الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156446 / تحميل: 5906
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أيضا ، وعند ما سألوا «أحمد» ـ إمام السنّة المعروف ـ عن الغناء قال : ينبت النفاق.

وقال «مالك» ـ إمام أهل السنّة المعروف ـ مجيبا عن هذا السؤال : يفعله الفسّاق.

وصرّح «الشافعي» بأنّ شهادة أصحاب الغناء غير مقبولة ، وهذا بنفسه دليل على فسق هؤلاء.

ونقل عن أصحاب الشافعي أيضا أنّهم اعتبروا فتوى الشافعي تحريما ، على خلاف ما اعتقده البعض(١) .

٢ ـ ما هو الغناء؟

لا يواجهنا إشكال مهم في حرمة الغناء ، إنّما الإشكال الصعب هو تشخيص موضوع الغناء ، فهل أنّ كلّ صوت حسن غناء؟

من المسلّم أنّ الأمر ليس كذلك ، لأنّه قد ورد في الرّوايات الإسلامية ، وسيرة المسلمين تحكي أيضا ، أن اقرؤوا القرآن وأذّنوا بصوت حسن.

هل أنّ الغناء كلّ صوت فيه ترجيع ـ وهو تردّد الصوت في الحنجرة ـ؟ هذا أيضا غير ثابت.

والذي يمكن استفادته من مجموع كلمات فقهاء وأقوال أهل السنّة في هذا المجال ، أنّ الغناء هو كلّ لحن وصوت يطرب ، ويشتمل على اللهو والباطل.

وبعبارة أوضح : الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس الفسق والفجور ، وأهل المعصية والفساد.

وبتعبير آخر : الغناء يقال للصوت الذي يحرّك القوى الشهوانية في الإنسان ، بحيث يشعر الإنسان في تلك الحال بأنّه لو كان إلى جانب هذا الصوت خمر

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢١

ومسكر وإباحة وفساد جنسي ، لكان ذلك مناسبا جدّا!

وهناك مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ بعض الألحان تعدّ أحيانا غناء ولهوا باطلا بذاتها ومحتواها ، مثال ذلك أشعار العشق والغرام والأشعار المفسدة التي تقرأ بألحان وموسيقى راقصة.

وقد تكون الألحان بذاتها غناء أحيانا اخرى ، مثال الأشعار الجيدة ، أو آيات القرآن والدعاء والمناجاة التي تقرأ بلحن يناسب مجالس الفاسدين والفسّاق ، وهو حرام في كلام الصورتين «فتأمّل».

وثمّة مسألة ينبغي ذكرها ، وهي أنّه يذكر للغناء معنيان : معنى عامّ ، ومعنى خاصّ ، والمعنى الخاصّ هو ما ذكرناه أعلاه ، أي الموسيقى والألحان التي تحرّك الشهوات ، وتناسب مجالس الفسق والفجور.

والمعنى العامّ هو كلّ صوت حسن ، فمن فسّر الغناء بالمعنى العامّ قسّمه إلى قسمين : غناء حلال ، وغناء حرام.

والمراد من الغناء الحرام : هو ما قيل أعلاه ، والمراد من الغناء الحلال : الصوت الحسن الجميل والذي لا يكون باعثا على الفساد ، ولا يناسب مجالس الفسق والفجور.

وبناء على هذا فلا يوجد اختلاف ـ تقريبا ـ في أصل تحريم الغناء ، بل الاختلاف في كيفية تفسيره.

ومن الطبيعي أن يكون للغناء موارد شكّ ـ ككلّ المفاهيم الاخرى ـ وأنّ الإنسان لا يعلم حقّا هل أنّ الصوت الفلاني يناسب مجالس الفسق والفجور ، أم لا؟ وفي هذه الصورة يحكم بالحلّية بحكم أصل البراءة ، وهذا ـ طبعا ـ بعد الإحاطة الكافية بالمفهوم العرفي للغناء طبق التعريف أعلاه.

ومن هنا يتّضح أنّ الأصوات والموسيقى الحماسية التي تناسب ساحات الحرب أو الرياضة وأمثالها لا دليل على حرمتها.

٢٢

ومن الطبيعي أنّ هناك بحوثا أخرى في باب الغناء ، من قبيل بعض الاستثناءات التي قبلها جماعة وأنكرها آخرون ، ومسائل أخرى ينبغي الكلام عنها في الكتب الفقهيّة.

والكلام الأخير هو أنّ ما ذكر أعلاه يتعلّق بالغناء ، وأمّا استعمال الآلات الموسيقية وحرمتها ، فهو بحث آخر خارج عن هذا الموضوع.

