الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174795 / تحميل: 5995
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام ، وكنت غارقة في الزينة والتجميل ، وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا.

أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّا وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الإنسان ولا تبلّ غليل روحه!.

ربّاه أتيت إليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي إليك. الطريف هنا أنّها تقول : أسلمت مع سليمان ، فتستعمل كلمة (مع) ليتجلّى أن الجميع إخوة في السبيل إلى الله! لا كما يعتاده الجبابرة إذ يتسلط بعضهم على رقاب بعض ، وترى جماعة أسيرة في قبضة آخر.

فهنا لا يوجد غالب ومغلوب ، بل الجميع ـ بعد قبول الحق ـ في صف واحد!.

صحيح أن ملكة سبأ كانت قد أعلنت إيمانها قبل ذلك أيضا ، لأنّنا سمعنا عن لسانها في الآيات آنفة الذكر( وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ) .

إلّا أن إسلام الملكة هنا وصل إلى أوجه ، لذلك أكّدت إسلامها مرّة أخرى.

إنها رأت دلائل متعددة على حقانية دعوة سليمان.

فمجيء الهدهد بتلك الحالة الخاصّة!

وعدم قبول سليمان الهدية الثمينة المرسلة من قبلها.

وإحضار عرشها في فترة قصيرة من مدى بعيد.

وأخيرا مشاهدة قدرة سليمان الاعجازية ، وما لمسته فيه من أخلاق دمثة لا تشبه أخلاق الملوك!

* * *

بحثان

١ ـ عاقبة أمر ملكة سبأ

كان هذا كل ما ورد في القرآن المجيد عن ملكة سبأ إذ آمنت أخيرا ولحقت

٨١

بالصالحين لكن هل عادت إلى وطنها بعد إيمانها ، وواصلت حكمها من قبل سليمان ، أو بقيت عند سليمان وتزوجت منه؟! أو تزوجت من أحد ملوك اليمن المشهورين باسم «تبّع»؟

هذه الأمور لم يشر إليها القرآن الكريم ، لأنّها لا علاقة لها بالهدف الأصلي الذي يبتغيه القرآن من المسائل التربوية! إلّا أن المؤرّخين والمفسّرين كلّا منهم اختار رأيا ، ولا نجد ضرورة في الخوض في ذلك ، وإن كان المشهور ـ طبقا لما قاله أغلب المفسّرين ـ أنّها تزوّجت من سليمان نفسه(١) .

إلّا أنّه ينبغي أن نذكّر بهذا الأمر المهم ، وهو أنّه وردت أساطير كثيرة حول سليمان وجنوده وحكومته وخصوصيات ملكة سبأ. وجزئيات حياتها أيضا ، ممّا يصعب على عامة الناس تمييزها من الحقائق التاريخية ، وربّما يغشّي هذه الحقائق التاريخية. ظلّ مظلم من الخرافات يشوه وجهها الناصع وهذه هي نتيجة الخرافات المتداخلة في الحقائق التي ينبغي أن تراقب مراقبة تامّة!.

٢ ـ خلاصة عامة عن حياة سليمان

ما ورد عن سيرة سليمان وحالاته في الثلاثين آية آنفة الذكر ، يكشف عن مسائل كثيرة ، قرأنا قسما منها في أثناء البحث ، ونشير إلى القسم الآخر إشارة عابرة :

١ ـ إنّ هذه القصّة تبدأ بالحديث عن موهبة (العلم الوافر) التي وهبها الله لسليمان بن داود ، وتنتهي بالتسليم لأمر الله ، وذلك التوحيد أساسه العلم أيضا.

٢ ـ هذه القصّة تدل على أن غياب طائر أحيانا (في تحليقة استثنائية) قد يغير مسير تأريخ أمّة ، ويجرها من الفساد إلى الصلاح ، ومن الشرك إلى الإيمان وهذا مثل عن بيان قدرة الله ، ومثل من حكومة الحق!.

__________________

(١) الآلوسي في روح المعاني.

٨٢

٣ ـ إنّ هذه القصّة تكشف عن أن نور التوحيد يشرق في جميع القلوب ، حتى الطائر الذي يبدو ظاهرا أنّه صامت ، فإنّه يخبر عن أسرار التوحيد العميقة!.

٤ ـ ينبغي من أجل لفت نظر الإنسان إلى القيمة الواقعية له وهدايته نحو الله ، أن يدمّر غروره وكبرياؤه أولا ليماط عن وجه ستار الظلام ، كما فعل سليمان ، فدمر غرور ملكة سبأ وذلك بإحضار عرشها ، وإدخالها الصرح الممرد الذي حسبته لجة.

٥ ـ إنّ الهدف النهائي في حكومة الأنبياء ليس التوسع في رقعة الأرض ، بل الهدف هو ما قرأناه في آخر آية من الآيات محل البحث ، وهو أن يعترف الظالم بذنبه ، وأن يسلم لربّ العالمين ، ولذلك فإن القرآن ختم بهذه «اللطيفة» القصّة المذكورة.

٦ ـ إنّ روح الإيمان هي التسليم ، لذلك فقد أكّد سليمان عليه في كتابه إلى ملكة سبأ.

٧ ـ قد يكون بعض الناس مع ما لديه من قدرة عظيمة لا ترقى إليه قدرة الآخرين ، محتاجا إلى موجود ضعيف كالطائر مثلا ، لا إلى علمه فحسب ، بل قد يستعين بعلمه أيضا ، وقد تحقّره نملة بما هي عليه من ضعف!

٨ ـ إنّ نزول هذه الآيات في مكّة حيث كان المسلمون تحت نير العدو ، وكانت الأبواب موصدة بوجوههم ، هذا النّزول كان له مفهومه الخاص. وهو تقوية معنويات المسلمين وتسلية قلوبهم ، واحياء أملهم بلطف الله ورحمته والانتصارات المقبلة.

* * *

٨٣

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) )

التّفسير

صالح في ثمود :

بعد ذكر جانب من قصص موسى وداود وسليمانعليه‌السلام فإنّ هذه الآيات تتحدث عن قصّة رابع نبيّ ـ وتبيّن جانبا من حياته مع قومه ـ في هذه السورة ، وهي ما جاء عن صالحعليه‌السلام وقومه «ثمود»!

إذ يقول القرآن :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) (١) .

وكما قيل من قبل : إنّ التعبير بـ «أخاهم» الوارد في قصص كثير من الأنبياء ، هو إشارة إلى منتهى المحبّة والإشفاق من قبل الأنبياء لأممهم ، كما أن في بعض المواطن إشارة الى علاقة القربى «الروابط العائلية للأنبياء بأقوامهم».

__________________

(١) جملة (أن اعبدوا الله) مجرورة بحرف جر مقدر وأصلها : ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا بعبادة الله.

٨٤

وعلى كل حال ، فإنّ جميع دعوة هذا النّبي العظيم تلخصت في جملة( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) . أجل ، إنّ عبادة الله هي عصارة كل تعليمات رسل الله.

ثمّ يضيف قائلا :( فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ ) (١) . المؤمنون من جهة والمنكرون المعاندون من جهة أخرى.

وقد عبر في الآيتين ٧٥ و ٧٦ من سورة الأعراف عن الفريقين ، بالمستكبرين والمستضعفين :( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) .

وبالطبع فإنّ هذه المواجهة بين الفريقين «الكفار والمؤمنين» تصدق في شأن كثير من الأنبياء ، بالرغم من أن بعض الأنبياء بقوا محرومين حتى من هذا المقدار القليل من الأنصار حيث وقف كل افراد قومهم ضدهم.

