الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174824 / تحميل: 5995
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وبالرغم من أن الله فتح أمامهم أبواب الرحمة ، ولو أردوا اغتنام الفرصة لاستطاعوا حتما إصلاح ماضيهم وحاضرهم ، ولكن لم يغتنم الظالمين من بني إسرائيل هذه الفرصة فحسب ، بل بدّلوا أمر الله ، وقالوا خلاف ما أمروا أن يقولوه :( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) .

وفي المآل نزل عليهم بسبب هذا الطغيان والظلم للنفس وللآخرين عذاب من السماء( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ مضمون هاتين الآيتين جاء أيضا ـ مع فارق بسيط ـ في سورة البقرة الآية (58) و (59) وقد أوردنا تفسيرا أكثرا تفصيلا هناك.

والفرق الوحيد بين هذه الآيات المبحوثة هنا ، وآيات سورة البقرة هو أنّه يقول هنا :( بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) ، وقال هناك :( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) ، ولعل الفارق بين هذين إنما هو لأجل أن الذنوب لها جانبان : أحدهما الجانب المرتبط بالله ، والجانب الآخر مرتبط بنفس الإنسان. وقد أشار القرآن إلى الجانب الأوّل في آية سورة البقرة بعبارة «الفسق» الذي مفهومه الخروج عن طاعة الله ، وإلى الثّاني في الآية الحاضرة بعبارة «الظلم».

ما هي «حطّة» وماذا تعني؟

الجدير بالذكر أن بني إسرائيل كانوا مكلّفين بأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم عند دخولهم بيت المقدس من أدران الذنوب بتوبة خالصة وواقعية تتلخص في كلمة «حطّة» وأن يطلبوا من الله المغفرة لكل تلك الجرائم التي ارتكبوها ، وبخاصّة ما آذوا به نبيّهم العظيم موسى بن عمران قبل ورودهم بيت المقدس.

وكلمة «حطّة» التي كانت ـ في الحقيقة ـ شعارهم عند دخولهم بيت المقدس ، هي صورة اختصارية لعبارة «مسألتنا حطّة» يعني نطلب منك يا ربّ أن تحطّ عنّا ذنوبنا بإنزال شآبيب الرحمة والعفو علينا ، لأنّ «حطّة» معناها إنزال

٢٦١

الشيء من علو وهذا الشعار شأنه شأن جميع الشعارات الأخرى لا يكفي فيه أن يكون مجرّد لقلقة لسان ، بل يجب أن يكون اللسان ترجمان الروح ومرآة الوجدان ، ولكنّهم ـ كما سيأتي في الآية اللاحقة ـ مسخوا كثيرا من تلك الشعارات حتى هذا الشعار التربوي ، وجعلوه وسيلة للهو والاستهزاء والسخرية.

* * *

٢٦٢

الآيات

( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) )

التّفسير

قصّة فيها عبرة :

في هذه الآيات يستعرض مشهدا آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث ، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أن الخطاب موجه فيها إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول له : اسأل يهود

٢٦٣

عصرك حول تلك الجماعة ، يعني جدّد هذه الخاطرة في أذهانهم عن طريق السؤال ليعتبروا بها ، ويجتنبوا المصير والعقاب الذي ينتظرهم بسبب طغيانهم وتعنتهم.

إنّ هذه القصّة ـ كما أشير إليها في الأحاديث الإسلامية ـ ترتبط بجماعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون عند ساحل أحد البحار (والظاهر أنّه ساحل البحر الأحمر المجاور لفلسطين) في ميناء يسمى بميناء «أيلة» (والذي يسمى الآن بميناء ايلات) وقد أمرهم الله تعالى على سبيل الاختبار والامتحان أن يعطّلوا صيد الأسماك في يوم السبت ، ولكنّهم خالفوا هذا التعليم ، فأصيبوا بعقوبة موجعة مؤلمة نقرأ شرحها في هذه الآيات.

في البداية تقول الآية :( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ) . أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.

ثمّ تقول : وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا ـ في يوم السبت ـ القانون الإلهي( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ) لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم ، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب ، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة ، ولكنّهم تجاهلوا هذا الأمر.

ثمّ يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبادة التالية :( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ) فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت ، بينما كانت تختفي في غيره من الأيّام.

و «السبت» في اللغة تعني تعطيل العمل للاستراحة ، وما نقرؤه في سورة النبأ( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) أشارة ـ كذلك ـ إلى هذا الموضوع ، وسمّى «يوم السبت» بهذا الاسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم ، ثمّ بقي هذا الاسم لهذا اليوم علما له.

ومن البديهي أنّ صيد الأسماك يشكّل لدى سكنة ساحل البحر مورد كسبهم وتغذيتهم ، وكأنّ الأسماك بسبب تعطيل عملية الصيد في يوم السبت صارت

٢٦٤

تحس بنوع من الأمن من ناحية الصيادين ، فكانت تظهر على سطح الماء أفواجا أفواجا ، بينما كانت تتوغل بعيدا في البحر في الأيّام الأخرى التي كان الصيّادون فيها يخرجون للصيد.

إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي ، كان وسيلة لامتحان واختبار هذه الجماعة ، لهذا يقول القرآن الكريم : وهكذا اختبرناهم بشيء يخالفونه ويعصون الأمر فيه( كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) إشارة إلى أنّ اختبارهم كان بما من شأنه أن يجذبهم ويدعوهم إلى نفسه ، وإلى المعصية والمخالفة ، وجميع الاختبارات كذلك ، لأن الاختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.

عند ما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الامتحان الكبير الذي كان متداخلا مع حياتهم تداخلا كاملا ، انقسموا إلى ثلاث فرق :

«الفريق الأوّل» وكانوا يشكّلون الأكثرية ، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإلهي.

«الفريق الثّاني» وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية ، وهم الذين قاموا ـ تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

«الفريق الثّالث» وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة ، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي الآية الثّانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين العصاة ، وبين الذين نهوهم عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول :( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ

٢٦٥

مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) (1) .

فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر : بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدي واجبنا تجاه الله تعالى ، وحتى لا نكون مسئولين تجاهه ، هذا مضافا إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم ، ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم( قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّ هؤلاء الواعظين كانوا يفعلون ذلك بهدفين : الأوّل : أنّهم كانوا يعظون العصاة حتى يكونوا معذورين عند الله.

والآخر : عسى أن يؤثروا في نفوس العصاة ، ويفهم من هذا الكلام أنّهم حتى مع عدم احتمال التأثير ، فإنّهم كانوا لا يحجمون عن الوعظ والنصيحة في حين أن المعروف هو أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطين باحتمال التأثير.

ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإلهية حتى مع عدم احتمال التأثير ، وذلك عند ما يكون عدم بيان الأحكام الإلهية ، وعدم إنكار المنكر سببا لتناسي وتنامي البدع ، وحينما يعدّ السكوت دليلا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.

إنّ هذه النقطة جديرة بالالتفات ، وهي أنّ الناهين عن المنكر كانوا يقولون : نحن نريد أن نكون معذورين عند (ربّكم) وكأنّ هذا إشارة إلى أنّكم أيضا مسئولون أمام الله ، وإنّ هذه الوظيفة ليست وظيفتنا فقط ، بل هي وظيفتكم تجاه ربّكم في الوقت ذاته.

__________________

(1) التعبير بـ «أمّة منهم» يكشف عن أن الفريق الثّاني كانوا أقلّ من العصاة ، لأنّه عبّر عنهم بلفظة «قوما» بدون كلمة منهم) وتقرأ في بعض الآيات أنّ عدد نفوس هذه المدينة كان ثمانين ألف وبضعة آلاف ، وقد ارتكب 70 ألفا منهم هذه المعصية (راجع تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 42).

٢٦٦

ثمّ إنّ الآية اللاحقة تقول : وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم ، وتناسوا الأمر الإلهي ، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر ، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم منهم بسبب فسقهم وعصيانهم( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (1) .

ولا شك أنّ هذا النسيان ليس نسيانا حقيقيا غير موجب للعذر ، بل هو نوع من عدم الاكتراث والاعتناء بأمر الله ، وكأنّه قد نسي بالمرّة.

ثمّ يشرح العقوبات هكذا :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (2) .

وواضح أن أمر «كونوا» هنا أمر تكويني مثل :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) .

* * *

بحوث

وهنا نقاط عديدة يجب الالتفات إليها :

1 ـ كيف ارتكبوا هذه المعصية؟

وأمّا كيف بدأت هذه الجماعة عملية التجاوز على هذا القانون الإلهي؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين.

