الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156578 / تحميل: 5919
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وأساسا فإنّ كلّ مورد يأتي الكلام فيه عن السماء والأرض ، والخلق والخلقة وأمثال ذلك ، فإنّ «الأمر» يأتي بهذا المعنى (فتأمّل).

٢ ـ كلمة «التدبير» تستعمل أيضا في مورد الخلقة والخلق وتنظيم وضع عالم الوجود ، لا بمعنى إنزال الدين والشريعة ، ولذلك نرى في آيات القرآن الاخرى ـ والآيات يفسّر بعضها بعضا ـ أنّ هذه الكلمة لم تستعمل مطلقا في مورد الدين والمذهب ، بل استعملت كلمة «التشريع» أو «التنزيل» أو «الإنزال» :

ـ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) .(١)

ـ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (٢) .

ـ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) .(٣)

٣ ـ إنّ الآيات التي قبل وبعد هذه الآية مرتبطة بالخلقة وخلق العالم ، ولا ترتبط بتشريع الأديان ، لأنّ الكلام في الآية السابقة كان عن خلق السماء والأرض في ستّة أيّام ـ وبعبارة اخرى ستّ مراحل ـ والكلام في الآية التالية عن خلق الإنسان.

ولا يخفى أنّ تناسب وانسجام الآيات يوجب أن تكون هذه الآية المتوسّطة لآيات الخلقة مرتبطة بمسألة الخلقة وتدبير أمر الخلق ، ولهذا فإنّنا إذا طالعنا كتب التّفسير التي كتبت قبل مئات السنين فإنّنا لا نجد أحدا قد احتمل أن تكون الآية متعلّقة بتشريع الأديان ، بالرغم من أنّهم احتملوا احتمالات مختلفة ، فمثلا : مؤلّف تفسير «مجمع البيان» ـ وهو من أشهر التفاسير الإسلامية ، ومؤلّفه عاش في القرن السادس الهجري ـ لم ينقل عن أحد علماء الإسلام قولا يدّعي فيه أنّ الآية ترتبط بتشريع الأديان ، مع أنّه ذكر أقوالا مختلفة في تفسير الآية أعلاه.

__________________

(١) الشورى ، ١٣.

(٢) المائدة ، ٤٤.

(٣) آل عمران ، ٣.

١٠١

٤ ـ إنّ كلمة «العروج» تعني الصعود والارتفاع ، لا نسخ الأديان وزوالها ، ولا يلاحظ العروج في أي موضع من القرآن بمعنى النسخ ـ وهذه الكلمة قد ذكرت في خمس آيات من القرآن ، ولا تؤدّي هذا المعنى في أيّ منها ـ بل تستعمل كلمة النسخ أو التبديل وأمثالهما في مورد الأديان.

إنّ الأديان والكتب السماوية في الأساس ليست كأرواح البشر تعرج إلى السماء مع الملائكة بعد انتهاء العمر ، بل إنّ الأديان المنسوخة ، موجودة في الأرض ، إلّا أنّها تسقط عن الإعتبار في بعض مسائلها ، في حين أنّ أصولها تبقى على قوّتها.

والخلاصة : فإنّ كلمة العروج علاوة على أنّها لم تستعمل في أيّ موضع من القرآن بمعنى نسخ الأديان ، فهي لا تتناسب مع مفهوم نسخ الأديان ، لأنّ الأديان المنسوخة لا تعرج إلى السماء.

٥ ـ إضافة إلى كلّ ما مرّ فإنّ هذا المعنى لا ينطبق على الواقع الحقيقي العيني ، لأنّ الفاصلة بين الأديان السابقة لم تكن ألف سنة في أيّ مورد!

فمثلا : الفاصلة بين ظهور موسى والمسيحعليهم‌السلام أكثر من (١٥٠٠) سنة ، والفاصلة بين المسيحعليه‌السلام وظهور نبي الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله أقلّ من (٦٠٠) سنة ، وكما تلاحظون فإنّ أيّا من هذين الموردين لا ينطبق على الألف سنة التي يقول بها هؤلاء ، بل إنّ الفاصلة بين الواقع وما يدّعون كبيرة.

وذكروا أنّ الفترة الزمنية بين ظهور نوحعليه‌السلام الذي كان من أنبياء اولي العزم ، وواضع دعائم الدين والشريعة الخاصّة ، وبين محطّم الأصنام الصنديد إبراهيمعليه‌السلام الذي كان نبيّا آخر من ذوي الشرائع أكثر من (١٦٠٠) سنة ، والفترة بين إبراهيم وموسىعليهما‌السلام أقلّ من (٥٠٠) سنة.

من هذا الموضوع نخلص إلى هذه النتيجة ، وهي أنّه لم تكن هناك فترة ولا فاصلة ، ولو من باب المثال ، بين أحد الأديان والمذاهب وبين الدين الذي يليه

١٠٢

بمقدار ألف سنة.

٦ ـ وإذا غضضنا النظر عن كلّ ما مرّ ، فإنّ بدعة «السيّد علي محمّد باب» والتي تحمل أتباعه لأجل الدفاع عنها كلّ هذه التوجيهات الباطلة لا تتناسب مع هذا الحساب ، لأنّه باعترافهم ولد سنة ١٣٢٥ هجري ، وكان بدء دعوته سنة ١٢٦٠ هجري قمري ، وبملاحظة أنّ بداية دعوة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت بثلاثة عشر عاما قبل الهجرة ، فإنّ الفاصلة بين الإثنين تكون (١٢٧٣) أي بإضافة (٢٧٣) فما ذا نصنع بهذا الفارق الكبير؟ وبأيّة خطّة سنتجاهله؟

٧ ـ ولو تركنا جانبا كلّ هذه الإيرادات الستّة ، وصرفنا النظر عن هذه الردود الواضحة ، وجعلنا أنفسنا مكان القرآن ، وأردنا أن نقول للبشرية : كونوا بانتظار نبيّ جديد بعد مرور ألف سنة ، فهل هذا يصحّ طرح هذا المفهوم بالشكل الذي ذكرته الآية ، حتّى لا ينتبه ويطّلع أحد من العلماء وغير العلماء أدنى اطّلاع على معنى الآية على مدى الإثني أو الثلاثة عشر قرنا ، ثمّ يأتي جماعة بعد مرور (١٢٧٣) عام ليدّعوا أنّهم اكتشفوا اكتشافا جديدا ، وأزاحوا الغطاء عنه ، وهو مع ذلك لا يتجاوز إطار قبولهم أنفسهم لا قبول الآخرين؟!

ألم يكن الأحسن والأكثر حكمة وعقلا أن يقال مكان هذه الجملة : ابشّركم بأنّ نبيّا بهذا الاسم سيظهر بعد ألف سنة ، كما قال عيسىعليه‌السلام في شأن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) .(١)

وعلى كلّ حال ، فهذه المسألة قد لا تستحقّ بحثا بهذا المقدار إلّا أنّه لتنبيه وإيقاظ جيل الشباب المسلم ، واطلاعهم على المكائد التي هيّأها الاستعمار العالمي ، والمسالك والمذاهب التي ابتدعها لتضعيف جبهة الإسلام ، لم يكن لنا سبيل إلّا أن يعلموا ويطّلعوا على جانب من منطق هؤلاء ، وعليهم الباقي.

* * *

__________________

(١) سورة الصف ، ٦.

١٠٣

الآيات

( ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) )

التّفسير

مراحل خلق الإنسان العجيبة!

إنّ الآيات ـ مورد البحث ـ إشارة وتأكيد في البداية على بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة ، والتي كانت تتلخّص في أربع مراحل : توحيد الخالقية ، والحاكمية ، والولاية ، والربوبية ، فتقول :( ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) .

