا القول يستند إلى حديث روي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمّتي

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلد ١ ، صفحة ٣٦٥.

(٢) الشرائع ، كتاب الجهاد. شرح اللمعة ، أحكام الغنيمة.

(٣) «حتى» غاية لـ (فضرب الرقاب). واحتملت احتمالات أخرى لا تستحق الاهتمام.

٣٢٤

الدجال»(١) .

البحث حول «الدجّال» بحث واسع ، لكن القدر المعلوم أنّ الدجّال رجل خدّاع ، أو رجال خدّاعون ينشطون في آخر الزمان من أجل إضلال الناس عن أصل التوحيد والحق والعدالة ، وسيقضي عليهم المهدي (عج) بقدرته العظيمة ، وعلى هذا فإنّ الحرب قائمة بين الحق والباطل ما عاش الدجّالون على وجه الأرض.

إنّ للإسلام نوعين من المحاربة مع الكفر : أحدهما الحروب المرحلية كالغزوات التي غزاها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كانت السيوف تغمد بعد انتهاء كل غزوة. والآخر هو الحرب المستمرة ضد الشرك والكفر ، والظلم والفساد ، وهذا النوع مستمر حتى زمن اتساع حكومة العدل العالمية ، وظهورها على الأرض جميعا على يد المهدي (عج).

ثمّ تضيف الآية :( ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) (٢) بالصواعق السماوية ، والزلازل ، والعواصف ، والابتلاءات الأخرى ، لكن باب الاختبار وميدانه سيغلق في هذه الصورة :( وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) .

هذه المسألة هي فلسفة الحرب ، والنكتة الأساسية في صراع الحق والباطل ، ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين والعاملين من أجل دينهم عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة ، وبذلك ستتفتح براعم الاستعدادات ، وتحيا قوّة الاستقامة والرجولة ، ويتحقق الهدف الأصلي للحياة الدنيا ، وهو الابتلاء وتنمية قوّة الإيمان والقيم الإنسانية الأخرى.

إذا كان المؤمنون يتوقعون على ذواتهم وينشغلون بالحياة اليومية الرتيبة ، وفي كل مرة تطغى فيها جماعة من المشركين والظالمين يدحضهم الله سبحانه بالقوى الغيبية ، ويدمّرهم بالطرق الإعجازية ، فإنّ المجتمع سيكون خاملا ضعيفا

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٨.

(٢) «ذلك» خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : الأمر كذلك.

٣٢٥

عاجزا ، ليس له من الإسلام والإيمان إلّا اسمه.

وخلاصة القول : إنّ الله سبحانه غني عن سعينا وجهادنا من أجل تثبيت دعائم دينه ، بل نحن الذين نتربّى في ميدان جهاد الأعداء ، ونحن الذين نحتاج إلى هذا الجهاد المقدّس.

وقد ذكر هذا المعنى في آيات القرآن الأخرى بصيغ أخرى ، فنقرأ في الآية (١٤٢) من سورة آل عمران :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

وجاء في الآية التي سبقتها :( وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) .

وتحدّثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدّموا أرواحهم هدية لدينهم في هذه الحروب ، ولهم فضل كبير على المجتمع الإسلامي ، فقالت :( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) .

فلن تذهب جهودهم وآلامهم وتضحياتهم سدى ، بل كلها محفوظة عند الله سبحانه ، فستبقى آثار تضحياتهم في هذه الدنيا ، وكلّ نداء (لا إله إلّا الله) يطرق سمع البشر يمثل ثمرة جهود أولئك الشهداء ، وكلّ سجدة يسجدها مسلم بين يدي الله هي من بركات تضحياتهم ، فبمساعيهم تحطّمت قيود المذلّة والعبودية ، وعزّة المسلمين ورفعتهم رهينة ما بذلوه من الأرواح والتضحيات.

هذه هي أحدى مواهب الله في شأن الشهداء.

وهناك ثلاث مواهب أخرى أضيفت في الآيات التالية :

تقول الآية أوّلا :( سَيَهْدِيهِمْ ) إلى المقامات السامية ، والفوز العظيم ، ورضوان الله تعالى.

والأخرى :( يُصْلِحُ بالَهُمْ ) فيهبهم هدوء الروح ، واطمئنان الخاطر ، والنشاط المعنوي والروحي ، والانسجام مع صفاء ملائكة الله ومعنوياتهم ، حيث يجعلهم جلساءهم وندماءهم في مجالس أنسهم ولذّتهم ، ويدعوهم إلى ضيافته في جوار

٣٢٦

رحمته.

والموهبة الأخيرة هي :( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّه تعالى لم يبيّن لهم الصفات الكلية للجنّات العلى وروضة الرضوان وحسب ، بل عرف لهم صفات قصورهم في الجنّة وعلاماتها ، بحيث أنّهم عند ما يردون الجنّة يتوجّهون إلى قصورهم مباشرة(١) .

وفسر البعض (عرّفها) بأنّها من مادة «عرف» ـ على زنة فكر ـ وهو العطر الطيب الرائحة ، أي إنّ الله سبحانه سيدخلهم الجنّة التي عطّرها جميعا استقبالا لضيوفه.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.

وقال البعض : إذا ضممنا هذه الآيات إلى آية :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ) (٢) ، سيتّضح أنّ المراد من إصلاح البال إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء(٣) .

* * *

بحوث

١ ـ مقام الشهداء السامي

تمرّ في تأريخ الشعوب أيام تحدق الأخطار فيها بتلك الأمم والشعوب ، ولا يمكن دفع هذه الأخطار والحفاظ على الأهداف المقدّسة العظيمة إلّا بالتضحية والفداء وتقديم القرابين الكثيرة ، وهنا يجب أن يتوجّه المؤمنون المضحّون إلى ساحات القتال ، ليحفظوا دين الحق بسفك دمائهم ، ويسمى هؤلاء الأفراد في

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٨.

(٢) آل عمران ، الآية ١٦٩.

(٣) الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٤٤.

٣٢٧

منطق الإسلام بـ «الشهداء».

إنّ إطلاق كلمة الشهيد ـ من مادة الشهود ـ على هؤلاء ، إمّا لحضورهم في ميدان الجهاد ضد أعداء الحق ، أو لأنّهم يشاهدون ملائكة الرحمة لحظة شهادتهم ، أو لمشاهدتهم النعم العظيمة التي أعدّت لهم ، أو لحضورهم عند الله ، كما جاء في الآية الشريفة :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

وقلّ من يصل إلى درجة الشهيد في الإسلام أولئك الشهداء الذين يذهبون ساحة الحرب بين الحق والباطل عن وعي وخلوص نيّة ، ويقدّمون آخر قطرة من دمائهم الزكية في هذا السبيل.

وتلاحظ في المصادر الإسلامية روايات عجيبة حول مقام الشهداء ، تحكي عظمة عمل الشهداء ، وقيمته الفذّة.

فتقرأ في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ فوق كلّ بر برا حتى يقتل الرجل شهيدا في سبيل الله»(٢) .

وجاء في حديث آخر روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المجاهدون في الله قوّاد أهل الجنّة»(٣) .

ونطالع في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرة دم في سبيل الله ، أو قطرة من دموع عين في سواد الليل من خشية الله ، وما من قدم أحبّ إلى الله من خطوة إلى ذي رحم ، أو خطوة يتمّ بها زحفا في سبيل الله»(٤) .

وإذا قلبنا أوراق تأريخ الإسلام ، فسنرى الشهداء قد سجّلوا القسم الأعظم من الافتخارات ، وهم الذين قدّموا القسط الأوفر من الخدمة.

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٦٩.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ١٠٠ ، صفحة ١٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ١٠٠ ، صفحة ١٤.

