الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148622
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148622 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

ولا منافاة بين هذه التفاسير مطلقا ، لأنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ شهداء الإسلام الذين استشهدوا قبل معركة الأحزاب ، وكلّ من كان منتظرا للنصر أو الشهادة ، وكان على رأسهم رجال كحمزة سيّد الشهداء وعليعليهما‌السلام ، ولذلك ورد في تفسير الصافي : أنّ أصحاب الحسين بكربلاء كانوا كلّ من أراد الخروج للقتال ودّع الحسينعليه‌السلام وقال : السلام عليك يا ابن رسول الله ، فيجيبه : وعليك السلام ونحن خلفك ، ويقرأ :( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) (١) .

ويستفاد من كتب المقاتل أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام تلا هذه الآية عند أجساد شهداء آخرين كمسلم بن عوسجة ، وحين بلغه خبر شهادة «عبد الله بن يقطر»(٢) .

ومن هنا يتّضح أنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ المؤمنين المخلصين الصادقين في كلّ عصر وزمان ، سواء من ارتدى منهم ثوب الشهادة في سبيل الله ، أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع ، وكان مستعدّا للجهاد والشهادة.

وتبيّن الآية التالية النتيجة النهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة ، فتقول :( لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ ) فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب ، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب.

ومع ذلك ، ولكي لا يغلق طريق العودة والإنابة بوجه هؤلاء المنافقين العنودين ، فإنّ الله سبحانه قد فتح أبواب التوبة أمامهم بجملة :( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) ـ إذا تابوا ـ ووصف نفسه بالغفور والرحيم( إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) ليحيي فيهم الحركة نحو الإيمان والصدق والإخلاص والوفاء بالتزاماتهم أمام الله والعمل بمقتضاها.

ولمّا كانت هذه الجملة قد ذكرت كنتيجة لأعمال المنافقين القبيحة ، فإنّ بعض

__________________

(١) تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢٥٩.

٢٠١

كبار المفسّرين رأى على أساسها بأنّ الذنب الكبير في القلوب التي لها قابلية الهداية ربّما كان دفعا للحركة المضادّة والرجوع إلى الحقّ والحقيقة ، وقد يكون الشرّ مفتاحا للخير والرشاد(١) .

وتطرح الآية الأخيرة من هذه الآيات ـ والتي تتحدّث عن غزوة الأحزاب وتنهي هذا البحث ـ خلاصة واضحة لهذه الواقعة في عبارة مختصرة ، فتقول في الجملة الاولى :( وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ) .

«الغيظ» يعني (الغضب) ويأتي أحيانا بمعنى (الغمّ) ، وهنا جاء مزيجا من المعنيين ، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للانتصار على جيش الإسلام ، لكنّها خابت ، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.

والمراد من «الخير» هنا الإنتصار في الحرب ، ولم يكن انتصار جيش الكفر خيرا أبدا ، بل إنّه شرّ ، ولمّا كان القرآن يتحدّث من وجهة نظرهم الفكرية عبّر عنه بالخير ، وهو إشارة إلى أنّهم لم ينالوا أيّ نصر في هذا المجال.

وقال البعض : إنّ المراد من «الخير» هنا (المال) لأنّ هذه الكلمة أطلقت في مواضع اخرى بهذا المعنى ، ومن جملتها ما في آية الوصية (١٨٠) من سورة البقرة :( إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ ) .

ومع أنّ أحد الأهداف الأصليّة لمعسكر الكفر كان الحصول على غنائم المدينة والإغارة على هذه الأرض ، وهذا الباعث كان أهمّ البواعث في عصر الجاهلية ، لكنّنا لا نمتلك الدليل على حصر معنى (الخير) هنا بالمال ، بل يشمل كلّ الانتصارات التي كانوا يطمحون إليها ، وكان المال أحدها لكنّهم حرموا من الجميع.

وتضيف في الجملة التالية :( وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ) فقد هيّأ عوامل بحيث

__________________

(١) تفسير الميزان ، ذيل الآية مورد البحث.

٢٠٢

انتهت الحرب من دون حاجة إلى التحام واسع بين الجيشين ، ومن دون أن يتحمّل المؤمنون خسائر فادحة ، لأنّ العواصف الهوجاء القارصة قد مزّقت أوضاع المشركين من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ الله تعالى قد ألقى الرعب والخوف في قلوبهم من جنود الله التي لا ترى ، ومن جهة ثالثة فإنّ الضربة التي أنزلها علي بن أبي طالبعليه‌السلام بأعظم بطل من أبطالهم ، وهو «عمرو بن عبد ودّ» ، قد تسبّبت في تبدّد أحلامهم وآمالهم ، ودفعتهم إلى أن يلملموا أمتعتهم ويتركوا محاصرة المدينة ويرجعوا إلى قبائلهم تقدمهم الخيبة والخسران.