٣ ـ فلسفة تحريم الغناء :

إنّ التدقيق في مفهوم الغناء ـ مع الشروط التي قلناها في شرح هذا المفهوم ـ تجعل الغاية من تحريم الغناء واضحة جدّا.

فبنظرة سريعة إلى معطيات الغناء سنواجه المفاسد أدناه :

أوّلا : الترغيب والدعوة إلى فساد الأخلاق.

لقد بيّنت التجربة ـ والتجربة خير شاهد ـ أنّ كثيرا من الأفراد الواقعين تحت تأثير موسيقى وألحان الغناء قد تركوا طريق التقوى ، واتّجهوا نحو الشهوات والفساد.

إنّ مجلس الغناء ـ عادة ـ يعدّ مركزا لأنواع المفاسد ، والدافع على هذه المفاسد هو الغناء.

ونقرأ في بعض التقارير التي وردت في الصحف الأجنبية أنّه كان في مجلس جماعة من الفتيان والفتيات فعزفت فيه موسيقى خاصّة وعلى نمط خاص من الغناء ، فهيّجت الفتيان والفتيات إلى الحدّ الذي هجم فيه بعضهم على البعض الآخر ، وعملوا من الفضائح ما يخجل القلم عن ذكره.

وينقل في تفسير (روح المعاني) حديثا عن أحد زعماء بني أميّة أنّه قال لهم : إيّاكم والغناء فإنّه ينقص الحياء ، ويزيد في الشهوة ، ويهدم المروءة ، وإنّه ينوب عن

٢٣

الخمر ، ويفعل ما يفعل السكر(١) . وهذا يبيّن أنّه حتّى أولئك كانوا مطّلعين على مفاسده أيضا.

وعند ما نرى في الرّوايات الإسلامية : أنّ الغناء ينبت النفاق ، فإنّه إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ روح النفاق هي روح التلوّث بالفساد والابتعاد عن التقوى.

وإذا جاء في الرّوايات أنّ الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه غناء ، فبسبب التلوّث بالفساد ، لأنّ الملائكة طاهرة تطلب الطهارة ، وتتأذّى من هذه الأجواء الملوّثة.

ثانيا : الغفلة عن ذكر الله :

إنّ التعبير باللهو الذي فسّر بالغناء في بعض الرّوايات الإسلامية إشارة إلى حقيقة أنّ الغناء يجعل الإنسان عبدا ثملا من الشهوات حتّى يغفل عن ذكر الله.

وفي الآيات أعلاه قرأنا أنّ «لهو الحديث» أحد عوامل الضلالة عن سبيل الله ، وموجب للعذاب الأليم.

في حديث عن عليعليه‌السلام : «كلّ ما ألهى عن ذكر الله (وأوقع الإنسان في وحل الشهوات) فهو من الميسر»(٢) ـ أي في حكم القمار ـ.

ثالثا : الإضرار بالأعصاب :

إنّ الغناء والموسيقى ـ في الحقيقة ـ أحد العوامل المهمّة في تخدير الأعصاب ، وبتعبير آخر : إنّ الموادّ المخدّرة ترد البدن عن طريق الفمّ والشرب أحيانا كالخمر ، وأحيانا عن طريق الشمّ وحاسّة الشمّ كالهيروئين ، وأحيانا عن طريق التزريق كالمورفين ، وأحيانا عن طريق حاسّة السمع كالغناء.

ولهذا فإنّ الغناء والموسيقى المطربة قد تجعل الأفراد منتشين أحيانا إلى حدّ يشبهون فيه السكارى ، وقد لا يصل إلى هذه المرحلة أحيانا ، ولكنّه يوجد تخديرا

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، الجزء ٢١ ، صفحة ٦٠.

(٢) وسائل الشيعة ، الجزء ١٢ ، صفحة ٢٣٥.

٢٤

خفيفا ، ولهذا فإنّ كثيرا من مفاسد المخدّرات موجودة في الغناء ، سواء كان تخديره خفيفا أم قويّا.

«إنّ الانتباه بدقّة إلى سيرة مشاهير الموسيقيين يبيّن أنّهم قد واجهوا تدريجيّا مصاعب وصدمات نفسية خلال مراحل حياتهم حتّى فقدوا أعصابهم شيئا فشيئا ، وابتلي عدد منهم بأمراض نفسية ، وجماعة فقدوا مشاعرهم وساروا إلى دار المجانين ، وبعضهم أصيبوا بالشلل والعجز ، وبعضهم أصيب بالسكتة ، حيث ارتفع ضغط الدم عندهم أثناء عزف الموسيقى»(١) .