٣٢٨

وليس هذا في الأمس فقط ، فإنّ ثقافة الشهادة المصيرية اليوم ترعب العدو أيضا ، وتمزّق صفوفه ، وتمنعه من النفوذ إلى حصون الإسلام ، وتزرع اليأس في نفسه من إمكان تخطّيها ، فما أكثر بركة ثقافة الشهادة للمسلمين ، وما أشدّها على أعداء الدين.

لكن ، لا شكّ أنّ الشهادة ليست هدفا ، بل الهدف هو الإنتصار على العدو ، وحراسة دين الله والحفاظ عليه ، إلّا أنّ هؤلاء الحراس على دينهم يجب أن يكونوا على أهبّة الاستعداد ، بحيث إذا احتاج الحال بذل النفوس والدماء فإنّهم لا يتأخّرون عن بذلها ، بل يبادرون إلى البذل والتضحية والإيثار ، وهذا هو معنى كون الأمّة منجبة للشهداء ، لا أنّهم يطلبون الشهادة كهدف نهائي.

لهذا نقرأ في نهاية حديث مفصل روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن مقام الشهداء أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقسم وقال : «والذي نفسي بيده ، لو كان الأنبياء في طريقهم لترجلوا لهم لمّا يرون من بهائهم ، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفا من أهل بيته وجيرته»(١) .

وهناك نكتة تستحق الاهتمام ، وهي أنّ للشهادة في ثقافة الإسلام معنيين مختلفين : معنى «خاص» ، وآخر «عام» واسع.

أمّا الخاص فهو القتل في سبيل الله في معركة الجهاد ، وله أحكامه الخاصة في الفقه الإسلامي ، ومن جملتها أنّ الشهيد لا يغسل ولا يكفن ، بل يدفن بثيابه ودمائه إذا توفي في ميدان المعركة!!

أمّا المعنى العام الواسع للشهادة ، فهو أن يقتل الإنسان في طريق تأدية الواجب الإلهي ، فإنّ كلّ من يرحل عن الدنيا وهو في حالة أداء هذا الواجب يعد شهيدا ، ولذلك ورد في الروايات الإسلامية أنّ عدة فئات يغادرون الدنيا وهم شهداء :

١ ـ روي عن نبي الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا جاء الموت طالب العلم وهو على

٣٢٩

هذا الحال مات شهيدا»(١) .

٢ ـ يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «من مات على فراشه وهو على معرفة حق ربّه ، وحق رسوله وأهل بيته ، مات شهيدا»(٢) .

٣ ـ نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قتل دون ماله فهو شهيد»(٣) .

وكذلك آخرون يقتلون في طريق الحق ، أو يموتون فيه ، ومن هنا تتّضح عظمة ثقافة الإسلام هذه ، ومدى سعتها.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّل من يدخل الجنّة الشهيد»(٤) .

٢ ـ أهداف القتال في الإسلام

إنّ القتال لا يعتبر في الإسلام قيمة من القيم ، بل يعتبر ضد القيم من جهة كونه باعثا على الخراب والتدمير ، وإزهاق الأنفس ، وإهدار القوى والإمكانيات التي يمكن أن تسخّر لخدمة الإنسان وسعادته ورفاهه ، ولذلك جعل في بعض الآيات القرآنية في مصاف العقوبات الإلهية ، فنرى الآية (٦٥) من سورة الأنعام تقول :( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) .

فقد اعتبر القتال هنا بمثابة الصاعقة والزلزلة والابتلاءات الأرضية والسماوية ، ولذلك فإنّ الإسلام يمتنع عن القتال والحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

أمّا إذا تعرّض وجود الأمّة للخطر ، أو أنّ أهدافه المقدّسة السامية أصبحت

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الأول ، مادة شهد.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٠ ، آخر الخطبة.

(٣) سفينة البحار ، المجلد الأول ، مادة شهد.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٢٧٢.

٣٣٠

مهددة بالسقوط ، فإنّ القتال هنا يعتبر قيمة سامية ، ويكتسب عنوان الجهاد في سبيل الله ، ولذلك توجد في الإسلام أنواع من الجهاد : الجهاد الابتدائي ، المحرر للأمم ، والجهاد الدفاعي ، والجهاد من أجل إخماد نار الفتنة والشرك والوثنية ، وقد أوردنا تفصيلها في موضع آخر(١) .

بناء على هذا فإنّ الجهاد الإسلامي على خلاف ما يدّعيه أعداء الإسلام من أنّه يعني فرض العقيدة على الآخرين ، بل إنّ العقيدة المفروضة لا قيمة لها في الإسلام ، لكن الجهاد يتعلق بالموارد التي يشن فيها العدو الحرب ضد الأمّة الإسلامية ، أو عند ما يسلبها الحريات التي منحها الله إيّاها ، أو أنّه يريد أن يهدر حقوقها ويصادرها ، أو أنّ ظالما قد أخذ بأنفاس مظلوم فيجب على المسلمين حينئذ أن يهبوا لنصرة المظلوم ، حتى وإن أدّى الأمر إلى قتال القوم الظالمين.

وقد عكست الآيات السابقة هذا المعنى في عبارة لطيفة وجيزة ، حينما تقول :( ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) وعلى هذا فإنّ الحرب هي حرب بين الحق والباطل ، لا أنّها وسيلة لتكوين الدولة ، ومحاولة توسيع رقعتها ، والإغارة على أموال الآخرين ، والتسلّط وإعمال القوة والإرهاب.

ولهذا السبب ـ أيضا ـ قرأنا في الرواية التي أوردناها في تفسير هذه الآيات أنّ نار الحرب لن تخمد في المجتمع الإنساني إلّا بعد القضاء على الدجّالين ، وتطهير الأرض من دنسهم.

وهنا نكتة تستحق الانتباه ، وهي أنّ الإسلام قد أكّد على مسألة التعايش السلمي مع أتباع الأديان السماوية الأخرى ، وقد وردت في الآيات والرّوايات والفقه الإسلامي بحوث مفصلة في هذا الباب تحت عنوان (أحكام أهل الذمّة) فإذا كان الإسلام يؤيّد فرض العقيدة والإكراه عليها ، ويتوسّل بالقوة والسيف من أجل

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، ذيل الآية ١٩٣ من سورة البقرة.

٣٣١

تحقيق أهدافه ، فأي معنى إذن لقانون أهل الذمّة والتعايش السلمي؟

٣ ـ أحكام أسرى الحرب

قلنا : يجب على المسلمين أن لا يفكروا في أسر أفراد العدو إلّا بعد هزيمة العدو الكاملة واندحاره التام ، لأنّ هذا التفكير والانشغال بالأسرى قد يتضمّن أخطارا جسيمة.

غير أنّ أسلوب الآيات ـ مورد البحث ـ يدل على وجوب الإقدام على أسر أفراد العدو بعد هزيمته ، فالآية تقول :( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) ثمّ تضيف :( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) وعلى هذا يجب أسرهم بدل قتلهم بعد الإنتصار عليهم ، وهو أمر لا بدّ منه ، لأنّ العدو إذا ترك وشأنه فمن الممكن أن ينظم قواه مرّة أخرى ليهجم على المسلمين من جديد.

إلّا أنّ الحال يختلف بعد الأسر ، إذ يكون الأسير أمانة إلهية بيد المسلمين رغم كلّ الجرائم التي ارتكبها ، ويجب أن تراعى فيه حقوق كثيرة.

إنّ القرآن يمجد أولئك الذين آثروا الأسير على أنفسهم ، وقدّموا له طعامهم ، فيقول :( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) وهذه الآية ـ طبقا لرواية معروفة ـ نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، إذ كانوا صائمين وأعطوا إفطارهم لمسكين مرّة وليتيم أخرى ، لأسير ثالثة.

وحتى الأسرى الذين يقتلون بعد الحرب استثناء ، إمّا لكونهم خطرين ، أو لارتكابهم جرائم خاصّة ، فإنّ الإسلام أمر أن يحسن إليهم قبل تنفيذ الحكم بحقّهم ، كما نرى ذلك في حديث عن عليعليه‌السلام : «إطعام الأسير والإحسان إليه حق واجب ، وإنّ قتلته من الغد»(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد ١١ ، صفحة ٦٩.

