الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148615
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148615 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

جملة : (جعلنا) يرجّح في رأينا أنّ المراد هم الأنبياء الذين نصبوا بأمر الله في هذا المنصب.

ولمّا كانوا بنوا إسرائيل ـ كسائر الأمم ـ قد اختلفوا بعد هؤلاء الأئمّة الحقيقيين ، وسلكوا مسالك مختلفة ، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تقول بلحن التهديد :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

أجل إنّ مصدر ومنبع الاختلاف دائما هو مزج الحقّ بالأهواء والميول ، ولمّا كانت القيامة يوما لا معنى فيه للأهواء والميول ، حيث تمحى ويتجلّى الحقّ بأجلى صوره ، فهناك ينهي الله سبحانه الاختلافات بأمره ، وهذه أيضا إحدى فلسفات المعاد. تأمّلوا ذلك.

* * *

ملاحظة

صمود واستقامة القادة الإلهيين

قلنا : إنّه قد ذكر في الآيات مورد البحث شرطان للأئمّة : الأوّل : الصبر والثبات ، والآخر : الإيمان واليقين بآيات الله.

ولهذا الصبر والثبات فروعا وأشكالا كثيرة :

فيكون أحيانا أمام المصائب التي تحلّ بالإنسان.

واخرى مقابل الأذى الذي يحيق بأصحابه ومؤيّديه.

وثالثة في مقابل التعديات والألسن البذيئة التي تنال مقدّساته.

واخرى في مقابل المنحرفين فكريا.

واخرى أمام الجاهلين الحمقى.

واخرى أمام العلماء الخبثاء.

والخلاصة : فإنّ القائد الواعي الرشيد يجب أن يصمد أمام كلّ هذه المشاكل

١٤١

وغيرها ، ولا ينسحب من ميدان الصراع والحوادث ، ولا يجزع وييأس ، ولا يفقد زمام الأمور من يده ، ولا يضطرب ولا يندم حتّى يحقّق هدفه الكبير.

وقد روي في هذا الباب حديث جامع ورائع عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال لأحد أصحابه : إنّ من صبر صبر قليلا (وبعده الظفر) وإنّ من جزع جزع قليلا (ومن بعده الخسران).

ثمّ قال : عليك بالصبر في جميع أمورك ، فإنّ اللهعزوجل بعث محمّدا فأمره بالصبر والرفق ، فقال :( وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) وقال :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

فصبر رسول الله حتّى نالوه بالعظائم ورموه بها ـ فسمّوه ساحرا ومجنونا وشاعرا ، وكذّبوه في دعوته ـ فضاق صدره ، فأنزل اللهعزوجل عليه :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) ـ أي إنّ هذه العبادة تمنحك الاطمئنان والهدوء ـ.

ثمّ كذّبوه ورموه فحزن لذلك ، فأنزل اللهعزوجل :( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ) .

فألزم النّبي نفسه الصبر ، فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه ، فقال : قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي ، فأنزل اللهعزوجل :( وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) ، فصبر النّبي في جميع أحواله.

ثمّ بشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصبر ، فعند ذلك قال : الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، فشكر اللهعزوجل ذلك له ، فأباح له قتال المشركين ، فقتلهم الله على يدي رسول الله وأحبّائه ، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في

١٤٢

الآخرة».

ثمّ أضاف الإمام الصادقعليه‌السلام : «فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتّى يقرّ الله له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة»(١) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، الجزء ٢ ، صفحة ٧٢ باب الصبر باختصار قليل.

١٤٣

الآيات

( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠) )

التّفسير

يوم انتصارنا :

كانت الآيات السابقة ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفّار ، وتقول الآية الاولى من الآيات مورد البحث إكمالا لهذا التهديد :( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ ) (١) فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار أولئك الأقوام

__________________

(١) فاعل (لم يهد) يفهم من جملة( كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ ) والتقدير : أو لم يهد لهم كثرة من أهلكنا.

١٤٤

الذين هلكوا من قبلهم( يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ) (١) .