فأخذ صالحعليه‌السلام ينذرهم ويحذرهم من عذاب الله الأليم إلّا أنّ أولئك لم يستجيبوا له وتمسكوا بعنادهم وطلبوا منه بإصرار أن إذا كنت نبيّا فليحل بنا عذاب الله «وقد صرحت الآية ٧٧ من سورة الأعراف بأنّهم سألوا نبيّهم نزول العذاب»( وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

إلّا أن صالحا أجابهم محذرا و( قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) .

فلم تفكرون بعذاب الله دائما وتستعجلونه؟ ألا تعلمون أن عذاب الله إذا حلّ بساحتكم ختم حياتكم ولا يبقى مجال للايمان؟

تعالوا واختبروا صدق دعوتي في البعد الايجابي والأمل في رحمة الله في

__________________

(١) كلمة (فريقان) تثنية ، وفعلها مسند إلى ضمير الجميع ، وذلك لأنّ كل فريق يتألف من جماعة فأخذ الجمع بنظر الإعتبار

٨٥

ظل الإيمان به( لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) !.

علام تسألون عن نزول العذاب وتصرون على السيئات؟! ولم هذا العناد وهذه الحماقة؟!

لم يكن قوم صالح ـ وحدهم ـ قد طلبوا العذاب بعد انكارهم دعوة نبيّهم ، فقد ورد في القرآن المجيد هذا الأمر مرارا في شأن الأمم الآخرين ، ومنهم قوم هود «كما في الآية ٧٠ من سورة الأعراف».

ونقرأ في شأن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما واجهه به بعض المشركين المعاندين ، إذ قالوا :( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .(١) وهذا أمر عجيب حقّا أن يريد الإنسان اختبار صدق دعوة نبيّه عن طريق العقاب المهلك ، لا عن طريق طلب الرحمة! مع أنّهم يعلمون يقينا احتمال صدق دعوة هؤلاء الأنبياء «يعلمون ذلك في قلوبهم وإن أنكروه بلسانهم».

وهذا الأمر يشبه حالة ما لو أدعى رجل بأنّه طبيب ، فيقول : هذا الدواء ناجع شاف ، وذلك الدواء ضار مهلك. ونحن من أجل أن نختبر صدقه نستعمل الدواء المهلك!!

فهذا منتهى الجهل والتعصب ولمرض الجهل الكثير من هذه الافرازات.

وعلى كل حال ، فإنّ هؤلاء القوم المعاندين بدلا من أن يصغوا لنصيحة نبيّهم ويستجيبوا له ، واجهوه باستنتاجات واهية وكلمات باطلة! منها أنّهم( قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ) ولعل تلك السنة كانت سنة قحط وجدب ، فقالوا : إنّ هذا البلاء والمشاكل والعقبات كلّها بسبب قدوم هذا النّبي وأصحابه فهم مشئومون

__________________

(١) الأنفال ، الآية ٣٢.

٨٦

جلبوا الشقاء لمجتمعنا!!

فكانوا يحاولون مواجهة دعوة نبيّهم صالح ومنطقه المتين بحربة التطير ، التي هي حربة المعاندين الخرافيين.

لكنّه ردّ عليهم و( قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) فهو الذي يبتليكم بسبب أعمالكم بهذه المصائب التي أدت إلى هذه العقوبات.

في الحقيقة إن ذلك اختبار وإمتحان إلهي كبير لكم ، أجل( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ) .

هذه امتحانات وفتن إلهية هذه إنذارات وتنبيهات لينتبه ـ من فيهم اللياقة من غفلتهم ، ويصلحوا انحرافهم ويتجهوا نحو الله!.

* * *

بحث

«التطيّر والتفاؤل»

«التطيّر» مأخوذ من مادة «طير» وهو معروف ، إذ يعني ما يطير بجناحين في الجوّ ، ولما كان العرب يتشاءمون غالبا من بعض الطيور ، سمي الفأل غير المحبوب تطيّرا ، وهو في قبال «التفأل» ومعناه الفأل الحسن المحبوب.

وقد وردت في القرآن الإشارة إلى هذا المعنى مرارا وهي أن المشركين الخرافيّين كانوا يواجهون أنبياءهم بحربة التطير ، كما نقرأ ذلك في قصّة موسى وأصحابه( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ) (١) .

وفي الآيات ـ محل البحث ـ أظهر قوم «ثمود» المشركون رد فعلّهم في

__________________

(١) الأعراف ، ١٣١.

٨٧

مقابل نبيّهم «صالح» بالتطير أيضا.

وأساسا ، ونقرأ في سورة «يس» أن المشركين تطيّروا من مجيء رسل المسيحعليه‌السلام الى «انطاكية» (يس ـ ١٨).

فإنّ الإنسان لا يمكن أن يقف أمام الحوادث على حال واحدة ، فلا بدّ أن يفسّر آخر الأمر لكل حادثة علة فإذا كان الإنسان مؤمنا موحدا لله ، فإنّه يرجع العلل إلى ذاته المقدسة تعالى طبقا لحكمته ، فكل شيء عنده بمقدار ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. ولو استند إلى العلم في تحليل العلة والمعلول الطبيعيين ، فستحل مشكلته ايضا ، وإلّا فإنّه سينتج أوهاما وخرافات لا أساس لها أوهاما لا حد لها وأحدها «التطير» والفأل السيء!

مثلا كان عرب الجاهلية إذا رأوا الطائر يتحرك من اليمين نحو الشمال عدوّه فألا حسنا ، وإذا رأوه يتحرك من الشمال «اليسار» نحو اليمين عدّوه فألا سيئا ، ودليلا على الخسران أو الهزيمة! وغيرها من الخرافات الكثيرة عندهم(١) .

واليوم يوجد ـ من قبيل هذه الخرافات والأوهام ـ الكثير في مجتمعات لا تؤمن بالله ، وإن حققت نصرا من حيث العلم والمعرفة ، بحيث لو سقطت «مملحة» على الأرض أقلقتهم إلى حد كبير! ويستوحشون من الدار أو البيت أو الكرسي المرقم بـ ١٣ ، وما زالت سوق المنجمين وأصحاب الفأل رائجة غير كاسدة! فهناك مشترون كثر «للطالع والبخت»!.

إلّا أنّ القرآن جمع كل هذه الأمور فجعلها في جملة موجزة قصيرة فقال :( طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) .

__________________

(١) يشير الكميت الأسدي إلى بعض هذه الخرافات في قصيدته البائية فيقول :

ولا أنا ممن يزجر الطير همّه

أصاح غراب أم تعرض ثعلب

ولا السانحات البارحات عشية

أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب (المصحح).

٨٨

أجل ، فطائركم وطالعكم وانتصاركم وهزيمتكم وتوفيقكم وفشلكم كله عند الله ، الله الحكيم الذي يهب عطاياه لمن كانت عنده اللياقة ، واللياقة بدورها انعكاس تنعكس عن الايمان والأعمال الصالحة أو الطالحة!.

وهكذا فإنّ الإسلام يدعو أتباعه ليخرجهم من وادي الخرافة إلى الحقيقة ، ومن المفازة(١) إلى الصراط المستقيم.

«كان لنا بحث مفصل في مجال التطير والتفاؤل ذيل الآية ١٣١ من سورة الأعراف».

* * *

__________________

(١) المفازاة تأتي بمعنى الفوز ، وتأتى بمعنى الهلاك فهي من الأضداد في اللغة ـ وهنا معناها الصحراء المهلكة (المصحح).

