الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156538 / تحميل: 5914
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

ورد في كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان )(١) ثلاث حكايات وقعت ببركة صاحب المقام عجل الله تعالى فرجه الشريففي القرن الثامن الهجري ، لم تقتري الحكاية الأولى بتاريخ لكن الحكايتين التاليتين ورد فيهما تاريخ صريح ، فلنورد الحكاية الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً

وقبل أن ننقل الحكايات الثلاث ، تذكر ترجمة صاحب الكتاب ، وثناء العلماء عليه حتى يتبين لنا صدقه في النقل.

أقول : إن مؤلف كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان ) ، هو السيد بهاء الدين علي ابن السيد غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي غياث الدين(٢) ابن السيد جلال الدين عبد الحميد(٣) بن عبد الله بن أسامة(٤) بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر(٥) بن يحيى ( القائم

__________________

١ ـ نقلاً عن بحار الأنوار / للعلامة المجلسي ( أعلى الله مقامه ).

٢ ـ الذي خرج عليه جماعة من العرب بشط سوراء بالعراق وحملوا عليه وسلبوه فمانعهم عن سلب سراويله فضربه أحدهم فقتله وكان عالماً تقياً.

٣ ـ الذي يروي عنه محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير وقال فيه : أخبرني السيد الأجل العالم عبد الحميد بن التقي عبد الله بن أسامة العلوي الحسيني رَضيَ اللهُ عَنه في ذي القعدة نم سنة ثمانين وخمسمائة قراءة عليه بحلة الجامعين.

٤ ـ متولّي النقابة بالعراق.

٥ ـ الوئيس الجليل الذي رد الله على يده الحجر الأسود لما نهبت القرامطة مكة في سنة

٦٢

٦٣

بالكوفة ) ابن الحسين ( النقيب الطاهر ابن أبي عاتقة أحمد الشاعر المحدث ) ابن أبي علي عمر بن أبي الحسين يحيى(١) ابن أبي عاتقة الزاهد العابد الحسين(٢) بن زيد الشهيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: النيلي(٣) النجفي النسابة.

وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد المجاز منه في ٧٩١ هـ أدرك أواخر عهد فخر المحققين تـ ٧٧١ هـ والسيدين العلمين عميد الدين وضياء الدين والشهيد محمد بن مكي العاملي ويروي عنهم جميعاً ، كما يروي عن الشيخ المقريء والحافظ شمس الدين محمد بن قارون وغيرهم.

وأما كتابه هذا فقد نقل عنه الشيخ حسن ين سليمان الحلي ( من علماء القرن التاسع ) في كتابه ( مختصر بصائر الدرجات ) ص ١٧٦ ، والعلامة المجلسي; في ( بحار الأنوار ) ، والميرزا الافندي; في ( رياض العلماء ) والبهبهاني; في ( الدمعة الساكبة ).

__________________

ثلاث وعشرين وثلاثمائة وأخذوا الحجر وأتو به إلى الكوفة وعلقوه في السارية السابعة من المسجد التي كان ذكرها أمير المؤمنين7 فإنه قال ذات يوم بالكوفة : لا بد أن يسلب في هذه السارية وأومى إلى السارية السابعة والقصة طويلة وبنى قبة جده أمير المؤمنين7 من خالص ماله.

١ ـ من أصحاب الكاظم7 المقتول سنة خمسين ومثتين الذي حمل رأسه في قوصرة إلى المستعين.

٢ ـ الملقب بذي الدمعة الذي رباه الإمام الصادق7 وأورثه علماً جمّا.

٣ ـ النيل : بلدة تقع على نهر النيل ، وهو يتفرع من نهر الفرات العظمى احتفره الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٢ هـ وهي مركز الإمارة المزيدية قبل تأسيس الحلة.

٦٤

ويظهر من بعض حكايات الكتاب أن تاريخ كتابته سنة ٧٨٩ هـ(١) وللسيد هذا كتب أخرى لا أرى بايراد أسمائها هنا بأساً :

أ ـ كتاب الأنوار المضيّة في الحكم الشرعية.

ب ـ كتاب الغيبة.

جـ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد.

د ـ سرور أهل الإيمان.

هـ ـ كتاب الانحراف من كلام صاحب الكشاف.

و ـ كتاب الأنصاف في الرد على صاحب الكشاف.

ز ـ كتاب شرح المصباح للشيخ الطوسي.

ي ـ كتاب الرجال ( ينسب اليه ).

في الثناء عليه :

قال تلميذه ابن فهد الحلي; تـ ٨٤١ هـ : حدثني المولى السيد السعيد الإمام بهاء الدين

وقال تلميذه الشيخ حسن بن سليمان الحلي; : ومما رواه لي ورويته عنه السيد الجليل السعيد الموفق الموثق بهاء الدين

وقال العلامة المجلسي; : السيد النقيب الحسيب بهاء الدين

وقال الميرزا الافندي; : السيد المرتضى النقيب الحسيب

__________________

١ ـ وللاسف الشديد ان هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن برغم وجود نسخه الخطية في المكتبات العامة فمن قلمنا هذا ندعو مؤسسات النشر والتأليف إلى اخراجه للطبع وطبع كتب هذا السيد الجليل وتحقيقها خدمة للمذهب الإمامي واحياءً لآثار هذا السيد الجليل.

٦٥

النسابة الكامل السعيد الفقيه الشاعر الماهر العالم الفاضل الكامل صاحب المقامات والكرامات العظيمة قدس الله روحه الشريفة كان من أفاضل عصره وقال الميرزا النوري; : السيد الأجل الأكمل الارشد المؤيد العلامة النحرير ،(١) كان حياً سنة ٨٠٠ هـ

الحكاية الأولى :

حكاية أبي راجح الحمامي الشيخ الذي أصبح شاباً

نقل العلامة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١١ هـ ) في بحار الانوار عن كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الايمان ) تأليف العامل الكامل السيد علي بن عبد الحميد النيلي النجفي ، انه قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع ، وملأ البقاع ، وشهد بالعيان أبناء الزمان ، وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلة ، وقد حكى ذلك جماعة من الاعيان الاماثل ، وأهل الصدق الافاضل ، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلّمه الله تعالى قال :

كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أنّ أباراجح هذا يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه ، حتى انه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه ، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق النفه ، ووضع فيه شركة من الشعر وشدّ فيها حبلاً وسلمه الى جماعة من اصحابه ،

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٤ / ص ٨٨ و ١٢٤ ـ ١٣٠ ، خاتمة المستدرك ط ح ص ٤٣٥ ، سفينة البحار ج ٢ / ط. ح / ص ٢٤٨ الذريعة في أجزائها وطبقات أعلام الشيعة.

٦٦

وأمرهم أن يدوروا به أزقّة الحلة ، والضرب يأخذه من جميع جوانبه ، حتى سقط الى الارض وعاين الهلاك ، فأخبر الحاكم بذلك ، فأمر بقتله ، فقال الحاضرون انه شيخ كبير ، وقد حصل له ما يكفيه ، وهو ميّت لما به فاتر كه وهو يموت حتف أنفه ، ولا تتقلّد بدمه ، وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في البيت ولم يشكّ أحدّ أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغدغدا عليه الناس فاذا هو قائم يصلّي على أتم حالة ، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت ، واندملت جراحاته ، ولم يبق لها أثر ، والشجّة قد زالت من وجهه!

فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره فقال : اني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان اسأل الله تعالى به فكنت اسأله بقلبي واستغثت الى سيدي ومولاي صاحب الزمان7 .

فلما جنّ عليّ الليل فاذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان7 قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي : ( اخرج وكدّ على عيالك ، فقد عافاك الله تعالى ) فأصبحت كما ترون.

وحكى الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

وأقسم بالله تعالى إن هذا ابو راجح كان ضعيفاً جداً ، ضعيف التركيب ، اصفر اللون ، شين الوجه ، مقرض اللحية ، وكنت دائماً أدخل في الحمام الذي هو فيه ، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل.

فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه ، فرأيته وقد اشتدّت قوته وانتصبت قامته ، وطالت لحيته ، واحمر وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدر كته الوفاة.

٦٧

ولما شاع هذا الحبر وذاع ، طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة ، وهو الان على ضدّها كما وصفناه ، ولم يرَ لجراحاته أثراً ، وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم ، وكان يجلس في مقام الأمام7 في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلة ، ويتجاوز عن مسيئهم ، ويحسن الى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك الا قليلاً حتى مات.(١)

أقول : روحي وأرواح العالمين لك الفداء.

إيه أيتها الجوهرة المحفوفة بالاسرار كم جهلناك وكم بخسناك حقك؟!

كم أغفلنا ذكرك وانشغلنا بغيرك كم سرحنا أفكارنا بعيداً عنك؟

أترك تعطف علينا اليوم بنظرة من تلك التي مننت بها على ذاك الرجل صاحب الحمام ( العمومي ) ، فتمسح قلوبنا بذاك الاكسير؟! فنحن في هذا الحمى.

بحث حول الحكاية :

أقول : إن هذه الحكاية مشهورة ومتواترة النقل في عصر المؤلف السيد بهاء الدين وتناقلها علماء الحلة ، انظر إلى قول السيد في بداية الحكاية ( فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧١ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢١٩.

٦٨

في أحوال راوي الحكاية وعصرها :

أقول : إن راوي الحكاية هو شمس الدين محمد بن قارون الذي لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، فللفائدة والاستدراك على الكتب الرجالية نذكر ترجمته :

قال السيد بهاء الدين : انه من الأعيان وأهل الصدق الأفاضل ، وقال عنه أيضاً الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون ،(١) المحترم العامل الفاضل(٢) الشيخ العالم الكامل القدوة المقري الحافظ المحمود المعتمرشمس الحق والدين محمد بن قارون.(٣)

وكما قال عنه الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي ،(٤) وكما وصفه أيضاً الشيخ عز الدين حسن بن عبد الله بن حسن التغلبي بـ ( الشيخ الصالح محمد بن قارون ) ،(٥) كان حياً سنة ٧٥٩ هـ

فهو يعد من مشايخ السيد بهاء الدين ، يعني أن شمس الدين كان بالقطع مععاصراً للشهيد الأول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) فاذن وجود شمس الدين محمد بن قارون في بداية القرن الثامن الهجري حياً وروايته لهذه الحكاية ، يدل على أن الحكاية وقعت في النصف الأول من هذا

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار / المجلسي; ، ج ٥٢ / ص ٧١.

٢ ـ انظر : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ انظر : جنة المأوى / النوري; ص ٢٠٢.

٤ ـ نسبة إلى ( السيب ) بكسر أوله وسكون ثانيه ، وهو نهر في ذنابة الفرات بقرب الحلة ، وعليه بلد يسمى باسمه.

٥ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد نقلا عن رياض العلماء ج ٢ / ص ١١.

٦٩

القرن السالف الذكر والدليل على ذلك الحكاية الثانية التالية والتي يرويها أيضا شمس الدين محمد بن قارون والحاصلة في سنة ٧٤٤ هـ

وهو غير الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني ، تلميذ السيد فخار بن معد الموسوي المجاز منه سنة ٦٣٠ هـ ( وهي سنة وفاة السيد فخار ) وهو صغير لم يبلغ الحلم وأجازه الشيخ والده أحمد سنة ٦٣٥ هـ وأجازه الشيخ محمد بن أبي البركات اليماني الصنعاني سنة ٦٣٦ هـ والمجيز لنجم الدين طومان بن أحمد العاملي سنة ٧٢٨ هـ فإن هذا الشيخ متقدم على الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي.(١)

تنبيه لكل نبيه :

قال ابن بطوطة في رحلته ( سافرنا من البصرة فوصلنا إلى مشهد علي ابن ابي طالب رَضي اللهُ عَنه وزرنا ، ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان واتفق في بعض الأيام أن وليها بعض الامراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم الى مسجد صاحب الزمان وانتظاره هنالك ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا انما أصابه ذلك لأجل منعه الابة فلم تمنع بعد ).(٢)

أقول : ان كلام ابن بطوطة المتقدم آنفاً هو في زيارته الثانية للحلة ، فابن بطوطة مرَّ في الحلة مرتين الأولى كانت سنة ٧٢٥ هـ في عهد الوالي ( حسن

__________________

١ ـ انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني; ج ١ / ص ٢٢٩ و ٢٢٠.

٢ ـ انظر : رحلة ابن بطوطة ج ٢ / ص ١٧٤.

٧٠

الجلايري ) والثانية بعد عودته من بلاد الهند والصين والتتر وبينهما عدة سنين ، وأظن ان الوالي المذكور في حكاية أبي راجح الحمامي والمذكور في زيارة ابن بطوطة الثانية واحد باعتبار أن عصر الحكايتين واحد وان الوالي المذكور في الحكايتين كان يؤذي أهل الحلة ( فالأمر ليس أمر انتظار صاحب الزمان ولا أمر الدابة ) ، وقد مات بفعله هذا ، وهذا عن أهل الحلة ليس ببعيد ففيهم بقول أمير المؤمنين7 : ( يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرقسمه ).(١)

الحكاية الثانية :

حكاية ابن الخطيب وعثمان والمرأة العمياء التي أبصرت

ونقل من ذلك الكتاب عن الشيخ المحترم العامل الفاضل شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمى مذوّر ، يضمن القرية المعروفة ببرس ، ووقف العلويين ، وكان له نائب يقال له : ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والايمان بالضدّ من عثمان وكانا دائماً يتجادلان ، فاتفق انهما حضرا في مقام ابراهيم الخليل7 بمحضر جماعة من الرّعيّة والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الان اتضح الحق واستبان ، أنا أكتب على يديّ من أتولاه ، وهم علي والحسي والحسين ، واكتب أنت من تتولاه ابوبكر وعمر وعثمان ، ثم تشدّ يديّ ويدك ، فأيّهما احترقت يده بالنار كان على الباطل ، ومن سلمت يده كان على الحق ، فنكل عثمان ، وأبى أن يفعل ، فأخذ الحاضرون من الرّعيّة

____________

١ ـ انظر : بحار الأنوار المجلسي; ج ٦ / ص ١٢٢.

٧١

والعوان بالعياط عليه ، هذا وكانت ام عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين كانوا يعيّطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال! فلما أحست بذلك نادت الى رفقائها فصعدن اليها فاذا هي صحيحة العينين! لكن لاترى شيئاً ، فقادوها وأنزلوها ، ومضوا بها الى الحلة وشاع خبرها بين الصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الاطباء من بغداد والحلة ، فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : ان الذي أعماكِ هو القائم7 فأن تشيعتي وتولّيتي وتبرأتي ( كذا )(١) ضمنّا لك العافية على الله تعالى ، وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت لذلك ورضنبت به ، فلما كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبة الشريفة في مقام صاحب الزمان7 وبتن بأجمعهنّ في باب القبة ، فلما كان ربع الليل فاذا هي قد خرجت عليهنّ وقد ذهب العمى عنها! وهي تقعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليَهنَ ، فسررن بذلك ، وحمدنَ الله تعالى على حسن العافية ، وقلن لها : كيف كان ذلك؟! فقالت : لما جعلتنني في القبة وخرجتنّ عني أحسست بيد قد وضعت على يديّ ، وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى. فانكشف العمى عني ورأيت القبة قد امتلات ونوراً ورأيت الرجل ، فقلت له : من أنت يا سيدي؟ فقال : محمد بن الحسن ، ثم غاب عني ، فقمنَ وخرجنَ الى بيوتهنّ وتشيّع ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمه المذكورة ، واشتهرت القصة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقد وجود الأمام7 وكان ذلك في سنة أربع واربعين وسبعمائة.(٢)

__________________

١ ـ كذا ورد في المطبوع والاصح ( تشيعتِ وتوليتِ وتبرأتِ ).