نقع مساكن «عاد» و «ثمود» المدمّرة ، ومدن «قوم لوط» الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام ، وكانت هذه المساكن مقرّا ومركزا للأقوام الأقوياء المنحرفين ، وطالما حذّرهم الأنبياء فلم يؤثّر فيهم ذلك ، وأخيرا طوى العذاب الإلهي ملفّ حياتهم ، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لكلّ بيوت هؤلاء وقصورهم المتهدّمة مائة لسان ، تصيح بهؤلاء أن يتنبّهوا ، وتبيّن لهم وتحدّثهم بنتيجة الكفر والانحطاط ، لكنّهم لم يعبئوا بها ويلتفتوا إليها ، وكأنّهم فقدوا أسماعهم تماما ، ولذلك تضيف الآية في النهاية :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ) .

وتشير الآية التالية إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس عمران كلّ البلدان ، ووسيلة حياة كلّ الكائنات الحيّة ، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين ، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة ، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب ، فتقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ) .

«الجرز» تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ ، وهي في الأصل من مادّة (جرز) على وزن (مرض) بمعنى «القطع» ، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض ، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات.

والطريف هنا أنّه قد عبّر بـ : (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب ـ بحكم ثقله ـ أن يكون على الأرض وفي المنخفضات ، وبحكم كونه مائعا يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض ، إلّا أنّه عند ما يصله أمرنا يفقد طبيعته ، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم.

__________________

(١) ذكر أغلب المفسّرين في تفسير الآية ما ذكرناه أعلاه ، إلّا أنّ البعض احتمل أن تكون جملة( يَمْشُونَ ) بيانا لحال المهلكين ، أي أنّ أولئك الأقوام كانوا في غفلة تامّة عن العذاب الإلهي ، وكانوا يسيرون في مساكنهم ويتنّعمون بها ، إذ أتاهم عذاب الله بغتة وأهلكهم. إلّا أنّ هذا الاحتمال يبدو بعيدا.

١٤٥

نعم ، إنّ هذه السحب السابحة في السماء بحار كبيرة من المياه العذبة ترسل إلى الأراضي اليابسة بأمر الله ومعونة الرياح.

والواقع أنّه لو لا المطر فإنّ كثيرا من الأراضي لا ترى حتّى القطرة الواحدة من الماء ، وإذا افترضنا أنّ هناك أنهارا غزيرة المياه فإنّ تلك المياه لا تصل إلى أغلب الأراضي ، إلّا أنّنا نرى أنّه ببركة هذه الرحمة الإلهيّة قد نبتت ونمت الأعشاب والغابات والأشجار الكثيرة جدّا على قمم كثير من الجبال والوديان الوعرة والتلال المرتفعة ، وهذه القدرة العجيبة للمطر على الري لا يستطيع القيام بها شيء آخر.

«زرعا» له هنا معنى واسعا يشمل كلّ أنواع العشب والشجر ، وإن كان يستعمل أحيانا في مقابل الشجر.

ويمكن أن يكون تقديم الدوابّ والأنعام على البشر في هذه الآية لأنّ تغذية الحيوانات تعتمد على النبات ، في حين أنّ البشر يتغذّى على النبات وعلى لحوم الحيوانات.

أو من جهة أنّ النبات بمجرّد نموّه يصبح غذاء للحيوانات ، وتستطيع الاستفادة منه وهضمه ، في حين أنّ استفادة الإنسان من النباتات ، تتأخّر حتّى تحمل الشجرة وتنضج الثمرة.

والطريف هنا أنّ جملة :( أَفَلا يُبْصِرُونَ ) قد وردت في نهاية الآية مورد البحث ، في حين أنّ الآية السابقة التي كانت تتحدّث عن أطلال قصور الأقوام الغابرة قد ختمت بجملة :( أَفَلا يَسْمَعُونَ ) .

وعلّة هذا الاختلاف هو أنّ الجميع يرون بأمّ أعينهم منظر الأراضي الميّتة وهي تحيا على أثر نزول الأمطار ونموّ نباتها وينع ثمرها ، في حين أنّهم يسمعون المسائل المرتبطة بالأقوام السابقين كإخبار غالبا.