وتقول الآية في آخر جملة :( وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) فمن الممكن أن يوجد أناس أقوياء ، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يقهرون ، بل هناك من يقهرهم ومن هو أقوى منهم ، إلّا أنّ القوي العزيز الوحيد في العالم هو اللهعزوجل الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا انتهاء ، فهو الذي أنزل على المؤمنين النصر في مثل هذا الموقف العسير والخطير جدّا بحيث لم يحتاجوا حتّى إلى النزال وتقديم التضحيات!

* * *

بحوث

١ ـ ملاحظات هامّة في معركة الأحزاب

أ ـ إنّ معركة الأحزاب ـ وكما هو معلوم من اسمها ـ كانت حربا اتّحدت فيها كلّ القبائل والفئات المختلفة التي تعادي الإسلام ، للقضاء على الإسلام اليافع.

لقد كانت «حرب الأحزاب» آخر سعي للكفر ، وآخر سعي للكفر ، وآخر سهم في كنانته ، وآخر استعراض لقوى الشرك ، ولهذا قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»(١) عند ما تقابل أعظم أبطال العدوّ ، وهو عمرو بن عبد ودّ ، وبطل الإسلام الأوحد أمير

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢٠ ، صفحة ٢١٥ ، ونقل هذا الحديث عن الكراجكي.

٢٠٣

المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، لأنّ انتصار أحدهما على الآخر كان يعني انتصار الكفر على الإيمان ، أو الإيمان على الكفر ، وبتعبير آخر : كان عملا مصيريا يحدّد مستقبل الإسلام والشرك ، ولذلك فإنّ المشركين لم تقم لهم قائمة بعد انهزامهم في هذه المواجهة العظيمة ، وكانت المبادرة وزمامها بيد المسلمين بعدها دائما.

لقد أفل نجم الأعداء ، وانهدمت قواعد قوّتهم ، ولذلك نقرأ في حديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعد نهاية غزوة الأحزاب : «الآن تغزوهم ولا يغزوننا»(١) .

ب ـ ذكر بعض المؤرخّين أنّ عدد أفراد جيوش الكفر كان أكثر من عشرة آلاف محارب ، ويقول «المقريزي» في «الإمتاع» : إنّ قريشا أتت لوحدها بأربعة آلاف رجل ، وألف وثلاثمائة فرس ، وألف وخمسمائة من الإبل ، ونزلت عند حافّة الخندق ، وجاءت قبيلة بني سليم بسبعمائة رجل والتقوا بهم في مرّ الظهران ، وجاء «بنو فزارة» بألف ، وكلّ من «بني أشجع» و «بني مرّة» بأربعمائة ، والقبائل الاخرى أرسلت عددا من الرجال ، فتجاوز مجموع كلّ من حضر عشرة آلاف رجل.

في حين أنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز الثلاثة آلاف رجل ، وكانوا قد جعلوا مخيّمهم الأصلي أسفل جبل سلع ، وكانت نقطة مرتفعة جنب المدينة مشرفة على الخندق ، وكانوا يستطيعون عن طريق رماتهم السيطرة على حركة المرور من الخندق.

على كلّ حال ، فإنّ جيش الكفّار قد حاصر المسلمين من جميع الجهات ، وطالت هذه المحاصرة عشرين يوما ، وقيل خمسة وعشرين يوما ، وعلى بعض الرّوايات شهرا(٢) .

ومع أنّ العدوّ كان متفوقا على المسلمين من جهات مختلفة ، إلّا أنّه خاب في النهاية كما قلنا ، ورجع إلى دياره خالي الوفاض.

__________________

(١) التاريخ الكامل لابن الأثير الجزء ٢ صفحة ١٨٤.

(٢) بحار الأنوار ، الجزء ٢٠ ، صفحة ٢٢٨.

٢٠٤

ج ـ إنّ مسألة حفر الخندق قد تمّت ـ كما نعلم ـ بمشورة «سلمان الفارسي» ، وكانت هذه المسألة أسلوبا دفاعيا معتادا في بلاد فارس آنذاك ، ولم يكن معروفا في جزيرة العرب إلى ذلك اليوم ، وكان يعتبر ظاهرة جديدة ، وكانت لإقامته في أطراف المدينة أهميّة عظيمة ، سواء من الناحية العسكرية ، أم من جهة إضعاف معنويات العدوّ ورفع معنويات المسلمين.

ولا توجد لدينا معلومات دقيقة عن صفات الخندق ودقائقه ، فقد ذكر المؤرخّون أنّه كان من العرض بحيث لا يستطيع فرسان العدو عبوره بالقفز ، ومن المحتّم أنّ عمقه أيضا كان بالقدر الذي إذا سقط فيه أحد لم يكن يستطيع أن يخرج من الطرف المقابل بسهولة.

