الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل15%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156567 / تحميل: 5919
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ولا منافاة بين هذه التفاسير مطلقا ، لأنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ شهداء الإسلام الذين استشهدوا قبل معركة الأحزاب ، وكلّ من كان منتظرا للنصر أو الشهادة ، وكان على رأسهم رجال كحمزة سيّد الشهداء وعليعليهما‌السلام ، ولذلك ورد في تفسير الصافي : أنّ أصحاب الحسين بكربلاء كانوا كلّ من أراد الخروج للقتال ودّع الحسينعليه‌السلام وقال : السلام عليك يا ابن رسول الله ، فيجيبه : وعليك السلام ونحن خلفك ، ويقرأ :( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) (١) .

ويستفاد من كتب المقاتل أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام تلا هذه الآية عند أجساد شهداء آخرين كمسلم بن عوسجة ، وحين بلغه خبر شهادة «عبد الله بن يقطر»(٢) .

ومن هنا يتّضح أنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ المؤمنين المخلصين الصادقين في كلّ عصر وزمان ، سواء من ارتدى منهم ثوب الشهادة في سبيل الله ، أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع ، وكان مستعدّا للجهاد والشهادة.

وتبيّن الآية التالية النتيجة النهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة ، فتقول :( لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ ) فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب ، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب.

ومع ذلك ، ولكي لا يغلق طريق العودة والإنابة بوجه هؤلاء المنافقين العنودين ، فإنّ الله سبحانه قد فتح أبواب التوبة أمامهم بجملة :( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) ـ إذا تابوا ـ ووصف نفسه بالغفور والرحيم( إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) ليحيي فيهم الحركة نحو الإيمان والصدق والإخلاص والوفاء بالتزاماتهم أمام الله والعمل بمقتضاها.

ولمّا كانت هذه الجملة قد ذكرت كنتيجة لأعمال المنافقين القبيحة ، فإنّ بعض

__________________

(١) تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢٥٩.

٢٠١

كبار المفسّرين رأى على أساسها بأنّ الذنب الكبير في القلوب التي لها قابلية الهداية ربّما كان دفعا للحركة المضادّة والرجوع إلى الحقّ والحقيقة ، وقد يكون الشرّ مفتاحا للخير والرشاد(١) .

وتطرح الآية الأخيرة من هذه الآيات ـ والتي تتحدّث عن غزوة الأحزاب وتنهي هذا البحث ـ خلاصة واضحة لهذه الواقعة في عبارة مختصرة ، فتقول في الجملة الاولى :( وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ) .

«الغيظ» يعني (الغضب) ويأتي أحيانا بمعنى (الغمّ) ، وهنا جاء مزيجا من المعنيين ، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للانتصار على جيش الإسلام ، لكنّها خابت ، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.

والمراد من «الخير» هنا الإنتصار في الحرب ، ولم يكن انتصار جيش الكفر خيرا أبدا ، بل إنّه شرّ ، ولمّا كان القرآن يتحدّث من وجهة نظرهم الفكرية عبّر عنه بالخير ، وهو إشارة إلى أنّهم لم ينالوا أيّ نصر في هذا المجال.

وقال البعض : إنّ المراد من «الخير» هنا (المال) لأنّ هذه الكلمة أطلقت في مواضع اخرى بهذا المعنى ، ومن جملتها ما في آية الوصية (١٨٠) من سورة البقرة :( إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ ) .

ومع أنّ أحد الأهداف الأصليّة لمعسكر الكفر كان الحصول على غنائم المدينة والإغارة على هذه الأرض ، وهذا الباعث كان أهمّ البواعث في عصر الجاهلية ، لكنّنا لا نمتلك الدليل على حصر معنى (الخير) هنا بالمال ، بل يشمل كلّ الانتصارات التي كانوا يطمحون إليها ، وكان المال أحدها لكنّهم حرموا من الجميع.

وتضيف في الجملة التالية :( وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ) فقد هيّأ عوامل بحيث

__________________

(١) تفسير الميزان ، ذيل الآية مورد البحث.

٢٠٢

انتهت الحرب من دون حاجة إلى التحام واسع بين الجيشين ، ومن دون أن يتحمّل المؤمنون خسائر فادحة ، لأنّ العواصف الهوجاء القارصة قد مزّقت أوضاع المشركين من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ الله تعالى قد ألقى الرعب والخوف في قلوبهم من جنود الله التي لا ترى ، ومن جهة ثالثة فإنّ الضربة التي أنزلها علي بن أبي طالبعليه‌السلام بأعظم بطل من أبطالهم ، وهو «عمرو بن عبد ودّ» ، قد تسبّبت في تبدّد أحلامهم وآمالهم ، ودفعتهم إلى أن يلملموا أمتعتهم ويتركوا محاصرة المدينة ويرجعوا إلى قبائلهم تقدمهم الخيبة والخسران.

وتقول الآية في آخر جملة :( وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) فمن الممكن أن يوجد أناس أقوياء ، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يقهرون ، بل هناك من يقهرهم ومن هو أقوى منهم ، إلّا أنّ القوي العزيز الوحيد في العالم هو اللهعزوجل الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا انتهاء ، فهو الذي أنزل على المؤمنين النصر في مثل هذا الموقف العسير والخطير جدّا بحيث لم يحتاجوا حتّى إلى النزال وتقديم التضحيات!

* * *

بحوث

١ ـ ملاحظات هامّة في معركة الأحزاب

أ ـ إنّ معركة الأحزاب ـ وكما هو معلوم من اسمها ـ كانت حربا اتّحدت فيها كلّ القبائل والفئات المختلفة التي تعادي الإسلام ، للقضاء على الإسلام اليافع.

لقد كانت «حرب الأحزاب» آخر سعي للكفر ، وآخر سعي للكفر ، وآخر سهم في كنانته ، وآخر استعراض لقوى الشرك ، ولهذا قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»(١) عند ما تقابل أعظم أبطال العدوّ ، وهو عمرو بن عبد ودّ ، وبطل الإسلام الأوحد أمير

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢٠ ، صفحة ٢١٥ ، ونقل هذا الحديث عن الكراجكي.

٢٠٣

المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، لأنّ انتصار أحدهما على الآخر كان يعني انتصار الكفر على الإيمان ، أو الإيمان على الكفر ، وبتعبير آخر : كان عملا مصيريا يحدّد مستقبل الإسلام والشرك ، ولذلك فإنّ المشركين لم تقم لهم قائمة بعد انهزامهم في هذه المواجهة العظيمة ، وكانت المبادرة وزمامها بيد المسلمين بعدها دائما.

لقد أفل نجم الأعداء ، وانهدمت قواعد قوّتهم ، ولذلك نقرأ في حديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعد نهاية غزوة الأحزاب : «الآن تغزوهم ولا يغزوننا»(١) .

ب ـ ذكر بعض المؤرخّين أنّ عدد أفراد جيوش الكفر كان أكثر من عشرة آلاف محارب ، ويقول «المقريزي» في «الإمتاع» : إنّ قريشا أتت لوحدها بأربعة آلاف رجل ، وألف وثلاثمائة فرس ، وألف وخمسمائة من الإبل ، ونزلت عند حافّة الخندق ، وجاءت قبيلة بني سليم بسبعمائة رجل والتقوا بهم في مرّ الظهران ، وجاء «بنو فزارة» بألف ، وكلّ من «بني أشجع» و «بني مرّة» بأربعمائة ، والقبائل الاخرى أرسلت عددا من الرجال ، فتجاوز مجموع كلّ من حضر عشرة آلاف رجل.

في حين أنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز الثلاثة آلاف رجل ، وكانوا قد جعلوا مخيّمهم الأصلي أسفل جبل سلع ، وكانت نقطة مرتفعة جنب المدينة مشرفة على الخندق ، وكانوا يستطيعون عن طريق رماتهم السيطرة على حركة المرور من الخندق.

على كلّ حال ، فإنّ جيش الكفّار قد حاصر المسلمين من جميع الجهات ، وطالت هذه المحاصرة عشرين يوما ، وقيل خمسة وعشرين يوما ، وعلى بعض الرّوايات شهرا(٢) .

ومع أنّ العدوّ كان متفوقا على المسلمين من جهات مختلفة ، إلّا أنّه خاب في النهاية كما قلنا ، ورجع إلى دياره خالي الوفاض.

__________________

(١) التاريخ الكامل لابن الأثير الجزء ٢ صفحة ١٨٤.

(٢) بحار الأنوار ، الجزء ٢٠ ، صفحة ٢٢٨.

٢٠٤

ج ـ إنّ مسألة حفر الخندق قد تمّت ـ كما نعلم ـ بمشورة «سلمان الفارسي» ، وكانت هذه المسألة أسلوبا دفاعيا معتادا في بلاد فارس آنذاك ، ولم يكن معروفا في جزيرة العرب إلى ذلك اليوم ، وكان يعتبر ظاهرة جديدة ، وكانت لإقامته في أطراف المدينة أهميّة عظيمة ، سواء من الناحية العسكرية ، أم من جهة إضعاف معنويات العدوّ ورفع معنويات المسلمين.