__________________

(1) بئيس مشتقة من مادة «بأس» يعني الشديد.

(2) «عتوا» من مادة عتّو على وزن «غلوّ» بمعنى الامتناع عن طاعة أمر ، وما ذكره بعض المفسّرين من تفسيره بمعنى الامتناع فقط يخالف ما قاله أرباب اللغة.

(3) سورة يس ، 28.

٢٦٧

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّهم عمدوا في البداية إلى ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فقد أحدثوا أحواضا إلى جانب البحر ، وفتحوا لها أبوابا إلى البحر ، فكانوا يفتحون هذه الأبواب في يوم السبت فتقع فيها أسماك كثيرة مع ورود الماء إليها ، وعند الغروب حينما كانت الأسماك تريد العودة إلى البحر يوصدون تلك فتحبس الأسماك في تلك الأحواض ، ثمّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدها ، وأخذها من الأحواض ، وكانوا يقولون : إنّ الله أمرنا أن لا نصيد السمك ، ونحن لم نصد الأسماك إنّما حاصرناها فقط(1) .

ويقول بعض المفسّرين : إنّهم كانوا يرسلون كلاليبهم وصناراتهم وشباكهم في البحر يوم السبت ، ثمّ يسحبونها يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك ، وهكذا كانوا يصيدون السمك حتى في يوم السبت ولكن بصورة ما كرة.

ويظهر من بعض الرّوايات الأخرى أنّهم كانوا يصيدون السمك يوم السبت من دون مبالاة بالنهي الإلهي ، وليس بواسطة أية حيلة.

ولكن من الممكن أن تكون هذه الرّوايات صحيحة بأجمعها وذلك أنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية ، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر ، أو إلقاء الكلاليب والصنارات ، ثمّ لما صغرت هذه المعصية في نظرهم ، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السب وحرمته ، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجا وعلنا ، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جدا.

2 ـ من هم الذين نجوا؟

الظاهر من الآيات الحاضرة أنّ فريقا واحدا من الفرق الثلاثة (العصاة ، المتفرجون ، الناصحون) هو الذي نجى من العذاب الإلهي وهم افراد الفريق

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد 2 ، الصفحة 22 ، وقد روي هذا الكلام عن ابن عباس في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية.

٢٦٨

الثّالث.

وكما جاء في الرّوايات ، فإنّه عند ما رأى هذا الفريق أن عظاته ونصائحه لا تجدي مع العصاة انزعجوا وقالوا : سنخرج من المدينة ، فخرجوا إلى الصحراء ليلا ، واتفق أن أصاب العذاب الإلهي كلا الفريقين الآخرين.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ العصاة هم الذين أصيبوا بالعذاب فقط ، ونجى الساكتون أيضا ، فهو لا يتناسب مع ظاهر الآيات الحاضرة.

3 ـ هل أنّ كلا الفريقين عوقبوا بعقاب واحد

يظهر من الآيات الحاضرة أنّ عقوبة المسخ كانت مقتصرة على العصاة ، لأنّه تعالى يقول :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْه ) ولكن من جانب آخر يستفاد من الآيات الحاضرة ـ أيضا ـ أنّ الناصحين الواعظين فقط هم الذين نجوا من العقاب ، لأنّه تعالى يقول :( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) .

من مجموع هاتين الآيتين يتبيّن أنّ العقوبة نالت كلا الفريقين ، ولكن عقوبة المسخ اختصت بالعصاة فقط ، وأمّا عقوبة الآخرين فمن المحتمل أنّها كانت الهلاك والفناء ، بالرغم من أن العصاة أيضا هلكوا بعد مدّة من المسخ حسب ما جاء في هذا الصدد من الرّوايات.(1)

4 ـ هل المسخ كان جسمانيا أو روحانيا؟

«المسخ» أو بتعبير آخر «تغيير الشكل الإنساني إلى الصورة الحيوانية» ومن المسلّم أنّه حدث على خلاف العادة والطبيعة.

على أنّه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة ، وتغيير الشكل

__________________

(1) وإذا كان يستفاد من بعض الرّوايات خلاف هذا الموضوع ، فإنّه مضافا إلى أنّه لا يمكن الاعتماد عليه في مقابل ظاهر الآيات فإنّما ضعيفة من حيث السند أيضا ، ويحتمل أن يكون الراوي قد أخطأ في نقل الرواية.

٢٦٩

والصورة في الحيوانات إلى أشكال وصور أخرى ، وقد شكّلت أسس فرضية التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة.

ولكنّ الموارد التي شوهدت فيها ال «موتاسيون» والقفزة إنّما هي في صفات الحيوانات الجزئية ، لا الصفات الكليّة ، يعني أنّه لم يشاهد إلى الآن نوعا من أنواع الحيوان تغيّر على أثر ال «موتاسيون» إلى نوع آخر ، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوان ، ناهيك عن أنّ هذه التغييرات إنّما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل ، لا أن يحصل هذا التغيير في الحيوان يتولد من أمّه.

وعلى هذا الأساس ، يكون تغير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمرا خارقا للعادة.

ولكن تقدم أنّ هناك أمورا تحدث على خلاف العادة والطبيعة ، وهذه الأمور ربّما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، وأحيانا تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر من بعض الأشخاص ، وإن لم يكونوا أنبياء (وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعا).

وبناء على هذا ، وبعد القبول بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادة ، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر. ولا يكون ذلك مستحيلا تأباه العقول.

ووجود مثل هذه الخوارق للعادة ـ كما قلنا في مبحث إعجاز الأنبياء ـ لا هو استثناء وخرق لقانون العلية ، ولا هو خلاف العقل ، بل هو مجرّد كسر قضية «عاديّة طبيعيّة» في مثل هذه الموارد ، ولها نظائر رأيناها في الأشخاص غير العاديين(1) .

__________________

(1) لقد جمع أحد الكتّاب المعاصرين نماذج كثيرة ـ من مصادر موثوقة ـ لأشخاص من البشر أو حيوانات استثنائيّة ، ملفتة للنظر ومثيرة للعجب ، ومن جملة ذلك : إنسان يستطيع قراءة السطور بأصابعه ، أو امرأة وضعت مرتين في خلال شهرين ، وفي كل مرة ولدت ولدا ، أو طفلا كان قلبه خارج صدره ، أو امرأة لم تكن تعرف أنّها حامل حتى لحظة وضعها لوليدها ، وما شابه ذلك.

٢٧٠

بناء على هذا لا مانع من قبول «المسخ» على ما هو عليه في معناه الظاهري الوارد في الآية الحاضرة وبعض الآيات القرآنية الأخرى ، وأكثر المفسّرين قبلوا هذا التّفسير أيضا.

ولكن بعض المفسّرين ـ وهم الأقليّة ـ قالوا : إنّ المسخ هو «المسخ الروحاني» والانقلاب في الصفات الأخلاقية ، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين ، مثل الإقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة ، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. وهذا الاحتمال نقل عن أحد المفسّرين القدامى وهو مجاهد.

وما أخذه البعض على مسألة المسخ ، وأنّه خلاف التكامل ، وأنّه يوجب العودة والرجوع والتقهقر في الخلقة غير صحيح ، لأنّ قانون التكامل يرتبط بالذين يسيرون في طريق التكامل ، لا أولئك الذين انحرفوا عن مسيرة التكامل ، وخرجوا عن دائره هذا القانون.

فعلى سبيل المثال : الإنسان السليم ينمو نموا منتظما في أعوام الطفولة ، ولكنّه إذا حصلت في وجوده بعض النقائص ، فيمكن أن لا يتوقف الرشد والنمو فحسب ، بل يتقهقر ويفقد نموه الفكري والجسماني تدريجا.

ولكن يجب الانتباه على كل حال إلى أنّ المسخ والتبدل والتحول الجسماني يتناسب مع الأعمال التي قام بها الشخص ، يعني أنّ بعض العصاة يسلكون سبيل الطغيان تحت ضغط من دوافع الهوى والشهوة ، وجماعة أخرى تتلوث حياتهم بأدران الذنوب أثر التقليد الأعمى ، ولهذا يظهر المسخ في كل فريق من هذه الفرق بصورة متناسبة مع كيفية أعمالهم.