إضافة إلى أنّ سيطرة رماة المسلمين على منطقة الخندق كان يمكّنهم من جعل كلّ من يحاول العبور هدفا وغرضا لسهامهم في وسط الخندق وقبل عبوره.

وأمّا من ناحية الطول فإنّ البعض قد قدّره باثني عشر ألف ذراع (ستّة آلاف متر) استنادا إلى الرواية المعروفة التي تقول بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أمر أن يحفر كلّ عشرة رجال أربعين ذراعا من الخندق ، وبملاحظة أنّ عدد جنود المسلمين ـ طبقا للمشهور ـ بلغ ثلاثة آلاف رجل.

ولا بدّ من الاعتراف بأنّ حفر مثل هذا الخندق ، وبالآلات البدائية المستعملة في ذلك اليوم كان أمرا مضنيا وجهدا ، خاصّة وأنّ المسلمين كانوا في ضيق شديد وحاجة ملحّة من ناحية الزاد والوسائل الاخرى.

ومن المسلّم أنّ حفر الخندق قد استغرق مدّة لا يستهان بها ، وهذا يوحي بأنّ جيش المسلمين كان قد قدّر وخمّن وتوقّع التوقّعات اللازمة بدقّة كاملة قبل أن يهجم العدوّ بحيث أنّ حفر الخندق كان قد تمّ قبل ثلاثة أيّام من وصول جيش الكفّار.

٢٠٥

د ـ ساحة إمتحان عظيمة

إنّ غزوة «الأحزاب» كانت محكّا وامتحانا عجيبا لكلّ المسلمين ، ولمن كانوا يدّعون الإسلام ، وكذلك لأولئك الذين كانوا يدّعون الحياد أحيانا ، وكان لهم في الباطن ارتباط وتعامل مع أعداء الإسلام ويتعاونون معهم ضدّ دين الله.

لقد تبيّن بوضوح تامّ موقع الفئات الثلاث ـ المؤمنون الصادقون ، وضعفاء الإيمان ، والمنافقون ـ من خلال عملهم ، واتّضحت تماما القيم والمفاهيم الإسلامية ، فقد عكست كلّ من الفئات الثلاث في أتون الحرب الملتهبة حسن إيمانها أو قبحه ، وإخلاص نيّاتها أو عدمه.

لقد كانت العاصفة هو جاء شديدة لم تدع المجال لأيّ شخص أن يخفي ما في قلبه ، وظهرت امور في أقلّ من شهر ، وكان يحتاج كشفها إلى سنين ربّما تكون طويلة في الظروف الطبيعيّة.

وهنا مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أثبت عمليّا إيمانه الكامل بما جاء به من التعليمات الإلهيّة ووفاءه التامّ لها من خلال مقاومته وصلابته ، ورباطة جأشه ، وتوكّله على الله ، واعتماده على نفسه ، وكذلك أثبت للناس أنّه يطبّق قبل الآخرين ما يأمرهم به من خلال مواساته للمسلمين ومساعدتهم في حفر الخندق ، وتحمّله لمصاعب الحرب ومشاكلها.

ه ـ نزال عليعليه‌السلام التاريخي لعمرو بن عبد ودّ

من المواقف الحسّاسة والتاريخية لهذه الحرب مبارزة عليعليه‌السلام لبطل معسكر العدوّ العظيم «عمرو بن عبد ودّ» ، فقد جاء في التواريخ أنّ جيش الأحزاب كان قد دعا أشدّاء شجعان العرب للاشتراك والمساهمة في هذه الحرب ، وكان الأشهر من بين هؤلاء خمسة : عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة ، ونوفل ، وضرار.

٢٠٦

لقد استعدّ هؤلاء في أحد أيّام الحرب للمبارزة الفردية ، ولبسوا عدّة الحرب ، واستطاعوا اختراق الخندق والعبور بخيولهم إلى الجانب الآخر من خلال نقطة ضيّقة فيه ، كانت بعيدة نسبيا عن مرمى الرماة المسلمين ، وأن يقفوا أمام جيش المسلمين ، وكان أشهرهم «عمرو بن عبد ودّ».

فتقدّم وقد ركبه الغرور والاعتداد بالنفس ، وكانت له خبرة طويلة في الحرب ، ورفع صوته طالبا من يبارزه.

