الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148620
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148620 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

٢ ـ إنّ التعبير بـ «الجنود» إشارة إلى مختلف الأحزاب الجاهلية كقريش وغطفان وبني سليم وبني أسد وبني فزارة وبني أشجع وبني مرّة ، وكذلك إلى طائفة اليهود في داخل المدينة.

٣ ـ إنّ المراد من( جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) والتي نزلت لنصرة المسلمين ، هو «الملائكة» التي ورد نصرها للمؤمنين في غزوة بدر في القرآن المجيد بصراحة ، ولكن كما بيّنا في ذيل الآية (٩) من سورة الأنفال ، فإنّا لا نمتلك الدليل على أنّ هذه الجنود الإلهية اللامرئية نزلت إلى الميدان وحاربت ، بل إنّ القرائن الموجودة تبيّن أنّ الملائكة نزلت لرفع معنويات المؤمنين وشدّ عزيمتهم وإثارة حماسهم(١) .

وتقول الآية التالية تجسيدا للوضع المضطرب في تلك المعركة ، وقوّة الأعداء الحربية الرهيبة ، والقلق الشديد لكثير من المسلمين :( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) .

يعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة (فوق) في هذه الآية إشارة إلى الجانب الشرقي للمدينة ، وهو المكان الذي دخلت منه قبيلة غطفان ، و (أسفل) إشارة إلى غربها حيث دخلت منه قريش ومن معها.

إذا لا حظنا أنّ «مكّة» تقع في جنوب المدينة تماما ، فمن الطبيعي أنّ قبائل المشركين أتت من الجنوب ، لكن ربّما كان وضع الطريق ومدخل المدينة في حالة بحيث إنّ هؤلاء قد داروا قليلا حول المدينة ودخلوا من الغرب. وعلى كلّ حال فإنّ الجملة أعلاه إشارة إلى محاصرة هذه المدينة من قبل مختلف أعداء الإسلام.

إنّ جملة( زاغَتِ الْأَبْصارُ ) ـ بملاحظة أن «زاغت» من مادّة الزيغ ، أي الميل إلى جانب واحد ـ إشارة إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان عند الخوف والاضطراب ، حيث تميل عيناه إلى جهة واحدة ، وتتسمّر وتثبت على نقطة معيّنة ،

__________________

(١) لمزيد الإيضاح في هذا الباب راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (٩) من سورة الأنفال.

١٨١

ويبقى متحيّرا حينذاك.

وجملة( بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ) كناية جميلة عن حالة القلق والاضطراب ، وإلّا فإنّ القلب المادّي لا يتحرّك من مكانه مطلقا ، ولا يصل في أي وقت إلى الحنجرة.

وجملة( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) إشارة إلى أنّ بعض المسلمين كانوا قد خطرت على أفكارهم ظنون خاطئة ، لأنّهم لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى مرحلة الكمال في الإيمان ، وهؤلاء هم الذين تقول عنهم الآية التالية : إنّهم زلزلوا زلزالا شديدا.

ربّما كان بعضهم يفكّر ويظنّ بأنّنا سننهزم في نهاية المطاف ، وينتصر جيش العدوّ بهذه القوّة والعظمة ، وقد حانت نهاية عمر الإسلام ، وأنّ وعود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصر سوف لا تتحقّق مطلقا.

من الطبيعي أنّ هذه الأفكار لم تكن عقيدة راسخة ، بل كانت وساوس حدثت في أعماق قلوب البعض ، وهذا شبيه بما ذكره القرآن في معركة أحد ، حيث يقول :( وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ) .(١)

ولا شكّ أنّ المخاطب في هذه الآية محل البحث هم المؤمنون ، وجملة( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) التي وردت في الآية السابقة دليل واضح على هذا المعنى ، وربّما لم يلتفت الذين اعتبروا المنافقين هم المخاطبون هنا إلى هذه المسألة ، أو لعلّهم ظنّوا أنّ مثل هذه الظنون لا تتناسب مع الإيمان والإسلام ، في حين أنّ ظهور مثل هذه الأفكار لا يتعدّى كونها وسوسة شيطانية ، خاصّة في تلك الظروف الصعبة المضطربة جدّا ، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لضعفاء الإيمان ، والحديثي العهد بالإسلام(٢) .

هنا كان الامتحان الإلهي قد بلغ أشدّه كما تقول الآية التالية :( هُنالِكَ ابْتُلِيَ

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٥٤.

(٢) فسر جمع من المفسرين (الظنون) هنا بالمعنى الأعم من الظن السيء والحسن ، إلا أن القرائن الموجودة في هذه الآية والآية التالية تبين أن المراد من الظنون هنا السيئة منها.