ولا توجد لدينا معلومات دقيقة عن صفات الخندق ودقائقه ، فقد ذكر المؤرخّون أنّه كان من العرض بحيث لا يستطيع فرسان العدو عبوره بالقفز ، ومن المحتّم أنّ عمقه أيضا كان بالقدر الذي إذا سقط فيه أحد لم يكن يستطيع أن يخرج من الطرف المقابل بسهولة.

إضافة إلى أنّ سيطرة رماة المسلمين على منطقة الخندق كان يمكّنهم من جعل كلّ من يحاول العبور هدفا وغرضا لسهامهم في وسط الخندق وقبل عبوره.

وأمّا من ناحية الطول فإنّ البعض قد قدّره باثني عشر ألف ذراع (ستّة آلاف متر) استنادا إلى الرواية المعروفة التي تقول بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أمر أن يحفر كلّ عشرة رجال أربعين ذراعا من الخندق ، وبملاحظة أنّ عدد جنود المسلمين ـ طبقا للمشهور ـ بلغ ثلاثة آلاف رجل.

ولا بدّ من الاعتراف بأنّ حفر مثل هذا الخندق ، وبالآلات البدائية المستعملة في ذلك اليوم كان أمرا مضنيا وجهدا ، خاصّة وأنّ المسلمين كانوا في ضيق شديد وحاجة ملحّة من ناحية الزاد والوسائل الاخرى.

ومن المسلّم أنّ حفر الخندق قد استغرق مدّة لا يستهان بها ، وهذا يوحي بأنّ جيش المسلمين كان قد قدّر وخمّن وتوقّع التوقّعات اللازمة بدقّة كاملة قبل أن يهجم العدوّ بحيث أنّ حفر الخندق كان قد تمّ قبل ثلاثة أيّام من وصول جيش الكفّار.

٢٠٥

د ـ ساحة إمتحان عظيمة

إنّ غزوة «الأحزاب» كانت محكّا وامتحانا عجيبا لكلّ المسلمين ، ولمن كانوا يدّعون الإسلام ، وكذلك لأولئك الذين كانوا يدّعون الحياد أحيانا ، وكان لهم في الباطن ارتباط وتعامل مع أعداء الإسلام ويتعاونون معهم ضدّ دين الله.

لقد تبيّن بوضوح تامّ موقع الفئات الثلاث ـ المؤمنون الصادقون ، وضعفاء الإيمان ، والمنافقون ـ من خلال عملهم ، واتّضحت تماما القيم والمفاهيم الإسلامية ، فقد عكست كلّ من الفئات الثلاث في أتون الحرب الملتهبة حسن إيمانها أو قبحه ، وإخلاص نيّاتها أو عدمه.

لقد كانت العاصفة هو جاء شديدة لم تدع المجال لأيّ شخص أن يخفي ما في قلبه ، وظهرت امور في أقلّ من شهر ، وكان يحتاج كشفها إلى سنين ربّما تكون طويلة في الظروف الطبيعيّة.

وهنا مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أثبت عمليّا إيمانه الكامل بما جاء به من التعليمات الإلهيّة ووفاءه التامّ لها من خلال مقاومته وصلابته ، ورباطة جأشه ، وتوكّله على الله ، واعتماده على نفسه ، وكذلك أثبت للناس أنّه يطبّق قبل الآخرين ما يأمرهم به من خلال مواساته للمسلمين ومساعدتهم في حفر الخندق ، وتحمّله لمصاعب الحرب ومشاكلها.

ه ـ نزال عليعليه‌السلام التاريخي لعمرو بن عبد ودّ

من المواقف الحسّاسة والتاريخية لهذه الحرب مبارزة عليعليه‌السلام لبطل معسكر العدوّ العظيم «عمرو بن عبد ودّ» ، فقد جاء في التواريخ أنّ جيش الأحزاب كان قد دعا أشدّاء شجعان العرب للاشتراك والمساهمة في هذه الحرب ، وكان الأشهر من بين هؤلاء خمسة : عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة ، ونوفل ، وضرار.

٢٠٦

لقد استعدّ هؤلاء في أحد أيّام الحرب للمبارزة الفردية ، ولبسوا عدّة الحرب ، واستطاعوا اختراق الخندق والعبور بخيولهم إلى الجانب الآخر من خلال نقطة ضيّقة فيه ، كانت بعيدة نسبيا عن مرمى الرماة المسلمين ، وأن يقفوا أمام جيش المسلمين ، وكان أشهرهم «عمرو بن عبد ودّ».

فتقدّم وقد ركبه الغرور والاعتداد بالنفس ، وكانت له خبرة طويلة في الحرب ، ورفع صوته طالبا من يبارزه.

لقد دوّى نداؤه (هل من مبارز) في ميدان الأحزاب ، ولمّا لم يجرأ أحد من المسلمين على قتاله اشتدّت جرأته وبدأ يسخر من معتقدات المسلمين ، فقال : أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ هل فيكم من أرسله إلى الجنّة ، أو يدفعني إلى النار؟

وهنا أنشد أبياته المعروفة :

ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز

إنّ السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز

فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذلك أن يخرج إليه رجل ويبعد شرّه عن المسلمين ، إلّا أنّ أحدا لم يجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه عمرو» فقال عليعليه‌السلام : «وإن كان عمروا» فدعاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعمّمه ، وقلّده سيفه الخاصّ ذا الفقار ، ثمّ دعا له فقال : «اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته».

فمشى عليعليه‌السلام إلى الحرب وهو يرتجز :

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز

٢٠٧

من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز

وهنا قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كلمته المعروفة : «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»(١) .

فلمّا التقيا دعاه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى الإسلام أوّلا ، فأبى ، ثمّ دعاه إلى اعتزال الحرب ، فرفض ذلك ، واعتبره عارا عليه ، وفي الثالثة دعاه إلى أن ينزل عن ظهر جواده ويقاتله راجلا ، فغضب عمرو قال : ما كنت أحسب أحدا من العرب يدعوني إلى مثل ذلك ، فنزل من على ظهر فرسه وضرب علياعليه‌السلام على رأسه ، فتلقّاها عليعليه‌السلام بمهارة خاصّة بدرعه ، إلّا أنّ السيف قدّه وشجّ رأس عليعليه‌السلام .

هنا استعمل عليعليه‌السلام أسلوبا خاصّا ، فقال لعمرو : أنت بطل العرب ، وأنا أقاتلك ، فعلام حضر من خلفك؟ فلمّا التفت عمرو ، ضربه عليعليه‌السلام على ساقه بالسيف ، فسقط عمرو إلى الأرض ، فثارت غبرة ظنّ معها المنافقون أنّ علياعليه‌السلام قد قتل بسيف عمرو ، غير أنّهم لمّا سمعوا التكبير قد علا علموا بانتصار علي ، ورأوا فجأة علياعليه‌السلام يرجع إلى معسكره رويدا رويدا والدم ينزم من رأسه ، وعلى شفتيه ابتسامه النصر ، وكانت جثّة عمرو قد سقطت في جانب من الميدان.

لقد أنزل مقتل بطل العرب المعروف ضربة قاصمة بجيش الأحزاب بدّدت آمالهم وحطّمت معنوياتهم ، وهزمتهم نفسيا هزيمة منكرة ، وخابت آمالهم في النصر والظفر ، ولذلك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّها : «لو وزن اليوم عملك بعمل جميع امّة محمّد لرجح عملك على عملهم ، وذاك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلّا وقد دخله ذلّ بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من المسلمين ، إلّا وقد دخله عزّ يقتل عمرو»(٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢٠ ، صفحة ٢١٥ ، ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٤٤ طبقا لنقل إحقاق الحقّ ، الجزء ٦ ، صفحة ٩.

(٢) بحار الأنوار الجزء ٢٠ صفحة ٢١٦.

٢٠٨

وقد أورد العالم السنّي المعروف «الحاكم النيسابوري» هذا القول ، لكن بتعبير آخر :

«لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال امّتي إلى يوم القيامة»(١) .

والغاية من هذا الكلام واضحة ، لأنّ كلّا من الإسلام والقرآن كان على حافّة الهاوية ظاهرا ، وكان يمرّ بأحرج لحظاته وأصعبها ، ولذلك كانت التضحية في هذه الحرب أعظم التضحيات بعد تضحيات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث حفظت الإسلام من السقوط ودرأت عنه الخطر ، وضمنت بقاءه إلى يوم القيامة ، وببركة تضحية الإمامعليه‌السلام تجذّر الإسلام وتأصّل وشملت غصونه وأوراقه العالمين ، وبناء على هذا فإنّ عبادة الجميع مرهونة بعمله.

وذكر البعض : أنّ المشركين أرسلوا رسولا منهم ليشتري جثّة عمرو بعشرة آلاف درهم ـ وربّما كانوا يتصوّرون أنّ المسلمين سيفعلون بجثّة عمرو ما فعله قساة القلوب بجسد حمزة يوم أحد ـ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى»!