لقد دوّى نداؤه (هل من مبارز) في ميدان الأحزاب ، ولمّا لم يجرأ أحد من المسلمين على قتاله اشتدّت جرأته وبدأ يسخر من معتقدات المسلمين ، فقال : أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ هل فيكم من أرسله إلى الجنّة ، أو يدفعني إلى النار؟

وهنا أنشد أبياته المعروفة :

ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز

إنّ السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز

فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذلك أن يخرج إليه رجل ويبعد شرّه عن المسلمين ، إلّا أنّ أحدا لم يجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه عمرو» فقال عليعليه‌السلام : «وإن كان عمروا» فدعاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعمّمه ، وقلّده سيفه الخاصّ ذا الفقار ، ثمّ دعا له فقال : «اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته».

فمشى عليعليه‌السلام إلى الحرب وهو يرتجز :

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز

٢٠٧

من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز

وهنا قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كلمته المعروفة : «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»(١) .

فلمّا التقيا دعاه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى الإسلام أوّلا ، فأبى ، ثمّ دعاه إلى اعتزال الحرب ، فرفض ذلك ، واعتبره عارا عليه ، وفي الثالثة دعاه إلى أن ينزل عن ظهر جواده ويقاتله راجلا ، فغضب عمرو قال : ما كنت أحسب أحدا من العرب يدعوني إلى مثل ذلك ، فنزل من على ظهر فرسه وضرب علياعليه‌السلام على رأسه ، فتلقّاها عليعليه‌السلام بمهارة خاصّة بدرعه ، إلّا أنّ السيف قدّه وشجّ رأس عليعليه‌السلام .

هنا استعمل عليعليه‌السلام أسلوبا خاصّا ، فقال لعمرو : أنت بطل العرب ، وأنا أقاتلك ، فعلام حضر من خلفك؟ فلمّا التفت عمرو ، ضربه عليعليه‌السلام على ساقه بالسيف ، فسقط عمرو إلى الأرض ، فثارت غبرة ظنّ معها المنافقون أنّ علياعليه‌السلام قد قتل بسيف عمرو ، غير أنّهم لمّا سمعوا التكبير قد علا علموا بانتصار علي ، ورأوا فجأة علياعليه‌السلام يرجع إلى معسكره رويدا رويدا والدم ينزم من رأسه ، وعلى شفتيه ابتسامه النصر ، وكانت جثّة عمرو قد سقطت في جانب من الميدان.

لقد أنزل مقتل بطل العرب المعروف ضربة قاصمة بجيش الأحزاب بدّدت آمالهم وحطّمت معنوياتهم ، وهزمتهم نفسيا هزيمة منكرة ، وخابت آمالهم في النصر والظفر ، ولذلك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّها : «لو وزن اليوم عملك بعمل جميع امّة محمّد لرجح عملك على عملهم ، وذاك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلّا وقد دخله ذلّ بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من المسلمين ، إلّا وقد دخله عزّ يقتل عمرو»(٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢٠ ، صفحة ٢١٥ ، ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٤٤ طبقا لنقل إحقاق الحقّ ، الجزء ٦ ، صفحة ٩.

(٢) بحار الأنوار الجزء ٢٠ صفحة ٢١٦.

٢٠٨

وقد أورد العالم السنّي المعروف «الحاكم النيسابوري» هذا القول ، لكن بتعبير آخر :

«لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال امّتي إلى يوم القيامة»(١) .

والغاية من هذا الكلام واضحة ، لأنّ كلّا من الإسلام والقرآن كان على حافّة الهاوية ظاهرا ، وكان يمرّ بأحرج لحظاته وأصعبها ، ولذلك كانت التضحية في هذه الحرب أعظم التضحيات بعد تضحيات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث حفظت الإسلام من السقوط ودرأت عنه الخطر ، وضمنت بقاءه إلى يوم القيامة ، وببركة تضحية الإمامعليه‌السلام تجذّر الإسلام وتأصّل وشملت غصونه وأوراقه العالمين ، وبناء على هذا فإنّ عبادة الجميع مرهونة بعمله.

وذكر البعض : أنّ المشركين أرسلوا رسولا منهم ليشتري جثّة عمرو بعشرة آلاف درهم ـ وربّما كانوا يتصوّرون أنّ المسلمين سيفعلون بجثّة عمرو ما فعله قساة القلوب بجسد حمزة يوم أحد ـ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى»!

وهناك موقف يستحقّ الذكر والانتباه ، وهو : أنّ اخت عمرو لمّا وصلت إلى جسد أخيها ، ورأت أنّ علياعليه‌السلام لم يسلبه درعه الثمينة قالت : ما قتله إلّا كفؤ كريم(٢) .

وـ إجراءات النبي العسكرية والسياسية في هذه الحرب

كانت هناك مجموعة من العوامل المختلفة ، والأساليب العسكرية والسياسية ، وكذلك عامل العقيدة والإيمان ، ساهمت في انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين في معركة الأحزاب ، إضافة إلى التأييد الإلهي. عن طريق الرياح والعواصف الهوجاء

__________________

(١) مستدرك الحاكم ، الجزء ٣ ، صفحة ٣٢.

