الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190834 / تحميل: 6904
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الالتفات إلى أنّ «الربا» معناه في الأصل «الزيادة».

فالتّفسير الأوّل ، وهو أوضح من جميع التفاسير ، ومنسجم مع مفهوم الآية أكثر ، ومتناسق مع الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، أن المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض الأفراد للآخرين ، ولا سيما إلى أصحاب الثروة والمال ، كي ينالوا منهم أجرا أحسن وأكثر!

وبديهي أنّه في مثل هذه الهدايا لا يؤخذ بنظر الاعتبار استحقاق الطرف الآخر ولا الجدارة والأولوية ، بل كل ما يهدف اليه أن تصل الهدية إلى مكان ، تعود على مهديها بمبلغ أوفر ومن الطبيعي أن مثل هذه الهدايا ليس فيها «جنبة» إخلاص ، فلا قيمة لها من الجهة الأخلاقية ، والمعنوية!.

فعلى هذا يكون معنى «الربا» في هذه الآية هو «الهدية والعطية» والمراد من جملة( لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ) هو أخذ الأجر الوافر من الناس!

ولا شك أن أخذ مثل هذه الأجرة ليس حراما ، إذ ليس فيه شرط أو قرار ، إلّا أنّه فاقد للقيمة الأخلاقية والمعنوية ولذلك فقد ورد التعبير عن هذا الربا ـ في روايات متعددة عن الإمام الصادقعليه‌السلام في مصادر معروفة ، بـ «الربا الحلال» في قبال «الربا الحرام» الذي يستلزم الشرط والعقد أو الاتفاق.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب تهذيب الأحكام ، في تفسير الآية هو قولهعليه‌السلام : «هو هديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منهما ، فذلك ربا يؤكل»!

كما نقرأ حديثا آخر عنهعليه‌السلام «الربا رباءان ، أحدهما حلال والآخر حرام ، فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضا يريد أن يزيده ويعوضه بأكثر ممّا يأخذه بلا شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر ممّا أخذه على غير شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه ، وهو قوله :( فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ) وأمّا الحرام فالرجل

٥٤١

يقرض قرضا ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه فهذا هو الحرام».(١)

وهناك تفسير آخر لهذه الآية ، وهو أن المراد من الربا في هذه الآية هو الربا الحرام ، وطبقا لهذا التّفسير فإن القرآن يريد أن يقيس الربا بالإنفاق الخالص لوجه الله ، ويبين أن الربا وإن كان ظاهره زيادة المال ، إلّا أنّه ليس زيادة عند الله ، فالزيادة الحقيقية والواقعية هي الإنفاق في سبيل الله.

وعلى هذا الأساس فقد عدّوا الآية مقدمة لمسألة «تحريم الربا» التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإرشاد الأخلاقي والنصح ، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور «البقرة وآل عمران والنساء» بصورة تدريجية «وكانت لنا إشارة أيضا في الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل على هذا الأساس».

وبالطبع ليس بين المعنيين أيّ تضاد ، ويمكن أن تؤخذ الآية بمعناها الواسع الذي يجمع «الربا الحلال» و «الربا الحرام» ويقاس كلاهما بالإنفاق في سبيل الله ، إلّا أن تعبيرات الآية أكثر انسجاما مع التّفسير الأول ، لأنّ الظاهر من الآية هنا أن عملا قد صدر ليس فيه ثواب ، وهو مباح ، لأنّ الآية تقول : إن هذا العمل لا يربو عند الله ، وهذا يتناسب مع الربا الحلال الذي ليس فيه وزر ولا ثواب ، وليس شيئا يستوجب مقت الله وغضبه وقد قلنا : إن الروايات الإسلامية ناظرة إلى هذا المعنى.

وينبغي الإشارة إلى هذه اللطيفة اللغوية ، وهي أنّ كلمة «مضعفون» التي هي صيغة لاسم الفاعل ، لا تعني أنّهم يزيدون ويضعفون بأنفسهم للمال ، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف ، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول ، مثل «الموسر» أي : صاحب المال الكثير.

وينبغي أيضا أن يعرف بالنظرة البعيدة أن المراد من الضعف والمضاعف

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٩١.

٥٤٢

ليس معناه «مثل الشيء مرّتين» بل يشمل المثل مرتين ويشمل أمثال الشيء ، والحدّ الأقل في الآية هنا عشرة أمثال ، لأنّ القرآن يقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .(١)

وتبلغ الزيادة أحيانا كما في القرض إلى ثمانية عشر كما نقرأ في هذا حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «على باب الجنّة مكتوب : القرض بثمانية عشر والصدقة بعشر».(٢)

وقد تبلغ الزيادة إلى سبعمائة «ضعف» كما هو في شأن الإنفاق في سبيل الله ، إذ تقول الآية :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) (٣)

وفي الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ عودة أخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد ، وهي الموضوع الأساس الذي ورد في كثير من آيات هذه السورة وتصف الآية «الله» بأربعة أوصاف لتكون إشارة للتوحيد ومواجهة الشرك ، ودليلا على المعاد أيضا فتقول :( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

ومن المسلّم به أن المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأن الخلق كان من قبل الأوثان ، أو أن أرزاقهم بيد الأوثان والأصنام ، أو أن نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك!! بل لأنّهم جعلوا هذه الأوثان المصنوعة واسعة وشفعاء بينهم وبين الله ، فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النفي ، والاستفهام هنا استفهام إنكاري!.

الموضوع الآخر الذي يثير السؤال هنا هو أن أولئك المشركين لم يكونوا

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٦٠.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٩٠.

(٣) البقرة ، الآية ٢٦١.

٥٤٣

يعتقدون بالحياة بعد الموت ، فكيف يستند القرآن في آخر وصف لله تعالى إلى ذلك؟!

لعل هذا التعبير هو لأنّ مسألة المعاد والحياة بعد الموت ـ كما ذكرناها في بحوثنا المتقدمة ـ لها «جنبة» فطريّة ، والقرآن هنا لا يستند إلى معتقداتهم ، بل إلى فطرتهم.

إضافة إلى ذلك فقد يتفق أن متكلما ذلقا حين يواجه شخصا آخر ينكر موضوعا ما ، فيستدرجه بما لديه من حقائق يتقبلها ذلك الآخر ويستند إليها بشكل قطعي ليظهر أثرها ، وينزل صاحبه من مركب الإنكار.

ثمّ بعد هذا كله فإن بين الحياة الأولى من قبل الله وقدرته على ذلك ، والحياة بعد الموت رابطة لا تقبل الانفصام ، ومع ملاحظة هذه الرابطة المنطقية فإن «كلا الأمرين» جاءا في عبارة واحدة.

وعلى كل حال فإن القرآن يقول : عند ما يكون الخلق والرزق والموت والحياة بيد الله ، فالعبادة ينبغي أن تكون له فقط ، ويكشف هذه الحقيقة بقوله :( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وهي أنّ المشركين أهانوا كثيرا مقام رب العزة إذ أشركوه في العبادة مع أوثانهم.

* * *

٥٤٤

الآيات

( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) )

التّفسير

أساس الفساد ومصدره أعمال الناس أنفسهم :

كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك ، ونعلم أنّ أساس جميع المفاسد هو الغفلة عن أصل التوحيد والتوجه نحو الشرك ، لذلك فإنّ القرآن ـ في هذه الآيات محل البحث ـ يتحدث عن ظهور الفساد في الأرض بسبب أعمال الناس أنفسهم ، فيقول :( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) .

والله يريد أن يريهم ما قدموه و( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ

٥٤٥

يَرْجِعُونَ ) .

والآية الآنفة الذكر تبيّن المعنى الواسع حول ارتباط الفساد بالذنب ، الذي لا يختصّ بأرض «مكّة» والحجاز ، ولا بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو من قبيل القضية الحقيقية التي تبيّن العلاقة بين الموضوع والمحمول!

وبعبارة أخرى : حيثما ظهر الفساد فهو انعكاس لأعمال الناس وفيه ـ ضمنا ـ هدف تربوي ، ليذوق الناس «طعم العلقم» نتيجة أعمالهم ، لعلهم ينتهون ويثوبون إلى رشدهم!

ويقول بعضهم : إنّ هذه الآية ناظرة إلى القحط و «الجدب» الذي أصاب المشركين بسبب دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على مشركي مكّة! فانقطعت المزن ويبست الصحاري ، وصار من الصعب عليهم الصيد من البحر الأحمر أيضا.

وعلى فرض أن يكون هذا الكلام صحيحا تاريخيا ، إلّا أنّه بيان لأحد المصاديق ولا يحدد معنى الآية في مسألة ارتباط الفساد بالذنب ، فهي ليست محدّدة بذلك الزمان والمكان ، ولا بالجدب وانقطاع «الغيث».