على أنّه قد جرى الحديث في الآيات الحاضرة فقط عن «القردة» ولم يجر أي حديث عن «الخنازير» ولكن في الآية (60) من سورة المائدة يدور الحديث حول جماعة مسخ بعضهم في صورتين (بعض قردة وبعض خنازير) وهذه الآية

٢٧١

حسبما قال بعض المفسّرين : نزلت حول أصحاب السبت ، فالكبار منهم الذين أطاعوا أمر الشهوة والبطن مسخوا خنازير ، والشباب المقلد لهم تقليدا أعمى وكانوا يشكلون الأكثرية مسخوا قردة.

ولكن على كل حال يجب الالتفات إلى أنّ الممسوخين ـ حسب الرّوايات ـ بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا ، ولم يتولد منهم نسل أبدا.

5 ـ المخالفة تحت غطاء الحيلة الشّرعية

إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت لا تتضمّن الإشارة إلى تحايل أصحاب السبت في صعيد المعصية ، ولكن ـ كما أسلفنا ـ أشار كثير من المفسّرين في شرح هذه الآيات إلى قصّة حفر الأحواض ، أو نصب الصنارات في البحر في يوم السبت ، ويشاهد هذا الموضوع نفسه في الرّوايات الإسلامية ، وبناء على هذا تكون العقوبة الإلهية التي جرت على هذا الفريق ـ بشدة ـ تكشف عن أن الوجه الحقيقي للذنب لا يتغير أبدا بانقلاب ظاهره ، وباستخدام ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فالحرام حرام سواء أتي به صريحا ، أو تحت لفافات كاذبة ، ومعاذير واهية.

إنّ الذين تصوروا أنّه يمكن بالتغيير الصوري تبديل عمل حرام إلى حلال يخدعون أنفسهم في الحقيقة ، ومن سوء الحظ أن هذا العمل رائج بين بعض الغفلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الدين وهذا هو الذي يشوّه وجه الدين في نظر الغرباء عن الدين ، ويكرّهه إليهم بشدّة.

إن العيب الأكبر الذي يتسم به هذا العمل ـ مضافا إلى تشويه صورة الدين ـ هو أن هذا العمل التحايلي يصغر الذنب في الأنظار ويقلّل من أهميته وخطورته وقبحه ، ويجرّئ الإنسان في مجال الذنب إلى درجة أنّه يتهيأ شيئا فشيئا لارتكاب الذنوب والمعاصي بصورة صريحة وعلينة. فنحن نقرأ في نهج البلاغة

٢٧٢

أنّ الإمام عليّاعليه‌السلام قال : «إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربّهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ(1) والسحت بالهدية ، والربا بالبيع» (الخطبة 156).

ويجب الانتباه إلى الدافع وراء أمثال هذه الحيل ، إمّا إلباس الباطن القبيح بلباس قشيب وإظهاره بمظهر حسن أمام الناس ، وإمّا خداع الضمير ، واكتساب طمأنينة نفسية كاذبة.

6 ـ أنواع الابتلاء الإلهي المختلفة

صحيح أنّ صيد السمك من البحر لسكان السواحل لم يكن مخالفة ، ولكن قد ينهي الله جماعة من الناس وبصورة مؤقّتة ، وبهدف الاختبار والامتحان عن مثل هذا العمل ، ليرى مدى تفانيهم ، ويختبر مدى إخلاصهم ، وهذا هو أحد أشكال الامتحان الإلهي.

هذا مضافا إلى أنّ يوم السبت كان عند اليهود يوما مقدسا ، وكانوا قد كلّفوا ـ احتراما لهذا اليوم بالتفرغ للعبادة وممارسة البرامج الدينية ـ والكف ـ عن الكسب والإشتغال بالأعمال اليومية ، ولكن سكان ميناء «أيلة» تجاهلوا كلّ هذه الاعتبارات والمسائل ، فعوقبوا معاقبة شديدة جعلت منهم ومن حياتهم المأساوية ومصيرهم المشؤوم درس وعبرة للأجيال اللاحقة.

* * *

__________________

(1) كان النبيذ عبارة عن وضع مقدار من التمر أو الشعير أو الزبيب في الماء ، عدّة أيّام ، ثمّ شربه وهذا وإن لم يكن حراما شرعا ، ولكنّه على أثر سخونة الهواء تتبدل المواد السكرية فيه إلى مواد كحولية خفيفة.

٢٧٣

الآيتان

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) )

التّفسير

تفرق اليهود وتشتتهم :

هذه الآيات إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر الله تعالى ، وسحقت الحق والعدل والصدق.

فيقول في البداية : واذكروا يوم أخبركم الله بأنّه سيسلّط على هذه الجماعة العاصية المتمردة فريقا يجعلها حليفة العذاب والأذى إلى يوم القيامة( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «تأذّن» و «أذّن» كلاهما بمعنى الإخبار والإعلام ، وكذا جاء بمعنى الحلف والقسم ، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية أنّ الله تعالى أقسم بأن يكون مثل

٢٧٤

هؤلاء الأشخاص في العذاب إلى يوم القيامة.

ويستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الاستقرار والطمأنينة أبدا ، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة ، فإنّها مع ذلك ستعيش حالة اضطراب دائم وقلق مستمر ، إلّا أن تغيّر ـ بصدق ـ سلوكها ، وتكفّ عن الظلم والفساد.

وفي ختام الآية يضيف تعالى قائلا :( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فبالنسبة إلى الكفار سريع العقاب ، وبالنسبة للمذنبين التائبين التائبين غفور رحيم.

وهذه الجملة تكشف عن أنّ الله قد ترك الباب مفتوحا أمامهم حتى لا يظن أحد أنّه قد كتب عليهم المصير المحتوم والشقاء الابدي الذي لا خلاص منه.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى تفرق اليهود في العالم فيقول :( وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ) فهم متفرقون منقسمون على أنفسهم بعضهم صالحون ، ولهذا عند ما سمعوا بنداء الإسلام وعرفوا دعوة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمنوا به ، وبعضهم لم يكونوا كذلك بل ألقوا الحق وراءهم ظهريا ، ولم يرتدعوا عن معصية في سبيل ضمان مصالحهم وحياتهم المادية.

ومرّة أخرى تتجلى هذه الحقيقة في هذه الآية وهي أنّ الإسلام لا يعادي العنصر اليهودي ، ولا يشجبهم لكونهم أتباع دين معيّن ، أو منتمين إلى عنصر وعرق معيّن ، بل يجعل أعمالهم هي مقياس تقييمهم.

ثمّ يضيف تعالى قائلا :( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

أي ربّما نكرمهم ونجعلهم في رفاه ونعمة حتى نثير فيهم روح الشكر ، ويعودوا إلى طريق الحق. وربّما نغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتى ينزلوا عن مركب الغرور والأنانية والتكبر ، ويقفوا على عجزهم ، لعلهم يستيقظون

٢٧٥

ويعودون إلى الله ، والهدف في كلتا الحالتين هو التربية والهداية والعودة إلى الحق.

وعلى هذا الأساس تشمل «الحسنات» كل نعمة ورفاه واستقرار ، كما تشمل «السيئات» كل نقمة وشدة ، وحصر هذين المفهومين في دائر ضيّقة معيّنة لا دليل عليه.

* * *

٢٧٦

الآيتان

( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) )

التّفسير

في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود ، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.

وفي البداية يقول تعالى :( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى ) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم ، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا ، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه ، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.

و «خلف» على وزن «حرف» يأتي غالبا في الأولاد غير الصالحين ـ كما

٢٧٧

ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين ، في حين أنّ «الخلف» على وزن «شرف» يأتي بمعنى الولد الصالح(1) .

ثمّ يضيف قائلا : وعند ما وقعوا بين مفترق طريقين : بين ضغط الوجدان من جهة ، والرغبات والمنافع المادية من جهة أخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا : لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواء من حلال أو حرام ، والله سيرحمنا ويغفر لنا( وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ) .

إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية ، ولكن هذه الندامة ـ كما يقول القرآن الكريم ـ لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم ، ولهذا يقول تعالى :( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) .

و «عرض» على وزن «غرض» يعني الشيء الذي لاثبات له ولا دوام ، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض ، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب ، فهو يقصد الإنسان يوما ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإنسان حسابه ولا يعود قادرا على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره ، يوما آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلّا الحسرة والتذكر المؤلم ، هذا مضافا إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساسا غير دائمة ، وغير ثابته(2) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الارتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية ، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.

ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك :( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا

__________________

(1) مجمع البيان ، وتفسير ابن الفتوح الرازي ، في ذيل الآية الحاضرة.

