الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156326 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

جملة : (جعلنا) يرجّح في رأينا أنّ المراد هم الأنبياء الذين نصبوا بأمر الله في هذا المنصب.

ولمّا كانوا بنوا إسرائيل ـ كسائر الأمم ـ قد اختلفوا بعد هؤلاء الأئمّة الحقيقيين ، وسلكوا مسالك مختلفة ، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تقول بلحن التهديد :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

أجل إنّ مصدر ومنبع الاختلاف دائما هو مزج الحقّ بالأهواء والميول ، ولمّا كانت القيامة يوما لا معنى فيه للأهواء والميول ، حيث تمحى ويتجلّى الحقّ بأجلى صوره ، فهناك ينهي الله سبحانه الاختلافات بأمره ، وهذه أيضا إحدى فلسفات المعاد. تأمّلوا ذلك.

* * *

ملاحظة

صمود واستقامة القادة الإلهيين

قلنا : إنّه قد ذكر في الآيات مورد البحث شرطان للأئمّة : الأوّل : الصبر والثبات ، والآخر : الإيمان واليقين بآيات الله.

ولهذا الصبر والثبات فروعا وأشكالا كثيرة :

فيكون أحيانا أمام المصائب التي تحلّ بالإنسان.

واخرى مقابل الأذى الذي يحيق بأصحابه ومؤيّديه.

وثالثة في مقابل التعديات والألسن البذيئة التي تنال مقدّساته.

واخرى في مقابل المنحرفين فكريا.

واخرى أمام الجاهلين الحمقى.

واخرى أمام العلماء الخبثاء.

والخلاصة : فإنّ القائد الواعي الرشيد يجب أن يصمد أمام كلّ هذه المشاكل

١٤١

وغيرها ، ولا ينسحب من ميدان الصراع والحوادث ، ولا يجزع وييأس ، ولا يفقد زمام الأمور من يده ، ولا يضطرب ولا يندم حتّى يحقّق هدفه الكبير.

وقد روي في هذا الباب حديث جامع ورائع عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال لأحد أصحابه : إنّ من صبر صبر قليلا (وبعده الظفر) وإنّ من جزع جزع قليلا (ومن بعده الخسران).

ثمّ قال : عليك بالصبر في جميع أمورك ، فإنّ اللهعزوجل بعث محمّدا فأمره بالصبر والرفق ، فقال :( وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) وقال :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

فصبر رسول الله حتّى نالوه بالعظائم ورموه بها ـ فسمّوه ساحرا ومجنونا وشاعرا ، وكذّبوه في دعوته ـ فضاق صدره ، فأنزل اللهعزوجل عليه :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) ـ أي إنّ هذه العبادة تمنحك الاطمئنان والهدوء ـ.

ثمّ كذّبوه ورموه فحزن لذلك ، فأنزل اللهعزوجل :( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ) .

فألزم النّبي نفسه الصبر ، فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه ، فقال : قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي ، فأنزل اللهعزوجل :( وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) ، فصبر النّبي في جميع أحواله.

ثمّ بشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصبر ، فعند ذلك قال : الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، فشكر اللهعزوجل ذلك له ، فأباح له قتال المشركين ، فقتلهم الله على يدي رسول الله وأحبّائه ، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في

١٤٢

الآخرة».

ثمّ أضاف الإمام الصادقعليه‌السلام : «فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتّى يقرّ الله له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة»(١) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، الجزء ٢ ، صفحة ٧٢ باب الصبر باختصار قليل.

١٤٣

الآيات

( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠) )

التّفسير

يوم انتصارنا :

كانت الآيات السابقة ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفّار ، وتقول الآية الاولى من الآيات مورد البحث إكمالا لهذا التهديد :( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ ) (١) فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار أولئك الأقوام

__________________

(١) فاعل (لم يهد) يفهم من جملة( كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ ) والتقدير : أو لم يهد لهم كثرة من أهلكنا.

١٤٤

الذين هلكوا من قبلهم( يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ) (١) .

نقع مساكن «عاد» و «ثمود» المدمّرة ، ومدن «قوم لوط» الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام ، وكانت هذه المساكن مقرّا ومركزا للأقوام الأقوياء المنحرفين ، وطالما حذّرهم الأنبياء فلم يؤثّر فيهم ذلك ، وأخيرا طوى العذاب الإلهي ملفّ حياتهم ، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لكلّ بيوت هؤلاء وقصورهم المتهدّمة مائة لسان ، تصيح بهؤلاء أن يتنبّهوا ، وتبيّن لهم وتحدّثهم بنتيجة الكفر والانحطاط ، لكنّهم لم يعبئوا بها ويلتفتوا إليها ، وكأنّهم فقدوا أسماعهم تماما ، ولذلك تضيف الآية في النهاية :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ) .

وتشير الآية التالية إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس عمران كلّ البلدان ، ووسيلة حياة كلّ الكائنات الحيّة ، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين ، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة ، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب ، فتقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ) .

«الجرز» تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ ، وهي في الأصل من مادّة (جرز) على وزن (مرض) بمعنى «القطع» ، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض ، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات.

والطريف هنا أنّه قد عبّر بـ : (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب ـ بحكم ثقله ـ أن يكون على الأرض وفي المنخفضات ، وبحكم كونه مائعا يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض ، إلّا أنّه عند ما يصله أمرنا يفقد طبيعته ، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم.

__________________

(١) ذكر أغلب المفسّرين في تفسير الآية ما ذكرناه أعلاه ، إلّا أنّ البعض احتمل أن تكون جملة( يَمْشُونَ ) بيانا لحال المهلكين ، أي أنّ أولئك الأقوام كانوا في غفلة تامّة عن العذاب الإلهي ، وكانوا يسيرون في مساكنهم ويتنّعمون بها ، إذ أتاهم عذاب الله بغتة وأهلكهم. إلّا أنّ هذا الاحتمال يبدو بعيدا.

١٤٥

نعم ، إنّ هذه السحب السابحة في السماء بحار كبيرة من المياه العذبة ترسل إلى الأراضي اليابسة بأمر الله ومعونة الرياح.

والواقع أنّه لو لا المطر فإنّ كثيرا من الأراضي لا ترى حتّى القطرة الواحدة من الماء ، وإذا افترضنا أنّ هناك أنهارا غزيرة المياه فإنّ تلك المياه لا تصل إلى أغلب الأراضي ، إلّا أنّنا نرى أنّه ببركة هذه الرحمة الإلهيّة قد نبتت ونمت الأعشاب والغابات والأشجار الكثيرة جدّا على قمم كثير من الجبال والوديان الوعرة والتلال المرتفعة ، وهذه القدرة العجيبة للمطر على الري لا يستطيع القيام بها شيء آخر.

«زرعا» له هنا معنى واسعا يشمل كلّ أنواع العشب والشجر ، وإن كان يستعمل أحيانا في مقابل الشجر.

ويمكن أن يكون تقديم الدوابّ والأنعام على البشر في هذه الآية لأنّ تغذية الحيوانات تعتمد على النبات ، في حين أنّ البشر يتغذّى على النبات وعلى لحوم الحيوانات.

أو من جهة أنّ النبات بمجرّد نموّه يصبح غذاء للحيوانات ، وتستطيع الاستفادة منه وهضمه ، في حين أنّ استفادة الإنسان من النباتات ، تتأخّر حتّى تحمل الشجرة وتنضج الثمرة.

والطريف هنا أنّ جملة :( أَفَلا يُبْصِرُونَ ) قد وردت في نهاية الآية مورد البحث ، في حين أنّ الآية السابقة التي كانت تتحدّث عن أطلال قصور الأقوام الغابرة قد ختمت بجملة :( أَفَلا يَسْمَعُونَ ) .

وعلّة هذا الاختلاف هو أنّ الجميع يرون بأمّ أعينهم منظر الأراضي الميّتة وهي تحيا على أثر نزول الأمطار ونموّ نباتها وينع ثمرها ، في حين أنّهم يسمعون المسائل المرتبطة بالأقوام السابقين كإخبار غالبا.