ويستفاد من مجموع الآيتين أعلاه أنّ الله تعالى يقول لهؤلاء العصاة

١٤٦

المتمرّدين : انتبهوا جيّدا ، وافتحوا عيونكم وأسماعكم ، فاسمعوا الحقائق ، وانظروا إليها ، وتفكّروا كيف أمرنا الرياح يوما أن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثارا ، وفي يوم آخر نأمر ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة البور لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة ، ألا تستسلمون وتذعنون لهذه القدرة؟!

ولمّا كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالانتقام ، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر ، فإنّ الكفّار يطرحون هذا السؤال غرورا واستكبارا وتعلّلا بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقّق؟ كما يذكر القرآن ذلك :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

فيجيبهم القرآن مباشرة ، ويأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) أي : إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النّبي لتؤمنوا ، فإنّ الوقت قد فاتكم ، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئا.

وممّا قلنا يتّضح أنّ المراد من «يوم الفتح» يوم نزول «عذاب الاستئصال» ، أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين ، ولا يدع لهم فرصة الإيمان. وبتعبير آخر فإنّ عذاب الاستئصال نوع من العذاب الدنيوي ، لا من عذاب الآخرة ، ولا من العقوبات الدنيوية المعتادة ، بل هو العذاب الذي ينهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجّة.

والشاهد على هذا القول امور :

أ: إذا كان المراد العقوبات الدنيوية المعتادة ، أو الانتصارات الشبيهة بانتصار المسلمين في معركة بدر ويوم فتح مكّة ـ كما قال ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ جملة :( لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ ) لا تصحّ حينئذ ، لأنّ الإيمان كان مفيدا حينذاك ، وأبواب التوبة كانت مفتّحة يوم الإنتصار في بدر ، وفي يوم فتح مكّة.

١٤٧

ب : إذا كان المراد من يوم الفتح يوم القيامة ـ كما ارتضى ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ ذلك لا يناسب جملة :( وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) لأنّ إعطاء الفرصة وعدمه يرتبط بالحياة الدنيا ، إضافة إلى أنّ «يوم الفتح» لم يستعمل بمعنى يوم القيامة في أيّ موضع من القرآن الكريم.

ج : إنّ التعبير بالفتح في مورد عذاب الاستئصال يلاحظ مرارا في القرآن ، مثل الآية (١١٨) من سورة الشعراء ، حيث يقول نوح :( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) وهو إشارة إلى عقوبة الطوفان.

وورد نظير هذا المعنى في الآية (٧٧) من سورة المؤمنون أيضا.

إلّا أنّ المراد إذا كان عذاب الاستئصال في الدنيا فإنّه يتّفق مع ما قلناه أعلاه ، وينسجم مع كلّ القرائن ، وهو في الواقع تهديد للكافرين والظالمين بأن لا تطلبوا تحقّق الوعد بالفتح للمؤمنين ووقوع عذاب الاستئصال على الكافرين ، فإنّ طلبكم إذا تحقّق فسوف لا تجدون الفرصة للإيمان ، وإذا وجدتم الفرصة وآمنتم فإنّ إيمانكم سوف لا يقبل.

وهذا المعنى خاصّة يتلاءم كثيرا مع الآيات السابقة التي تحدّثت عن هلاك الأقوام المتمرّدين الطاغين الذين كانوا يعيشون في القرون الماضية ، وابتلوا بالعذاب الإلهي والفناء ، لأنّ كفّار مكّة إذا سمعوا الكلام الذي ورد في الآيتين السابقتين فإنّهم سيطلبون تحقّق مثل هذا الموضوع في حقّهم ، إلّا أنّ القرآن الكريم يحذّرهم بأن لا يطلبوا مثل هذا الطلب ، فإنّ العذاب إذا نزل لا يبقى لهم شيء.

وأخيرا تنهي الآية الأخيرة هذه السورة ـ سورة السجدة ـ بتهديد بليغ عميق المعنى ، فتقول :( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ) .