١٨٢

الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً ) .

من الطبيعي أنّ الإنسان إذا احيط بالعواصف الفكرية ، فإنّ جسمه لا يبقى بمعزل عن هذا الابتلاء ، بل ستظهر عليه آثار الاضطراب والتزلزل ، وكثيرا ما نرى أنّ الأشخاص المضطربين فكريا لا يستطيعون الاستقرار في مجلسهم وتنعكس وبشكل واضح اضطراباتهم الفكرية من خلال حركاتهم وصفقهم يدا بيد.

وأحد شواهد هذا القلق والاضطراب الشديد ما نقلوه من أنّ خمسة من أبطال العرب المعروفين ـ وكان على رأسهم «عمرو بن عبد ودّ» ـ نزلوا إلى الميدان بغطرسة متميّزة واعتداد بالنفس كبير ، فقالوا : هل من مبارز؟ سيّما عمرو بن عبد ودّ الذي كان يرتجز ويسخر من المسلمين ويستهزئ بالجنّة والآخرة ، وكان يقول : أيّها المسلمون ألم تزعموا أنّ قتلاكم في الجنّة؟ فهل فيكم من يشتاق إلى الجنّة؟ إلّا أنّ السكوت ساد على معسكر المسلمين أمام سخريته واستهزائه ودعوته للبراز ، ولم يجرأ أحد على مناجزته ، إلّا علي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي هبّ لمبارزته ، وحقّق نصرا كبيرا للمسلمين ، وسيأتي ذلك مفصّلا في البحوث.

نعم إنّ الحديد يزداد صلابة وجودة إذا عرض على النار ، والمسلمون الأوائل كان يجب أن يوضعوا في بوتقة الحوادث الصعبة المرّة ، وخاصّة في غزوات كغزوة الأحزاب ، ليصبحوا أشدّ مقاومة وصلابة.

* * *

١٨٣

الآيات

( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) )

التّفسير

المنافقون في عرصة الأحزاب :

فار تنّور إمتحان حرب الأحزاب ، وابتلي الجميع بهذا الامتحان الكبير العسير ،

١٨٤

ومن الواضح أنّ الناس الذين يقفون ظاهرا في صفّ واحد في الظروف العادية ، ينقسمون إلى صفوف مختلفة في مثل هذه الموارد المضطربة الصعبة ، وهنا أيضا انقسم المسلمون إلى فئات مختلفة : فمنهم المؤمنون الحقيقيون ، وفئة خواصّ المؤمنين ، وجماعة ضعاف الإيمان ، وفرقة المنافقين ، وجمع المنافقين العنودين المتعصّبين ، وبعضهم كان يفكّر في بيته وحياته والفرار ، وجماعة كانوا يسعون إلى صرف الآخرين عن الجهاد ، والبعض الآخر كان يسعى إلى تحكيم أواصر الودّ مع المنافقين.

والخلاصة : فإنّ كلّ واحد قد أظهر أسراره الباطنية وما ينطوي عليه في هذه القيامة العجيبة ، وفي يوم البروز هذا.

كان الكلام في الآيات السابقة عن جماعة المسلمين ضعفاء الإيمان ، والذين وقعوا تحت تأثير الوساوس الشيطانية والظنون السيّئة ، وتعكس اولى الآيات مورد البحث مقالة المنافقين ومرضى القلوب ، فتقول :( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) .

جاء في تأريخ حرب الأحزاب : أنّه خلال حفر الخندق ، وبينما كان المسلمون مشغولين بحفر من الخندق ، اصطدموا بقطعة حجر كبيرة صلدة لم يؤثّر فيها أي معول ، فأخبروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فأتى بنفسه إلى الخندق ووقف إلى جنب الصخرة ، وأخذ المعول ، فضرب الحجر أوّل ضربة قويّة فانصدع قسم منه وسطع منه برق ، فكبّر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكبّر المسلمون.

ثمّ ضرب الحجر ضربة أخرى فتهشّم قسم آخر وظهر منها برق ، فكبّر النّبي وكبّر المسلمون ، وأخيرا ضرب النّبي ضربته الثالثة ، فتحطّم الباقي من الحجر وسطع برق ، فكبّر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ورفع المسلمون أصواتهم بالتكبير ، فسأل سلمان النّبي عن ذلك فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله «أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاولى ، وأخبرني جبرئيل أنّ امّتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثّانية القصور الحمر من أرض الشام

١٨٥

والروم ، وأخبرني أنّ امّتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء ، وأخبرني أنّ أمّتي ظاهرة عليها ، فأبشروا» فاستبشر المسلمون.