وهناك موقف يستحقّ الذكر والانتباه ، وهو : أنّ اخت عمرو لمّا وصلت إلى جسد أخيها ، ورأت أنّ علياعليه‌السلام لم يسلبه درعه الثمينة قالت : ما قتله إلّا كفؤ كريم(٢) .

وـ إجراءات النبي العسكرية والسياسية في هذه الحرب

كانت هناك مجموعة من العوامل المختلفة ، والأساليب العسكرية والسياسية ، وكذلك عامل العقيدة والإيمان ، ساهمت في انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين في معركة الأحزاب ، إضافة إلى التأييد الإلهي. عن طريق الرياح والعواصف الهوجاء

__________________

(١) مستدرك الحاكم ، الجزء ٣ ، صفحة ٣٢.

(٢) اعتمدنا في هذا الجانب على كتب : إحقاق الحقّ ، بحار الأنوار ، المجلّد ٦ ، بحار الأنوار ، المجلّد ٢٠ ، تفسير الميزان ، المجلّد ١٦.

٢٠٩

التي مزّقت جيوش الأحزاب شرّ ممزّق ، وكذلك جنود الله الغيبيين ، ومن جملة هذه العوامل والإجراءات :

١ ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أدخل بقبوله اقتراح حفر الخندق أسلوبا جديدا لم يكن موجودا ومعروفا بين العرب إلى ذلك اليوم ، وكان عاملا مهمّا في رفع معنويات المسلمين وكسر شوكة الكفّار.

٢ ـ المواقف والحسابات الدقيقة للمسلمين ، والأساليب والمناورات العسكرية كانت عاملا مؤثّرا في عدم نفوذ العدوّ إلى داخل المدينة.

٣ ـ قتل عمرو بن عبد ودّ على يد بطل الإسلام العظيم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسّلام ، وتبديد آمال الأحزاب بقتله يعدّ عاملا مؤثّرا آخر.

٤ ـ الإيمان بالله ، والتوكّل عليه ، والذي غرسه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في قلوب المسلمين ، وسقاه المسلمون على امتداد الحرب بتلاوة القرآن وكلمات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المؤثّرة.

٥ ـ أسلوب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وروحه الكبيرة ، واعتماده على نفسه الذي يمنح المسلمين قوّة واطمئنانا.

٦ ـ إضافة إلى ذلك ، فإنّ عمل «نعيم بن مسعود» كان أحد العوامل المهمّة في إيجاد الفرقة بين جيوش الأحزاب.

ز ـ نعيم بن مسعود وبثّ الفرقة في جيش العدوّ!

جاء «نعيم» إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان قد أسلم لتوّه ، ولم تعلم قبيلته (غطفان) بإسلامه ، فقال : أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما أنت فينا رجل واحد ، فخذل عنّا ما استطعت ، فإنّما الحرب خدعة».

فانطلق نعيم بخطّة رائعة ، وأتى يهود بني قريظة ، وكانت له معهم صداقة في الجاهلية ، فقال لهم : إنّي لكم صديق ، وأنتم تعلمون ذلك ، فقالوا : صدقت ، ونحن لا نتّهمك أبدا ، فقال : إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وإنّما قريش

٢١٠

وغطفان بلادهم غيرها ، وإنّما جاءوا حتّى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة انتهزوها ، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، ولا طاقة لكم به ، فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّدا ، فقالوا : قد أشرت برأي ، فقبل بنو قريظة قوله.

ثمّ أتى أبا سفيان وأشراف قريش متخفّيا ، فقال : يا معشر قريش ، إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّدا ودينه ، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ ، فقالوا : نفعل ، قال : تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمّد فبعثوا إليه : أنّه لا يرضيك عنّا إلّا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ، ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك ، فقالوا : بلى ، فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفرا من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحدا واحذروا.

ثمّ جاء إلى غطفان قبيلته ، فقال : تعلمون حسبي ونسبي ، وأنا أودّكم ، ولا أظنّكم تشكّون في صدقي ، فقالوا : نعلم ذلك ، فقال : لكم عندي خبر فاكتموه عليّ ، فقالوا : نفعل ، فقال لهم ما قال لقريش. وكان ذلك ليلة السبت من شوّال سنة خمس من الهجرة.

فأرسل أبو سفيان ورؤساء غطفان جماعة إلى بني قريظة فقالوا : إنّ الكراع والخفّ قد هلكا ، وإنّا لسنا بدار مقام ، فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه.

فأجابهم اليهود : إنّ غدا السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتّى نناجز محمّدا.

فلمّا بلغ ذلك قريشا وغطفان قالوا : والله لقد حذّرنا هذا نعيم ، فبعث إليهم أبو سفيان : إنّا لا نعطيكم رجلا واحدا فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا ، وإن شئتم فاقعدوا.

ولمّا علمت اليهود بذلك قالوا : هذا والله الذي قال لنا نعيم ، فإنّ في الأمر حيلة ،

٢١١

وهؤلاء لا يريدون القتال ، ويريدون أن يغيروا ويرجعوا إلى ديارهم ويذروكم ومحمّدا.

فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنّا والله لا نقاتل حتّى تعطونا رهنا ، فأصرّت قريش وغطفان على قولهما فوقع الاختلاف بينهم ، وبعث الله سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية قارصة البرد ، قلعت خيامهم ، وكفأت قدورهم.

لقد اتّحدت هذه العوامل ، فحزم الجميع أمتعتهم ورجّحوا الفرار على القرار ، ولم يبق منهم رجل في ساحة الحرب(١) .

ح ـ قصّة حذيفة

جاء في كثير من التواريخ أنّ «حذيفة اليماني» قال : والله ، لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلّا الله ، وفي ليلة من الليالي ـ بعد أن وقع الاختلاف بين جيش الأحزاب ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنّة».

قال حذيفة : فو الله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجوع ، فلمّا رأى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك دعاني ، فقلت : لبّيك ، قال : «اذهب فجئني بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع» ، فأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل ، ما يستمسك لهم بناء ، ولا تثبت لهم نار ، ولا يطمئن لهم قدر ، فإنّي لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ، ثمّ قال : يا معشر قريش ، لينظر أحدكم من جليسه لئلّا يكون هنا غريب ، فبدأت بالذي عن يميني ، فقلت : من أنت؟ قال : أنا فلان ، فقلت : حسنا.

ثمّ عاد أبو سفيان براحلته ، فقال : يا معشر قريش ـ والله ـ ما أنتم بدار مقام ، هلك الخفّ والحافر ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٠ باختصار.

٢١٢

ثمّ عجّل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلّا بعد ما ركبها.

فقلت في نفسي : لو رميت عدوّ الله وقتلته كنت قد صنعت شيئا ، فوترت قوسي ثمّ وضعت السهم في كبد القوس ، فلمّا أردت أن أطلقه ذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع» وإنّه طلب منّي أن آتيه بالخبر وحسب ، حططت القوس ثمّ رجعت إلى رسول الله فأخبرته الخبر ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهمّ أنت منزل الكتاب ، سريع الحساب ، أهزم الأحزاب ، اللهمّ أهزمهم وزلزلهم»(١) .

ط ـ نتائج حرب الأحزاب

لقد كانت حرب الأحزاب نقطة انعطاف في تاريخ الإسلام ، قلبت كفّة التوازن العسكري والسياسي لصالح المسلمين إلى الأبد. ويمكن تلخيص النتائج المثمرة لهذه المعركة في عدّة نقاط :

أ ـ فشل مساعي العدو ، وتحطّم قواه.

ب ـ كشف المنافقين ، وفضح الأعداء الداخليين الخطرين.

ج ـ جبران الذكرى الأليمة لهزيمة أحد.

د ـ قوّة المسلمين ، وازدياد هيبتهم في قلوب الأعداء.

ه ـ ارتفاع معنويات المسلمين نتيجة للمعجزات العظيمة التي رأوها في هذه المعركة.

وـ تثبيت مركز النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في داخل المدينة وخارجها.

ر ـ تهيؤ الأرضية لتصفية المدينة وإنقاذها من شرّ بني قريظة.

٢ ـ النّبي أسوة وقدوة

نعلم أنّ إختيار رسول الله من بين البشر إنّما هو من أجل أن يكونوا قدوة عملية

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٠ ، صفحة ٢٠٨.

٢١٣

للأمم ، لأنّ أهمّ جانب من جوانب دعوة الأنبياء وأكثرها تأثيرا هي الدعوة العملية ، ولذلك فإنّ علماء الإسلام اعتبروا العصمة شرطا لمقام النبوّة ، وإحدى أدلّتها وبراهينها هي أنّهم يجب أن يكونوا «قدوة» للناس ، و «أسوة» للبشر.

وممّا يسترعي الانتباه أنّ التأسّي بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الوارد في هذه الآية قد جاء بصورة مطلقة ، وهذا يشمل التأسّي في كافّة المجالات بالرغم من أنّ سبب نزول هذه الآيات هي معركة الأحزاب ، ونعلم أنّ أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآيات بها مطلقا ، ولذلك نرى في الأحاديث الشريفة أنّ أهمّ المسائل وأبسطها قد طرحت في مسألة التأسّي.