وممّا ذكرناه آنفا يتّضح جيدا أنّ كثيرا من التّفاسير المحدودة والضيقة التي نقلها بعض المفسّرين في ذيل الآية غير مقبولة بأي وجه.

كما فسّروا الفساد في الأرض بأنّه قتل «هابيل» على يد «قابيل» ، أو أن المراد بالفساد في البحر هو غصب السفن في عصر موسى ، والخضرعليهم‌السلام .

أو أنّ المراد من الفساد في البر والبحر هو ظهور الحكّام المتسلطين الفاسدين الذين يشيعون الفساد في جميع هذه المناطق!.

وبالطبع فإنّ الممكن أن تكون مصاديق الآية مثل هؤلاء الأفراد الذين يتسلطون على الناس نتيجة الدنيا والمجاملة وجرّ الناس للذل ، ولكن من المسلّم به أن هذا المصداق لا يعني تخصيص مفهوم الآية!.

كما أنّ جماعة من المفسّرين بحثوا في معنى الفساد في البحر أيضا ، فقال

٥٤٦

بعضهم : المراد بالبحر هو المدن التي إلى جانب البحر ، وقال بعضهم : إنّ المراد بالبحر هو «المناطق المخصبة ذات البساتين والأثمار».

ولا نجد دليلا على هذه التمحّلات ، لأنّ البحر معناه معروف ، والفساد فيه لعله قلّة المواهب البحرية ، أو عدم الأمن فيه ، أو الحروب البحرية.

ونقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد «حياة دواب البحر بالمطر ، فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البحر والبرّ ، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي»(١) .

وبالطبع فإنّ ما ورد في هذه الرواية هو مصداق واضح للفساد وما ورد في شأن نزول المطر «وحياة دواب البحر به» فهو موضوع دقيق ، تؤكّد عليه التجربة ، فكلما قلّ ماء السماء «المطر» قل السمك في البحر ، حتى أنّنا سمعنا ممن يقطنون ساحل البحر يقولون: إن فائدة الغيث للبحر أكثر من فائدته للصحراء!.

وفي الآية التالية يأمر الله الناس بالسير في الأرض ليروا شواهد كثيرة «حيّة» من مسألة ظهور الفساد في الأرض بسبب المعاصي والذنوب من قبل الناس. ويوصي نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمرهم بذلك ، فيقول :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ) .

انظروا قصور «الظالمين» المتهدمة ، وأبراجها المتداعية والخزائن المطموسة ، وجماعاتهم المتفرقة ، ثمّ انظروا إلى قبورهم المدروسة وعظامهم النخرة!

وانظروا عاقبة أمر الظلم والشرك وما آلى إليه.

أجل( كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) .

والشرك أساس الفساد والانحراف والضلال!

ممّا يستلفت الانتباه ، أنّه حين كان الكلام في الآيات السابقة عن نعم الله ،

__________________

(١) تفسير القمي : طبقا لنقل تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٢١٠.

٥٤٧

كانت بدايته حول خلق الإنسان ثمّ رزقه من قبل الله( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ) إلّا أن الكلام في الآيات محل البحث التي تتحدث عن العقاب يبدأ الكلام فيها أوّلا بالإشارة إلى زوال النعم على أثر المعاصي والذنوب ، ثمّ الهلاك على أثر الشرك ، لأنّه عند الهبة والعطاء «أوّل الأمر يذكر الخلق ثمّ الرزق» وعند الاسترجاع ، «فأوّل الأمر زوال النعمة ثمّ الهلاك».

والتعبير بـ( كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) مع الالتفات إلى أنّ هذه السورة مكّية وكان المسلمون في ذلك الوقت قلّة ، فلعل ذلك إشارة إلى أن لا تخافوا من كثرة المشركين ، لأنّ الله أهلك من قبلهم من هو أشدّ منهم ، واكثر جمعا ، وهو في الوقت ذاته إنذار للطغاة ليسيروا في الأرض فينظروا بأم أعينهم عاقبة الظالمين من قبلهم!.

وحيث أن التصور والوعي والانتباه ، ثمّ العودة والإنابة إلى الله ، كل ذلك لا يكون ـ دائما ـ مفيدا ومؤثرا ، ففي الآية التالية يوجه القرآن الخطاب للنبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) (١) أي يتفرقون «فريق في الجنّة وفريق في السعير».

ووصف الدين بأنه «قيّم» مع ملاحظة أن «القيّم معناه الثابت والقائم» هو إشارة إلى أن هذا التوجه المستمر «أو الإقامة» هي للدين أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس ، فلا تمل عنه أبدا ، بل أقم وجهك للدين القيم!

وإنّما وجه الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضا.

__________________

(١) كلمة «مردّ» في جملة «لا مرد له من الله» مصدر ميمي وهو هنا بمعنى اسم الفاعل فيكون معنى الجملة : لا رادّ له من الله. والضمير في «له» يعود إلى «يوم» ويكون المفهوم العام للجملة. لا يستطيع أي كان أن يعيد ذلك اليوم من الله ، أي يقف بوجه القضاء والمحاكمة بتأخير ذلك اليوم و «تعطيله». والخلاصة : إنّه لا يخلف الله وعده ليعيد ذلك اليوم ، وليس لأحد سواه القدرة على ذلك ؛ فوقوع ذلك اليوم لا بدّ منه وهو يوم محتوم» (فلاحظوا بدقة).

٥٤٨

والتعبير بـ «يصدعون» من مادة «صدع» معناه في الأصل : كسر الإناء ، ثمّ انتقل بالتدريج إلى أي نوع من أنواع التفرق والتشتت. وهنا إشارة إلى انفصال صفوف أهل الجنان عن صفوف أهل النيران ، وكل من هذه الصفوف يتفرق إلى عدة صفوف ، وذلك لسلسلة المراتب في الجنان ، ودركات النيران «والعياذ بالله».

والآية التالية ـ بيان لهذا الانفصال في يوم القيامة ، إذ تقول :( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) .

كلمة «يمهدون» مشتقّة من «المهد» على زنة «عهد» وكما يقول الراغب في مفرداته فإنّ معناه السرير المعدّ للطفل ، ثمّ توسعوا في المعنى فصار المهد والمهاد لكل مكان مهيأ ومعد «وفيه منتهى الدعة والراحة» وقد انتخب هذا التعبير لأهل الجنّة والمؤمنين الصالحين ، من هذه الجهة.

والخلاصة : لا تحسبوا أن إيمانكم وكفركم وأعمالكم الصالحة والطالحة لها أثر على الله ، بل أنتم الذين تفرحون بها أو تساءون( يَوْمَ تَرَوْنَها ) .

ومن الطريف أنّ القرآن اكتفى في شأن الكفار بالتعبير بـ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) ولكن بالنسبة للمؤمنين تضيف الآية التالية : أن المؤمنين لا يرون أعمالهم فحسب ، بل يوليهم الله من مواهبه وفضله فيقول :( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) .

ومن المسلّم به أن هذا الفضل لا يشمل الكفار إذ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) ولا شكّ أنّ الله يعاملهم وفق عدالته ، ويجزيهم ما يستحقون ، لا أكثر ، لكن لا ينالهم منه فضل وموهبة أيضا.

* * *

٥٤٩

بحوث

١ ـ العلاقة بين الذنب والفساد

ممّا لا شك فيه أن كل ذنب يترك أثره في المجتمع ، كما يترك أثره في الأفراد عن طريق المجتمع أيضا ويسبب نوعا من الفساد في التنظيم الاجتماعي ، فالذنب والعمل القبيح ، وتجاوز القانون ، مثلها كمثل الغذاء السيء والمسموم ، إذ يترك أثره غير المطلوب والسيء في البدن شئنا أم أبينا ، ويقع الإنسان فريسة للآثار الوضعية لذلك الغذاء المسموم.

«الكذب» يسلب الاعتماد.

و «خيانة الأمانة» تحطّم الروابط الاجتماعية.

و «الظلم» يسبب إيذاء الآخرين وظلمهم.

والإفراط في الحرية يجرّ إلى الديكتاتورية ، والديكتاتورية تجر إلى الإنفجار.

و «ترك حقوق المحرومين» يورث العداوة والحقد والبغضاء ، و «تراكم الأحقاد والعداوات» يزلزل أساس المجتمع!.

والخلاصة ، أن كلّ عمل غير صحيح له أثره السيّء سواء كان ذلك في دائرة محدودة أم واسعة ، وأحد تفاسير الآية( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) هو هذا (وهذا يبيّن العلاقة الطبيعية بين الذنب والفساد ـ «هنا»).