فنظر المنافقون إلى بعضهم وقالوا : ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل ويخبركم أنّه ينظر من يثرب إلى الحيرة ومدائن كسرى وأنّها تفتح لكم ، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فأنزل الله :( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) (١) .

والحقّ أنّ مثل هذه الأخبار والبشارات اعتبرها المنافقون في ذلك اليوم خدعة وغرورا ، إلّا أنّ عين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الملكوتية كانت قادرة على رؤية فتح أبواب قصور ملوك ايران والروم واليمن من خلال الشرر المتطاير من ذلك الحجر ، ويبشّر هذه الامّة المضحّية التي حملت القلوب على الأكفّ ، ويزيح الستار عن أسرار المستقبل.

وربّما لا نحتاج إلى التذكير بأنّ المراد من( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) هم المنافقون ، وذكر هذه الجملة توضيح في الواقع لكلمة «المنافقين» التي وردت من قبل ، وأيّ مرض أسوأ وأضرّ من مرض النفاق؟! لأنّ الإنسان السليم الذي له فطرة إلهيّة سليمة ليس له إلّا وجه واحد ، أمّا أولئك الذين لهم وجهان أو وجوه متلوّنة عديدة فإنّهم مرضى ، حيث إنّهم مبتلون دائما بالاضطراب والتناقض في الأقوال والأفعال.

والشاهد لهذا الأمر ما ورد في بداية سورة البقرة في وصف المنافقين ، حيث تقول :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) .(٢)

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، الجزء ٢ ، صفحة ١٧٩. وورد هذا الحادث بتفاوت يسير في سيرة ابن هشام ، وهو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أمّا الاولى فإنّ الله فتح علي بها اليمن ، وأمّا الثّانية فإنّ الله فتح عليّ بها الشام والمغرب ، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق». وهذا الترتيب ينسجم مع التسلسل التاريخي لفتح هذه المناطق الثلاث.

(٢) البقرة ، الآية ١٠.

١٨٦

ثمّ تتطرّق الآية الاخرى إلى بيان حال طائفة اخرى من هؤلاء المنافقين مرضى القلوب ، والذين كانوا أخبث وأفسق من الباقين ، فمن جانب تقول الآية عنهم : واذكر إذ قالت مجموعة منهم للأنصار : يا أهل المدينة (يثرب) ليس لكم في هذا المكان موقع فلا تتوقّفوا هنا وارجعوا إلى بيوتكم :( وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ) .

وخلاصة الأمر أنّكم لا تقدرون على عمل أيّ شيء في مقابل جحفل الأعداء اللجب ، فانسحبوا من المعركة ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وبنسائكم وأطفالكم إلى ذلّ الأسر ، وبذلك كانوا يريدون أن يعزلوا الأنصار عن جيش الإسلام.

ومن جانب آخر :( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ) .

كلمة (عورة) مأخوذة من مادّة (عار) ، وتقال للشيء الذي يوجب ظهوره العار ، وتقال أيضا للشقوق والثقوب التي تظهر في اللباس أو جدران البيت ، وكذلك للثغور الضعيفة والنقاط الحدودية التي يمكن اختراقها وتدميرها ، وعلى ما يخافه الإنسان ويحذره ، والمراد هنا البيوت التي ليس لها جدار مطمئن وباب محكم ، ويخشى عليها من هجوم العدوّ.

والمنافقين بتقديمهم هذه الأعذار كانوا يريدون الفرار من ساحة الحرب واعتزال القتال ، واللجوء إلى بيوتهم.

وجاء في رواية : أنّ طائفة «بني حارثة» أرسلوا رسولا منهم إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : إنّ بيوتنا غير مأمونة ، وليس هناك بيت من بيوت الأنصار يشبه بيوتنا ، ولا مانع بيننا وبين «غطفان» الذين هجموا من شرق المدينة ، فائذن لنا أن نرجع إلى بيوتنا وندافع عن نسائنا وأولادنا ، فأذن لهم النّبي.

فبلغ ذلك «سعد بن معاذ» كبير الأنصار ، فقال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تأذن لهم ، فإنّي اقسم بالله أنّ هؤلاء القوم تعذّروا بذلك كلّما عرضت لنا مشكلة ، إنّهم يكذبون ،

١٨٧

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرجعوا.

و «يثرب» هو الاسم القديم للمدينة قبل أن يهاجر إليها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد هجرته أصبح اسمها تدريجيا «مدينة الرّسول» ، ومخفّفها المدينة.