(2) يجب الانتباه ، إلى أن «عرض» على وزن «غرض» يختلف عن «عرض» على وزن (فرض) فالأول بمعنى كل رأس مال دنيوي ، والثاني بمعنى المال النقدي.

٢٧٨

يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ ) أي أنّهم أخذ عليهم الميثاق ـ بواسطة كتابهم السماوي التوراة ـ أن لا يفتروا على الله كذبا ، ولا يحرفوا كلماته ، ولا يقولوا إلّا الحق.

ثمّ يقول : لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإلهية ، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذارا ، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مرارا وفهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها ، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم( وَدَرَسُوا ما فِيهِ ) . و «الدرس» في اللغة يعني تكرار شيء ، وحيث أن الإنسان عند المطالعة ، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع ، لهذا أطلق عليه لفظ «الدرس» وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة «درس والاندراس» على انمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية ، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.

وفي ختام الآية يقول : إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأمور ، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعا( وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) .

ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟؟

وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقا يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإلهية وكتمانها فحسب ، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفا بحرف ، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم ، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم ، ويقول عنهم :( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) .

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من «الكتاب» وهل أنّه التوراة أو القرآن الكريم؟ بعض ذهب إلى الأوّل ، وبعض إلى الثّاني. والظاهر أنّه إشارة إلى فريق من بني إسرائيل الذين انفصلوا عن الضالين الظالمين ، وعاكسوهم فى سلوكهم وموقفهم. ولا شك أن التمسك بالتوراة والإنجيل وما فيهما من بشائر

٢٧٩

بظهور نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا ينفصل عن الإيمان بهذا النّبي.

إنّ في التعبير بـ «يمسّكون» الذي هو بمعنى الاعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر ، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والالتصاق بشيء لحفظه وصيانته ، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة ، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص ، ويسعى في حفظها وحراستها.

إنّ التمسك بالكتاب الإلهي ليس هو أن يمسك الإنسان بيده أوراقا من القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة ، ويجتهد في حفظ غلافه وورقه من التلف ، بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب ، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم.

إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية ، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإلهية ، وهذا التعبير يؤكّد ـ مرّة أخرى ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدين ليس مجرّد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة ، وبدار الآخرة ، بل هو برنامج للحياة البشرية ، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر ، وإجراء مبادئ العدل والسلام والرفاه والاستقرار ، وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة «الإصلاح» الواسعة المعنى.

وما نراه من التركيز على خصوص «الصلاة» من بين الأوامر والتعاليم الإلهية ، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإنسان بالله الذي يراه حاضرا وناظرا لجميع أعماله وبرامجه ، ومراقبا لجميع أفعاله وأقواله ، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وارتباط هذا الموضوع بإصلاح المجتمع الإنساني أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

وواضح أن الأوامر الأربعة الواردة في هذه الآية ، هي تأكيد على مسألة التوحيد وآثاره العملية ، فالمسألة أعمّ من التوبة والعودة إليه تعالى وإلى تقواه وإقامة الصلوة وعدم الشرك به.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يبيّن القرآن واحدا من آثار الشرك وعلائمه في عبارة موجزة ذات معنى كبير ، فيقول : لا تكونوا من المشركين الذين انقسموا في دينهم على فرق واحزاب كثيرة :( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً ) .

والعجيب في الأمر أنّهم على تضادّهم واختلافهم فإنّ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) .

أجل ، إن واحدة من علائم الشرك هي التفرقة ، لأنّ المعبودات المختلفة هي منشأ الأساليب المتفاوتة وهي أساس الانفصال والتفرق ، خاصة وأنّ الشرك هو توأم عادة لهوى النفس والتعصّب والكبر والأنانية وعبادة الذات ، أو متولد عنها ، لذلك لا يمكن أن تتحقق الوحدة والاتحاد إلّا في ظل عبادة الله ، والعقل والتواضع والإيثار!.

فعلى هذا ، حيثما وجدنا تفرقة واختلافا فينبغي أن نعرف أن نوعا من الشرك حاكم هناك ، ويمكن أن نستنتج من هذا الموضوع أن نتيجة الشرك هي تفرق الصفوف ، والتضاد ، وهدر القوى ، وأخيرا الضعف وعدم القدرة.

وأمّا مسألة( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) فهي واضحة ودليلها بيّن ، حين يعتقدون أن ما لديهم حق ، لأنّ الهوى يزيّن للنفس عملها في نظر الإنسان وهذا التزيين نتيجته التعلق أكثر فأكثر ، والفرح بالطريق الذي اختارته النفس ، وإن كان هذا الطريق يؤدي إلى الضلال والانحراف.

إنّ عبادة الهوى لا تسمح للإنسان أن يرى وجه الحقيقة كما هو ، ولا يمكنه أن يقضي قضاء صحيحا خاليا من الحبّ والحقد.

٥٢١

يقول القرآن المجيد في الآية (٨) من سورة فاطر :( فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ) كالذي يمضي في طريق الحق ، ويرى الحقائق كما هي ، ويعرفها حق المعرفة؟!

* * *

بحثان

١ ـ التوحيد باعث داخلي قوي :

كما أنّ الدلائل العقلية والمنطقية توجّه الإنسان ، فإنّ في داخله دوافع وموانع أيضا بحيث تعين له الجهة «أحيانا» من حيث يدري أو لا يدري!

وفلسفة وجودها في داخل الإنسان ، هي أنّ الإنسان لا يستطيع ـ دائما ـ أن ينتظر إيعاز العقل والمنطق ، لأنّ هذا العمل قد يعطل الأهداف «الحياتية» بعض الأحيان.

فمثلا لو أراد الإنسان أن يستلهم من منطق «لزوم بدل ما يتحلل» ضرورة تناول الطعام أو «لزوم استمرار النسل عن طريق التوالد والتناسل» ضرورة الممارسة الجنسية ، وأن يعمل ويتحرك وفق المنطق في كل ذلك ، لكان ينبغي أن ينقرض الإنسان ـ قبل هذا الزمان بكثير ـ إلّا أن الغريزة الجنسية من جهة وجاذبيتها ، والاشتهاء للطعام من جهة أخرى ، يجرانه نحو هذا الهدف شاء أم أبى.

وكلما كانت الأهداف حياتية أكثر وعمومية ، كانت هذه «الدوافع» أشد وأقوى أيضا.

لكن ينبغي الالتفات إلى أن هذه الدوافع على نحوين :

فبعضها باطنية (غير واعية) لا تحتاج إلى وساطة العقل والشعور ، كما ينجذب الحيوان نحو الطعام والجنس دون الحاجة إلى التفكير.

وقد يكون تأثير الدوافع عن طريق الوعي ، أي إن هذه الدوافع الداخلية

٥٢٢

تترك أثرها في العقل والتفكير وتدفعه إلى انتخاب الطريق!

وعادة يطلق على النوع الأوّل من هذه الدوافع «الغريزة» وعلى النوع الثّاني «الفطرة» (فلاحظوا بدقّة).

عبادة الله والاتجاه نحوه لهما مكانه في نفوس جميع الناس ، وهو ما يصطلح عليه بـ «الفطرة».

ويمكن أن يعدّ بعض الناس هذا الكلام ادعاء محضا ، يدّعيه المؤمنون ، إلّا أن لدينا دلائل وشواهد مختلفة توضح بجلاء كون «الميل إلى الله» فطريا ، بل تؤكّد هذا الميل في جميع اصول الدين وأبعاده :

١ ـ إنّ دوام الإعتقاد الديني والإيمان بالله على امتداد التاريخ البشري بنفسه دليل على الفطرة! لأنّه إذا كان ذلك على سبيل العادة ، لما كانت له جنبة عمومية ولا جنبة دائمية ، فهذا العموم وهذا الدوام دليل على فطرية الحالة.

يقول المؤرخون الكبار : لم ير في المجتمعات الإنسانية في أعماق التاريخ البشري ، وفي عصر ما قبل التاريخ أن أقواما بشرية عاشت بلا دين إلّا بشكل استثنائي.

ويقول «ويل دورانت» المؤرخ المعاصر :

«إذا عرّفنا الدين على أنّه عبادة القوى التي هي أسمى من الطبيعة ، فينبغي أن نأخذ بنظر الإعتبار هذه المسألة الدقيقة ، وهي أن بعض الأمم البدائية لم يكن لها أي دين ظاهرا» ثمّ يضيف بعد ذكر أمثلة لهذا الموضوع : فما ذكر من الأمثلة هو في عداد الحالات النادرة ، والرأي القائل : التدين يشمل عموم أفراد البشر ، يوافق الحقيقة»!