٨٩

الآيات

( وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) )

التّفسير

تآمر تسعة رهط في وادي القرى :

نقرأ هنا قسما آخر من قصّة «صالح» وقومه ، حيث يكمل القسم السابق ويأتي على نهايته ، وهو ما يتعلق بالتآمر على قتل «صالح» من قبل تسعة «رهط»(١) من المنافقين والكفار ، وفشل هذا التآمر! في وادي القرى منطقة «النّبي صالح وقومه».

__________________

(١) «الرهط» من الناس ما لا يقل عن الثلاثة ولا يزيد عن العشرة ، وهو اسم جنس لا مفرد له من نوعه ويجمع على أراهط وأرهاط ـ ولا يكون في الرهط امرأة (المصحح).

٩٠

يقول القرآن في هذا الشأن( وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) .

ومع ملاحظة أنّ «الرّهط» يعني في اللغة الجماعة التي تقلّ عن العشرة أو تقلّ عن الأربعين ، فإنّه يتّضح أن كلّا من المجموعات الصغيرة التسع كان لها منهج خاص ، وقد اجتمعوا على أمر واحد ، وهو الإفساد في الأرض والإخلال بالمجتمع (ونظامه الاجتماعي) ومبادئ العقيدة والأخلاق فيه.

وجملة «لا يصلحون» تأكيد على هذا الأمر ، لأنّ الإنسان قد يفسد في بعض الحالات ثمّ يندم ويتوجه نحو الإصلاح إنّ المفسدين الواقعيين ليسوا كذلك ، فهم يواصلون الفساد والإفساد ولا يفكرون بالإصلاح!.

وخاصّة أن الفعل في الجملة «يفسدون» فعل مضارع ، وهو يدل على الاستمرار ، فمعناه أن إفسادهم كان مستمرا وكلّ رهط من هؤلاء التسعة كان له زعيم وقائد ويحتمل أن كلّا ينتسب إلى قبيلة!.

ولا ريب أن ظهور «صالح» بمبادئه السامية قد ضيّق الخناق عليهم ، ولذلك تقول الآية التالية في حقّهم :( قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) .

«تقاسموا» فعل أمر ، أيّ اشتركوا جميعا في اليمين ، وتعهّدوا على هذه المؤامرة الكبرى تعهدا لا عودة فيه ولا انعطاف!.

الطريف أنّ أولئك كانوا يقسمون بالله ، ويعني هذا أنّهم كانوا يعتقدون بالله ، مع أنّهم يعبدون الأصنام ، وكانوا يبدأون باسمه في المسائل المهمّة كما يدل هذا الأمر على أنّهم كانوا في منتهى الغرور و «السكر» بحيث يقومون بهذه الجناية الكبرى على اسم الله وذكره!! فكأنّهم يريدون أن يقوموا بعبادة أو خدمة مقبولة إلّا أنّ هذا نهج الغافلين المغرورين الذين لا يعرفون الله والضالين عن الحق.

وكلمة «لنبيتنّه» مأخوذة من «التبييت» ، ومعناه الهجوم ليلا ، وهذا التعبير

٩١

يدلّ على أنّهم كانوا يخافون من جماعة صالح وأتباعه ، ويستوحشون من قومه لذلك ومن أجل أن يحققوا هدفهم ولا يكونوا في الوقت ذاته مثار غضب أتباع صالح ، اضطروا إلى أن يبيتوا الأمر ، واتفقوا أن لو سألوهم عن مهلك النّبي ـ لأنّهم كانوا معروفين بمخالفته من قبل ـ حلفوا بأن لا علاقة لهم بذلك الأمر ، ولم يشهدوا الحادثة أبدا.

جاء في التواريخ أن المؤامرة كانت بهذه الصورة ، وهي أن جبلا كان في طرف المدينة وكان فيه غار يتعبّد فيه صالح ، وكان يأتيه ليلا بعض الأحيان يعبد الله فيه ويتضرع إليه ، فصمّموا على أن يكمنوا له هناك ليقتلوه عند مجيئه في الليل ، ويحملوا على بيته بعد استشهاده ثمّ يعودوا إلى بيوتهم ، وإذا سئلوا أظهروا جهلهم وعدم معرفتهم بالحادث.

فلمّا كمنوا في زاوية واختبئوا في ناحية من الجبل انثالت صخور من الجبل تهوي إلى الأرض ، فهوت عليهم صخرة عظيمة فأهلكتهم في الحال!

لذلك يقول القرآن في الآية التالية :( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

ثمّ يضيف قائلا :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وكلمة (مكر) ـ كما بينّاها سابقا ـ تستعملها العرب في كل حيلة وتفكير للتخلص أو الاهتداء إلى أمر ما ولا تختص بالأمور التي تجلب الضرر ، بل تستعمل بما يضر وما ينفع فيصح وصف المكر بالخير إذا كان لما ينفع ، ووصفه بالسوء إذا كان لما يضرّ قال سبحانه :( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) . وقال :( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) ! «فتأملوا بدقّة» يقول الراغب في المفردات المكر صرف الغير عما يقصده فبناء على هذا إذا نسبت هذه الكلمة إلى الله فإنّها تعني إحباط المؤامرات الضارة من قبل

٩٢

الآخرين ، وإذا نسبت إلى المفسدين فهي تعني الوقوف بوجه المناهج الإصلاحية ، والحيلولة دونها.

ثمّ يعبّر القرآن عن كيفية هلاكهم وعاقبة أمرهم فيقول :( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ) .

فلا صوت يسمع منها

ولا حركة تتردد

ولا أثر من تلك الزخارف والزبارج والنعم والمجالس الموبوءة بالذنوب والخطايا.

أجل ، لقد أذهبهم ريح عتوّهم وظلمهم ، واحترقوا بنار ذنوبهم فهلكوا جميعا( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

إلّا أن الأخضر لم يحترق باليابس ، والأبرياء لم يؤخذوا بجرم الأشقياء بل سلم المتقون( وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ عقوبة ثمود

تختلف تعابير آيات القرآن في موضوع هلاك قوم صالح «ثمود».

فتارة يأتي التعبير عن هلاكهم بالزلزلة( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) .(١)

وتارة يقول : «عنهم» القرآن :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) (٢) .

وتارة يقول :( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) (٣) .

__________________

(١) الأعراف ، الآية ٧٨.

(٢) الذاريات ، ٤٤.

(٣) هود ، ٦٧.

٩٣

إلّا أنّه لا منافاة بين هذه التعابير الثلاثة أبدا لأنّ «الصاعقة» هي الشعلة الكبيرة بين السحاب والأرض المقرونة بصيحة عظيمة واهتزاز شديد في الأرض «ذكرنا تفصيلا عن الصيحة السماوية في ذيل الآية ٦٧».

٢ ـ روى بعض المفسّرين أن أصحاب صالح الذين نجوا معه كانوا أربعة آلاف رجل ، وقد خرجوا بأمر الله من المنطقة الموبوءة بالفساد إلى حضر موت»(١) .

٣ ـ «خاوية» من (الخواء) على وزن (الهواء) معناه السقوط والهويّ والانهدام ، وقد يأتي الخواء بمعنى الخلو وهذا التعبير ورد في سقوط النجم وهويّه ، إذا قالوا «خوى النجم» أي هوى.

ويرى الراغب في المفردات أن الأصل في «خوى» هو الخلو ويرد هذا التعبير في البطون الغرثى ، والجوز الخالي ، والنجوم التي لا تعقب الغيث ، كان عرب الجاهلية يعتقدون أن كل نجم يظهر في الأفق يصحبه الغيث! «المطر».

٤ ـ روي عن ابن عباس أنّه قال : استفدت من القرآن أن الظلم يخرب البيوت ويهدمها ، ثمّ استدل بالآية الكريمة( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ) (٢) .