٢ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٢ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢٢٠.

٧٢

أقول : حدثت هذه الكرامة سنة ( ٧٤٤ هـ / ١٣٢٣ م ) وراويها محمد بن قارون المتقدم ذكره وترجمته في الحكاية الأولى من هذا الباب.

وبرس : بضم الباء وسكون الراء والسين المهملة ناحية من ارض بابل وهي بحضرة الصرح ( صرح نمرود بن كنعان ) وهي الآن قرية معروفة بقبل الكوفة وينسب إليها الحافظ رجب البرسي; .

ومقام ابراهيم الخليل7 : موجود الى زماننا هذا ويقع بالحلة في تلك القرية ( تشرفت بزيارته انا عدة مرات ).

لحكاية الثالثة :

حكاية شفاء الشيخ جمال الدين الزهدري

وذكر هناك أيضاً : أي ( في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان ).

ومن ذلك بتأريخ صفر سنة سبعمائة وتسع وخمسين حكي لي المولى الاجل الامجد العالم الفاضل ، القدوة الكامل ، المحقّق المدقّق ، مجمع الفضائل ومرجع الافاضل ، افتخار العلماء في العالمين ، كمال الملة والدين ، عبد الرحمن ابن العمّاني ( كذا ) ، وكتب بخطه الكريم ، عندي ما صورته :

قال العبد الفقير الى رحمة الله تعالى عبد الرحمن بن ابراهيم القبائقي :(١) اني كنت أسمع في الحلة السيفية حماها الله تعالى ان المولى الكبير المعظم جمال الدين ابن الشيخ الاجل الاوحد الفقيه القاريء نجم الدين جعفر ابن الزاهدري كان به فالج ، فعالجته جدّته لأبيه بعد موت أبيه بكل علاج للفالج فلم يبرأ ، فأشار عليها بعض

__________________

١ ـ هكذا ورد في الاصل والصحيح العتالقي.

٧٣

الاطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زماناً طويلاً فلم يبرأ ، وقيل لها :ألا تبيّتينه تحت القبة الشريفة بالحلة المعروفة بمقام صاحب الزمان 7 لعل الله تعالى يعافيه ويبرأه ، ففعلت وبيّتته تحتها وان صاحب الزمان7 أقامه وأزال عنه الفالج.

ثم بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتى كّنا لم نكد نفترق ، وكان له دار المعشرة ، يجتمع فيها وجوه أهل الحلة وشبابهم وأولاد الاماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية ، فقال لي :

إني كنت مفلوجاً وعجز الاطباء عني ، وحكى لي ما كنت اسمعه مستفاضاً في الحلة من قضيته وان الحجة صاحب الزمان7 قال لي : ( وقد أباتتني جدّتي تحت القبة ) :قم.

فقلت : ياسيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي ، فقال :قم باذن الله تعالى وأعانني على القيام ، فقمت وزال عني الفالج ( أي شلل الاعضاء ).

وانطبق عليّ الناس حتى كادوا يقتلونني ، وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعاً وتنتيفاً يتبرّكون فيها ، وكساني الناس من ثيابهم ، ورحت الى البيت ، وليس بيّ أثر الفالج ، وبعثت الى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مراراً حتى مات; .(١)

بحث حول الحكاية :

تاريخ الحكاية : أقول ، إنَّ تاريخ نقل هذه الحكاية هو سنة ( ٧٥٩ هـ ـ ١٢٣٨ م ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٣.

٧٤

راوي الحكاية : الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق الفقيه المتبحر كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن ابراهيم ابن العتايقي(١) الحلي الامامي ، كان معاصرا للشهيد الاول; وبعض تلامذة العلامة الحلي; ، وقال البعض انه ادرك العلامة ، وتلمذ على يد نصير الدين علي بن محمد الكاشي تـ ٧٥٥ هـ ، وكان من مشايخ السيد بهاء الدين علي بن عبد الحميد النجفي ، وبروي عن جماعة منهم جمال الدين الزهدري ، توفى بعد سنة ٧٨٨ هـ التي الف فيها كتابه ( الارشاد في معرفة الابعاد ) وهو صاحب التصانيف الكثيرة والموجود بعضها في الخزانة الغروية ، ولا أرى بأماً بايراد اسمائها هنا فله كتاب ( شرح على نهج البلاغة ) وكتاب ( مختصر الجزء الثاني من كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري ) وكتاب ( الاعمار ) وكتاب ( الاضداد في اللغة ) وكتاب ( الايضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين ) وكتاب ( اختيار حقائق الخللفي دقائق الحيل ) وكتاب ( صفوة الصفوة ) وكتاب ( اختصار كتاب بطليموس ) وكتاب ( الشهدة في شرح معرف الزبدة ) وكتاب ( الايماقي ) وكتاب ( في التفسير وهو مختصر تفسير القمي ) وكتاب ( الارشاد ) و( الرسالة المفيدة لكل طالب مقدار ابعاد الافلاك والكواكب ) وله ( شرح على الجغميني ) وله ( شرح التلويح ) ، وغيرها من الكتب في شبى أنواع العلوم ، وللأسف الشديد ان كتبه لم تر النور.

_________________

١ ـ العتائقي نسبة الى العتائق قرية بقرب الحلة المزيدية ، وليس بالقبائقي كما في نسخ البحار المطبوعه فانه تصحيف ، كما اني لم ارَّ من الرجاليين من ذكرن بابن العماني بل المشهور انه ابن العتائقي ولعلها تصحيف ايضا او من خطأ النساخ.

٧٥

الى الآن مع كثرتها سوى كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فمن قلمنا هذا ندعو دور النشر والتأليف لأخراج كتبه خدمة للمذهب الامامي واحياء لآثار هذا الشيخ الجليل ، وصرح جمع من العلماء كالسيد محسن الأمين; والشيخ عباس القمي; والشيخ اغا بزرك الطهراني بمشاهدة كتبه في الخزانة الغروبة وكتب أخرى لغيره بخط يده ذكر فيها نسبه وتأريخه من ( ٧٣٨ ـ ٧٨٨ هـ ).(١)

صاحب الحكاية : الشيخ جمال الدين بن نجم الدين جعفر الزهدري ، لم أجد له ذكراً في كتب الرجال وانما وقفت على ترجمة والده الاجل الشيخ جعفر الزهدري صاحب كتاب ( ايضاح ترددات الشرائع )(٢) ويظهر من ثناء ابن العتائقي عليهما ، عظيم منزلتهما وجلالتهما.

وبهذه الحكاية انتهى ما أردنا نقله من حكايات كتاب ( السلطان المفرج عن اهل الايمان ).

الحكاية الرابعة :

حكاية ابن ابي الجواد النعماني

قال العالم الفاضل المتبحّر النقّاد الآميرزا عبد الله الاصفهاني الشهير بالافندي في المجلد الخامس من كتاب ( رياض العلماء

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٣ / ص ١٠٣ ، سفينة البحار ط ج / ج ٢ / ص ١٥٧ ، كذلك الذريعة في اجزائها.

٢ ـ وقد طبع الكتاب في زماننا هذا بجهود العلامة الحجة السيد محمود المرعشي في قم المقدسة وقد رأيت نسخته المطبوعة.

٧٦

وحياض الفضلاء ) في ترجمة الشيخ ابن ابي الجواد النِّعماني(١) انه ممن رأى القائم7 في زمن الغيبة الكبرى ، وروى عنه7 ، ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائري تلميذ الشهيد انه قد رأى ابن ابي جواد النعماني مولانا المهدي7 فقال له :

يا مولاي لك مقام بالنعمانية ومقام بالحلة ، فأين تكون فيهما؟

فقال له :أكون بالنعمانية ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلة ولكن أهل الحلة ما يتأدّبون في مقامي ، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدّب ويسلم عليّ وعلى الأئمة وصلّى عليّ وعليهم اثني عشر (٢) مرة ثم صلى ركعتين بسورتين ، وناجى الله بهما المناجاة إلاّ اعطاه تعالى ما يسأله احدها المغفرة.

