الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل15%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156477 / تحميل: 5909
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

نفي الآلهة غير الله لا نفي الآلهة و إثبات الإله تعالى(1) و هو ظاهر فلا حاجة إلى ما تكلّف به بعضهم أنّ الضمير لكلمة التوحيد المعلوم ممّا تكلّم به إبراهيمعليه‌السلام .

و المراد بعقبه ذرّيّته و ولده، و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يرجعون من عبادة آلهة غير الله إلى عبادته تعالى أي يرجع بعضهم - و هم العابدون لغير الله بدعوة بعضهم و هم العابدون لله - إلى عبادته تعالى، و بهذا يظهر أنّ المراد ببقاء الكلمة في عقبه عدم خلوّهم عن الموحّد ما داموا، و لعلّ هذا عن استجابة دعائهعليه‌السلام إذ يقول:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) إبراهيم: 35.

و قيل: الضمير في( جعل) لإبراهيمعليه‌السلام فهو الجاعل هذه الكلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجعوا إليها، و المراد بجعلها باقية فيهم وصيّته لهم بذلك كما قال تعالى:( وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) البقرة: 132.

و أنت خبير بأنّ الوصيّة بكلمة التوحيد لا تسمّى جعلاً للكلمة باقية في العقب و إن صحّ أن يقال: أراد بها ذلك لكنّه غير جعلها باقية فيهم.

و قيل: المراد أنّ الله جعل الإمامة كلمة باقية في عقبه و سيجي‏ء الكلام فيه في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و يظهر من الآية أنّ ذرّيّة إبراهيمعليه‌السلام لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: ( بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) إضراب عمّا يفهم من الآية السابقة، و المعنى: أنّ رجوعهم عن الشرك إلى التوحيد كان هو الغاية المرجوّة منهم لكنّهم لم يرجعوا بل متّعت هؤلاء من قومك و آباءهم فتمتّعوا بنعمي( حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) .

و لعلّ الالتفات إلى التكلّم وحده في قوله:( بَلْ مَتَّعْتُ ) للإشارة إلى تفخيم

____________________

(1) و ذلك أن ( الله ) فيها مرفوع على البدلية لا منصوب على الاستثناء.

١٠١

جرمهم و أنّهم لا يقصدون في كفرانهم للنعمة و كفرهم بالحقّ و رمية بالسحر إلّا إيّاه تعالى وحده.

و المراد بالحقّ الّذي جاءهم هو القرآن، و بالرسول المبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ ) هذا طعنهم في الحقّ الّذي جاءهم و هو القرآن و يستلزم الطعن في الرسول. كما أنّ قولهم الآتي:( لَوْ لا نُزِّلَ ) إلخ، كذلك.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) المراد بالقريتين مكّة و الطائف، و مرادهم بالعظمة - على ما يفيده السياق - ما هو من حيث المال و الجاه اللّذين هما ملاك الشرافة و علوّ المنزلة عند أبناء الدنيا، و المراد بقوله:( رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) رجل من إحدى القريتين حذف المضاف إيجازاً.

و مرادهم أنّ الرسالة منزلة شريفة إلهيّة لا ينبغي أن يتلبّس به إلّا رجل شريف في نفسه عظيم مطاع في قومه، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقير فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن الّذي جاء به وحياً نازلاً من الله فلو لا نزّل على رجل عظيم من مكّة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة.

و في المجمع: و يعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين الوليد بن المغيرة من مكّة و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفيّ من الطائف. عن قتادة، و قيل: عتبة بن أبي ربيعة من مكّة و ابن عبد ياليل من الطائف. عن مجاهد، و قيل: الوليد بن المغيرة من مكّة و حبيب بن عمر الثقفيّ من الطائف. عن ابن عبّاس. انتهى.

و الحقّ أنّ ذلك من تطبيق المفسّرين و إنّما قالوا ما قالوا على الإبهام و أرادوا أحد هؤلاء من عظماء القريتين على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلخ، المراد بالرحمة - على ما يعطيه السياق - النبوّة.

و قال الراغب: العيش الحياة المختصّة بالحيوان، و هو أخصّ من الحياة لأنّ الحياة تقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك، و يشتقّ منه المعيشة لما يتعيّش

١٠٢

به. انتهى. و قال: التسخير سياقه إلى الغرض المختصّ قهراً - إلى أن قال -: و السخريّ هو الّذي يُقهر فيتسخّر بإرادته. انتهى.

و الآية و الآيتان بعدها في مقام الجواب عن قولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ ) إلخ، و محصّلها أنّ قولهم هذا تحكّم ظاهر ينبغي أن يتعجّب منه فإنّهم يحكمون فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها و يرتزقون و هي رحمة منّا لا قدر لها و لا منزلة عندنا و ليست إلّا متاعاً زائلاً نحن نقسمها بينهم و هي خارجة عن مقدرتهم و مشيّتهم فكيف يقسمون النبوّة الّتي هي الرحمة الكبرى و هي مفتاح سعادة البشر الدائمة و الفلاح الخالد فيعطونها لمن شاؤا و يمنعونها ممّن شاؤا.

فقوله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) الاستفهام للإنكار، و الالتفات إلى الغيبة في قوله:( رَحْمَتَ رَبِّكَ ) و لم يقل: رحمتنا، للدلالة على اختصاص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعناية الربوبيّة في النبوّة.

و المعنى: أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة لله خاصّة به حتّى يمنعوك منها و يعطوها لمن هووا.

و قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) بيان لوجه الإنكار في الجملة السابقة بأنّهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل و لا منزلة له و هو معيشتهم في الحياة الدنيا فنحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون ما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره و هو النبوّة الّتي هي رحمة ربّك الخاصّة به.

و الدليل على أنّ الأرزاق و المعايش ليست بيد الإنسان اختلاف أفراده بالغنى و الفقر و العافية و الصحّة و في الأولاد و سائر ما يعدّ من الرزق، و كلّ يريد أن يقتني منها ما لا مزيد عليه، و لا يكاد يتيسّر لأحد منهم جميع ما يتمنّاه و يرتضيه فلو كان ذلك بيد الإنسان لم يوجد معدم فقير في شي‏ء منها بل لم يختلف اثنان فيها فاختلافهم فيها أوضح دليل على أنّ الرزق مقسوم بمشيّة من الله دون الإنسان.

على أنّ الإرادة و العمل من الإنسان بعض الأسباب الناقصة لحصول المطلوب الّذي هو الرزق و وراءهما أسباب كونيّة لا تحصى خارجة عن مقدرة الإنسان لا يحصل

١٠٣

المطلوب إلّا بحصولها جميعاً و اجتماعها عليه و ليست إلّا بيد الله الّذي إليه تنتهي الأسباب.

هذا كلّه في المال و أمّا الجاه فهو أيضاً مقسوم من عندالله فإنّه يتوقّف على صفات خاصّة بها ترتفع درجات الإنسان في المجتمع فيتمكّن من تسخير من هو دونه كالفطنة و الدهاء و الشجاعة و علوّ الهمّة و إحكام العزيمة و كثرة المال و العشيرة و شي‏ء من ذلك لا يتمّ إلّا بصنع من الله سبحانه، و ذلك قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

فيتبيّن بمجموع القولين أعني قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا ) إلخ، و قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) إلخ، إنّ القاسم للمعيشة و الجاه بين الناس هو الله سبحانه لا غير، و قوله:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي النبوّة خير من المال فكيف يملكون قسمها و هم لا يملكون قسم المال فيما بينهم.

و من الممكن أن يكون قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) عطف تفسير على قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ) إلخ، يبيّن قسم المعيشة بينهم ببيان علل انقسامها في المجتمع الإنسانيّ، بيان ذلك أنّ كثرة حوائج الإنسان في حياته الدنيا بحيث لا يقدر على رفع جميعها في عيش انفراديّ أحوجته إلى الاجتماع مع غيره من الأفراد على طريق الاستخدام و الاستدرار أوّلاً و على طريق التعاون و التعاضد ثانياً كما مرّ في مباحث النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب.

فآل الأمر إلى المعاوضة العامّة المفيدة لنوع من الاختصاص بأن يعطي كلّ ممّا عنده من حوائج الحياة ما يفضل من حاجته و يأخذ به من الغير ما يعادله ممّا يحتاج إليه فيعطي مثلاً ما يفضل من حاجته من الماء الّذي عنده و قد حصّله و اختصّ به و يأخذ من غيره ما يزيد على قوته من الغذاء، و لازم ذلك أن يسعى كلّ فرد بما يستعدّ له و يحسنه من السعي فيقتني ممّا يحتاج إليه ما يختصّ به، و لازم ذلك أن يحتاج غيره إليه فيما عنده من متاع الحياة فيتسخّر له فيفيده ما يحتاج إليه كالخبّاز يحتاج إلى ما عند السقّاء من الماء و بالعكس فيتعاونان بالمعاوضة و كالمخدوم يتسخّر للخادم لخدمته و الخادم يتسخّر للمخدوم لماله و هكذا فكلّ بعض من المجتمع مسخّر

١٠٤

لآخرين بما عنده و الآخرون متسخّرون له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط لما أنّ كلّا يرتفع على غيره بما يختصّ به ممّا عنده بدرجات مختلفة باختلاف تعلّق الهمم و القصود به.