الآن ، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار ، ولا هم أهل منطق واستدلال ليعرفوا الله سبحانه بمشاهدة الآثار الإلهيّة في خفايا الخلقة فيعبدوه ،

١٤٨

وليس لهم وجدان حيّ يترنّم في أعماقهم بنغمة التوحيد فيسمعونها ، فأعرض عنهم ، وانتظر رحمة الله سبحانه ، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقّون سواه.

اللهمّ اجعلنا ممّن يسلّم ويؤمن عند رؤية أوّل علامات الحقّ وآياته.

اللهمّ أبعد عنّا روح الكبر والغرور والعناد ونجّنا منها.

اللهمّ عجلّ بنصر جند الإسلام على جنود الكفر والاستكبار والاستعمار.

نهاية سورة السجدة

* * *

١٤٩
١٥٠

سورة

الأحزاب

مدنيّة

وعدد آياتها ثلاث وسبعون آية

١٥١
١٥٢

سورة الأحزاب

سبب التسمية وفضلها :

هذه السورة نزلت في المدينة باتّفاق علماء الإسلام ، ومجموع آياتها (٧٣) آية ، ولمّا كان جزء مهمّ من هذه السورة يتحدّث عن أحداث غزوة الأحزاب (الخندق) فإنّ هذا الاسم قد اختير لها.

ويكفي في فضل هذه السورة أن نقرأ في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله اعطي الأمان من عذاب القبر»(١) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه»(٢) .

وقد قلنا مرارا : إنّ هذه الفضائل لا تنال بالتلاوة الخالية من الروح ، والعارية من كلّ أنواع الفكر والعمل ، بل التلاوة التي تكون مبدأ للتفكّر الذي يضيء آفاق الإنسان يظهر آثاره في أعماله وسلوكه.

محتوى سورة الأحزاب :

إنّ هذه السورة من أغنى سور القرآن المجيد وأجناها ثمارا ، وتتابع وتبحث

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٣٤. بداية سورة الأحزاب.

(٢) المصدر السابق.

١٥٣

مسائل متنوّعة وكثيرة جدّا في باب اصول الإسلام وفروعه.

ويمكن تقسيم الأبحاث التي وردت في هذه السورة إلى سبعة أقسام :

الأوّل : بداية السورة التي تدعو الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى طاعة الله وترك اتّباع الكافرين ومقترحات المنافقين ، وتبشّره بأنّ الله سبحانه سيدعمه وينصره في مقابل استنكار هؤلاء.

الثّاني : أشار إلى بعض خرافات زمان الجاهلية ، كالظهار ، حيث كانوا يعتبرونه سببا للطلاق وافتراق الرجل عن امرأته ، وكذلك مسألة التبنّي ، وأكّدت على بطلانها ، وحصرت العلاقات والروابط العائلية والسببية بالروابط الواقعية والطبيعية.

الثّالث : وهو أهمّ أقسام هذه السورة ، ويرتبط بمعركة «الأحزاب» وحوادثها المرعبة ، وانتصار المسلمين المعجز على الكفّار ، وإعاقات وتخرّصات وتعذّر المنافقين ، ونقضهم لعهودهم ، وقد بيّنت في هذا المجال قوانين رائعة وجامعة.

الرّابع : يرتبط بزوجات النّبي ، حيث يجب أن يكنّ أسوة وأنموذجا أسمى لكلّ نساء المسلمين ، ويصدر لهنّ في هذا الباب أوامر مهمّة.

الخامس : يتطرّق إلى قصّة «زينب بنت جحش» التي كانت يوما زوجة لزيد ، وهو ابن النّبي بالتبنّي ، وافترقت عنه ، فتزوّجها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله سبحانه ، فأصبح هذا الزواج حربة بيد المنافقين ، فأجابهم القرآن الجواب الكافي الشافي.

السّادس : يتحدّث عن مسألة الحجاب ، والتي ترتبط بالبحوث السابقة ، ويوصي كلّ النساء المؤمنات بمراعاة هذا القانون الإسلامي.