ويستفاد من مجموع الآيتين أعلاه أنّ الله تعالى يقول لهؤلاء العصاة

١٤٦

المتمرّدين : انتبهوا جيّدا ، وافتحوا عيونكم وأسماعكم ، فاسمعوا الحقائق ، وانظروا إليها ، وتفكّروا كيف أمرنا الرياح يوما أن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثارا ، وفي يوم آخر نأمر ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة البور لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة ، ألا تستسلمون وتذعنون لهذه القدرة؟!

ولمّا كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالانتقام ، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر ، فإنّ الكفّار يطرحون هذا السؤال غرورا واستكبارا وتعلّلا بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقّق؟ كما يذكر القرآن ذلك :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

فيجيبهم القرآن مباشرة ، ويأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) أي : إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النّبي لتؤمنوا ، فإنّ الوقت قد فاتكم ، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئا.

وممّا قلنا يتّضح أنّ المراد من «يوم الفتح» يوم نزول «عذاب الاستئصال» ، أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين ، ولا يدع لهم فرصة الإيمان. وبتعبير آخر فإنّ عذاب الاستئصال نوع من العذاب الدنيوي ، لا من عذاب الآخرة ، ولا من العقوبات الدنيوية المعتادة ، بل هو العذاب الذي ينهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجّة.

والشاهد على هذا القول امور :

أ: إذا كان المراد العقوبات الدنيوية المعتادة ، أو الانتصارات الشبيهة بانتصار المسلمين في معركة بدر ويوم فتح مكّة ـ كما قال ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ جملة :( لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ ) لا تصحّ حينئذ ، لأنّ الإيمان كان مفيدا حينذاك ، وأبواب التوبة كانت مفتّحة يوم الإنتصار في بدر ، وفي يوم فتح مكّة.

١٤٧

ب : إذا كان المراد من يوم الفتح يوم القيامة ـ كما ارتضى ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ ذلك لا يناسب جملة :( وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) لأنّ إعطاء الفرصة وعدمه يرتبط بالحياة الدنيا ، إضافة إلى أنّ «يوم الفتح» لم يستعمل بمعنى يوم القيامة في أيّ موضع من القرآن الكريم.

ج : إنّ التعبير بالفتح في مورد عذاب الاستئصال يلاحظ مرارا في القرآن ، مثل الآية (١١٨) من سورة الشعراء ، حيث يقول نوح :( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) وهو إشارة إلى عقوبة الطوفان.

وورد نظير هذا المعنى في الآية (٧٧) من سورة المؤمنون أيضا.

إلّا أنّ المراد إذا كان عذاب الاستئصال في الدنيا فإنّه يتّفق مع ما قلناه أعلاه ، وينسجم مع كلّ القرائن ، وهو في الواقع تهديد للكافرين والظالمين بأن لا تطلبوا تحقّق الوعد بالفتح للمؤمنين ووقوع عذاب الاستئصال على الكافرين ، فإنّ طلبكم إذا تحقّق فسوف لا تجدون الفرصة للإيمان ، وإذا وجدتم الفرصة وآمنتم فإنّ إيمانكم سوف لا يقبل.

وهذا المعنى خاصّة يتلاءم كثيرا مع الآيات السابقة التي تحدّثت عن هلاك الأقوام المتمرّدين الطاغين الذين كانوا يعيشون في القرون الماضية ، وابتلوا بالعذاب الإلهي والفناء ، لأنّ كفّار مكّة إذا سمعوا الكلام الذي ورد في الآيتين السابقتين فإنّهم سيطلبون تحقّق مثل هذا الموضوع في حقّهم ، إلّا أنّ القرآن الكريم يحذّرهم بأن لا يطلبوا مثل هذا الطلب ، فإنّ العذاب إذا نزل لا يبقى لهم شيء.

وأخيرا تنهي الآية الأخيرة هذه السورة ـ سورة السجدة ـ بتهديد بليغ عميق المعنى ، فتقول :( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ) .

الآن ، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار ، ولا هم أهل منطق واستدلال ليعرفوا الله سبحانه بمشاهدة الآثار الإلهيّة في خفايا الخلقة فيعبدوه ،

١٤٨

وليس لهم وجدان حيّ يترنّم في أعماقهم بنغمة التوحيد فيسمعونها ، فأعرض عنهم ، وانتظر رحمة الله سبحانه ، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقّون سواه.

اللهمّ اجعلنا ممّن يسلّم ويؤمن عند رؤية أوّل علامات الحقّ وآياته.

اللهمّ أبعد عنّا روح الكبر والغرور والعناد ونجّنا منها.

اللهمّ عجلّ بنصر جند الإسلام على جنود الكفر والاستكبار والاستعمار.

نهاية سورة السجدة

* * *

١٤٩
١٥٠

سورة

الأحزاب

مدنيّة

وعدد آياتها ثلاث وسبعون آية

١٥١
١٥٢

سورة الأحزاب

سبب التسمية وفضلها :

هذه السورة نزلت في المدينة باتّفاق علماء الإسلام ، ومجموع آياتها (٧٣) آية ، ولمّا كان جزء مهمّ من هذه السورة يتحدّث عن أحداث غزوة الأحزاب (الخندق) فإنّ هذا الاسم قد اختير لها.

ويكفي في فضل هذه السورة أن نقرأ في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله اعطي الأمان من عذاب القبر»(١) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه»(٢) .

وقد قلنا مرارا : إنّ هذه الفضائل لا تنال بالتلاوة الخالية من الروح ، والعارية من كلّ أنواع الفكر والعمل ، بل التلاوة التي تكون مبدأ للتفكّر الذي يضيء آفاق الإنسان يظهر آثاره في أعماله وسلوكه.

محتوى سورة الأحزاب :

إنّ هذه السورة من أغنى سور القرآن المجيد وأجناها ثمارا ، وتتابع وتبحث

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٣٤. بداية سورة الأحزاب.

(٢) المصدر السابق.

١٥٣

مسائل متنوّعة وكثيرة جدّا في باب اصول الإسلام وفروعه.

ويمكن تقسيم الأبحاث التي وردت في هذه السورة إلى سبعة أقسام :

الأوّل : بداية السورة التي تدعو الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى طاعة الله وترك اتّباع الكافرين ومقترحات المنافقين ، وتبشّره بأنّ الله سبحانه سيدعمه وينصره في مقابل استنكار هؤلاء.

الثّاني : أشار إلى بعض خرافات زمان الجاهلية ، كالظهار ، حيث كانوا يعتبرونه سببا للطلاق وافتراق الرجل عن امرأته ، وكذلك مسألة التبنّي ، وأكّدت على بطلانها ، وحصرت العلاقات والروابط العائلية والسببية بالروابط الواقعية والطبيعية.

الثّالث : وهو أهمّ أقسام هذه السورة ، ويرتبط بمعركة «الأحزاب» وحوادثها المرعبة ، وانتصار المسلمين المعجز على الكفّار ، وإعاقات وتخرّصات وتعذّر المنافقين ، ونقضهم لعهودهم ، وقد بيّنت في هذا المجال قوانين رائعة وجامعة.

الرّابع : يرتبط بزوجات النّبي ، حيث يجب أن يكنّ أسوة وأنموذجا أسمى لكلّ نساء المسلمين ، ويصدر لهنّ في هذا الباب أوامر مهمّة.

الخامس : يتطرّق إلى قصّة «زينب بنت جحش» التي كانت يوما زوجة لزيد ، وهو ابن النّبي بالتبنّي ، وافترقت عنه ، فتزوّجها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله سبحانه ، فأصبح هذا الزواج حربة بيد المنافقين ، فأجابهم القرآن الجواب الكافي الشافي.

السّادس : يتحدّث عن مسألة الحجاب ، والتي ترتبط بالبحوث السابقة ، ويوصي كلّ النساء المؤمنات بمراعاة هذا القانون الإسلامي.

السّابع : الذي يشكّل الجزء الأخير ، ويشير إلى مسألة المعاد المهمّة ، وطريق النجاة في ذلك الموقف العظيم ، وكذلك يشرح ويبيّن مسألة أمانة الإنسان العظمى ، أي مسألة التعهّد والتكليف والمسؤولية.