٣٣٢

والأحاديث في هذا الباب كثيرة(١) ، حتى أنّه ورد في حديث عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال : «إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي وليس معك محمل فأرسله ولا تقتله ، فإنّك لا تدري ما حكم الإمام فيه»(٢) .

بل ورد في التأريخ في أحوال أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم كانوا يطعمون الأسرى من نفس الطعام الذي كانوا يتناولونه.

إلّا أنّ حكم الأسير ـ وكما قلنا في تفسير الآيات ـ بعد انتهاء الحرب أحد ثلاثة : إمّا إطلاق سراحه من دون قيد أو شرط ، أو إطلاق سراحه مقابل دفع غرامة مالية هي الفدية ، أو استرقاقه ، واختيار أحد هذه الأمور الثلاثة منوط بنظر إمام المسلمين ، فهو الذي يختار ما يراه الأصلح بعد الأخذ بنظر الإعتبار ظروف الأسرى ، ومصالح الإسلام والمسلمين من الناحية الداخلية والخارجية ، وبعد ذلك يأمر بتنفيذ ما اختاره.

بناء على هذا ، فليس لأخذ الفدية أو الاسترقاق صفة الإلزام والوجوب ، بل هما تابعان للمصالح التي يراها إمام المسلمين ، فإذا لم تكن مصلحة فيهما فله أن يغض النظر عنهما ، ويطلق سراح الأسرى دون طلب الفدية.

وقد بحثنا حول فلسفة أخذ الفدية بصورة مفصلة لدى تفسير الآية ٧٠ من سورة الأنفال.

٤ ـ الرق في الإسلام

بالرغم من أنّ مسألة «استرقاق أسرى الحرب» لم ترد في القرآن المجيد كحكم حتمي ، لكن لا يمكن إنكار ورود أحكام في القرآن فيما يتعلق بالعبيد ، وهي تثبت وجود أصل الرقية حتى في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدر الإسلام ، كالأحكام المتعلقة

__________________

(١) يراجع فروع الكافي ، المجلد ٥ ، صفحة ٣٥ ، باب الرفق بالأسير وإطعامه.

(٢) المصدر السابق.

٣٣٣

بالزواج من العبيد ، أو كونهم محرما ، أو مسألة المكاتبة (وهي اتفاق يتحرر بموجبه العبد بعد أدائه مبلغا من المال يتفق عليه) وقد وردت هذه الأحكام في آيات عديدة من القرآن في سورة النساء ، النحل ، المؤمنون ، النور ، الروم ، والأحزاب.

وهنا يعترض البعض على الإسلام بأنّه : لماذا لم يلغ هذا الدين الإلهي مسألة الرق تماما مع ما يحتويه من القيم الإنسانية السامية ، ولم يعلن تحرير كلّ العبيد من خلال إصدار حكم قطعي؟!

صحيح أنّ الإسلام أوصى كثيرا بالرقيق ، إلّا أنّ المهم هو تحريرهم بدون قيد شرط ، فلما ذا يكون الإنسان مملوكا لإنسان آخر مثله ، ويفقد الحرية التي هي أعظم عطايا الله سبحانه؟!

الجواب :

يجب القول في جملة موجزة : إنّ للإسلام برنامجا دقيقا مدروسا لتحرير العبيد ، تؤدي نهايته إلى تحرير جميع العبيد تدريجيا ، دون أن يكون لهذه الحرية ردّ فعل سلبي في المجتمع.

وقبل أن نتناول توضيح هذه الخطة الإسلامية الدقيقة ، نرى لزاما ذكر عدة نقاط كمقدمة :

١ ـ الإسلام لم يكن المبتدع للرق مطلقا ، بل إنّه لمّا ظهر كانت مسألة العبودية والرقيق قد عمّت أرجاء العالم ، وكانت معجونة بظلام المجتمعات البشرية وبوجودها ، بل استمرت مسألة الرقيق في كلّ المجتمعات حتى بعد الإسلام أيضا ، وبقيت مستمرة حتى قبل مائة عام حيث بدأت ثورة تحرير الرقيق ، حيث لم تعد مسألة الرقيق مقبولة بشكلها القديم نتيجة اختلاف نظام حياة البشر ، وتغيره عمّا كان عليه.

إنّ إلغاء العبودية بدأ من أوربا ، ثمّ اتسع في سائر الدول ومن جملتها أمريكا

٣٣٤

وآسيا.

لقد استمر الرق في إنجلترا حتى سنة ١٨٤٠ ، وفي فرنسا حتى سنة ١٨٤٨ ، وفي هولندا إلى سنة ١٨٦٣ ، وفي أمريكا إلى سنة ١٨٦٥ ، ثمّ عقد مؤتمر بروكسل فأصدر قرارا بإلغاء الرق في أنحاء العالم ، وكان ذلك سنة ١٨٩٠ ، أي قبل أقل من مائة عام.

٢ ـ تغيير شكل الرق في دنيا اليوم : صحيح أنّ الغربيين كانوا قد سبقوا إلى إلغاء الرق ، إلّا أنّنا عند ما نحقق في المسألة بدقة ، نرى أنّ الرق لم تقتلع جذوره ، بل إنّه تحور من حالة إلى أخرى أخطر وأكثر رعبا ، أي إنّه اتخذ شكل استعمار الشعوب ، واسترقاق المستعمرات ، بحيث كلما ضعف الرق الفردي قوي الاسترقاق الجماعي والاستعمار ، فإنّ الإمبراطورية البريطانية التي كانت سبّاقة إلى إلغاء الرق ، تعتبر السبّاقة أيضا في استعمار الشعوب.

إنّ الجرائم التي ارتكبها المستعمرون الغربيون طوال مدة استعمارهم لم تكن أقل من جرائم مرحلة العبودية ، بل كانت أوسع وأشدّ إجراما.

وحتى بعد تحرر المستعمرات ، فإنّ استعباد الأمم قد استمر ، لأنّ هذه الحرية كانت حرية سياسية ، أمّا الاستعمار الاقتصادي والثقافي فلا يزال حاكما في كثير من المستعمرات التي نالت حريتها ، وغيرها.

وأمّا الدول الشيوعية التي نادت قبل الجميع بإلغاء العبودية ، واتخذتها ذريعة في ثورتها ، فإنّها بالذات مبتلاة بنوع من الاسترقاق العام الذي يندى له الجبين ، فإنّ الشعوب التي تعيش في ظل هذه الدول تكون كالعبيد تماما لا يملكون من أمرهم شيئا ، ويعيّن أعضاء الحزب الشيوعي كلّ مقدراتهم وما يتعلق بشؤون حياتهم ، وإذا ما أبدى أحد وجهة نظر مخالفة فإمّا أن يرسل إلى المخيّمات الإجبارية ، أو يلقى في دهاليز السجون ، وإذا كان من العلماء فإنّه يبعث إلى دار المجانين باعتباره مختل العقل ومصابا بمرض نفسي وعصبي.

٣٣٥

والخلاصة : إنّ الرق لا يتبع الاسم ، فإنّ القبيح والمرفوض هو محتوى الرق ، ونحن نعلم أنّ مفهوم الرق قائم في الدول الاستعمارية والدول الشيوعية بأسوأ أشكاله.

والنتيجة : إنّ إلغاء الرق في العالم كان صوريا ، ولم يكن في الحقيقة إلّا تبديل للصورة والشكل الظاهري.