السّابع : الذي يشكّل الجزء الأخير ، ويشير إلى مسألة المعاد المهمّة ، وطريق النجاة في ذلك الموقف العظيم ، وكذلك يشرح ويبيّن مسألة أمانة الإنسان العظمى ، أي مسألة التعهّد والتكليف والمسؤولية.

* * *

١٥٤

آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) )

سبب النّزول

لقد ذكر المفسّرون هنا أسباب نزول مختلفة ، تبحث كلّها تقريبا موضوعا واحدا.

ومن جملتها : إنّ هذه الآيات نزلت في شأن أبي سفيان وبعض آخر من رؤوس الكفر والشرك الذين أخذوا الأمان من الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد معركة أحد ودخلوا المدينة ، وأتوا مع عبد الله بن أبي وجماعة من أصحابه ، إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقالوا : يا محمّد ، لا تذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة بسوء وقل : إنّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك ، فشقّ ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عمر بن الخطّاب : ائذن لنا ـ يا رسول الله ـ في قتلهم ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي أعطيتهم الأمان» وأمر فأخرجوا من المدينة ونزلت الآية :( وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ) وأمرته أن لا يصغي لمثل هذه

١٥٥

الاقتراحات(١) .

التّفسير

اتّبع الوحي الإلهي فقط :

إنّ من أخطر المنعطفات والمنحدرات التي تعترض طريق القادة الكبار قضيّة اقتراحات الصلح والتنازل والوفاق التي تطرح من قبل المخالفين ، وتضع الخطوط الملتوية والطرق المنحرفة إلى جانب طريق القادة ، وتسعى لحرفهم عن مسيرهم الأصلي ، وهذا إمتحان صعب وعسير لهؤلاء.

لقد بذل مشركو «مكّة» ومنافقو «المدينة» كلّ ما في وسعهم ليحرّفوا الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عن خطّ التوحيد من خلال طرح مقترحات السلام والاتّفاق ، ومن جملتها ما قرأناه في سبب النّزول ، إلّا أنّ أولى آيات سورة الأحزاب نزلت فأنهت مؤامراتهم ، ودعت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الاستمرار في أسلوبه الحاسم في خطّ «التوحيد» بدون أدنى تراجع وتنازل ومسالمة.

إنّ هذه الآيات بمجموعها تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأربعة أوامر مهمّة :

الأوّل : في مجال التقوى ، والتي تهيّء الأرضية لكلّ برنامج آخر ، فتقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ) .

إنّ حقيقة التقوى هي ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية ، ولو لا هذا الإحساس فإنّ الإنسان لا يندفع ولا يتحرّك باتّجاه أي برنامج بنّاء.

التقوى هي الهدف الأسمى للهداية والانتفاع بآيات الله ، كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة :( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

صحيح أنّ المرحلة النهائية للتقوى تحصل بعد الإيمان والعمل طبق أوامر الله

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث ، وتفاسير اخرى.

١٥٦

سبحانه ، إلّا أنّ مرحلتها الابتدائية تقع قبل كلّ هذه المسائل ، لأنّ الإنسان إذا لم يحسّ بالمسؤولية داخليا ، فإنّه لا يسعى للتحقّق من دعوة الأنبياء والتثبّت منها ، ولا يصغي إليها ، وحتّى مسألة (دفع الضرر المحتمل) التي عدّها علماء الكلام والعقائد أساس ودعامة السعي إلى معرفة الله ، فإنّها في الحقيقة فرع التقوى.

الثّاني : نفي ورفض طاعة الكافرين :( وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ) وتقول الآية في النهاية تأكيدا لهذا الموضوع :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) فإنّه تعالى حينما يأمرك بعدم إتّباع هؤلاء ، فإنّ ذلك صادر عن حكمته اللامتناهية ، لأنّه يعلم ما اخفي في هذا الإتّباع والمهادنة من المصائب ، الأليمة ، والمفاسد الجمّة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ أوّل وظيفة بعد التقوى والإحساس بالمسؤولية ، هي غسل القلب وتصفيته من الغير ، واقتلاع الأشواك الضارّة المؤذية من هذه الأرض المعنوية.