وقد جاء في بعض الكتب التي كتبت في مجال لآثار المضرّة للموسيقى على أعصاب الإنسان ، حالات جمع من الموسيقيين والمغنّين المعروفين الذين أصيبوا بالسكتة وموت الفجأة أثناء أداء برامجهم ، وزهقت أرواحهم في ذلك المجلس(٢) .

وخلاصة القول فإنّ الآثار المضرّة للغناء والموسيقى على الأعصاب تصل إلى حدّ إيجاد الجنون ، وتؤثّر على القلب وتؤدّي إلى ارتفاع ضغط الدم وغير ذلك من الآثار المخرّبة.

ويستفاد من الإحصاءات المعدّة للوفيّات في عصرنا الحالي بأنّ معدّل موت الفجأة قد إزداد بالمقارنة مع السابق ، وقد ذكروا أسبابا مختلفة كان من جملتها الغناء والموسيقى.

رابعا : الغناء أحد وسائل الاستعمار :

إنّ مستعمري العالم يخافون دائما من وعي الشعوب ، وخاصّة الشباب ، ولذلك فإنّ جانبا من برامجهم الواسعة لاستمرار وإدامة الاستعمار هو إغراق المجتمعات بالغفلة والجهل والضلال ، وتوسعة وسائل اللهو المفسدة.

إنّ المخدّرات لا تتّصف اليوم بصفة تجارية فقط ، بل هي أحد الوسائل

__________________

(١) تأثير الموسيقى على النفس والأعصاب ، صفحة ٢٦.

(٢) يراجع المصدر السابق صفحة ٩٢ وما بعدها.

٢٥

السياسية المهمّة ، فإنّ السياسات الاستعمارية تسعى إلى إيجاد مراكز الفحشاء ونوادي القمار ووسائل اللهو الفاسدة الاخرى ، ومن جملتها توسعة ونشر الغناء والموسيقى ، وهي من أهمّ الوسائل التي يصرّ عليها المستعمرون لتخدير أفكار الناس ، ولهذا فإنّ الموسيقى تشكّل القسم الأكبر من وقت إذا عات العالم ووسائل الإعلام الأساسية.

* * *

٢٦

الآيتان

( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) )

التّفسير

هذا خلق الله :

مواصلة للبحث حول القرآن والإيمان به في الآيات السابقة ، تتحدّث الآيتان أعلاه عن أدلّة التوحيد الذي هو أهمّ الأصول العقائدية.

تشير الآية الاولى إلى خمسة أقسام من مخلوقات الله التي ترتبط مع بعضها ارتباطا وثيقا لا ينفصل ، وهي : خلق السماء ، وكون الكواكب معلّقة في الفضاء ، وخلق الجبال لتثبيت الأرض ، ثمّ خلق الدواب ، وبعد ذلك الماء والنباتات التي هي وسيلة تغذيتها ، فتقول :( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) .

(العمد) جمع (عمود) ، وتقييد بنائها وإقامتها بـ( تَرَوْنَها ) دليل على أنّه ليس لهذه السماء أعمدة مرئيّة ، ومعنى ذلك أنّ لها أعمدة إلّا أنّها غير قابلة للرؤية ، وكما

٢٧

قلنا قبل هذا في تفسير سورة الرعد أيضا ، فإنّ هذا التعبير إشارة لطيفة إلى قانون الجاذبيّة الذي يبدو كالعمود القويّ جدّا ، إلّا أنّه غير مرئيّ ، يحفظ الأجرام السماوية.

وقد صرّح في حديث رواه حسين بن خالد ، عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، أنّه قال : «سبحان الله! أليس الله يقول :( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ؟ قلت : بلى ، قال : «ثمّ عمد ولكن لا ترونها»(١) (٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الجملة أعلاه أحد معاجز القرآن المجيد العلميّة ، وقد أوردنا تفصيلا أكثر عنها في ذيل الآية (٢) من سورة الرعد.

ثمّ تقول الآية في الغاية من خلق الجبال :( وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) (٣) .

إنّ هذه الآية التي لها نظائر كثيرة في القرآن ، توضّح أنّ الجبال وسيلة لتثبيت الأرض ، وقد تثبت هذه الحقيقة اليوم من الناحية العلميّة من جهات عديدة :

فمن جهة أنّ أصولها مرتبطة مع بعضها ، وهي كالدرع المحكم يحفظ الكرة الأرضية أمام الضغوط الناشئة من الحرارة الداخلية ، ولو لا هذه الجبال فإنّ الزلازل المدمّرة كانت ستبلغ حدّا ربّما لا تدع معه للإنسان مجالا للحياة.