ولهذه المدينة أسماء عديدة ، ذكر لها الشريف المرتضى (رحمة الله عليه) أحد عشر اسما آخر إضافة إلى هذين الاسمين ، ومن جملتها : طيبة ، وطابة ، وسكينة ، والمحبوبة ، والمرحومة ، والقاصمة. ويعتقد البعض أنّ «يثرب» اسم لأرض هذه المدينة(١) .

وجاء في بعض الروايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تسمّوا هذه المدينة يثرب» وربّما كان ذلك بسبب أنّ يثرب في الأصل من مادّة «ثرب» (على وزن حرب) أي اللوم ، ولم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليرضى مثل هذا الاسم لهذه المدينة المباركة.

وعلى كلّ حال فإنّ خطاب المنافقين لأهل المدينة بـ (يا أهل يثرب) لم يكن خطابا عشوائيا ، وربّما كان الباعث لخطابهم بهذا الاسم أنّهم كانوا يعلمون أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يشمئز من هذا الاسم ، أو أنّهم كانوا يريدون إعلان عدم اعترافهم بالإسلام واسم مدينة الرّسول ، أو أن يعودوا بأهلها إلى مرحلة الجاهلية!

وتشير الآية التالية إلى ضعف إيمان هذه الفئة ، فتقول : إنّ هؤلاء بلغ بهم ضعف الإيمان إلى درجة أنّ جيش الكفر لو دخل المدينة من كلّ جانب وصوب ، واستولى عليها ، ثمّ دعاهم إلى الشرك والكفر فسوف يقبلون ذلك ويسارعون إليه :( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ) .

من المعلوم أنّ أناسا بهذا الضعف والتزلزل وعدم الثبات غير مستعدّين للقاء العدوّ ومحاربته ، ولا هم متأهّبون لتقبّل الشهادة في سبيل الله ، بل يستسلمون بسرعة ويغيّرون مسيرهم ، وبناء على هذا ، فإنّ المراد من كلمة «الفتنة» هنا هي

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٤٦.

١٨٨

الشرك والكفر ، كما جاء في آيات القرآن الاخرى ، كالآية (١٩٣) من سورة البقرة : غير أنّ بعض المفسرين احتملوا أن يكون المراد من «الفتنة» هنا : الحرب ضدّ المسلمين ، بحيث إنّها لو عرضت على هؤلاء المنافقين لأجابوا إليها بسرعة ، ويعينوا أصحاب الفتنة! إلّا أنّ هذا التّفسير لا يتلاءم مع ظاهر جملة :( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ) وربّما اختار أكثر المفسّرين المعنى الأوّل لهذا السبب.

ثمّ يستدعي القرآن الكريم فئة المنافقين إلى المحاكمة ، فيقول :( وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً ) وعليه فإنّهم مسئولون أمام تعهّدهم.

وقال البعض : أنّ المراد من هذا العهد والميثاق هو ذلك العهد الذي عاهد «بنو حارثة» عليه الله ورسوله يوم احد حينما قرّروا الرجوع عن ميدان القتال ثمّ ندموا بعد ذلك ، فقطعوا العهد على أنفسهم أن لا يرتكبوا مثل هذه الأمور ، إلّا أنّهم فكّروا مرّة ثانية في معركة الأحزاب في نقض عهدهم وميثاقهم(١) .

ويعتقد البعض أنّه إشارة إلى العهد الذي عاهدوا به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة بدر ، أو في العقبة قبل هجرة النّبي(٢) .

ولكن يبدو أنّ للآية أعلاه مفهوما واسعا يشمل هذه العهود والمواثيق ، وكلّ عهودهم الاخرى.

إنّ كلّ من يؤمن ويبايع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يعاهده على أن يدافع عن الإسلام والقرآن ولو كلّفه ذلك حياته.

والتأكيد على العهد والميثاق هنا من أجل أنّه حتّى عرب الجاهلية كانوا يحترمون مسألة العهد ، فكيف يمكن أن ينقض إنسان عهده ويضعه تحت قدميه بعد ادّعائه الإسلام؟

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير في ظلال القرآن ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) نقل هذا القول الآلوسي في روح المعاني.

١٨٩

وبعد أن أفشى الله سبحانه نيّة المنافقين وبيّن أنّ مرادهم لم يكن حفظ بيوتهم ، بل الفرار من ميدان الحرب ، يجيبهم بأمرين :

الأوّل : أنّه يقول للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :( قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً ) .

فافرضوا أنّكم استطعتم الفرار ، فلا يعدو الأمر حالين : إمّا أن يكون أجلكم الحتميّ وموتكم قد حان ، فأينما تكونوا يأخذ الموت بتلابيبكم ، حتّى وإن كنتم في بيوتكم وبين زوجاتكم وأولادكم.