إلّا أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ كثيرا من الذنوب ـ إضافة لما ذكرنا ـ تجلب معها سلسلة من الآثار السيئة ، وعلاقتها وارتباطها مع تلك الآثار ـ من الناحية الطبيعية على الأقل ـ غير معروفة.

فمثلا ورد في الرّوايات الإسلامية أن قطع الرحم يقصر العمر ، وأن أكل المال الحرام يورث ظلمة القلب ، وأن كثرة الزنا يورث فناء الناس ويقلل الرزق(١) .

__________________

(١) في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «للزنا عقوبات ثلاث منها في الدنيا وثلاث في الآخرة ، فأمّا العقوبات فى

٥٥٠

حتى أنّنا لنقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال»(١)

وقد ورد في القرآن نظير هذا المعنى في تعبير آخر ، حيث يقول القرآن :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

إذن فالفساد ـ في الآية محل البحث ـ هو الفساد الأعمّ «الذي يشمل المفاسد الاجتماعية ، والبلايا ، وسلب النعم والبركات».

وممّا يستلفت الانتباه أن الآية المتقدمة يستفاد منها ضمنا أن واحدا من حكم الآفات والبلايا تأثيرها التربوي على الناس ، إذ عليهم أن يروا رد الفعل الناتج من أعمالهم ليفيقوا من نومهم وغفلتهم ، ويعودوا إلى الطهارة والتقوى!

ولا نقول : إنّ جميع الشرور والآفات هي من هذا القبيل ، ولكننا نقول : إن قسما منها ـ على الأقل ـ فيه هذه الحكمة والغاية وبالطبع فإنّ له حكمة أخرى بحثناها في محلها.

٢ ـ فلسفة السير في الأرض

لقد وردت مسألة «السير في الأرض» ست مرات في القرآن المجيد ، (في سورة آل عمران والأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والروم) حيث وردت مرّة بقصد التفكر في أسرار الخلق (سورة العنكبوت الآية ٢٠) وخمس مرات بقصد العبرة من العواقب الوخيمة التي نالها الظالمون والجبابرة والطغاة الآثمون!

__________________

الدنيا فإنه يسلب النور من الإنسان ، ويبتله بموت الفجأة ، ويقطع الرزق. وأمّا التي في الآخرة فهو على سوء الحساب وغضب الله والخلود في نار جهنم» (سفينة البحار ـ مادة زنى).

(١) سفينة البحار (مادة ذنب).

(٢) الأعراف ، الآية ٩٦.

٥٥١

والقرآن يهتمّ بالمسائل العينية والحسية ـ التي يمكن لمس آثارها في الأمور التربوية ـ اهتماما خاصا ، ولا سيما أنّه يأمر المسلمين أن ينطلقوا من محيطهم المحدود إلى المدى الأرحب ، ويسيروا ويسيحوا في هذا العالم ، وليفكروا في أعمال الآخرين وسجاياهم وعواقب أمورهم ، وأن يستوحوا من هذه «الحياة» العابرة «ويدخروا ذخيرة قيمة» من العبرة والاطلاع!

إنّ القوى الشيطانية في العصر الحاضر ـ من أجل سعة استثمارها في العالم كافة ـ مشطت وفحصت جميع الدول والبلدان والأمم وطريقة حياتهم وثقافتهم ونقاط القوّة والضعف فيهم بصورة جيدة.

إنّ القرآن يقول : بدلا من هؤلاء المستكبرين سيروا أنتم في أرجاء الأرض وبدلا من خططهم ومؤامراتهم الشيطانية تعلموا دروسا رحمانية.

العبرة والإعتبار من حياة الآخرين أهم من التجارب الشخصية وأكثر قيمة ، لأنّ الإنسان ينبغي أن يتحمل خلال تجاربه أضرارا ليتعلم مسائل جديدة إلّا أن الإنسان عند استلهام العبرة من الآخرين يربح معارف جمة وثمينة دون أن يتحمل ضررا.

وأمر القرآن بالسير في الأرض ينطبق على أكمل الأساليب والطرق التي حصل عليها البشر في العصر الحاضر ، وذلك بأن يأخذوا بأيدي التلاميذ ـ بعد استيعاب المسائل في الكتب ـ ويسيروا في الأرض ، ويطالعوا الشواهد العينية التي قرءوها في الكتب!

وبالطبع فهناك اليوم نوع آخر من السير في الأرض بعنوان «السياحة» في العالم ، وذلك من قبل «الحضارة الشيطانية» لجلب الأموال والثروة «الحرام» التي راجت سوقها ، وغالبا ما تكون فيها أهداف منحرفة وتضليلية ، كنقل الثقافة السقيمة وإشاعة الهوى والسفاهة والحماقة واللهو هذه هي «السياحة المخربة»!

٥٥٢

ولكن الإسلام يؤيد السياحة التي تكون وسيلة لنقل الثقافات الصحيحة والتجارب المتراكمة ، واستكناه أسرار الخلق في عالم البشر وعالم الطبيعة ، واستلهام دروس العبرة من عواقب المفسدين والظالمين الوخيمة.

ولا بأس بالإشارة إلى أنّ هناك سياحة منعها الإسلام ونقرأ حديثا يقول : «لا سياحة في الإسلام»(١) .

والمراد من هذا الحديث هو في جميع سنوات حياتهم ـ أو بعضها ـ منفصلين عن الحياة الاجتماعية تماما ، ودون أن يكون لهم نشاط ملحوظ ، فهم يسيحون في الأرض ويعيشون كالرهبان! فيكونون عالة على الآخرين.

وبتعبير آخر : إنّ عمل هؤلاء بمثابة «الرهبانية السيارة» مقابل الرهبان الثابتين المنزوين في الدير والمنعزلين عن المجتمع ، وحيث أن الإسلام يخالف هذا الاتجاه والانزواء الاجتماعي ، فهو يعد هذه «السياحة» غير مشروعة أيضا.

٣ ـ الدين القيّم

كان الخطاب في الآيات المتقدمة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل تمام توجهه نحو الدين المستقيم والثابت ، الذي ليس فيه اعوجاج ولا انحراف ولا تزلزل في قواعده أبدا.

ومن الطريف أن تعبيرات أخرى في آيات القرآن المتعددة جاءت بصدد هذا الدين ، ففي الآية (١٠٥) من سورة يونس جاء التعبير عنه بالحنيف( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) .

وفي الآية (٣) من سورة الزمر وصف بالخالص( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) .

__________________

(١) مجمع البحرين مادة «سيح» ، وفي حديث آخر عن النّبي العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الكتاب نفسه نقرأ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سياحة أمتي الغزو والجهاد».

٥٥٣

وفي الآية (٥٢) من سورة النحل ، وصف بأنّه واصب ، أي لا يتغير( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

وفي الآية (٧٨) من سورة الحج وصف بأنه خال من الحرج والشدة( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) !

ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن!

وكل واحد من هذه الأمور يمثل بعدا من أبعاد الدين الإسلامي ، وهو في الوقت ذاته من باب اللازم والملزوم.

أجل ينبغي أن ينتخب مثل هذا الدين ، وأن يسعى في معرفته ، وأن يحفظ حتى آخر رمق!

٤ ـ لا عودة في يوم القيامة!

قرأنا في الآيات المتقدمة عن يوم القيامة قوله تعالى :( يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) ولا طريق للعودة إلى الدنيا!

ويلاحظ في آيات القرآن الأخر ما يشبه هذا التعبير ، ومن ذلك الآية (٤٤) من سورة الشورى ـ حين يرى الظالمون العذاب يقولون :( هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) .

كما وصف يوم القيامة في الآية (٤٧) من سورة الشورى ـ أيضا ـ بقوله تعالى :( يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) .

والحقيقة أن عالم الوجود له مراحل لا عودة فيها إلى مرحلة سابقة ، وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول!

ترى ، هل يرجع الطفل ـ سواء ولد كاملا أو ناقصا ـ جنينا مرّة أخرى إلى رحم أمه؟!

٥٥٤

وهل ترجع الثمرة المقطوفة من الشجرة ـ ناضجة كانت أم لا ـ إلى أغصانها؟!

فانتقال الإنسان من هذا العالم إلى العالم الآخر على هذه الشاكلة ، أي لا طريق للعودة أبدا وهذه حقيقة تخيف الإنسان وتهزّه وتنذره ليكون يقظا!.

* * *

٥٥٥

الآيات

( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) )

التّفسير

انظر إلى آثار رحمة الله :

قلنا : إن في هذه السورة قسما مهمّا «يستلفت النظر» من دلائل التوحيد

٥٥٦

وآيات الله ، مبينا في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله :( وَمِنْ آياتِهِ ) قرأنا ست آيات منها بصورة متتابعة ، والآية الأولى من الآيات أعلاه هي سابع الآيات التي مرت. وآخرها.

وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح ، فبيان دلائل التوحيد ـ أيضا ـ تأكيدا على ذلك!

تقول هذه الآية :( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ) فهي تمضي سابقة للغيث في حركتها ، فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى ، وتغطي صفحة السماء ، ومع تغير درجة حرارة الجو تهيء المطر للنزول من هذه الغيوم.

ولعلّ أهمية قدوم الرياح المبشرات ـ لأهل المدن المتنعمة ـ ليست جليّة واضحة إلّا أن أهل الصحاري اليابسة الظمأى إلى المطر ، ما إن تتحرك الرياح مصحوبة بالسحاب التي هطلت في نقطة أخرى ـ والنسيم يحمل رائحة الطلّ والرطوبة منها ، حتى يلمع وميض الأمل في قلوبهم.

وبالرغم من أنّ آيات القرآن تستند إلى البشارة في نزول الغيث أكثر من غيرها ، إلّا أنّه لا يمكن تحديد كلمة «مبشرات» في هذا المضمون فحسب ، لأنّ الرياح تصحب بشائر أخر أيضا.

فالرياح تبدل حرارة الجو وبرودته الشديدة إلى «الاعتدال».

والرياح تستهلك العفونة في الفضاء الكبير وتصفي الهواء.

والرياح تخفف من وطء حرارة الشمس على الأوراق والنباتات ، وتمنع من احتراقها بحرارة الشمس.

كما أنّ الرياح تنقل غاز الأوكسجين المتولد من النباتات وأوراق الشجر ـ إلى الإنسان ، وتهب غاز ثاني أوكسيد الكاربون الخارج مع زفير الإنسان وتنفسه إلى النباتات أيضا.

٥٥٧

وهي كذلك تؤدي وظيفة أخرى ، فقد أرسلها الله لواقح تنقل معها لقاح الأزهار الذكور للإناث.

والرياح تحرك الطواحين الهوائية وتصفي البيادر.

والرياح تنقل البذور من المناطق التي قد تجمعت فيها وتنثرها وتبسطها على الصحراء ، كأنّها فلاح مشفق ، فتغدو خضراء ممرعة بعد أن كانت يبابا.

والرياح تنقل السفن مع مسافريها وأثقالهم إلى نقاط مختلفة.

وحتى في هذا العصر الذي حلت الوسائل الحديثة «الماكنات» مكان الرياح ، فما تزال الرياح ذات أثر بالنسبة للسفن في اتجاهاتها المخالفة لها أو الموافقة لها سرعة وبطأ!

أجل ، أنّ الرياح مبشرات من جهات شتى.

ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى :( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

أجل ، إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين ، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضا ، وأخيرا فهي سبب للازدهار التجاري.

وقد أشير إلى الموضوع الأوّل بجملة( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) وإلى الثّاني بجملة( وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) وللثالث بجملة( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) !

والطريف هنا أن جميع هذه البركات منشؤها الحركة ، الحركة في ذرات الهواء في الفضاء الجوي لكن لا يعرف قدر أية نعمة حتى تسلب عن الإنسان! فيعرفها حينذاك. فما لم تتوقف هذه الرياح والنسائم ، فلا يعرف الإنسان ما ذا يحلّ به من بلاء؟!

فتوقف الهواء يجعل الحياة في أفضل الحقول كالحياة في أشد المطامير والسجون ظلمة! وعلى العكس فلو أن نسيما عليلا هب في خلايا السجون

٥٥٨

الانفرادية لجعلها كالفضاء الرحب «المفتوح» ، وعادة فإنّ واحدا من أساليب التعذيب في السجون هو سدّ منافذ الهواء!.

حتى أنّ الهواء لو توقف في المحيطات وهدأت الأمواج ، لأصبحت حياة الحيوانات البحرية مهددة بالخطر على أثر قلّة الأوكسجين ، ويتحول البحر حينذاك إلى مستنقع متعفن موحش!

يقول «الفخر الرازي» إن جملة( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) مع ملاحظة أن الإذاقة تستعمل في الشيء القليل ، فهي إشارة أن جميع الدنيا ونعمها لا تتجاور الرحمة القليلة ، أمّا الرحمة الواسعة (من قبل الله) فهي خاصة بالحياة الأخرى!.

وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم ، في حين أن الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة أخرى ، ولعل وجود هذه الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي ، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين.

ولعل ذكر النبوّة إلى جانب هذه المسائل ، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ والمعاد ، إذ ورد البحث عنهما مرارا في هذه السورة كما قاله بعض المفسّرين.

ويمكن أن يكون وجود هذه الآية إنذارا لأولئك الذين يتمتعون بجميع هذه النعم الكثيرة ويكفرون بها.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية تقول :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية ، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل ، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح( فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) ونصرنا المؤمنين( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

والتعبير بـ «كان» التي تدل على أن هذه السنة لها جدر عميق ، والتعبير بـ «حقّا» وبعده التعبير بـ «علينا» هو بنفسه مبين للحق ومشعر به ، جميع هذه

٥٥٩

الألفاظ تأكيدات متتابعة في هذا المجال وتقديم «حقا علينا» على «نصر المؤمنين» الذي يدل على الحصر ، هو تأكيد آخر. وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى «إن نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عمليا دون الحاجة إلى نصر من الآخرين».

وهذه الجملة ـ ضمنا ـ فيها تسلية وطمأنة لقلوب المسلمين ، الذين كانوا حينئذ في مكّة تحت ضغوط الأعداء واضطهادهم وكان الأعداء أكثر عددا وعددا.

وأساسا فإنّ أعداء الله طالما كانوا غرقى في الآثام والذنوب ، فإنّ ذلك بنفسه أحد عوامل انتصار المؤمنين ، لأنّ الذنب سيدمرهم آخر الأمر ويهيء وسائل هلاكهم بأيديهم ، ويرسل عليهم نقمة الله.

أمّا الآية الأخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول :( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ) (١) أي القطع الصغيرة المتراكمة ثمّ تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة( فَتَرَى الْوَدْقَ (٢) يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) .

أجل ، إن واحدا من الآثار المهمة عند نزول الغيث ، يقع على عاتق الرياح ، إذ تحمل قطعات السحاب من البحر إلى الأرض العطشى واليابسة ، والرياح هي المأمورة ببسط السحاب والغيوم في السماء جعلها متراكمة بعضها فوق بعض ، وبعد أن تلطف الجو وتصيره رطبا تهيء الغيث للنزول.

إن مثل الرياح كمثل راعي الغنم المحنّك ، الذي يجمع قطيع الغنم عند الاقتضاء من أطراف الصحراء ، ويسير بها في مسير معيّن ليقوم بالتالي على حلب

__________________

(١) «الكسف» جمع «كسفة» على وزن «حجلة» ومعناها القطعة ، وهي هنا ـ كما يبدو ـ إشارة إلى القطعات من الغيوم المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة ، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر.

(٢) «الودق» على وزن (الحلق) وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحيانا ، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء ، كما تطلق على قطرات «المطر» المتفرقة أحيانا

٥٦٠

لبنها!.

وجملة( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) لعلها إشارة إلى أن غلظة الغيوم وشدة هبوب الرياح ، ليستا في تلك الدرجة التي تمنع خروج قطرات الغيث الصغيرة من الغيم ونزولها على الأرض ، بل إن هذه الذرات الصغيرة ـ على الرغم من الغيوم المغطاة بها صفحة السماء ـ تجد طريقها من خلال الغيوم إلى الأرض ، وتتناثر ناعمة على الأراضي العطشى حتى ترويها بصورة جيدة وفي الوقت ذاته لا تدمر الثمر.

إن الرياح الشديدة والأعاصير التي تقلع الشجرة من أصلها أحيانا ـ على عظمتها وتحرك الصخور ، تأذن للقطرة الناعمة أن تمرّ من خلالها وتستقر على الأرض!

وينبغي الالتفات الى أن كون السحاب قطعات متراكمة «كسفا» ـ وإن لم يكن لنا جليا بهذه الصورة ـ في اليوم الغائم ، حيث تغطي هذه القطع صفحة السماء ، فلا نحس بأنّها على شكل قطع ، بل نراه سحابا مبسوطا لكن حين تقلّنا الطائرة وتحلق بنا فوق السحاب أو من خلاله ، نلمس هذه الظاهرة بوضوح!

ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلا :( فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) .

ثمّ تأتي الآية الأخرى بعدها فتقول :( وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) (١) .