ففي حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول اللهعزوجل لنبيّه :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته لقوله :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ رسول الله كان إذا صلّى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه فوضع عند رأسه مخمرا» ثمّ يبيّن كيفية صلاة الليل التي كان يصلّيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقول في آخر الحديث :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٢) .

وإذا ما اتّخذنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أسوة لنا في حياتنا حقّا ، في إيمانه وتوكّله ، في إخلاصه وشجاعته ، في تنظيم أمره ونظافته ، وفي زهده وتقواه ، فإن أسلوب حياتنا سيختلف تماما ، وسيعمّ الضياء والسعادة كلّ زوايا حياتنا ونواحيها.

يجب اليوم على كلّ المسلمين ، وخاصّة الشباب المؤمن ، أن يقرءوا سيرة نبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدقّة متناهية ويحفظوها ، ويجعلوه قدوة وأسوة لهم في كلّ شيء ، فإنّ هذا التأسّي والاقتداء به سبيل السعادة ، ومفتاح النصر والعزّة.

__________________

(١) إحتجاج الطبرسي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٢٥٥.

(٢) وسائل الشيعة ، المجلّد ١ ، صفحة ٣٥٦.

٢١٤

٣ ـ اذكروا الله كثيرا

لقد وردت الوصيّة بذكر الله ـ وخاصّة الذكر الكثير ـ مرارا في الآيات القرآنية ، وقد أولته الروايات الإسلامية اهتماما كبيرا أيضا ، حتّى أنّنا نقرأ في حديث عن أبي ذرّ أنّه قال : دخلت المسجد فأتيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لي : «عليك بتلاوة كتاب الله وذكر الله كثيرا فإنّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض»(١) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إذا ذكر العبد ربّه في اليوم مائة مرّة كان ذلك كثيرا»(٢) .

وفي حديث آخر عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لأصحابه : «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من الدينار والدرهم ، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله كثيرا»(٣) .

لكن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ المراد من ذكر الله بكلّ هذه الفضيلة هو الذكر اللساني فقط ، بل قد صرّحت الروايات الإسلامية أنّ المراد منه إضافة لما مرّ هو الذكر القلبي والعملي ، أي أنّ الإنسان يذكر الله عند ما يواجه حراما فيتركه.

إنّ الهدف أن يجعل الإنسان الله نصب عينيه دائما ، ويشعر بحضوره وشهادته الدائمة ، وأن يغمر نور الله كلّ حياته ، فيفكّر فيه ويذكره دائما ، ولا يغفل عن أوامره بل يطيعها.

إنّ مجالس الذكر ليست تلك المجالس التي يجتمع فيها جماعة من المغفّلين ويشرعون في الطعام والشراب ، وتتخلّل مجالسهم تلك مجموعة من الأذكار

__________________

(١) الخصال ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٢٥٧.

(٢) سفينة البحار ، المجلّد ١ ، صفحة ٤٨٤.

(٣) المصدر السابق.

٢١٥

المخترعة ، والبدع التي يروجونها ، فقد ورد في حديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «بادروا إلى رياض الجنّة ، قالوا : وما رياض الجنّة؟ قال : حلق الذكر»(١) ، والمراد منها الحلقات التي تحيا فيها العلوم الإسلامية ، وتطرح البحوث التربوية التي تؤدّي إلى تهذيب الناس وتطهير المذنبين وتدفعهم إلى سبيل الله(٢) .

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلّد ١ ، ص ٤٨٦.

(٢) كان لنا بحث آخر حول أهميّة ذكر الله ومفهومه ذيل الآية (١٢٠) من سورة الرعد.

٢١٦

الآيتان

( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) )

التّفسير

غزوة بني قريظة انتصار عظيم آخر :

كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود ، وهم : بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أن لا تعين عدوّا له ولا يتجسّسوا لذلك العدوّ ، وأن يعيشوا مع المسلمين بسلام ، إلّا أنّ «بني قينقاع» قد نقضوا عهدهم في السنة الثّانية للهجرة ، و «بنو النضير» في السنة الرّابعة للهجرة بأعذار شتّى ، وصمّموا على مواجهة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانهارت مقاومتهم في النهاية ، وطردوا إلى خارج المدينة ، فذهب «بنو قينقاع» إلى أذرعات الشام ، وذهب بعض

٢١٧

«بني النضير» إلى خيبر ، وبعضهم الآخر إلى الشام(١) .

بناء على هذا فإنّ «بني قريظة» كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب ، وكما قلنا في تفسير الآيات السبع عشرة المتعلّقة بمعركة الأحزاب ، فإنّهم نقضوا عهدهم في هذه المعركة ، واتّصلوا بمشركي العرب ، وشهروا السيوف بوجه المسلمين.

بعد انتهاء غزوة الأحزاب والتراجع المشين والمخزي لقريش وغطفان وسائر قبائل العرب عن المدينة ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ طبقا للرّوايات الإسلامية ـ عاد إلى منزله وخلع لامة الحرب وذهب يغتسل ، فنزل عليه جبرئيل بأمر الله وقال : لماذا ألقيت سلاحك وهذه الملائكة قد استعدّت للحرب؟ عليك أن تسير الآن نحو بني قريظة وتنهي أمرهم.

لم تكن هناك فرصة لتصفية الحساب مع بني قريظة أفضل من هذه الفرصة ، حيث كان المسلمون في حرارة الإنتصار ، وبنو قريظة يعيشون لوعة الهزيمة المرّة ، وقد سيطر عليهم الرعب الشديد ، وكان حلفاؤهم من قبائل العرب متعبين منهكي القوى خائري العزائم ، وهم في طريقهم إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة ، ولم يكن هناك من يحميهم ويدافع عنهم.

هنا نادى مناد من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن توجّهوا إلى بني قريظة قبل أن تصلّوا العصر ، فاستعدّ المسلمون بسرعة وتهيّئوا للمسير إلى الحرب ، وما كادت الشمس تغرب إلّا وكانت حصون بني قريظة المحكمة محاصرة تماما.

لقد استمرت هذه المحاصرة خمسة وعشرين يوما ، وأخير سلّموا جميعا ـ كما سيأتي في البحوث ـ فقتل بعضهم ، وأضيف إلى سجل انتصارات المسلمين انتصار عظيم آخر ، وتطهّرت أرض المدينة من دنس هؤلاء المنافقين والأعداء اللدودين

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، المجلّد ٢ ، صفحة ١٣٧ ـ ١٧٣.

٢١٨

إلى الأبد.

وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إشارة مختصرة ودقيقة إلى هذه الحادثة ، وكما قلنا فإنّ هذه الآيات نزلت بعد الإنتصار ، وأوضحت أنّ هذه الحادثة كانت نعمة وموهبة إلهيّة عظيمة ، فتقول الآية أوّلا :( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ) .

«الصياصي» جمع (صيصية) ، أي : القلعة المحكمة ، ثمّ أطلقت على كلّ وسيلة دفاعية ، كقرون البقر ، ومخالب الديك. ويتّضح هنا أنّ اليهود كانوا قد بنوا قلاعهم وحصونهم إلى جانب المدينة في نقطة مرتفعة ، والتعبير بـ (أنزل) يدلّ على هذا المعنى.

ثمّ تضيف الآية :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) وأخيرا بلغ أمرهم أنّكم( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) .

إنّ هذه الجمل تمثّل مختصرا وجانبا من نتائج غزوة بني قريظة ، حيث قتل جمع من أولئك الخائنين على يد المسلمين ، وأسر آخرون ، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة من جملتها أراضيهم وديارهم وأموالهم.

والتعبير عن هذه الغنائم بـ «الإرث» لأنّ المسلمين لم يبذلوا كثير جهد للحصول عليها ، وسقطت في أيديهم بسهولة كلّ تلك الغنائم التي كانت حصيلة سنين طويلة من ظلم وجور اليهود واستثماراتهم في المدينة.

وتقول الآية في النهاية :( وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) .

هناك اختلاف بين المفسّرين في المقصود من( أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ) وأيّ أرض هي؟

فاعتبرها البعض إشارة إلى أرض خيبر التي فتحت على أيدي المسلمين فيما بعد.

واعتبرها آخرون إشارة إلى أرض مكّة.

٢١٩

وآخرون يعتقدون أنّها إشارة إلى أرض الروم وفارس.

ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الأراضي والبلدان التي وقعت في يد المسلمين من ذلك اليوم وما بعده إلى يوم القيامة.

إلّا أنّ أيّا من هذه الاحتمالات لا يناسب ظاهر الآية ، لأنّ الآية ـ بقرينة الفعل الماضي الذي جاء فيها (أورثكم) ـ شاهدة على أنّ هذه الأرض قد أصبحت تحت تصرّف المسلمين في حادثة غزوة بني قريظة ، إضافة إلى أنّ أرض مكّة ـ وهي إحدى التفاسير السابقة ـ لم تكن أرضا لم يطأها المسلمون ، في حين أنّ القرآن الكريم يقول :( وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ) .

والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى البساتين والأراضي الخاصّة ببني قريظة ، والتي لم يكن لأحد الحقّ في دخولها ، لأنّ اليهود كانوا يبذلون قصارى جهودهم في سبيل الحفاظ على أموالهم وحصرها فيما بينهم.

ولو أغمضنا ، فإنّها تتناسب كثيرا مع أرض «خيبر» التي أخذت من اليهود بعد مدّة ليست بالبعيدة ، وأصبحت في حوزة المسلمين ، حيث إنّ معركة «خيبر» وقعت في السنة السابعة للهجرة.

* * *

بحوث

١ ـ غزوة بني قريظة ودوافعها

إنّ القرآن الكريم يشهد بأنّ الدافع الأساس لهذه الحرب هو دعم يهود بني قريظة لمشركي العرب ومساندتهم في حرب الأحزاب ، لأنّه يقول :( الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ ) .

إضافة إلى أنّ اليهود في المدينة كانوا يعتبرون الطابور الخامس لأعداء الإسلام ، وكانوا مجدّين في الإعلام المضادّ للإسلام ، ويغتنمون كلّ فرصة مناسبة

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

يقول الأُستاذ الطنطاوي: ويعتقد بعض العلماء اليوم أنّ تبادل الخواطر هو مستوى القوّة التي تُمكّن الشخص مِن نقل آرائه إلى شخصٍ آخر بدون أيّة واسطة مادّية أو ظاهريّة، فهل هذا الرأي مُمكن أو مُحتمل الوقوع؟ وإجابةً على ذلك يقول العالِم الإنجليزي (برسي): إنّ نقل الأفكار قد يحدث في أوقات شاذّة وحالات خاصّة، وذلك مالا يُعارض فيه أحد من الباحثينَ، ولكنّه لا ينطبق على الحالات العامّة، وذلك التبادل قد يُرى بوضوح بين الحشرات والحيوانات قد اقتربت حشرةً من أُخرى. قال: وبذلك نعرف أنّ الحيوانات تُكلّم بعضها بنقل الخواطر، والنَّمل من هذا القبيل، وأنّ الإنسان مُستعدّ لذلك؛ لأنّه من جُملة مواهبه، ولكن هذه المـَوهبة تجيء تارةً بطريق الوحي الخارق للعادة وتارةً بالتَمرين (1) .

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً

زَعَموا أنّ القرآن ذَكَر مراحل تكوين الجنين فيما يُخالف العِلم الثابت اليوم!

ففي قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) .

جاء في تفسير الجلالَين: ( عَلَقَةً ) دماً جامداً، ( مُضْغَةً ) لَحمَة قَدَر ما يُمضغ (3) .

وهكذا جاء في تفسير المراغي (4) وغيره مِن المتأخّرين.

ومعنى ذلك: أنّ النطفة تحوّلت دماً مُتخثّراً، وتحوّل الدم إلى مُضغةٍ أي لَحمَة شِبه ممضوغة أو بقدرها، ثمّ تحوّلت اللَحمة إلى العظام.

الأمر الذي يتنافى مع العِلم القائل بأنّ اللحم ينبت على العظام بعد خَلقها، كما هو صريح القرآن أيضاً وهذا يبدو متناقضاً ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) !!

____________________

(1) تفسير الجواهر، ج13، ص158 - 159.

(2) المؤمنون 23: 12 - 14.

(3) تفسير الجلالَين، ج2، ص44.

(4) تفسير المراغي، ج18، ص8.

٣٢١

غير أنّ هذه الشُبهة نشأت مِن خطأ هؤلاء المفسّرين وليست واردة على القرآن.

فقد كان تعبير القرآن أنّ النُطفة - وهي خليّة الذَكَر تمتزج ببويضة المرأة - تتحوّل إلى علقة: كُرة جرثوميّة لها خلايا آكلةً وقاضمةً تُعلّق بواسطتها وبواسطة حملات دقيقة بجدار الرحم، تتغذّى بدم المرأة، وهذه النُطفة الصغيرة العالقة تشبه دودة العَلَقة التي تَمتصّ الدم.

ثمّ إنّ هذه العَلَقَة تتحوّل إلى كُتلة غُضروفيّة تشبه ممضوغة العِلك في الفم، وتكون منشأ لتكوين العظام ثُمّ تكوين العضلات بعد بِضعة أيّام؛ لتكسو العظام أي تُغطّيها وتلتحم معها.

ومعنى ذلك: أنّ العِظام تسبق العضلات، ثُمّ تكسو العضلات العظام، وصدق الله العظيم حيث يقول: ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) .

قال سيّد قطب: وهنا يَقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كَشَف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تُعرف على وجه الدقّة إلاّ أخيراً بعد تقدّم عِلم الأجنّة التشريحي، ذلك أنّ خلايا العظام غير خلايا اللحم (العضلات)، وقد ثبت أنّ خلايا العِظام هي الّتي تتكوّن أَوّلاً في الجنين، ولا تُشاهد خليّة واحدة من خلايا اللحم إلاّ بعد ظهور خلايا العِظام وتمام الهيكل العظمي للجنين، وهي الحقيقة التي يُسجّلها النصّ القرآني (1) .

وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند الكلام عن إعجاز القرآن العلمي في الجزء السادس من التمهيد.

وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ

يبدو من ظاهر تعبير آيات قرآنيّة أنّ النجوم جُعلت شُهُباً يُرمى بها الشياطين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ) (2) .

وقال ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى

____________________

(1) في ظِلال القرآن، ج 18، ص 16 - 17.

(2) المـُلك 67: 5.

٣٢٢

الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (1) .

وقال سبحانه: ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (2) .

وقال عزّ مَن قائل: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) (3) .

غير خفيّ أنّ الشُهُب والنيازك إنّما تَحدث في الغلاف الغازي (الهواء) المحيط بالأرض؛ وقايةً لها، وقُدّر سُمكُه بأكثر من ثلاثمِئة كيلومتر، وذلك على أثر سقوط أحجار هي أشلاء متناثرة في الفضاء المتبقّية من كواكب اندثرت تعوم عبر الفضاء، فإذا ما اقتربت من الأرض انجذبت إليها بسرعة هائلة ما بين 50 و 60 كيلومتراً في الثانية، تخترق الهواء المحيط بالأرض، ولاحتكاكها الشديد بالهواء من جهةٍ ولتأثير الغازات الهوائيّة من جهةٍ أخرى تَحترق وتلتهب شعلة نار، لتتحوّل إلى ذرّات عالقة في الهواء مُكوّناً منها الغُبار الكوني، وهي في حال انقضاضها - وهي تشتعل ناراً - تُرى بصورة نجمة وهّاجة ذات ذَنب مستطيل تُدعى الشُهُب والنيازك.

فليست الشُهُب سِوى أحجار مُلتهبة في الهواء المحيط بالأرض، قريبة منها! فما وجه فَرضها نُجوماً في السماء يُرجم بها الشياطين الصاعدة إلى الملأ الأعلى؟!

لكن يجب أنْ نعلم قبل كلّ شيء أنّ التعابير القرآنيّة - وهي آخذة في الحديث عن كائنات ما وراء المادّة - ليس ينبغي الأخذ بظاهرها اللفظي؛ حيث الأفهام تقصر عن إدراك ما يفوق مستواها المادّي المحدود، والألفاظ أيضاً تضيق عن الإدلاء بتلك المفاهيم الرقيقة البعيدة عن متناول الحسّ.

وبتعبير اصطلاحي: إنّ الأفهام وكذا الألفاظ محدودة في إطار المادّة الكثيفة، فلا تَنال المجرّدات الرقيقة.

____________________

(1) الصافّات 37: 7 - 10.

(2) الجنّ 72: 8 و 9.

(3) الحجر 15: 16 - 18.

٣٢٣

وعليه، فكلّ تعبير جاء بهذا الشأن إنّما هو مجاز واستعارة وتمثيل بِلا ريب.

فلا تَحسب مِن الملأ الأعلى عالَماً يشبه عالَمَنا الأسفل، سوى أنّه واقع في مكان فوق أجواء الفضاء؛ لأنّه تصوّر مادّي عن أمرٍ هو يفوق المادةّ ومُتجرّد عنها، وعليه، فَقِس كلّ ما جاء في أمثال هذه التعابير.

فلا تتصوّر من الشياطين أجساماً على مثال الأناسي والطيور، ولا رَجمها بمِثل رمي النُشّاب إليها، ولا مُرودها بمثل نفور الوحش، ولا استماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى بالسارق المتسلّق على الحيطان، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيات، ولا الحرس الذين ملئوا السماء بالجنود المتصاكّة في القِلاع، ولا رصدها بالكمين لها على غِرار ميادين القتال... إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمرٍ غير محسوس إلى الحسّ لغرض التفهيم، فهو تقريبٌ ذهني، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشُقّة واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البُعد.

قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة؛ ليُتصوّر بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان، وهو القائل عزّ وجلّ: ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ ) (1) (أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلاّ مَن عَرف أنها أمثال ظاهريّة ضُربت للتقريب محضاً).