(٢) اعتمدنا في هذا الجانب على كتب : إحقاق الحقّ ، بحار الأنوار ، المجلّد ٦ ، بحار الأنوار ، المجلّد ٢٠ ، تفسير الميزان ، المجلّد ١٦.

٢٠٩

التي مزّقت جيوش الأحزاب شرّ ممزّق ، وكذلك جنود الله الغيبيين ، ومن جملة هذه العوامل والإجراءات :

١ ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أدخل بقبوله اقتراح حفر الخندق أسلوبا جديدا لم يكن موجودا ومعروفا بين العرب إلى ذلك اليوم ، وكان عاملا مهمّا في رفع معنويات المسلمين وكسر شوكة الكفّار.

٢ ـ المواقف والحسابات الدقيقة للمسلمين ، والأساليب والمناورات العسكرية كانت عاملا مؤثّرا في عدم نفوذ العدوّ إلى داخل المدينة.

٣ ـ قتل عمرو بن عبد ودّ على يد بطل الإسلام العظيم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسّلام ، وتبديد آمال الأحزاب بقتله يعدّ عاملا مؤثّرا آخر.

٤ ـ الإيمان بالله ، والتوكّل عليه ، والذي غرسه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في قلوب المسلمين ، وسقاه المسلمون على امتداد الحرب بتلاوة القرآن وكلمات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المؤثّرة.

٥ ـ أسلوب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وروحه الكبيرة ، واعتماده على نفسه الذي يمنح المسلمين قوّة واطمئنانا.

٦ ـ إضافة إلى ذلك ، فإنّ عمل «نعيم بن مسعود» كان أحد العوامل المهمّة في إيجاد الفرقة بين جيوش الأحزاب.

ز ـ نعيم بن مسعود وبثّ الفرقة في جيش العدوّ!

جاء «نعيم» إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان قد أسلم لتوّه ، ولم تعلم قبيلته (غطفان) بإسلامه ، فقال : أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما أنت فينا رجل واحد ، فخذل عنّا ما استطعت ، فإنّما الحرب خدعة».

فانطلق نعيم بخطّة رائعة ، وأتى يهود بني قريظة ، وكانت له معهم صداقة في الجاهلية ، فقال لهم : إنّي لكم صديق ، وأنتم تعلمون ذلك ، فقالوا : صدقت ، ونحن لا نتّهمك أبدا ، فقال : إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وإنّما قريش

٢١٠

وغطفان بلادهم غيرها ، وإنّما جاءوا حتّى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة انتهزوها ، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، ولا طاقة لكم به ، فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّدا ، فقالوا : قد أشرت برأي ، فقبل بنو قريظة قوله.

ثمّ أتى أبا سفيان وأشراف قريش متخفّيا ، فقال : يا معشر قريش ، إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّدا ودينه ، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ ، فقالوا : نفعل ، قال : تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمّد فبعثوا إليه : أنّه لا يرضيك عنّا إلّا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ، ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك ، فقالوا : بلى ، فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفرا من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحدا واحذروا.

ثمّ جاء إلى غطفان قبيلته ، فقال : تعلمون حسبي ونسبي ، وأنا أودّكم ، ولا أظنّكم تشكّون في صدقي ، فقالوا : نعلم ذلك ، فقال : لكم عندي خبر فاكتموه عليّ ، فقالوا : نفعل ، فقال لهم ما قال لقريش. وكان ذلك ليلة السبت من شوّال سنة خمس من الهجرة.

فأرسل أبو سفيان ورؤساء غطفان جماعة إلى بني قريظة فقالوا : إنّ الكراع والخفّ قد هلكا ، وإنّا لسنا بدار مقام ، فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه.

فأجابهم اليهود : إنّ غدا السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتّى نناجز محمّدا.

فلمّا بلغ ذلك قريشا وغطفان قالوا : والله لقد حذّرنا هذا نعيم ، فبعث إليهم أبو سفيان : إنّا لا نعطيكم رجلا واحدا فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا ، وإن شئتم فاقعدوا.

ولمّا علمت اليهود بذلك قالوا : هذا والله الذي قال لنا نعيم ، فإنّ في الأمر حيلة ،

٢١١

وهؤلاء لا يريدون القتال ، ويريدون أن يغيروا ويرجعوا إلى ديارهم ويذروكم ومحمّدا.

فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنّا والله لا نقاتل حتّى تعطونا رهنا ، فأصرّت قريش وغطفان على قولهما فوقع الاختلاف بينهم ، وبعث الله سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية قارصة البرد ، قلعت خيامهم ، وكفأت قدورهم.