وفي الحقيقة فإن تأثير الظلم في تخريب البيوت والمدن والمجتمعات لا يقاس بأي شيء ، فالظلم يأتي بالصاعقة المهلكة ، والظلم يزلزل ويدمر والظلم له أثر كأثر الصيحة ـ في السماء ـ المهلكة المميتة ، وقد أكد التأريخ مرارا هذه الحقيقة وأثبتها ، وهي أن الدنيا قد تدوم مع الكفر ، إلّا أنّها لا تدوم مع الظلم أبدا.

٥ ـ ما لا شك فيه أن عقاب ثمود «قوم صالح» كان بعد أن عقروا الناقة «قتلوها» وكما يقول القرآن في الآيات (٦٥) ـ (٦٧) من سورة هود :( فَعَقَرُوها

__________________

(١) راجع الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، والقرطبي في تفسيره المعروف ، ذيل الآيات محل البحث.

(٢) مجمع البيان ذيل الآية محل البحث

٩٤

فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

فبناء على هذه الآيات لم ينزل العذاب مباشرة بعد المؤامرة على قتل صالح ، بل الاحتمال القوي أن الجماعة الذين تآمروا على قتله أهلكوا فحسب ، ثمّ أمهل الله الباقين ، فلمّا قتلوا الناقة أهلك الله جميع الظالمين والآثمين الكافرين.

وهذه هي نتيجة الجمع بين آيات هذه السورة ، والآيات الواردة في هذا الشأن في سورتي الأعراف وهود.

وبتعبير آخر : في الآيات محل البحث جاء بيان إهلاكهم بعد مؤامرتهم على قتل نبيهم صالح ، أمّا في سورتي الأعراف وهود فبيان هلاكهم بعد عقرهم الناقة. ونتيجة الأمرين أنّهم حاولوا قتل نبيّهم ، فلمّا لم يفلحوا أقدموا على قتل الناقة (وعقرها) التي كانت معجزته الكبرى ونزل عليهم العذاب بعد أن أمهلوا ثلاثة أيام.

ويحتمل أيضا أنّهم أقدموا على قتل الناقة أولا ، فلما هدّدهم نبيّهم صالح بنزول العذاب بعد ثلاثة أيّام حاولوا قتله ، فأهلكوا دون أن يفلحوا في قتله(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير روح البيان ذيل الآية محل البحث

٩٥

الآيتان

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) )

التّفسير

انحراف قوم لوط!

بعد ذكر جوانب من حياة موسى وداود وسليمان وصالحعليهم‌السلام مع أممهم وأقوامهم ، فإنّ النّبي الخامس الذي وردت الإشارة إليه في هذه السورة : نبيّ الله العظيم «لوط».

وليست هذه أوّل مرّة يشير القرآن إلى هذا الموضوع ، بل تكررت الإشارة إليه عدّة مرّات ، كما في سورة الحجر ، وسورة هود ، وسورة الشعراء ، وسورة الأعراف.

وهذا التكرار والتشابه ، لأنّ القرآن ليس كتابا تاريخيا كي يتحدث عن الموضوع مرّة ولا يعود إليه بل هو كتاب تربوي إنساني ونعرف انّ المسائل التربوية قد تقتضي الظروف أحيانا أن تكرر الحادثة ويذكر بها مرارا ، وأن ينظر إليها من زوايا مختلفة ، ويستنتج من جهاتها المتعددة.

٩٦

وعلى كل حال فإنّ حياة قوم لوط المشهورين بالانحراف الجنسي والعادات السيئة المخزية الأخرى ، كما أنّ عاقبة حياتهم الوخيمة يمكن أن تكون لوحة بليغة لأولئك السادرين في شهواتهم وإن سعة هذا التلوث بين الناس تقتضي أن يكرر ما جرى على قوم لوط مرارا.

يقول القرآن : في الآيتين محل البحث أوّلا :( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) (١) .

«الفاحشة» كما أشرنا إليها من قبل ، تعني الأعمال السيئة القبيحة ، والمراد منها الانحراف الجنسي وعمل اللواط المخزي.

وجملة( وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) إشارة إلى أنّكم ـ يعني قوم لوط ـ ترون بأم أعينكم قبح هذا العمل وآثاره الوخيمة ، وكيف تلوّث مجتمعكم من قرنه إلى قدمه به وحتى الأطفال في غير مأمن من هذا العمل القبيح ، فعلام تبصرون ولا تتنبهون!

وأمّا ما يحتمله بعضهم من أن جملة «تبصرون» إشارة إلى أنّهم كانوا يشهدون فعل اللواط «بين الفاعل والمفعول» فهذا المعنى لا ينسجم وظاهر التعبير ، لأنّ لوطا يريد أن يحرّك «وجدانهم» وضمائرهم ، وأن يوصل نداء فطرتهم إلى آذانهم فكلام لوط نابع من البصيرة ورؤية العواقب الوخيمة لهذا العمل والتنبه منه.

ثمّ يضيف القرآن قائلا :( أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ ) .

وقد ورد التعبير عن هذا العمل القبيح بالفاحشة ، ثمّ وضحه أكثر لئلا يبقى أي إبهام في الكلام ، وهذا اللون من الكلام واحد من فنون البلاغة لبيان المسائل المهمة.

__________________

(١) يحتمل أن «ولوطا» منصوب بالفعل (أرسلنا) الذي سبق ذكره في الآيات المتقدمة ، ويحتمل أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره (اذكر) وحيث جاء بعد الكلمة (إذ قال) فالاحتمال الثّاني أنسب

٩٧

ولكي يتّضح بأن الدافع على هذا العمل هو الجهل ، فالقرآن يضيف قائلا :( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .

تجهلون بالله وتجهلون هدف الخلق ونواميسه وتجهلون آثار هذا الذنب وعواقبه الوخيمة ، ولو فكرتم في أنفسكم لرأيتم أن هذا العمل قبيح جدّا ، وقد جاءت الجملة بصيغة الاستفهام ليكون الجواب نابعا من أعماقهم ووجدانهم ، فيكون أكثر تأثيرا.

* * *

٩٨

بداية الجزء العشرون

من

القرآن الكريم

٩٩
١٠٠

الآيات

( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) )

التّفسير

عند ما تعدّ الطهارة عيبا كبيرا!

لاحظنا ـ في ما سبق من البحوث ـ منطق نبي الله العظيم «لوط» ، ذلك المنطق المتين أمام المنحرفين الملوثين ، وبيانه الاستدلالي الذي كان يعنّفهم على عملهم القبيح ، ويكشف لهم نتيجة جهلهم وعدم معرفتهم بقانون الخلق وبجميع القيم الإنسانية.

والآن ، لنستمع الى جواب هؤلاء المنحرفين بماذا أجابوا منطق «لوط»؟!

يقول القرآن :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) .

١٠١

فجوابهم كاشف عن انحطاطهم الفكري والسقوط الأخلاقي البعيد!.

أجل إنّ الطهارة تعدّ عيبا ونقصا في المحيط الموبوء ، وينبغي أن يلقى أمثال يوسف المتعفف في السجن ، وأن يطرد آل لوط نبيّ الله العظيم ويبعدوا ـ لأنّهم يتطهرون ـ خارج المدينة ، وأن يبقى أمثال «زليخا» أحرارا أولي مقام كما ينبغي أن يتمتع قوم لوط في مدينتهم دون حرج!.

وهذا هو المصداق الجلي لكلام القرآن في الضالين ، إذ يقول :( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) بسبب أعمالهم السيئة المخزية.