قال: وأمثال هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.

قال: وعلى هذا، فيكون المـُراد من السماء التي مَلأَتْها الملائكة: عالَماً ملكوتيّاً هو أعلا مرتبة من العالم المشهود، على مِثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض، والمـُراد من اقتراب الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشُهب: اقترابهم من عالم الملائكة لغرض؛ الاطّلاع على أسرار الملكوت، وثَمّ طردهم بما لا يَطيقون تَحمّله مِن قذائف النور،

____________________

(1) العنكبوت 29: 43.

٣٢٤

أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر، وثَمّ دحرهم ليعودوا خائبينَ (1) ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (2) .

والآيات من سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام، وقد أَيسَ الشيطان من أنْ يُعبد وعلا نفيره.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد سمعتُ رنّةَ الشيطان حين نَزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلتُ: يا رسولَ الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته) (3) .

يقول تعالى في سورة الجنّ: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناًَ عَجَباً - إلى قوله: - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (4) ، فهي حكاية عن حالٍ حاضرة وَجَدَتها الجنّ حينما بُعث نبيّ الإسلام.

وبهذا يشير قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (5) ، وقوله: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (6) .

نعم، كانت تلك بُغية إبليس أنْ يتلاعب بوحي السماء ولكن في خيبة آيسة: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى (ظهور شريعته) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (7) ، أي حاول إبليس الحؤول دون بلوغ أُمنيّة الأنبياء، فكان يَندحر ويَغلب الحقّ الباطل وتَفشل دسائسه في نهاية المطاف.

أمّا عند ظهور الإسلام فقد خاب هو وجنوده منذ بدء الأمر وخَسِر هنالك المـُبطلون.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فلمـّا وُلد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حُجِب (إبليس) عن السبع السماوات ورُميت الشياطين بالنجوم...) (8) .

____________________

(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 130 نقلاً مع تصرّفٍ يسير.

(2) الأنبياء 21: 18.

(3) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص 301.

(4) الجنّ 72: 1 - 9.

(5) الحجر 15: 9.

(6) الفتح 48: 28.

(7) الحجّ 22: 52.

(8) الأمالي للصدوق، ص 253، المجلس 48، وبحار الأنوار، ج 15، ص 257.

٣٢٥

وفي حديث الرضا عن أبيه الكاظم عن أبيه الصادق (عليهم السلام) في جواب مُساءَلة اليهود: (أنّ الجنّ كانوا يَسترقون السمعَ قَبل مَبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فمُنِعت مِن أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم وبُطلان (عمل) الكَهَنة والسحرة) (1) .

وهكذا حاول الشيخ الطنطاوي تأويل ظواهر التعابير الواردة في هذه الآيات إلى إرادة التمثيل، قال - ما مُلخّصه -: إنّ العلوم التي عَرفها الناس تُراد لأَمرَين: إمّا لمعرفة الحقائق لإكمال العقول، أو لنظام المعايش والصناعات لتربية الجسم، وإلى الأَوّل أشار بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ) (2) ، وإلى الثاني قوله: ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) (3) ، وكلّ مَن خالف هاتَين الطريقتَين فهو على أحد حالَين: إمّا أنْ يُريد ابتزاز أموال الناس بالاستعلاء بلا فائدة، وإمّا أنْ يُريد الصيت والشُهرة وكسب الجاه، وكلاهما لا نفع في عِلمه ولا فضل له.

فمَن طلب العِلم أو أكثر في الذِكر؛ ليكون عالةً على الأُمّة فهو داخلٌ في نوع الشيطان الرجيم، مرجوم مُبعدٌ عن إدراك الحقائق ومُعذّبٌ بالذّل والهوان، وهذا مِثال قوله تعالى:) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى (فلا يعرفون حقائق الأشياء) وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً ) بما رُكّب فيهم من الشهوات وما اُبتلوا من العاهات ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) أي في أَمل متواصل مُلازم لهم مدى الحياة، فلو حاول أنْ يَخطِف خَطفة من الحقائق حالت دون بلوغه لها الأميال الباطلة ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (4) .

نعم ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) (5) ، ولا شكّ أنّها كناية عن حرمانهم العناية الربّانيّة المـُفاضة مِن مَلكوت أعلى، الأمر الذي أُنعِمَ به الرّبانيّون في هذه الحياة: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) (6) ، فملائكة الرَحمة تَهبط إليهم وهم في مواضعهم آمنون مستقرّون سائرون في طريقهم صُعُداً إلى قمّة الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج 17، ص 226 عن قرب الإسناد للحميري، ص 133.

(2) الحجر 15: 16.

(3) الأعراف 7: 10، الحجر 15: 20.

(4) الصافّات 37: 6 - 10. راجع: تفسير الجواهر، ج 8، ص 13، وج 18، ص 10.

(5) الأعراف 7: 40.

(6) فصّلت 41: 30.

٣٢٦

وكذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) (1) ، أي آخذ في الصعود إلى سماء العزّ والشرف والسعادة. ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (2) ، فما هذا الصعود وهذا الرفع؛ إلاّ ترفيعاً في مدارج الكمال.

وهكذا جاء التعبير بفتح أبواب السماء كنايةً عن هطول المطر ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) (3) ، وأمثال هذا التعبير في القرآن كثير (4) ، والجميع مَجاز وليس على الحقيقة سواء في المعنويّات أم الماديّات، فلو كان عيباً لعَابَه العرب أصحاب اللغة العَرباء في الجزيرة، لا أرباب اللغة العجماء من وراء البحار.

وأمّا النجوم التي يُرجم بها الشياطين (أبالسة الجنّ والإنس) فهم العلماء الربّانيّون المتلألئون في أُفق السماء، يقومون في وجه أهل الزيغ والباطل فيَرجموهم بقذائف الحُجج الدامغة ودلائل البيّنات الباهرة، ويَرمونهم من كلّ جانب دحوراً.

فسماء المعرفة مُلئت حرساً شديداً وشُهُباً. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يَحمل هذا الدِّين في كلِّ قَرن عدولٌ يَنفون عنه تأويل المـُبطلينَ وتحريف الغالينَ وانتحال الجاهلين...) (5) .

وقد أطلق النُجوم على أئمة الهُدى ومصابيح الدُجى من آل بيت الرسول (عليهم السلام) فقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (6) قال: النُجوم آل مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) (7) .

وفي حديث سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال: خَطَبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: (مَعاشرَ الناسِ، إنّي راحل عنكم عن قريب ومُنطلق إلى المـَغيب، أُوصيكم في عترتي خيراً وإيّاكم والبِدع، فإنّ كلّ بِدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالة وأهلها في النار، معاشرَ الناسِ، مَن افتقدَ الشمس فليتمسّك بالقمر، ومَن افتقدَ القمر فليتمسّك بالفرقَدَين، ومَن افتقدَ الفرقَدَين فليَتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي واستغفر اللّه لي ولكم).

____________________

(1) إبراهيم 14: 24.

(2) فاطر 35: 10.

(3) القمر 54: 11.

(4) الأنعام 6: 44، الأعراف 7: 96، الحجر 15: 14، النبأ 78: 19.

(5) بحار الأنوار، ج2، ص93، رقم 22 من كتاب العلم.

(6) الأنعام 6: 97.

(7) تفسير القميّ، ج1، ص211.

٣٢٧

قال سلمان: فتَبِعتُه وقد دَخل بيت عائشة وسألتُه عن تفسير كلامه فقال - ما ملخّصه -: (أنا الشمس وعليٌّ القمر، والفرقَدان الحسن والحسين، وأمّا النجوم الزاهرة فالأئمة مِن وُلد الحسين واحداً بعد واحد...) (1) (كلّما غابَ نجمٌ طلعَ نجمٌ إلى يوم القيامة) كما في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رحمة اللّه عليهما قاله في شأن أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

وفي حديث أبي ذر رضوان اللّه عليه التعبير عنهم بـ (النُجُوم الهادية) (3) وأمثال ذلك كثير.

سبع سماوات عُلا

قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ - إلى قوله: - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (4) .

ظاهر التعبير أنّ السماوات السبع هي أجواء وفضاءات متراكبة بعضُها فوق بعضٍ؛ لتكون الجميع محيطةً بالأرض من كلّ الجوانب ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ) (5) ، حيث الفوقيّة بالنسبة إلى جسم كريّ - هي الأرض - إنّما تعني الإحاطة بها من كلّ جانب.

وأيضاً فإنّ السماء الدنيا - وهو الفضاء الفسيح المـُحيط بالأرض - هي التي تَزينَّت بزينة الكواكب ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) (6) ، والظاهر يقتضي التركيز فيها، وإنْ كان مِن المـُحتمل تَجلّلها بما تُشِعّ عليها الكواكبُ من أنوار!

ويبدو أنّ هذا الفضاء الواسع الأرجاء - بما فيه من أَنجم زاهرة وكواكب مضيئة لامعة - هي السماء الأُولى الدنيا، ومن ورائها فضاءات ستٌّ في أبعادٍ مُترامية، هي مليئة بالحياة لا يعلم بها سِوى صانعها الحكيم، ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً ) (7) .