ثمّ يضيف قائلا : «تعدّ هذه القضية في نظر الفيلسوف واحدة من القضايا الأساسية في التاريخ والدراسات النفسيّة ، فهو لا يقنع بهذه المسألة : إنّ جميع الأديان محشوّة بالباطل واللغو والخرافات ، بل هو ملتفت إلى هذه المسألة ، وهي

٥٢٣

أن الدين منذ قديم الأيّام كان مرافقا للتاريخ البشري»(١) .

ويختتم كلامه بهذا الاستفهام الكبير معنى ومغزى «ترى أين هو مصدر التقوى التي لا يخلوا القلب منها بأي وجه»؟!

وهذا المؤرخ نفسه يقول في تحقيقاته حول وجود الدين في فترات ما قبل التاريخ «وإذا لم نتصور للدين جذورا في فترات ما قبل التاريخ ، فلا يمكن أن نعرفها في الفترة التاريخية كما هي عليه»(٢) .

والتنقيبات عن إنسان ما قبل التاريخ التي تمت عن طريق الحفر ، تؤيد هذا الموضوع أيضا ، كما يصرح بذلك العالم الاجتماعي «ساموئيل كنيج» في كتابه «دراسة المجتمع» : إن الأسلاف الماضين للإنسان المعاصر «ممن ينتمون إلى إنسان نئاندرتال» كان لديهم دين حتما ، ويستدلّ بعدئذ لإثبات هذا الموضوع بالآثار التي عثر عليها عن طريق التنقيب والحفر ، ومنها أنّهم كانوا يدفنون موتاهم بكيفية خاصة ، ويدفنون معهم أشياء تدل على اعتقادهم بيوم القيامة».(٣)

وعلى كل حال ، فإنّ فصل الدين عن التاريخ البشري لا يمكن أن يقبله أي محقق وباحث.

٢ ـ إنّ المشاهدات عيانا في العالم المعاصر تكشف أنّه مع جميع ما بذل الطغاة والمستبدون ـ وأنظمتهم الجائرة من جهود وسعي لمحو الدين وآثاره وعن طرق مختلفة ـ لم يستطيعوا أن يستأصلوا الدين وجذوره من أعماق هذه المجتمعات.

ونعرف جيدا أنّ الحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي ، ومنذ أكثر من ستين سنة ، وبوسائل الإعلام و «الدعايات» المختلفة ، حاول أن يغسل

__________________

(١) تاريخ التمدن ، ج ١ ، ص ٨٧ ـ ٨٩.

(٢) تاريخ التمدن ، ج ١ ، ص ١٥٦.

(٣) دراسة المجتمع ، ص ١٩٢ أصله بالفارسية وعنوانه جامعه شناسي.

٥٢٤

الأذهان والعقول والقلوب من الإعتقادات الدينية مستعينا بالخلايا التنظيمية الجماعية ، إلّا أنّ الأخبار التي تسربت وتهربت من ذلك المحيط المغلق ، وما نقرؤه في الصحف والجرائد ، تكشف أنّهم «أي الحزب الحاكم في روسيا» مضافا الى عدم تحقيقهم هدفهم بالرغم من تشددهم في وسائل الإعلام ، فإنّه تبدو هذه الأيّام حالة من التطلع المتزايد الى المسائل الدينية في بعض الدول الاشتراكية وجمهوريات روسيا ممّا أقلق قادة النظام ، وهذا يدل على أنّه لو رفعوا الضغوط ولو يوما واحدا ، لعاد الدين إلى مكانه بسرعة فائقة ، وهذا بنفسه شاهد آخر على فطرية الدافع الديني أيضا.

٣ ـ الكشوفات الأخيرة من قبل النفسانيين وعلماء النفس في مجال أبعاد الروح الإنسانية ، شاهد آخر على هذا المدعى ، إذ أنّهم يقولون : «إنّ التحقيقات في المجالات النفسيّة تشير إلى بعد أصيل هو «البعد الديني» أو بتعبير آخر «بعد قدسي» أو «رباني» وربّما عدّوا هذا البعد أساسا للأبعاد الثلاثة الأخرى وهي «البعد العلمي» ، و «البعد الجمالي» ، و «البعد الخيّر».

إذ يدّعون بأن البواعث الأساسية للروح البشرية هي هذه :

١ ـ دافع البحث عن الحقيقة (الشعور العلمي) وهو مصدر أنواع العلوم ، والأهداف التحقيقية المستمرة ، والمتابعات في معرفة عالم الوجود!

٢ ـ حس «الإحسان والعمل الصالح» الذي يجذب الإنسان نحو المفاهيم الأخلاقية كالتضحية والإيثار والعدل والشهامة وأمثالها. حتى أنّه لو كان الإنسان غير واجد لهذه الصفات ، فإنّه يعشق من تتوفر فيهم هذه الصفات ، وهذا يدل على أن العشق للعمل الصالح والإحسان كامن في جذور النفس.

٣ ـ الحس «الجمالي» : وهو يجذب الإنسان نحو الفن الأصيل والأدب والمسائل الذوقية ، وربّما أصبح مصدر التحول في حياة الفرد أو المجتمع أحيانا.

٤ ـ الحس «الديني» ، أي الإيمان بمبدإ عال وعبادته واتّباعه.

٥٢٥

ونقرأ في مقالة كتبها «كوونتايم» في هذا المجال ما يلي :

«إنّ معرفة النفس بالبحث داخل النفس البشرية غير الواعية ـ التي بوشر بها بواسطة فرويد «في البداية» استمرّت بالاستعانة بـ «آدلر» و «يونك» ـ في أعماق روح الإنسان وصلت إلى عالم جديد من القوى المستورة ، وأنحاء الدرك والمعرفة وراء العقل ، ويمكن أن يكون الحسّ الديني مفتاحا من مفاتيح حل هذه الأحجية.

وبالرغم من أنّنا بعيدون للآن عن اتفاق الآراء ، إلّا أنّه ومع هذه الحال فما يزال «مسير فكري» في ازدياد يوما بعد يوم ، إذ يعتقد كثير من المفكرين بالتعريف الذي نورده ذيلا :

«إنّ الحس الديني واحد من العناصر الأولية الثابتة والطبيعية لروح الإنسان ، وهو أكثرها أصالة وماهويّة ، ولا يمكن مطابقته لأي من الأحاسيس والدوافع الأخرى ، حيث يمدّ جذوره الى أعماق اللاوعي ويعدّ «المفهوم الديني» أو بتعبير أصح «المفهوم المقدس» بالنسبة لمفاهيم الجمال والإحسان والحقيقة ، مقولة رابعة ، ولها أصالة المفاهيم الثلاثة ذاتها واستقلالها أيضا(١) .

كما نقرأ في المقالة المترجمة المقتبسة عن المحقق «تان كي دو ـ كنتن» ما يلي «كما أن من مزايا العصر الحاضر ـ في عالم الطبيعة ـ هو اكتشاف البعد الرابع ، الذي أطلق عليه اسم «بعد» الزمان مضافا الى الأبعاد الثّلاثة للجسم ، وهو في الوقت ذاته جامع لها ، فكذلك اكتشفت في هذا العصر المقولة الرابعة «المقدسة» أو المقولة الإلهية «الربانية» بموازاة المفاهيم الثلاثة «الجمال ، الإحسان ، طلب الحقيقة» وهي البعد الرّابع لروح الإنسان ، ففي هذا المقام أيضا فان هذا البعد الرّابع الروحي منفصل عن الأبعاد الثلاثة الأخرى ، وربّما كان هذا البعد منشأ

__________________

(١) يراجع كتاب الحسّ المذهبي أو البعد الرّابع ترجمه مهندس بياني (للكاتب كوونتايم).

٥٢٦

ولادة الأبعاد الثلاثة الأخرى»(١) .

٤ ـ إن التجاء الإنسان في الشدائد والمحن إلى قوة خفية وراء الطبيعة ، وطلب حل المشاكل والأزمات من قبل هذه القوة ، لهو أيضا شاهد آخر على أصالة هذا الدافع الباطني والإلهام الفطري ، ويمكن ـ بضمها إلى مجموع الشواهد التي ذكرناها آنفا ـ أن توقفنا على مثل هذا الدافع الباطني في داخلنا نحو الله سبحانه.