٣ ـ مصير الرقيق المؤلم في الماضي

لقد كان للرقيق على مرّ التاريخ مصير مؤلم جدّا ، ولنأخذ على سبيل المثال عبيد الرومان ـ باعتبارهم قوما متمدنين ـ كنموذج ، فإنّهم ـ على حدّ قول كاتب «روح القوانين» ـ كانوا تعساء بحيث لم يكونوا عبيدا لفرد ، وإنّما كانوا يعتبرون عبيدا لكل المجتمع ، وكان باستطاعة كلّ شخص أن يعذّب عبده ويؤذيه كما يحلو له دون خوف من القانون. لقد كانت حياة أولئك أسوأ من حياة الحيوانات في الواقع.

لقد كان الكثير من الرقيق يموتون في الفترة بين اصطيادهم من المستعمرات الأفريقية وحتى عرضهم في الأسواق للبيع ، وما تبقى منهم كان يتخذ وسيلة للاستغلال في العمل. وكان تجار العبيد الطامعون لا يعطونهم من الغذاء إلّا ما يبقيهم أحيآء وقادرين على العمل ، أمّا عند كبرهم وعجزهم وابتلائهم بأمراض يصعب علاجها ، فإنّهم كانوا يتركونهم وشأنهم ليسلموا الروح بشكل أليم. ولذلك كان اسم الرق يقترن بسيل من الجرائم المرعبة على مرّ التاريخ.

وباتضاح هذه النكات نعود إلى خطة الإسلام في تحريره العبيد تدريجيا ، ونتناولها بصورة مختصرة.

٤ ـ خطة الإسلام لتحرير العبيد

إنّ ما يغفل عنه غالبا هو أنّ ظاهرة سلبية إذا توغّلت في مفاصل المجتمع ،

٣٣٦

فهناك حاجة إلى فترة زمنية لاقتلاع جذورها ، ولكلّ حركة غير مدروسة ردّ فعل سلبي ، تماما كما إذا ابتلي إنسان بمرض خطير ، وقد استفحل هذا المرض في بدنه ، أو من اعتاد على تناول المخدرات لعشرات السنين حتى تطبع على هذه الطبيعة المستهجنة ، ففي هذه الموارد يجب الاعتماد على برامج زمنية لعلاجه قد تطول وقد تقصر.

ونقول بأسلوب أكثر صراحة : لو أنّ الإسلام كان قد أصدر أمرا عاما بتحرير كل العبيد ، فربّما كان الضرر أكثر ، وقد يهلك منهم عدد أكثر ، لأنّ الرقيق كانوا يشكلون نصف المجتمع أحيانا ، وليس لهم عمل مستقل يتكسبون به ، ولا دار أو ملجأ ، أو وسيلة ما لإدامة الحياة.

إنّ هؤلاء لو تحرّروا في ساعة معينة من يوم معين فستظهر على الساحة فجأة جماعة عظيمة عاطلة عن العمل ، وعندها ستكون حياتهم مهددة وربّما أدّى إلى إرباك نظام المجتمع ، وعند ما يلح عليه الحرمان فسيجد نفسه مضطرا إلى الهجوم على ممتلكات الآخرين ، فتنشب الصراعات والاشتباكات ونزف الدماء.

هنا ندرك الغاية من التحرير التدريجي ، وذلك ليستوعبهم المجتمع ولا يشمئز منهم ، وحينئذ سوف لا تتعرض أرواحهم للخطر ، كما لا يتهدد أمن المجتمع ، وقد اتبع الإسلام هذا البرنامج الدقيق تماما.

إنّ تطبيق وترجمة هذا البرنامج الإنساني على أرض الواقع العملي له قواعد كثيرة نذكر هنا رؤوس نقاطها بصورة موجزة وكفهرس ، أمّا تفصيلها فيحتاج إلى كتاب مستقل :

المادة الأولى : غلق مصادر الرق

لقد كان للرق على طول التاريخ أسباب كثيرة ، فلم يقتصر الاستبعاد على أسرى الحرب ، والمدينين الذين يعجزون عن أداء ديونهم ، حيث كانت القوّة

٣٣٧

والغلبة تبيح الاسترقاق والاستعباد ، بل إنّ الدولة القوية كانت ترسل فرق من جيوشها وهم مدجّجون بأنواع الأسلحة إلى الدول الأفريقية المتخلفة وأمثالها ، ليأسروا شعوب تلك الدول جماعات جماعات ، ثمّ يرسلونهم بواسطة السفن إلى أسواق بلدان آسيا وأوربا.

لقد منع الإسلام كلّ هذه المسائل ، ووقف حائلا دونها ، ولم يبح الاسترقاق إلّا في مورد واحد ، وهو أسرى الحرب ، وحتى هذا لم يكن يتصف بالوجوب والإلزام ، بل إنّ الإسلام قد أجاز ـ وكما قلنا في تفسير الآيات المذكورة ـ إطلاق سراح الأسرى مقابل فدية يؤدّونها تبعا لمصلحة الإسلام والمسلمين.

ولم تكن في تلك الأيام سجون يسجن فيها أسرى الحرب حتى يتبيّن وضعهم وماذا يجب فعله معهم ، بل كان الطريق الوحيد هو تقسيمهم بين العوائل ، والاحتفاظ بهم كرقيق.

من البديهي أنّ هذه الظروف إذا تغيّرت فلا دليل على أنّ إمام المسلمين ملزم بأن يرضى برق الأسرى ، بل هو قادر على تحريرهم إمّا منّا أو فداء ، لأنّ الإسلام خيّر الإمام المسلمين في هذا الأمر ، كي يقدم على اختيار الأصلح من خلال مراعاة المصلحة ، وبهذا فإنّ مصادر الرق الجديدة قد أغلقت في الإسلام.

المادة الثانية : فتح نافذة الحرية

لقد وضع الإسلام برنامجا واسعا لتحرير العبيد ، بحيث أنّ المسلمين لو عملوا بموجبه فإنّ كلّ العبيد كانوا سيتحررون في مدة وجيزة وبصورة تدريجية ، وكان المجتمع سيستوعبهم ويؤمّن لهم ما يحتاجونه من اللوازم الحياتية ، من عمل ومسكن وغير ذلك.

وإليك رؤوس نقاط هذا البرنامج :

٣٣٨

أ ـ إنّ أحد الموارد الثمانية لصرف الزكاة في الإسلام شراء العبيد وعتقهم(١) ، وبهذا فقد خصصت ميزانية دائمية في بيت المال لتنفيذ هذا الأمر ، وهي مستمرة حتى إعتاق العبيد جميعا.

ب ـ ولتكميل هذا المطلب وضع الإسلام أحكاما يستطيع العبيد من خلالها أن يعقدوا اتفاقيات مع مالكيهم ، على أن يؤدّوا إليهم مبلغا من المال يتفق عليه مقابل الحصول على حريتهم. وقد جاء في الفقه الإسلامي فصل في هذا الباب تحت عنوان المكاتبة(٢) .

ج ـ إنّ عتق العبيد يعتبر أحد أهم العبادات والأعمال الصالحة في الإسلام ، وقد كان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام من السابقين في هذا المضمار ، حتى كتبوا في أحوال عليعليه‌السلام أنّه أعتق ألف مملوك من كد يده(٣) .

د ـ لقد كان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام يعتقون العبيد لأدنى عذر ليكونوا قدوة للآخرين ، حتى أنّ أحد غلمان الإمام الباقرعليه‌السلام عمل عملا صالحا ، فقال له الإمام : «اذهب فأنت حر ، فإنّي أكره أن أستخدم رجلا من أهل الجنّة»(٤) .

وجاء في أحوال الإمام السجاد علي بن الحسينعليه‌السلام ، أنّ جارية كانت تسكب عليه الماء ، فسقط الإبريق من يدها فشجّه ، فرفع رأسه إليها ، فقالت :( وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، قال : «قد كظمت غيظي» قالت :( وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، قال : «عفا الله عنك» ، قالت :( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) قال : «فاذهبي فأنت حرّة لوجه الله»(٥) .

ه ـ ورد في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ العبيد يتحرّرون تلقائيا بعد مرور سبع سنين ، ففي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من كان مؤمنا فقد عتق بعد سبع سنين ،

__________________

(١) التوبة ، الآية ٦٠.