والعقل لا يفسح المجال لإنكار ما لم يَبلغه العلم، وهو في بدء مراحله الآخذة إلى الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج36، ص 289، عن كتاب كفاية الأثر للخزّار الرازي، باب ما جاء عن سلمان في النصّ على الأئمة الاثني عشر، ص293.

(2) بحار الأنوار، ج40، ص203 عن جامع الأخبار للصدوق، ص15.

(3) راجع: بحار الأنوار، ج28، ص275.

(4) الملك 67: 3 - 5.

(5) النبأ 78: 12.

(6) ق 50: 6.

(7) الإسراء 17: 85.

٣٢٨

نعم، يزداد العلم يقيناً - كلّما رَصَد ظاهرة كونيّة - أنّ ما بَلَغه ضئيل جدّاً بالنسبة إلى ما لم يبلغه، ويزداد ضآلةً كلّما تقدّم إلى الأمام؛ حيث عَظَمة فُسحة الكون تَزداد اُبّهةً وكبرياءً كلّما كُشف عن سرٍّ من أسرار الوجود وربّما إلى غير نهاية، لاسيّما والكون في اتّساع مطّرد: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (1) .

هذا وقد حاول بعضهم - في تَكلّفٍ ظاهر - التطبيق مع ما بَلغه العِلم قديماً وفي الجديد مِن غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولعلّ الأناة حتّى يأتي يوم يساعد التوفيق على حلّ هذا المجهول من غير تكلّفٍ، كانت أفضل.

يقول سيّد قطب: لا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يَصل إليه عِلمنا؛ لأنّ علمنا لا يُحيط بالكون حتّى نقول على وجه التحقيق: هذا ما يريده القرآن، ولن يصحّ أنْ نقول هكذا إلاّ يوم يَعلم الإنسان تَركيبَ الكون كلّه عِلماً يقيناً، وهيهات... (2)

وإليك بعض محاولات القوم: حاول بعض القُدامى تطبيق التعبير الوارد في القرآن على فرضيّة بطلميوس لهيئة الأفلاك التي هي مَدارات الكواكب فيما حَسبه حول الأرض (3) ، ولكن من غير جَدوى؛ لأنّ الأفلاك في مزعومتِه تسعة؛ ومِن ثَمَّ أضافوا على

____________________

(1) الذاريات 51: 47.

(2) في ظِلال القرآن، ج28، ص152.

(3) زَعموا أنّ الأرض في مركز العالَم، وأنّ القمر وعطارد والزُهرة والشمس والمرّيخ والمشتري وزحل سيّارات حولها، في مَدارات هي أفلاك بعضها فوق بعض بنفس الترتيب، وكلّ وأحدٍ منها في فَلكٍ دائر حول الأرض من الغرب إلى الشرق في حركةٍ معاكسةٍ لحركتها اليوميّة من الشرق إلى الغرب على أثر تحريك الفَلك التاسع، المـُسمّى عندهم بفَلك الأفلاك أو بالفَلك الأطلس؛ لعدم وجود نجم فيه وأمّا النجوم الثوابت فهي مركوزة في الفَلك الثامن، فهذه تسعة أفلاك مُحيطة بالأرض بعضها فوق بعض.

وهكذا جاء في إنجيل برنابا من كلام المسيح (عليه السلام): أنّ السماوات تسع، فيها السيّارات، وتَبعُد إحداها عن الأُخرى مسيرة خمسمِئة عام.

ولمـّا تُرجمت فلسفة اليونان إلى العربيّة، ودَرَسها علماء الإسلام وَثقوا بأنّ الأفلاك تسعة، وقال بعضهم: هي سبع سماوات، والكرسي فَلك الثوابت، والعرش هو الفَلك المـُحيط.

والغريب أنّ مِثل مُحيي الدين ابن عربي اغترّ بهذه الغريبة وحسبها حقيقة وبنى عليها معارفَه الإشراقيّة فيما زعم، (راجع: الفتوحات المكّيّة، الباب 371 والفصل الثالث منه، ج3، ص416 و433، وكذا الفصّ الإدريسي من فصوص الحكم، ج1، ص75)، وهكذا شيخنا العلاّمة بهاء الدين العاملي في كتابه تشريح الأفلاك، وهو عجيب!

ولقد أَعجبني كلام أبي الحسن علي بن عيسى الرّمّاني المـُعتزلي في تفسير الآية، حيث أنكر إرادة الأفلاك البطلميوسيّة من السماوات السبع في القرآن؛ محتجّاً بأنّه تفسير يُخالف ظاهر النصّ، راجع: تفسير التبيان للشيخ الطوسي، ج1، ص 127.

٣٢٩

السماوات السبع - الواردة في القرآن - العرش والكرسي؛ ليَكتمل التسع ويحصل التطابق بين القرآن وفرضيّةٍ أساسُها الحَدسُ والتخمينُ المجرّد.

وأمّا المحدَثون فحاولوا التطبيق على النظرة الكوبرنيكيّة الحديثة، حيث الشمس هي نواة منظومتها والكُرات دائرة حولها ومنها الأرض مع قمرها (1) .

زَعَموا أنّ المـُراد بالسماوات السبع، هي الأجرام السماويّة، الكُرات الدائرة حول الشمس، تُرى فوق الأرض في أُفقها. فالسماوات - في تعبير القرآن على هذا الفرض - هي الأجرام العالقة في جوّ السماء (وكان جديراً أنْ يُقال - بَدلَ السماوات - السماويّات).

يقول الشيخ الطنطاوي: هذا هو الذي عرفه الإنسان اليوم من السماوات. فَقَايسَ بين ما ذَكَره علماء الإسكندريّة بالأمس، ويبن ما عرفه الإنسان الآن، إنّ عظمة اللّه تَجلّت في هذا الزمان..

إذن فما جاء في إنجيل برنابا مَبنيّاً على عِلم الإسكندرون أصبح لا قيمة له بالنسبة للكشف الحديث الذي يُوافق القرآن (2) .

ويزداد تَبّجُحاً قائلاً: إذن دين الإسلام صار الكشف الحديث مُوافقاً له، وهذه معجزة جديدة جاءت في زماننا.

ثُمَّ يورد أسئلةً وُجّهت إليه، منها: التعبير بالسبع، فيجيب: أنّ العدد غير حاصر، فسواء قُلت سبعاً أو ألفاً فذلك كلّه صحيح؛ إذ كلّ ذلك من فعل اللّه دالّ على جماله وكماله.

____________________

(1) جاءت النظرية على الأَساس التالي:

1 - الشمس: نَواة المنظومة.

2 - نجمة فلكان: بُعدها عن الشمس 13 مليون ميلاً، ودورها المحوري 18 ساعة، ودورها حول الشمس 20 يوماً.

3 - كوكب عطارد: بُعدها 35 مليون ميلاً دَورها المحوري 24 ساعة و5 دقائق، حول الشمس 88 يوماً.

4 - الزُهرة: بُعدها 66 مليون ميلاً، دَورها المحوري 23 ساعة و22 دقيقة، حول الشمس 225 يوماً.

5 - الأرض: بُعدها 93 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة، حول الشمس 365 يوماً.

6 - المرّيخ: بُعدها 140 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة و38 دقيقة، حول الشمس 687 يوماً.

7 - المشتري: بُعدها 476 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 12 سنة.

8 - زُحل: بُعدها 876 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات و 15 دقيقة، حول الشمس 29 سنة ونصفاً.

9 - أُورانوس: بُعدها 1753 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 84 سنة وأُسبوعا.

10 - نبتون: بُعدها 2746 مليون ميلاً، دَورها المحوري مجهول، حول الشمس 164 سنة و285 يوماً.

راجع: الهيئة والإسلام للسيّد هبة الدين الشهرستاني، ص61 - 62.

(2) تفسير الجواهر، ج1، ص49 الطبعة الثانية.

٣٣٠

وأخيراً يقول: إنّ ما قُلناه ليس القصد منه أنْ يَخضع القرآن للمباحث (العلميّة) فإنّه ربّما يَبطل المذهب الحديث كما بَطل المذهب القديم، فالقرآن فوق الجميع، وإنّما التطبيق؛ كان ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لظاهر مخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم (1) .

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني - علاّمة بغداد في عصره - محاولة أُخرى للتطبيق، فَفَرض من كلّ كُرة دائرة حول الشمس ومنها الأرض أرضاً والجوّ المحيط بها سماءً، فهناك أَرَضون سبع وسماوات سبع، الأُولى: في أرضنا وسماؤها الغلاف الهوائي المحيط بها، والأرض الثانية: هي الزُهرة وسماؤها الغلاف البخاري المحيط بها، والثالثة: عطارد وسماؤها المحيط بها، الرابعة: المرّيخ وسماؤها المحيط بها، الخامسة: المشتري وسماؤها المحيط بها، السادسة: زُحل وسماؤها المحيط بها، السابعة: أورانوس وسماؤها المحيط بها.