و على ما تقدّم فالمراد بالمعيشة كلّ ما يعاش به أعمّ من المال و الجاه أو خصوص المال و غيره تبع له كما يؤيّده قوله ذيلاً:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) فإنّ المراد به المال و غيره من لوازم الحياة مقصود بالتبع.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً - إلى قوله -وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ) الآية و ما يتلوها لبيان أنّ متاع الدنيا من مال و زينة لا قدر لها عند الله سبحانه و لا منزلة.

قالوا: المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم مجتمعين على سنّة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أنّ زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله و المؤمن صفر الكفّ منها مطلقاً، و المعارج الدرجات و المصاعد.

و المعنى: و لو لا أن يجتمع الناس على الكفر لو رأوا تنعّم الكافرين و حرمان المؤمنين لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة و درجات عليها يظهرون لغيرهم.

و يمكن أن يكون المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم جميعاً على نسبة واحدة تجاه الأسباب العاملة في حظوظ العيش من غير فرق بين المؤمن و الكافر، فمن سعى سعيه للرزق و وافقته الأسباب و العوامل الموصلة الاُخرى نال منه مؤمناً كان أو كافراً، و من لم يجتمع له حرم ذلك و قتر عليه الرزق مؤمناً أو كافراً.

و المعنى: لو لا ما أردنا أن يتساوى الناس تجاه الأسباب الموصلة إلى زخارف الدنيا و لا يختلفوا فيها بالإيمان و الكفر لجعلنا لمن يكفر، إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً ) تنكير( أَبْواباً ) و( سُرُراً ) للتفخيم، و الزخرف الذهب أو مطلق الزينة، قال في المجمع: الزخرف كمال حسن الشي‏ء و منه قيل للذهب، و يقال: زخرفه زخرفة إذا حسّنه و زيّنه، و منه

١٠٥

قيل للنقوش و التصاوير: زخرف، و في الحديث: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل الكعبة حتّى أمر بالزخرف فنحّي. انتهى. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) ( إِنْ ) للنفي و( لَمَّا ) بمعنى إلّا أي ليس كلّ ما ذكر من مزايا المعيشة إلّا متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية الّتي لا تدوم.

و قوله:( وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) المراد بالآخرة بقرينة المقام الحياة الآخرة السعيدة كان الحياة الآخرة الشقيّة لا تعدّ حياة.

و المعنى: أنّ الحياة الآخرة السعيدة بحكم من الله تعالى و قضاء منه مختصّة بالمتّقين، و هذا التخصيص و القصر يؤيّد ما قدّمناه من معنى كون الناس اُمّة واحدة في الدنيا بعض التأييد.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) يقال: عشي يعشى عشاً من باب علم يعلم إذا كان ببصره آفة لا يبصر مطلقاً أو بالليل فقط، و عشا يعشو عشواً و عشوّاً من باب نصر ينصر إذا تعامى و تعشّى بلا آفة، و التقييض التقدير و الإتيان بشي‏ء إلى شي‏ء، يقال: قيّضه له إذا جاء به إليه.

لمّا انتهى الكلام إلى ذكر المتّقين و أنّ الآخرة لهم عندالله قرنه بعاقبة أمر المعرضين عن الحقّ المتعامين عن ذكر الرحمن مشيراً إلى أمرهم من أوّله و هو أنّ تعاميهم عن ذكر الله يورثهم ملازمة قرناء الشياطين فيلازمونهم مضلّين لهم حتّى يردوا عذاب الآخرة معهم.

فقوله:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ) أي من تعامى عن ذكر الرحمن و نظر إليه نظر الأعشى جئنا إليه بشيطان، و قد عبّر تعالى عنه في موضع آخر بالإرسال فقال:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) مريم: 83، و إضافة الذكر إلى الرحمن للإشارة إلى أنّه رحمة.

و قوله:( فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) أي مصاحب لا يفارقه.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ضمير

١٠٦

( أنّهم ) للشياطين، و ضمائر الجمع الباقية للعاشين عن الذكر، و اعتبار الجمع نظراً إلى المعنى في( وَ مَنْ يَعْشُ ) إلخ، و الصدّ الصرف، و المراد بالسبيل ما يدعو إليه الذكر من سبيل الله الّذي هو دين التوحيد.

و المعنى: و إنّ الشياطين ليصرفون العاشين عن الذكر و يحسب العاشون أنّهم - أي العاشين أنفسهم - مهتدون إلى الحقّ.

و هذا أعني حسبانهم أنّهم مهتدون عند انصدادهم عن سبيل الحقّ أمارة تقييض القرين و دخولهم تحت ولاية الشيطان فإنّ الإنسان بطبعه الأوّليّ مفطور على الميل إلى الحقّ و معرفته إذا عرض عليه ثمّ إذا عرض عليه فأعرض عنه اتّباعاً للهوى و دام عليه طبع الله على قلبه و أعمى بصره و قيّض له القرين فلم ير الحقّ الّذي تراءى له و طبق الحقّ الّذي يميل إليه بالفطرة على الباطل الّذي يدعوه إليه الشيطان فيحسب أنّه مهتد و هو ضالّ و يخيّل إليه أنّه على الحقّ و هو على الباطل.

و هذا هو الغطاء الّذي يذكر تعالى أنّه مضروب عليهم في الدنيا و أنّه سينكشف عنهم يوم القيامة، قال تعالى:( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي - إلى أن قال -قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) الكهف: 104، و قال فيما يخاطبه يوم القيامة و معه قرينه:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) - إلى أن قال -( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) ق: 27.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ( حَتَّى ) غاية لاستمرار الفعل الّذي يدلّ عليه قوله في الآية السابقة:( لَيَصُدُّونَهُمْ ) و قوله:( يَحْسَبُونَ ) أي لا يزال القرناء يصدّونهم و لا يزالون يحسبون أنّهم مهتدون حتّى إذا جاءنا الواحد منهم.

و المراد بالمجي‏ء إليه تعالى البعث، و ضمير( جاء ) و( قال ) راجع إلى الموصول باعتبار لفظه، و المراد بالمشرقين المشرق و المغرب غلّب فيه جانب المشرق.

و المعنى: و أنّهم يستمرّون على صدّهم عن السبيل و يستمرّ العاشون عن الذكر

١٠٧

على حسبان أنّهم مهتدون في انصدادهم حتّى إذا حضر الواحد منهم عندنا و معه قرينه و كشف له عن ضلاله و ما يستتبعه من العذاب الأليم، قال مخاطباً لقرينه متأذّياً من صحابته: يا ليت بيني و بينك بعد المشرق و المغرب فبئس القرين أنت.

و يستفاد من السياق أنّهم معذّبون بصحابة القرناء وراء عذابهم بالنار، و لذا يتمنّون التباعد عنهم و يخصّونه بالذكر و ينسون سائر العذاب.

قوله تعالى: ( وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الظاهر أنّه معطوف على ما قبله من وصف حالهم، و المراد باليوم يوم القيامة، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) و المراد بضمير جمع المخاطب العاشون عن الذكر و قرناؤهم، و( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) واقع موقع التعليل.

و المراد - و الله أعلم - أنّكم إذا أساء بعضكم إلى بعض في الدنيا فأوقعه في مصيبة ربّما تسليتم بعض التسلّي لو ابتلي هو نفسه بمثل ما ابتلاكم به فينفعكم ذلك تسلّياً و تشفّياً لكن لا ينفعكم يوم القيامة اشتراك قرنائكم معكم في العذاب فإنّ اشتراكهم معكم في العذاب و كونهم معكم في النار هو بعينه عذاب لكم.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) ضمير راجع إلى تمنّيهم المذكور في الآية السابقة، و قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدّنيا باتّباعكم إيّاهم في الكفر و المعاصي، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليل لنفي النفع و المعنى: و لن ينفعكم تمنّي التباعد عنكم لأنّ حقّكم أن تشتركوا أنتم و قرناؤكم في العذاب.

و فيه أنّ فيه تدافعاً فإنّه أخذ قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) تعليلاً لنفي نفع التمنّي أوّلاً و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليلاً له ثانياً و لازم التطابق بين التعليلين أن يذكر ثانياً القضاء على المتمنّين التابعين بالعذاب لا باشتراك التابعين و المتبوعين فيه.

و قال بعضهم: معنى الآية أنّه لا يخفّف الاشتراك عنكم شيئاً من العذاب لأنّ

١٠٨

لكلّ واحد منكم و من قرنائكم الحظّ الأوفر من العذاب.

و فيه أنّ ما ذكر من سبب عدم النفع و إن فرض صحيحاً في نفسه لكن لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية و لا سياق الكلام.

و قال بعضهم: المعنى: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمّل أعبائها و تقسّمهم لعنائها لأنّ لكلّ منكم و من قرنائكم من العذاب ما لا تبلغه طاقته.

و فيه ما في سابقه من الكلام، و ردّ أيضاً بأنّ الانتفاع بذلك الوجه ليس ممّا يخطر ببالهم حتّى يردّ عليهم بنفيه.