من البديهي أنّ من يريد أن يدبّر امور السماء والأرض ، وأن يكون حاكما عليها ، ويتعهّد ويقوم بمهام مقام الولاية والشفاعة والإبداع ، يجب أن يكون مطّلعا على كلّ شيء ، الظاهر والباطن ، حيث لا يمكن أن يتمّ أيّ من هذه الأمور بدون الاطّلاع وسعة العلم.

١٠٤

وفي نفس الوقت الذي يجب أن يكون هذا المدبّر عزيزا قويّا لا يقهر ليقوى على القيام بهذه الأعمال المهمّة ، ينبغي أن تقترن هذه العزّة باللطف والرحمة ، لا الخشونة والغلظة.

ثمّ تشير الآية التالية إلى نظام الخلقة الأحسن والأكمل بصورة عامّة ، ومقدّمة لبيان خلق الإنسان ومراحل تكامله بشكل خاصّ :( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) وأعطى كلّ شيء ما يحتاجه ، وبتعبير آخر : فإنّ تشييد صرح الخلقة العظيم قد قام على أساس النظام الأحسن ، أي قام على نظام دقيق سالم لا يمكن تخيّل نظام أكمل منه.

لقد أوجد سبحانه بين كلّ الموجودات علاقة وانسجاما ، وأعطى كلّا منها ما يطلبه على لسان الحال.

إذا نظرنا إلى وجود الإنسان ، وأخذنا بنظر الإعتبار كلّ جهاز من أجهزته ، فسنرى أنّها خلقت من ناحية البناء والهيكل ، والحجم ، ووضع الخلايا ، وطريقة عملها ، بشكل تستطيع معه أن تؤدّي وظيفتها على النحو الأحسن ، وفي الوقت ذاته فقد وضعت بين الأعضاء روابط قويّة بحيث يؤثّر ويتأثّر بعضها بالبعض الآخر بدون استثناء.

وهذا المعنى هو الحاكم تماما في العالم الكبير مع المخلوقات المتنوّعة ، وخاصّة في عالم الكائنات الحيّة ، مع تلك التشكيلات والهيئات المختلفة جدّا.

والخلاصة : فإنّه هو الذي أودع أنواع العطور البهيجة في الأزهار المختلفة ، وهو الذي يهبّ الروح للتراب والطين ويخلق منه إنسانا حرّا ذكيّا عاقلا ، ومن هذا التراب المخلوط يخلق أحيانا الأزهار ، وأحيانا الإنسان ، وأحيانا اخرى أنواع الموجودات الاخرى ، وحتّى التراب نفسه خلق فيه ما ينبغي أن يكون فيه.

ونرى نظير هذا الكلام في الآية (٥٠) من سورة «طه» من قول موسى وهارونعليهما‌السلام :( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) .

١٠٥

وهنا يطرح سؤال حول خلق الشرور والآفات ، وكيفية انسجامها مع النظام العالم الأحسن ، وسنبحثه إن شاء الله تعالى فيما بعد.

بعد هذه المقدّمة الآفاقية يدخل القرآن بحث الأنفس ، وكما تحدّث في بحث الآيات الآفاقية عن عدّة أقسام للتوحيد ، فإنّه يتحدّث هنا عن عدّة مواهب عظيمة في مورد البشر:

يقول أوّلا :( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ) ليبيّن عظمة وقدرة الله سبحانه حيث خلق مثل هذا المخلوق الجليل العظيم من مثل هذا الموجود البسيط الحقير ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يحذّر الإنسان ويذكّره من أين أتيت ، وإلى أين ستذهب؟!

ومن المعلوم أنّ هذه الآية تتحدّث عن خلق آدم ، لا كلّ البشر ، لأنّ استمرار نسله قد ذكر في الآية التالية ، وظاهر هذه الآية دليل واضح على خلق الإنسان بشكل مستقل ، ونفي فرضيّة تحوّل الأنواع (وعلى الأقل في مورد نوع الإنسان).

وبالرغم من أنّ البعض أراد أن يفسّر هذه الآية بحيث تناسب وتلائم فرضية تكامل الأنواع ، بأنّ خلق الإنسان يرجع إلى أنواع سافلة ، وهي تنتهي أخيرا إلى الماء والطين ، إلّا أنّ ظاهر الآية ينفي وجود أنواع اخرى من الموجودات الحيّة ـ وهم يدّعون أنّها أنواع لا تحصى ـ تفصل بين آدم والطين ، بل إنّ خلق الإنسان قد تمّ من الطين مباشرة وبدون واسطة. ولم يتحدّث القرآن عن أنواع الكائنات الحيّة الاخرى.

وهذا المعنى يتّضح أكثر عند ملاحظة الآية (٥٩) من سورة آل عمران ، حيث تقول:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) .

ويقول في الآية (٢٦) من سورة الحجر :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) .

ويستفاد من مجموع الآيات أنّ خلق آدم قد تكوّن من التراب والطين كخلق

١٠٦

مستقل ، ومن المعلوم أنّ فرضية تطور الأنواع لم تكن مسألة علمية قطعية لنحاول تفسير الآيات أعلاه بشكل آخر بسبب تضادّها وتعارضها مع هذه الفرضية ، وبتعبير آخر : طالما لا توجد قرينة واضحة على خلاف ظواهر الآيات فيجب أن نطبّقها بمعناها الظاهر ، وكذلك الحال في مورد خلق آدم المستقلّ.

ثمّ تشير الآية بعدها ، إلى خلق نسل الإنسان ، وكيفية تولّد أولاد آدم في مراحل ، فتقول :( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) .

«جعل» هنا بمعنى الخلق ، و «النسل» : بمعنى الأولاد والأحفاد في جميع المراحل.

«السلالة» في الأصل ، بمعنى العصارة الخالصة لكلّ شيء ، والمراد منها هنا نطفة الإنسان التي تعتبر عصارة كلّ وجوده ، ومبدأ حياة وتولّد الذريّة واستمرار النسل.

إنّ هذا السائل الذي يبدو تافها لا قيمة له ولا مقدار فإنّه يعدّ من الناحية البنائية والخلايا الحيوية التي تسبح فيه ، وكذلك تركيب السائل الخاصّ الذي تسبح فيه الخلايا رقيقا ودقيقا ومعقّدا إلى أبعد الحدود ، ويعتبر من آيات عظمة الله سبحانه ، وعلمه وقدرته. وكلمة «مهين» التي تعني الضعيف إشارة إلى وضعه الظاهري ، وإلّا فإنّه من أعمق أسرار الموجودات.

وتشير الآية التالية إلى مراحل تكامل الإنسان المعقّدة في عالم الرحم ، وكذلك المراحل التي طواها آدم عند خلقه من التراب ، فتقول :( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

«سوّاه» من التسوية ، أي الإكمال ، وهذه إشارة إلى مجموع المراحل التي يطويها الإنسان من حال كونه نطفة إلى المرحلة التي تتّضح فيها جميع أعضاء

١٠٧

بدنه ، وكذلك المراحل التي طواها آدم بعد خلقه من التراب حتّى نفخ الروح(١) .

والتعبير بـ «النفخ» كناية عن حلول الروح في بدن الإنسان ، فكأنّه شبّه الحال بالهواء والتنفّس ، بالرغم من أنّه لا هذا ولا ذاك.

فإن قيل : إنّ نطفة الإنسان منذ استقرارها في الرحم ـ بل وقبل ذلك ـ كانت كائنا حيّا وعلى هذا فأيّ معنى لنفخ الروح؟

قلنا في الجواب : إنّ النطفة عند ما تنعقد في البداية ليس لها إلّا نوعا من «الحياة النباتية» ، أي التغذية والنمو فقط ، أمّا الحسّ والحركة التي هي علامة «الحياة الحيوانية» ، وكذلك قوّة الإدراكات التي هي علامة الحياة الإنسانية ، فلا أثر عن كلّ ذلك.