ويحتمل في جملة( إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) أن قوم لوط لانحرافهم وغرقهم في الفساد ، وتطبعهم وتعودهم على التلوّث ، كانوا يقولون مثل هذا الكلام من باب السخرية والاستهزاء أي إنّهم يتصورون أن أعمالنا قبيحة وغير طاهرة! وأن تقواهم من التطهر ، فما أعجب هذا الكلام! إنه لمهزلة!.

وليس هذا غريبا أن يتبدل إحساس الإنسان ـ نتيجة تطبعه بعمل قبيح ـ فيتغير سلوكه ونظرته فقد سمعنا بقصّة الدباغ المعروفة ، إذ ورد أن رجلا كان يدبغ الجلود المتعفنة دائما ، وتطبعت «شامّته» برائحة الجلود «العفنة» فمرّ ذات يوم في سوق العطارين ، فاضطرب حاله وأغمي عليه ، لأنّ العطور لا تناسب «شامّته» فأمر رجل حكيم أن يؤخذ إلى سوق الدباغين لانقاذه من الموت فهذا مثال حسيّ طريف لهذا الموضوع المنطقي.

جاء في الرّوايات أن لوطا كان يبلغ قومه حوالي ثلاثين عاما وينصحهم ، إلّا أنّه لم يؤمن به إلّا أسرته وأهله باستثناء زوجته فإنّها كانت من المشركين وعلى عقيدتهم(١) .

بديهي أن مثل هؤلاء القوم لا أمل في إصلاحهم في عالم الدنيا ، فينبغي أن يطوى «طومار» حياتهم ، لذلك تقول الآية التالية في هذا الشأن( فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٣٨٢.

١٠٢

إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) (١) .

وبعد أن خرج آل لوط في الموعد المعين «سحر ليلة كانت المدينة غارقة فيها بالفساد» فلمّا أصبح الصباح نزلت عليهم الحجارة من السماء ، وتزلزلت الأرض بهم ، فدفنوا جميعا تحت الحجارة والأنقاض ، والى هذا تشير الآية الكريمة التالية( وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ) .

وكان لنا بحث مفصل في قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة وآثار الانحراف الجنسي ، في ذيل الآيات ٧٧ ـ ٨٣ من سورة هود ، ولا حاجة إلى تكراره.

إن قانون الخلق عيّن لنا مسيرا لو سلكناه لكان ذلك مدعاة لتكاملنا وحياتنا ، ولو انحرفنا عنه لكان باعثا على سقوطنا وهلاكنا.

فقانون الخلق جعل الجاذبية الجنسية بين الجنسين المتخالفين عاملا لبقاء نسل الإنسان واطمئنان روحه. وتغيير المسير نحو الانحراف الجنسي «اللواط أو السحاق» يذهب بالاطمئنان الروحي والنظام الاجتماعي.

وحيث أن لهذه القوانين الاجتماعية جذرا في الفطرة ، فالتخلف «أو الانحراف» يسبب الاضطراب وعدم الانسجام في نظام وجود الإنسان!.

فلوط نبيّ الله العظيم نبّه قومه المنحرفين إلى هذا الأساس «الفطري» فقال لهم :( أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ؟! فالجهل وعدم معرفتكم بقانون الحياة والسفاهة هو الذي يقودكم إلى الضلال والتيه!.

فلا عجب أن تتغير سائر قوانين الخلق في شأن هؤلاء القوم الضالين ، فبدلا من أن يغاثوا بماء من السماء يهب الحياة يمطرون بالحجارة وبدلا من أن تكون الأرض مهادا وثيرا لهم تضطرب وتتزلزل ويقلب عاليها سافلها ، لئلا يقتصر الحال على هلاكهم فحسب ، بل لتمحى آثارهم!.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث ، وبعد بيان ما جرى على لوط وقومه

__________________

(١) «الغابرين» جمع الغابر ومعناه هنا الباقي من الذاهبين من المكان.

١٠٣

المنحرفين ، يتوجه الخطاب إلى النّبي الكريم «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستنتج ممّا سبق ، فيقول له :( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) .

الحمد والثناء الخاص لله ، لأنّه أهلك أمما مفسدين كقوم لوط ، لئلا تتلوث الأرض من وجودهم!.

الحمد لله الذي أبار قوم صالح ثمود ، وفرعون وقومه المفسدين ، وجعل آثارهم عبرة للمعتبرين.

وأخيرا فالحمد لله الذي أنعم وتفضل على عباده المؤمنين كداود وسليمان وأمثالهما ، وأولاهم القوّة والقدرة ، وهدى القوم الضالين كقوم سبأ.

ثمّ يضيف قائلا :( وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ) .

سلام على موسى وصالح ولوط وسليمان وداود ، وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين ، ومن والاهم بإحسان.

ثمّ يقول :( آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) (١) !!

رأينا في قصص هؤلاء الأنبياء أن الأصنام لم تستطع عند نزول البلاء أن تسعف اتباعها ، أو تقوم بأدنى مساعدة لهم! غير أن الله سبحانه لم يترك عباده وحدهم في هذه الخطوب ، بل أعانهم بلطفه الذي لا ينفذ!

* * *

__________________

(١) (آلله) أصلها (أالله) فانقلبت إحدى الهمزتين ألفا ثمّ صارت مدة كما هي عليه الآن وجملة (أمّا يشركون) أصلها (أم ما يشركون) إذ أدغمت (أم) المعادلة الاستفهامية بما الموصولة فصارت (أمّا).

١٠٤

الآيات

( أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) )

التّفسير

أمع كلّ هذه الأدلة ما تزالون مشركين؟!

في آخر آية من آيات البحث السابق ، وبعد ذكر جوانب مثيرة من حياة

١٠٥

خمسة أنبياء عظام ، ألقي هذا السؤال الوجيز المتين( آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) ؟!

أمّا في الآيات محل البحث فتفصّل السؤال وتوجه للمشركين خمس آيات تبدأ بخمسة أسئلة ، لتناقش المشركين وتحاكمهم ، وتكشف دلائل التوحيد في الآيات الخمس في اثني عشر مثلا!

فالآية الأولى من هذه الآيات تتحدث عن خلق السماوات والأرض ، ونزول الماء من السماء والبركات الناشئة عنه ، فتقول : هل أن معبوداتكم أفضل( أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ) .(١) (٢)

«الحدائق» جمع «الحديقة» ، وهي كما يقول كثير من المفسرين : البستان الذي يحيطه الجدار أو الحائط ، ومحفوظ من جميع الجهات ، ومنها سمّيت حدقة العين حدقة لأنّها محفوظة بين الجفنين والهدب ، أمّا الراغب فيقول في المفردات : إنّ الحديقة تطلق في الأصل على الأرض المجتمع فيها الماء ، كما أنّ حدقة العين فيها الماء دائما.

ويستفاد من مجموع هذين الرأيين أن الحديقة بستان له جدار وماء كاف.

و «البهجة» على وزن (لهجة) معناها الجمال وحسن الظاهر الذي يسر الناظرين.

ويتوجه الخطاب نحو العباد في ختام الآية فيقول :( ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ) .

__________________

(١) كلمة (ذات) في «ذات بهجة» جاءت مفردة ، مع أن حدائق جمع وهي موصوفها ، وذلك لأنّ الحدائق جمع تكسير ، وجمع التكسير قد يأتي أحيانا بمعنى الجماعة ، وهي ـ أي لفظة الجماعة ـ مفرد وصفتها مفردة أيضا

(٢) هذه الآية في الحقيقة فيها حذف وتقديره : ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض؟ وفي الحقيقة إن السؤال في الآية السابقة كان هكذا : الله خير أم الشركاء؟ وهنا يبدأ السؤال بالعكس : ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض.