قوله تعالى: ( أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) لمّا ذكر تقييضه القرناء لهم و تقليبهم إدراكهم بحيث يرون الضلال هدىً و لا يقدرون على معرفة الحقّ فرّع عليه أن نبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هؤلاء صمّ عمي لا يقدر هو على إسماعهم كلمة الحقّ و هدايتهم إلى سبيل الرشد فلا يتجشّم و لا يتكلّف في دعوتهم و لا يحزن لإعراضهم، و الاستفهام للإنكار، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) المراد بالإذهاب به توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الانتقام منهم، و قيل: المراد إذهابه بإخراجه من بينهم، و قوله:( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) أي لا محالة، و المراد بإراءته ما وعدهم الانتقام منهم قبل توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو حال كونه بينهم، و قوله:( فإنا عليهم مقتدرون) أي اقتدارنا يفوق عليهم.

و قوله في الصدر:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) أصله إن نذهب بك زيدت عليه ما و النون للتأكيد، و محصّل الآية إنّا منتقمون منهم بعد توفّيك أو قبلها لا محالة.

قوله تعالى: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الظاهر أنّه تفريع لجميع ما تقدّم من أنّ إنزال الذكر من طريق الوحي و النبوّة من سننه تعالى و أنّ كتابه النازل عليه حقّ و هو رسول مبين لا يستجيب دعوته إلّا المتّقون و لا يعرض عنها إلّا قرناء الشياطين، و لا مطمع في إيمانهم و سينتقم الله منهم.

١٠٩

فأكّد عليه الأمر بعد ذلك كلّه أن يجدّ في التمسّك بالكتاب الّذي اُوحي إليه لأنّه على صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالذكر ذكر الله، و بهذا المعنى تكرّر مراراً في السورة، و اللام في( لَكَ وَ لِقَوْمِكَ ) للاختصاص بمعنى توجّه ما فيه من التكاليف إليهم، و يؤيّده بعض التأييد قوله:( وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) أي عنه يوم القيامة.

و عن أكثر المفسّرين أنّ المراد بالذكر الشرف الّذي يذكر به، و المعنى: و إنّه لشرف عظيم لك و لقومك من العرب تذكرون به بين الاُمم.

قوله تعالى: ( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من اُممهم و علماء دينهم كقوله تعالى:( فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) يونس: 94، و فائدة هذا المجاز أنّ المسؤل عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم.

و قيل: المراد السؤال من أهل الكتابين: التوراة و الإنجيل فإنّهم و إن كفروا لكنّ الحجّة تقوم بتواتر خبرهم، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و التكليف لاُمّته.

و بُعد الوجهين غير خفيّ و يزيد الثاني بعداً التخصيص بأهل الكتابين من غير مخصّص ظاهر.

و قيل: الآية ممّا خوطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المعراج أن يسأل أرواح الأنبياءعليهم‌السلام و قد اجتمع بهم أن يسألهم هل جاؤا بدين وراء دين التوحيد.

و قد وردت به غير واحدة من الروايات عن أئمّة أهل البيتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سيوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) و قيل: الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين: عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

١١٠

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر و قد طبّقت الآية في بعضها على الإمامة في عقب الحسينعليه‌السلام .

و التأمّل في الروايات يعطي أنّ بناءها على إرجاع الضمير في( جَعَلَها ) إلى الهداية المفهومة من قوله:( سَيَهْدِينِ ) و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) أنّ الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم و إيرادهم درجات القرب من الله سبحانه و إنزال كلّ ذي عمل منزلة الّذي يستدعيه عمله، و حقيقة الهداية من الله سبحانه و تنسب إليه بالتبع أو بالعرض.

و فعليّة الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أوّلاً ثمّ تفيض عنه إلى غيره فله أتمّ الهداية و لغيره ما هي دونها و ما ذكره إبراهيمعليه‌السلام في قوله:( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتمّ مراتب الهداية الّتي هي حظّ الإمام منها فهي الإمامة و جعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك.

و في الإحتجاج، عن العسكريّ عن أبيهعليه‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة إذ قال له عبدالله بن اُميّة المخزوميّ: لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولاً لبعث أجلّ من فيما بيننا مالاً و أحسنه حالاً فهلاً نزل هذا القرآن الّذي تزعم أنّ الله أنزله عليك- و ابتعثك به رسولاً، على رجل من القريتين عظيم: إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة و إمّا عروة بن مسعود الثقفيّ بالطائف.

ثمّ ذكرعليه‌السلام في كلام طويل جواب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله بما في معنى الآيات.

ثمّ قال: و ذلك قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال الله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) يا محمّد( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) فأحوجنا بعضنا إلى بعض أحوج هذا إلى مال ذلك و أحوج ذلك إلى سلعة هذا و إلى خدمته.

فترى أجلّ الملوك و أغنى الأغنياء محتاجاً إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب إمّا سلعة معه ليست معه، و إمّا خدمة يصلح لها لا يتهيّأ لذلك الملك أن يستغني إلّا به

١١١

و أمّا باب من العلوم و الحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير الّذي يحتاج إلى مال ذلك الملك الغنيّ، و ذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.

ثمّ ليس للملك أن يقول: هلّا اجتمع إلي مالي علم هذا الفقير و لا للفقير أن يقول: هلّا اجتمع إلى رأيي و معرفتي و علمي و ما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنيّ، ثمّ قال تعالى:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

ثمّ قال: يا محمّد( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.

و في الكافي، بإسناده عن سعيد بن المسيّب قال: سألت عليّ بن الحسينعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) قال: عنى بذلك اُمّة محمّد أن يكونوا على دين واحد كفّاراً كلّهم( لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ) إلى آخر الآية.

و في تفسير القمّي، بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) يا محمّد من مكّة إلى المدينة فإنّا رادّوك إليها و منتقمون منهم بعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه عن قتادة في قوله:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) قال: قال أنس ذهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بقيت النقمة و لم ير الله نبيّه في اُمّته شيئاً يكرهه حتّى قبض و لم يكن نبيّ قطّ إلّا و قد رأى العقوبة في اُمّته إلّا نبيّكم رأى ما يصيب اُمّته بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتّى قبض.

أقول: و روي فيه هذا المعنى عنه و عن عليّ بن أبي طالب و عن غيرهما بطرق اُخرى.

و فيه، أخرج ابن مردويه من طريق محمّد بن مروان عن الكلبيّ عن أبي صالح عن جابر بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ )

١١٢

نزلت في عليّ بن أبي طالب أنّه ينتقم من الناكثين و القاسطين بعدي.

أقول: ظاهر الرواية و ما قبلها و ما في معناهما أنّ الوعيد في الآيتين للمنحرفين عن الحقّ من أهل القبلة دون كفّار قريش.

و في الإحتجاج، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث طويل يقول فيه: و أمّا قوله تعالى:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) فهذا من براهين نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي آتاه الله إيّاها و أوجب به الحجّة على سائر خلقه لأنّه لمّا ختم به الأنبياء و جعله الله رسولاً إلى جميع الاُمم و سائر الملل خصّه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوه من عزائم الله و آياته و براهينه. الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن أبي الربيع عن أبي جعفرعليه‌السلام في جواب ما سأله نافع بن الأزرق، و رواه في الدرّ المنثور، بطرق عن سعيد بن جبير و ابن جريح و ابن زيد.

١١٣

( سورة الزخرف الآيات 46 - 56)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 46 ) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ( 47 ) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا  وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 48 ) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( 50 ) وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( 51 ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ( 52 ) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( 53 ) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 54 ) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 55 ) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ ( 56 )

( بيان‏)

لمّا ذكر طغيانهم بعد تمتيعهم بنعمه و رميهم الحقّ الّذي جاءهم به رسول مبين بأنّه سحر و أنّهم قالوا:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) فرجّحوا الرجل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكثرة ماله مثّل لهم بقصّة موسىعليه‌السلام و فرعون و قومه

١١٤

حيث أرسله الله إليهم بآياته الباهرة فضحكوا منها و استهزؤا بها، و احتجّ فرعون فيما خاطب به قومه على أنّه خير من موسى بملك مصر و أنهار تجري من تحته فاستخفّهم فأطاعوه فآل أمر استكبارهم أن انتقم الله منهم فأغرقهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) اللّام في( لَقَدْ ) للقسم، و الباء في قوله:( بِآياتِنا ) للمصاحبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ ) المراد بمجيئهم بالآيات إظهار المعجزات للدلالة على الرسالة، و المراد بالضحك ضحك الاستهزاء استخفافاً بالآيات.

قوله تعالى: ( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) إلخ، الاُخت المثل، و قوله:( هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) كناية عن كون كلّ واحدة منها بالغة في الدلالة على حقّيّة الرسالة، و جملة( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ) إلخ، حال من ضمير( مِنْها ) ، و المعنى: فلمّا أتاهم بالمعجزات إذا هم منها يضحكون و الحال أنّ كلّاً منها تامّة كاملة في إعجازها و دلالتها من غير نقص و لا قصور.