ومن جهة أنّ هذه السلسلة المحكمة تقاوم جاذبية القمر والشمس الشديدة ، وإلّا فسيحدث جزر ومدّ عظيمان في القشرة الأرضية أقوى من جزر ومدّ البحار ، وتجعل الحياة بالنسبة للإنسان مستحيلة.

ومن جهة أنّها تقف سدّا أمام العواصف والرياح العاتية ، وتقلّل من تماسّ الهواء

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٢ ، صفحة ٢٧٨.

(٢) إنّ الذين اعتبروا الآية أعلاه دليلا على نفي العمد مطلقا لا بدّ لهم من التقديم والتأخير في الآية ليقولوا : إنّ أصل الجملة كانت : خلق السماوات ترونها بغير عمد ، وهذا خلاف الظاهر قطعا.

(٣) «تميد» من (الميد) أي تزلزل الأشياء واضطرابها اضطرابا عظيما ، وجملة (أن تميد بكم) في تقدير : لئلّا تميد بكم.

٢٨

المجاور للأرض عند دوران الأرض حول نفسها إلى أقلّ حدّ ، ولو لم تكن هذه الجبال لكان سطح الأرض كالصحاري اليابسة ، وعرضة للأعاصير والزوابع المهلكة ، والعواصف الهوجاء المدمّرة ليل نهار(١) .

وبعد ذكر نعمة استقرار السماء بأعمدة الجاذبية. واستقرار وثبات الأرض بواسطة الجبال ، تصل النوبة إلى خلق الكائنات الحيّة واستقرارها ، بحيث تستطيع أن تضع أقدامها في محيط هادئ مطمئن ، فتقول :( وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ) .

إنّ التعبير بـ( مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ) إشارة إلى تنوّع الحياة في صور مختلفة ، ابتداء من الكائنات الحيّة المجهرية والتي ملأت جميع الأرجاء إلى الحيوانات العملاقة والمخوفة.

وكذلك الحيوانات المختلفة الألوان ، والمتفاوتة الأشكال التي تعيش في الماء والهواء من الطيور والزواحف ، والحشرات المختلفة وأمثالها ، والتي لكلّ منها عالمها الخاصّ تعكس الحياة في مئات الآلاف من المرايا.

إلّا أنّ من المعلوم أنّ هذه الحيوانات تحتاج إلى الماء والغذاء ، ولذلك فإنّ الجملة التالية أشارت إلى هذا الموضوع ، فقالت :( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .

وبهذا فإنّ الآية تبيّن أساس حياة كلّ الحيوانات ـ وخاصّة الإنسان ـ والذي يكوّنه الماء والنبات ، فالكرة الأرضية تعتبر سماطا واسعا ذا أغذية متنوّعة يمتدّ في جميع أنحائها ، ويصلح لكلّ نوع منها حسب خلقته ، ممّا يدلّ على عظمة الخالق جلّ وعلا.

وممّا يستحقّ الانتباه هو أنّه في بيان خلق الأقسام الثلاثة الاولى ذكرت الأفعال بصيغة الغائب ، وحين وصل الأمر إلى نزول المطر ونمو النباتات أتت

__________________

(١) لمزيد الاطلاع حول فوائد الجبال راجع ذيل الآية (٣) من سورة الرعد.

٢٩

الأفعال بصيغة المتكلّم ، فيقول : نحن أنزلنا من السماء ماء ، ونحن أنبتنا النباتات في الأرض.

وهذا بنفسه أحد فنون الفصاحة ، حيث إنّهم عند ما يريدون ذكر امور مختلفة ، فإنّهم يبيّنونها بشكلين أو أكثر ، كي لا يشعر السامع بأيّ نوع من الضجر والرتابة ، إضافة إلى أنّ هذا التعبير يوضّح أنّ نزول المطر ونمو النبات كانا محطّ اهتمام خاصّ.

ثمّ تشير هذه الآية مرّة أخرى إلى مسألة (الزوجيّة في عالم النباتات) وهي أيضا من معجزات القرآن العلميّة ، لأنّ الزوجيّة ـ أي وجود الذكر والأنثى ـ في عالم النباتات لم تكن ثابتة في ذلك الزمان بصورة واسعة ، والقرآن كشف الستار عنها. ولزيادة التفصيل حول هذه المسألة يمكنكم مراجعة ذيل الآية (٧) من سورة الشعراء.

ثمّ إنّ وصف أزواج النباتات بـ «الكريم» إشارة ضمنية إلى أنواع المواهب الموجودة فيها.