* * *

١٥٤

آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) )

سبب النّزول

لقد ذكر المفسّرون هنا أسباب نزول مختلفة ، تبحث كلّها تقريبا موضوعا واحدا.

ومن جملتها : إنّ هذه الآيات نزلت في شأن أبي سفيان وبعض آخر من رؤوس الكفر والشرك الذين أخذوا الأمان من الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد معركة أحد ودخلوا المدينة ، وأتوا مع عبد الله بن أبي وجماعة من أصحابه ، إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقالوا : يا محمّد ، لا تذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة بسوء وقل : إنّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك ، فشقّ ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عمر بن الخطّاب : ائذن لنا ـ يا رسول الله ـ في قتلهم ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي أعطيتهم الأمان» وأمر فأخرجوا من المدينة ونزلت الآية :( وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ) وأمرته أن لا يصغي لمثل هذه

١٥٥

الاقتراحات(١) .

التّفسير

اتّبع الوحي الإلهي فقط :

إنّ من أخطر المنعطفات والمنحدرات التي تعترض طريق القادة الكبار قضيّة اقتراحات الصلح والتنازل والوفاق التي تطرح من قبل المخالفين ، وتضع الخطوط الملتوية والطرق المنحرفة إلى جانب طريق القادة ، وتسعى لحرفهم عن مسيرهم الأصلي ، وهذا إمتحان صعب وعسير لهؤلاء.

لقد بذل مشركو «مكّة» ومنافقو «المدينة» كلّ ما في وسعهم ليحرّفوا الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عن خطّ التوحيد من خلال طرح مقترحات السلام والاتّفاق ، ومن جملتها ما قرأناه في سبب النّزول ، إلّا أنّ أولى آيات سورة الأحزاب نزلت فأنهت مؤامراتهم ، ودعت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الاستمرار في أسلوبه الحاسم في خطّ «التوحيد» بدون أدنى تراجع وتنازل ومسالمة.

إنّ هذه الآيات بمجموعها تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأربعة أوامر مهمّة :

الأوّل : في مجال التقوى ، والتي تهيّء الأرضية لكلّ برنامج آخر ، فتقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ) .

إنّ حقيقة التقوى هي ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية ، ولو لا هذا الإحساس فإنّ الإنسان لا يندفع ولا يتحرّك باتّجاه أي برنامج بنّاء.

التقوى هي الهدف الأسمى للهداية والانتفاع بآيات الله ، كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة :( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

صحيح أنّ المرحلة النهائية للتقوى تحصل بعد الإيمان والعمل طبق أوامر الله

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث ، وتفاسير اخرى.

١٥٦

سبحانه ، إلّا أنّ مرحلتها الابتدائية تقع قبل كلّ هذه المسائل ، لأنّ الإنسان إذا لم يحسّ بالمسؤولية داخليا ، فإنّه لا يسعى للتحقّق من دعوة الأنبياء والتثبّت منها ، ولا يصغي إليها ، وحتّى مسألة (دفع الضرر المحتمل) التي عدّها علماء الكلام والعقائد أساس ودعامة السعي إلى معرفة الله ، فإنّها في الحقيقة فرع التقوى.

الثّاني : نفي ورفض طاعة الكافرين :( وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ) وتقول الآية في النهاية تأكيدا لهذا الموضوع :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) فإنّه تعالى حينما يأمرك بعدم إتّباع هؤلاء ، فإنّ ذلك صادر عن حكمته اللامتناهية ، لأنّه يعلم ما اخفي في هذا الإتّباع والمهادنة من المصائب ، الأليمة ، والمفاسد الجمّة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ أوّل وظيفة بعد التقوى والإحساس بالمسؤولية ، هي غسل القلب وتصفيته من الغير ، واقتلاع الأشواك الضارّة المؤذية من هذه الأرض المعنوية.

الثّالث : نثر بذور التوحيد واتّباع الوحي الإلهي ، فيقول :( وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) واحذر فـ( إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) وبناء على هذا فإنّ الواجب الأوّل هو طرد الشياطين من أعماق الروح لتحلّ محلّها الملائكة ، وأن تقلع الأشواك لتبذر محلّها الورود ، ويجب أن تطهّر الأرض من الطواغيت لتخلّفهم حكومة الله ونظامه المقدّس.

ولمّا كانت هناك مشاكل كثيرة ، وتهديدات ومؤامرات ، ومعوّقات في الاستمرار في سلوك هذا الطريق ، فإنّه تعالى يصدر الأمر الرابع بأن( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) فلو أنّ الف عدوّ يسعى لقتلك ، فلا تخش ولا تخف منهم لأنّي ناصرك ومعينك.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّه خطاب لكلّ المؤمنين ، ولعامّة المسلمين ، وهو وصفة طبية تمنح الحياة ، ودواء لبث النشاط والحيوية في كلّ عصر وزمان.

١٥٧

وقال بعض المفسّرين : إنّ الخطاب بـ( يا أَيُّهَا ) خاصّ بالموارد التي يراد منها جلب انتباه العموم لمطلب ما ، وإن كان المخاطب واحدا ، بخلاف الخطاب بـ (يا) والذي يستعمل في الموارد التي يراد منها شخص المخاطب(١) . ولمّا كانت هذه الآيات قد بدأت بـ( يا أَيُّهَا ) فإنّها تؤكّد كون الهدف من هذه الآيات هو العموم.

والشاهد الآخر للتعميم ، هو أنّ جملة :( إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) قد وردت بصيغة الجمع ، وإذا كان المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فينبغي أن تقول الآية : إنّ الله كان بما تعمل خبيرا ـ.

ولا يخفى أنّ هذه الأوامر الموجّهة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تعني أنّه كان مقصّرا في التقوى أو أنّه يتّبع الكافرين والمنافقين ، بل إنّ لهذه الأوامر صفة التأكيد على واجبات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، وهي درس وعبرة لكلّ المؤمنين من جهة اخرى.

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد ١٥ ، صفحة ١٩٠ ذيل الآيات مورد البحث.

١٥٨

الآيات

( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) )

١٥٩

التّفسير

ادّعاءات جوفاء :

تعقيبا للآيات السابقة التي كانت تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتّبع الوحي الإلهي فقط ، ولا يتّبع الكافرين والمنافقين ، تعكس هذه الآيات التي نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه يدعو الإنسان إلى مجموعة من الخرافات والأباطيل ، وقد ذكرت الآية الاولى من الآيات مورد البحث ثلاث منها ، فتقول أوّلا :( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) .

وقد ذكر جمع من المفسّرين في سبب نزول هذا القسم من الآية : أنّ رجلا في الجاهلية يدعى «جميل بن معمّر» كان عجيب الحفظ ، وكان يدّعي أنّ في جوفه قلبين كلّ منهما أفهم من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذلك كان مشركو قريش يسمّونه : ذا القلبين!

فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون ، وفيهم جميل بن معمّر ، تلقّاه أبو سفيان وهو آخذ بيده إحدى نعليه ، والاخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمّر ، ما حال الناس؟

قال : انهزموا ، قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك ، والاخرى في رجلك؟ فقال أبو معمّر : ما شعرت بذلك ، وكنت أظنّهما في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنّه لم يكن له إلّا قلب واحد لما نسي نعله في يده(١) . بل لم يكن يعقل ويفهم حتّى بمقدار ذي القلب الواحد.

والمراد من «القلب» في مثل هذه الموارد «العقل».

وعلى كلّ حال فإنّ اتّباع الكفّار والمنافقين ، وعدم اتّباع الوحي الإلهي يدعو الإنسان إلى مثل هذه الإعتقادات الخرافية.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ للجملة معنى أعمق ، وهو : أنّه ليس للإنسان إلّا قلب واحد ، ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلّا عشق معبود واحد ، وعلى هذا فإنّ

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث ، وتفسير القرطبي.

١٦٠

أولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعدّدة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعدّدة ، ليجعلوا كلّ واحد منها بيتا لعشق معبود واحد!

من المسلّم أنّ شخصيّة الإنسان السليم شخصية واحدة ، وخطّه الفكري واحد ، ويجب أن يكون واحدا في وحدته واختلاطه بالمجتمع ، في الظاهر والباطن ، في الداخل والخارج ، وفي الفكر والعمل ، فإنّ كلّ نوع من أنواع النفاق أز ازدواج الشخصية أمر مفروض على الإنسان وعلى خلاف طبيعته.