و قوله:( وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي رجاء أن يرجعوا عن استكبارهم إلى قبول رسالته، و المراد بالعذاب الّذي اُخذوا به آيات الرجز الّتي نزلت عليهم من السنين و نقص من الثمرات و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم آيات مفصّلات كما في سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) ما في( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) مصدريّة أي بعهده عندك و المراد به عهده أن يكشف عنهم العذاب لو آمنوا كما قيل أو أن يستجيب دعاءه إذا دعا كما احتمله بعضهم.

و قولهم:( يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ) خطاب استهزاء استكباراً منهم كما قالوا: ادّع ربّك و لم يقولوا: ادع ربّنا أو ادع الله استكباراً، و المراد أنّهم طلبوا منه الدعاء لكشف العذاب عنهم و وعدوه الاهتداء.

١١٥

و قيل: معنى الساحر في عرفهم العالم و كان الساحر عندهم عظيماً يعظّمونه و لم يكن صفة ذمّ. و ليس بذاك بل كانوا ساخرين على استكبارهم كما يشهد به قولهم:( ادْعُ لَنا رَبَّكَ ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) النكث نقض العهد و خلف الوعد، و وعدهم هو قولهم:( إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) أي ناداهم و هو بينهم، و فصل( قالَ ) لكونه في موضع جواب السؤال كأنّه قيل: فما ذا قال؟ فقيل: قال كذا.

و قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) أي من تحت قصري أو من بستاني الّذي فيه قصري المرتفع العالي البناء، و الجملة أعني قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) إلخ، حالية أو( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) معطوف على( مُلْكُ مِصْرَ ) ، و قوله:( تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) حال من الأنهار، و الأنهار أنهار النيل.

و قوله:( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) في معنى تكرير الاستفهام السابق في قوله:( أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) المهين الحقير الضعيف من المهانة بمعنى الحقارة، و يريد بالمهين موسىعليه‌السلام لما به من الفقر و رثاثة الحال.

و قوله:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) أي يفصح عن مراده و لعلّه كان يصف موسىعليه‌السلام به باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة لكنّ الله رفع عنه ذلك لقوله:( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) طه: 36 بعد قولهعليه‌السلام :( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) طه: 28.

و قوله في صدر الآية:( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) إلخ، أم فيه إمّا منقطعة لتقرير كلامه السابق و المعنى: بل أنا خير من موسى لأنّه كذا و كذا، و إمّا متّصلة، و أحد طرفي الترديد محذوف مع همزة الاستفهام، و التقدير: أ هذا خير أم أنا خير إلخ، و في المجمع، قال سيبويه

١١٦

و الخليل: عطف أنا بأم على( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) لأنّ معنى( أَنَا خَيْرٌ ) معنى أم تبصرون فكأنّه قال: أ فلا تبصرون أم تبصرون لأنّهم إذا قالوا له: أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده انتهى. أي إنّ وضع( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) موضع أم تبصرون من وضع المسبّب موضع السبب أو بالعكس.

و كيف كان فالإشارة إلى موسى بهذا من دون أن يذكر باسمه للتحقير و توصيفه بقوله:( الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) للتحقير و للدلالة على عدم خيريّته.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الأسورة جمع سوار بالكسر، و قال الراغب: هو معرّب دستواره قالوا: كان من دأبهم أنّهم إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوار من ذهب و طوّقوه بطوق من ذهب فالمعنى لو كان رسولاً و ساد الناس بذلك لاُلقي إليه أسورة من ذهب.

و قوله:( أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الظاهر أنّ الاقتران بمعنى التقارن كالاستباق و الاستواء بمعنى التسابق و التساوي، و المراد إتيان الملائكة معه متقارنين لتصديق رسالته، و هذه الكلمة ممّا تكرّرت على لسان مكذّبي الرسل كقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) الفرقان: 7.

قوله تعالى: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) أي استخفّ عقول قومه و أحلامهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) الإيساف الإغضاب أي فلمّا أغضبونا بفسوقهم انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، و الغضب منه تعالى إرادة العقوبة.

قوله تعالى: ( فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ ) السلف المتقدّم و الظاهر أنّ المراد بكونهم سلفاً للآخرين تقدّمهم عليهم في دخول النار، و المثل الكلام السائر الّذي يتمثّل به و يعتبر به، و الظاهر أن كونهم مثلاً لهم كونهم ممّا يعتبر به الآخرون لو اعتبروا و اتّعظوا.

١١٧

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) قال: لم يبيّن الكلام.

و في التوحيد، بإسناده إلى أحمد بن أبي عبدالله رفعه إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) قال: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون و هم مخلوقون مدبّرون فجعل رضاهم لنفسه رضىً و سخطهم لنفسه سخطاً و ذلك لأنّه جعلهم الدعاة إليه و الأدلّاء عليه فلذلك صاروا كذلك.

و ليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه و لكن هذا معنى ما قال من ذلك، و قد قال أيضاً من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة و دعاني إليها، و قال أيضاً:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) ، و قال أيضاً:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) و كلّ هذا و شبهه على ما ذكرت لك، و هكذا الرضا و الغضب و غيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك.

و لو كان يصل إلى المكوّن الأسف و الضجر و هو الّذي أحدثهما و أنشأهما لجاز لقائل أن يقول: إنّ المكوّن يبيد يوماً لأنّه إذا دخله الضجر و الغضب دخله التغيير فإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، و لو كان ذلك كذلك لم يعرف المكوّن من المكوّن و إلا القادر من المقدور و لا الخالق من المخلوقين تعالى الله عن هذا القول علوّاً كبيراً.

هو الخالق للأشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ و الكيف فيه فافهم ذلك إن شاء الله.

أقول: و روي مثله في الكافي، بإسناده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن عمّه حمزة بن بزيع عنهعليه‌السلام .

١١٨

( سورة الزخرف الآيات 57 - 65)

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 ) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ  مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا  بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 ) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 ) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ  إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( 62 ) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ  فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( 63 ) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 64 ) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ  فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 65 )

( بيان‏)

إشارة إلى قصّة عيسى بعد الفراغ عن قصّة موسىعليهما‌السلام و قدّم عليها مجادلتهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عيسىعليه‌السلام و اُجيب عنها.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ - إلى قوله -خَصِمُونَ ) الآية إلى تمام أربع آيات أو ستّ آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل ابن مريم، و الّذي يتحصّل بالتدبّر فيها نظراً إلى كون السورة مكّيّة و مع قطع النظر عن الروايات هو أنّ المراد بقوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) هو ما أنزله

١١٩

الله من وصفه في أوّل سورة مريم فإنّها السورة المكّيّة الوحيدة الّتي وردت فيها قصّة عيسى بن مريمعليه‌السلام تفصيلاً، و السورة تقصّ قصص عدّة من النبيّين بما أنّ الله أنعم عليهم كما تختتم قصصهم بقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) مريم: 58، و قد وقع في هذه الآيات قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) و هو من الشواهد على كون قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) إشارة إلى ما في سورة مريم.

و المراد بقوله:( إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) بكسر الصاد أي يضجّون و يضحكون ذمّ لقريش في مقابلتهم المثل الحقّ بالتهكّم و السخريّة، و قرئ( يَصِدُّونَ ) بضمّ الصاد أي يعرضون و هو أنسب للجملة التالية.

و قوله:( وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) الاستفهام للإنكار أي آلهتنا خير من ابن مريم كأنّهم لمّا سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة و الكرامة أعرضوا عنه بما يصفه به القرآن و أخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنّه إله ابن إله فردّوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ آلهتنا خير منه و هذا من أسخف الجدال كأنّهم يشيرون بذلك إلى أنّ الّذي في القرآن من وصفه لا يعتنى به و ما عند النصارى لا ينفع فإنّ آلهتهم خير منه.

و قوله:( ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ) أي ما وجّهوا هذا الكلام:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) إليك إلّا جدلاً يريدون به إبطال المثل المذكور و إن كان حقّاً( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) أي ثابتون على خصومتهم مصرّون عليها.

و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) ردّ لما يستفاد من قولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) أنّه إله النصارى كما سيجي‏ء.

و قال الزمخشريّ في الكشّاف، و كثير من المفسّرين و نسب إلى ابن عبّاس و غيره في تفسير الآية: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قرأ قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً فقال ابن الزبعري:

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ولا منافاة بين هذه التفاسير مطلقا ، لأنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ شهداء الإسلام الذين استشهدوا قبل معركة الأحزاب ، وكلّ من كان منتظرا للنصر أو الشهادة ، وكان على رأسهم رجال كحمزة سيّد الشهداء وعليعليهما‌السلام ، ولذلك ورد في تفسير الصافي : أنّ أصحاب الحسين بكربلاء كانوا كلّ من أراد الخروج للقتال ودّع الحسينعليه‌السلام وقال : السلام عليك يا ابن رسول الله ، فيجيبه : وعليك السلام ونحن خلفك ، ويقرأ :( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) (١) .

ويستفاد من كتب المقاتل أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام تلا هذه الآية عند أجساد شهداء آخرين كمسلم بن عوسجة ، وحين بلغه خبر شهادة «عبد الله بن يقطر»(٢) .