لقد اتّحدت هذه العوامل ، فحزم الجميع أمتعتهم ورجّحوا الفرار على القرار ، ولم يبق منهم رجل في ساحة الحرب(١) .

ح ـ قصّة حذيفة

جاء في كثير من التواريخ أنّ «حذيفة اليماني» قال : والله ، لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلّا الله ، وفي ليلة من الليالي ـ بعد أن وقع الاختلاف بين جيش الأحزاب ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنّة».

قال حذيفة : فو الله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجوع ، فلمّا رأى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك دعاني ، فقلت : لبّيك ، قال : «اذهب فجئني بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع» ، فأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل ، ما يستمسك لهم بناء ، ولا تثبت لهم نار ، ولا يطمئن لهم قدر ، فإنّي لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ، ثمّ قال : يا معشر قريش ، لينظر أحدكم من جليسه لئلّا يكون هنا غريب ، فبدأت بالذي عن يميني ، فقلت : من أنت؟ قال : أنا فلان ، فقلت : حسنا.

ثمّ عاد أبو سفيان براحلته ، فقال : يا معشر قريش ـ والله ـ ما أنتم بدار مقام ، هلك الخفّ والحافر ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٠ باختصار.

٢١٢

ثمّ عجّل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلّا بعد ما ركبها.

فقلت في نفسي : لو رميت عدوّ الله وقتلته كنت قد صنعت شيئا ، فوترت قوسي ثمّ وضعت السهم في كبد القوس ، فلمّا أردت أن أطلقه ذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع» وإنّه طلب منّي أن آتيه بالخبر وحسب ، حططت القوس ثمّ رجعت إلى رسول الله فأخبرته الخبر ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهمّ أنت منزل الكتاب ، سريع الحساب ، أهزم الأحزاب ، اللهمّ أهزمهم وزلزلهم»(١) .

ط ـ نتائج حرب الأحزاب

لقد كانت حرب الأحزاب نقطة انعطاف في تاريخ الإسلام ، قلبت كفّة التوازن العسكري والسياسي لصالح المسلمين إلى الأبد. ويمكن تلخيص النتائج المثمرة لهذه المعركة في عدّة نقاط :

أ ـ فشل مساعي العدو ، وتحطّم قواه.

ب ـ كشف المنافقين ، وفضح الأعداء الداخليين الخطرين.

ج ـ جبران الذكرى الأليمة لهزيمة أحد.

د ـ قوّة المسلمين ، وازدياد هيبتهم في قلوب الأعداء.

ه ـ ارتفاع معنويات المسلمين نتيجة للمعجزات العظيمة التي رأوها في هذه المعركة.

وـ تثبيت مركز النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في داخل المدينة وخارجها.

ر ـ تهيؤ الأرضية لتصفية المدينة وإنقاذها من شرّ بني قريظة.

٢ ـ النّبي أسوة وقدوة

نعلم أنّ إختيار رسول الله من بين البشر إنّما هو من أجل أن يكونوا قدوة عملية

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٠ ، صفحة ٢٠٨.

٢١٣

للأمم ، لأنّ أهمّ جانب من جوانب دعوة الأنبياء وأكثرها تأثيرا هي الدعوة العملية ، ولذلك فإنّ علماء الإسلام اعتبروا العصمة شرطا لمقام النبوّة ، وإحدى أدلّتها وبراهينها هي أنّهم يجب أن يكونوا «قدوة» للناس ، و «أسوة» للبشر.

وممّا يسترعي الانتباه أنّ التأسّي بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الوارد في هذه الآية قد جاء بصورة مطلقة ، وهذا يشمل التأسّي في كافّة المجالات بالرغم من أنّ سبب نزول هذه الآيات هي معركة الأحزاب ، ونعلم أنّ أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآيات بها مطلقا ، ولذلك نرى في الأحاديث الشريفة أنّ أهمّ المسائل وأبسطها قد طرحت في مسألة التأسّي.

ففي حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول اللهعزوجل لنبيّه :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته لقوله :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ رسول الله كان إذا صلّى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه فوضع عند رأسه مخمرا» ثمّ يبيّن كيفية صلاة الليل التي كان يصلّيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقول في آخر الحديث :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٢) .

وإذا ما اتّخذنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أسوة لنا في حياتنا حقّا ، في إيمانه وتوكّله ، في إخلاصه وشجاعته ، في تنظيم أمره ونظافته ، وفي زهده وتقواه ، فإن أسلوب حياتنا سيختلف تماما ، وسيعمّ الضياء والسعادة كلّ زوايا حياتنا ونواحيها.