إنّ تكامل النطفة في الرحم تصل إلى مرحلة تبدأ عندها بالحركة ، وتحيا وتنبعث فيها القوى الإنسانية الاخرى تدريجيا ، وهذه هي المرحلة التي يعبّر عنها القرآن بنفخ الروح.

أمّا إضافة «الروح» إلى «الله» فهي «إضافة تشريفية» ، أي إنّ روحا ثمينة وشريفة بحيث أنّ من المناسب أن تسمّى «روح الله» قد دبّت في الإنسان ونفخت فيه ، وهذا يبيّن حقيقة أنّ الإنسان وإن كان من ناحية البعد المادّي يتكوّن من الطين والماء ، إلّا أنّه من البعد المعنوي والروحي يحمل «روح الله».

إنّ أحد طرفي وجوده ينتهي إلى التراب ، وطرفه الآخر يتّصل بعرش الله ، فإنّه خليط من الملائكة والحيوان ، ولوجود هذين البعدين فإنّ منحني صعوده ونزوله ، وتكامله وانحطاطه واسع جدّا(٢) .

__________________

(١) البعض يعتبر هذه الآية إشارة إلى مراحل التكامل الجنيني فقط ، والبعض الآخر احتمل أن تكون إشارة إلى مراحل تكامل آدم بعد خلقه من التراب ، لأنّ عين هذه التعبيرات قد جاء في آيات اخرى من القرآن. إلّا أنّه لا مانع من أن تعود إلى الإثنين ، لأنّ خلق آدم من التراب ، ونسله من مني ، طوى ويطوي هذه المراحل.

(٢) بحثنا في هذا الباب في ذيل الآية (٢٩) من سورة الحجر.

١٠٨

وأشار القرآن في آخر مرحلة ـ والتي تعتبر المرحلة الخامسة في خلق الإنسان ـ إلى نعمة الاذن والعين والقلب ، ومن الطبيعي أنّ المراد هنا ليس خلقة هذه الأعضاء ، لأنّ هذه الخلقة تتكوّن قبل نفخ الروح ، بل المراد حسّ السمع والبصر والإدراك والعقل.

والتأكيد على هذه الحواس الثلاث فقط من بين كلّ الحواس «الظاهرة» و «الباطنة» ، لأنّ أهمّ حسّ ظاهري يربط الإنسان بالعالم الخارجي رابطة قويّة هو السمع والبصر ، فالأذن تدرك الأصوات ، وخاصّة أنّ التربية والتعليم يتمّ بواسطتها ، والعين وسيلة النظر إلى العالم الخارجي ومشاهدة مشاهد هذا العالم المختلفة ، وقوّة العقل أهمّ حسّ باطني لدى الإنسان ، وبتعبير آخر فإنّه حاكم على وجود البشر.

والجدير بالذكر أنّ «أفئدة» جمع «فؤاد» بمعنى «قلب» ولكن مفهومها أدقّ من القلب حين يقصد بها عادة الحنكة والفطانة في الفرد ، وبهذا يبيّن الله تعالى في هذه الآية أهمّ وسائل المعرفة والإدراك الظاهرية والباطنية في الإنسان ، لأنّ العلوم والمعارف إمّا أن يحصل عليها الإنسان بواسطة «التجربة» فالوسيلة هي السمع والبصر ، أو عن طريق التحليل والاستدلال العقلي ، والوسيلة لذلك هو العقل والفؤاد كما ورد التعبير عنه في هذه الآية ، وحتّى الإدراك الحاصل من الوحي أو الإشراق والشهود القلبي يتمّ بواسطة هذه الوسيلة أيضا ، أي «الأفئدة».

ولو فقد الإنسان هذه الوسائل للمعرفة ، فسوف يخسر قيمته تماما ويصبح مجرّد كميّة مهملة من المادّة والتراب ، ولهذا نجد الآية الشريفة محل البحث تؤكّد في ختامها على مسألة الشكر لهذه النعم العظيمة على الإنسان وتقول( قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) وذلك إشارة إلى أنّ الإنسان مهما سعى في أداء شكر هذه النعم والمواهب العظيمة ، فمع ذلك لا يؤدّي حقّ الشكر.

* * *

١٠٩

بحث

كيفية خلق آدم من التراب :

رغم أنّ الآيات القرآنية تحدّثت أحيانا عن خلق الإنسان من «طين» (كالآيات محلّ البحث) ، وكما ورد في قصّة آدم وإبليس في قوله تعالى :( فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) (١) .

وأحيانا اخرى عن الخلق من الماء مثل :( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ ) ،(٢) إلّا أنّ من المعلوم أنّ هذه جميعا تعود إلى مطلب واحد ، وحتّى عند الكلام عن خلق آدم من التراب ، مثل( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) .(٣) لأنّ المراد : التراب الممتزج بالماء ، أي الطين.

ومن هنا تتّضح عدّة نقاط :

١ ـ أنّ الذين احتملوا أنّ المراد من خلق الإنسان من التراب ، هو أنّ أفراد البشر يتغذّون على النباتات ـ سواء كانت التغذية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ وأنّ النباتات كلّها من التراب ـ قد جانبوا الصواب ، لأنّ آيات القرآن يفسّر بعضها بعضا ، والآيات أعلاه إشارة إلى شخص آدم الذي خلق من التراب.

٢ ـ أنّ كلّ هذه الآيات دليل على نفي فرضية التكامل ـ وعلى الأقل في مورد الإنسان ، وأنّ نوع البشر الذي ينتهي بآدم له خلق مستقلّ.

وما قيل من أنّ آيات الخلق من التراب إشارة إلى نوع الإنسان الذي يعود إلى الموجودات أحادية الخليّة بآلاف الوسائط ، وهي أيضا قد جاءت ـ طبقا للفرضيات الأخيرة ـ من الطين الموجود على جانب المحيطات ، أمّا نفس آدم فقد كان فردا انتخب من بين نوع البشر ، ولم يكن له خلق مستقلّ ، بل إنّ امتيازه كان

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية ٦١.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية ٣٠.

(٣) آل عمران ، ٥٩.

١١٠

في صفاته الخاصّة هذه الفرضية لا تتناسب مع ظواهر آيات القرآن بأيّ وجه من الوجوه.

وتؤكّد مجدّدا أنّ مسألة تحوّل الأنواع ليست قانونا علميّا مسلّما ، بل هي مجرّد فرضيّة ـ لأنّ الشيء الذي امتدّ أصله إلى ملايين السنين وخفي فيها ، فمن المسلّم أنّه لا يخضع للتجربة والمشاهدة ، ولا يمكن أن يكون في مصاف القوانين العلمية الثابتة ـ بل هي فرضية لتوجيه ظاهرة تنوّع الأجناس التي ظهرت إلى الوجود توجيها تخمينيا ، ونحن نعلم أنّ الفرضيات في حالة تغيّر وتحوّل دائما حيث تخلي الساحة أمام الفرضيات الجديدة.

بناء على هذا ، فإنّه لا يمكن الاعتماد عليها مطلقا في المسائل الفلسفية التي تحتاج إلى أسس مسلّمة قطعية.

وقد أوردنا إيضاحا مفصّلا حول أسس فرضية تكامل الأنواع ، وعدم صحّتها ، تحت عنوان (القرآن وخلق الإنسان) في ذيل الآية (٢٨) من سورة الحجر.

وفي نهاية هذا البحث نرى لزاما ذكر هذه المسألة ، وهي أنّه ليس لفرضية التكامل أي ارتباط بمسألة التوحيد ومعرفة الله ، ولا تعتبر دليلا على نفي عالم ما وراء الطبيعة ، لأنّ الإعتقاد التوحيدي يقول : إنّ العالم قد خلق من قبل الله سبحانه ، وإنّه هو الذي أعطى كلّ خواص الموجودات ، ويشملها بفيضه في جميع المراحل.