إنّ الإنسان بحكم امتلاكه قلبا واحدا يجب أن يكون له كيان عاطفي واحد ، وأن يخضع لقانون واحد

ولا يدخل قلبه إلّا حبّ معشوق واحد

ويسلك طريقا معيّنا في حياته ، بأن يتآلف مع فريق واحد ، ومجتمع واحد ، وإلّا فإنّ التعدّد والتشتّت والطرق المختلفة والأهداف المتفرّقة ستقوده إلى اللاهدفية والانحراف عن المسير التوحيدي الفطري.

ولهذا نرى في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في تفسير هذه الآية : «لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان ، إنّ الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه ، فيحبّ بهذا ويبغض بهذا ، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه ، فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه ، فإن شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه»(١) .

وبناء على هذا فإنّ القلب مركز الإعتقاد الواحد ، وينفّذ برنامجا عمليا واحدا ، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعتقد بشيء حقيقة وينفصل عنه في العمل ، وما يدّعي بعض المعاصرين من أنّهم يمتلكون شخصيات متعدّدة ، ويقولون : إنّنا قد قمنا بالعمل الفلاني سياسيا ، وبذلك العمل دينيا ، والآخر اجتماعيا ، ويوجّهون بذلك

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢٣٤.

١٦١

أفعالهم المتناقضة ، فهو ناشئ من نفاقهم وسوء سريرتهم حيث يريدون أن يسحقوا بهذا الكلام قانون الخلقة.

صحيح أنّ أبعاد حياة الإنسان مختلفة ، ولكن يجب أن يحكمها خطّ واحد ، وتسير ضمن منهاج واحد.

ثمّ يتطرّق القرآن إلى خرافة اخرى من خرافات الجاهلية ، وهي خرافة «الظهار» ، حيث أنّ المشركين كانوا إذا غضبوا على نسائهم ، وأرادوا أن يبدوا تنفّرهم وعدم ارتياحهم ، قالوا للزوجة : أنت عليّ كظهر أمّي فيعتبرها بمثابة أمّه ، وكان يعدّ هذا الكلام بمنزلة الطلاق!

يقول القرآن الكريم في تتمّة هذه الآية :( وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ ) فلم يمض الإسلام هذا القانون الجاهلي ، ولم يصادق عليه ، بل جعل عقوبة لمن يتعاطاه ، وهي : أنّ من نطق بهذا الكلام فلا يحقّ له أن يقرب زوجته حتّى يدفع الكفّارة ، وإذا لم يدفعها ولم يأت زوجته فإنّ لها الحقّ في أن تستعين بحاكم الشرع ليجبره على أحد أمرين : إمّا أن يطلّقها وفقا لأحكام الإسلام ويفارقها ، أو أن يكفّر ويستمرّ في حياته الزوجية كالسابق(١) .

أي منطق هذا الذي تصبح فيه زوجة الإنسان بمنزلة أمّه بمجرّد أن يقول لها : أنت عليّ كظهر أمّي؟! إنّ ارتباط وعلاقة الامّ والولد علاقة طبيعية لا تتحقّق بمجرّد الكلام مطلقا ، ولذلك تقول الآية ٢ ـ سورة المجادلة بصراحة :( إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ) .

وإذا كان هدف هؤلاء من إطلاق هذه الكلمات هو الإفتراق والانفصال عن المرأة ـ (وهكذا كان في عصر الجاهلية ، حيث كانوا يقولون هذه الكلمات بدل لفظ الطلاق) ـ فإنّ الانفصال عن المرأة لا يحتاج إلى مثل هذا الكلام القبيح السيّء. ألا

__________________

(١) سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ توضيح أكثر حول المسائل المرتبطة بالظهار في ذيل الآيات المناسبة في سورة المجادلة.

١٦٢

يمكن أن يصرّح بالطلاق بتعبير صحيح بعيد عن كلّ ذلك القبح؟

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الظهار» في الجاهلية لم يكن يؤدّي إلى انفصال الرجل عن المرأة ، بل إنّه كان يجعل المرأة كالمعلّقة لا يعرف حالها ومصيرها ، وإذا كانت المسألة كذلك ، فإنّ جناية هذا العمل وقبحه ستكون أوضح ، لأنّ كلمة لا معنى لها كانت تحرّم على الرجل علاقته الزوجية مع زوجته من دون أن تكون المرأة مطلّقة(١) .

ثمّ تطرّقت الآية إلى ثالث خرافة جاهلية ، فقالت :( وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ) .

وتوضيح ذلك : أنّه كان من المتعارف في زمن الجاهلية أنّهم كانوا ينتخبون بعض الأطفال كأولاد لهم ، ويسمّونهم أولادهم ، وبعد هذه التسمية يعطونه كلّ الحقوق التي يستحقّها الولد من الأب ، فيرث الولد من تبنّاه ، كما يرث المتبنّي الولد ، ويجري عليهما تحريم امرأة الأب أو زوجة الابن.

وقد نفى الإسلام هذه العادات غير المنطقية والخرافية أشدّ النفي ، بل ـ وكما سنرى ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أقدم ـ لمحو هذه السنّة المغلوطة ـ على الزواج من زوجة ولده المتبنّي «زيد بن حارثة» بعد أن طلّقها زيد ، ليتّضح من خلال هذه السنّة النبوية أنّ هذه الألفاظ الجوفاء لا يمكن أن تغيّر الحقائق والواقع ، لأنّ علاقة البنوّة والابوّة علاقة طبيعية لا تحصل أبدا من خلال الألفاظ والاتّفاقيات والشعارات.

ومع أنّنا سنقول فيما بعد : أنّ زواج النبي بزوجة زيد المطلّقة قد أثار ضجّة عظيمة بين أعداء الإسلام ، وأصبح حربة بيدهم للإعلام المضادّ السيء ، إلّا أنّ هذا العمل كان يستحقّ تحمّل كلّ ذلك الصخب الإعلامي لتحطيم هذه السنّة الجاهلية ، ولذلك يقول القرآن الكريم بعد هذه الجملة :( ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ) .

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، المجلّد ٦ ، صفحة ٥٣٤ ، ذيل الآية مورد البحث.

١٦٣

إنّكم تقولون : إنّ فلانا ولدي ، وأنتم تعلمون علم اليقين أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ الأمواج الصوتية فقط هي التي تخرج من أفواهكم ولا تنبع مطلقا من إعتقاد قلبي ، وهذا كلام باطل ليس إلّا( وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) .

إنّ «قول الحقّ» يطلق على القول الذي ينطبق على الواقع الموضوعي تماما ، أو أن يكون من الأمور الاعتبارية التي تنسجم مع مصالح كلّ أطراف القضيّة ، ونعلم أنّ مسألة «الظهار» في الجاهلية ، أو «التبنّي» الذي كان يستحق حقوق الأبناء الآخرين إلى حدّ كبير ـ لم يكونا من الموضوعات العينية ، ولا من الاعتباريات الحافظة لمصلحة عامّة الناس.

ثمّ يضيف القرآن مؤكّدا وموضّحا الخطّ الصحيح والمنطقي للإسلام :( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ) .

إنّ التعبير بـ (أقسط) لا يعني أنّهم إن دعوهم بأسماء المتبنّين لهم فإنّه عدل ، وإن دعوهم بأسماء آبائهم الواقعيين فإنّه أعدل ، بل ـ وكما قلنا سابقا مرارا ـ إنّ صيغة (أفعل التفضيل) تستعمل في بعض الموارد ولا تدلّ على الوصف المقابل لصفة ما ، فمثلا نقول : من الأفضل أن يحتاط الإنسان ولا يلقي بنفسه في الخطر ، فلا يعني هذا أنّ إلقاء النفس في الخطر والتهلكة حسن ، إلّا أنّ الاحتياط أفضل منه ، بل إنّ المراد المقارنة بين الحسن والقبح.