(٢) كان لنا بحث مفصل حول المكاتبة وأحكامها الرائعة في ذيل الآية (٣٤) من سورة النور.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٤١ ، صفحة ٤٣.

(٤) الوسائل ، المجلد ١٦ ، صفحة ٣٢.

(٥) نور الثقلين ، المجلد ١ ، ص ٣٩٠.

٣٣٩

أعتقه صاحبه أم لم يعتقه ، ولا يحل خدمة من كان مؤمنا بعد سبع سنين»(١) .

وروي في هذا الباب حديث من النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «ما زال جبرئيل يوصيني بالمملوك حتى ظننت أنّه سيضرب له أجلا يعتق فيه»(٢) .

و ـ إذا كان العبد مشتركا بين اثنين ، وأعتق أحدهما نصيبه ، وجب عليه شراء نصيب شريكه وأعتقا العبد(٣) .

وإذا أعتق مالك العبد بعضه سرت الحرية إلى باقيه فيعتق جميعه(٤) .

ز ـ إذا ملك إنسان أباه ، أو أمّه ، أو أجداده ، أو أبناءه ، أو عمّه ، أو عمّته ، أو خاله ، أو خالته ، أو أخاه ، أو أخته ، أو ابن أخيه ، أو ابن أخته ، فإنّهم يعتقون فورا.

ح ـ إذا استولد المالك جاريته فلا يجوز بيعها ، وتعتق من سهم ولدها من الميراث. وقد كان هذا الأمر سببا في عتق الكثير من العبيد ، لأنّ الجواري كن بمنزلة زوجات مالكيهن ، وكان لهن أولاد منهم.

ط ـ لقد جعل عتق العبيد كفارة لكثير من الذنوب من الإسلام ، ككفارة القتل الخطأ ، وكفارة ترك الصوم عمدا ، وكفارة اليمين ، وغيرها.

ي ـ إذا عاقب المالك عبده ببعض العقوبات الشديدة ، فإنّ العبد ينعتق تلقائيا(٥) .

المادة الثالثة : إحياء شخصية الرقيق

عند ما كان العبيد يطوون مسيرهم نحو الحرية طبقا لبرنامج الإسلام الدقيق ، أقدم الإسلام على خطوات واسعة لإحياء حقوقهم وشخصيتهم الإنسانية ، حتى أنّه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد ١٦ ، صفحة ٣٦.

(٢) المصدر السابق ، صفحة ٣٧.

(٣) الشرائع ، كتاب العتق ، وسائل الشيعة ، المجلد ١٦ ، صفحة ٢١.

(٤) الشرائع ، كتاب العتق.

(٥) وسائل الشيعة ، المجلد ١٦ ، صفحة ٢٦.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

( خالِدِينَ فِيها ) .

ويضيف القرآن معقبا في ختام الآية( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وبموازنة بسيطة بين ما ذكر آنفا في شأن الكفّار والمذنبين في الآيات السابقة ، وما ورد في هذه الآية ، تتّضح عظمة ثواب المؤمنين.

فالكفّار غارقون في نار جهنّم من قرنهم إلى قدمهم ، ويقال لهم على سبيل التوبيخ( ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أمّا المؤمنون فهم مقيمون في نعيم الجنّة وتحيط بهم رحمة الله من كلّ جانب ، وبدلا من كلمات التوبيخ يكلمون بكلام طيب ملؤه المحبّة واللطف الإلهي الكريم ، أجل يقال لهم :( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وبديهي أنّ المراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة ، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم ، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة.

وفي حديث عن نبيّ الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله يصف الجنّة فيقول : «إنّ في الجنّة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها» فنهض بعض أصحابه فقال :

يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمن هذه الغرف؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «هي لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وصلى لله بالليل والناس نيام»(١) .

والآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المؤمنون العاملون فتقول :( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

إذ يبتعدون عن الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شيء عزيز عليهم ، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم ويصبرون ، وتتلقى أنفسهم العذاب والأذى من أعدائهم من أجل حفظ إيمانهم ، ويواجهون الصعاب في جهادهم الأكبر «جهادهم مع النفس» وجهادهم أعداءهم بشدّة ، ويتحملون أنواع المشاكل فيصبرون!

__________________

(١) تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث ، ج ٧ ، ص ٥٠٧٥.

٤٤١

أجل ، هذا الصبر وهذه الاستقامة هما رمز انتصارهم وعامل فخرهم الكبير ، وبدونه لا يتحقق عمل إيجابي في الحياة.

ثمّ بعد هذا كلّه ، فهم لا يعتمدون على أموالهم ولا على أصدقائهم ، بل يعتمدون على الله ويتوكلون على ذاته المقدسة ، وإذ ابتغى ألف عدو هلاكهم تمثلوا قائلين : «امتحانك رحمة فلا أكترث بالأعداء».

وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيدا رأينا أن الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية ، فالصبر هو عامل الاستقامة أمام العوائق والمشاكل ، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.

وفي الحقيقة ينبغي الاستمداد من هاتين الفضيلتين (الصبر والتوكل) للأعمال الصالحة ، إذ بدونهما لا يمكن أن تؤدى الأعمال الصالحة بالمقياس الواسع(١) .

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ جواب لأولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا ، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر ، فالرازق هو الله ، لا لكم فحسب بل( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ) .

قليل من الدواب والحيوانات والحشرات ـ وكذلك الإنسان ـ يأتي برزقه من الصحراء والشجر إلى وكره ومسكنه كالنحل ـ التي تنتج العسل ـ والنمل ، وغالبا ما تكون الحيوانات بمثابة «طائر اليوم» أي كل يوم عليها أن تمضي لرزقها وتبحث عنه من جديد. وهكذا فإنّ ملايين الملايين من الحيوانات التي من حولنا ، في النقاط القريبة والبعيدة ، وفي الصحاري وأعماق البحار وأعالي

__________________

(١) تحدثنا عن حقيقة التوكل وحكمته وفلسفته بإسهاب في ذيل الآية (١٢) سورة إبراهيم ، وعن حقيقة الصبر لدى تفسير الآية (١٢) من سورة إبراهيم والآية (٢٤) من سورة الرعد والآية (٢٦) من سورة الأعراف.

٤٤٢

الجبال والأماكن الأخرى ، فإنّها كلّها تقتات من مائدة الله السرمدية.

وأنت أيّها الإنسان أقوى من تلك الحيوانات وأذكى في جلب الرزق ، فلم كلّ هذا الخوف من انقطاع الرزق؟!

ولم الركون إلى حياة الذل والاستكانة والفجور؟!

ولم تظل سادرا تحت وطأة الظلم والقهر والهوان والذل؟! اخرج أنت أيضا من داخل هذه الدائرة المظلمة ، واجلس على مائدة خالقك الواسعة ولا تفكر بالرزق!.

فأنت يوم كنت جنينا محبوسا في بطن أمّك ، ولا تصل إليك أية يد حتى من أبيك وأمك الرؤوم ، لم ينسك الله الذي خلقك ، وهيأ ما كنت تحتاج إليه لك بكل دقّة ، فكيف وأنت اليوم كائن قوي ورشيد؟!

وحيث أن إيصال الرزق للمحتاجين هو فرع علمه تعالى بحاجاتهم ، فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلا :( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

يسمع كلامكم كلّه ، ويعرف لسان حالكم ، ولسان حال جميع الدواب ، وهو خبير بحاجات الجميع ، ولا يخفى على علمه الذي لا حد له شيء أبدا.

* * *

٤٤٣

الآيات

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) )

التّفسير

الإقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر :

كان الحديث في الآيات السابقة موجّها إلى المشركين الذين أدركوا حقانية الإسلام ، إلّا أنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة ، خوفا من انقطاع الرزق عليهم.