إنّ هذا المعنى يمكن أن يقبله المعتقد بنظرية (ثبوت الأنواع) كما يقبله من يذهب إلى (تطور الأنواع) ، غير أنّ المشكلة الوحيدة التي يواجهها المعتقد بفرضية تحوّل الأنواع هي أنّ هذه الفرضيّة لا تتناسب مع التفصيل الذي بيّنه القرآن الكريم حول خلق آدم ، حيث يذكر كيفيّة خلقه من التراب والطين.

بناء على هذا فإنّنا ننفي فرضية التكامل لهذا السبب فقط ، لا بسبب مخالفتها لمسألة التوحيد. هذا من الناحية التّفسيرية.

١١١

أمّا من الناحية العلمية ـ أي العلوم الطبيعية ـ فإنّنا ننفي فرضية التكامل ـ وكما أشير إلى ذلك ـ من جهة عدم امتلاكها الأدلّة القطعيّة على ثبوتها.

* * *

١١٢

الآيات

( وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) )

التّفسير

الندم وطلب الرجوع :

تبدأ هذه الآيات ببحث واضح جلي حول المعاد ، ثمّ تبيّن وتبحث حال المجرمين في العالم الآخر ، وهي في المجموع تتمّة للبحوث السابقة التي تحدّثت حول المبدأ ، إذ أنّ البحث عن المبدأ والمعاد مقترنان غالبا في القرآن المجيد

١١٣

فتقول : إنّ هؤلاء الكفّار يتساءلون باستغراب بأنّنا إذا متنا وتحوّلت أبداننا إلى تراب واندثرت تماما فهل سوف نخلق من جديد :( وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

إنّ التعبير بـ( ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ) إشارة إلى أنّ الإنسان يصبح ترابا بعد موته كسائر الأتربة ويتفرّق هذا التراب نتيجة العوامل الطبيعية وغير الطبيعية ، ولا يبقى منه شيء حتّى يعيده الله سبحانه في القيامة مرّة اخرى.

إلّا أنّ هؤلاء ليسوا بمنكرين قدرة الله في الحقيقة( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) فإنّهم ينكرون مرحلة لقاء الله والحساب والثواب والعقاب ولتبرير حرية العمل وليعملوا ما يريدون!

وهذه الآية تشبه كثيرا الآيات الاولى من سورة القيامة التي تقول :( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) .(١)

بناء على هذا ، فإنّ هؤلاء ليسوا قاصرين من ناحية الاستدلال ، ولكن شهواتهم حجبت قلوبهم ، ونيّاتهم السيّئة منعتهم من قبول مسألة المعاد ، وإلّا فإنّ الله الذي أعطى قطعة المغناطيس القوّة التي تجذب إلى نفسها ذرّات الحديد الصغيرة جدّا والمتناثرة في طيّات أطنان من تراب الأرض من خلال جولة سريعة في تلك الأرض ، وتجمعها بكلّ بساطة ، هو الذي يجعل بين ذرّات بدن الإنسان مثل هذه الجاذبية المتقابلة.

من الذي يستطيع أن ينكر أنّ المياه الموجودة في جسم الإنسان ـ وأكثر جسم الإنسان ماء ـ وكذلك المواد الغذائية ، كانت ذرّاتها متناثرة في زاوية من العالم قبل ألف عام مثلا ، وكلّ قطرة في محيط ، وكلّ ذرّة في إقليم ، إلّا أنّها تجمّعت عن طريق

__________________

(١) سورة القيامة ، ٣ ـ ٦.

١١٤

السحاب والمطر والعوامل الطبيعية الاخرى ، وكوّنت الوجود الإنساني في النهاية ، فأي داع للعجب من أن تجتمع وترجع إلى حالها الأوّل بعد تلاشيها وتبعثرها؟!

وتجيب الآية هؤلاء عن طريق آخر ، فتقول : لا تتصوّروا أنّ شخصيتكم بأبدانكم وأجسامكم ، بل بأرواحكم ، وهي باقية ومحفوظة :( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .

إذا لا حظنا أنّ معنى «يتوفّاكم» ـ من مادة «توفّي» (على وزن تصدّي) ، هو الإستيفاء ، فإنّ الموت سوف لا يعني الفناء ، بل نوع من قبض الملائكة لروح الإنسان التي تشكّل أهمّ من وجود الإنسان.

صحيح أنّ القرآن يتحدّث عن المعاد الجسماني ، ويعتبر رجوع الروح والجسم المادّي في المعاد حتميّا ، إلّا أنّ الهدف من الآية أعلاه هو بيان أنّ هذه الأجزاء المادّي التي شغلتم بها فكركم تماما ليست هي أساس شخصيّة الإنسان ، بل الأساس هو الجوهر الروحي الذي جاء من قبل الله تعالى وإليه يرجع.

وفي المجموع يمكن أن يقال : إنّ الآيتين أعلاه تجيبان منكري المعاد بهذا الجواب : إذا كان إشكالكم في تفرّق الأجزاء الجسمية ، فإنّكم تقرّون بقدرة الله سبحانه ولا تنكرونها ، وإذا كان إشكالكم في اضمحلال وفناء شخصية الإنسان على أثر تناثر تلك الذرّات ، فلا يصحّ ذلك لأنّ أساس شخصيّة الإنسان يستند إلى الروح.

وهذا الإيراد لا يختلف عن شبهة (الآكل والمأكول) المعروفة ، كما أنّ جوابه في الموردين يشبه جواب تلك الشبهة(١) .

وثمّة مسألة ينبغي التوجّه إليها ، وهي أنّ في بعض آيات القرآن نسب التوفّي

__________________

(١) لمزيد الإيضاح حول شبهة (الآكل والمأكول) وجوابها المفصّل راجع التّفسير الأمثل ، ذيل الآية (٢٦٠) من سورة البقرة.

١١٥

إلى الله سبحانه :( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) ،(١) وفي بعضها إلى مجموعة من الملائكة :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) (٢) . وفي الآيات مورد البحث نسب قبض الأرواح إلى ملك الموت ، إلّا أنّه لا منافاة بين هذه التعبيرات مطلقا ، فإنّ لملك الموت معنى الجنس ، وهو يطلق على كلّ الملائكة ، أو هو إشارة إلى كبير الملائكة وزعيمها ، ولمّا كان الجميع يقبضون الأرواح بأمر الله سبحانه ، فقد نسب الفعل إلى اللهعزوجل .

ثمّ تجسّد وضع هؤلاء المجرمين الكافرين ومنكري المعاد الذين يندمون في القيامة أشدّ الندم على ما كان منهم لدى مشاهدة مشاهدها ومواقفها المختلفة. فتقول :( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) (٣) .

ستعجب حقّا! أهؤلاء النادمون الناكسو الرؤوس هم أولئك المتكبّرون العتاة العصاة الذين لم يكونوا يذعنون في الدنيا لأيّة حقيقة؟! إلّا أنّهم الآن يتغيّرون تماما عند رؤية مشاهد القيامة ويصلون إلى مستوى الشهود ، لكنّ هذا الوعي وتغيير الموقف سريع الزوال ، فإنّهم ـ وطبقا لآيات القرآن الاخرى ـ لو رجعوا إلى هذه الدنيا لعادوا إلى حالتهم الأولى ، الأنعام / الآية ٢٨.

«الناكس» من مادّة (نكس) على وزن (كلب) بمعنى انقلاب الشيء ، وهنا يعني خفض الرأس إلى الأسفل وطأطأته.