وإنّما يدرك هذا اليأس أو تلك البشارة أمثال العرب الذين يعيشون في رحلاتهم وتنقّلهم في الصحراء ، ولحياتهم علاقة وصلة قريبة مع هذه القطرات ، فأولئك يتفق أحيانا أن يلقى اليأس ظلاله السوداء على أنفسهم الظمأى ، كما أن أراضيهم ومزارعهم تبدو عليها آثار العطش ، وفجأة تهب الرياح المبشرة بنزول

__________________

(١) «مبلس» مأخوذة من مادة الإبلاس ، ومعناها اليأس وعدم الرجاء.

٥٦١

المطر ، الرياح التي يشمّ من خلالها رائحة «الغيث»! وتمرّ لحظات ، فتتسع الغيوم في السماء ثمّ تغلظ وتكون أكثر كثافة ، ثمّ ينزل «القطر» والغيث ، وتمتلئ الحفر بالماء الزلازل ، وتفيض الروافد والسواقي الصغيرة والكبيرة من هذه المائدة السماوية ، وتعود الحياة النضرة إلى الأرض اليابسة ، كما تتبر عم الآمال في قلوب الرحّل في الصحراء ويشرق الأمل في قلوبهم ، وتنجلي عنها غيوم الظلمة واليأس والقنوط!

ويبدو أن تكرار كلمة «من قبل» في الآية للتأكيد ، إذ تبيّن الآية أن الوجوه كانت عابسة متجهمة من قبل المطر بلحظات ، أجل لحظات قبل المطر ، وهم قلقون ولكن حين ينزل عليهم الغيث تشرق فجأة الوجوه وتبتسم الشفاه ، فكم هو موجود ضعيف هذا الإنسان! وكم هو رحيم هذا الربّ.

ومثل هذا التعبير وارد في كلماتنا العرفية حيث نقول مثلا : إن فلانا كان بالأمس ، نعم بالأمس صديقا لنا ، واليوم هو من أعدائنا والهدف من هذا التكرار هو التأكيد على تغيير حالات الإنسان.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يتوجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا :( فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) .

والاهتمام أو الاعتماد على كلمة «انظر» هو إشارة إلى أن آثار رحمة الله في إحياء الأرض بالمطر ، هي من الوضوح بمكان بحيث تكفي نظرة واحدة لمشاهدة هذه الآثار ، دون حاجة للبحث والتدقيق.

والتعبير بـ( رَحْمَةِ اللهِ ) في شأن المطر هو إشارة الآثار المباركة فيه من جهات مختلفة!.

فالمطر يسقي الأرض ويرعى بذور النباتات ويهب الأشجار الحياة الجديدة!

وهو ينقيّ الجو والمحيط من الغبار المتراكم أو المتناثر في الفضاء.

٥٦٢

وهو يغسل النباتات ويمنحها النضرة والطراوة!.

وهو يمضي إلى أعماق التربة والأرض ، وبعد فترة يعود على شكل عيون وقنوات إلى سطح الأرض.

والمطر يدفع الأنهار والسيول وبعد تجمعها خلف السدود يتولد منها «الكهرباء» أو الطاقة والنور والحركة!.

وأخيرا فإنّ قطر السماء يحسّن الجوّ إذ يخفف من شدّة الحر ، ويهدئ من شدّة البرودة.

والتعبير بـ «الرحمة» عن المطر مذكور في عدة آيات من القرآن كما في الآية (٤٨) من سورة الفرقان ، والآية (٦٣) من سورة النمل ، ونقرأ كذلك في سورة الشورى الآية (٢٨) قوله تعالى :( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ) .

ومع الالتفات إلى العلاقة بين المبدأ والمعاد في المسائل المختلفة فإن «القرآن» يضيف قائلا في نهاية الآية :( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

والتعبير بـ «محيي» بصيغة اسم الفاعل مكان الفعل المضارع ، وخاصّة مع كونه مسبوقا بلام التوكيد ، دليل على منتهى التأكيد.

ولقد رأينا مرارا في آيات القرآن الكريم ، أن هذا الكتاب السماوي ـ من أجل إثبات مسألة المعاد ـ ينتخب نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها شاهدا على ذلك!.

ففي سورة (ق) الآية (١١) يعقب القرآن بعد التعبير بحياة الأرض بعد موتها قائلا :( كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) ! ويشبه هذا التعبير في الآية (٩) من سورة فاطر إذ يقول القرآن:( كَذلِكَ النُّشُورُ ) .

٥٦٣

والواقع أن قانون الحياة والموت في كل مكان متشابه فالذي يحي الأرض الميتة بقطرات السماء ، ويهبها الحركة والبهجة ، ويتكرر هذا العمل على طول السنة ، وأحيانا في كل يوم ، فإن له هذه القدرة على إحياء الناس بعد الموت ، فالموت بيده في كل مكان ، كما أن الحياة بأمره أيضا.

صحيح أن الأرض الميتة لا تحيى ظاهرا ، بل تنمو البذور التي في قلب الأرض ، ولكننا نعلم أن هذه البذور الصغيرة تجذب مقدارا عظيما من أجزاء الأرض إلى نفسها ، وتحوّل الموجودات الميتة إلى موجودات حية! وحتى بقايا هذه النباتات المتلاشية ـ أيضا ـ تمنح القدرة والقوة للأرض لكي تحيى من جديد.

وفي الحقيقة لم يكن لمنكري المعاد أي دليل على مدعاهم سوى الاستبعاد ، والقرآن المجيد إنّما يستشهد بهذه الأمثال لإحباط هذا الاستبعاد منهم أيضا.

* * *

٥٦٤

الآيات

( وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) )

التّفسير

الموتى والصّمّ لا يسمعون كلامك :

حيث أنّ الكلام كان ـ في الآيات السابقة ـ عن الرياح المباركة التي كانت مبشرات بالغيث والرحمة ، ففي أوّل آية من الآيات أعلاه إشارة إلى الرياح المدمّرة والتي تجلب الضرر ، إذ يقول القرآن في هذا الصدد :( وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ) .

أولئك هم الضعفاء الحمقى فهم قبل نزول الغيث مبلسون آيسون ، وبعد نزوله مستبشرون ، وإذا هبت ريح صفراء في بعض الأيّام وابتلوا مؤقتا تراهم يتصارخون وبالكفر يجأرون ويتجرءون!

٥٦٥

على العكس من المؤمنين الصادقين الذين هم بنعمة الله مستبشرون وعليها يشكرون ، وعند نزول المصائب والمشاكل تراهم صابرون ، ولا يؤثر التغيير المعاشي والحياتي المادي في إيمانهم أبدا ، وليسوا كعمي القلوب ضعيفي الإيمان ، الذين يظهرون إيمانهم بمجرّد هبوب الريح ، ويكفرون مرّة أخرى إذا هبت الريح بشكل آخر!

وكلمة «مصفرا» مشتقّة من «الصفرة» على زنة «سفرة» وهي لون معروف ، ويعتقد أكثر المفسّرين أن الضمير في «رأوه» يعود على الشجر والنباتات التي تصفر وذبل على أثر هبوب الرياح المخربة.

واحتمل بعضهم أنّ الضمير يعود على السحاب ، والسحاب المصفّر طبعا سحاب خفيف ، وهو عادة لا يحمل قطرا ، على العكس من الغيوم السود الكثيرة ، فإنّها تولد الغيث والقطر.

كما يعتقد بعضهم أنّ الضمير في «رأوه» يعود على الريح ، لأنّ الرياح الطبيعية عادة لا لون فيها (فهي عديمة اللون) إلّا أن الرياح التي تهب وهي مصفرة ، فهي ريح سموم وهجير ، وفي كثير من الأحيان تحمل معها الغبار.

وهناك احتمال رابع ، وهو أنّ «المصفّر» معناه الخالي ، لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته ، يطلق على الإناء الخالي ، والبطن الخالية من الطعام ، والأوردة من الدم أنّها (صفر) على وزن (سفر) ، فعلى هذا يكون هذا التعبير آنف الذكر في شأن الرياح الخالية من القطر والغيث.

وفي هذه الصورة يعود الضمير في «رأوه» على الريح (فلاحظوا بدقة).

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أشهر من الجميع!

وما يستلفت النظر ، هو أنّ الرياح النافعة ذات الغيث جاءت هنا بصيغة الجمع ، ولكن على العكس منها الريح التي تجلب الضرر فقد جاءت بصيغة المفرد ، وهي إشارة إلى أنّ معظم الرياح نافعة ومفيدة ، غير أن ريح السموم هي من

٥٦٦

الحالات الاستثنائية التي تهب أحيانا في السنة مرّة أو في الشهر مرّة لكن الرياح المفيدة تهب دائما (ليل نهار).

أو أنّها إشارة إلى أنّ الرياح النافعة إنّما تكون كذلك ويكون لها أثرها المفيد ، إذا تتابعت ، غير أن الريح السيئة تترك أثرها عند هبوبها في المرّة الأولى.