فقلت : يا مولاي علمني ذلك.

فقال : قل« اللهم قد أخذ التأديب مني حتى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وان كان ما اقترفته من الذنوب استحق به أضعاف أضعاف ما أدبتني به ، وأنت حليم ذو اناة تعفو عن كثير حتى يسبق عفوك ورحمتك عذابك » وكررها عليّ ثلاثاً حتى فهمتها(٣) .(٤)

__________________

١ ـ النعمانية : بليدة بناها النعمان بن المنذر وتقع بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من اعمال الزاب الاعلى.

٢ ـ هكذا ورد في المطبوع والاصح اثنتي عشرة.

٣ ـ قال المؤلف; : يعني حفظتها.

٤ ـ انظر : النجم الثاقب / النوري; ج ٢ / ص ١٣٨.

٧٧

بحث حول الحكاية :

راوي الحكاية : زين الدين علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الخازن الحائري ، تلميذ الشهيد الاول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) وقد أجازه الشهيد الاول سنة ٧٨٤ هـ وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد الحلي ويروي عنه ، وأجازه في سنة ٧٩١ هـ ويعبر عنه بالشيخ علي الخازن الحائري ، وهو من علماء المائة الثامنة ، قال عنه الشهيد الاول; في إجازته له :

المولى الشيخ العالم التقي الورع المحصل العالم بأعباء العلوم الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الدين أبو علي(١)

صاحب الحكاية : ابن أبي الجواد النعماني ، لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، سوى ما ترجمه ناقل الحكاية الافندي; في كتابه رياض العلماء الذي فقد معظم مجلداته ، ويظهر من راوي الحكاية الشيخ علي الخازن الذي هو من تلاميذ الشهيد الاول; أنَّ ابن ابي الجواد من طبقة الشهيد الاول ، أي من تلامذة العلامة الحلي; .

أقول : ولا يبعد اتحاده بالشيخ الفاضل العالم المتكلم عبد الواحد بن الصفي النعماني ، صاحب كتاب ( نهج السداد في شرح رسالة واجب الاعتقاد ) الذي نسبه اليه الكفعمي; في حواشي مصباحه ونؤيد ما قلناه آنفاً قول المتبحر الخيبر الافندي; في كتاب رياض العلماء ج ٣ ص ٢٧٩ قال : » وأظن أنه من تلامذة الشهيد أو تلامذة تلامذته « فلاحظ.

__________________

١ ـ انظر : رسائل الشهيد الاول ص ٣٠٤ وطبقات اعلام الشيعة للطهراني; .

٧٨

أقول : ومن خلال هذه الحكاية نستدل على شهرة المقام في ذلك القرن إذ الرجل من النعمانية ويسأله عن مقامه7 في الحلة ويستدل أيضاً على استحباب زيارة المقام الشريف في الحلة في ليلة الجمعة ويومها لوجود الإمام به ، وربما ينفي الزائر للمقام هذا الكلام ، فنقول له : إن الأمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بغائب ولكن هو غائب عمّن هو غائب عن الله.

وعلى أهل الحلة وغيرهم أن يتأدّبوا بمقامه جلّ التأدب ( فلا لاختلاط الرجال بالنساء في المصلى ، ولا لتبرج النساء ، ولا ) مما يصل الى سوء الادب بمحضر نائب الملك العلام ، فان أهل الحلة أشاد بهم أمير المؤمنين7 وأيّ إشادة ، فليكونوا دئاماً مصداق حديث مولاهم ومولاي علي بن أبي طالب7 .

فقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه وقائع ايام ص (٣٠٢) :

روى أصبغ بن نباتة قال : صحبت مولاي أمير المؤمنين7 عند وروده صفين ، وقد وقف على تل ثم أومأالى أجمة ما بين بابل والتل قال :مدينة وأي مدينة.

فقلت له : يامولاي أراك تذكر مدينة أكان هناك مدينة وانمحت آثارُها؟ فقال7 : لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة ( السيفية ) يمدتها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرّ قسمه. (١)

* * *

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ، ٦ / ١٢٢ رواية ٥٥.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الآيات

( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) )

التّفسير

جوائز عظيمة لم يطّلع عليها أحد!

إنّ طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيرا من الحقائق من خلال مقارنتها مع بعضها ، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماما ، وهنا أيضا بعد الشرح والتفصيل الذي مرّ

١٢١

في الآيات السابقة حول المجرمين والكافرين ، فإنّه يتطرّق إلى صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة ، ويبيّن أصولهم العقائدية ، وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكر ثمان صفات(١) ، فيقول أوّلا :( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) .

التعبير بـ (إنّما) الذي يستعمل عادة لإفادة معنى الحصر ، يبيّن أنّ كلّ من يتحدّث عن الإيمان ويتمشدق به ، ولا يمتلك الخصائص والصفات التي وردت في هذه الآيات ، فإنّه لا يكون في صفّ المؤمنين الواقعيين ، بل هو شخص ضعيف الإيمان.

لقد بيّنت في هذه الآية أربع صفات :

١ ـ أنّهم يسجدون بمجرّد سماعهم آيات الله ، والتعبير بـ( خَرُّوا ) بدل( سُجَّداً ) إشارة إلى نكتة لطيفة ، وهي أنّ هؤلاء المؤمنين ينجذبون إلى كلام الله لدى سماعهم آيات القرآن ويهيمون فيها بحيث يسجدون لا إراديا(٢) .

نعم إنّ أوّل خصائص هؤلاء هو العشق الملتهب ، والعلاقة الحميمة بكلام محبوبهم ومعشوقهم.

لقد ذكرت هذه الصفة والخاصية في بعض آيات القرآن الاخرى كأحد أبرز صفات الأنبياء ، كما يقول الله سبحانه في شأن جمع من الأنبياء العظام :( إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ) .(٣)

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ الآية الاولى هي اولى السجدات الواجبة في القرآن الكريم ، وإذا ما تلاها أحد بتمامها ، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعا لا يجب فيها الوضوء ، لكن يجب الاحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.

(٢) يقول الراغب في المفردات : (خرّوا) في الأصل من مادّة الخرير ، أي صوت الماء وأمثاله حين انحداره من مرتفع إلى منخفض ، واستعماله هذا التعبير في شأن الساجدين إشارة إلى أنّ هؤلاء ترتفع أصواتهم بالتسبيح في لحظة هويّهم إلى الأرض للسجود.

(٣) سورة مريم ، الآية ٥٨.

١٢٢

وبالرغم من أنّ الآيات هنا ذكرت بصورة مطلقة ، ولكن من المعلوم أنّ المراد منها غالبا الآيات التي تدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك.

٢ ـ ٣ ـ علامتهم الثّانية والثالثة تسبيح الله وحمده ، فهم ينزّهون الله تعالى عن النقائص من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون عليه لصفات كماله وجماله.

٤ ـ والصفة الاخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كلّ أنواع التكبّر ، لأنّ الكبر والغرور أوّل درجات الكفر والجحود ، والتواضع أمام الحقّ والحقيقة أولى خطوات الإيمان!

إنّ الذين يسيرون في طريق الكبر والعجب لا يسجدون لله ، ولا يسبّحونه ولا يحمدونه ، ولا يعترفون بحقوق عباده! إنّ لهؤلاء صنما عظيما ، وهو أنفسهم!

ثمّ أشارت الآية الثّانية إلى أوصاف هؤلاء الاخرى ، فقالت :( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) (١) فيقومون في الليل ، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته.