تقديم «أبصرنا» على «سمعنا» لأنّ الإنسان يرى المشاهد والمواقف أوّلا ، ثمّ يسمع استجواب الله والملائكة.

__________________

(١) الزمر ، ٤٢.

(٢) النحل ، ٢٨.

(٣) (لو) في الآية الشريفة شرطية ، شرطها جملة (وترى ..) وجزاؤها محذوف ، والتقدير : «ولو ترى إذ المجرمون لرأيت عجبا». وفي جملة (ربّنا أبصرنا) حذف تقديره : يقولون ربّنا أبصرنا.

١١٦

ويتبيّن ممّا قلناه أنّ المراد من «المجرمين» هنا الكافرون ، وخاصّة منكري القيامة.

وعلى كلّ حال ، فليست هذه المرّة الاولى التي نواجه فيها هذه المسألة في آيات القرآن ، وهي أنّ المجرمين يندمون أشدّ الندم عند مشاهدة نتائج الأعمال والعذاب الإلهي ، ويطلبون الرجوع إلى الدنيا ، في حين أنّ مثل هذا الرجوع غير ممن في السنّة الإلهية ، كما أنّ رجوع الطفل إلى رحم الأمّ ، والثمرة المقطوفة إلى الشجرة غير ممكن.

والجدير بالذكر أنّ طلب المجرمين الوحيد هو الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا ، ومن هنا يتّضح جيّدا أنّ رأس مال النجاة الوحيد في القيامة هو الأعمال الصالحة تلك الأعمال التي تنبع من قلب طاهر مليء بالإيمان ، وتتمّ بخالص النيّة.

ولمّا كان كلّ هذا الإصرار والتأكيد على قبول الإيمان قد يوهم عجز الله سبحانه عن أن يلقي نور الإيمان في قلوب هؤلاء ، فإنّ الآية التالية تضيف :( وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) .

فمن المسلّم أنّ الله تعالى يمتلك مثل هذه القدرة ، إلّا أنّ الإيمان الذي يتحقّق ويتمّ بالإجبار لا قيمة له ، ولذا فالمشيئة الإلهيّة أرادت أن ينال الإنسان شرف كونه مختارا ، وأن يسير في طريق التكامل بحريته وإختياره ، ولذلك تضيف في النهاية لقد قرّرت أن أخلق الإنسان مختارا( وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

أجل إنّ المجرمين سلكوا هذا الطريق بسوء اختيارهم ، ولذلك فهم مستحقّون للعقاب ، ونحن قد قطعنا على أنفسنا أن نملأ جهنّم منهم.

وبملاحظة ما قلناه ، وبملاحظة مئات الآيات القرآنية التي تعتبر الإنسان موجودا مختارا ذا إرادة ، ومكلّفا بتكاليف ، ومسئولا عن أعماله ، وقابلا للهداية

١١٧

بواسطة الأنبياء وتهذيب النفس وتربيتها ، فإنّ كلّ توهّم يبتني على أنّ الآية أعلاه دليل على الجبر ـ كما ظنّ ذلك الفخر الرازي وأمثاله ـ واضح البطلان.

ولعلّ الجملة الشديدة القاطعة أعلاه إشارة إلى أن لا تتصوّروا أنّ رحمة الله الواسعة تمنع من عقاب المجرمين الفسقة والظالمين ، وأن لا تغترّوا بآيات الرحمة وتعدّوا أنفسكم بمأمن من العذاب الإلهي ، فإنّ لرحمته موضعا ، ولغضبه موضعا.

إنّهعزوجل سيفي بوعيده حتما ـ وخاصّة بملاحظة لام القسم في جملة (لأملأنّ) ونون التوكيد في آخرها ـ وسيملأ جهنّم من أصحابها هؤلاء ، وإن لم يفعل فذلك خلاف الحكمة ، ولذلك تقول الآية التالية : إنّا سنقول لأصحاب النار( فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

مرّة اخرى يستفاد من هذه الآية أنّ نسيان محكمة القيامة العادلة هو الأساس لكلّ تعاسة وشقاء للإنسان ، لأنّه سيرى نفسه في هذه الصورة حرّا إزاء ارتكاب القبائح والظلم والعدوان.

وكذلك يستفاد من الآية بوضوح أنّ العقاب الأبدي للفرد معلول لما ارتكبه من أعمال في دار الدنيا ، لا لشيء آخر.

وضمنا يتّضح أنّ المراد من «نسيان الله» هو عدم رعايته ونصرته لهم ، وإلّا فإنّ جميع العالم حاضر دوما عند الله ، ولا معنى للنسيان بالنسبة لهعزوجل .

* * *

مسألتان

١ ـ استقلال الروح وأصالتها

الآية الاولى من الآيات مورد البحث ، والتي لها دلالة على قبض الأرواح بواسطة ملك الموت ، من أدلّة استقلال روح الإنسان ، لأنّ التعبير بالتوفّي (والذي

١١٨

يعني القبض) يوحي بأنّ الروح تبقى بعد انفصالها عن البدن ولا تفنى.

والتعبير عن الإنسان في الآية بالروح أو النفس في الآية أعلاه شاهد آخر على هذا المعنى ، لأنّ الروح ـ وفق نظرية المادّيين ـ ليست إلّا الخواص الفيزيائية والكيميائية للخلايا المخيّة ، وهي تفنى بفنائها ، تماما كما تفنى حركات عقارب الساعة بعد فنائها وتحطّمها. وطبقا لهذه النظرية فإنّ الروح ليست هي المحافظة على شخصية الإنسان ، بل هي جزء من خواصّ جسمه تتلاشى عند تلاشي جسمه.

ولدينا أدلّة فلسفية عديدة على أصالة الروح واستقلالها ، ذكرنا بعضا منها في ذيل الآية (٨٥) من سورة الإسراء ، والمراد هنا بيان الدليل النقلي على هذا الموضوع ، حيث تعتبر الآية أعلاه من الآيات الدالّة على هذا المعنى.

٢ ـ ملك الموت

يستفاد من آيات القرآن المجيد أنّ الله سبحانه يدبّر امور هذا العالم بواسطة مجموعة من الملائكة ، كما في الآية (٥) من سورة النازعات حيث يقول :( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) ونعلم أنّ السنّة الإلهيّة قد جرت على أن تمضي الأمور بأسبابها.

وقسم من هؤلاء الملائكة هم الملائكة الموكّلون بقبض الأرواح ، والذين أشارت إليهم الآيات (٢٨ و٣٣) من سورة النحل ، وبعض الآيات القرآنية الاخرى ، وعلى رأسهم ملك الموت.

وقد رويت أحاديث كثيرة في هذا الباب ، تبدو الإشارة إلى بعضها لازمة من جهات:

١ ـ في حديث روي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الأمراض والأوجاع كلّها بريد الموت ورسل الموت! فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال : يا أيّها العبد ، كم خبر بعد خبر؟ وكم رسول بعد رسول؟ وكم بريد بعد بريد؟ أنا الخبر

١١٩

الذي ليس بعدي خبر! وأنا الرّسول أجب ربّك طائعا أو مكرها.

فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه ، قال : على من تصرخون؟ وعلى من تبكون؟

فو الله ما ظلمت له أجلا ، ولا أكلت له رزقا ، بل دعاه ربّه ، فليبك الباكي على نفسه ، وإنّ لي فيكم عودات وعودات حتّى لا ابقي فيكم أحدا»(١) .

طالعوا هذا الحديث المروّع مرّة اخرى ، فقد أخفيت فيه حقائق كثيرة.