بعد ذكر عظمة الله في عالم الخلقة ، وذكر صور مختلفة من المخلوقات ، وجّهت الآية الخطاب إلى المشركين ، وجعلتهم موضع سؤال واستجواب ، فقالت :( هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) ؟!

من المسلّم أنّ أولئك لم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون أيّ من المخلوقات من خلق الأصنام ، وعلى هذا فإنّهم كانوا يقرّون بتوحيد الخالق ، مع هذا الحال كيف يستطيعون تعليل الشرك في العبادة؟! لأنّ توحيد الخالق دليل على توحيد الربّ وكون مدبّر العالم واحدا ، وهو دليل على توحيد العبوديّة.

ولذلك اعتبرت الآية عمل أولئك منطبقا على الظلم والضلال ، فقالت :( بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ومعلوم أنّ «الظلم» له معنى واسعا يشمل وضع كلّ شيء في غير موضعه ، ولمّا

٣٠

كان المشركون يربطون العبادة ، وتدبير العالم أحيانا بالأصنام ، فإنّهم كانوا مرتكبين لأكبر ظلم وضلالة.

ثمّ إنّ التعبير أعلاه يتضمّن إشارة لطيفة إلى ارتباط «الظلم» و «الضلال» ، لأنّ الإنسان عند ما لا يعرف مكانة الموجودات الموضوعية في العالم ، أو يعرفها ولا يراعيها ، ولا يرى كلّ شيء في مكانه ، فمن المسلّم أنّ هذا الظلم سيكون سببا للضلالة والضياع.

* * *

٣١

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) )

التّفسير

احترام الوالدين :

لتكميل البحوث السابقة حول التوحيد والشرك ، وأهميّة وعظمة القرآن ، والحكمة التي استعملت واتّبعت في هذا الكتاب السماوي ، فقد ورد الكلام في هذه الآيات التي التي نبحثها والآيات الاخرى التالية عن لقمان الحكيم ، وعن جانب

٣٢

من المواعظ المهمّة لهذا الرجل المتألّه في باب التوحيد ومحاربة الشرك ، وقد انعكست المسائل الأخلاقيّة المهمّة في مواعظ لقمان لابنه.

إنّ هذه المواعظ العشرة التي ذكرت ضمن ستّ آيات ، قد بيّنت بأسلوب رائع المسائل العقائدية ، إضافة إلى أصول الواجبات الدينيّة والمباحث الأخلاقية.

وسنبحث فيما بعد ـ في بحث الملاحظات ـ إن شاء الله تعالى ، من هو لقمان؟ وأيّة خصائص كان يمتلكها؟ ولكنّ ما نذكره هنا هو أنّ القرائن تبيّن أنّه لم يكن نبيّا ، بل كان رجلا ورعا مهذّبا انتصر في ميدان جهاد هوى النفس ، فكان أن فجّر الله تعالى في قلبه ينابيع العلم والحكمة.

ويكفي في عظمة مقامه أنّ الله قد قرن مواعظه بكلامه ، وذكرها في طيّات آيات القرآن.

أجل عند ما يتنوّر قلب الإنسان بنور الحكمة نتيجة للطهارة والتقوى ، فإنّ الكلام الإلهي يجري على لسانه ، ويقول ما يقوله الله ، ويفكّر بالشكل الذي يرضاه الله! بعد هذا التوضيح الموجز نعود إلى تفسير الآيات :

تقول الآية الاولى :( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (١) .

فما هي الحكمة؟

في معرض الحديث عن ماهية الحكمة ينبغي القول : إنّهم قد ذكروا للحكمة معاني كثيرة ، مثل : معرفة أسرار عالم الوجود ، والإحاطة والعلم بحقائق القرآن ،

__________________

(١) هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل يوجد لجملة (أن اشكر لله) شيء مقدّر أم لا؟ فالبعض يعتقد أنّ جملة (قلنا له) مقدّرة قبلها ، والبعض يقولون : لا تحتاج إلى تقدير ، و (أنّ) في جملة (أن اشكر) تفسيرية ، لأنّ الشكر بنفسه عين الحكمة ، والحكمة عينه. وكلا التّفسيرين يمكن قبوله.

٣٣

والوصول إلى الحقّ من جهة القول والعمل ، ومعرفة الله.

إلّا أنّ كلّ هذه المعاني يمكن جمعها في تعريف واحد ، فالحكمة التي يتحدّث عنها القرآن ، والتي كان الله قد آتاها لقمان ، كانت مجموعة من المعرفة والعلم ، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية.

وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، أنّه قال لهشام بن الحكم في تفسير هذه الآية : «إنّ الحكمة هي الفهم والعقل»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية ، أنّه قال : «أوتي معرفة إمام زمانه»(٢) .

ومن الواضح أنّ كلّا من هذه المفاهيم يعتبر أحد فروع معنى الحكمة الواسع ، ولا منافاة بينها.

وعلى كلّ حال ، فإنّ لقمان بامتلاكه هذه الحكمة كان يشكر الله ، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهيّة ، وكيفيّة استغلالها والاستفادة منها ، وكان يضعها بدقّة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق الهدف الذي خلقت من أجله ، وهذه هي الحكمة ، هي وضع كلّ شيء في موضعه ، وبناء على هذا فإنّ الشكر والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة.

وقد اتّضحت نتيجة الشكر والكفران للنعم بصورة ضمنية في الآية ، وهي أنّ شكر النعمة سيكون من صالح الإنسان وفي منفعته ، وأنّ كفران النعمة سيكون سببا لضرره أيضا ، لأنّ الله سبحانه غنيّ عن العالمين ، فلو أنّ كلّ الممكنات قد شكرته فلا يزيد في عظمته شيء ، ولو أنّ كلّ الكائنات كفرت فلا ينقص من كبريائه شيء! إنّ «اللام» في جملة( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ) لام الإختصاص ، و «اللام» في( لِنَفْسِهِ ) لام النفع ، وبناء على هذا ، فإنّ نفع الشكر ، والذي ودوام النعمة وكثرتها ، إضافة

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٣. كتاب العقل والجهل حديث ١٢.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٤ ، صفحة ١٩٦.

٣٤

إلى ثواب الآخرة يعود على الإنسان نفسه ، كما أنّ مضرّة الكفر تحيق به فقط.

والتعبير بـ( غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) إشارة إلى شكر الناس للأفراد العاديين أمّا أن يؤدّي إلى النفع المادّي للمشكور ، أو زيادة مكانة صاحبه في أنظار الناس ، إلّا أنّ أيّا من هذين الأمرين لا معنى له ولا مصداق في حقّ الله تعالى ، فإنّه غنيّ عن الجميع ، وهو أهل لحمد كلّ الحامدين وثنائهم ، فالملائكة تحمده ، وكلّ ذرّات الوجود والموجودات مشغولة بتسبيحه ، وإذا ما نطق إنسان بالكفر فليس له أدنى تأثير ، فحتّى ذرّات وجوده مشغولة بحمده وثنائه بلسان الحال!

وممّا يجدر ذكره أنّ الشكر قد ذكر بصيغة المضارع ، والذي يدلّ على الاستمرار ، أمّا الكفر فقد جاء بصيغة الماضي الذي يصدق حتّى على المرّة الواحدة ، وهذا إشارة إلى أنّ الكفران ولو لمرّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى عواقب وخيمة مؤلمة ، أمّا الشكر فإنّه لازم ، ويجب أن يكون مستمرّا ليطوي الإنسان مسيره التكاملي.

وبعد تعريف لقمان ومقامه العلمي والحكمي ، أشارت الآية التالية إلى اولى مواعظه ، وهي في الوقت نفسه أهمّ وصاياه لولده ، فقالت :( وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) .

إنّ حكمة لقمان توجب عليه أن يتوجّه قبل كلّ شيء إلى أهمّ المسائل الأساسية ، وهي مسألة التوحيد التوحيد في كلّ المجالات والأبعاد ، لأنّ كلّ حركة هدّامة ضدّ التوجّه الإلهي تنبع من الشرك ، من عبادة الدنيا والمنصب والهوى وأمثال ذلك ، والذي يعتبر كلّ منها فرعا من الشرك.

كما أنّ أساس كلّ الحركات الصحيحة البنّاءة هو التوحيد والتوجّه إلى الله ، وإطاعة أوامره ، والابتعاد عن غيره ، وكسر كلّ الأصنام في ساحة كبريائه!

وممّا يستحقّ الإشارة أنّ لقمان الحكيم قد جعل علّة نفي الشرك هو أنّ الشرك

٣٥

ظلم عظيم ، وقد احيط بالتأكيد من عدّة جهات(١) .

وأيّ ظلم أعظم منه ، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصافّ الله ودرجته ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجرّون الناس إلى الضلال والانحراف ، ويظلمونهم بجناياتهم وجرائمهم ، وهم يظلمون أنفسهم أيضا حيث ينزلونها من قمّة عزّة العبودية لله ويهوون بها إلى منحدر ذلّة العبودية لغيره.