نعم إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدرا من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغظّ في نوم عميق ، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية ، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى ، ويعمّ الهدوء والظلام كلّ الأرجاء ، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة ، والخلاصة : عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب ، فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى معبودهم ، ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب معشوقهم ، ويخبرونه بما في قلوبهم ، فهم أحياء بذكره ، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.

ثمّ تضيف :( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ) .

__________________

(١) «تتجافى» من مادّة «جفا» ، وهي في الأصل بمعنى القطع والحمل والإبعاد ، و (الجنوب) جمع جنب ، وهو الجانب ، و (المضاجع) جمع مضجع ، وهو محل النوم ، وإبعاد الجانب عن محلّ النوم كناية عن النهوض من النوم والتوجّه إلى عبادة الله في جوف الليل.

١٢٣

وهنا تذكر الآية صفتين أخريين لهؤلاء هما : «الخوف» و «الرجاء» ، فلا يأمنون غضب اللهعزوجل ، ولا ييأسون من رحمته ، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه ، والحاكم على وجودهم دائما ، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط ، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة ، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.

وثامن صفاتهم ، وآخرها في الآية أنّهم( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب ، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري ، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير.

إنّهم ينبوع من الخير والبركة ، وعين فوّارة من ماء الصالحات العذب الصافي الذي يروي العطاشى ، ويغني المحتاجين بحسب استطاعتهم.

نعم إنّ أوصاف هؤلاء مجموعة من العقيدة الرصينة الثابتة ، والإيمان القويّ والعشق الملتهب لله ، والعبادة والطاعة ، والسعي والحركة الدؤوبة ، ومعونة عباد الله في كلّ المجالات.

ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتّعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين ، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهميّة الفائقة لثوابهم :( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

التعبير بـ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ) وكذلك التعبير بـ( قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر ، خاصّة وأنّ كلمة (نفس) قد وردت بصيغة النكرة في سياق النفي ، وهي تعني العموم وتشمل كلّ النفوس حتّى ملائكة الله المقرّبين وأولياء الله.

والتعبير بـ( قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) من دون الإضافة إلى النفس ، إشارة إلى أنّ هذه النعم

١٢٤

الإلهيّة التي خصّصت كثواب وجزاء للمؤمنين المخلصين في الآخرة ، في هيئة تكون معها قرّة لعيون الجميع.

(قرّة) مادّة القرّ ، أي البرودة ، ومن المعروف أنّ دموع الشوق باردة دائما ، وأنّ دمع الغمّ والحسرة حارّ محرق ، فالتعبير بـ( قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) يعني في لغة العرب الشيء الذي يسبّب برودة عين الإنسان ، أي أنّ دموع الشوق والفرح تجري من أعينهم ، وهذه كناية لطيفة عن منتهى الفرح والسرور والسعادة.

وفي حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله يقول : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر»(١) .

وثمّة سؤال طرحه المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في (مجمع البيان) وهو : لماذا اخفي هذا الثواب والجزاء؟

ثمّ يذكر ثلاثة أجوبة لهذا السؤال :

١ ـ أنّ الأمور المهمّة والقيّمة لا يمكن إدراك حقيقتها بسهولة من خلال الألفاظ والكلام ، ولذلك فإنّ إخفاءها وإبهامها يكون أحيانا أكثر تحفيزا ، وأبعث على النشاط ، وهو أبلغ من ناحية الفصاحة.

٢ ـ أنّ الشيء الذي يكون قرّة للأعين ، يكون عادة مترامي الأطراف إلى الحدّ الذي لا يصل علم ابن آدم إلى جميع خصوصياته.

٣ ـ لمّا كان هذا الجزاء قد جعل لصلاة الليل المستورة ، فإنّ المناسب أن يكون ثواب هذا العمل عظيما ومخفيّا أيضا. وينبغي الالتفات إلى أنّ جملة( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) في الآية السابقة إشارة إلى صلاة الليل.

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «ما من حسنة إلّا ولها ثواب مبين في القرآن ، إلّا صلاة الليل ، فإنّ الله عزّ اسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها ، قال : فلا تعلم

__________________

(١) نقل هذا الحديث كثير من المفسّرين ، ومن جملتهم الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، والقرطبي في تفسيره. وقد أورده المحدّثان المشهوران البخاري ومسلم في كتبهما أيضا.

١٢٥

نفس ما اخفي لهم من قرّة أعين»(١) .

وبغضّ النظر عن كلّ ذلك ، فإنّ عالم القيامة ـ وكما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ عالم أوسع من هذا العالم سعة لا تحتمل المقارنة ، فهو أوسع حتّى من الحياة الدنيا بالقياس إلى حياة الجنين في رحم الامّ ، وأبعاد ذلك العالم لا يمكن إدراكها عادة بالنسبة لنا نحن السجناء داخل الجدران الأربعة للدنيا ، ولا يمكن تصوّره من قبل أحد.

إنّنا نسمع كلاما عنه فقط ، ونرى شبحه من بعيد ، لكنّنا ما لم ندرك ولم نر ذلك العالم ، فإنّ من المحال إدراك أهميّته وعظمته ، كما أنّ إدراك الطفل في بطن الامّ لنعم هذه الدنيا ـ على فرض امتلاكه العقل والإحساس الكامل ـ غير ممكن.

وقد ورد نفس هذا التعبير في شأن الشهداء في سبيل الله ، ذلك أنّ الشهيد عند ما يقع على الأرض تقول له الأرض : مرحبا بالروح الطيّبة التي خرجت من البدن الطيّب ، أبشر فإنّ لك ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر(٢) .

وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة أكثر صراحة ، فتقول :( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ) .

لقد وردت الجملة بصيغة الاستفهام الإنكاري ، ذلك الاستفهام الذي ينبعث جوابه من عقل وفطرة كلّ إنسان بأنّ هذين الصنفين لا يستويان أبدا ، وفي الوقت نفسه ، وللتأكيد ، فقد أوضحت الآية عدم التساوي بصورة أوضح بذكر جملة :( لا يَسْتَوُونَ ) .

لقد جعل «الفاسق» في مقابل «المؤمن» في هذه الآية ، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوما واسعا يشمل الكفر والذنوب الاخرى ، لأنّ هذه الكلمة أخذت في الأصل من جملة (فسقت الثمرة) إذا خرجت من قشرها ، ثمّ أطلقت على الخروج

__________________

(١) مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) مجمع البيان ، ج ٢ ذيل الآية (١٧١) من آل عمران ، والتّفسير الأمثل ، ذيل نفس الآية.

١٢٦

على أوامر الله والعقل وعصيانها ، ونعلم أنّ كلّ من كفر ، أو ارتكب معصية فقد خرج على أوامر الله والعقل.

وممّا يجدر ذكره أنّ الثمرة ما دامت في قشرها فهي سالمة ، وبمجرّد أن تخرج من القشر تفسد ، وبناء على هذا فإنّ فسق الفاسق كفسق الثمرة ، وفساده كفسادها.

ونقل جمع من المفسّرين الكبار ففي ذيل هذه الآية أنّ «الوليد بن عقبة» قال يوما لعليعليه‌السلام : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا! إشارة إلى أنّه ـ بظنّه ـ يفوق عليا في الفصاحة والحرب ، فأجابه عليعليه‌السلام : «ليس كما تقول يا فاسق» ، إشارة إلى أنّك أنت الذي اتّهمت بني المصطلق بوقوفهم ضدّ الإسلام في قصّة جمع الزكاة منهم ، فكذّبك الله وعدّك فاسقا في الآية (٦) من سورة الحجرات :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (١) .

وأضاف البعض هنا بأنّ آية :( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ) نزلت بعد هذه المحاورة ، لكن يبدو من ملاحظة أنّ السورة مورد البحث (سورة السجدة) نزلت في مكّة ، وقصّة الوليد وبني المصطلق وقعت في المدينة ، فهذا من قبيل تطبيق الآية على مصداق واضح لها.