وبالطبع فمن الممكن أن يعدّ بعضهم هذا التوجه من آثار التلقينات أو الإعلام الديني في المحيط الاجتماعي المتدين!

إلّا أن عمومية هذه الظواهر في جميع الناس ، حتى في أولئك الذين لا علاقة لهم بالمسائل الدينية عادة ، تدلّ على أن لها جذرا أعمق من هذه الفرضية.

٥ ـ وفي حياة الإنسان حوادث وظواهر لا يمكن تفسيرها إلّا عن طريق أصالة الحسّ الديني فكثير من الناس نجدهم قد ضحوا بجميع ما لديهم من الإمكانات المادية ، ولا يزالون يضحون أيضا ، ويصبّون كل ما عندهم مع ما لديهم من سوابق تحت قدم الدين ، وربّما قدّموا أنفسهم في سبيله أيضا.

الشهداء الذين شربوا كأس الشهادة ـ من أجل تقدم الأهداف الإلهية وتحقّقها ـ بشوق وعشق بالغين ، بحيث نرى أمثالهم في تاريخ جهاد الإسلام الطويل ، بل في تأريخ الأمم الأخرى أيضا ، يكشفون عن هذه الحقيقة ، وهي أن الحس الديني له جذر عميق في روح الإنسان.

لكن قد يرد على هذا الكلام إشكال ، وهو أنّ أفرادا ـ كالشيوعيين مثلا ـ لهم موقع إلحاديّ ـ ضد الأيدلوجية والدين ـ ولا يكتمون موقعهم هذا أبدا كما أن لهم مواقف تضحوية في سبيل حفظ فكرتهم واعتقادهم!

إلّا أنّ هذا الإشكال ينحل تماما بملاحظة هذه المسألة ، وهي أنّه حتى

__________________

(١) المصدر نفسه الطبعة الثّانية ، ص ٣٩.

٥٢٧

الشيوعيون الذين ينفون الدين كليّا ـ بحسب الظاهر ـ ويعتقدون أن الدين مرتبط بالتأريخ القديم ، ولا يمكن أن يكون له مكان في المجتمعات الشيوعية أجل ، إن هؤلاء أنفسهم قد قبلوا بالدين بشكل آخر عن طريق العقل الباطني «واللاوعي».

فهم يقدّسون زعماءهم وقادتهم بالنظرة التي ينظرها المصريون القدماء أوثانهم ، وصفوفهم الطويلة عند جسد «لينين» لزيارته هي شاهد آخر على هذا الموضوع أيضا.

وهم عادة يعتبرون الأصول الماركسية كوحي السماء لا تقبل النقد والخدش ، فهي مقدّسة عندهم ، ويتصورون أن ماركس ولينين وانجلس كالمعصومين من الأخطاء والسهو ، ويعدون مراجعة العقل لاتخاذ موقف جديد من هذه الأصول ذنبا لا يغتفر أبدا ويخاطبون مخالفيهم بتعبيرنا الديني على أنّهم «مرتدون» وعلى هذا فهم يعتقدون بكثير من المفاهيم والمسائل الدينية ، غاية ما في الأمر هو أن تفكير هم نوع من الفكر الديني في شكل منحرف!

٢ ـ فطرة التوحيد في الأحاديث الإسلامية

موضوع «معرفة الله الفطرية» لم يختص به القرآن الكريم فحسب ، بل هو وارد في الأحاديث الإسلامية بشكل يسترعي الانتباه ، حيث أن بعضها يؤكّد على التوحيد بالفطرة ، وبعضها يؤكّد على المعرفة ، وقسم يتناول الفطرة «على الإسلام» وأخيرا فإن قسما منها تناول عنوان الولاية أيضا.

ففي حديث معتبر يرويه المحدث الكبير الشيخ الكليني في أصول الكافي ، وهو ما نقله

عن هشام بن سالم ، قال : سألت الإمام الصادقعليه‌السلام : ما المراد من قوله تعالى :( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) فقال «هي التوحيد»(١) .

كما ورد في الكافي نفسه نقلا عن بعض أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠ ، باب «فطرة الخلق على التوحيد».

٥٢٨

حين سأله عن تفسير الآية المتقدمة فقال الإمامعليه‌السلام «هي الإسلام»(١) .

كما نقرأ حديثا متشابها لما سبق ـ عن الإمام الباقرعليه‌السلام جوابا لزرارة أحد أصحابه العلماء حين سأله عن تفسير الآية فقالعليه‌السلام «فطرهم على المعرفة به»(٢) .

والحديث المنقول عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «كل مولود يولد على الفطرة حتى ليكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» يؤكّد هذا المضمون أيضا(٣) .

وأخيرا فإننا نقرأ في أصول الكافي حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا في تفسير الآية قال : «هي الولاية»(٤) .

وقد ورد في الخطبة الأولى لنهج البلاغة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حديث موجز العبارة غزير المعنى ، إذ يقولعليه‌السلام «فبعث فيهم رسوله ، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول».

وطبقا للرّوايات المتقدمة ، فليست معرفة الله هي الفطرية فحسب ، بل مجموع الإسلام بشكل موجز «مضغوط» كامن في داخل الفطرة الإنسانية بدءا من التوحيد وانتهاء بالقادة الإلهيين وخلفائهم الصادقين ، وكذلك فروع الأحكام أيضا.

فعلى هذا ، وطبقا للتعبير الوارد في نهج البلاغة ، فإن عمل الأنبياء هو رعاية الفطرة حتى تفتح ، وتذكر الناس نعم الله المنسية ، ومن جملة هذه النعم الفطرة على التوحيد ، واستخراج كنوز المعرفة الدفينة في روح الإنسان وأفكاره!

وممّا يسترعي الانتباه أن القرآن الكريم ـ في آيات متعددة ـ يتخذ من الشدائد والمشاكل والحوادث المؤلمة التي يمر بها الإنسان في حياته مناخا

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير «جمع الجوامع» للمرحوم الطبرسي ذيل الآية محل البحث.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٨٤.

٥٢٩

ملائما للحس الديني ، إذ يقول في واحدة من هذه الآيات :( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (١) .

وسنتحدث بإذن الله في هذا المجال ذيل الآيات المقبلة التي تشبه الآيات من سورة العنكبوت أيضا.

* * *

__________________

(١) العنكبوت ، الآية ٦٥.

٥٣٠

الآيات

( وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) )

التّفسير

إنّ الآية الأولى من المقطع الذي بين أيدينا ، هي في الحقيقة استدلال وتأكيد على البحث السابق في مجال كون التوحيد فطريا ، وتفتح هذا النور الإلهي عند الشدائد والصعاب! إذ تقول الآية :( وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ) .

إلّا أنّهم الى درجة من السطحية والغباء التعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم المشركين ، بحيث أنّه بمجرّد انتهاء المشكلة وهبوب نسيم الرحمة الالهية( ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) .

والتعبير بـ( مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ ) إشارة إلى اصابتهم بقليل من الضرر كما أنّ التعبير( أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ) إشارة إلى بلوغ شيء من النعمة ، لأنّ التعبير بـ «مسّ»

٥٣١

أو «ذاق» في مثل هذه الموارد يطلق على الأمور القليلة والجزئية ، وخاصّة باستعمال كلمتي «ضر» و «رحمة» نكرتين.

أي إنّ طائفة تبلغ بهم الحال إلى أن يفزعوا إلى الله عند حدوث أقل مشكلة لهم ، وتنكشف الحجب عن فطرتهم التوحيدية ، ولكن إذا رأوا نعمة ولو بأقل ما يتصوّر ، فإنّهم يغفلون عن واقعهم كليّا ، وينسون كل شيء!

وبالطبع ففي الحالة الأولى يبيّن القرآن أنّ الناس يفزعون جميعا إلى الله عند الضر والشدائد ، لأنّ فطرة التوحيد موجودة في الجميع.

ولكن في الحالة الثّانية يتحدث القرآن عن جماعة تسلك طريق الشرك فحسب ، لأنّ طائفة من عباد الله يذكرون الله في الشدائد وفي الرخاء وفي السراء والضراء. فلا تنسيهم المتغيّرات ذكر الله أبدا.

والتعبير بـ( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ) ـ كما رأينا في مفهوم الإنابة سابقا ـ من مادة «النوب» وتعني العودة ثانية إلى الشيء ، هذا التعبير إشارة لطيفة للمعنى التالي ، وهو أنّ الأساس في الفطرة هو توحيد الله وعبادته ، والشرك أمر عارض ، حيث متى ما يئسوا منه فهم يعودون نحو الإيمان والتوحيد ، شاؤوا أم أبوا!.