وآخر ما ينبغي الإشارة إليه من اللطائف الضرورية في ذيل هذه الآية ، هو التفاوت ما بين( يَسْتَبْشِرُونَ ) في شأن الرياح النافعة التي ذكرتها الآية المتقدمة ، وجملة( لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ) الواردة في الآية محل البحث.

وهذا الاختلاف أو التفاوت يدل على أنّهم يرون هذه النعم العظيمة المتتابعة التي أنعمها الله عليهم فيفرحون ويستبشرون ، غير أنّهم لو أصيبوا مرّة واحدة أو يوما واحدا بمصيبة ، فإنّهم يضجون ويكفرون حتى كأنّهم غير تاركين للكفر ، حل بهم!.

وهذا تماما يشابه حال أولئك الذين يعيشون عمرا بسلامة ولا يشكرون الله ، لكنّهم إذا مرضوا ليلة واحدة بالحمى «واشتعلوا بحرارتها» فإنّهم يظهرون الكفر وهذه هي حال الجهلة من ضعفاء الإيمان.

وكان لنا في هذا الصدد في الآية (٣٥) من هذه السورة ، والآيتين (٩) و (١٠) من سوره هود ، والآية (١١) من سورة الحج بحوث أخر أيضا.

وفي الآيتين التاليتين ـ بمناسبة البحث الوارد في الآية السابقة ـ فإن الناس يقسمون إلى أربعة طوائف :

١ ـ طائفة «الموتى» الذين لا يدركون أية حقيقة ، وإن كانوا أحياء في الظاهر!

٢ ـ وطائفة «الصم» الذين هم غير مستعدين للاستماع إلى الكلام الحق.

٣ ـ وطائفة «العمي» الذي حرموا من رؤية وجه الحق!

٤ ـ وأخيرا طائفة المؤمنين الصادقين الذين لهم قلوب يفقهون بها ، ولهم

٥٦٧

أعين يبصرون بها ، ولهم آذان يسمعون بها.

فتقول الآية الأولى :( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) ولذلك لا تؤثر مواعظك في أصحاب القلوب الميتة.

وكذلك( وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) .

وتأتي الآية الثّانية لبيان بقية الطوائف فتقول :( وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) .

وكما قلنا من قبل ، فإنّ القرآن لديه ما هو أفضل من «الحياة والموت الماديين والجسمانيين» وأفضل من السمع والبصر الظاهريين فلديه نوع اسمى من هذه الحياة والموت والسمع والبصر ، وتكمن فيها سعادة الإنسان أو شقاؤه!

فالقرآن لديه معيار لتقييم هذه الأمور ، لا بالقيمة المادية والفيزيائية ، بل القيمة المعنوية والإنسانية.

والشرط الأوّل لإدراك الحقيقة أن يكون للإنسان قلب مهيأ ومستعد ، وعين باصرة وأذن سميعة ، وإلّا فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياء وتلوا جميع الآيات الإلهية على من لا يدرك الحقيقة لما اقترفه من الذنوب واللجاجة والعناد ، فإنها لن تؤثر فيه!.

وإنّما أشار القرآن إلى هاتين الحاستين الظاهرتين ، بالإضافة إلى الإدراك الباطني فحسب ، فلأجل أن أكثر معلومات الإنسان ، إمّا أن يكون عن طريق هاتين الحاستين العين والأذن ، أو عن طريق الوجدان والتحليل العقلي!

والطريف هنا أنّ المراحل الثلاث ـ الواردة في الآيات الآنفة الذكر ـ هي ثلاث مراحل مختلفة من الانحراف وعدم درك الحقيقة ، وهي تبدأ من شديدها وتنتهي بالخفيف منها!

فالمرحلة الأولى : هي موت القلوب المعبر عنها بـ «الموتى» وهذه المرحلة ليس للحقيقة أي طريق للنفوذ فيها.

٥٦٨

والمرحلة الثّانية : مرحلة «الصمم» وعدم السمع ، ولا سيما عند أولئك الذين يديرون ظهورهم وهم في حالة الفرار ، فقد يؤثر فيهم الصراخ الشديد لو كانوا قريبين ، لكن في مثل هذه الحال وهم يفرون ، فلا!

وبالطبع فإنّ هذه الطائفة ليست كالموتى ، فمن الممكن أحيانا أن يتمّ تفهيمهم بالإشارة أو العلامة ، إلّا أنّنا نعرف أن كثيرا من الحقائق لا يمكن بيانها وإيصالها إلى الذهن بالإشارة! وخاصة حين يدير الطرف الآخر ظهره ويكون بعيدا.

المرحلة الثّالثة : (العمى) ، وبالطبع فإن الحياة مع العمي أسهل بمراتب من الحياة مع «الصم» أو الحياة مع «الموتى» ، فعلى الأقل لديهم آذان سميعة ، ويمكن إيصال كثير من المفاهيم إليهم لكن اين السمع في إدراك الحقائق من البصر؟!

ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ تبيين المسائل غير كاف وحده ، فلنفرض أن يقال للأعمى سر باتجاه اليمين أو اليسار ، فإنّ تطبيق هذا الأمر ليس سهلا ، وربّما بأقل خطأ ـ أحيانا ـ في تحديد المقدار ، يؤدي بالأعمى إلى السقوط!

وفي بحثنا المفصل في ذيل الآيتين (٨٠) و (٨١) من سورة النمل ، بيّنا ـ ضمن التحليل لحقيقة الحياة والموت ـ الإشكال الواهي الذي أثاره جماعة من الوهابيين ، إذ يستعينون بمثل هذه الآيات ـ محل البحث وغيرها ـ لإثبات عدم جواز التوسل بالنّبي والأئمّة الطاهرين ، ويقولون : إنّ الموتى (حتى النّبي) لا يفهمون شيئا.

غير أنّنا أثبتنا هناك أن الإنسان ـ خاصّة من هو بمستوى الأئمة الكرام والشهداء العظام ـ له نوع من الحياة البرزخية بعد الموت ، وهناك وثائق كثيرة وأدلة متعددة من القرآن والأحاديث تشهد بذلك وتؤيده ، وفي هذه الحياة البرزخية إدراك وبصر أوسع من الحياة الدنيوية (لمزيد الإيضاح يراجع التّفسير الأمثل ، ذيل الآيات المشار إليها آنفا).

٥٦٩

وهنا ينبغي أن نضيف هذه الجملة ، وهي أن جميع المسلمين في صلاتهم ـ دائما ـ يخاطبون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويسلمون عليه بهذه الجملة «السّلام عليك أيّها النّبي ورحمة الله وبركاته» ونعرف أنّ المخاطبة الحقيقة لا المجازية يجب أن تكون ـ حتما ـ مع إنسان يسمع ويدرك!

فعلى هذا الأساس لازم السلام على النّبي بهيئة المخاطبة من بعيد أو قريب ، أن روحه المقدسة تسمع جميع هذه التحيات ، ولا دليل يقودنا إلى أن نحمل هذه التحيات على المجاز!.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يشير القرآن إلى دليل آخر من أدلة التوحيد ، وهو دليل الفقر والغنى ، ويكمل البحوث التي تدور حول التوحيد في هذه السورة ، فيقول :( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ) .

كنتم في البداية ضعافا إلى درجة أنّكم لم تكن لكم القدرة على طرد الذباب عنكم ، أو أن تحافظوا على لعاب أفواهكم أن يسيل ، هذا من الناحية الجسمية ، أمّا من الناحية الفكرية فمصداقة قوله تعالى :( لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) بحيث لم تعرفوا حتى أبويكم المشفقين عليكم.

لكن ـ قليلا قليلا ـ صرتم ذوي رشد وقوّة ، وصار لكم جسم قوي ، وفكر جيد ، وعقل مقتدر إدراك واسع!

ومع هذه الحال لم تستطيعوا أن تحافظوا على هذه القوّة ، فمثلكم كمن يصعد من طرف الجبل إلى قمته ، ثمّ يبدأ بالانحدار من القمة إلى قعر الوادي ، الذي يمثل «مرحلة ضعف الجسم والروح».

هذا التغير والصعود والنّزول خير دليل لهذه الحقيقة ، وهي أنّه لم تكن القوّة من عندكم ولا الضعف ، فكل منهما كان من جهة أخرى ، وهذا بنفسه دليل على أن وراءكم من يدبّر أموركم ويسيّر حياتكم وما عندكم فهو أمر عارض!

٥٧٠

وهذا هو ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلامه النيّر إذ قال : «عرفت الله بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم»(١) .

لقد عرفت من هذا الاختلاف والتغير أن القوة الأصلية ليست بأيدينا ، فهي بيد الله ، وليس لدينا بنحو مستقل أي شيء سوى ما وهبنا إيّاه!