وبناء على ما ذهب بعض المفسّرين من أنّ الآية أعلاه والآيتين بعدها مدنية ، لا يبقى إشكال من هذه الجهة ، ولا مانع من أن تكون هذه الآيات الثلاث قد نزلت بعد المحاورة أعلاه.

وعلى كلّ حال ، فلا بحث ولا جدال في إيمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام العميق المتأصّل ، ولا في فسق الوليد ، حيث أشير في آيات القرآن لكلا الإثنين.

__________________

(١) أورد هذه الرواية العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره ، والفاضل البرسوئي في روح البيان. وممّا يستحقّ الانتباه أنّنا نقرأ في كتاب (اسد الغابة في معرفة الصحابة) أنّه لا خلاف بين المطلعين على تفسير القرآن والعالمين به في أنّ آية( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) قد نزلت في حقّ الوليد بن عقبة في قصّة بني المصطلق.

١٢٧

وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلا ، فتقول :( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى ) (١) ثمّ تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد أعدّها الله تعالى لاستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة :( نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ التعبير بـ «نزلا» ، والذي يقال عادة للشيء الذي يهيّئونه لاستقبال وإكرام الضيف ، إشارة لطيفة إلى أنّ المؤمنين يستقبلون ويخدمون دائما كما هو حال الضيف ، في حين أنّ الجهنّميين ـ كما سيأتي في الآية الآتية ـ كالسجناء الذين يأملون الخروج منها في كلّ حين ، ثمّ يعادون فيها!

وما ورد في الآية (١٠٢) من سورة الكهف :( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً ) فإنّه من قبيل( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) وهو كناية عن أنّه يعاقب ويعذّب هؤلاء بدل إكرامهم ، ويهدّدون مكان بشارتهم.

ويعتقد البعض أنّ «النزل» أوّل شيء يستقبل به الضيف الوارد لتوّه ـ كالشاي والعصير في زماننا ـ وبناء على هذا فإنّه إشارة لطيفة إلى أنّ جنّات المأوى بتمام نعمها وبركاتها هي أوّل ما يستقبل به ضيوف الرحمن ، ثمّ تتبعها المواهب في بركات اخرى لا يعلمها إلّا الله سبحانه.

والتعبير بـ( فَلَهُمْ جَنَّاتُ ) لعلّه إشارة إلى أنّ الله سبحانه لا يعطيهم بساتين الجنّة عارية ، بل يملّكهم إيّاها إلى الأبد ، بحيث لا يعكّر هدوء فكرهم احتمال زوال هذه النعم مطلقا.

وتطرّقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء ، فتقول :( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ) فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث أنّهم( كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .

__________________

(١) «المأوى» من مادّة (أوى) بمعنى انضمام شيء إلى شيء آخر ، ثمّ قيلت للمكان والمسكن والمستقرّ.

١٢٨

مرّة اخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل «الكفر والتكذيب» ، والثواب والجزاء في مقابل «العمل» ، وهذا إشارة إلى أنّ الإيمان لا يكفي لوحده ، بل يجب أن يكون حافزا وباعثا على العمل ، إلّا أنّ الكفر كاف لوحده للعذاب ، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.

* * *

بحث

أصحاب الليل!

ورد لجملة :( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) تفسيران في الروايات الإسلامية : أحدهما : تفسيرها بصلاة «العشاء» ، وهو يشير إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا ينامون بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب عليهم النوم فتفوتهم صلاة العشاء (لأنّ المعتاد في ذلك الزمان أنّهم كانوا يستريحون في أوّل الليل ـ وكانوا يفرّقون بين صلاتي المغرب والعشاء ، طبقا لاستحباب التفريق بين الصلوات الخمس ، وكانوا يؤدّون كلا منهما في وقت فضيلتها) فربّما لم يستيقظوا لصلاة العشاء إذا ما ناموا بعد صلاة المغرب مباشرة.

وقد روى هذا التّفسير ابن عبّاس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طبقا لنقل الدرّ المنثور ، وكذلك روي في أمالي الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وثانيهما : أنّها فسّرت بالقيام والنهوض من النوم والمضجع لأداء صلاة الليل في أغلب الرّوايات وكلمات المفسّرين :

ففي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه : «ألا أخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه»؟ قال : بلى ، جعلت فداك ، قال : «أمّا أصله فالصلاة ،

__________________

(١) الدرّ المنثور وأمالي الشيخ طبقا لنقل تفسير الميزان الجزء ١٦ صفحة ٢٦٨.

١٢٩

وفرعه الزكاة ، وذروة سنامه الجهاد»!

ثمّ قال : «إن شئت أخبرتك بأبواب الخير»؟ قال : نعم جعلت فداك ، قال : «الصوم جنّة ، والصدقة تذهب بالخطيئة ، وقيام الرجل في جوف الليل بذكر الله ، ثمّ قرأ :( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) (١) .

وروي في (تفسير مجمع البيان) عن معاذ بن جبل ، قال : بينما نحن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك ، وقد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم ، فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أقربهم منّي ، فدنوت منه ، فقلت : يا رسول الله ، أنبئني بعمل يدخلني الجنّة ، ويباعدني من النار ، قال : «لقد سألت عن عظيم وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدّي الزكاة المفروضة ، وتصوم شهر رمضان».

قال : «وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير» قال : قلت : أجل يا رسول الله ، قال : «الصوم جنّة ، والصدقة تكفّر الخطيئة ، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله» ثمّ قرأ هذه الآية( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) (٢) .

وبالرغم من عدم وجود المانع من أن يكون للآية معنى واسعا يشمل البقاء على اليقظة في أوّل الليل لصلاة العشاء ، إضافة إلى النهوض في السحر لصلاة الليل ، إلّا أنّ الدقّة في مفهوم (تتجافى) تعكس المعنى الثّاني في الذهن أكثر ، لأنّ ظاهر الجملة أنّ الجنوب قد اضطجعت وهدأت في المضاجع ، ثمّ تجافت وابتعدت عنها ، وهذا يناسب القيام آخر الليل لأداء الصلاة ، وبناء على هذا فإنّ المجموعة الاولى من الروايات من قبيل شمولية المفهوم وإلغاء الخصوصية.

وبالرغم من أنّ هذه الروايات القليلة تبدو كافية حول أهميّة هذه الصلاة المباركة ، إلّا أنّ الروايات الإسلامية قد أولت هذه العبادة اهتماما عظيما قلّ أن

__________________

(١) اصول الكافي ، الجزء ٢ ، باب دعائم الإسلام صفحة ٢٠ حديث ١٥ ، والمصدر السابق.

(٢) مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث ، وتفسير نور الثقلين ، الجزء ٤ ، صفحة ٢٢٩.

١٣٠

تحدّثت بهذا المقدار عن عبادة اخرى.

لقد اهتمّ أنصار الحقّ ومحبّوه وسالكو طريق الفضيلة كثيرا بهذه العبادة الخالية من الرياء ، والتي تنير القلب وتصفّيه من كلّ الشوائب.

ومن الممكن أن لا يوفّق البعض إلى هذه العبادة المباركة دائما ، ولكن ما المانع من أن يسعى الفرد إلى نيل هذا التوفيق في بعض الليالي ، وفي الوقت الذي يرخي الليل سدوله ، وتهدأ الأصوات وتنام العيون يكون الجوّ مهيئا لحضور القلب ، يهبّ إلى مناجاة الله وينوّر قلبه بنور عشق الحبيب ومحبّته(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث آخر حول أهميّة صلاة الليل وطريقتها في ذيل الآية (٧٩) من سورة الإسراء.

١٣١

الآيتان

( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) )

التّفسير

عقوبات تربوية :

بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين وعقابهم الأليم ، فإنّ الآيات مورد البحث تشير إلى أحد الألطاف الإلهية الخفيّة وهي موارد العذاب الخفيف في الدنيا ليتّضح أنّ الله سبحانه لا يريد أن يبتلى عبد بالعذاب الخالد أبدا ، ولذلك يستخدم كلّ وسائل التوعية لنجاته ، فيرسل الأنبياء ، وينزل الكتب السماوية ، وينعم ويبتلي بالمصائب ، وإذا لم تنفع أيّة وسيلة منها فليس إلّا نار الجحيم.