يجب اليوم على كلّ المسلمين ، وخاصّة الشباب المؤمن ، أن يقرءوا سيرة نبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدقّة متناهية ويحفظوها ، ويجعلوه قدوة وأسوة لهم في كلّ شيء ، فإنّ هذا التأسّي والاقتداء به سبيل السعادة ، ومفتاح النصر والعزّة.

__________________

(١) إحتجاج الطبرسي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٢٥٥.

(٢) وسائل الشيعة ، المجلّد ١ ، صفحة ٣٥٦.

٢١٤

٣ ـ اذكروا الله كثيرا

لقد وردت الوصيّة بذكر الله ـ وخاصّة الذكر الكثير ـ مرارا في الآيات القرآنية ، وقد أولته الروايات الإسلامية اهتماما كبيرا أيضا ، حتّى أنّنا نقرأ في حديث عن أبي ذرّ أنّه قال : دخلت المسجد فأتيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لي : «عليك بتلاوة كتاب الله وذكر الله كثيرا فإنّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض»(١) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إذا ذكر العبد ربّه في اليوم مائة مرّة كان ذلك كثيرا»(٢) .

وفي حديث آخر عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لأصحابه : «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من الدينار والدرهم ، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله كثيرا»(٣) .

لكن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ المراد من ذكر الله بكلّ هذه الفضيلة هو الذكر اللساني فقط ، بل قد صرّحت الروايات الإسلامية أنّ المراد منه إضافة لما مرّ هو الذكر القلبي والعملي ، أي أنّ الإنسان يذكر الله عند ما يواجه حراما فيتركه.

إنّ الهدف أن يجعل الإنسان الله نصب عينيه دائما ، ويشعر بحضوره وشهادته الدائمة ، وأن يغمر نور الله كلّ حياته ، فيفكّر فيه ويذكره دائما ، ولا يغفل عن أوامره بل يطيعها.

إنّ مجالس الذكر ليست تلك المجالس التي يجتمع فيها جماعة من المغفّلين ويشرعون في الطعام والشراب ، وتتخلّل مجالسهم تلك مجموعة من الأذكار

__________________

(١) الخصال ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٢٥٧.

(٢) سفينة البحار ، المجلّد ١ ، صفحة ٤٨٤.

(٣) المصدر السابق.

٢١٥

المخترعة ، والبدع التي يروجونها ، فقد ورد في حديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «بادروا إلى رياض الجنّة ، قالوا : وما رياض الجنّة؟ قال : حلق الذكر»(١) ، والمراد منها الحلقات التي تحيا فيها العلوم الإسلامية ، وتطرح البحوث التربوية التي تؤدّي إلى تهذيب الناس وتطهير المذنبين وتدفعهم إلى سبيل الله(٢) .

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلّد ١ ، ص ٤٨٦.

(٢) كان لنا بحث آخر حول أهميّة ذكر الله ومفهومه ذيل الآية (١٢٠) من سورة الرعد.

٢١٦

الآيتان

( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) )

التّفسير

غزوة بني قريظة انتصار عظيم آخر :

كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود ، وهم : بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أن لا تعين عدوّا له ولا يتجسّسوا لذلك العدوّ ، وأن يعيشوا مع المسلمين بسلام ، إلّا أنّ «بني قينقاع» قد نقضوا عهدهم في السنة الثّانية للهجرة ، و «بنو النضير» في السنة الرّابعة للهجرة بأعذار شتّى ، وصمّموا على مواجهة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانهارت مقاومتهم في النهاية ، وطردوا إلى خارج المدينة ، فذهب «بنو قينقاع» إلى أذرعات الشام ، وذهب بعض

٢١٧

«بني النضير» إلى خيبر ، وبعضهم الآخر إلى الشام(١) .

بناء على هذا فإنّ «بني قريظة» كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب ، وكما قلنا في تفسير الآيات السبع عشرة المتعلّقة بمعركة الأحزاب ، فإنّهم نقضوا عهدهم في هذه المعركة ، واتّصلوا بمشركي العرب ، وشهروا السيوف بوجه المسلمين.

بعد انتهاء غزوة الأحزاب والتراجع المشين والمخزي لقريش وغطفان وسائر قبائل العرب عن المدينة ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ طبقا للرّوايات الإسلامية ـ عاد إلى منزله وخلع لامة الحرب وذهب يغتسل ، فنزل عليه جبرئيل بأمر الله وقال : لماذا ألقيت سلاحك وهذه الملائكة قد استعدّت للحرب؟ عليك أن تسير الآن نحو بني قريظة وتنهي أمرهم.

لم تكن هناك فرصة لتصفية الحساب مع بني قريظة أفضل من هذه الفرصة ، حيث كان المسلمون في حرارة الإنتصار ، وبنو قريظة يعيشون لوعة الهزيمة المرّة ، وقد سيطر عليهم الرعب الشديد ، وكان حلفاؤهم من قبائل العرب متعبين منهكي القوى خائري العزائم ، وهم في طريقهم إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة ، ولم يكن هناك من يحميهم ويدافع عنهم.