الثّالث : نثر بذور التوحيد واتّباع الوحي الإلهي ، فيقول :( وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) واحذر فـ( إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) وبناء على هذا فإنّ الواجب الأوّل هو طرد الشياطين من أعماق الروح لتحلّ محلّها الملائكة ، وأن تقلع الأشواك لتبذر محلّها الورود ، ويجب أن تطهّر الأرض من الطواغيت لتخلّفهم حكومة الله ونظامه المقدّس.

ولمّا كانت هناك مشاكل كثيرة ، وتهديدات ومؤامرات ، ومعوّقات في الاستمرار في سلوك هذا الطريق ، فإنّه تعالى يصدر الأمر الرابع بأن( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) فلو أنّ الف عدوّ يسعى لقتلك ، فلا تخش ولا تخف منهم لأنّي ناصرك ومعينك.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّه خطاب لكلّ المؤمنين ، ولعامّة المسلمين ، وهو وصفة طبية تمنح الحياة ، ودواء لبث النشاط والحيوية في كلّ عصر وزمان.

١٥٧

وقال بعض المفسّرين : إنّ الخطاب بـ( يا أَيُّهَا ) خاصّ بالموارد التي يراد منها جلب انتباه العموم لمطلب ما ، وإن كان المخاطب واحدا ، بخلاف الخطاب بـ (يا) والذي يستعمل في الموارد التي يراد منها شخص المخاطب(١) . ولمّا كانت هذه الآيات قد بدأت بـ( يا أَيُّهَا ) فإنّها تؤكّد كون الهدف من هذه الآيات هو العموم.

والشاهد الآخر للتعميم ، هو أنّ جملة :( إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) قد وردت بصيغة الجمع ، وإذا كان المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فينبغي أن تقول الآية : إنّ الله كان بما تعمل خبيرا ـ.

ولا يخفى أنّ هذه الأوامر الموجّهة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تعني أنّه كان مقصّرا في التقوى أو أنّه يتّبع الكافرين والمنافقين ، بل إنّ لهذه الأوامر صفة التأكيد على واجبات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، وهي درس وعبرة لكلّ المؤمنين من جهة اخرى.

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد ١٥ ، صفحة ١٩٠ ذيل الآيات مورد البحث.

١٥٨

الآيات

( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) )

١٥٩

التّفسير

ادّعاءات جوفاء :

تعقيبا للآيات السابقة التي كانت تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتّبع الوحي الإلهي فقط ، ولا يتّبع الكافرين والمنافقين ، تعكس هذه الآيات التي نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه يدعو الإنسان إلى مجموعة من الخرافات والأباطيل ، وقد ذكرت الآية الاولى من الآيات مورد البحث ثلاث منها ، فتقول أوّلا :( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) .

وقد ذكر جمع من المفسّرين في سبب نزول هذا القسم من الآية : أنّ رجلا في الجاهلية يدعى «جميل بن معمّر» كان عجيب الحفظ ، وكان يدّعي أنّ في جوفه قلبين كلّ منهما أفهم من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذلك كان مشركو قريش يسمّونه : ذا القلبين!

فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون ، وفيهم جميل بن معمّر ، تلقّاه أبو سفيان وهو آخذ بيده إحدى نعليه ، والاخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمّر ، ما حال الناس؟

قال : انهزموا ، قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك ، والاخرى في رجلك؟ فقال أبو معمّر : ما شعرت بذلك ، وكنت أظنّهما في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنّه لم يكن له إلّا قلب واحد لما نسي نعله في يده(١) . بل لم يكن يعقل ويفهم حتّى بمقدار ذي القلب الواحد.

والمراد من «القلب» في مثل هذه الموارد «العقل».

وعلى كلّ حال فإنّ اتّباع الكفّار والمنافقين ، وعدم اتّباع الوحي الإلهي يدعو الإنسان إلى مثل هذه الإعتقادات الخرافية.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ للجملة معنى أعمق ، وهو : أنّه ليس للإنسان إلّا قلب واحد ، ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلّا عشق معبود واحد ، وعلى هذا فإنّ

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث ، وتفسير القرطبي.

١٦٠