تقول الآية :( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

من المسلّم أنّ «العذاب الأدنى» له معنى واسعا يتضمّن أغلب الاحتمالات التي

١٣٢

كتبها المفسّرون بصورة منفصلة :

فمن جملتها ، أنّ المراد المصائب والآلام والمشقّة.

أو القحط والجفاف الشديد الذي دام سبع سنين وابتلي به المشركون في مكّة حتّى اضطروا إلى أكل أجساد الموتى!

أو الضربة القاصمة التي نزلت عليهم في غزوة بدر ، وأمثال ذلك.

أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد عذاب القبر ، أو العقاب في الرجعة فلا يبدو صحيحا ، لأنّه لا يناسب جملة( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي عن أعمالهم.

من البديهي أنّ العذاب موجود في هذه الدنيا أيضا ، بحيث إذا نزل أغلقت أبواب التوبة ، وهو عذاب الاستئصال ، أي العذاب والعقوبات التي تنزل لفناء الأقوام العاصين حينما لا تنفع ولا تؤثّر فيهم أيّ وسيلة توعية وتنبيه.

وأمّا «العذاب الأكبر» فيعني عذاب يوم القيامة الذي يفوق كلّ عذاب حجما وألما.

وهناك التفاتة أشار إليها بعض المفسّرين في أنّه لما ذا جعل «الأدنى» في مقابل «الأكبر» ، في حين أنّه يجب إمّا أن يقع الأدنى مقابل الأبعد ، أو الأصغر في مقابل الأكبر؟

وذلك أنّ لعذاب الدنيا صفتين : كونه صغيرا ، وقريبا ، وليس من المناسب التأكيد على صغره عند التهديد ، بل يجب التأكيد على قربه. ولعذاب الآخرة صفتان أيضا : كونه بعيدا وكبيرا ، والمناسب في شأنه التأكيد على كبره وعظمته لا بعده ـ تأمّلوا جيدا ـ.

وتقدّم أنّ التعبير بـ (لعلّ) في جملة( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) بسبب أنّ الإحساس بالعقوبات التحذيرية ليس علّة تامّة للوعي واليقظة ، بل هو جزء العلّة ، ويحتاج إلى أرضيّة مهيّأة ، وبدون هذا الشرط لا يحقّق النتيجة المطلوبة ، وكلمة (لعلّ) إشارة إلى هذه الحقيقة.

١٣٣

وتتّضح من هذه الآية إحدى حكم المصائب والابتلاءات والآلام التي تعتبر من المسائل الملحّة والمثيرة للجدل في بحث التوحيد ومعرفة الله وعدله.

وليس في هذه الآية فحسب ، بل أشير في آيات اخرى من القرآن إلى هذه الحقيقة ، ومن جملتها في الآية (٩٤) من سورة الأعراف( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) .

ولمّا لم تنفع أيّة وسيلة من وسائل التوعية والتنبيه ، حتّى العذاب الإلهي ، لم يبق طريق إلّا انتقام الله من هؤلاء القوم الذين هم أظلم الناس ، وكذلك تقول الآية التالية :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) .

فلم تؤثّر فيهم النعمة الإلهيّة ، ولا العذاب والابتلاءات التحذيرية ، وعلى هذا فلا أحد أظلم منهم ، وإذا لم ينتقم من هؤلاء فممّن الانتقام؟

من الواضح ـ وبملاحظة الآيات السابقة ـ أنّ المراد من «المجرمين» هنا هم منكرو المبدأ والمعاد الذين لا إيمان لهم.

وقد وصف جماعة من الناس في آيات القرآن مرارا بأنّهم (أظلم) من الباقين ، وبالرغم من تعبيراتها المختلفة إلّا أنّها تعود جميعا إلى أصل الكفر والشرك ، وبناء على هذا فإنّ معنى (أظلم) الذي يعتبر صيغة تفضيل يتطابق مع هذه المصاديق.

والتعبير بـ (ثمّ) في الآية ، والذي يدلّ عادة على التراخي ، لعلّه إشارة إلى أنّ أمثال هؤلاء يعطون فرصة ومجالا كافيا للتفكير والبحث ، ولا تكون معاصيهم الابتدائية سببا لانتقام الله أبدا ، إلّا أنّهم سيستحقّون انتقام اللهعزوجل بعد انتهاء الفرصة اللازمة.

ويجب الالتفات إلى أنّ التعبير بـ «الانتقام» يعني العقوبة في لسان العرب ، ومع أنّ معنى الكلمة أصبح في المحادثات اليومية يعني تشفّي القلب وإبراد الغليل من العدو ، إلّا أنّ هذا المعنى لا وجود له في الأصل اللغوي ، ولذلك فإنّ هذا التعبير قد

١٣٤

استعمل مرارا في شأن اللهعزوجل في القرآن المجيد ، في حين أنّه سبحانه أسمى وأعلى من هذه المفاهيم ، فهو لا يفعل شيئا إلّا وفق الحكمة.

* * *

١٣٥

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) )

التّفسير

شرط الإمامة : الصبر والإيمان :

تشير الآيات مورد البحث إشارة قصيرة وعابرة إلى قصّة «موسى»عليه‌السلام وبني إسرائيل لتسلّي نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الأوائل وتطيّب خواطرهم ، وتدعوهم إلى الصبر والتحمّل والثبات أمام تكذيب وإنكار المشركين التي أشير إليها في الآيات السابقة ، ولتكون بشارة للمؤمنين بانتصارهم على القوم الكافرين العنودين كما انتصر بنو إسرائيل على أعدائهم وأصبحوا أئمّة في الأرض.

ولمّا كان موسىعليه‌السلام نبيّا جليلا يؤمن به كلّ من اليهود والنصارى ، فإنّه يكون حافزا على توجّه أهل الكتاب نحو القرآن والإسلام.

تقول الآية أوّلا :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ) أي فلا

١٣٦

تشكّ أو تتردّد في أنّ «موسى» قد تلقّى آيات الله ، وقد جعلنا كتاب موسى «التوراة» وسيلة لهداية بني إسرائيل( وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) .

ثمّة اختلاف بين المفسّرين في عودة الضمير في قوله :( مِنْ لِقائِهِ ) ، وقد احتملوا في ذلك سبعة احتمالات أو أكثر ، إلّا أنّ أقربها هو عودته إلى الكتاب ـ كتاب موسى السماوي ، أي «التوراة» ـ كما يبدو ، وله معنى المفعول وفاعله موسى ، وبناء على هذا فإنّ المعنى الكلّي لهذه الجملة يصبح : لا تشكّ في أنّ موسىعليه‌السلام تلقّى الكتاب السماوي الذي القي إليه من قبل الله تعالى.

والشاهد القويّ على هذا التّفسير هو أنّه قد وردت في الآية أعلاه ثلاث جمل ، تتحدّث الجملتين الاولى والأخيرة عن التوراة قطعا ، فمن المناسب أن تتابع الجملة الوسط هذا المعنى أيضا ، لا أن تتحدّث عن القيامة أو القرآن المجيد حيث ستكون جملة معترضة في هذه الصورة ، ونعلم أنّ الجملة المعترضة خلاف الظاهر ، وما دمنا في غنى عنها فلا ينبغي التوجّه إليها.

السؤال الوحيد الذي يبقى في هذا التّفسير هو استعمال كلمة (لقاء) في مورد الكتاب السماوي ، حيث إنّ هذه الكلمة قد استعملت في القرآن الكريم غالبا بإضافتها إلى الله أو الربّ أو الآخرة وأمثالها ، وهي إشارة إلى القيامة. ولهذا السبب رجّح البعض كون الآية أعلاه تتحدّث أوّلا عن نزول التوراة على موسى ، ثمّ تأمر نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا تشكّ في لقاء الله ومسألة المعاد ، ثمّ تعود إلى مسألة التوراة ، لكن في هذه الصورة ينهار الانسجام بين جمل هذه الآية ويزول التناسب فيما بينها.