والطريف هنا أنّ «الرحمة» في الآية مسندة إلى «الله» ، فهو سبحانه مصدر الرحمة للعباد ، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر إلّا أن الضرّ لم يسند إليه سبحانه ، لأنّ كثيرا من الابتلاءات والمشاكل التي تحوطنا هي من نتائج أعمالنا وذنوبنا.

وكلمة «ربّهم» التي تكررت في الآية تكررت في الآية مرّتين ، تؤكّد على أنّ الإنسان يحسّ بالتدبير الإلهي وربوبية الله على وجوده ما لم تؤثر عليه التعليمات الخاطئة فتسوقه نحو الشرك والضلال.

وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة ، وهي أنّ الضمير في كلمة «منه» يعود إلى الله ، وهذا تأكيد على أن جميع النعم من الله سبحانه. وقد اختار كثير من المفسّرين هذا المعنى أمثال «الطباطبائي» في الميزان ، و «الطوسي» في التبيان ، و «أبو

٥٣٢

الفتوح الرازي» في تفسيره وغيرهم ، وإن ذهب غيرهم كالفخر الرازي الى إن الضمير في كلمة «منه» يعود على الضرّ ، وفسّروا الآية هكذا «حين يذيق الله عباده بعد الضرّ رحمة. إذا فريق منهم يشركون بالله». (فيكون معنى «من» هنا البدلية). إلّا أنّه من الواضح أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية!

أمّا الآية الأخرى فجاءت بعنوان التهديد لأولئك المشركين ، الذين ينسون ربّهم عند نيل النعم ، إذ تقول : اتركهم( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ) وليفعلوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! ثمّ يخاطب المشركين بأن يتمتعوا بهذه النعم والمواهب الدنيوية الفانية. وسوف يرون العاقبة السيئة لذلك :( فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (١)

وبالرغم من أنّ المخاطبين بالآية هم المشركون ، إلّا أنّه لا يبعد أن يكون لها مفهوم واسع بحيث يشمل جميع الذين ينسون الله عند إقبال النعم ، وينشغلون بالتمتع بهذه النعم فحسب ، دون أن يذكروا واهب النعم.

وبديهي أن صيغة الأمر استعملت هنا للتهديد!.

والقرآن في الآية الأخرى يصوغ الكلام في صيغة الاستفهام المقرون بالتوبيخ فيقول :( أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ) .

«أم» هنا للاستفهام ، ويحمل الاستفهام هنا غرضا استنكاريا وتوبيخا أي إن سلوك هذا الطريق والخطة يجب أن يكون إمّا لنداء الفطرة ، أو بحكم العقل ، أو بأمر الله ، لكن حين يصرخ الوجدان والفطرة في الشدائد والملمات بالتوحيد فإن العقل يقول أيضا : ينبغي التوجه نحو واهب النعم.

يبقى أن حكم الله في هذه الآية هو في مورد النفي ، أي : لم يؤمروا من قبل الله بمثل هذا الأمر ، فعلى هذا فإن هؤلاء في اعتقادهم هذا لم يستندوا إلى أي أصل

__________________

(١) إنّ «اللام» في جملة «ليكفروا» هي لام الأمر ، وهذا الأمر للتهديد ، وكذلك جملة «تمتعوا» إذ هي للتهديد أيضا. وإن كانت الأولى جاءت بصيغة «الغائب» والثّانية بصيغة «الخطاب» فكأنّما افترض في الحالة الأولى أنّهم غيّاب ثمّ من أجل التشدّد بالتهديد جعلهم مواجهين للتهديد والخطاب ، إلّا أنّ بعض المفسّرين عدّوا «اللام» للعاقبة ، أي كان عاقبة أمرهم الكفر بنعم الله ، إلّا أن المعنى الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية.

٥٣٣

مقبول!.

و «السلطان» معناه ما يدل على السلطة وينتهي إلى الإنتصار عادة ، ومعناه هنا هو الدليل المحكم المقنع.

والتعبير بـ «يتكلم» هو نوع من التعبير المجازي ، إذ ترانا نعبر عند وضوح الدليل قائلين «كأن هذا الدليل يتكلم مع الإنسان»!

واحتمل بعض المفسّرين أن المراد بالسلطان هنا هو أحد الملائكة المقتدرين ، فيكون استعمال «يتكلم» هنا على نحو الحقيقة ، أي لم نرسل عليهم ملكا يتكلم بالشرك فيتبعوه!.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أوضح كما يبدو!

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث ، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الأغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة ، فتقول :( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ) .

في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر الله عند النعم ، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة ، إذ هم يشكرون الله على نعمه ، ويرون المصيبة امتحانا واختبارا ، أو يعدونها نتيجة أعمالهم ، فيصبرون ويتّجهون إلى الله تعالى.

فالمشركون يعيشون دائما بين «الغرور» و «اليأس» ، أمّا المؤمنون فهم بين «الشكر» و «الصبر».

ويستفاد ضمنا من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسما من المصائب والابتلاءات التي تحل بالإنسان هي ـ على الأقل ـ نتيجة أعماله وذنوبه ، فالله يريد أن ينبههم ويطهرهم ويلفتهم إليه.

وينبغي الالتفات الى أنّ جملة( فَرِحُوا بِها ) ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب ، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة ، وهي الحالة التي يكون عليها الأراذل عند ما تتهيأ لهم وسائل العيش والحياة ، وإلّا فإن

٥٣٤

السرور المقرون بالشكر والتوجه نحو الله ليس أمرا سيئا ، بل هو مأمور به( قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) (١) .

والتعبير( بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) الذي ينسب المعاصي إلى الأيدي ، هو لأنّ أكثر الذنوب والأعمال يكون على يد الإنسان ، وإن كانت هناك ذنوب يكتسبها القلب أو البصر أو السمع ، إلّا أن كثرة الأعمال التي تصدر عن اليد استدعى هذا التعبير.

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : ألا تخالف هذه الآية ، الآية الثّالثة والثلاثين «ما قبل آيتين» لأنّ الكلام في هذه الآية عن يأسهم عند المصائب ، في حين أن الآية السابقة تتحدث عن توجههم إلى الله عند بروز المشاكل والشدائد.

والخلاصة ، إن واحدة من الآيتين تتحدث عن «الرجاء» والأخرى عن «اليأس»؟

لكن مع الالتفات إلى مسألة دقيقة يتّضح جواب هذا السؤال ، وذلك أن الآية المتقدمة كان الكلام فيها عن «الضر» أي الحوادث الضارة كالطوفان والزلزلة والشدائد الأخرى التي تصيب عامة الناس «الموحدين منهم والمشركين».

فيتذكرون الله في هذه الحال ، وهذا واحد من دلائل الفطرة على التوحيد.

أمّا في الآية محل البحث فالكلام على نتائج المعاصي واليأس الناشئ منها ، لأنّ بعض الأفراد إذا عملوا صالحا أصبحوا مغرورين وحسبوا أنفسهم مصونين من عذاب الله ، وحين يعملون السيئات وتحلّ بهم العقوبة فيغم وجودهم اليأس من رحمة الله ، فكلتا الحالين «العجب والغرور» و «اليأس والقنوط من رحمة الله» مذمومتان!

فعلى هذا تكون كلّ آية من الآيتين قد تناولت موضوعا منفصلا عن الآخر.

* * *

__________________

(١) يونس ، الآية ٥٨.

٥٣٥

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) )

التّفسير

الآية الأولى من الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد والربوبيّة أيضا ، وانسجاما مع سياق الآيات السابقة التي كانت تتحدث عن غرور بعض الناس الماديين عند إقبال النعمة عليهم ، ويأسهم وقنوطهم عند مواجهتهم الشدائد والبلاء ، فإنّها تقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

فلا ينبغي أن يكون إقبال النعم مدعاة للغرور ونسيان الله والطغيان ، ولا إدبارها سببا لليأس والقنوط ، لأنّ سعة الرزق وضيقه بيد الله ، فتارة يرى المصلحة

٥٣٦

للعبد في الحالة الأولى «سعة الرزق» ، وتارة يراها في الثّانية ، أي «الضيق».