ومن هنا يتّضح أنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ المؤمنين المخلصين الصادقين في كلّ عصر وزمان ، سواء من ارتدى منهم ثوب الشهادة في سبيل الله ، أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع ، وكان مستعدّا للجهاد والشهادة.

وتبيّن الآية التالية النتيجة النهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة ، فتقول :( لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ ) فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب ، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب.

ومع ذلك ، ولكي لا يغلق طريق العودة والإنابة بوجه هؤلاء المنافقين العنودين ، فإنّ الله سبحانه قد فتح أبواب التوبة أمامهم بجملة :( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) ـ إذا تابوا ـ ووصف نفسه بالغفور والرحيم( إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) ليحيي فيهم الحركة نحو الإيمان والصدق والإخلاص والوفاء بالتزاماتهم أمام الله والعمل بمقتضاها.

ولمّا كانت هذه الجملة قد ذكرت كنتيجة لأعمال المنافقين القبيحة ، فإنّ بعض

__________________

(١) تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢٥٩.

٢٠١

كبار المفسّرين رأى على أساسها بأنّ الذنب الكبير في القلوب التي لها قابلية الهداية ربّما كان دفعا للحركة المضادّة والرجوع إلى الحقّ والحقيقة ، وقد يكون الشرّ مفتاحا للخير والرشاد(١) .

وتطرح الآية الأخيرة من هذه الآيات ـ والتي تتحدّث عن غزوة الأحزاب وتنهي هذا البحث ـ خلاصة واضحة لهذه الواقعة في عبارة مختصرة ، فتقول في الجملة الاولى :( وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ) .

«الغيظ» يعني (الغضب) ويأتي أحيانا بمعنى (الغمّ) ، وهنا جاء مزيجا من المعنيين ، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للانتصار على جيش الإسلام ، لكنّها خابت ، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.

والمراد من «الخير» هنا الإنتصار في الحرب ، ولم يكن انتصار جيش الكفر خيرا أبدا ، بل إنّه شرّ ، ولمّا كان القرآن يتحدّث من وجهة نظرهم الفكرية عبّر عنه بالخير ، وهو إشارة إلى أنّهم لم ينالوا أيّ نصر في هذا المجال.

وقال البعض : إنّ المراد من «الخير» هنا (المال) لأنّ هذه الكلمة أطلقت في مواضع اخرى بهذا المعنى ، ومن جملتها ما في آية الوصية (١٨٠) من سورة البقرة :( إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ ) .

ومع أنّ أحد الأهداف الأصليّة لمعسكر الكفر كان الحصول على غنائم المدينة والإغارة على هذه الأرض ، وهذا الباعث كان أهمّ البواعث في عصر الجاهلية ، لكنّنا لا نمتلك الدليل على حصر معنى (الخير) هنا بالمال ، بل يشمل كلّ الانتصارات التي كانوا يطمحون إليها ، وكان المال أحدها لكنّهم حرموا من الجميع.

وتضيف في الجملة التالية :( وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ) فقد هيّأ عوامل بحيث

__________________

(١) تفسير الميزان ، ذيل الآية مورد البحث.

٢٠٢

انتهت الحرب من دون حاجة إلى التحام واسع بين الجيشين ، ومن دون أن يتحمّل المؤمنون خسائر فادحة ، لأنّ العواصف الهوجاء القارصة قد مزّقت أوضاع المشركين من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ الله تعالى قد ألقى الرعب والخوف في قلوبهم من جنود الله التي لا ترى ، ومن جهة ثالثة فإنّ الضربة التي أنزلها علي بن أبي طالبعليه‌السلام بأعظم بطل من أبطالهم ، وهو «عمرو بن عبد ودّ» ، قد تسبّبت في تبدّد أحلامهم وآمالهم ، ودفعتهم إلى أن يلملموا أمتعتهم ويتركوا محاصرة المدينة ويرجعوا إلى قبائلهم تقدمهم الخيبة والخسران.

وتقول الآية في آخر جملة :( وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) فمن الممكن أن يوجد أناس أقوياء ، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يقهرون ، بل هناك من يقهرهم ومن هو أقوى منهم ، إلّا أنّ القوي العزيز الوحيد في العالم هو اللهعزوجل الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا انتهاء ، فهو الذي أنزل على المؤمنين النصر في مثل هذا الموقف العسير والخطير جدّا بحيث لم يحتاجوا حتّى إلى النزال وتقديم التضحيات!

* * *

بحوث

١ ـ ملاحظات هامّة في معركة الأحزاب

أ ـ إنّ معركة الأحزاب ـ وكما هو معلوم من اسمها ـ كانت حربا اتّحدت فيها كلّ القبائل والفئات المختلفة التي تعادي الإسلام ، للقضاء على الإسلام اليافع.

لقد كانت «حرب الأحزاب» آخر سعي للكفر ، وآخر سعي للكفر ، وآخر سهم في كنانته ، وآخر استعراض لقوى الشرك ، ولهذا قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»(١) عند ما تقابل أعظم أبطال العدوّ ، وهو عمرو بن عبد ودّ ، وبطل الإسلام الأوحد أمير

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢٠ ، صفحة ٢١٥ ، ونقل هذا الحديث عن الكراجكي.

٢٠٣

المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، لأنّ انتصار أحدهما على الآخر كان يعني انتصار الكفر على الإيمان ، أو الإيمان على الكفر ، وبتعبير آخر : كان عملا مصيريا يحدّد مستقبل الإسلام والشرك ، ولذلك فإنّ المشركين لم تقم لهم قائمة بعد انهزامهم في هذه المواجهة العظيمة ، وكانت المبادرة وزمامها بيد المسلمين بعدها دائما.

لقد أفل نجم الأعداء ، وانهدمت قواعد قوّتهم ، ولذلك نقرأ في حديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعد نهاية غزوة الأحزاب : «الآن تغزوهم ولا يغزوننا»(١) .

ب ـ ذكر بعض المؤرخّين أنّ عدد أفراد جيوش الكفر كان أكثر من عشرة آلاف محارب ، ويقول «المقريزي» في «الإمتاع» : إنّ قريشا أتت لوحدها بأربعة آلاف رجل ، وألف وثلاثمائة فرس ، وألف وخمسمائة من الإبل ، ونزلت عند حافّة الخندق ، وجاءت قبيلة بني سليم بسبعمائة رجل والتقوا بهم في مرّ الظهران ، وجاء «بنو فزارة» بألف ، وكلّ من «بني أشجع» و «بني مرّة» بأربعمائة ، والقبائل الاخرى أرسلت عددا من الرجال ، فتجاوز مجموع كلّ من حضر عشرة آلاف رجل.

في حين أنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز الثلاثة آلاف رجل ، وكانوا قد جعلوا مخيّمهم الأصلي أسفل جبل سلع ، وكانت نقطة مرتفعة جنب المدينة مشرفة على الخندق ، وكانوا يستطيعون عن طريق رماتهم السيطرة على حركة المرور من الخندق.

على كلّ حال ، فإنّ جيش الكفّار قد حاصر المسلمين من جميع الجهات ، وطالت هذه المحاصرة عشرين يوما ، وقيل خمسة وعشرين يوما ، وعلى بعض الرّوايات شهرا(٢) .

ومع أنّ العدوّ كان متفوقا على المسلمين من جهات مختلفة ، إلّا أنّه خاب في النهاية كما قلنا ، ورجع إلى دياره خالي الوفاض.

__________________

(١) التاريخ الكامل لابن الأثير الجزء ٢ صفحة ١٨٤.

(٢) بحار الأنوار ، الجزء ٢٠ ، صفحة ٢٢٨.

٢٠٤

ج ـ إنّ مسألة حفر الخندق قد تمّت ـ كما نعلم ـ بمشورة «سلمان الفارسي» ، وكانت هذه المسألة أسلوبا دفاعيا معتادا في بلاد فارس آنذاك ، ولم يكن معروفا في جزيرة العرب إلى ذلك اليوم ، وكان يعتبر ظاهرة جديدة ، وكانت لإقامته في أطراف المدينة أهميّة عظيمة ، سواء من الناحية العسكرية ، أم من جهة إضعاف معنويات العدوّ ورفع معنويات المسلمين.

ولا توجد لدينا معلومات دقيقة عن صفات الخندق ودقائقه ، فقد ذكر المؤرخّون أنّه كان من العرض بحيث لا يستطيع فرسان العدو عبوره بالقفز ، ومن المحتّم أنّ عمقه أيضا كان بالقدر الذي إذا سقط فيه أحد لم يكن يستطيع أن يخرج من الطرف المقابل بسهولة.

إضافة إلى أنّ سيطرة رماة المسلمين على منطقة الخندق كان يمكّنهم من جعل كلّ من يحاول العبور هدفا وغرضا لسهامهم في وسط الخندق وقبل عبوره.

وأمّا من ناحية الطول فإنّ البعض قد قدّره باثني عشر ألف ذراع (ستّة آلاف متر) استنادا إلى الرواية المعروفة التي تقول بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أمر أن يحفر كلّ عشرة رجال أربعين ذراعا من الخندق ، وبملاحظة أنّ عدد جنود المسلمين ـ طبقا للمشهور ـ بلغ ثلاثة آلاف رجل.