٤٤٤

أمّا في هذه الآيات ، فالحديث موجه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي الواقع لجميع المؤمنين ، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق «الخلقة» ، و «الربوبيّة» ، و «الفطرة» ، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة ، ويريهم أن مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد الله الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم ، لا بأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.

فتبدأ الآية الأولى من هذه الآيات محل البحث ـ مشيرة إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية فتقول :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) !

لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول : إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان.

وبتعبير آخر : لا يشك في «توحيد الخالق» حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق ، وكانوا يقولون : إنّما نعبد أوثانا ليقربونا إلى الله زلفى ، فهم الوسطاء بيننا وبين الله ، كما نقرأ في الآية (١٨) من سورة يونس( وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) فنحن غير جديرين أن نرتبط بالله مباشرة ، بل ينبغي أن نرتبط به عن طريق الأصنام( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) .(١)

وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أية فاصلة ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، زد على ذلك : إذا كان الإنسان ـ الذي هو بمثابة الدرّة اليتيمة في تاج الموجودات ـ لا يستطيع أن يرتبط بالله مباشرة ، فأي شيء يكون واسطة الإنسان إلى الله؟!

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل :( فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الأحجار والأخشاب؟!

__________________

(١) الزمر ، الآية ٣.

٤٤٥

كلمة «يؤفكون» مشتقّة من «إفك» على زنة «فكر» ومعناها إعادة الشيء من صورته الواقعية والحقيقية ، وبهذه المناسبة تطلق الكلمة على الكذب وعلى الرياح المخالفة «للاتجاه» أيضا.

والتعبير بـ «يؤفكون» بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم ، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة.

والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها الله تعالى ، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان ، ومنافعه.

ثمّ يضيف القرآن تأكيدا لهذا المعنى ، وهو أن الله خالق الخلق ورازقهم ، فيقول :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ) فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام.

وما ورد بيانه في الآيات السابقة من أنّ المؤمنين حقّا هم وحدهم يتوكلون عليه ، فلأجل هذا المعنى ، وهو أن شيء بيده وبأمره ، فعلام يخشون من إظهار الإيمان ، ويرون حياتهم في خطر من جهة الأعداء.

وإذا كانوا يتصورون أنّ الله قادر ، إلّا أنّه غير مطّلع على حالهم ، فهذا خطأ كبير لـ( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

ترى هل يمكن لخالق مدبر يصل فيضه لحظة بعد أخرى لموجوداته ، وفي الوقت ذاته يكون جاهلا بحالها؟.

وفي المرحلة الثّانية يقع الكلام عن «التوحيد الربوبي» ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم ، فيقول :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ ) .

فهذا هو ما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن ، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم! فهم يعرفون أن الخالق هو الله ، وأنّه ربّ العالم ومدبره.

ثمّ يضيف القرآن مخاطبا نبيّه( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) . فالحمد والثناء لمن أنعم

٤٤٦

جميع النعم ، إذ لمّا كان الماء الذي هو مصدر الحياة لجميع الحيوانات من رزق الله فيكون واضحا أن الأرزاق جميعها صادرة من قبله أيضا.

قل الحمد لله «واشكره» ، لأنّهم يعترفون بهذه الحقائق.

وقل الحمد لله ، فمنطقنا قوي متين حيّ إلى درجة لا يستطيع أي أحد إبطاله أو تفنيده. وحيث أنّ أقوال المشركين من جهة ، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة أخرى ، يناقض بعضها بعضا ، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

وإلّا فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته ، فتارة يرى أن الخالق والرازق والمدبّر للعالم هو الله ، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس!. فمن جهة يعتقدون بتوحيد الخالق والرب ، ومن جهة أخرى يظهرون الشرك في العبادة.

ومن الطريف أنّ الآية لا تقول : «أكثرهم لا عقل لهم» بل تقول :( لا يَعْقِلُونَ ) ومعناها أنّهم لديهم العقول ، إلّا أنّهم لا يستوعبون ولا يتعقلون!

ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل ، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياسا إلى الحياة الأخرى الخالدة ، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني ، فيقول :( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

كم هو تعبير بليغ وبديع! لأنّ «اللهو» معناه الانشغال أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية.

أمّا «اللعب» فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي ، والهدف الخيالي أيضا ، ففي اللعب يكون أحد اللاعبين ملكا ، والآخر وزيرا ، والثّالث قائدا للجيش ، والرابع ـ السارق أو «الحرامي» ، والخامس يمثل القافلة وهكذا ، وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كل شيء إلى مكانته ، وكأن المسألة لا تعدوا

٤٤٧

طيفا أو خيالا فلا أثر ولا خبر.

فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة ، مبينا أن الحياة الدنيا هي نوع من الانشغال واللعب يجتمع الناس فيها وينشدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم ، وبعد أيّام يتفرقون ويختفون تحت التراب ، ثمّ يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان.

أمّا الحياة الحقيقية التي لا فناء بعدها ، ولا ألم فيها ، ولا قلق ولا خوف ولا تضاد ولا تزاحم ، فهي الحياة الآخرة فحسب لو كان الإنسان يعرف ذلك ، وكان أهلا للتدقيق والتحقيق!

أمّا الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة ، وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها ، ويأنسون بها ، فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة.

وينبغي الالتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان» على زنة «خفقان» هو الحياة ، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدريا(١)

وهذا التعبير( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) إشارة إلى أن الحياة الحقيقية هي في الأخرى ، لا في هذه الدار الدنيا ـ فكأنّ الحياة في الأخرى تفور من جميع أبعادها ، ولا شيء هناك إلّا الحياة.

وبديهي أن القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا ، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأخرى قياسا صريحا وواضحا وإضافة إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيرا لهذه المواهب ، بل ينبغي أن يكون أميرا عليها ، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبدا.

وفي المرحلة الثّالثة يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية ، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان ، وضمن مثال بديع جدّا وبليغ فيقول :( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ

__________________

(١) أصل الكلمة مشتق من «حيي» ومصدرها «حييان» ثم أبدلت الياء الثانية واوا فصارت حيوان.

٤٤٨

إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) .

أجل ، إنّ الشدائد والأزمات هي التي تهيء الارضية لتفتح الاجتماعية «الفطرة» الإنسانية ، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعا ، إلّا أن الآداب والمسائل الخرافية والتربية الخاطئة والتلقينات السيئة تلقي عليه ظلالا وأستارا ، ولكن حين تحدق بالإنسان الشدائد وتحيط به دوّامات المشاكل ، ويرى يده قاصرة عن الأسباب الظاهرية ، يتجه بدون اختياره إلى عالم ما وراء الطبيعة ، ويخلص قلبه من كل نوع من أنواع الشرك والكفر ، وينصهر في تنور الحوادث ، ويكون مصداقا لقوله تعالى :( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) .

وملخص الكلام : إنّه توجد في داخل قلب الإنسان دائما نقطة نورانية ، وهي خطّ ارتباطه بما وراء عالم الطبيعة ، وأقرب طريق إلى الله.

إلّا أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور ـ وخاصة عند السلامة ووفور النعمة ـ تلقي عليها أستارا ، غير أن طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار ، وتتجلى نقطة النور آنذاك.

وعلى هذا ، فإنّ أئمّة المسلمين العظام كانوا يرشدون المترددين في مسألة «معرفة الله» ويغرقون في الشك والحيرة بهذا الأمر.

وقصّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة الله ، والذي أرشده الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريق الفطرة والوجدان ، سمعناها جميعا إذ قال : يا ابن رسول الله ، دلّني على الله ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني!

فقال له الإمامعليه‌السلام : «يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قطّ؟

قال : نعم.

قال : فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟!

قال : نعم! قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من

٤٤٩

ورطتك؟!