وصحيح أنّ العالم هو عالم الأسباب ، فمن جدّ وجد ، ومن سعى قاوم الصعاب ينل فائدة أكثر ويربح عادة ، وأمّا أولئك الكسالى فلا ينالون إلّا قليلا لكن هذه القاعدة في الوقت ذاته ليست دائمية ولا كلية ، إذ يتفق أن نرى أناسا جديرين وجادّين يركضون من هنا وهناك ، إلّا أنّهم لا يصلون إلى نتيجة يبلغون هدفهم ، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناسا لا يسعون ولا يجدّون وتتفتح عليهم أبواب الرزق من كل حدب وصوب.

وهذه الاستثناءات كأنّها لبيان أنّ الله بالرغم من جميع ما جعل للأسباب من تأثير ، لا ينبغي أن ينسى في عالم الأسباب ، ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أن وراء هذا العالم يدا قوية أخرى تديره كيف شاءت!

فأحيانا ـ ووفق مشيئته ـ توصد جميع الأبواب بوجه الإنسان مهما سعى وجدّ في الأمر ، وقد يرحم الإنسان وييسّر له الأمور الى درجة انه ما أن يخطو خطوة وإذا الأبواب متفتحة أمامه!

فما نرى في حياتنا من هذه المفارقات ، بالإضافة إلى أنّه يحدّ من الغرور المتولد من وفور النعمة ، واليأس الناشئ من الفقر ، فهو في الوقت ذاته دليل على أن وراء إرادتنا ومشيئتنا يدا قوية أخرى «تسيّر أعمالنا».

لذلك يقول القرآن في نهاية الآية :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

وينقل بعض المفسّرين كلاما بهذا المضمون وهو : سئل أحد العلماء : ما الدليل على أنّ للعالم صانعا واحدا؟

فقال هناك ثلاثة أدلة : «ذل اللبيب ، وفقر الأديب ، وسقم الطبيب».(١)

أجل إن وجود هذه المستثنيات والمفارقات دليل على أن الأمور بيد قادر آخر ، كما ورد في كلام الإمام عليعليه‌السلام أيضا «عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٧ ، ص ٢٩ ، ذيل الآية محل البحث.

٥٣٧

وحلّ العقود ، ونقض الهمم».(١)

وحيث أن كل نعمة وموهبة ينالها الإنسان تحمّله وظائف ومسئوليّات وعليه أداؤها ، فإن القرآن يوجه الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية التالية قائلا :( فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) .

وينبغي أن لا تتصور عند سعة الرزق أن ما عندك هو لك فقط ، بل إنّ للآخرين في مالك حقّا أيضا ، ومن هؤلاء الأقارب والمساكين الذين باتوا متربين لشدة الفقر ، وكذلك الأعزة الذين ابتعدوا عن الوطن وانقطع بهم الطريق نتيجة حوادث معينة وهم محتاجون!

والتعبير بـ «حقّه» كاشف عن أنّهم شركاء في أموال الإنسان ، وإذا دفع المرء شيئا من ماله إليهم فإنّما يؤدي حقهم ، وليس له منّ عليهم!.

وهناك جماعة من المفسّرين يرون أنّ المخاطب في هذه الآية هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وأن «ذا القربى» أرحامه ، وقد ورد في رواية عن أبي سعيد الخدري وغيره ما يلي : «لما نزلت هذه الآية على النّبي أعطى فاطمة فدكا وسلّمها إليها».(٢)

وبالمضمون نفسه نقل عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام أيضا.(٣)

وقد ورد المعنى نفسه مفصلا في احتجاج فاطمة الزهراءعليها‌السلام على أبي بكر في قضية فدك ، وذلك في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام .(٤)

غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا : إنّ الخطاب في هذه الآية عام ، وهو يشمل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، وطبقا لهذا التّفسير فإنّ جميع الناس عليهم أن لا ينسوا حق ذوي القربى أيضا.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار الجملة ٢٥٠

(٢) مجمع البيان.

(٣) مجمع البيان.

(٤) تفسير على بن إبراهيم ، طبقا لنقل نور الثقلين عنه ، ج ٤ ، ص ١٨٦.

٥٣٨

وبالطبع فإنه لا منافاة في الجمع بين التّفسيرين ، وعلى هذا فإن مفهوم الآية مفهوم واسع ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرباه وخاصة فاطمة الزهراءعليها‌السلام هم المصداق الأتم لهذه الآية.

ومن هنا يتّضح أن لا منافاة لأي من التفاسير الآنفة مع كون السورة مكّية ، لأنّ مفهوم الآية مفهوم جامع ينبغي العمل به في مكّة وفي المدينة أيضا ، وحتى خبر إعطاء «فدك» لفاطمةعليها‌السلام على أساس هذه الآية مقبول جدّا.

الشيء الوحيد الذي يبقى هنا ، هو جملة «لما نزلت هذه الآية ...» في رواية أبي سعيد الخدري ، إذ أن ظاهرها أن إعطاء فدك كان بعد نزول الآية ، ولكن لو أخذنا كلمة «لما» به معنى العلة ، لا بمعنى الزمان الخاص ، ينحل هذا الإشكال ، ويكون مفهوم الآية أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فاطمة فدكا لأمر الله إياه ، أضف إلى ذلك فإن بعض آيات القرآن يتكرر نزولها!.

ولكن لم ذكر هؤلاء الثلاثة من بين جميع المحتاجين وأصحاب الحق؟

لعل ذلك لأهميتهم ، لأنّ حق ذى القربى أهم وأعلى من أي حق سواه ، ومن بين المحرومين والمحتاجين فإنّ المساكين وأبناء السبيل أحوج من الجميع!.

أو أن ذلك لما أورده «الفخر الرازي» هنا إذ يقول : «في تخصص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم ، مع أن الله ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات ، فنقول : أراد هاهنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال ، سواء كان زكويا أم لم يكن ، وسواء كان بعد الحول أو قبله ، لأنّ المقصود هاهنا الشفقة العامة ، وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للمحسن مال زائد ، أمّا القريب فتجب نفقته وإن كان لم تجب عليه زكاة كمال القاصرين أو مال لم يحل عليه الحول ، والمسكين كذلك فإنّ من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة ، يجب على من له مقدرة دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة ، وكذلك من انقطع في مفازة ومع آخر دابة يمكنه بها إيصاله إلى مأمن ، يلزمه ذلك ، وإن لم تكن عليه

٥٣٩

زكاة ، والفقير داخل في المسكين ، لأنّ من أوصى للمساكين شيئا يصرف إلى الفقراء أيضا «فما ذكرته الآية من ترتيب لهؤلاء إنّما يناسب شأنهم».(١)

وعلى كل حال فإنّ القرآن يبيّن في نهاية الآية ترغيبا للمحسنين ، وشرط القبول ضمنا ، فيقول :( ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

أولئك المفلحون في هذه الدنيا ، لأنّ الإنفاق يجلب معه البركات العجيبة ، وفي الآخرة أيضا ، لأنّ الإنفاق هو أكثر الأعمال ثقلا في ميزان الله يوم القيامة.

ومع الالتفات إلى أن المراد من( وَجْهَ اللهِ ) ليس هو المحيّا الجسماني ، إذ ليس له تعالى وجه جسماني ، بل هو بمعنى ذاته المقدّسة ، فإن هذه الآية تشير إلى أن الإنفاق وإيتاء حق الأقارب وأصحاب الحق الآخرين ليس كافيا ، بل المهم هو الإخلاص والنية الطاهرة والخالية من أي أنواع الرياء والمنة والتحقير وانتظار الأجر والثواب.

وخلافا لما ذهب إليه بعض المفسّرين. من أنّ الإنفاق لغرض الوصول إلى الجنّة ليس مصداقا لوجه الله ، فان جميع الأعمال التي يؤديها الإنسان وفيها نوع من الارتباط بالله ، سواء كانت لمرضاته أو ابتغاء ثوابه أو للنجاة من جزائه ، فكلها مصداق لوجه الله ، وإن كانت المرحلة العليا والكاملة من ذلك أن لا يبتغي الإنسان من وراء عمله إلّا الطاعة والعبودية المحضة!.

وتشير الآية التالية ـ بمناسبة البحث المتقدم عن الإنفاق الخالص ـ إلى نوعين من الإنفاق : أحدهما لله ، والآخر يراد منه الوصول إلى مال الدنيا ، فتقول :( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) .

مفهوم الجملة «الثّانية» وهي إعطاء الزكاة والإنفاق لوجه الله والثواب واضح ، إلّا أن الجملة الأولى( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً ) مختلف في تفسيرها مع

__________________

(١) ذيل الآيات محل البحث «الفخر الرازي».

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592