٢ ـ وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «دخل رسول الله على رجل من الأنصار يعوده ، فإذا ملك الموت عند رأسه ، فقال رسول الله : يا ملك الموت ، ارفق بصاحبي فإنّه مؤمن ، فقال : أبشر يا محمّد ، فإنّي بكلّ مؤمن رفيق ، واعلم يا محمّد ، أنّي لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله ، فأقوم في جانب الدار فأقول : والله ، ما لي من ذنب ، وإنّ لي لعودة وعودة ، الحذر الحذر ، وما خلق الله من أهل بيت ولا مدر ولا شعر ولا وبر ، في برّ ولا بحر إلّا وأنا أتصفّحهم في كلّ يوم وليلة خمس مرّات حتّى أنّي لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم»(٢) .

وقد وردت روايات اخرى بهذا المضمون في مختلف المصادر الإسلامية ، تحذّر جميعا كلّ البشر أنّ المسافة بينهم وبين الموت ليست كبيرة! ومن الممكن جدّا أن ينتهي كلّ شيء في لحظة قصيرة.

أيحسن بالإنسان والحال هذه أن يغترّ وينخدع بزخارف هذه الدنيا وزبرجها ، ويتلوّث بأنواع المعاصي والظلامات ، ويبقى غافلا عن عاقبة أعماله؟!

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ، وتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٢٢٥.

(٢) تفسير الدرّ المنثور طبقا لنقل الميزان ، الجزء ١٦ ، صفحة ٢٥٥.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بين يدي محاوراته مع عثمان

لقد قرأنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى من هذه الموسوعة كثيراً من أخبار ابن عباس في أيام عثمان ، ولمّا كان حال عثمان غير خفيّ في التاريخ ، بالرغم من موضوعات زادت في تشويهه بأكاذيب أموية ، لكنها لم تصنع شيئاً ، فبقيت حال عثمان كما هي معلومة نسباً وحسباً وصحبةً ومصاهرةً وحكومةً وممارسةً وضلوعاً وإنصياعاً لبني أمية ، ما سببّت نقمة الناس عليه ، لأمور صدرت منه ومنهم ما كان ينبغى لمثله في سنّه وشأنه أن تنسب إليه فيؤاخذ عليها حتى أودت بحياته ، فكان كما قال عنه الدكتور طه حسين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) :

( فأمّا عثمان فمهما يكن إعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه ، فإنّه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العُنف بالرعية ، ضرباً ونفياً وحبساً ، وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيّ ، فضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق ، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبيّ إخراجاً عنيفاً ، حتى كسر بعض أضلاعه ).

وقال أيضاً : ( فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم وعلى أمنهم وحريتهم ليست من سيرة النبيّ ولا من سيرة الشيخين في شيء ).

١٤١

وقال أيضاً : ( والسياسة المالية التي أصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع النقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ، ومن أكثر الرواة والمؤرخين ).

وقال أيضاً : ( ولو سار عثمان في الأموال العامّة سيرة عمر فلم ينفق المال إلاّ بحقه ، لجنّب نفسه وجنّب المسلمين شراً عظيماً ، ولكان من الممكن أن ينشئ الإسلام للإنسانية نظاماً سياسياً وإجتماعياً صالحاً يجنبّها كثيراً من الإضطراب الذي اضطرت إليه ، والفساد الذي تورطت فيه )(1) .

أقول : وعلى نحو ما مرّ من أقوال طه حسين نجد أقوال آخرين من الباحثين المحدثين ، ولا بدع لو التقت أراؤهم في نقد أفعاله وأختلفت أقوالهم في توجيه سياسته والتي رأوها جميعاً سياسية أموية رعناء جلبت له وللأمة كثيراً من الشر ، وكثرّت عليه أسباب النقمة ، بداية من المسلمين الصحابة في المدينة ، وسرعان ما أستطار شررها إلى بقية الأمصار ، فكثرت وفود الساخطين من العراق ومصر وغيرهما والتقوا بالصحابة فتفاقم الخطب.

وكانت شدّة المحنة والمعاناة عندما فزع الثوار إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشكون حالهم ، فيسارع هو إلى عثمان ناصحاً في محاولات إصلاح بين الطرفين ، لكن عثمان لم يستجب للنصح ، بل وزاد في تعقيد الأمور إتهامه الإمام عليه السلام ما دام كثير من الثوار اتخذوه لجأً ، يرجون إغاثتهم

____________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 190 ـ 198.

١٤٢

من سوء أفعال عثمان وبطانته ، وكلّما دافع الإمام عليه السلام عن عثمان بالحسنى إزداد تصلّب الساخطين ، فآثر الإعتزال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، غير أنّ عثمان وبتحريض من بني أمية كان يزداد غضباً وحنقاً عليه ، ممّا أضطر العباس بن عبد المطلب ومن بعده ابنه عبد الله حبر الأمة القيام بمحاولات إصلاحية أيضاً ولتهدئة الخواطر ، عسى أن تهدأ الفورة وتسكن الثورة ، ولم تنجح تلك المساعي ، لأنّ عثمان كان إذن شرّ يسمع لما يقوله له مروان وبني أمية.

ومع كثرة الشواهد على المساعي الإصلاحية التي بذلها الإمام عليه السلام وعمه العباس وابنه عبد الله ، كان عثمان يتهمهم في النصح ، مع أنّه لو أنصفهم لوجدهم أحرص الناس عليه وأرعى ذماماً له للقرابة النسبية منه ، وهذا ما سنقرأ بعضاً منه في مواقف العباس وابنه عبد الله بن عباس في إصلاح ذات البين ، لكن عثمان ـ كما قلناـ كان مغلوباً على أمره من قبل بني أمية ، وفي قلوبهم جميعاً من الحقد والشنآن على بني هاشم عموماً وعلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً ، ممّا طغى على لسان عثمان ، فأظهرته فلتات اللسان عن بعض ما يضمره الجنان من الحقد والشنآن ، فيقول للإمام عليه السلام مغاضباً وعاتباً : ( ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم سبعين ترد آنافهم الماء قبل شفاهم ) ، وفي لفظ آخر : ( كأن أعناقهم أباريق فضة ) ، ونحو هذا. ولقد همّ مرّة ـ وربما أكثر ـ بأن ينفي الإمام عليه السلام من المدينة كما صنع مع أبي ذر ، كما ستأتي الإشارة إليه في مواقف العباس الإصلاحية والإستصلاحية.

١٤٣

وإلآن إلى قراءة بعضها ، ولنبدأ بما رواه الطبري في تاريخه :

( بسند عن حمران بن أبان ، قال : أرسلني عثمان إلى العباس بعدما بويع فدعوته له ، فقال : مالك تعبدتني ـ ( تبعّدتني ظ )؟ قال : لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم. قال ـ العباس ـ : الزم خمساً لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها. قال : وما هي؟ قال : الصبر عن القتل ، والتحبب ، والصفح ، والمدارات ، وكتمان السر )(1) .

ولكن عثمان لم يلتزم بنصيحة العباس ، بل استمر على حاله ، فاتسع الخرق على الراقع ، حتى عجز العباس من رأب الصدع ، مع ما كان فيه من حنكة رأي وجودة تدبير ، حتى قيل له داهية قريش ، ولمّا رأى تسافل الحال ونذر الشر بدت تلوح في الأفق ، فصار يدعو ربّه أن يسبق به أجله قبل وقوع الكارثة التي بدت بوادرها تنذر بشر مستطير فإستجاب له ربّه ، فما كانت إلاّ جمعة حتى لقي ربّه.

أمّا عن مواقفه في نصيحة عثمان في كفّ أذاه عن الإمام عليه السلام وعن الأمّة فهي متعددة ، أذكر بعضها :

فمنها ما ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال :

( روى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ما سمعت من أبي شيئاً قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ، ولا سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه ، فأنا عنده

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 400 ط دار المعارف بمصر.