ومن الطريف أنّ القرآن يضيف ـ عند بيان الضعف الثّاني للإنسان ـ كلمة( وَشَيْبَةً ) غير أنّه لم يذكر «الطفولة» في الضعف الأول

وهذا التعبير ربّما كان إشارة إلى أن ضعف الشيخوخة والشيب أشدّ ألما ، لأنّه على العكس من ضعف الطفولة ، إذ يتجه نحو الفناء والموت هذا أوّلا.

وثانيا فإن ما يتوقع من الشيبة والمسنين مع ما لهم تجارب ليس كما يتوقع من الأطفال ، على حين أن ضعف كل منهما مشابه للآخر ، وهذا الموضوع يدعوا إلى الإعتبار كثيرا.

فهذه المرحلة هي التي تدفع الأقوياء والطغاة إلى الانحناء ، وتجرهم إلى الضعف والذلة!

أمّا آخر جملة في الآية فهي إشارة إلى علم الله الواسع وقدرته المطلقة :( يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) وهي بشارة وإنذار في الوقت ذاته ، أي إن الله مطلع على جميع نيّاتكم ، وهو قدير على مجازاتكم وثوابكم!

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة ٢٥٠.

٥٧١

الآيات

( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠) )

التّفسير

يوم لا ينفع الاعتذار :

قلنا إن في هذه السورة أبحاثا منسجمة ومتناغمة تتعلق بالمبدأ والمعاد وفي الآيات ـ محل البحث ـ يعقب القرآن على البحوث التي كانت حول المبدأ والمعاد أيضا ، فيعود إلى بيان مشهد من مشاهد يوم القيامة الأليمة ، وذلك بتجسيمه حالة المجرمين في ذلك اليوم ، إذ يقول :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ

٥٧٢

الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) في عالم البرزخ أجل( كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) فإنّهم فيما سبق كانوا محرومين من إدراك الحقائق ومصروفين عنها.

والتعبير بـ «الساعة» عن يوم القيامة ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ هو إمّا لأنّ يوم القيامة يقع في لحظة مفاجئة ، أو لأنّه من جهة أن أعمال العباد تحاسب بسرعة هناك ،

لأنّ الله سريع الحساب ، ونعرف أنّ «الساعة» في لغة العرب تعني جزءا أو لحظة من الزمن(١) .

وبالرغم من أنّ الآية المتقدمة لم تشر إلى مكان (اللبث) حتى احتمل بعضهم أنّ المراد منه هو لبثهم في الدنيا ، الذي هو في الواقع بمثابة لحظة عابرة لا أكثر ، إلّا أنّ الآية التي بعدها دليل واضح على أن المراد منه هو اللبث في عالم البرزخ وعالم ما بعد الموت وما قبل القيامة ، لأنّ جملة( لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ) تنهي هذا اللبث إلى يوم القيامة ، ولا يصح هذا إلّا في شأن البرزخ (فلاحظوا بدقة).

ونعرف ـ هنا أيضا ـ أن «البرزخ» ليس للجميع على شاكلة واحدة ، فقسم له في البرزخ حياة واعية ، وقسم مثلهم كمن يغط في نوم عميق ـ في عالم البرزخ ـ ويستيقظون في يوم القيامة ، ويتصورون آلاف السنين ساعة واحدة(٢) .

* * *

مسألتان

الأوّل : كيف يقسم المجرمون مثل هذا القسم الكاذب؟

والجواب واضح ، فهم يتصورون ـ واقعا ـ مثل هذا التصور ، ويظنون أن فترة

__________________

(١) كان لنا في هذا الصدد بحث مفصّل ذيل الآية (١٤) من هذه السورة.

(٢) بيّنا هذا البحث «المتعلق بموضوع البرزخ» في ذيل الآية ١٠٠ ، من سورة المؤمنون ، كما نوّهنا عن هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة هناك.

٥٧٣

البرزخ كانت قصيرة جدّا ، لأنّهم كانوا في حالة تشبه النوم ، ألا ترى أن أصحاب الكهف الذين كانوا صالحين مؤمنين ، حين أفاقوا بعد نوم طويل ، تصوروا أنّهم لبثوا يوما أو بعض يوم في منامهم.

أو أن أحد الأنبياء الواردة قصته في سورة البقرة (الآية ٢٥٩) بعد أن أماته الله مائة عامة ثمّ بعثه للحياة ثانية ، لم يظهر في تصوره غير أنّه لبث يوما أو بعض يوم.

فما يمنع أن يتصور المجرمون ـ مع ملاحظة حالتهم الخاصة في عالم البرزخ وعدم اطلاعهم ـ مثل هذا التصور!؟

لذا يقول المؤمنون الذين أوتوا العلم ـ كما تذكره الآية التي تأتي بعد هذه الآية ـ : إنّكم غير مصيبين في قولكم ، إذ لبثتم في عالم البرزخ إلى يوم القيامة ، وهذا هو يوم القيامة!.

ومن هنا تتّضح المسألة الثّانية. أي تفسير جملة( كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) لأنّ «الإفك» في الأصل معناه تبدل الوجه الحقيقي والانصراف عن الحق ، وهذه الجماعة ابتعدت عن الواقع لحالتها الخاصة في عالم البرزخ ، فلم تستطع أن تحدد لبثها في عالم البرزخ.

ومع ملاحظة أنّه لا حاجة لنا إلى الأبحاث الطويلة التي بحثها جمع من المفسّرين ، وفي أنّه لم يكذب المجرمون عمدا في يوم القيامة ، لأنّه ليس في الآية دليل على كذبهم العمد في هذه المرحلة!.

وبالطبع فإنّنا نرى في آيات القرآن الأخر أمثلة من أكاذيب المجرمين يوم القيامة ، وقد بيّنا الإجابة المفصلة على كل ذلك في ذيل الآية (٢٣) من سورة الأنعام ، لكن ذلك البحث لا علاقة له بموضوع هذه الآيات!

أمّا الآية التالية فتتحدث عن جواب المؤمنين المطلعين على كلام المجرمين الغافلين عن حالة البرزخ والقيامة فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا

٥٧٤

تَعْلَمُونَ ) .

وتقديم العلم على الإيمان هو لأنّ العلم أساس الإيمان.

والتعبير( فِي كِتابِ اللهِ ) لعله إشارة إلى الكتاب التكويني ، أو إلى الكتاب السماوي ، أو إشارة إليهما معا ، أي كان ـ بأمر الله التكويني والتشريعي ـ مقدّرا أن تلبثوا مثل هذه المدّة في البرزخ ، ثمّ تحشرون في يوم القيامة(١) .

وفي أن المقصود بـ( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ ) من هم؟!

قال بعض المفسّرين : هي إشارة إلى ملائكة الله الذين لهم علم وهم مؤمنون أيضا.

وقال بعضهم : المقصود هم المؤمنين العالمون ، والمعنى الثّاني أظهر طبعا.

وما ورد في بعض الرّوايات من تفسير هذه الآية بالأئمّة الطاهرين ، فهو من قبيل المصداق الواضح لها ، ولا يحدد معناها الوسيع.

وهذه اللطيفة جديرة بالالتفات ، وهي أن بعض المفسّرين قالوا : إنّ ما قاله المجرمون مقسمين بأنّهم ما لبثوا غير ساعة ، وما ردّه عليهم الذين أوتوا العلم والإيمان بأنّهم لبثوا إلى يوم البعث ، هذه المحاورة والكلام منشؤهما أنّ الطائفة الأولى ـ لأنّهم كانوا يتوقعون العذاب ـ كانوا يرغبون في تأخيره ، وكانت الفاصلة وإن طالت بالنسبة لهم قصيرة جدّا عندهم.

أمّا الطائفة الثّانية فلأنّهم كانوا ينتظرون الجنّة ونعمها الخالدة وراغبين في تقديمها ، فكانوا يرون الفاصلة طويلة جدّا(٢) .

وعلى كل حال ، فحين يواجه المجرمون واقعهم المرير المؤلم يظهرون

__________________

(١) في كون الآية ، هل فيها تقديم وتأخير ، أم لا؟ هناك كلام ونقاش بين المفسّرين والعلماء ، فقال بعضهم «في كتاب الله» متعلق بجملة «أوتوا العلم والإيمان» فيكون معنى الآية هكذا : الذين أوتوا العلم في كتاب الله ويؤمنون به قالوا مثل هذا الكلام ، وقال بعضهم «في كتاب الله» متعلق بجملة «لبثتم» ونحن اخترنا هذا الرأي أيضا في شرحنا للآية ، لأنّ الحكم بالتقديم والتأخير يحتاج إلى قرينة واضحة ولا نجد هنا قرينة على ذلك!.

(٢) تفسير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث.