قال : نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث».(١)

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة الله ، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول : إن هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاما قلائل :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) عاقبة كفرهم وشركهم إلى أين ستبلغ بهم؟

وأي ابتلاء ومصير مشؤوم سيقعون فيه؟! وبالرغم من أنّ ظاهر الآية هنا هو الأمر بالكفر وإنكار آيات الله إلّا أن من البديهي أنّ المراد منه التهديد وهذا تماما ينطبق مثلا على ما لو قلنا لمذنب جان : افعل ما بدا لك من إجرام ، إلّا أنّك سرعان ما تذوق مرارة عملك؟

ففي مثل هذه العبارات ، وإن استعملت صيغة الأمر فيها ، إلّا أنّ الهدف من ورائها هو التهديد وليس الطلب.

والطريف أن جملة( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) جاءت بصورة مطلقة ، فهي لا تقول : أي شيء يعلمون بل تقول : سيعلمون عاجلا ، هذا هو معنى( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

إطلاق الكلام هذا ليكون مفهومه واسعا ولا يتحدد ذهن السامع بأي شيء فنتيجة الأعمال السيئة هي عذاب الله ، الافتضاح في الدارين ، وكل أنواع الشقاء وسوء العاقبة!.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٤١» الطبعة الجديدة.

٤٥٠

ملاحظة

الشدائد واشراق القطرة :

سنتحدث بإذن الله في ذيل الآية الثلاثين من سورة الروم حول «فطريّة» أصل التوحيد ومعرفة الله بشكل مفصّل ، وما يلزم ذكره هنا هو أنّ القرآن المجيد يتحدث في آيات كثيرة عن المشاكل والصعاب على أنّها باعثة على ظهور الفطرة الإنسانية وبروزها «فالمشاكل والصعاب وسيلة لاشراق الفطرة».

يقول القرآن في بعض آياته :( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) .(١)

ويأتي هذا المعنى في سورة يونس ، ولكن بأسلوب آخر ، إذ يقول القرآن( إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ) (٢) كما ورد هذا المعنى في سورة الروم الآية (٣٢) وسورة الزمر الآية (٤٩) وسورة الإسراء الآيات (٦٧) ـ (٦٩) بعبارات أخرى وإشارات مليئة بالمعاني.

وفي الآيات ـ محل البحث ـ قرأنا أيضا أن المشركين في الحالات العادية يتجهون إلى الأصنام ، ولكن إذا سافروا في البحر وأحاطت بهم الأمواج والطوفان ، وأضحت سفينتهم كالقشة في وسط الأمواج المتلاطمة تتقاذفها هنا وهنا ، وانقطعت بهم السبل تتنور قلوبهم بنور التوحيد ويلقون جانبا جميع المعبودات المصنوعة ، ويخلصون قلوبهم كاملا ـ لكن خلوصا إجباريا لا قيمة له ـ فما أن يهدأ الطوفان وتتلاشى الأمواج وتعود الحالة الاعتيادية ، حتى تنزل الأسدال على الفطرة وتظهر أشواك الشرك والوثنية على هذه «الوردة».

__________________

(١) النحل ، الآيتان ٥٣ ـ ٥٤»

(٢) يونس ، الآية ١٢.

٤٥١

قد يقال : إنّ هذه الحالة من التوجه تحصل على أثر التلقين والرسوبات الفكرية من الثقافة الاجتماعية وأفكار المحيط.

ويمكن قبول مثل هذا الكلام فيما إذا كانت هذه المسألة تحدث خاصّة في موارد المتدينين أو الذين نشؤوا في محيط ديني ، ولكن مع الالتفات إلى أن هذه الحالة تظهر حتى عند أشد المنكرين لله ، وفي المجتمعات غير المذهبية ، فيتّضح حينئذ أن جذرها كامن في الضمير (غير الواعي) للإنسان ، وفي داخل فطرته وجبلّته!.

* * *

٤٥٢

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩) )

سبب النّزول

نقل في تفسير «الدر المنثور» عن ابن عباس ـ ذيل الآية محل البحث ـ أن جماعة من المشركين قالوا : يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلّا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلّتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس ، فانزل الله :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً ) وكانت جوابا لهم.

التّفسير

أشارت الآيات ـ التي سبق ذكرها ـ إلى بعض الحجج الواهية للمشركين ، وهي أنّنا نخاف على حياتنا إذا أظهرنا الإيمان ثمّ هاجرنا معك يا رسول الله ، وقد ردّ عليها القرآن بطرق مختلفة.

٤٥٣

وفي الآيات ـ محل البحث ـ يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ) أي أرض مكّة المكرمة.

في حين أن العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكّة ، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات ، إلّا أن هذه الأرض باقية على أمنها( وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) .

فالله المقتدر على أن يجعل في هذا البحر المتلاطم والطوفان المحدق بأرض الحجاز «من الفتن» حرم مكّة كالجزيرة الهادئة الآمنة وسط البحر. كيف لا يمكنه أن يحفظهم من أعدائهم؟! وكيف يخافون الناس الضعاف قبال قدرة الله العظيمة جلّ وعلا؟( أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ) .

وملخص الكلام ، إنّ الله القادر على أن يجعل في أرض مضطربة في وسط جماعة من الناس أنصاف وحشيين منطقة صغيرة آمنة ، فكيف لا يقدر على حفظ جماعة المؤمنين القلائل بين جماعات كثيرة من الكفار.

وبعد ذكر هذا الدليل الواضح ينتهي القرآن الى هذه النتيجة في الآية التالية( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ ) .

لقد قدمنا دلائل واضحة لكم على أنّه لا شيء أحق بالعبادة وأحرى بها من الله ، لكنّكم كذبتم على الله ، وصنعتم له شركاء بأيديكم ، وتدعون أن هذا هو منهج إلهي.

ومن جهة أخرى ، فإنّ القرآن الذي أنزلناه عليكم فيه دلائل الحق لائحة واضحة ، إلّا أنّكم لم تكترثوا به ، وألقيتموه وراءكم ظهريا! فهل يتصور ظلم أشدّ من هذا؟! لقد ظلمتم أنفسكم وظلمتم الناس جميعا ، لأنّ الشرك ظلم عظيم.

وبتعبير آخر : هل الظلم بمعناه الوسيع إلّا الانحراف وإخراج الشيء عن محلّه الجدير به ، وهل يرى أسوأ من أن يعدّ الإنسان حفنة من الأحجار المصنوعة التي لا قيمة لها أو الخشب المصنوع شركاء للخالق سبحانه الذي

٤٥٤

خلق السماوات والأرض.

إضافة إلى ذلك فإنّ الشرك مصدر جميع المفاسد الاجتماعية ، وفي الواقع إن المظالم الأخرى تسترفد منه ، عبادة الهوى ، عبادة المقام ، عبادة الدنيا ، كل منها نوع من الشرك.

ولكن اعلموا أنّ عاقبة الشؤم والخزي للمشركين( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ) .

من الجدير ذكره أنّ في القرآن الكريم ١٥ موردا عبّر فيها القرآن عن بعض الأفراد بأنّهم الأظلم ، وجميع هذه الموارد بدأت بجملة استفهامية( وَمَنْ أَظْلَمُ ) طبعا الاستفهام هنا استنكاري.

والتدقيق في هذه الآيات يدل على أنّ الآيات المذكورة وإن عالجت مسائل متنوعة ، إلّا أنّها جميعا تعود إلى الشرك ، فعلى هذا لا تضاد بينها أبدا. «لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (٢١) من سورة الأنعام».

وآخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وهي في الوقت ذاته آخر آية سورة العنكبوت ، تبيّن واقعا مهما ، وهي عصارة جميع هذه السورة ، وتنسجم مع بدايتها. ،

تقول الآية بالرغم من أن المشاكل المتعددة تحيط بطريق المسير إلى الله ، من قبيل مشكلة معرفة الحق ، ومشكلة وساوس الشياطين من الإنس والجن ، ومشكلة عناد الأعداء الألداء الظالمين الذين لا يرحمون ، ومشكلة الانحرافات الاحتمالية ، لكن هنا حقيقة ثابتة ، وهي أن الله يمنحكم القوّة والاطمئنان قبال المشاكل ويدافع عنكم ، تقول الآية :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) .