١٤٤

ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب ، فقال : أئذنوا له ، فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه ، فلمّا رفع قام من كان هناك وثبتّ أنا.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا خال فإنّي قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليّ سبّني ، وشهر أمري ، وقطع رحمي ، وطعن في ديني ، وإنّي أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب ، إن كان لكم حقّ تزعمون أنّكم غُلبتم عليه فقد تركتموه في يدي مَن فعل ذلك بكم ، وأنا أقرب إليكم رحماً منه ، وما لمت منكم أحداً إلاّ عليّاً ، ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.

قال ابن عباس : فحمد أبي الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا بن أختي فإن كنت لا تحمد عليّاً لنفسك فإنّي لا أحمدك لعليّ ، وما عليّ وحده قال فيك ، بل غيره ، فلو أنّك اتهمت نفسك للناس أتهم الناس أنفسهم لك ، ولو أنّك نزلت ممّا رقيت وأرتقوا ممّا نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.

قال عثمان : فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم.

قال : أفأذكر لهم ذلك عنك؟

قال : نعم ، وأنصرف.

فما لبثنا أن قيل : هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب ، قال أبي : أئذنوا له ، فدخل فقام قائماً ولم يجلس وقال : لا تعجل يا خال حتى أوذنك. فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج فهو

١٤٥

الذي ثناه عن رأيه الأوّل.

فأقبل عليَّ أبي وقال : يا بني ما إلى هذا من أمره شيء. ثمّ قال : يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لابدّ منه. ثمّ رفع يديه فقال : اللّهمّ اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه ، فما مرّت جمعة حتى مات رحمه الله )(1) .

ومنها ما رواه البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، بإسناده عن صهيب مولى العباس ، قال :

( إنّ العباس قال لعثمان : أذكرّك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك ، وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد بلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه.

فقال : أوّل ما أجيبك به أنّي قد شفعتك ، إنّ عليّاً لو شاء لم يكن أحد عندي إلاّ دونه ، ولكن أبى إلاّ رأيه. ثم قال لعليّ مثل قوله لعثمان.

فقال عليّ : لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت )(2) .

وهذا رواه ابن عساكر أيضاً في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، بسنده عن صهيب مولى العباس ، وجاء في آخر قول الإمام عليه السلام : ( فأمّا أداهن أن لا

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 397.

وهذه الواقعة غير التي سبقتها وان عاصرتها زماناً ففي الاُولى كانت الشكوى في دار عثمان والعباس حاضر عنده. أمّا هذه فهي في دار العباس وعثمان حاضر عنده ، ولا مانع من تعدّدهما إذا عرفنا تخبّط السياسة يومئذ في معالجة مشاكل الناس وأستحواذ مروان على عثمان في تدبير أُموره.

(2) أنساب الأشراف 1 / 498 ـ 499.

١٤٦

يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل )(1) .

وجاء الخبر في ( التعديل والتجريح ) مسنداً عن سهيل مولى العباس يقول : ( أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه ، فأتاه فقال : أفلح الوجه أبا الفضل ، قال : ووجهك يا أمير المؤمنين. قال : عليّ ابن عمك وابن عمتك وصهرك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال : لو شاء عليّ ما كان دونه أحد ، ثم أرسلني إلى عليّ ، فقال : إنّ عثمان ابن عمك وابن عمتك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم وولي بيعتك ، فقال : لو أمرتني أن أخرج من داري لفعلت )(2) .

ومنها ما رواه البلاذري وغيره ، واللفظ له قال :

( حدثني عباس بن هشام ، عن أبيه ، عمّن حدثه ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : إنّ عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له : يا خال إنّ عليّاً قد قطع رحمي ، وألّب الناس عليَّ ، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيمّ وعدي ، فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه.

قال عبد الله بن العباس : فأطرق أبي طويلاً ، ثم قال : يا بن أخت لئن كنت لا تحمد عليّاً فما نحمدك له ، وأن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يُدفع ولا يجحد ، فلو رقيت فيما تطأطأ ، أو تطأطأت فيما رقي ،

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 39 / 264 ط دار الفكر بيروت.

(2) التعديل والتجريح 3 / 1007.

١٤٧

تقاربتهما ، وكان ذلك أوصل وأجمل.

قال : قد صيّرت الأمر عن ذلك إليك ، فقرّب الأمر بيننا.

قال : فلمّا خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه ، فما لبثنا أن جاء أبي رسول عثمان بالرجوع إليه ، فلمّا رجع ، قال : يا خال أحبّ أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأي.

فخرج أبي من عنده ثم التفت إلى فقال : يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء ، ثم قال : اللهم أسبق بي الفتن ، ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه ، فما كانت جمعة حتى هلك )(1) .

ويبدو لي تعدّد الوقائع مع تقارب الزمان بينهما ، ففي الرواية الأولى كانت الشكاة في دار العباس وقد أتاه عثمان بنفسه ليلة وأصاب معه من عشائه ثم نفث شكاته ، وفي الرواية الثانية التي رواها البلاذري بسنده عن ابن عباس أنّ التشاكي كان في دار عثمان ، وفي خبر التعديل والتجريح أنّ العباس أرسل مولاه سهيل فاستدعى عثمان إلى بيته ونصحه باستعمال الرفق واللين مع عليّ عليه السلام ، وفي كلّ الروايات قرأنا طرحاً إستصلاحياً يكاد النجاح حليفه ، لكن صراحة استحواذ مروان على عثمان في تخبطه السياسي فلم يدع مجالاً للعباس ولا لغيره أن يصلح بينه وبين الناس لمعالجة المشاكل العالقة يومئذ.

ويبدو لي أنّ العباس يأس من إصلاح ما أفسده بنو أمية من أمر

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق4 / 498 ـ 499.

١٤٨

عثمان ، وتوقع المزيد من طوارق الحدثان تجتاح المجتمع الإسلامي في المدينة وغيرها ، ولذلك دعا أن يسبقها أجله ، فمرض فكان العوّاد يعودونه ، فكان آخر نصائحه لعثمان حين دخل عليه في مرضه الذي مات فيه :

( فقال ـ عثمان ـ : أوصني بما ينفعني ( الله ) به.

فقال : إلزم ثلاث خصال خواص تصيب بها ثلاث عوام ، فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب ، وحفظ اللسان ، تُصب بها سُرور الرعية ، وسلامة الدين ، ورضا الربّ )(1) .

ولشدّة اهتمامه بوحدة كلمة المسلمين وصلاح ذات البين كانت وصاياه لعثمان ، وكذلك كانت وصيته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً ، وهي آخر وصية صدرت منه ، تكشف عن بُعد نظر في قراءة المستقبل المظلم الذي ستنتصر فيه قوى الشر على وحدة الخير ، ويكون عليّ عليه السلام ضحيتها ، لذلك كانت نظرة العباس تفيض بالألم على ما أصاب بني هاشم من تحديات وإحباطات سابقاً ، مضافاً إلى ما سيلاقونه لاحقاً من عقبات ومعادات من أعدائهم مع خذلان من أنصارهم ، إلاّ من رحم الله فحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقليلٌ ما هم.

كلّ هذا كان عند العباس بثاقب نظره رؤيا العين ، فهو إذ يوصي الإمام عليه السلام بتجنب المواجهة مع عثمان خشية عليه من أن يعصب به كلّ

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 21.

١٤٩

الإضطغان القرشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدماء التي أُريقت في سبيل الإسلام ، من قريش وغيرهم ، والعباس كان يعرف كراهية قريش لبني هاشم منذ عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.

والآن إلى قراءة وصيته لابن أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

وصية العباس للإمام عليه السلام :

لقد سبق ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس ، إلاّ أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى ذكرها ثانياً.