ولا بدّ من الاعتراف بأنّ حفر مثل هذا الخندق ، وبالآلات البدائية المستعملة في ذلك اليوم كان أمرا مضنيا وجهدا ، خاصّة وأنّ المسلمين كانوا في ضيق شديد وحاجة ملحّة من ناحية الزاد والوسائل الاخرى.

ومن المسلّم أنّ حفر الخندق قد استغرق مدّة لا يستهان بها ، وهذا يوحي بأنّ جيش المسلمين كان قد قدّر وخمّن وتوقّع التوقّعات اللازمة بدقّة كاملة قبل أن يهجم العدوّ بحيث أنّ حفر الخندق كان قد تمّ قبل ثلاثة أيّام من وصول جيش الكفّار.

٢٠٥

د ـ ساحة إمتحان عظيمة

إنّ غزوة «الأحزاب» كانت محكّا وامتحانا عجيبا لكلّ المسلمين ، ولمن كانوا يدّعون الإسلام ، وكذلك لأولئك الذين كانوا يدّعون الحياد أحيانا ، وكان لهم في الباطن ارتباط وتعامل مع أعداء الإسلام ويتعاونون معهم ضدّ دين الله.

لقد تبيّن بوضوح تامّ موقع الفئات الثلاث ـ المؤمنون الصادقون ، وضعفاء الإيمان ، والمنافقون ـ من خلال عملهم ، واتّضحت تماما القيم والمفاهيم الإسلامية ، فقد عكست كلّ من الفئات الثلاث في أتون الحرب الملتهبة حسن إيمانها أو قبحه ، وإخلاص نيّاتها أو عدمه.

لقد كانت العاصفة هو جاء شديدة لم تدع المجال لأيّ شخص أن يخفي ما في قلبه ، وظهرت امور في أقلّ من شهر ، وكان يحتاج كشفها إلى سنين ربّما تكون طويلة في الظروف الطبيعيّة.

وهنا مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أثبت عمليّا إيمانه الكامل بما جاء به من التعليمات الإلهيّة ووفاءه التامّ لها من خلال مقاومته وصلابته ، ورباطة جأشه ، وتوكّله على الله ، واعتماده على نفسه ، وكذلك أثبت للناس أنّه يطبّق قبل الآخرين ما يأمرهم به من خلال مواساته للمسلمين ومساعدتهم في حفر الخندق ، وتحمّله لمصاعب الحرب ومشاكلها.

ه ـ نزال عليعليه‌السلام التاريخي لعمرو بن عبد ودّ

من المواقف الحسّاسة والتاريخية لهذه الحرب مبارزة عليعليه‌السلام لبطل معسكر العدوّ العظيم «عمرو بن عبد ودّ» ، فقد جاء في التواريخ أنّ جيش الأحزاب كان قد دعا أشدّاء شجعان العرب للاشتراك والمساهمة في هذه الحرب ، وكان الأشهر من بين هؤلاء خمسة : عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة ، ونوفل ، وضرار.

٢٠٦

لقد استعدّ هؤلاء في أحد أيّام الحرب للمبارزة الفردية ، ولبسوا عدّة الحرب ، واستطاعوا اختراق الخندق والعبور بخيولهم إلى الجانب الآخر من خلال نقطة ضيّقة فيه ، كانت بعيدة نسبيا عن مرمى الرماة المسلمين ، وأن يقفوا أمام جيش المسلمين ، وكان أشهرهم «عمرو بن عبد ودّ».

فتقدّم وقد ركبه الغرور والاعتداد بالنفس ، وكانت له خبرة طويلة في الحرب ، ورفع صوته طالبا من يبارزه.

لقد دوّى نداؤه (هل من مبارز) في ميدان الأحزاب ، ولمّا لم يجرأ أحد من المسلمين على قتاله اشتدّت جرأته وبدأ يسخر من معتقدات المسلمين ، فقال : أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ هل فيكم من أرسله إلى الجنّة ، أو يدفعني إلى النار؟

وهنا أنشد أبياته المعروفة :

ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز

إنّ السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز

فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذلك أن يخرج إليه رجل ويبعد شرّه عن المسلمين ، إلّا أنّ أحدا لم يجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه عمرو» فقال عليعليه‌السلام : «وإن كان عمروا» فدعاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعمّمه ، وقلّده سيفه الخاصّ ذا الفقار ، ثمّ دعا له فقال : «اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته».

فمشى عليعليه‌السلام إلى الحرب وهو يرتجز :

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز

٢٠٧

من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز

وهنا قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كلمته المعروفة : «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»(١) .

فلمّا التقيا دعاه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى الإسلام أوّلا ، فأبى ، ثمّ دعاه إلى اعتزال الحرب ، فرفض ذلك ، واعتبره عارا عليه ، وفي الثالثة دعاه إلى أن ينزل عن ظهر جواده ويقاتله راجلا ، فغضب عمرو قال : ما كنت أحسب أحدا من العرب يدعوني إلى مثل ذلك ، فنزل من على ظهر فرسه وضرب علياعليه‌السلام على رأسه ، فتلقّاها عليعليه‌السلام بمهارة خاصّة بدرعه ، إلّا أنّ السيف قدّه وشجّ رأس عليعليه‌السلام .

هنا استعمل عليعليه‌السلام أسلوبا خاصّا ، فقال لعمرو : أنت بطل العرب ، وأنا أقاتلك ، فعلام حضر من خلفك؟ فلمّا التفت عمرو ، ضربه عليعليه‌السلام على ساقه بالسيف ، فسقط عمرو إلى الأرض ، فثارت غبرة ظنّ معها المنافقون أنّ علياعليه‌السلام قد قتل بسيف عمرو ، غير أنّهم لمّا سمعوا التكبير قد علا علموا بانتصار علي ، ورأوا فجأة علياعليه‌السلام يرجع إلى معسكره رويدا رويدا والدم ينزم من رأسه ، وعلى شفتيه ابتسامه النصر ، وكانت جثّة عمرو قد سقطت في جانب من الميدان.

لقد أنزل مقتل بطل العرب المعروف ضربة قاصمة بجيش الأحزاب بدّدت آمالهم وحطّمت معنوياتهم ، وهزمتهم نفسيا هزيمة منكرة ، وخابت آمالهم في النصر والظفر ، ولذلك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّها : «لو وزن اليوم عملك بعمل جميع امّة محمّد لرجح عملك على عملهم ، وذاك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلّا وقد دخله ذلّ بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من المسلمين ، إلّا وقد دخله عزّ يقتل عمرو»(٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢٠ ، صفحة ٢١٥ ، ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٤٤ طبقا لنقل إحقاق الحقّ ، الجزء ٦ ، صفحة ٩.

(٢) بحار الأنوار الجزء ٢٠ صفحة ٢١٦.

٢٠٨

وقد أورد العالم السنّي المعروف «الحاكم النيسابوري» هذا القول ، لكن بتعبير آخر :

«لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال امّتي إلى يوم القيامة»(١) .

والغاية من هذا الكلام واضحة ، لأنّ كلّا من الإسلام والقرآن كان على حافّة الهاوية ظاهرا ، وكان يمرّ بأحرج لحظاته وأصعبها ، ولذلك كانت التضحية في هذه الحرب أعظم التضحيات بعد تضحيات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث حفظت الإسلام من السقوط ودرأت عنه الخطر ، وضمنت بقاءه إلى يوم القيامة ، وببركة تضحية الإمامعليه‌السلام تجذّر الإسلام وتأصّل وشملت غصونه وأوراقه العالمين ، وبناء على هذا فإنّ عبادة الجميع مرهونة بعمله.

وذكر البعض : أنّ المشركين أرسلوا رسولا منهم ليشتري جثّة عمرو بعشرة آلاف درهم ـ وربّما كانوا يتصوّرون أنّ المسلمين سيفعلون بجثّة عمرو ما فعله قساة القلوب بجسد حمزة يوم أحد ـ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى»!

وهناك موقف يستحقّ الذكر والانتباه ، وهو : أنّ اخت عمرو لمّا وصلت إلى جسد أخيها ، ورأت أنّ علياعليه‌السلام لم يسلبه درعه الثمينة قالت : ما قتله إلّا كفؤ كريم(٢) .

وـ إجراءات النبي العسكرية والسياسية في هذه الحرب

كانت هناك مجموعة من العوامل المختلفة ، والأساليب العسكرية والسياسية ، وكذلك عامل العقيدة والإيمان ، ساهمت في انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين في معركة الأحزاب ، إضافة إلى التأييد الإلهي. عن طريق الرياح والعواصف الهوجاء

__________________

(١) مستدرك الحاكم ، الجزء ٣ ، صفحة ٣٢.

(٢) اعتمدنا في هذا الجانب على كتب : إحقاق الحقّ ، بحار الأنوار ، المجلّد ٦ ، بحار الأنوار ، المجلّد ٢٠ ، تفسير الميزان ، المجلّد ١٦.