وإن لم يكن أجلكم قد حان فستعمّرون في هذه الدنيا أيّاما قليلة اخرى تكون مقترنة بالذلّ والهوان ، وستصبحون تحت رحمة الأعداء وفي قبضتهم ، وبعدها ستلقون العذاب الإلهي.

إنّ هذا البيان يشبه ما ورد في غزوة أحد ، حيث أشار القرآن إلى فئة اخرى من المنافقين المثبّطين للعزائم ، والمفرّقين لوحدة الصفّ :( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ) .(١)

والثّاني : ألم تعلموا أنّ كلّ مصائركم بيد الله ، ولن تقدروا أن تفرّوا من حدود حكومة الله وقدرته ومشيئته :( قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

بناء على هذا ، فإنّكم إذا علمتم أنّ كلّ مقدّراتكم بيده سبحانه ، فأطيعوا أمره في الجهاد الذي هو أساس العزّة والكرامة والشموخ في الدنيا وعند الله ، وحتّى إذا تقرّر أن تنالوا وسام الشهادة فعليكم أن تستقبلوا ذلك برحابة صدر.

* * *

__________________

(١) آل عمران ـ ١٥٤.

١٩٠

الآيات

( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) )

التّفسير

فئة المعوّقين :

أشارت هذه الآيات إلى وضع فئة اخرى من المنافقين الذين اعتزلوا حرب الأحزاب ، وكانوا يدعون الآخرين أيضا إلى اعتزال القتال ، فقالت :( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً ) .

١٩١

«المعوّقين» من مادّة (عوق) على زنة (شوق) تعني منع الشيء ومحاولة صرف الآخرين عنه ، و «البأس» في الأصل يعني (الشدّة) ، والمراد منه هنا الحرب.

ويحتمل أن تكون الآية أعلاه مشيرة إلى فئتين : فئة من المنافقين الذين كانوا بين صفوف المسلمين ـ وتعبير (منكم) شاهد على هذا ـ وكانوا يسعون إلى صرف ضعاف الإيمان من المسلمين عن الحرب ، وهؤلاء هم «المعوّقون».

والفئة الاخرى هم (المنافقون أو اليهود) الذين تنحّوا جانبا ، وعند ما كانوا يلتقون بجنود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يقولون : هلمّ إلينا وتنحّوا عن القتال ، وهؤلاء هم الذين أشارت إليهم الجملة الثّانية.

ويحتمل أن تكون هذه الآية بيانا لحالتين مختلفتين لفئة واحدة ، وهم الذين يعوّقون الناس عن الحرب عند ما يكونون بينهم ، وعند ما يعتزلونهم يدعون الناس إليهم.

ونقرأ في رواية : أنّ أحد أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء من ميدان حرب الأحزاب إلى داخل المدينة لحاجة ، فرأى أخاه قد وضع أمامه الخبز واللحم المشوي والشراب ، فقال له : أنت في هذه الحال تلتذّ ورسول الله مشغول بالحرب ، وهو بين الأسنّة والسيوف؟! فقال أخوه : يا أحمق! ابق معنا وشاركنا مجلسنا ، فو الذي يحلف به محمّد إنّه لن يرجع من هذه المعركة! وسوف لن يدع هذا الجيش العظيم الذي اجتمع عليه محمّدا وأصحابه أحياء!

فقال له الأوّل : أنت تكذب ، واقسم بالله لأذهبنّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بما قلت ، فجاء إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بما جرى ، فنزلت الآية.

وبناء على سبب النّزول هذا ، فإنّ كلمة (إخوانهم) وردت هنا بمعنى الإخوة الحقيقيين ، أو بمعنى أصحاب المذهب والمسلك الواحد ، كما سمّت الآية (٢٧) سورة الإسراء المبذّرين إخوان الشياطين :( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ) .

وتضيف الآية التالية : إنّ الدافع لكلّ تلك العراقيل التي وضعوها أمامكم هو

١٩٢

أنّهم بخلاء :( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) (١) لا في بذل الأرواح في ساحة الحرب ، بل هم بخلاء حتّى في المعونات الماديّة لتهيئة مستلزمات الحرب ، وفي المعونة البدنية في حفر الخندق ، بل ويبخلون حتّى في المساعدة الفكرية ، بخلا يقترن بالحرص المتزايد يوميا!

وبعد تبيان بخل هؤلاء وامتناعهم عن أيّ نوع من المساعدة والإيثار ، تتطرّق الآية إلى بيان صفات اخرى لهم ، والتي لها صفة العموم في كلّ المنافقين ، وفي كلّ العصور والقرون ، فتقول :( فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .

فلأنّهم لما لم يذوقوا طعم الإيمان الحقيقي ، ولم يستندوا إلى عماد قويّ في الحياة ، فإنّهم يفقدون السيطرة على أنفسهم تماما عند ما يواجهون حادثا صعبا ومأزقا حرجا ، وكأنّهم يواجهون الموت.

ثمّ تضيف الآية :( فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ) فيأتون إليكم كأنّهم هم الفاتحون الأصليون والمتحمّلون أعباء الحرب ، فيعربدون ويطلبون سهمهم من الغنائم ، وهم كانوا أبخل من الجميع في المشاركة في الحرب والثبات فيها.

«سلقوكم» من مادّة (سلق) ، وهي في الأصل بمعنى فتح الشيء بعصبية وغضب ، سواء كان هذا الفتح باليد أو اللسان ، وهذا التعبير يستعمل في شأن من يطلب الشيء بالزجر وأسلوب الأمر. و «الألسنة الحداد» تعني الألسنة الجارحة المؤذية ، وهي هنا كناية عن الخشونة في الكلام.

وتشير الآية في النهاية إلى آخر صفة لهؤلاء ، والتي هي في الواقع أساس كلّ شقائهم وتعاستهم ، فقالت :( أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ) لأنّها لم تكن

__________________

(١) «أشحّة» جمع شحيح ، من مادّة (الشحّ) ، أي البخل المقترن بالحرص ، ومحلّ الكلمة من الإعراب هنا برأي أكثر المفسّرين (حال) ، لكن ذلك لا ينافي أن تكون حالا في مقام بيان العلّة. تأمّلوا ذلك.

١٩٣

منبعثة عن الإخلاص والدافع الديني الإلهي :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

وممّا مرّ نخلص إلى هذه النتيجة ، وهي : أنّ المعوّقين كانوا منافقين يتميّزون بالصفات التالية :

١ ـ أنّهم لم يكونوا أهل حرب أبدا ، إلّا بنسبة قليلة جدّا.

٢ ـ لم يكونوا من أهل التضحية والإيثار سواء بالمال والنفس ، ولم يكونوا يتحمّلون أقلّ المصاعب والمتاعب.

٣ ـ كانوا يفقدون توازنهم وشخصيتهم في اللحظات الحرجة العاصفة من شدّة الخوف.

٤ ـ يظنّون أنّهم سبب كلّ الانتصارات ، ولهم كلّ الفخر عند الإنتصار.

٥ ـ أنّهم كانوا أناسا بلا إيمان ، ولم يكن لأعمالهم أيّة قيمة عند الله تعالى.

وهذه الصفات هي التي تعرفنا بالمنافقين في كلّ عصر وزمان ، وفي كلّ مجتمع وفئة.

وهذا الوصف الدقيق الذي وصفهم القرآن به يمكن من خلاله معرفة من يشاركهم في الفكر والسلوك ، وكم نرى بأمّ أعيننا في عصرنا من أمثالهم!!

وتجسّد الآية التالية بتصوير أبلغ جبن وخوف هذه الفئة ، فتقول :( يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا ) من شدّة خوفهم ورعبهم ، فقد خيّم عليهم كابوس مخيف ، فكأنّ جنود الكفر يمرّون دائما أمام أعينهم وقد سلّوا السيوف ومالوا عليهم بالرماح!

إنّ هؤلاء المحاربين الجبناء ، والمنافقين خائري القلوب والقوى يخافون حتّى من ظلالهم ، وينطوون على أنفسهم من الخوف لدى سماع صهيل الخيل ورغاء البعير ، ظنّا أنّ جيوش الأحزاب قد عادت!

ثمّ تضيف الآية :( وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ ) أي منتشرون في الصحراء بين أعراب البادية ، فيختفون هناك ويتتبّعون أخباركم و

١٩٤

( يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ ) فيسألون لحظة بلحظة من كلّ مسافر آخر الأخبار لئلّا تكون الأحزاب قد اقتربت منهم ، وهم مع ذلك يمنّون عليكم بأنّهم كانوا يتابعون أخباركم دائما!!

وتضيف الآية في آخر جملة : وعلى فرض أنّهم لم ينهزموا ويفرّوا من الميدان ، بل بقوا معكم :( وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً ) .

فلا تحزنوا وتقلقوا لذهابهم ، ولا تفرحوا بوجودهم بينكم ، فإنّهم أناس لا قيمة لهم ولا صفة تحمد ، وعدمهم أفضل من وجودهم!