وتقول الآية لرفع الأعذار والحجج :( فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ ) أي إنّ عدم معرفة آبائهم لا يكون دليلا على أن تضعوا اسم شخص آخر كأب لهذا الابن ، بل يمكنكم أن تخاطبوهم كإخوانكم في الدين أو أصدقائكم ومواليكم.

(الموالي) جمع «مولى» ، وقد ذكر المفسّرون له معاني عديدة ، فالبعض فسّره هنا بمعنى الصديق والصاحب ، والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر ، لأنّ بعض الأدعياء كانوا عبيدا يشترون ثمّ يتحرّرون ، ولمّا كان أصحابهم قد اهتّموا

١٦٤

بهم وأحبّوهم فإنّهم كانوا يدعونهم كأبناء لهم.

وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ تعبير (مولى) في مثل هذه الموارد كان يرتبط بالعبيد المحرّرين من جهة أنّهم كانوا يحتفظون بعلاقاتهم مع مالكيهم بعد تحرّرهم ، تلك العلاقات التي كانت تنوب عن اولي الأرحام في بعض الجهات من الناحية الحقوقية ، وكانوا يعبّرون عن ذلك بـ (ولاء العتق) ولذلك نقرأ في الروايات الإسلامية أنّ «زيد بن حارثة» بعد أن أعتقه النّبي كان يدّعي زيد بن محمّد ، حتّى نزل القرآن بالأمر أعلاه ، فمن ذلك الحين قال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت زيد بن حارثة» ، وكان الناس يدعونه بعد ذلك : مولى رسول الله(١) .

وقالوا أيضا : كان لأبي حذيفة غلام يدعى «سالما» فأعتقه وادّعاه ، فلمّا نزلت هذه الآية كانوا يسمّونه : سالما مولى أبي حذيفة(٢) .

ولكن ربّما يدعو الشخص إنسانا لغير أبيه لاعتياده ذلك سابقا ، أو لسبق لسانه ، أو لاشتباهه في تشخيص نسب الأفراد ، وهذا خارج عن حدود إختيار الإنسان ، فإنّ الله العادل الحكيم لا يعاقب مثل هذا الإنسان ، ولذا أردفت الآية :( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ) (٣) ( وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

إنّه تعالى يغفر لكم ما سبق ، ويعفو عن السهو والنسيان والاشتباه ، أمّا بعد نزول هذا الحكم فإنّ اللهعزوجل سوف لا يغفر لكم مخالفتكم إن صدرت عن عمد وقصد ، فتدعون أفرادا بغير أسماء آبائهم ، وتستمرّون على اتّباع هذا العرف السيء بالدعوة لغير الأب.

وقال بعض المفسّرين : إنّ موضوع الخطأ يشمل الموارد التي يقول فيها

__________________

(١) روح المعاني ، المجلّد ٢١ ، صفحة ١٣١ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) روح البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

(٣) قال المفسّرون : إنّ كلمة (ما) هنا موصولة ، وهي من ناحية الإعراب مبتدأ ، وخبرها محذوف ، وتقدير الجملة : لكن ما تعمّدت قلوبكم فإنّكم تؤاخذون عليه.

١٦٥

الإنسان لآخر تحبّبا : ولدي ، أو يا بنيّ ، أو يقول فيها لآخر احتراما : يا أبت!

وهذا الكلام صحيح ـ طبعا ـ وهذه التعبيرات لا تعدّ ذنبا ، لكن لا لأجل عنوان الخطأ ، بل لأنّ لهذه التعبيرات صفة الكناية والمجاز ، وقرينتها معها عادة ، والقرآن ينفي التعبيرات الحقيقية في هذا الباب ، لا المجازية.

ثمّ تتطرّق الآية التالية إلى مسألة مهمّة اخرى ، أي إبطال نظام «المؤاخاة» بينهم.

وتوضيح ذلك : أنّ المسلمين لمّا هاجروا من مكّة إلى المدينة وقطع الإسلام كلّ روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشركين الذين كانوا في مكّة تماما ، فقد أجرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله عقد المؤاخاة بينهم وعقد عهد المؤاخاة بين «المهاجرين» و «الأنصار» ، وكان يرث أحدهم الآخر كالأخوين الحقيقيين ، إلّا أنّ هذا الحكم كان مؤقّتا وخاصّا بحالة استثنائية جدّا ، فلمّا اتّسع الإسلام وعادت العلاقات السابقة تدريجيّا لم تكن هناك ضرورة لاستمرار هذا الحكم ، فنزلت الآية أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذي كان يحلّ محلّ النسب ، وجعل حكم الإرث وأمثاله مختّصا بأولي الأرحام الحقيقيين.

وبالرغم من أنّ نظام المؤاخاة كان نظاما إسلاميا ـ على خلاف نظام التبنّي الذي كان نظاما جاهليا ـ ولكن كان من الواجب أن يلغى بعد ارتفاع الحالة الموجبة له ، وهكذا حصل ، غاية ما في الأمر أنّ الآية قبل أن تذكر هذا الحكم ذكرت حكمين آخرين ـ أي كون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وكون نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كامّهاتهم ـ كمقدّمة ، فقالت :( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ) .

ومع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة الأب ، وأزواجه بمنزلة امّهات المؤمنين إلّا أنّهم لا يرثون منهم مطلقا ، فكيف ينتظر أن يرث الابن المتبنّي؟!

ثمّ تضيف الآية :( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

١٦٦

وَالْمُهاجِرِينَ ) ولكن مع ذلك ، ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمين تماما وليكون بإمكان المؤمنين تعيين شيئا من الإرث لإخوانهم ـ وإن كان بأن يوصوا بثلث المال ـ فإنّ الآية تضيف في النهاية :( إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) .

وتقول في آخر جملة تأكيدا لكلّ الأحكام السابقة ، أو الحكم الأخير :( كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) ـ في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم ـ.

كان هذا خلاصة تفسير الآية أعلاه ، والآن يجب أن نتطرّق إلى تفصيل كلّ واحد من الأحكام الأربعة التي وردت في هذه الآية :

١ ـ ما هو المراد من كون النّبي أولى بالمؤمنين؟

لقد ذكر القرآن في هذه الآية أولوية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسلمين بصورة مطلقة ، ومعنى ذلك أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بالإنسان المسلم من نفسه في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان في حقّ نفسه.

ومع أنّ بعض المفسّرين فسّروها بمسألة «تدبير الأمور الاجتماعية» ، أو «الأولوية في مسألة القضاء» ، أو «طاعة الأمر» ، إلّا أنّنا في الواقع لا نمتلك أي دليل على انحصار الآية في أحد هذه الأمور الثلاث.

وإذا لاحظنا في بعض الروايات الإسلامية تفسير الأولوية بـ «الحكومة» ، فهو في الحقيقة بيان لأحد فروع هذه الأولوية(١) .

لذلك يجب أن يقال : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أولى من كلّ إنسان مسلم في المسائل الاجتماعية والفردية ، وكذلك في المسائل المتعلّقة بالحكومة والقضاء والدعوة ، وإنّ إرادته ورأيه مقدّم على إرادة أي مسلم ورأيه.

ولا ينبغي العجب من هذه المسألة ، لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم ووكيل لله سبحانه ، ولا يفكّر ويقرّر إلّا في صالح المجتمع والفرد ، ولا يتّبع الهوى أبدا ، ولا يعتبر

__________________

(١) وردت هذه الروايات في اصول الكافي ، وكتاب علل الشرائع. راجع تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

١٦٧

مصالحه مقدّمة على مصالح الآخرين وأهمّ منها ، بل على العكس من ذلك ، فهو يؤثّر ويقدّم مصالح الامّة على مصالحه دائما عند تعارض المصلحتين.

إنّ هذه الأولوية فرع من أولوية المشيئة الإلهيّة ، لأنّ كلّ ما لدينا من الله سبحانه. إضافة إلى أنّ الإنسان لا يصل إلى أوج الإيمان إلّا عند ما يضحّي بأقوى العلائق والدوافع فيه ، وهو عشقه لذاته في طريق عشقه لذات الله وخلفائه ، ولذلك نقرأ في حديث : «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به»(١) .

وجاء في حديث آخر : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين»(٢) .

وكذلك روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة»(٣) .

ويقول القرآن الكريم في الآية (٣٦) من سورة الأحزاب هذه :( ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) .