٢٠٩

التي مزّقت جيوش الأحزاب شرّ ممزّق ، وكذلك جنود الله الغيبيين ، ومن جملة هذه العوامل والإجراءات :

١ ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أدخل بقبوله اقتراح حفر الخندق أسلوبا جديدا لم يكن موجودا ومعروفا بين العرب إلى ذلك اليوم ، وكان عاملا مهمّا في رفع معنويات المسلمين وكسر شوكة الكفّار.

٢ ـ المواقف والحسابات الدقيقة للمسلمين ، والأساليب والمناورات العسكرية كانت عاملا مؤثّرا في عدم نفوذ العدوّ إلى داخل المدينة.

٣ ـ قتل عمرو بن عبد ودّ على يد بطل الإسلام العظيم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسّلام ، وتبديد آمال الأحزاب بقتله يعدّ عاملا مؤثّرا آخر.

٤ ـ الإيمان بالله ، والتوكّل عليه ، والذي غرسه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في قلوب المسلمين ، وسقاه المسلمون على امتداد الحرب بتلاوة القرآن وكلمات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المؤثّرة.

٥ ـ أسلوب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وروحه الكبيرة ، واعتماده على نفسه الذي يمنح المسلمين قوّة واطمئنانا.

٦ ـ إضافة إلى ذلك ، فإنّ عمل «نعيم بن مسعود» كان أحد العوامل المهمّة في إيجاد الفرقة بين جيوش الأحزاب.

ز ـ نعيم بن مسعود وبثّ الفرقة في جيش العدوّ!

جاء «نعيم» إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان قد أسلم لتوّه ، ولم تعلم قبيلته (غطفان) بإسلامه ، فقال : أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما أنت فينا رجل واحد ، فخذل عنّا ما استطعت ، فإنّما الحرب خدعة».

فانطلق نعيم بخطّة رائعة ، وأتى يهود بني قريظة ، وكانت له معهم صداقة في الجاهلية ، فقال لهم : إنّي لكم صديق ، وأنتم تعلمون ذلك ، فقالوا : صدقت ، ونحن لا نتّهمك أبدا ، فقال : إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وإنّما قريش

٢١٠

وغطفان بلادهم غيرها ، وإنّما جاءوا حتّى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة انتهزوها ، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، ولا طاقة لكم به ، فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّدا ، فقالوا : قد أشرت برأي ، فقبل بنو قريظة قوله.

ثمّ أتى أبا سفيان وأشراف قريش متخفّيا ، فقال : يا معشر قريش ، إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّدا ودينه ، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ ، فقالوا : نفعل ، قال : تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمّد فبعثوا إليه : أنّه لا يرضيك عنّا إلّا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ، ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك ، فقالوا : بلى ، فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفرا من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحدا واحذروا.

ثمّ جاء إلى غطفان قبيلته ، فقال : تعلمون حسبي ونسبي ، وأنا أودّكم ، ولا أظنّكم تشكّون في صدقي ، فقالوا : نعلم ذلك ، فقال : لكم عندي خبر فاكتموه عليّ ، فقالوا : نفعل ، فقال لهم ما قال لقريش. وكان ذلك ليلة السبت من شوّال سنة خمس من الهجرة.

فأرسل أبو سفيان ورؤساء غطفان جماعة إلى بني قريظة فقالوا : إنّ الكراع والخفّ قد هلكا ، وإنّا لسنا بدار مقام ، فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه.

فأجابهم اليهود : إنّ غدا السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتّى نناجز محمّدا.

فلمّا بلغ ذلك قريشا وغطفان قالوا : والله لقد حذّرنا هذا نعيم ، فبعث إليهم أبو سفيان : إنّا لا نعطيكم رجلا واحدا فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا ، وإن شئتم فاقعدوا.

ولمّا علمت اليهود بذلك قالوا : هذا والله الذي قال لنا نعيم ، فإنّ في الأمر حيلة ،

٢١١

وهؤلاء لا يريدون القتال ، ويريدون أن يغيروا ويرجعوا إلى ديارهم ويذروكم ومحمّدا.

فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنّا والله لا نقاتل حتّى تعطونا رهنا ، فأصرّت قريش وغطفان على قولهما فوقع الاختلاف بينهم ، وبعث الله سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية قارصة البرد ، قلعت خيامهم ، وكفأت قدورهم.

لقد اتّحدت هذه العوامل ، فحزم الجميع أمتعتهم ورجّحوا الفرار على القرار ، ولم يبق منهم رجل في ساحة الحرب(١) .

ح ـ قصّة حذيفة

جاء في كثير من التواريخ أنّ «حذيفة اليماني» قال : والله ، لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلّا الله ، وفي ليلة من الليالي ـ بعد أن وقع الاختلاف بين جيش الأحزاب ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنّة».

قال حذيفة : فو الله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجوع ، فلمّا رأى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك دعاني ، فقلت : لبّيك ، قال : «اذهب فجئني بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع» ، فأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل ، ما يستمسك لهم بناء ، ولا تثبت لهم نار ، ولا يطمئن لهم قدر ، فإنّي لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ، ثمّ قال : يا معشر قريش ، لينظر أحدكم من جليسه لئلّا يكون هنا غريب ، فبدأت بالذي عن يميني ، فقلت : من أنت؟ قال : أنا فلان ، فقلت : حسنا.

ثمّ عاد أبو سفيان براحلته ، فقال : يا معشر قريش ـ والله ـ ما أنتم بدار مقام ، هلك الخفّ والحافر ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٠ باختصار.

٢١٢

ثمّ عجّل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلّا بعد ما ركبها.

فقلت في نفسي : لو رميت عدوّ الله وقتلته كنت قد صنعت شيئا ، فوترت قوسي ثمّ وضعت السهم في كبد القوس ، فلمّا أردت أن أطلقه ذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع» وإنّه طلب منّي أن آتيه بالخبر وحسب ، حططت القوس ثمّ رجعت إلى رسول الله فأخبرته الخبر ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهمّ أنت منزل الكتاب ، سريع الحساب ، أهزم الأحزاب ، اللهمّ أهزمهم وزلزلهم»(١) .

ط ـ نتائج حرب الأحزاب

لقد كانت حرب الأحزاب نقطة انعطاف في تاريخ الإسلام ، قلبت كفّة التوازن العسكري والسياسي لصالح المسلمين إلى الأبد. ويمكن تلخيص النتائج المثمرة لهذه المعركة في عدّة نقاط :

أ ـ فشل مساعي العدو ، وتحطّم قواه.

ب ـ كشف المنافقين ، وفضح الأعداء الداخليين الخطرين.

ج ـ جبران الذكرى الأليمة لهزيمة أحد.

د ـ قوّة المسلمين ، وازدياد هيبتهم في قلوب الأعداء.

ه ـ ارتفاع معنويات المسلمين نتيجة للمعجزات العظيمة التي رأوها في هذه المعركة.

وـ تثبيت مركز النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في داخل المدينة وخارجها.

ر ـ تهيؤ الأرضية لتصفية المدينة وإنقاذها من شرّ بني قريظة.

٢ ـ النّبي أسوة وقدوة

نعلم أنّ إختيار رسول الله من بين البشر إنّما هو من أجل أن يكونوا قدوة عملية

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٠ ، صفحة ٢٠٨.

٢١٣

للأمم ، لأنّ أهمّ جانب من جوانب دعوة الأنبياء وأكثرها تأثيرا هي الدعوة العملية ، ولذلك فإنّ علماء الإسلام اعتبروا العصمة شرطا لمقام النبوّة ، وإحدى أدلّتها وبراهينها هي أنّهم يجب أن يكونوا «قدوة» للناس ، و «أسوة» للبشر.

وممّا يسترعي الانتباه أنّ التأسّي بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الوارد في هذه الآية قد جاء بصورة مطلقة ، وهذا يشمل التأسّي في كافّة المجالات بالرغم من أنّ سبب نزول هذه الآيات هي معركة الأحزاب ، ونعلم أنّ أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآيات بها مطلقا ، ولذلك نرى في الأحاديث الشريفة أنّ أهمّ المسائل وأبسطها قد طرحت في مسألة التأسّي.

ففي حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول اللهعزوجل لنبيّه :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته لقوله :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ رسول الله كان إذا صلّى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه فوضع عند رأسه مخمرا» ثمّ يبيّن كيفية صلاة الليل التي كان يصلّيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقول في آخر الحديث :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٢) .

وإذا ما اتّخذنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أسوة لنا في حياتنا حقّا ، في إيمانه وتوكّله ، في إخلاصه وشجاعته ، في تنظيم أمره ونظافته ، وفي زهده وتقواه ، فإن أسلوب حياتنا سيختلف تماما ، وسيعمّ الضياء والسعادة كلّ زوايا حياتنا ونواحيها.

يجب اليوم على كلّ المسلمين ، وخاصّة الشباب المؤمن ، أن يقرءوا سيرة نبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدقّة متناهية ويحفظوها ، ويجعلوه قدوة وأسوة لهم في كلّ شيء ، فإنّ هذا التأسّي والاقتداء به سبيل السعادة ، ومفتاح النصر والعزّة.