٥٧٥

ندمهم ويتوبون ويعتذرون ممّا صنعوا ، لكن القرآن يقول في هذا الصدد :( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (١)

وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة ، وهي أن في بعض آيات القرآن تصريحا بعدم الإذن للمجرمين أن يعتذروا( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (٢)

غير أنّ الآية محل البحث تقول : لا ينفعهم الاعتذار هناك ، وظاهرها أنّهم يعتذرون ، إلّا أنّه لا أثر لاعتذارهم.

وبالطبع فإنّه لا تضاد بين هذه الآيات ، لأنّ يوم القيامة فيه مراحل مختلفة ، وفي بعض المراحل لا يؤذن للمجرمين بالاعتذار أبدا ويختم على أفواههم وإنّما تتحدث الجوارح بما أساءت فحسب وفي بعض المراحل تنطلق ألسنتهم بالاعتذار ، إلّا أنّه لا ينفعهم الاعتذار أبدا ...؟!

وواحد من أعذارهم أنّهم يلقون تبعات ذنوبهم على أشياخهم في الكفر والنفاق ، فيقولون لهم :( لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) (٣) ، إلّا أن أولئك يردون عليهم بالقول :( أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ ) (٤)

وأحيانا يلقون اللوم على الشيطان في تضليلهم وانحرافهم وأنّه وسوس لهم ، إلّا أن الشيطان يجيبهم( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (٥) ، أي لم أكرهكم على الكفر ، إلّا أنّكم استجبتم لي برغبتكم.

وفي الآية التالية إشارة لجميع المواضيع الوارد بيانها في هذه السورة إذ تقول :( وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) لقد ذكرنا فيه الوعد

__________________

(١) كلمة «يستعتبون» مشتقة من «عتب» على وزن «حتم» ومعناها في الأصل الاضطراب النفسي «الداخلي» وحين يصاغ هذا الفعل من باب الإفعال فيكون معناه ازالة هذا الأثر والاضطراب ، كما جاء في لسان العرب أن الاستفعال يؤدي معنى الإفعال هنا ، لذلك يقال في شأن الاسترضاء معناه طلب الرضا والتوبة ، ومعنى الكلمة هنا في الآية هو بمثل ما ذكرناه ، ومعنى ذلك أنّ المجرمين في يوم القيامة ليس لهم القدرة على التوبة.

(٢) المرسلات ، الآية ٣٦.

(٣) سبأ ، الآية ٣١.

(٤) سبأ ، الآية ٣٢.

(٥) إبراهيم ، الآية ٢٢.

٥٧٦

والوعيد ، الأمر والنهي ، البشارة والإنذار ، الآيات الآفاقية والأنفسية ، دلائل المبدأ والمعاد والأخبار الغيبية والخلاصة ذكرنا فيه كل شيء يمكن أن يؤثر في نفوس الناس.

وفي الحقيقة ، إنّ في القرآن ـ بشكل عام ـ وسورة الروم ـ بشكل خاص ـ حيث نحن الآن في مراحلها النهائية ، مجموعة من المسائل والدروس الموقظة لكل فئة ، ولكل طبقة ، ولكل جماعة ، ولكل فكر وأسلوب مجموعة من العبر ، والمسائل الأخلاقية ، والخطط والمناهج العملية ، والأمور الاعتقادية ، بحيث استفيد من جميع الطرق والأساليب المختلفة للنفوذ في أفكار الناس ودعوتهم إلى طريق السعادة!

ومع هذه الحال ، فهناك طائفة لا يؤثر في قلوبهم المظلمة السوداء أي من هذه الأمور ، لذلك يقول القرآن في شأنهم :( وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) .

والتعبير بـ «مبطلون» تعبير جامع يحمل كل معاني الدجل والافتراء والنسب الكاذبة والفاسدة من قبل المشركين ، كنسبة الكذب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والسحر والجنون والأساطير الخرافية ، إذ أن كل واحد من هذه الأمور يمثل وجها من وجوه الباطل ، وقد جمعت كل هذه الأمور تحت كلمة «مبطلون».

أجل ، إنّهم كانوا يتهمون الأنبياء دائما بواحد من هذه الأمور الباطلة ، ليشغلوا عنهم الناس الطيبين الطاهرين ولو لعدّة أيّام ـ بما ينسبونه للأنبياء ممّا أشرنا إليه.

والمخاطب في كلمة «أنتم» يمكن أن يكون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين الحقيقيين ، ويمكن أن يكون جميع أصحاب الحق من الأنبياء والائمّة المعصومينعليهم‌السلام وأتباعهم ، لأنّ هذه المجموعة من الكفار تخالف جميع اتباع الحق.

والآية التي بعدها تبيّن السبب في مخالفة هذه الطائفة ، فتقول : إن لجاجة هؤلاء التي لا حدّ لها وعداءهم للحق ، إنّما هو لفقدانهم الإحساس والإدراك

٥٧٧

بسبب كثرة ذنوبهم ، ولأنّهم لا يعلمون شيئا إذ تقول :( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

وكلمة «يطبع» مأخوذة من الطبع ، ومعناها ختم الشيء ، وهي إشارة إلى ما كان يجري في السابق ، وهو جار أيضا اليوم إذ يختم على الشيء كيلا يتصرف به ويغلق بإحكام ، وقد يضعون عليه القفل ويضربون عليه مادة لزجة مختومة بإشارة معينة كما بيّنا بحيث لا يمكن فتح ذلك الشيء إلّا بكسره ، فيفتضح أمره بسرعة.

وكان القرآن استعمل هذا التعبير كناية عن القلوب التي لا ينفذ إليها النصح ، والذين فقدوا الوجدان والعقل والعلم ، ولا أمل في هدايتهم.

وممّا يسترعي الانتباه أنّ في الآيات السابقة ذكر العلم أساسا للإيمان ، وفي هذه الآية ذكر الجهل أساسا للكفر وعدم التسليم للحق.

أمّا آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ التي تقع في آخر سورة الروم ، فهي تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرين مهمين ، وتبشره بشارة كبرى ، لتحثه على مواصلة الوقوف والتصدي للمشركين والجاهلين والسفهاء بالاستقامة والصبر.

تقول أوّلا : إذا كان الأمر كذلك ، فعليك بالصبر والاستقامة امام الحوادث المختلفة ، وفي مقابل انواع الأذى والبهتان والمصاعب( فَاصْبِرْ ) .

لأنّ الصبر والاستقامة هما مفتاح النصر الأصيل.

وليكون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر اطمئنانا ، فإنّ الآية تضيف( إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) فقد وعدك والمؤمنين بالنصر ، والاستخلاف في الأرض ، وغلبة الإسلام على الكفر ، والنور على الظلمة ، والعلم على الجهل. وسوف يلبس هذا الوعد ثوب العمل!.

وكلمة «الوعد» هنا إشارة إلى الوعود المكررة التي وعدها القرآن في انتصار المؤمنين ، ومن ضمنها الآية (٤٧) من هذه السورة( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

والآية (٥١) من سورة غافر( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

٥٧٨

وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ! ) .

وتقول الآية (٥٦) من سورة المائدة أيضا( فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) .

وتأمر ثانيا بضبط الأعصاب والهدوء وعدم الانحراف في المواجهة الشديدة والمتتابعة ، حيث تقول الآية :( وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) .

إنّ مسئوليتك أن تتحمل كل شيء ، وأن يتسع صدرك وخلقك لجميع الناس فهذا هو الجدير بقائد وزعيم لأمثال هؤلاء.

كلمة( لا يَسْتَخِفَّنَّكَ ) مشتقّة من «الخفة» وهي خلاف الثقل ، أي كن رزينا قائما على قدميك لئلا يهزك مثل هؤلاء الأفراد ويحركوك من مكانك ، وكن ثابتا ومواصلا للمسيرة باطمئنان ، إذ أنّهم فاقدو اليقين ، وأنت مركز اليقين والإيمان!.

هذه السورة بدأت بوعد انتصار المؤمنين على الأعداء ، وانتهت أيضا بهذا الوعد ، إلّا أن شرطها الأساس هو الصبر والاستقامة!.

* * *

ربّنا ، هب لنا صبرا واستقامة حتى لا يهزنا طوفان الحوادث والمشاكل من مكاننا أبدا.

إلهنا ، نلتجئ إلى ذاتك المقدسة ، ألّا نكون من زمرة الذين لا تؤثر في قلوبهم الموعظة والنصح والإرشاد والعبر والنذر!.

إلهنا ، إن أعداءنا متحدون ، وهم مسلّحون بأنواع الأسلحة الشيطانية ، فانصرنا ـ ربّنا ـ على أعدائنا في الخارج ، وشيطاننا في الداخل.

آمين يا رب العالمين

انتها ء سورة الروم

ونهاية المجلد الثاني عشر

* * *

٥٧٩
٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592