نؤكّد مرّة اخرى على أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ الله قد جعل أمر الناس تبعا لأهواء ورغبات شخص ما ، بل من جهة أنّ للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مقام العصمة ، وبمصداق :( ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) فإنّ كلّ ما يقوله هو كلام الله ومن الله ، وهو أحرص وأرحم حتّى من الأب بهذه الامّة.

إنّ هذه الأولوية في الحقيقة تقع في مسير منافع الناس في جوانب الحكومة وتدبير المجتمع الإسلامي ، وكذلك في المسائل الشخصية والفردية.

ويتبيّن من هذه الأدلّة أنّ هذه الأولوية تضع على عاتق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مسئوليات ثقيلة ضخمة ، ولذلك نقرأ في الرواية المشهورة الواردة في مصادر الشيعة والسنّة ،

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

(٣) صحيح البخاري ، المجلّد ٦ ، صفحة ١٤٥ تفسير سورة الأحزاب ، ومسند أحمد ، الجزء ٢ ، صفحة ٣٣٤.

١٦٨

أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه ، ومن ترك مالا فللوارث ، ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ»(١) .

ينبغي الالتفات إلى أنّ «الضياع» هنا بمعنى الأولاد أو العيال الذين بقوا بدون معيل ، والتعبير بـ «الدّين» قبلها قرينة واضحة على هذا المعنى ، لأنّ المراد بقاء الدّين بدون مال يسدّد به.

٢ ـ الحكم الثّاني في هذا الباب يتعلّق بأزواج النّبي حيث يعتبرن كامّهات لكلّ المؤمنين ، وهي طبعا أمومة معنوية وروحية ، كما أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أب روحي ومعنوي للأمّة.

إنّ تأثير هذا الارتباط المعنوي كان منحصرا في مسألة حفظ احترام أزواج النّبي وحرمة الزواج منهنّ ، كما جاء الحكم الصريح بتحريم الزواج منهنّ بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في آيات هذه السورة ، وإلّا فليس لهذه العلاقة أدنى أثر من ناحية الإرث وسائر المحرّمات النسبية والسببية ، أي إنّ المسلمين كان من حقّهم أن يتزوّجوا بنات النّبي ، في حين أنّ أيّ أحد لا يستطيع الزواج من ابنة امّه. وكذلك مسألة كونهنّ أجنبيات ، وعدم جواز النظر إليهن إلّا للمحارم.

في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ امرأة قالت لعائشة : يا امّه! فقالت :

لست لك لامّ إنّما أنا أمّ رجالكم»(٢) وهو إشارة إلى أنّ الهدف من هذا التعبير هو حرمة التزويج ، وهذا صادق في رجال الامّة فقط.

وثمّة مسألة مطروحة ، وهي احترامهنّ وتعظيمهنّ ـ كما قلنا ـ إضافة إلى قضيّة عدم الزواج ، ولذلك فإنّ نساء المسلمين كنّ قادرات على مخاطبة نساء النّبي

__________________

(١) نقل هذا الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في وسائل الشيعة ، الجزء ٧ ، صفحة ٥٥١ ، وورد هذا المضمون بتفاوت يسير في تفسير القرطبي ، وروح المعاني في ذيل الآيات مورد البحث ، وورد أيضا في صحيح البخاري ، المجلّد ٦ ، صفحة ١٤٥ تفسير سورة الأحزاب.

(٢) مجمع البيان ، وروح المعاني ، ذيل الآيات مورد البحث.

١٦٩

بالامّ بعنوان احترامهنّ.

والشاهد لهذا القول ، أنّ القرآن الكريم يقول :( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وهذا يعني أولوية النّبي بكلّ النساء والرجال ، وضمير الجملة التالية يعود إلى هذا العنوان الواسع المعنى ، ولذلك نقرأ في العبارة التي نقلت عن «امّ سلمة» ـ وهي من أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّها قالت : أنا امّ الرجال منكم والنساء(١) .

وهنا يطرح سؤال ، وهو : هل أنّ تعبير( وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ) يتناقض مع ما ورد في الآية (٢) من سورة المجادلة :( الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ) فكيف تعتبر نساء النّبي ـ والحال هذه ـ امّهات المسلمين ولم يولدوا منهنّ؟

وينبغي في الإجابة على هذا السؤال الالتفات إلى أنّ مخاطبة امرأة ما بالامّ إمّا أن تكون من الناحية الجسمية أو الروحية

فأمّا من الناحية الجسمية : فإنّ هذه المخاطبة تكون واقعية في حالة كون الإنسان مولودا منها فقط ، وهذا هو الذي جاء في الآيات السابقة بأنّ الامّ الجسمية للإنسان هي التي تلده فقط.

وأمّا الأب أو الامّ الروحيين ، فهو الذي له حقّ معنويّ على الإنسان كالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يعتبر الأب الروحي للامّة ، ولأجله اكتسبت أزواجه منزلة واحترام الامّ.

والإشكال الذي كان يوجّه إلى عرب الجاهلية في مورد «الظهار» أنّهم عند ما كانوا يخاطبون أزواجهم بخطاب الامّ فمن المسلّم أنّ مرادهم ليس الامّ المعنوية ، بل المقصود أنّهنّ كالامّ الجسمية ، ولذلك كانوا يعدّونه نوعا من الطلاق ، ونعلم أنّ الامّ الجسمية لا تتحقّق بمجرّد الألفاظ ، بل إنّ شرط ذلك الولادة الجسمية ، وبناء على هذا فإنّ كلامهم كان منكرا وزورا.

__________________

(١) روح المعاني ، ذيل الآيات مورد البحث.

١٧٠

أمّا في مورد أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبالرغم من أنّهنّ لسن امّهات جسميا ، إلّا أنّهنّ امّهات روحيات اكتسابا من مقام واحترام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولهنّ وجوب الاحترام كأمّهات. وإذا رأينا القرآن قد حرّم الزواج من أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيات القادمة ، فإنّ ذلك شأن آخر من شؤون احترامهنّ واحترام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيأتي توضيح ذلك بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى.

وهناك نوع ثالث من الامّهات في الإسلام وهي الامّ المرضعة ، والتي أشير إليها في الآية (٢٣) من سورة النساء :( وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) إلّا أنّها في الحقيقة فرع من فروع الامّ الجسمية.

٣ ـ الحكم الثالث : مسألة أولوية أولي الأرحام في الإرث بالنسبة إلى الآخرين ، لأنّ قانون الإرث في بداية الإسلام ـ حيث قطع المسلمون علاقتهم بأقوامهم وأقاربهم على أثر الهجرة ـ نظّم على أساس الهجرة والمؤاخاة ، أي أنّ المهاجرين كانوا يرثون بعضهم من بعض أو مع الأنصار الذين تآخوا معهم ولكن لم تكن هناك ضرورة للاستمرار عليه بعد توسّع الإسلام وإعادة كثير من العلاقات القومية والرحمية السابقة نتيجة إسلام أقوامهم ـ (وينبغي الالتفات إلى أنّ سورة الأحزاب قد نزلت في السنة الخامسة للهجرة ، وهي سنة «حرب الأحزاب») لذلك ثبّتت أولوية أولي الأرحام بالنسبة إلى الآخرين.

وهناك قرائن على أنّ المراد من الأولوية هنا هي الأولوية الإلزامية لا الاستحبابية ، لأنّ إجماع علماء الإسلام على هذا المعنى ، إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المصادر الإسلامية ، والتي تثبت هذا الموضوع.

ويجب هنا الالتفات إلى هذه المسألة بدقّة ، وهي : أنّ هذه الآية بصدد بيان أولوية اولي الأرحام في مقابل الأجانب ، لا بيان أولوية طبقات الإرث الثلاث بالنسبة إلى بعضها البعض ، وبتعبير آخر ، فإنّ المفضّل عليهم هنا هم المؤمنون والمهاجرون الذين ورد ذكرهم في متن القرآن :( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) .

١٧١

بناء على هذا فإنّ مفهوم الآية يصبح : إنّ أولي الأرحام أولى من الأجانب من ناحية الإرث ، أمّا كيف يرث هؤلاء الأرحام؟ وعلى أي أساس ومعيار؟ فإنّ القرآن سكت عن ذلك في هذا الموضع ، مع أنّه بحث الموضوع مفصّلا في آيات سورة النساء(١) .