والآيتان التاليتان جمل معترضة ذكرها الله تعالى في طيّات مواعظ لقمان ، لكنّ هذا الاعتراض لا يعني عدم الاتّصال والارتباط ، بل يعني الصلة الواضحة لكلام اللهعزوجل بكلام لقمان ، لأنّ في هاتين الآيتين بحثا عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما ، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر الله.

إضافة إلى أنّهما تعتبران تأكيدا على كون مواعظ لقمان لابنه خالصة ، لأنّ الوالدين مع هذه العلاقة القويّة وخلوص النيّة لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلّا ما فيه خير وصلاح الولد ، فتقول أوّلا :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الامّ العظيمة ، فتقول :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ) (٢) .

وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية ، إذ أوضحت التجارب أنّ الامّهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن ، لأنّهنّ يصرفن خلاصة وجودهنّ في تغذية وتنمية الجنين ، ويقدّمن له من موادهنّ الحياتية أفضلها ، ولذلك فإنّ الامّهات أثناء فترة الحمل يبتلين بنقص أنواع الفيتامينات وفي حالة عدم تعويض هذا النقص فسيؤدّي إلى آلام ومتاعب كثيرة.

وهذا الأمر يستمر حتّى في فترة الرضاعة ، لأنّ اللبن عصارة وجود الامّ ، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) كما أشير إلى ذلك في

__________________

(١) إنّ كلّا من (أن) و «اللام» ، وكون الجملة اسميّة من أدوات التأكيد.

(٢) إنّ جملة (وهنا على وهن) يمكن أن تكون حالا للامّ بتقدير كلمة «ذات» ، فكان تقديرها (حملته أمّه ذات وهن على وهن). واحتمل أيضا أن تكون مفعولا مطلقا لفعل مقدّر من مادّة (وهن) فكان تقديره : (تهن وهنا على وهن).

٣٦

موضع آخر من القرآن :( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (١) ، والمراد فترة الرضاعة الكاملة ، وإن كانت تتمّ أحيانا بفترة أقلّ.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الامّ في هذه ال (٣٣) شهرا ـ فترة الحمل ، وفترة الرضاع ـ تبدي وتقدّم أعظم تضحية لولدها ، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي ، أو الجسمي ، أو من جهة الخدمات والرعاية.

والملفت للنظر هنا أنّها توصي في البداية بالوالدين معا ، إلّا أنّها عند بيان المشاقّ والمتاعب تؤكّد على متاعب الامّ ، لتنبّه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقّها العظيم.

ثمّ تقول :( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصلّي عليك ، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين ، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسئولية إيصال نعمي إليك. فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه!

ويقول الله تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب :( إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) . نعم ، فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كلّ هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقّة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب الله. وكذلك شكر نعمة وجود الأبوين وعواطفهما الصادقة الطاهرة لينجح في ذلك الحساب وتلك المحكمة.

وفي هذا المجال التفت بعض المفسّرين إلى مسألة لطيفة ، وهي أنّه قد ورد التأكيد على رعاية حقوق الأبوين مرارا في القرآن المجيد ، إلّا أنّ التوصية بالأولاد تلاحظ قليلا ـ ما عدا مورد النهي عن قتل الأولاد ، والتي كانت عادة مشؤومة قبيحة واستثنائية في عصر الجاهلية ـ وذلك لأنّ الوالدين ، وبحكم

__________________

(١) البقرة ، ٢٣٣.

٣٧

عواطفهما القويّة ، قلّ ما يهملوا أولادهما بيد النسيان ، في حين يلاحظ بكثرة أنّ الأولاد ينسون الأبوين ، وخاصّة عند الكبر والعجز ، وتعتبر هذه آلم وأشدّ حالة لهما ، وأسوأ صور كفران النعمة بالنسبة للأولاد(١) .

إنّ الوصيّة بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الاشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتّى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان ، لكنّ الآية التالية تقول :( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان بأمّه وأبيه مقدّمة على علاقته بالله مطلقا ، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينيّة أبدا.

جملة( جاهَداكَ ) إشارة إلى أنّ الأبوين قد يظنّان أحيانا أنّهما يريدان سعادة الولد ، ويسعيان إلى جرّه إلى عقيدتهما المنحرفة والإيمان بها ، وهذا يلاحظ لدى كلّ الآباء والامّهات.

إنّ واجب الأولاد أن لا يستسلموا أبدا أمام هذه الضغوط ، ويجب أن يحافظوا على استقلالهم الفكري ، ولا يساوموا على عقيدة التوحيد ، أو يبدّلوها بأيّ شيء.