__________________

(١) إحتجاج الطبرسي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٢٥٥.

(٢) وسائل الشيعة ، المجلّد ١ ، صفحة ٣٥٦.

٢١٤

٣ ـ اذكروا الله كثيرا

لقد وردت الوصيّة بذكر الله ـ وخاصّة الذكر الكثير ـ مرارا في الآيات القرآنية ، وقد أولته الروايات الإسلامية اهتماما كبيرا أيضا ، حتّى أنّنا نقرأ في حديث عن أبي ذرّ أنّه قال : دخلت المسجد فأتيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لي : «عليك بتلاوة كتاب الله وذكر الله كثيرا فإنّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض»(١) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إذا ذكر العبد ربّه في اليوم مائة مرّة كان ذلك كثيرا»(٢) .

وفي حديث آخر عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لأصحابه : «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من الدينار والدرهم ، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله كثيرا»(٣) .

لكن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ المراد من ذكر الله بكلّ هذه الفضيلة هو الذكر اللساني فقط ، بل قد صرّحت الروايات الإسلامية أنّ المراد منه إضافة لما مرّ هو الذكر القلبي والعملي ، أي أنّ الإنسان يذكر الله عند ما يواجه حراما فيتركه.

إنّ الهدف أن يجعل الإنسان الله نصب عينيه دائما ، ويشعر بحضوره وشهادته الدائمة ، وأن يغمر نور الله كلّ حياته ، فيفكّر فيه ويذكره دائما ، ولا يغفل عن أوامره بل يطيعها.

إنّ مجالس الذكر ليست تلك المجالس التي يجتمع فيها جماعة من المغفّلين ويشرعون في الطعام والشراب ، وتتخلّل مجالسهم تلك مجموعة من الأذكار

__________________

(١) الخصال ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٢٥٧.

(٢) سفينة البحار ، المجلّد ١ ، صفحة ٤٨٤.

(٣) المصدر السابق.

٢١٥

المخترعة ، والبدع التي يروجونها ، فقد ورد في حديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «بادروا إلى رياض الجنّة ، قالوا : وما رياض الجنّة؟ قال : حلق الذكر»(١) ، والمراد منها الحلقات التي تحيا فيها العلوم الإسلامية ، وتطرح البحوث التربوية التي تؤدّي إلى تهذيب الناس وتطهير المذنبين وتدفعهم إلى سبيل الله(٢) .

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلّد ١ ، ص ٤٨٦.

(٢) كان لنا بحث آخر حول أهميّة ذكر الله ومفهومه ذيل الآية (١٢٠) من سورة الرعد.

٢١٦

الآيتان

( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) )

التّفسير

غزوة بني قريظة انتصار عظيم آخر :

كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود ، وهم : بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أن لا تعين عدوّا له ولا يتجسّسوا لذلك العدوّ ، وأن يعيشوا مع المسلمين بسلام ، إلّا أنّ «بني قينقاع» قد نقضوا عهدهم في السنة الثّانية للهجرة ، و «بنو النضير» في السنة الرّابعة للهجرة بأعذار شتّى ، وصمّموا على مواجهة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانهارت مقاومتهم في النهاية ، وطردوا إلى خارج المدينة ، فذهب «بنو قينقاع» إلى أذرعات الشام ، وذهب بعض

٢١٧

«بني النضير» إلى خيبر ، وبعضهم الآخر إلى الشام(١) .

بناء على هذا فإنّ «بني قريظة» كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب ، وكما قلنا في تفسير الآيات السبع عشرة المتعلّقة بمعركة الأحزاب ، فإنّهم نقضوا عهدهم في هذه المعركة ، واتّصلوا بمشركي العرب ، وشهروا السيوف بوجه المسلمين.

بعد انتهاء غزوة الأحزاب والتراجع المشين والمخزي لقريش وغطفان وسائر قبائل العرب عن المدينة ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ طبقا للرّوايات الإسلامية ـ عاد إلى منزله وخلع لامة الحرب وذهب يغتسل ، فنزل عليه جبرئيل بأمر الله وقال : لماذا ألقيت سلاحك وهذه الملائكة قد استعدّت للحرب؟ عليك أن تسير الآن نحو بني قريظة وتنهي أمرهم.

لم تكن هناك فرصة لتصفية الحساب مع بني قريظة أفضل من هذه الفرصة ، حيث كان المسلمون في حرارة الإنتصار ، وبنو قريظة يعيشون لوعة الهزيمة المرّة ، وقد سيطر عليهم الرعب الشديد ، وكان حلفاؤهم من قبائل العرب متعبين منهكي القوى خائري العزائم ، وهم في طريقهم إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة ، ولم يكن هناك من يحميهم ويدافع عنهم.

هنا نادى مناد من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن توجّهوا إلى بني قريظة قبل أن تصلّوا العصر ، فاستعدّ المسلمون بسرعة وتهيّئوا للمسير إلى الحرب ، وما كادت الشمس تغرب إلّا وكانت حصون بني قريظة المحكمة محاصرة تماما.

لقد استمرت هذه المحاصرة خمسة وعشرين يوما ، وأخير سلّموا جميعا ـ كما سيأتي في البحوث ـ فقتل بعضهم ، وأضيف إلى سجل انتصارات المسلمين انتصار عظيم آخر ، وتطهّرت أرض المدينة من دنس هؤلاء المنافقين والأعداء اللدودين

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، المجلّد ٢ ، صفحة ١٣٧ ـ ١٧٣.

٢١٨

إلى الأبد.

وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إشارة مختصرة ودقيقة إلى هذه الحادثة ، وكما قلنا فإنّ هذه الآيات نزلت بعد الإنتصار ، وأوضحت أنّ هذه الحادثة كانت نعمة وموهبة إلهيّة عظيمة ، فتقول الآية أوّلا :( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ) .

«الصياصي» جمع (صيصية) ، أي : القلعة المحكمة ، ثمّ أطلقت على كلّ وسيلة دفاعية ، كقرون البقر ، ومخالب الديك. ويتّضح هنا أنّ اليهود كانوا قد بنوا قلاعهم وحصونهم إلى جانب المدينة في نقطة مرتفعة ، والتعبير بـ (أنزل) يدلّ على هذا المعنى.

ثمّ تضيف الآية :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) وأخيرا بلغ أمرهم أنّكم( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) .

إنّ هذه الجمل تمثّل مختصرا وجانبا من نتائج غزوة بني قريظة ، حيث قتل جمع من أولئك الخائنين على يد المسلمين ، وأسر آخرون ، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة من جملتها أراضيهم وديارهم وأموالهم.

والتعبير عن هذه الغنائم بـ «الإرث» لأنّ المسلمين لم يبذلوا كثير جهد للحصول عليها ، وسقطت في أيديهم بسهولة كلّ تلك الغنائم التي كانت حصيلة سنين طويلة من ظلم وجور اليهود واستثماراتهم في المدينة.

وتقول الآية في النهاية :( وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) .

هناك اختلاف بين المفسّرين في المقصود من( أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ) وأيّ أرض هي؟

فاعتبرها البعض إشارة إلى أرض خيبر التي فتحت على أيدي المسلمين فيما بعد.

واعتبرها آخرون إشارة إلى أرض مكّة.

٢١٩

وآخرون يعتقدون أنّها إشارة إلى أرض الروم وفارس.

ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الأراضي والبلدان التي وقعت في يد المسلمين من ذلك اليوم وما بعده إلى يوم القيامة.

إلّا أنّ أيّا من هذه الاحتمالات لا يناسب ظاهر الآية ، لأنّ الآية ـ بقرينة الفعل الماضي الذي جاء فيها (أورثكم) ـ شاهدة على أنّ هذه الأرض قد أصبحت تحت تصرّف المسلمين في حادثة غزوة بني قريظة ، إضافة إلى أنّ أرض مكّة ـ وهي إحدى التفاسير السابقة ـ لم تكن أرضا لم يطأها المسلمون ، في حين أنّ القرآن الكريم يقول :( وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ) .

والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى البساتين والأراضي الخاصّة ببني قريظة ، والتي لم يكن لأحد الحقّ في دخولها ، لأنّ اليهود كانوا يبذلون قصارى جهودهم في سبيل الحفاظ على أموالهم وحصرها فيما بينهم.

ولو أغمضنا ، فإنّها تتناسب كثيرا مع أرض «خيبر» التي أخذت من اليهود بعد مدّة ليست بالبعيدة ، وأصبحت في حوزة المسلمين ، حيث إنّ معركة «خيبر» وقعت في السنة السابعة للهجرة.

* * *

بحوث

١ ـ غزوة بني قريظة ودوافعها

إنّ القرآن الكريم يشهد بأنّ الدافع الأساس لهذه الحرب هو دعم يهود بني قريظة لمشركي العرب ومساندتهم في حرب الأحزاب ، لأنّه يقول :( الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ ) .

إضافة إلى أنّ اليهود في المدينة كانوا يعتبرون الطابور الخامس لأعداء الإسلام ، وكانوا مجدّين في الإعلام المضادّ للإسلام ، ويغتنمون كلّ فرصة مناسبة

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510