١٠٦

فأنتم تستطيعون أن تنثروا البذور وتسقوا الأرض ، لكن الذي جعل الحياة في قلب البذرة ، وأمر الشمس أن تشرق على الأرض ، والماء ينزل من السماء حتى تنبت البذرة فتكون شجرا ، هو الله فحسب.

فهذه حقائق لا يمكن إنكارها ، ولا أن تنسب لغير الله فهو الذي خلق السماوات والأرض ، وهو الذي أنزل الغيث من السماء ، وهو مبدأ هذه البهجة والحسن والجمال في عالم الحياة!.

إن مجرّد التأمل في لون الزهرة الجميلة ، وأوراقها اللطيفة المنظمة التي تشكل حلقة رائعة كاف أن يجعل الإنسان عارفا بعظمة الخالق وقدرته وحكمته فهذه الأمور تهز قلب الإنسان وتدعوه إلى الله.

وبتعبير آخر فإن التوحيد في الخلق يؤدي الى «توحيد الخالق» ، والتوحيد في الربوبيّة «توحيد مدبّر هذا العالم» باعث على «توحيد العبادة»!.

ولذلك فالقرآن يقول في نهاية الآية :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ولكن هؤلاء جهلة عدلوا عن الله وعبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم( بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) (١) .

والسؤال الثّاني بحث عن موهبة استقرار الأرض وثباتها ، وأنّها مقر الإنسان في هذا العالم ، فيقول : هل أنّ أصنامكم أفضل ،( أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ ) (٢) كما تحافظ على القشرة الارضية من الزلازل ، كما( وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً ) ومانعا من اختلاط البحر المالح بالبحر العذب.

وهكذا فقد ورد في هذه الآية ذكر أربع نعم عظيمة ، ثلاث منها تتحدث عن استقرار الأرض! فتقول :

إن استقرار الأرض في الوقت الذي تتحرك بسرعة وتدور حول نفسها

__________________

(١) قد يكون (يعدلون) من مادة (العدول) أي الانحراف والرجوع من الحق إلى الباطل ، أو أنّه مادة (عدل) على وزن (قشر) ومعناه المعادل والنظير ففي الصورة الأولى مفهوم الآية أنّهم ينحرفون عن الله الواحد إلى غيره ، وفي الصورة الثّانية مفهومها أنّهم يجعلون له عديلا.

(٢) «الخلال» في الأصل معناه الشق بين الشيئين. و «الرواسي» جمع «راسية» ، وهي الثابتة.

١٠٧

وحول الشمس ، وتتحرك في المنظومة الشمسية وحركة هادئة وفي وتيرة واحدة ، إلى درجة أن سكّانها لا يحسّون بحركتها أبدا فكأنّها أوتدت في مكان واحد! وبقيت ثابتة فلا يرى فيها أقلّ حركة.

والنعمة الأخرى وجود الجبال ، التي قلنا عنها سابقا أنّها تحيط بالأرض ، وجذورها متصلة بعضها ببعض كالحاجر القوي الذي يقاوم الضغوط الداخلية للأرض ، وحركات الجزر والمدّ الذين يحصلان بسبب جاذبية القمر ، كما أنّها تعبر مانعا امام الأعاصير والسيول من أن تدمّر الأرض بطغيانها!

والنعمة الأخرى الحجاب الحاجز بين البحرين ، والحائل الطبيعي الذي يحول بين الماء المالح والماء العذب ، وهذا الحجاب ـ غير المرئي ـ هو الاختلاف في درجة الغلظة بين الماء العذب والماء المالح ، أو كما يصطلح عليه اختلاف «الوزن النوعي» الخاص الذي يسبب عدم انحلال مياه الأنهار العظيمة العذبة التي تنصب في البحار المالحة لمدّة طويلة ، وعند حالة «المدّ» تتمدد هذه المياه العذبة على السواحل الصالحة للزراعة فتسقيها (وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع ذيل الآية ٥٣ من سورة الفرقان).

وفي الوقت ذاته جعل الله خلال أجزاء الأرض المختلفة أنهارا تسقي المزارع والأحياء فتخضرّ البساتين وتثمّر الأشجار وبعض مصادر هذه المياه تكمن في قمم الجبال وبعضها بين الطبقات الأرضيّة!.

ترى هل يمكن أن يكون هذا النظام قد ولد عن طريق الصدفة العمياء الصمّاء ، والمبدأ الفاقد للعقل والحكمة؟! وهل للأصنام تأثير في هذا النظام البديع المثير للدهشة؟!

حتى عبدة الأصنام لا يدعون مثل هذا الادعاء! لذلك يكرر القرآن في ختام الآية هذا السؤال :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ؟! حاش لله( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

السؤال الثّالث من هذه الأسئلة الخمسة التي تحكي عن محاورة ومحاكمة

١٠٨

المعنوية يتحدث عن حلّ المشكلات ، وفتح الطرق الموصدة ، وإجابة الدعاء ، إذ تقول الآية التالية :( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) .

أجل عند ما تغلق جميع أبواب عالم الأسباب بوجه الإنسان ، ويبلغ النصل إلى العظم ، ويغدو مضطرا حيرانا لا حيلة له ، فإنّ الذي يحلّ المعضلة ، ويفتح الأقفال ، ويزيل السدود عن الطرق ، وينثر في القلوب نور الأمل ، ويفتح أبواب الرحمة بوجه الناس المتحيرين ، هو الله لا غير!.

وحيث أنّ الناس يدركون هذه الحقيقة بالفطرة في اعماق نفوسهم جميعا ، فإنّ المشركين حين يقعون بين أمواج البحر المتلاطمة ينسون جميع معبوديهم ويتوجهون نحو لطف الله ، كما يقول القرآن :( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (١)

لذلك تضيف الآية قائلة : إنّه لا ينقذكم من هذه المآزق والشدائد فحسب ، بل :( وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ولكنكم لا تتعضون بهذه الدلائل( قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ) (٢) .

وحول مفهوم المضطر ، ومسألة استجابه الدعاء وشروطها ، بحوث ستأتي في نهاية هذه الآيات!

والمراد من( خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) لعله بمعنى «سكنة الأرض» وأصحابها لأنّ الله جعل الإنسان حاكما على هذه الأرض ، مبسوط اليد فيها بما أولاه من النعم وأسباب الرفاه والدعة والاطمئنان!.

ولا سيما حين يقع الإنسان في شدّة ، فيغدو مضطرا ويتجه نحو خالقه الكريم ـ فيرفع بكرمه البلايا والموانع ـ فتستحكم أسس هذه الخلافة وهنا

__________________

(١) العنكبوت ، الآية ٦٥.

(٢) (ما) في قوله تعالى :( قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ) زائدة ظاهرا ، ونعرف أن الحروف الزائدة في كثير من المواطن للتأكيد ، و (قليلا) صفة لمصدر محذوف وتقديره : تتذكرون تذكرا قليلا.

١٠٩

تتجلى العلاقة بين شطري الآية.

كما قد يكون المراد بهذا المعنى ، وهو أنّ الله جعل ناموس الحياة أن يخلف قوم قوما على الدوام ، بحيث لو لم يكن هذا التناوب لم تغد الصورة متكاملة(١) !.

ويثير القرآن في السؤال الرّابع مسألة الهداية فيقول : هل أن الأصنام أفضل ،( أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) بواسطة النجوم( وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) ؟!!.

فالرياح التي تدل على نزول الغيث ، وكأنّها رسل البشرى تتحرك قبل نزول الغيث ، إنّها في الحقيقة تهدي الناس إلى الغيث أيضا.