قال ابن أبي الحديد : ( قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه السلام في علته التي مات فيها ، فقال : أي بُنيّ إنّي مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، وإذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إنّ هذا الرجل ـ يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلاّ مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلاّ مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلّة علم ولكن من قلّة قبول ، ومع هذا كلّه فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنّه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ،

١٥٠

وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت ، فإن قلت : كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لأنّك بالأمس الأدنى هرولتَ إليهم ، تظن أنّهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك ، ويطأون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده(1) في السافياء(2) ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنّه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلاّ عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له ، وَمَن ههنا حوله ، ومن يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك والحبّ لك ، فإنّهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتم ، وتصدّيت له مرّة بعد مرّة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا

____________________

(1) يتدهده : يتدحرج.

(2) السافياء : الريح التي تحمل التراب.

١٥١

توتر قوسك إلاّ بعد الثقة بها ، وإذا أعجبتك فأنظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلاّ لتصيب ، وأنظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف(1) ، وقم إذا بدا لك )(2) .

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : ( قلت : الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ عليه السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنّا فانّي أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا أستحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنّه إن أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو أجري به إلى زهده في الإمارة ورغبته عن الولاية ، فكلّ هذا رأي حسن وصوابه ، وإن كان منزعه في ذلك إلى أنّك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنّهم يطلبونك ويضربون إليك آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ،

____________________

(1) هي قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً _ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً _ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً _ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف / 107 ـ 110.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 282 ط مصر الاُولى.

١٥٢

لأنّه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة إليه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم ، فإنّ قريشاً كلّها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار أنّه قد عكف على جمع القرآن ، وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلاّ بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فأحسب أنّك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا إنّ ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه.

١٥٣

واعلم أنّ كلّ دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيف عليّ عليه السلام وبسيف غيره ، فإنّ العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده ، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صُباره

وحوادث الأيام لايبقى لها إلاّ لحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلال كشيحه وقد سلبوا أزاره

فاقتل زرارة لا أرى في القوم أمثل من زرارة

أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه )(1) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 283 ط الأولى بمصر.

١٥٤

محاورات ابن عباس مع عثمان

بين يدي المحاورة الأولى :

نذكر ما روى الواقدي في كتاب ( الشورى ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السلام يوماً فقال له في بعض ما قاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً ، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولستُ بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً وأقرب إليك صهراً ، فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثمّ أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الأمر جَداً فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليّا ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي فكن لي كما كنت لهما.

فقال عليّ عليه السلام : أمّا الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهّل إليها سبيلاً ، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه ، وأهديك إلى رشدك.

وأمّا عتيق وابن الخطاب ، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين. فأمّا أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع ، فقد أصاب السهم الثغرة ،

١٥٥

وأمّا أن يكون حقي دونهم ، فقد تركته لهم طبت به نفساً ، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأمّا التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنّهما وليا هذا الأمر فطلقا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو وأنظر هل بقي من عمرك إلاّ كظمء الحمار ، فحتى متى وإلى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟ والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان أثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل وأعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون.

ثمّ أفترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجتريء عليك الناس فلا تعزل أحداً منهم )(1) .

المحاورة الثانية :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) بسنده عن ابن عباس S قال : ( صليت العصر يوماً ثمّ خرجت ، فإذا أنا بعثمان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه ، فقال لي : هل رأيت عليّاً؟

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 398 ط مصر الأولى.

١٥٦

قلت : خلّفته في المسجد ، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله.

قال : أمّا منزله فليس فيه ، فابغه لنا في المسجد ، فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا عليّ عليه السلام يخرج منه.

ـ قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند عليّ فذكر عثمان وتجرّمه عليه ، وقال : أما والله يا بن عباس إنّ من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه. فقلت له : يرحمك الله كيف لك بهذا ، فإن تركته ثمّ أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال : أعتلّ وأعتلّ فمن يضرّني؟ قال : لا أحدـ

قال ابن عباس : فلمّا تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من الالتفات والطلب للإنصراف ما أستبان لعثمان ، فنظر إليّ عثمان ، وقال : يا ابن عباس أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟

فقلت : ولِمَ وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم.

فلمّا تقاربا رماه عثمان بالسلام فردّ عليه. فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا. فقال عليّ : أيّ ذلك أحببت. قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه ، فنكصت عنهما ، فدعواني جميعاً فأتيتهما.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال : أمّا بعد يا ابنّي خاليّ وابنيّ عمّي فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر ، إنّي أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فياتكما وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس

١٥٧

ما أنتصرت إلاّ بكما ، ولو تهضّموني ما تعززت إلاّ بعزّكما ، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوّفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه. ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما ، فمنعني الله والرحم ممّا أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه وتصدقا ، فإنّ الصدق أنجى وأسلم ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال ابن عباس : فأطرق عليّ عليه السلام وأطرقت معه طويلاً. أمّا أنا فأجللته أن أتكلّم قبله ، وأمّا هو فأراد أن أجيب عنّي وعنه ؛ ثمّ قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك؟ قال : بل تكلم عني وعنك.

فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصلّيت على رسوله ، ثمّ قلت : أمّا بعد يا ابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك ـ زعمت ـ عن أحدنا ووجدك على الآخر ، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك ، اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذمّ مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلاّ ظنّاً ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثمّ نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فياتك استيهابك إيانا فيأتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنّا معاً أيّما حمدت وذممت منّا كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا إختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله ، فوالله ما تعلمنا غير معذّرين فيما بيننا وبينك ، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين إليك ،

١٥٨

فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.

وأمّا قولك : لو غالبني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما ، أو تهضّموني ما تعزّزت إلاّ بعزّكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :

بدا بحتر ما رام نال وإن يرم

نخض دونه غمرا من الغر رائمه

لنا ولهم منا ومنهم على العدى

مراتب عزّ مصعدات سلالمه

وأمّا قولك في هيج العدو إياك وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلاّ وقد أتانا بأعظم منه ، فمنعناه ما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلاّ على أدياننا وأعراضنا ومروآتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوّفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت.

وأمّا مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك ، فإنّا نخبرك أنّ ذلك إلى ما تحبّ لا يعلم واحد منّا من صاحبه إلاّ ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به ، وقد برّأت أحدنا وزكّيته وأنطقت الآخر وأسكته ، وليس السقيم منّا ممّا كرهت بأنطق من البري فيما ذكرت ، ولا البري منّا ممّا سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت ، فإمّا جمعتنا في الرضا وإمّا جمعتنا في السخط ، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا

١٥٩

وصدقناك ، والصدق ـ كما ذكرت ـ أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقص والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره ، وأصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك.

قال ابن عباس : فنظر إليّ عليّ عليه السلام نظر هيبة ، وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه. فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بإذنه ما زال متجرّماً منتقماً ، والله ما أنا ملقى على وضمة ، وإنّي لمانع ما وراء ظهري ، وانّ هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة.

فقال عثمان : مهلاً أبا حسن فوالله إنّك لتعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده : إنّ من أصحابي لقوماً سالمين لهم وانّ عثمان لمنهم ، إنّه لأحسنهم بهم ظنّاً ، وأنصحهم لهم حبّاً.

فقال عليّ عليه السلام : فصدّق قوله صلى الله عليه وآله وسلم بفعلك ، وخالف ما أنت الآن عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت.

قال عثمان : تثق يا أبا الحسن؟

قال : نعم أثق ولا أظنك فاعلاً.

قال عثمان : قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ولا يكذّب لقيله.

قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثمّ افترقا ، فوالله ما مرّت ثالثة حتى

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510