٤ ـ الحكم الرّابع الذي ورد في الآية أعلاه كاستثناء ، هو استفادة وانتفاع الأصدقاء والأفراد المعينين الذين يخصّهم الأمر من الأموال التي يتركها الإنسان كذكرى ، والذي بيّن بجملة :( إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) ومصداقه الواضح هو حكم الوصيّة ، حيث يستطيع الإنسان أن يتصرّف في ثلث أمواله ويضعه حيث يشاء ، أو يوصي به لمن يشاء.

وبهذا فإنّ الإسلام عند ما وضع أساس الإرث على دعامة القرابة والرحم بدل الروابط والعلاقات السابقة ، لم يقطع وشائج الصلة بين الإنسان ورفقائه الذين يعزّهم وباقي إخوته المسلمين تماما ، فالإنسان حرّ في التصرّف في ماله من ناحية الكميّة والكيفيّة ، إلّا أنّ هذه الحرية مشروطة بأن لا تزيد على الثلث ، ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا لم يوص بشيء فإنّ كلّ أمواله تقسّم بين أقاربه وذوي رحمه طبقا لقانون الإرث ، ولا يترك له ثلث في هذه الحالة(٢) .

* * *

__________________

(١) بناء على هذا ، فإنّ استدلال بعض الفقهاء بهذا التعبير على أولوية طبقات الإرث بالنسبة إلى بعضها البعض لا يبدو صحيحا ، وربّما سبّب حرف الباء في (أولى ببعض) مثل هذا الاشتباه ، فظنّوا أنّ المفضّل عليهم هنا هم البعض ، في حين أنّ القرآن الكريم ذكر صريحا أنّ المفضّل عليهم هم من المؤمنين والمهاجرين. نعم إنّ تعبير (أولو الأرحام) لا يستطيع أن يشعر بمفرده أنّ المعيار هو الرحم والقرابة ، وأنّ درجة القرابة كلّما قويت وارتفعت فستكون أحقّ بالتقدّم ـ لاحظوا ذلك ـ.

(٢) يعتقد جمع من المفسّرين أنّ الاستثناء في جملة (إلّا أن تفعلوا ..) استثناء منقطع ، لأنّ حكم الوصيّة غير حكم الإرث ، ولكنّا نعتقد أن لا مانع من أن يكون الاستثناء هنا متّصلا ، لأنّ جملة (وأولو الأرحام ...) دليل على أن الأقارب أولى من الأجانب بالنسبة إلى الأموال التي يتركها الميّت ، إلّا أن يكون قد أوصى ، فإنّ الموصى له يكون حينئذ أولى من الأرحام في إطار الثلث ، وهذا في الحقيقة شبيه بالاستثناءات التي وردت في آيات الإرث بصيغة (من بعد وصيّة ...).

١٧٢

ملاحظة

وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير الآية أعلاه فيما يتعلّق بأولي الأرحام ، حيث فسّرت هذه الآية في بعض منها بمسألة «إرث الأموال» ، كما هو المعروف بين المفسّرين ، في حين فسّرت في البعض الآخر بمسألة «إرث الخلافة والحكومة» في آل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

ومن جملتها ما نقرؤه في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حينما سئل عن تفسير هذه الآية ، أنّه قال : «نزلت في ولد الحسينعليه‌السلام » قيل : في المواريث؟ قال : «لا ، نزلت في الإمرة»(١) .

من البديهي أنّه ليس المراد من هذه الأحاديث نفي مسألة إرث الأموال ، بل المراد لفت الانتباه إلى أنّ للإرث معنى واسعا يشمل إرث الأموال وإرث الولاية والخلافة.

وليس لهذا التوارث أي وجه شبه مع مسألة توارث السلطنة في سلسلة الملوك والسلاطين ، فإنّ التوارث هنا نتيجة للأهلية واللياقة ، ولذلك فإنّه يشمل من بين أولاد الأئمّة من كانت له هذه الأهلية ، ويشبه تماما ما يريده إبراهيمعليه‌السلام من الله سبحانه لذريّته ، فيقول الله له : إنّ الإمامة والولاية لا تنال الظالمين ، بل هي خاصّة بالطاهرين( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) .

ويشبه أيضا ما نقوله في الزيارات أمام قبور الشهداء في سبيل الله ، ومن جملتها ما نقوله أمام قبر الإمام الحسينعليه‌السلام : السّلام عليك يا وارث آدم ، ووارث نوح ، ووارث إبراهيم ، ووارث موسى وعيسى ومحمّد فإنّ هذا الإرث في الجوانب العقائدية والأخلاقية والمعنوية والروحية.

* * *

__________________

(١) أخرج هذه الأحاديث العلّامة السيّد هاشم البحراني في تفسير البرهان ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، ومن جملتها الحديث أعلاه ، والحديث (١٦) من سلسلة الأحاديث هذه.

١٧٣

الآيتان

( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) )

التّفسير

ميثاق الله الغليظ :

لمّا كانت الآيات السابقة قد بيّنت الصلاحيات الواسعة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت عنوان (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فإنّ هذه الآيات تبيّن واجبات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر الأنبياء العظام الثقيلة العظيمة ، لأنّا نعلم أنّ الصلاحيات تقترن دائما بالمسؤوليات ، وحيثما وجد «حقّ» كان إلى جانبه «تكليف» ومسئولية ، فإنّ هذين الأمرين لا يفترقان أبدا. بناء على هذا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إن كان له حقّ وصلاحية واسعة ، فإنّ عليه في المقابل مسئوليات ضخمة.

تقول الآية الأولى :( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) وعلى هذا فإنّها تذكر أوّلا جميع الأنبياء في مسألة الميثاق ، ثمّ تخصّ بالذكر منهم خمسة أنبياء هم أولو

١٧٤

العزم ، وعلى رأسهم نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله لعظمته وجلالته وشرفه ، وبعده الأنبياء الأربعة من أولي العزم حسب ترتيب ظهورهم ، وهم : «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى»عليهم‌السلام .

وهذا يوحي بأنّ الميثاق المذكور كان ميثاقا عامّا أخذ من جميع الأنبياء ، وإن كان أولو العزم متعهّدين بذلك الميثاق ومسئولين عنه بصورة أشدّ. ذلك الميثاق الذي بيّن بتأكيد شديد جدّا بجملة :( وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) (١) .

المهمّ أن نعلم أيّ ميثاق هذا الذي أخذ من كلّ الأنبياء؟! للمفسّرين هنا أقوال مختلفة يمكن القول أنّها جميعا فروع مختلفة لأصل واحد ، وهو تأدية مسئولية التبليغ والرسالة والقيادة وهداية الناس في كلّ الأبعاد والمجالات.

إنّ الأنبياء كانوا مكلّفين جميعا بدعوة كلّ البشر إلى التوحيد قبل كلّ شيء ، وكانوا مكلّفين أيضا بأن يؤيّد بعضهم بعضا ، كما أنّ الأنبياء اللاحقين يصدّقون ويؤكّدون صحّة دعوة الأنبياء السابقين. والخلاصة : أن تكون الدعوة إلى جهة واحدة ، وأن يبلغ الجميع حقيقة واحدة ، ويوحّدوا الأمم تحت راية واحدة.

ويمكن ملاحظة الشاهد على هذا الكلام في سائر آيات القرآن أيضا ، فنقرأ في الآية (٨١) من سورة آل عمران :( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .

وورد نظير هذا المعنى في الآية (١٨٧) من سورة آل عمران ، حيث تقول بصراحة :( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ) وعلى هذا فإنّ الله سبحانه قد أخذ الميثاق المؤكّد من الأنبياء بأن يدعوا الناس إلى توحيد الله ، وتوحيد دين الحقّ والأديان السماوية ، وكذلك أخذه من علماء أهل

__________________

(١) الميثاق ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ هو العقد المؤكّد بيمين وعهد ، وبناء على هذا فإن ذكر (غليظا) في الآية تأكيد يضاف على هذا المعنى.