والتعبير بـ( بُشْراً ) في شأن الرياح ، والتعبير بـ( بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) في شأن الغيث ، كلاهما تعبيران طريفان لأنّ الرياح هي التي تحمل الرطوبة في الجو وتنقل أبخرة الماء من على وجه المحيطات بشكل قطعات من السحب على متونها ، إلى النقاط اليابسة ، وتخبر عن قدوم الغيث!

وكذلك الغيث الذي ينشد نغمة الحياة على وجه البسيطة ، وحيثما نزل حلت البركة والرحمة(٢) .

(ذكرنا شرحا مفصلا في تأثير الرياح في نزول الغيث في ذيل الآية ٥٧ من سورة الأعراف).

ويخاطب القرآن في ختام الآية المشركين مرّة أخرى فيقول :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ؟! ثمّ يضيف دون أن ينتظر الجواب قائلا( تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث ، فيثير القرآن السؤال الخامس في

__________________

(١) فبناء على هذا المعنى يكون (خلفاء الأرض) بمعنى : خلفاء في الأرض.

(٢) «بشر» على وزن «عشر» ـ كما ذكرنا آنفا ـ مخفف بشر على وزن «كتب» ، وهي جمع «بشور» على وزن «قبول» ومعناه المبشر.

١١٠

شأن المبدأ والمعاد بهذه الصورة ، فيقول : هل أنّ أصنامكم أفضل ،( أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) فهل بعد ذلك تعتقدون بوجود معبود غير الله( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ؟!

وفي الواقع فإن الآيات المتقدمة كلها كانت تتكلم على المبدأ ، وايات عظمة الله في عالم الخلق والوجود ، ومواهبه ونعمه ، إلّا أنّه في الآية الأخيرة ينتقل البحث من معبر ظريف إلى مسألة المعاد ، لأنّ بداية الخلق نفسها دليل على تحققها ، والقدرة على بداية الخلق تعد دليلا واضحا على المعاد.

ومن هنا يتّضح الجواب على السؤال الذي يثيره كثير من المفسّرين ، وهو أن المشركين المخاطبين بهذه الآيات أغلبهم لم يعتقدوا بالمعاد «المعاد الجسماني» فكيف يمكن أن يوجه إليهم هذا السؤال مع هذه الحال ويطلب منهم الإقرار.

فالجواب عليه أن هذا السؤال مقرون بدليل يسوق الطرف الآخر للإقرار ، لأنّه باعترافهم أن بداية الخلق من الله ، وهذه المواهب والنعم كلّها منه ، لكي تقبل عقولهم إمكان المعاد والرجوع الى الحياة في يوم القيامة مرّة أخرى.

والمراد من (الرزق السماوي) هو الغيث ونور الشمس وأمثال ذلك ، أمّا (الرزق الارضي) فالنباتات والمواد الغذائية المختلفة التي تنمو على الأرض مباشرة ، أو عن طريق غير مباشر كالأنعام والمعادن والمواد المختلفة التي يتمتع بها الإنسان في حياته!.

* * *

بحوث

١ ـ من المضطر الذي يجاب إذا دعاه؟

مع أنّ الله ـ يجيب دعاء الجميع عند تحقق شروط الدعاء ، إلّا أنّ في الآيات آنفة الذكر اهتماما بالمضطر ، وذلك لأنّ من شروط إجابة الدعاء أن يغمض

١١١

الإنسان عينيه عن عالم الأسباب كليّا ، وأن يجعل قلبه وروحه بين يدي رحمة الله ، وأن يرى كل شيء منه وله! وأن حل كل معضلة بيده ، وهذه النظرة وهذا الإدراك إنّما يتحققان في حال الاضطرار.

وصحيح أنّ العالم هو عالم الأسباب والمسببات ، والمؤمن يبذل منتهى سعيه وجهده في هذا الشأن إلّا أنّه لا يضيع في عالم الأسباب أبدا ويرى كل شيء من بركات ذاته المقدسة ، ويرى من وراء الحجاب ببصره النافذ «مسبب الأسباب» فيطلب منه ما شاء!.

أجل ، إذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة ، فإنه يوفّر لنفسه أهم شرط لإجابة الدعاء.

الطريف أنّه قد ورد في بعض الرّوايات تفسير هذه الآية بقيام المهدي صلوات الله وسلامه عليه!

ففي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «والله لكأنّي أنظر إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحجر ثمّ ينشد الله حقّه قال والله هو المضطر في كتاب الله في قوله :( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) »(١) !

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «نزلت في القائم من آل محمّدعليهم‌السلام هو والله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين ودعا اللهعزوجل فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض»(٢) .

ولا شك أن هذا التّفسير ـ كما رأينا نظائره الكثيرة ـ لا يحصر المراد من هذه الآية بالمهديعليه‌السلام ، بل مفهوم الآية واسع ، والمهديعليه‌السلام واحد من مصاديقها الجليّة إذ الأبواب في زمانه موصدة ، والفساد عمّ البسيطة ، والبشرية في طريق

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٩٤.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٩٤.

١١٢

مسدود ، وحالة الاضطرار ظاهرة في جميع العالم فعندئذ يظهر الإمام في أقدس بقعة فيطلب كشف السوء ، فيلبي الله دعوته ، ويجعله بداية «الظهور» المبارك في العالم ، ويستخلفه في الأرض هو وأصحابه ، فيكون مصداقا لقوله تعالى( وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) .

«كان لنا بحث في شروط إجابة الدعاء وأهميته ، وفي سبب عدم الإجابة ، فصّلناه في ذيل الآية (١٨٦) من سورة البقرة»

٢ ـ الاستدلال المنطقي في كلّ مكان

نقرأ في آيات القرآن ـ مرارا ـ أنّه يطالب المخالفين بالدليل ، وخاصة بقوله :( هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) وقد جاء هذا النص في أربعة مواضع البقرة : الآية ١١٥ ، الأنبياء :الآية ٢٤ ، النمل : الآية ٦٤ ، والقصص : الآية ٧٥ كما أنّه أكّد في مواضع أخرى على البرهان خاصة «والمراد من البرهان : أصدق دليل».

وهذا المنطق (المطالبة بالبرهان) للإسلام يحكي عن محتواه الغني والقوي ، لأنّه يسعى لأن يواجه مخالفيه مواجهة منطقية ، فكيف يطالب الآخرين بالبرهان وهو لا يكترث به؟! فآيات القرآن المجيد مملوءة بالاستدلالات المنطقية والبراهين العلمية في المسائل المتعددة!.

وهذا الأمر على خلاف ما حرفته المسيحية اليوم ـ وعوّلت عليه ، وترى أن الدين هو ما يوحيه القلب!! وتفصل العقل عنه إذ تراه أجنبيا عنه حتى أنّها تؤمن بالتناقضات العقلية كالتوحيد في التثليث ، ومن هنا فقد سمحت للخرافات أن تدخل في الدين ، مع أن الدين لو خلا من العقل والاستدلال العقلي فسوف لا يقوم دليل عليه ، ويكون ذلك الدين وما يضادّه سواء!.

وتبرز عظمة هذا المنهج (وهو الاهتمام بالبرهان ودعوة المخالفين إلى الاستدلال المنطقي) حين نلتفت إلى أن الإسلام ظهر في محيط يعيش الخرافات

١١٣

التي لا أساس لها والمسائل غير المنطقية في جميع مفاصل منظومته الفكرية والمعرفية!!