وحتّى هذا القدر المختصر من العمل لم يكن لله أيضا ، بل هو نتيجة الخوف من ملامة وتقريع الناس ، وللتظاهر والرياء ، لأنّه لو كان لله لكانوا يقفون ويثبتون في ساحة الحرب ما دام فيهم عرق ينبض.

* * *

١٩٥

الآيات

( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) )

التّفسير

دور المؤمنين المخلصين في معركة الأحزاب :

يستمرّ الكلام إلى الآن عن الفئات المختلفة ومخطّطاتهم وأدوارهم في غزوة الأحزاب ، وقد تقدّم الكلام عن ضعفاء الإيمان والمنافقين ورؤوس الكفر والنفاق

١٩٦

والمعوّقين عن الجهاد.

ويتحدّث القرآن المجيد في نهاية المطاف عن المؤمنين الحقيقيين ، ومعنوياتهم العالية ورجولتهم وثباتهم وسائر خصائصهم في الجهاد الكبير.

ويبدأ مقدّمة هذا البحث بالحديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث كان إمامهم وقدوتهم ، فيقول :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ) .

فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خير نموذج لكم ، لا في هذا المجال وحسب ، بل وفي كلّ مجالات الحياة ، فإنّ كلّا من معنوياته العالية ، وصبره واستقامته وصموده ، وذكائه ودرايته ، وإخلاصه وتوجّهه إلى الله ، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث ، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل ، نموذج يحتذي به كلّ المسلمين.

إنّ هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلا عند ما تحيط بسفينته أشدّ العواصف ، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة ، فهو ربّان السفينة ، ومرساها المطمئن الثابت ، وهو مصباح الهداية ، ومبعث الراحة والهدوء والاطمئنان الروحي لركابها.

إنّه يأخذ المعول بيده ليحفر الخندق مع بقيّة المؤمنين ، فيجمع ترابه بمسحاة ويخرجه بوعاء معه ، ويمزح مع أصحابه لحفظ معنوياتهم والتخفيف عنهم ، ويرغّبهم في إنشاد الشعر الحماسي لإلهاب مشاعرهم وتقوية قلوبهم ، ويدفعهم دائما نحو ذكر الله تعالى ويبشّرهم بالمستقبل الزاهر والفتوحات العظيمة.

يحذّرهم من مؤامرات المنافقين ، ويمنحهم الوعي والاستعداد اللازم.

ولا يغفل لحظة عن التجهيز والتسلّح الحربي الصحيح ، وانتخاب أفضل الأساليب العسكرية ، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن اكتشاف الطرق المختلفة التي تؤدّي إلى بثّ التفرقة وإيجاد التصدّع في صفوف الأعداء.

نعم إنّه أسمى مقتدى ، وأحسن أسوة للمؤمنين في هذا الميدان ، وفي كلّ

١٩٧

الميادين.

«الاسوة» تعني في الأصل الحالة التي يتلبّسها الإنسان لدى اتّباعه لآخر ، وبتعبير آخر : هي التأسّي والاقتداء ، وبناء على هذا فإنّ لها معنى المصدر لا الصفة ، ومعنى جملة :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) هو أنّ لكم في النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تأسّيا واقتداء جيّدا ، فإنّكم تستطيعون بالاقتداء به واتباعه أن تصلحوا أموركم وتسيروا على الصراط المستقيم.

والطريف أنّ القرآن الكريم يعتبر هذه الاسوة الحسنة في الآية أعلاه مختّصة بمن لهم ثلاث خصائص : الثقة بالله ، والإيمان بالمعاد ، وأنّهم يذكرون الله كثيرا.

إنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد هو سبب وباعث هذه الحركة في الحقيقة ، وذكر الله يعمل على استمراره ، إذ لا شكّ أنّ من لم يمتلئ قلبه بهكذا إيمان لا يقدر أن يضع قدمه موضع قدم النّبي ، وإذا لم يدم ذكر الله ويعمّر قلبه به أثناء استمراره في هذا الطريق ، ويبعد الشياطين عنه ، فسوف لا يكون قادرا على إدامة التأسّي والاقتداء.

وتجدر الإشارة إلى أنّ علياعليه‌السلام مع شهامته وشجاعته في كلّ ميادين الحرب ، والتي تمثّل معركة الأحزاب نموذجا منها ، وسيشار إليها فيما بعد ، يقول في نهج البلاغة فيما روي عنه : «كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه»(١) .

بعد ذكر هذه المقدّمة تطرّقت الآية التالية إلى بيان حال المؤمنين الحقيقيين ، فقالت :( وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً ) .