١٧٥

الكتاب بأن لا يقصّروا في تبيان الدين الإلهي بكلّ ما في وسعهم ، وأن لا يكتموا ذلك أبدا.

وتبين الآية التالية الهدف من بعثة الأنبياء والميثاق الغليظ الذي أخذ منهم ، فتقول :( لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً ) .

للمفسّرين تفسيرات كثيرة لكلمة «الصادقين» ، ومن هم المقصودون بها؟ وأيّ سؤال هذا السؤال؟ إلّا أنّ الذي يبدو منسجما مع آيات هذه السورة وآيات القرآن الاخرى ، هو : أنّ المراد منهم المؤمنون الذين صدّقوا ادّعاءهم بالعمل ، وأثبتوا صدقه بترجمته عمليّا ، وبتعبير آخر : فإنّهم خرجوا من ساحة الاختبار والامتحان الإلهي مرفوعي الرؤوس.

والشاهد لهذا القول :

أوّلا : إنّ «الصادقين» هنا وضعوا في مقابل الكافرين ، فيستفاد هذا المعنى بوضوح من قرينة المقابلة.

ثانيا : نقرأ في الآية (٢٣) من هذه السورة :( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) ثمّ تقول الآية (٢٤) مباشرة :( لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) .

ثالثا : عرّفت الآية (١٥) من سورة الحجرات ، والآية (٨) من سورة الحشر (الصادقين) جيّدا ، ففي آية الحجرات نقرأ :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) .

وتقول آية الحشر :( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) .

وبهذا يتّضح أنّ المراد من الصادقين : هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في ميادين حماية دين الله والجهاد والثبات والصمود أمام المشاكل وبذل الأرواح

١٧٦

والأموال(١) .

أمّا ما هو المراد من سؤال الصادقين عن صدقهم؟ فيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفا أنّ المراد هو : هل يثبتون إخلاص نيّتهم في أعمالهم ويصدقون في ادّعائهم في الإنفاق والجهاد والثبات أمام الصعاب والمشاكل ، وخاصّة صعوبات ميدان الحرب ، أم لا؟

وأين سأل هذا السؤال؟ ظاهر الآية أنّه في القيامة ، في محكمة العدل الإلهيّة ، وآيات القرآن العديدة أيضا تخبر عن وقوع مثل هذا السؤال في القيامة بصورة عامّة.

إلّا أنّه يحتمل أيضا أن يكون لهذا السؤال جانب عملي ويقع في الدنيا ، حيث يخضع كلّ من يدّعي الإيمان للسؤال عن بعثة الأنبياء ، وعمله هو الجواب على هذا السؤال ، لأنّه سيقرّر فيما إذا كان صادقا في ادّعائه.

* * *

__________________

(١) احتمل جمع من المفسّرين احتمالا آخر في معنى هذه الآية ، وهو أنّ المراد من «الصادقين» هنا هم الأنبياء ، حيث يسألون يوم القيامة عن مدى قيامهم ووفائهم بعهدهم وميثاقهم؟ إلّا أنّ الشواهد الثلاثة التي ذكرناها أعلاه تنفي هذا التّفسير. واحتمل أيضا أن يكون المراد أعمّ من الأنبياء والمؤمنين ، إلّا أنّ التّفسير الذي ذكر أعلاه أكثر انسجاما مع آيات هذه السورة وسائر آيات القرآن.

١٧٧

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) )

التّفسير

الامتحان الإلهي العظيم في مواجهة الأحزاب :

تتحدّث هذه الآيات والآيات الاخرى التالية ، والتي تشكّل بمجموعها سبع عشرة آية ، عن أعسر الامتحانات والاختبارات الإلهية للمؤمنين والمنافقين ، واختبار مدى صدقهم في العمل ، الذي بحث في الآيات السابقة.

إنّ هذه الآيات تبحث أحد أهمّ حوادث تاريخ الإسلام ، أي عن «معركة الأحزاب» ، تلك المعركة التي كانت في الواقع نقطة انعطاف في تاريخ الإسلام ، وقلبت موازين القوى بين الإسلام والكفر لصالح المسلمين ، وكان ذلك النصر مفتاحا للانتصارات المستقبلية العظيمة ، فقد انقصم ظهر الأعداء في هذه الغزوة ،

١٧٨

ولم يقدروا بعد ذلك على القيام بأيّ عمل مهمّ.

إنّ حرب الأحزاب ـ وكما يدلّ عليها اسمها ـ كانت مجابهة شاملة من قبل عامّة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وانتشار هذا الدين.

لقد اشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود «بني النظير» الذين جاؤوا إلى مكّة وأغروا «قريش» بحرب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووعدوهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتّى النفس الأخير ، ثمّ أتوا قبيلة «غطفان» وهيّئوهم لهذا الأمر أيضا.

ثمّ دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة «بني أسد» و «بني سليم» ، ولمّا كان الجميع قد أحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد ، ويقتلوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقضوا على المسلمين ، ويغيروا على المدينة ويطفئوا مشعل الإسلام ونوره.

أمّا المسلمون الذين رأوا أنفسهم أمام هذا الجحفل الجرّار ، فإنّهم اجتمعوا للتشاور بأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقبل كلّ شيء أخذوا برأي «سلمان الفارسي» وحفروا حول المدينة خندقا حتّى لا يستطيع العدو عبوره بسهولة ويهجم على المدينة ، ولهذا كان أحد أسماء هذه المعركة «معركة الخندق».

لقد مرّت لحظات صعبة وخطرة جدّا على المسلمين ، وكانت القلوب قد بلغت الحناجر ، وكان المنافقون من جهة أخرى قد شمّروا عن السواعد وجدّوا في تآمرهم على الإسلام ، وكذلك ضخامة عدد الأعداء وقلّة عدد المسلمين ـ (ذكروا أنّ عدد الكفّار كان عشرة آلاف ، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف) واستعداد الكفّار من ناحية المعدّات الحربية وتهيئة كافّة المستلزمات ، كلّ ذلك قد رسم صورة كالحة للمصير المجهول في أعين المسلمين.

إلّا أنّ الله سبحانه أراد أن ينزل هنا آخر ضربة بالكفر ، ويميّز صفّ المنافقين عن صفوف المسلمين ، ويفضح المتآمرين ، ويضع المسلمين الحقيقيين في موضع

١٧٩

الاختبار العسير.

وأخيرا انتهت هذه الغزوة بانتصار المسلمين ـ كما سيأتي تفصيل ذلك ـ فقد هبّت بأمر الله عاصفة هو جاء اقتلعت خيام الكفّار وأتلفت وسائلهم ، وألقت في قلوبهم الرعب الشديد ، وأرسل سبحانه قوى الملائكة الغيبية لعون المسلمين.

وقد أضيف إلى ذلك تجلّي قدرة وعظمة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أمام عمرو بن عبد ودّ ، فلاذ المشركون بالفرار من دون القدرة على القيام بأيّ عمل.

نزلت الآيات السبع عشرة من هذه السورة ، واستطاعت بتحليلاتها الدقيقة والفاضحة أن تستفيد من هذه الحادثة المهمّة من أجل انتصار الإسلام النهائي وقمع المنافقين بأفضل وجه.

كان هذا عرضا لمعركة الأحزاب التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة(١) ، ومن هنا نتوجّه إلى تفسير الآيات ونؤجّل سائر جزئيات هذه الغزوة إلى بحث الملاحظات.

يلخّص القرآن الكريم هذه الحادثة في آية واحدة أوّلا ، ثمّ يتناول تبيان خصوصياتها في الستّ عشرة آية الاخرى ، فيقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ) (كثيرة جدا)( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) ويعلم أعمال كلّ جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير.

وهنا جملة مطالب تستحقّ الدقّة :

١ ـ إنّ تعبير (اذكروا) يوحي بأنّ هذه الآيات نزلت بعد انتهاء الحرب ومضي فترة من الزمن أتاحت للمسلمين أن يحلّلوا في عقولهم وأفكارهم ما كانوا قد رأوه ليكون التأثير أعمق.

__________________

(١) ما ذكرناه أعلاه كان اختصارا لبحث مفصّل أورده المؤرخّون ، ومن جملتهم ابن الأثير في الكامل.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510