ثمّ إنّ جملة( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) تشير ضمنا إلى أنّنا لو نتجاهل أدلّة بطلان الشرك ، ولم نقم لها وزنا ، فإنّه لا يوجد دليل على إثباته ، ولا يستطيع أيّ متعنّت إثبات الشرك بالدليل.

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ الشرك إن كانت له حقيقة ، فينبغي أن يكون هناك دليل على إثباته ، ولمّا لم يكن هناك دليل على إثباته ، فإنّ هذا بنفسه دليل على بطلانه.

ولمّا كان من الممكن أيضا أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب استخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم احترامهما ، ولذلك أضافت الآية أنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلا على وجوب قطع العلاقة معهما ، بل تأمره الآية أن

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، الجزء ٦ ، ص ٤٨٤.

٣٨

( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

فلاطفهما وأظهر المحبّة لهما في الحياة الدنيويّة والمعاشرة ، ولا تستسلم لأفكارهما واقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينيّة ، وهذه بالضبط نقطة الاعتدال الأصليّة التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين ، ولذا يضيف بعد ذلك( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ ) لأنّ المصير إليه سبحانه( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

إنّ سبب النفي والإثبات المتلاحق ، والأوامر والنواهي المتتابعة في الآيات أعلاه هو أن يجد المسلمون الخطّ الأصلي ويشخّصوه في مثل هذه المسائل ، حيث يبدو في أوّل الأمر أنّ هناك تناقضا في أداء هذين الواجبين ، فإن تفكّروا قليلا فإنّ المسير الصحيح سيكون نصب أعينهم ، وسيسيرون فيه دون أدنى إفراط ولا تفريط ، وهذه الدقّة واللطافة القرآنية في أمثال هذه الدقائق من صور فصاحة القرآن وبلاغته العميقة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية أعلاه تشبه ما جاء في الآية (٨) من سورة العنكبوت ، حيث تقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وقد أوردنا في ذيل الآية (٨) من سورة العنكبوت سبب نزول لها ذكر في بعض التفاسير.

بحثان

١ ـ من هو لقمان؟

لقد ورد اسم «لقمان» في آيتين من القرآن في هذه السورة ، ولا يوجد في القرآن دليل صريح على أنّه كان نبيّا أم لا ، كما أنّ أسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي بأنّه لم يكن نبيّا ، لأنّه يلاحظ في القرآن أنّ الكلام في شأن الأنبياء عادة يدور حول الرسالة والدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك وانحرافات البيئة ، وعدم

٣٩

المطالبة بالأجر والمكافأة ، وكذلك بشارة الأمم وإنذارها ، في حين أنّ أيّا من هذه الأمور لم يذكر في شأن لقمان ، والذي ورد هو مجموعة مواعظ خاصّة مع ولده (رغم شموليتها وعموميتها) ، وهذا دليل على أنّه كان رجلا حكيما وحسب.

وفي حديثه عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «حقّا أقول : لم يكن لقمان نبيّا ، ولكن كان عبدا كثير التفكّر ، حسن اليقين ، أحبّ الله فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة».

وجاء في بعض التواريخ : أنّ لقمان كان عبدا أسود من سودان مصر ، ولكنّه إلى جانب وجهه الأسود كان له قلب مضيء وروح صافية ، وكان يصدق في القول من البداية ، ولا يمزج الأمانة بالخيانة ، ولم يكن يتدخّل فيما لا يعنيه(١) .

واحتمل بعض المفسّرين نبوّته ، لكن ـ كما قلنا ـ لا يوجد دليل على ذلك ، بل لدينا شواهد واضحة على نقيض ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات : أنّ شخصا سأل لقمان : ألم تكون ترعى معنا؟ قال:نعم.

قال الرجل : فمن أين أتاك كلّ هذا العلم والحكمة؟

قال : قدر الله ، وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، والصمت عمّا لا يعنيني(٢) .

وورد كذلك في ذيل الحديث الذي نقلناه عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كان لقمان نائما نصف النهار ، إذ جاءه نداء : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت : إن خيّرني ربّي قبلت العافية ، ولم أقبل البلاء ، وإن عزم عليّ فسمعا وطاعة ، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني.

فقالت الملائكة : دون أن يراهم : لم يا لقمان؟

قال : لأنّ الحكم أشدّ المنازل وآكدها ، يغشاه الظلم من كلّ مكان ، إن وقي فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي

__________________

(١) قصص القرآن. شرح أحوال لقمان.

(٢) مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510