غير أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ تعبير «لقاء» وإن لم يستعمل في القرآن في مورد الكتب السماوية ، إلّا أنّ الإلقاء والتلقّي قد استعمل مرارا في هذا المعنى ، كما في الآية (٢٥) من سورة القمر :( أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ) .

ونقرأ في قصّة سليمان وملكة سبأ أنّها قالت عند ما وصلتها رسالة سليمان :( إِنِّي

١٣٧

أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) .

وفي نفس هذه السورة «سورة سليمان» في الآية (٦) نقرأ في شأن القرآن الكريم( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) .

بناء على هذا فإنّ فعل الإلقاء والتلقّي قد استعمل مرارا في هذا المورد ، بل وحتّى نفس فعل اللقاء قد استعمل في مورد صحيفة أعمال الإنسان ، فنقرأ في الآية (١٣) من سورة الإسراء :( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) .

ومن مجموع ما قلناه يتّضح ترجيح هذا التّفسير على سائر الاحتمالات التي احتملت في الآية أعلاه(١) .

لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يشكّ في مثل هذه المسائل مطلقا ، بل إنّ مثل هذه التعبيرات تستعمل عادة لتأكيد المطلب ، وليكون نموذجا للآخرين.

ثمّ تشير الآية التالية إلى الأوسمة والمفاخر التي حصل عليها بنو إسرائيل في ظلّ الاستقامة والإيمان لتكون درسا للآخرين ، فتقول :( وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) .

لقد ذكرت الآية هنا شرطين للإمامة : أحدهما : الإيمان واليقين بآيات اللهعزوجل ، والثّاني : الصبر والاستقامة والصمود. وهذا الأمر ليس مختصّا ببني

__________________

(١) ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مرجع الضمير في (لقائه) إلى موسى ، وبناء على هذا يصبح المعنى : لا شكّ يا محمّد بأنّك ستلتقي بموسى ، واعتبروا ذلك إشارة إلى لقائه به في ليلة المعراج أو في يوم القيامة. وهذا المعنى لا يبدو منسجما مع مفهوم الجملة. وقال البعض الآخر : إنّ الضمير يرجع إلى الكتاب ، والمراد منه القرآن ، أي : لا تدع أيّها النّبي للشكّ في أنّ هذا القرآن وحي إلهي إلى نفسك سبيلا ، وهذا المعنى وإن كان يتلائم مع آيات بداية السورة ، إلّا أنّه لا يتلاءم كثيرا مع الجمل الاخرى الموجودة في نفس هذه الآية. إضافة إلى أنّ الكتاب في الآية مورد البحث بمعنى التوراة ، فلا ينسجم معه عود الضمير إلى القرآن ـ وتوجيه هذا المعنى بأنّ المراد مطلق الكتاب السماوي لا يقلّل من كونه خلاف الظاهر. وقال بعض المفسّرين : إنّ الضمير في (لقائه) يعود إلى الله ، وهذه الجملة إشارة إلى أنّه لا شكّ أبدا في مسألة المعاد ، وهذا المعنى وإن كان يتّفق وينسجم مع الآيات السابقة ، إلّا أنّه لا يتلاءم من أي وجه تقريبا مع نفس الآية مورد البحث. ومن هنا يتّضح أنّ ما ورد في بعض التفاسير من أنّ الآية إشارة إلى التقاء خطّي وبرنامجي موسى ونبي الإسلام ، مطلب ذوقي لا يناسب المفهوم الواقعي لألفاظ الآية ، وبناء على هذا فإنّ أوضح التفاسير وأجلاها ما أوردناه أعلاه.

١٣٨

إسرائيل ، بل هو درس لكلّ الأمم ، ولجميع مسلمي الأمس واليوم والغد بأن يحكموا أسس يقينهم ، ولا يخافوا من المشاكل التي تعترضهم في طريق التوحيد ، وأن يتحلّوا بالصبر والمقاومة ليكونوا أئمّة الخلق وقادة الأمم ومرشديها في تاريخ العالم.

التعبير بـ (يهدون) و (يوقنون) بصيغة الفعل المضارع دليل على استمرار هاتين الصفتين طيلة حياة هؤلاء ، لأنّ مسألة القيادة لا تخلو لحظة من المشكلات ، ويواجه شخص القائد وإمام الناس مشكلة جديدة في كلّ خطوة ، ويجب أن يهبّ لمواجهتها مستعينا بقوّة اليقين والاستقامة المستمرّة ، ويديم خطّ الهداية إلى الله سبحانه.

والجدير بالانتباه أنّ الآية تقيّد الهداية بأمر الله ، فتقول :( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) وهذا هو المهمّ في أمر الهداية بأن تنبع من الأوامر الإلهيّة ، لا من أمر الناس ، أو تقليد هذا وذاك ، أو بأمر من النفس والميول القلبية.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في حديثه العميق المحتوى ، بالاستناد إلى مضامين القرآن المجيد : «إنّ الأئمّة في كتاب اللهعزوجل إمامان : قال الله تبارك وتعالى : وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا ، لا بأمر الناس ، يقدّمون أمر الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم ، وقال : وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النار ، يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب اللهعزوجل »(١) .

ثمّ أنّ المراد من الأمر هنا هل هو الأمر التشريعي ، أم الأمر التكويني؟ ظاهر الآية يعطي المعنى الأوّل ، وتعبيرات الرّوايات والمفسّرين تؤيّد ذلك ، إلّا أنّ بعض كبار المفسّرين اعتبروه بمعنى الأمر التكويني.

__________________

(١) الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ١٦٨ باب أنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان.

١٣٩

وتوضيح ذلك : أنّ الهداية قد وردت في الآيات والروايات بمعنيين : «تبيان الطريق» ، و «الإيصال إلى المطلوب» ، وكذلك هداية الأئمّة الإلهيين نتّخذ صورتين : فيكتفون أحيانا بالأمر والنهي ، وأحيانا اخرى ينفذون إلى أعماق القلوب المستعدّة والجديرة بالهداية ليوصلوها إلى الأهداف التربوية والمقامات المعنوية.

وقد استعملت كلمة «الأمر» في بعض آيات القرآن بمعنى «الأمر التكويني» ، مثل :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) ، وجملة( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) في الآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضا ، أي إنّ أولئك كانوا أئمّة ينفذون إلى النفوس المستعدّة بقدرة الله ، ويسوقونها إلى الأهداف التربوية والإنسانية العالية(٢) .

إنّ هذا المعنى يستحقّ الملاحظة والانتباه ، وهو أحد شؤون الإمامة ، وفروع وطرق الهداية ، إلّا أنّ حصر جملة :( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) بهذا المعنى لا يوافق ظاهر الآية ، لكن لا مانع من أن نفسّر كلمة الأمر في هذه الجملة بمعناها الواسع الذي يتضمّن الأمر التكويني والتشريعي ، ويجمع كلا معنيي الهداية في الآية ، وهذا المعنى ينسجم مع بعض الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية.

ولكن ، وعلى كلّ حال ، لا يمكن أن يصل الإمام والهادي إلى هذا المقام إلّا في ظلّ اليقين والاستقامة فقط.

ويبقى سؤال ، وهو : هل المراد من هؤلاء الأئمّة في بني إسرائيل هم الأنبياء الذين بعثوا إليهم ، أم أنّ العلماء الذين كانوا يهدون الناس إلى الخيرات بأمر الله يدخلون في هذه الزمرة؟

الآية ساكتة عن ذلك ، واكتفت بالقول بأنّنا قد جعلنا منهم أئمّة ، لكن بملاحظة

__________________

(١) سورة يس ، الآية ٨٢.

(٢) تفسير الميزان ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٢٧٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510