٣ ـ خلاصة عامّة ومرور على الآيات السابقة

في الآيات السابقة كان اهتمام القرآن منصبا لإثبات «توحيد المعبود» على «توحيد الخالق» ، و «توحيد الرب» اي (توحيد الخلق وتوحيد التدبير) وتحدّث عن اثنتي عشرة آية وعلامة لله العظيم في عالم الوجود :

١ ـ السماء والأرض.

٢ ـ نزول الغيث.

٣ ـ بركاته في الحياة.

٤ ـ قرار الأرض.

٥ ـ الأنهار.

٦ ـ الجبال الرواسي.

٧ ـ الحاجز بين البحرين (العذب والمالح).

٨ ـ إجابة دعوة العباد.

٩ ـ هدايتهم في ظلمات البر والبحر.

١٠ ـ إرسال الرياح بشرا بين يدي رحمته.

١١ ـ بدء الخلق وإعادته.

١٢ ـ رزق الإنسان «وسائر الخلق» من السماء والأرض.

هذه المواهب «والنعم» الاثنتا عشرة بيّنت في خمس آيات وضمن خمسة أسئلة!. وكانت تعالج الأمور الخمسة التالية على التوالي :

١ ـ الخلق.

٢ ـ والاستقرار.

١١٤

٣ ـ كشف الضرّ.

٤ ـ الهداية.

٥ ـ إعادة الحياة (بعد الموت).

وقد عقّب ذيل كل واحد من الأسئلة الخمسة ، بقوله تعالى :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ؟! وقد أوضح القرآن في نهاية كل سؤال أمورا ، فأشار في نهاية الآية الأولى إلى انحراف المخالفين عن الحق.

وأشار في الآية الثّانية إلى جهلهم.

وأشار في الآية الثّالثة إلى عدم تفكيرهم!

وأشار في الآية الرابعة إلى انحطاط أفكارهم.

وطالبهم في نهاية الآية الخامسة بالاستدلال!

وقد أبدى القرآن بشكل عام مجموعة من الأسئلة الجامعة والمنسجمة بعضها مع بعض.

* * *

١١٥

الآيات

( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) )

التّفسير

لمّا كان البحث في آخر الآيات السابقة عن القيامة والبعث ، فإن الآيات ـ محل البحث ـ تعالج هذه المسألة من جوانب شتى ، فتجيب أولا على السؤال الذي يثيره المشركون دائما ، وهو قولهم : متى تقوم القيامة؟ و «متى هذا الوعد»؟! فتقول :( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) !

لا شك أن علم الغيب ـ ومنه تاريخ وقوع القيامة ـ خاص بالله ، إلّا أنّه لا منافاة في أن يجعل الله بعض ذلك العلم عند من يشاء من عباده ، كما نقرأ في الآيتين (٢٦) و (٢٧) من سورة الجن( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا

١١٦

مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) .

وبتعبير آخر فإنّ علم الغيب بالذات ، وبصورته المستقلة والمطلقة غير المحدودة ، خاصّ بالله سبحانه ، وكل علوم الآخرين مسترفدة من علمه تعالى. ولكن مسألة تاريخ وقوع القيامة مستثناة من هذا الأمر أيضا ، ولا يعلم بها أحد «إلّا الله»(١) .

ثمّ يتكلم القرآن عن عدم علم المشركين بيوم القيامة وشكهم وجهلهم ، فيقول :( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ) .

«ادّارك» في الأصل «تدارك» ومعناه التتابع أو لحوق الآخر بالأوّل ، فمفهوم جملة :( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) أنّهم لم يصلوا إلى شيء بالرغم ممّا بذلوه من تفكير ، وجمعوا المعلومات في هذا الشأن ، لذلك فإنّ القرآن يضيف مباشرة بعد هذه الجملة( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ) . لأنّ دلائل الآخرة ظاهرة في هذه الدنيا ، فعودة الأرض الميتة إلى الحياة في فصل الربيع ، وإزهار الأشجار وإثمارها مع أنّها كانت في فصل الشتاء جرداء! ومشاهدة عظمة قدرة الخالق في مجموعة الخلق والوجود ، كلها دلائل على إمكان الحياة بعد الموت ، إلّا أنّهم كالعمي الذين لا يبصرون كل شيء!

وبالطبع فإنّ هناك تفاسير أخر للجملة أعلاه ، منها أنّ المراد من( ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) أن أسباب التوصل للعلم في شأن الآخرة متوافرة ومتتابعة ، إلّا أنّهم عمي عنها.

وقال بعضهم : إنّ المراد منها أنّهم عند ما تكشف الحجب في يوم الآخرة ، فإنّهم سيعرفون حقائق الآخرة بشكل كاف.

__________________

(١) كان لنا بحوث مفصلة في علم الغيب في الأجزاء السابقة في هذا التّفسير.

١١٧

إلّا أنّ الأنسب من بين هذه التفاسير الثلاثة هو التّفسير الأوّل حيث يناسب بقية الجمل في الآية ، والبحوث الواردة في الآيات الأخر!.

وهكذا فقد ذكرت ثلاث مراحل لجهل المنكرين (للآخرة).

الأولى : أنّ إنكارهم وإشكالهم هو لأنّهم يجهلون خصوصيّات الآخرة «وحيث أنّهم لم يروها فهم يظنون الحقيقة خيالا».

الثّانية : أنّهم في شك من الآخرة أساسا ، وسؤالهم عن زمان تحققها ناشئ من أنّهم في شك منها!.

الثّالثة : أن جهلهم وشكهم ليس منشؤهما أنّهم لا يملكون دليلا أو دلائل كافية على الآخرة ، بل الأدلة متوفرة إلّا أن أعينهم عمي عنها!

والآية التالية : توجز منطق منكري القيامة والبعث في جملة واحدة ، فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ ) ؟!

فهم مقتنعون بهذا المقدار ، أنّ هذه المسألة بعيدة (أن يتحول الإنسان إلى تراب ثمّ يعود إلى الحياة)! مع أنّهم كانوا أوّل الأمر ترابا وخلقوا من التراب ، فما يمنع أن يعودوا إلى التراب ، ثمّ يرجعون أحياء بعد أن كانوا ترابا!

الطريف أنّنا نواجه مثل هذا الاستبعاد في ثمانية مواضع من القرآن ، فهم يشكون في مسألة القيامة في المواضع آنفة الذكر بمجرّد استبعاد عودتهم إلى الحياة من «التراب» ثانية!.

ثمّ يحكي القرآن عمّا يضيفه المشركون من قول :( لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ ) ولكن لم نجد أثرا لهذا الوعد ولن يوجد( إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

فما هي سوى خرافات وخزعبلات القدماء.

فبناء على هذا فإنّهم يبدأون من الاستبعاد ثمّ يجعلونه أساسا للإنكار المطلق فكأنّهم كانوا ينتظرون أن تتحقق القيامة عاجلا ، وحيث أنّهم لم يشهدوا

١١٨

ذلك في حياتهم فهم ينكرونه.

وعلى كل حال ، فهذه التعبيرات جميعها تدل على غفلتهم وغرورهم!.

ويستفاد ـ ضمنا من هذا التعبير ـ أنّهم أرادوا أن يسخروا من كلام النّبي في شأن يوم القيامة ، ويطعنوا عليه ، فيقولوا : إن هذه الوعود الباطلة سبقت لأسلافنا ، فلا جديد فيها يستحق بذل التفكير والمراجعة!.

* * *

١١٩

الآيات

( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) )

التّفسير

لا يضيق صدرك بمؤامراتهم :

كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعاد ، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر.

ولما كان البحث المنطقي غير مجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء ، بالإضافة إلى ما أقامته الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد ممّا يرى كلّ يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنّة ، وما إلى ذلك ، فإنّ الآيات محل البحث

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592