ولكن ما هذا الوعد الذي كان الله ورسوله قد وعدهم به؟

قال البعض : إنّه إشارة إلى الكلام الذي كان رسول الله قد تكلّم به من قبل بأنّ

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، فصل الغرائب جملة ٩.

١٩٨

قبائل العرب ومختلف أعدائكم سيتّحدون ضدّكم قريبا ويأتون إليكم ، لكن اعلموا أنّ النصر سيكون حليفكم في النهاية ، فلمّا رأى المؤمنون هجوم الأحزاب أيقنوا أنّ هذا ما وعدهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : ما دام الجزء الأوّل من الوعد قد تحقّق ، فمن المسلّم أنّ جزأه الثّاني ـ أي النصر ـ سيتحقّق بعده ، ولذلك زاد إيمانهم وتسليمهم.

وقال البعض الآخر : إنّ هذا الوعد هو ما ذكره الله سبحانه في الآية (٢١٤) من سورة البقرة حيث قال :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ) .

أي إنّهم قيل لهم من قبل : إنّكم ستخضعون لامتحان عسير ، فلمّا رأوا الأحزاب تيقّنوا صدق إخبار الله ورسوله ، وزاد إيمانهم وتسليمهم.

ومن الطبيعي أنّ هذين التّفسيرين لا يتنافيان ، خاصّة بملاحظة أنّ أحد الوعدين كان في الأساس وعد الله ، والآخر وعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد جاءا معا في الآية مورد البحث ، ويبدو أنّ الجمع بينهما مناسب تماما.

وتشير الآية التالية إلى فئة خاصّة من المؤمنين ، وهم الذين كانوا أكثر تأسّيا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الجميع ، وثبتوا على عهدهم الذي عاهدوا الله به ، وهو التضحية في سبيل دينه حتّى النفس الأخير ، وإلى آخر قطرة دم ، فتقول :( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) من دون أن يتزلزل أو ينحرف ويبدّل العهد ويغيّر الميثاق الذي قطعه على نفسه( وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .

إنّهم لم ينحرفوا قيد أنملة عن خطّهم ، ولم يألوا جهدا في سبيل الله ، ولم يتزلزلوا لحظة ، بعكس المنافقين أو ضعاف الإيمان الذين بعثرتهم عاصفة الحوادث هنا وهناك وأفرزت الشدائد في أدمغتهم الخاوية أفكارا جوفاء خبيثة إنّ المؤمنين

١٩٩

وقفوا كالجبل الأشمّ وأثبتوا أنّ العهد الذي عاهدوا به لا يقبل النقض أو التراجع عنه.

إنّ لفظة (نحب) على زنة (عهد) تعني العهد والنذر والميثاق ، ووردت أحيانا بمعنى الموت ، أو الخطر ، أو سرعة السير ، أو البكاء بصوت مرتفع(١) .

وهناك اختلاف بين المفسّرين في المعنيّ بهذه الآية.

يروي العالم المعروف (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) ـ وهو من علماء السنّة ـ بسند عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «فينا نزلت( رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) فأنا ـ والله ـ المنتظر وما بدّلت تبديلا ، ومنّا رجال قد استشهدوا من قبل كحمزة سيّد الشهداء»(٢) .

وقال آخرون : إنّ جملة( مَنْ قَضى نَحْبَهُ ) إشارة إلى شهداء بدر وأحد ، وجملة :

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) إشارة إلى المسلمين الصادقين الآخرين الذين كانوا بانتظار إحدى الحسنيين : النصر ، أو الشهادة.

وروي عن «أنس بن مالك» أيضا : أنّ عمّه «أنس بن النضر» لم يكن حاضرا في غزوة بدر ، فلمّا علم فيما بعد ، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها ، أسف لعدم اشتراكه في الجهاد ، فعاهد الله على أن يشارك في الجهاد إن وقعت معركة اخرى ويثبت فيها وإن زهقت روحه ، ولذلك فقد شارك في معركة احد ، وحينما فرّ جماعة لم يفرّ معهم ، وقاوم وصمد حتّى جرح ثم استشهد(٣) .

وروي عن «ابن عبّاس» أنّه قال : إنّ جملة :( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ) إشارة إلى حمزة بن عبد المطّلب وباقي شهداء احد ، وأنس بن النضر وأصحابه(٤) .

__________________

(١) مفردات الراغب ، ومجمع البيان ، ولسان العرب مادّة نحب.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

(٣) أورد هذه الرّوايات بتفاوت يسير أصحاب تفاسير القرطبي وفي ظلال القرآن ، ومجمع البيان في كتبهم.

(٤) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٢٠٠