هنا نادى مناد من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن توجّهوا إلى بني قريظة قبل أن تصلّوا العصر ، فاستعدّ المسلمون بسرعة وتهيّئوا للمسير إلى الحرب ، وما كادت الشمس تغرب إلّا وكانت حصون بني قريظة المحكمة محاصرة تماما.

لقد استمرت هذه المحاصرة خمسة وعشرين يوما ، وأخير سلّموا جميعا ـ كما سيأتي في البحوث ـ فقتل بعضهم ، وأضيف إلى سجل انتصارات المسلمين انتصار عظيم آخر ، وتطهّرت أرض المدينة من دنس هؤلاء المنافقين والأعداء اللدودين

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، المجلّد ٢ ، صفحة ١٣٧ ـ ١٧٣.

٢١٨

إلى الأبد.

وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إشارة مختصرة ودقيقة إلى هذه الحادثة ، وكما قلنا فإنّ هذه الآيات نزلت بعد الإنتصار ، وأوضحت أنّ هذه الحادثة كانت نعمة وموهبة إلهيّة عظيمة ، فتقول الآية أوّلا :( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ) .

«الصياصي» جمع (صيصية) ، أي : القلعة المحكمة ، ثمّ أطلقت على كلّ وسيلة دفاعية ، كقرون البقر ، ومخالب الديك. ويتّضح هنا أنّ اليهود كانوا قد بنوا قلاعهم وحصونهم إلى جانب المدينة في نقطة مرتفعة ، والتعبير بـ (أنزل) يدلّ على هذا المعنى.

ثمّ تضيف الآية :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) وأخيرا بلغ أمرهم أنّكم( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) .

إنّ هذه الجمل تمثّل مختصرا وجانبا من نتائج غزوة بني قريظة ، حيث قتل جمع من أولئك الخائنين على يد المسلمين ، وأسر آخرون ، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة من جملتها أراضيهم وديارهم وأموالهم.

والتعبير عن هذه الغنائم بـ «الإرث» لأنّ المسلمين لم يبذلوا كثير جهد للحصول عليها ، وسقطت في أيديهم بسهولة كلّ تلك الغنائم التي كانت حصيلة سنين طويلة من ظلم وجور اليهود واستثماراتهم في المدينة.

وتقول الآية في النهاية :( وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) .

هناك اختلاف بين المفسّرين في المقصود من( أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ) وأيّ أرض هي؟

فاعتبرها البعض إشارة إلى أرض خيبر التي فتحت على أيدي المسلمين فيما بعد.

واعتبرها آخرون إشارة إلى أرض مكّة.

٢١٩

وآخرون يعتقدون أنّها إشارة إلى أرض الروم وفارس.

ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الأراضي والبلدان التي وقعت في يد المسلمين من ذلك اليوم وما بعده إلى يوم القيامة.

إلّا أنّ أيّا من هذه الاحتمالات لا يناسب ظاهر الآية ، لأنّ الآية ـ بقرينة الفعل الماضي الذي جاء فيها (أورثكم) ـ شاهدة على أنّ هذه الأرض قد أصبحت تحت تصرّف المسلمين في حادثة غزوة بني قريظة ، إضافة إلى أنّ أرض مكّة ـ وهي إحدى التفاسير السابقة ـ لم تكن أرضا لم يطأها المسلمون ، في حين أنّ القرآن الكريم يقول :( وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ) .

والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى البساتين والأراضي الخاصّة ببني قريظة ، والتي لم يكن لأحد الحقّ في دخولها ، لأنّ اليهود كانوا يبذلون قصارى جهودهم في سبيل الحفاظ على أموالهم وحصرها فيما بينهم.

ولو أغمضنا ، فإنّها تتناسب كثيرا مع أرض «خيبر» التي أخذت من اليهود بعد مدّة ليست بالبعيدة ، وأصبحت في حوزة المسلمين ، حيث إنّ معركة «خيبر» وقعت في السنة السابعة للهجرة.

* * *

بحوث

١ ـ غزوة بني قريظة ودوافعها

إنّ القرآن الكريم يشهد بأنّ الدافع الأساس لهذه الحرب هو دعم يهود بني قريظة لمشركي العرب ومساندتهم في حرب الأحزاب ، لأنّه يقول :( الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ ) .

إضافة إلى أنّ اليهود في المدينة كانوا يعتبرون الطابور الخامس لأعداء الإسلام ، وكانوا مجدّين في الإعلام المضادّ للإسلام ، ويغتنمون كلّ فرصة مناسبة

٢٢٠