وفي معنى «الجهاد» هنا والمراد منه احتمالات متعددة. أهو جهاد الأعداء؟ أم جهاد النفس؟ أم الجهاد في سبيل معرفة الله عن الطرق العلمية؟

٤٥٥

للمفسّرين آراء في هذا المجال.

وكذلك في معنى «فينا» الذي ورد تعبيره في الآية ، هل المراد منه في سبيل الله؟! أم في سبيل الجهاد للنفس ، أم في سبيل العبادة ، أم مواجهة الأعداء؟

ولكن من الواضح أنّ التعبير بالجهاد له معنى واسع مطلق ، ومثله التعبير بكلمة «فينا» فالتعبير يشمل كل سعي وجهاد في سبيل الله ومن أجله ، وللوصول إلى الأهداف الإلهية ، كل ذلك يصدق عليه( جاهَدُوا فِينا ) سواء كان في سبيل كسب المعرفة! أو جهاد النفس ، أو مواجهة الأعداء ، أو الصبر على الطاعة ، أو الصبر على المعصية ، أو في إعانة الضعفاء ، أو في الإقدام على أي عمل حسن وصالح!

ويتّضح ممّا قلناه ضمنا أنّ المراد بـ «السبل» الطرق المتعددة التي تنتهي إلى الله ، سبيل جهاد النفس ، سبيل جهاد الأعداء ، سبيل العلم والثقافة. والخلاصة ، فإن الجهاد في كل طريق من هذه الطرق والسبل سبب لهداية المسير المنتهي إلى الله.

وهذا وعد وعده الله لجميع المجاهدين في سبيله ، وأكده بأنواع التأكيدات كـ «لام التأكيد والنون الثقيلة» وجعل التوفيق والإنتصار والرقي في محور شيئين هما «الجهاد» و «خلوص النية».

ويعتقد جماعة من الفلاسفة أنّ التفكر والمطالعة لا يوجدان العلم ، بل يهيئان روح الإنسان لقبول صور المعقولات ، وحين تتهيأ الروح الإنسانية للقبول يتنزّل «الفيض» من قبل الخالق المتعال وواهب الصور بالعلم و «الحكمة».

فعلى هذا ينبغي على الإنسان أن يجاهد في هذا الطريق ، إلّا أن الهداية بيد الله تعالى.

وما ورد في الحديث أنّه «ليس العلم بكثرة التعلم والتعليم ، بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء» ، فلعله إشارة إلى هذا المعنى أيضا.

* * *

٤٥٦

ملاحظتان

١ ـ الجهاد والإخلاص

يستفاد من الآية المتقدمة بصورة جيدة أنّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة عدم الموفقية ، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين : إمّا أنا قصّرنا في جهادنا ، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل ، وإذا اجتمع الجهاد والإخلاص ـ فبناء على وعد الله ـ فإن النصر والهداية حتميّان.

ولو فكّرنا جيدا لاستطعنا أن نعزو جميع المشاكل والمصائب في المجتمع الإسلامي الى التقاعد عن الجهاد وعدم الإخلاص ، فهما مصدرها.

فلم تأخر المسلمون ، الذين كانوا متقدمين بالأمس!؟

ولم يمدون يد الحاجة إلى الأجانب في كل شيء ، حتى في الثقافة والقوانين ، وحتى نظمهم الخاصة.

ولم يعتمدون على غيرهم من أجل حفظ أنفسهم من التيارات السياسية والهجومات العسكرية.

لم كان الآخرون جالسين يوما على مائدة المسلمين التي كان خوانها مبسوطا بالعلم والثقافة والمعرفة ، واليوم أصبح المسلمون جالسين على مائدة الآخرين؟!!

وأخيرا ، لم نرى المسلمين أسرى في قبضة الآخرين ، وأراضيهم مغصوبة من قبل الظالمين؟

الإجابة على جميع هذه الأسئلة منحصرة في سبب واحد ، هو «نسيانهم الجهاد» أو «عدم الخلوص في النية».

أجل ، لقد أهملوا الجهاد في الميادين العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية ، وتغلّب عليهم حب النفس وعشق الدنيا او طلب الراحة والنظرة الضيقة والأغراض الشخصيّة ، حتى أصبح قتلاهم على أيديهم

٤٥٧

أكثر من قتلاهم على أيدي أعدائهم!.

إنّ استغراب بعض المسلمين الذي انبهروا بحضارة الغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي ، وعمالة بعض الرؤساء والزعماء ، ويأس وانزواء العلماء والمفكرين كل ذلك سلبهم التوفيق الى الجهاد ، وكذلك حرمهم من الإخلاص.

ومتى ما ظهر قليل من الإخلاص بين صفوفنا ، وتحرك مجاهدونا حركة ذاتية ، فإن النصر يكون حليفنا واحدا بعد الآخر وتتقطع غلال الأسر ويتبدل اليأس إلى أمل مشرق ، وسوء الحظ الى حسن الحظ ، والذلة إلى العزة ورفعة الرأس ، كما تتبدل الفرقة والشتات إلى الوحدة والانسجام.

وما أعظم ما قاله القرآن! وما أبلغ إلهامه! إذ جمع في جملة واحدة الداء والدواء معا.

أجل إن الذين يجاهدون في سبيل الله تشملهم هدايته ، ومن البديهي أنّه مع هداية الله ، فلا ضلال ولا خسران ، ولا انهزام.

وإذا لاحظنا أن الآية مفسرة في بعض روايات أهل البيتعليهم‌السلام بآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأتباعهم ، فهي مصداق كامل لذلك «التّفسير» لأنّهم كانوا السابقين والمتقدمين في طريق الجهاد ، وليس في الآية دليل على تحديد مفهومها أبدا.

وعلى كل حال ، فإنّ كل إنسان يلمس هذه الحقيقة القرآنية في سعيه واجتهاده ، حيث يجد الأبواب مفتوحة عند ما يعمل لله وفي سبيل الله ، وتنتهي مشاكله السهلة والصعبة وتضحى بسيطة متحملة.

٢ ـ الناس ثلاثة أصناف :

فصنف لجوج معاند لا تنفعه أية هداية.

وصنف مجد دؤوب مخلص ، وهذا الصنف يصل إلى الحق.

وصنف ثالث أعلى من الصنف الثاني ، فهذا الصنف ليس بعيدا حتى يقترب

٤٥٨

من الحق ، ولا منفصلا عنه حتى يتصل به ، لأنّه معه أبدا.

فالآية المتقدمة( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ) إشارة إلى الصنف الأوّل.

وجملة( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ) إشارة إلى الصنف الثّاني.

وجملة( إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) إشارة إلى الصنف الثّالث.

ويستفاد ـ ضمنا ـ من هذا التعبير أن مقام «المحسنين» أسمى من مقام «المجاهدين» ، لأنّ المحسنين إضافة إلى جهادهم في سبيل الله لنجاة أنفسهم ، فهم مؤثرون غيرهم على أنفسهم ، ويحسنون إلى الآخرين ، ويسعون لإعانتهم.

ربّنا وفقنا توفيقا ترحمنا به ، فلا نكفّ أيدينا عن الجد والاجتهاد.

إلهنا ارزقنا الإخلاص حتى لا نفكر في سواك ، ولا نخطوا لغيرك.

إلهنا ارفع درجاتنا حتى نعلو على مقام المجاهدين وننال درجة المحسنين ، وارزقنا هدايتك في جميع أعمارنا.

آمين يا ربّ العالمين

انتهاء بسورة العنكبوت

* * *

٤٥٩
٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592