قال: ترتيبنا المـُختار تنطبق عليه مقالات الشريعة الإسلاميّة ويُوافق الهيئة الكوبرنيكيّة.

وأسند ذلك إلى حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) سنوافيك به عند الكلام عن الأَرَضين (2) .

وذكر الحجّة البلاغي أنّ السماوات السبع لا يمتنع انطباقها على كلّ واحدة من الهيئتَين القديمة والجديدة، فيُمكن أنْ يُقال على الهيئة القديمة: إنّ السماوات السبع هي أفلاك السيّارات السبع، وإنّ فَلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (3) ، وإنّ الفَلك الأطلس المـُدير - على ما زَعَموا - هو العرش في قوله تعالى: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (4) .

ويُمكن أنْ يُقال على الهيئة الجديدة: إنّ السماوات السبع هي أفلاكٌ خمسٌ من السيّارات مع فَلكَي (الأرض) و(فلكان) والعرش والكرسي هما فَلَكا (نبتون) و(أُورانوس)، وأمّا الشمس فهي مركز الأفلاك، والقمر تابع للأرض وفَلَكه جزء من فَلَكها (5) .

____________________

(1) المصدر: ص 50 - 51 بتصرّف وتلخيص.

(2) الهيئة والإسلام، ص177 - 179.

(3) البقرة 2: 255.

(4) المؤمنون 23: 86.

(5) الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي، ج2، ص7.

٣٣١

قال: والحاصل أنّ كلاًّ مِن وضعَي الهيئة القديمة والجديدة يُمكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه، ولكنّه يُمكن أنْ يتعدّاه التحقيق إلى وضعٍ ثالث ورابع، فلا يَحسُن الجزم بشيءٍ ما لم يُشاهد بالتفصيل أو بصراحة الوحي، لكنّ الحِكمة تقتضي أنْ لا يتولّى الوحي بصراحته بالتفصيل (1) .

وبعد، فالطريقة السليمة هي التي سَلكها سيّدنا العلاّمة الطباطبائي، يقول:

إنّ المـُستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - وليست نصّاً - أنّ السماء الدنيا هي عالم النجوم والكواكب فوقنا، وأنّ السماوات السبع هي أجواء متطابقة أقربُها منّا عالم النُجوم، ولم يَصف لنا القرآن شيئاً مِن الستّ الباقية سِوى أنّها طِباق، وليس المراد بها الأَجرام العلوية سواء من مَنظُومتنا الشمسيّة أو غيرها.

وما وَرد مِن كون السماوات مأوى الملائكة يَهبطون منها ويَعرجون إليها، ولها أبواب تُفتَّح لنزول البركات، كلّ ذلك يكشف عن أنّ لهذه الأُمور نوع تعلّق بها لا كتعلّقها بالجسمانيّات، فإنّ للملائكة عوالم ملكوتيّة مُترتّبة سماوات سبعاً ونُسب ما لها من الآثار إلى ظاهر هذه السماوات؛ بلحاظ ما لها من العلوّ والإحاطة والشمول، وهو تسامح في التعبير تقريباً إلى الأذهان الساذجة (2) .

ولبعض العلماء الباحثين في المسائل الروحيّة في إنجلترا - (هو: جيمس آرثر فندلاي من مواليد 1883م) - تصوير عن السماوات السبع يَشبه تصويرنا بعض الشيء: يرى من كُرة الأرض واقعة في وسط أبهاء وفضاءات تُحيط بها من كلّ الجوانب، في شكل كُراتٍ مُتخلِّلةٍ بعضُها بعضاً ومتراكبة إلى سبعة أطباق، كلّ طبقة ذات سطحَين أعلى وأسفل، مِلءُ ما بينهما الحياة النابضة، يُسمّى المجموع العالَم الأكبر الذي نعيش فيه، نحن في الوسط على وجه الأرض.

وهذه الأجواء المتراكبة تُحيط بنا طِباقاً بعضها فوق بعض إلى سبع طَبقات، وإنْ شئت فعبّر بسبع سماوات؛ لأنّها مبنيّة في جهةٍ أعلى فوق رؤوسنا، وإليك الصورة حسبما رَسَمها في كتابه (الكون المنشور).

____________________

(1) المصدر: ج2، ص6.

(2) تفسير الميزان، ج17، ص392 - 393.

٣٣٢

شَكل الأرض في الوسط تَحيط بها سبع أطباق هي سماوات عُلى:

في هذا الشَكل - كما رَسَمه (جيمس آرثر فندلاي) - نجد العالم الأَكبر في صورة أبهاء متراكبة بعضها فوق بعض مملوءة بالحياة، ويُرى الحياة في حركتها إلى أعلى وأسفل في شكل خُطوطٍ مُنحنية على السطوح، وتُمثّل الصُلبان الصغيرة الحياة على الأرض، أمّا النُقط فتُمثّل الحياة الأثيريّة ويُلاحظ أنّها ليست مقصورة على السطوح وحدَها؛ لأنّ الفضاءات بين السطوح مِلؤها الحياة سابحة فيها! (1)

____________________

(1) راجع: ملحق كتابه (على حافّة العالم الأثيري) تَرجمة أحمد فهمي أبو الخير (ط3)، ص199.

٣٣٣

مسائل ودلائل

هنا عدة أسئلة تستدعي الوقوف لديها:

1 - ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (1) .

وقال: ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (2) .

هلاّ كان التعبير بالفَلَك مُتابعة لِما حَسبه بطلميوس؟

قلت: لا؛ لأنّ الفَلَك لفظة عربيّة قديمة يُراد بها الشيء المـُستدير، ومن الشيء مُستداره، قال ابن فارس: الفاء واللام والكاف أصل صحيح (3) يدلّ على استدارةٍ في شيء، من ذلك (فَلْكَةُ المِغزل) لاستدارتها؛ ولذلك قيل: فَلَكَ ثديُ المرأة، إذا استدار، ومن هذا القياس: فَلَكُ السماء (4) .

إذن، فكما أنّ السماء مستديرة حتّى في شكلها الظاهري، فكلّ ما يَسبح في فضائِها يَسير في مَسلك مُستدير؛ وبذلك صحّت استعارة هذا اللفظ.

والدليل على أنها استعارة هو استعمال اللفظة بشأن الليل والنهار أيضاً، أي أنّ لكلّ ظاهرة من الظواهر الكونيّة مَجراها الخاصّ وفي نظام رتيب لا تَجور ولا تَحور.

2 - ( فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)

قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) (5) .

أو هل كانت الطرائق هنا هي مَدارات الأفلاك البطليميوسيّة؟

قلت: كلاّ، إنّها الطَرائق بمعنى مَجاري الأُمور في التدبير والتقدير والتي هي محلّها السماوات العُلا.

____________________

(1) الأنبياء 21: 33.

(2) يس 36: 40.

(3) مقصوده من الأصل: كونها ذات أصالة عربيّة وليس مستعارة من لغةٍ أجنبيّة.

(4) معجم مقاييس اللغة، ج4، ص452 - 453.

(5) المؤمنون 23: 17.

٣٣٤

الطَرَائق: جمعُ الطَريقة بمعنى المـَذهب والمـَسلك الفكري والعقائدي وليس بمعنى سبيل الاستطراق على الأقدام، ولم تُستعمل في القرآن إلاّ بهذا المعنى:

يقول تعالى - حكايةً عن لسان الجنّ -: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ) (1) ، أي مَذاهب شتّى.

( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) (2) ، أي بمَذهبكم القويم الأفضل.

( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) (3) ، وذاك يوم الحَشر يَتخافت المـُجرمون: كم لَبِثوا؟ فيقول بعضهم: عشراً. ويقول أَعقلهم وأَفضلهم بصيرةً: ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) .

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (4) ، أي الطريقة المـُثلى والمـَذهب الحقّ.

فالمقصود بالطَرَائق - في الآية الكريمة - هي طَرائق التدبير والتقدير، المـُتّخذة في السماوات حيث مُستقرّ الملائِكِ المدبِّرات أمراً والمقسّمات (5) ، ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ) (6) ، ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (7) ، أي تقدير أرزاقكم وكلّما قُدّر لكم مِن مَجاري الأُمور، ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (8) ، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (9) .

فالتدبير في السماء ثُمّ التنزيل إلى الأرض ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (10) ، ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (11) ، ومِن ثَمَّ تعقّب الآية بقوله تعالى: قال العلاّمة الطباطبائي: أي لستُم بمُنقطعينَ عنّا ولا بمَعزلٍ عن مراقبتِنا وتدبيرنا لشؤونكم، فهذه الطَرائق السبع إنّما جُعلت؛ ليستطرقَها رُسُل ربّكم في التقدير والتدبير والتنزيل (12) .

____________________

(1) الجن 72: 11.

(2) طه 20: 63.

(3) طه 20: 104.

(4) الجنّ 72: 16.

(5) النازعات 79: 5، والذرايات 51: 4.

(6) السجدة 32: 5.

(7) الذاريات 51: 22.

(8) يونس 10: 3.

(9) الحجر 15: 21.

(10) مريم 10: 64.

(11) القدر 97: 4.

(12) راجع: الميزان، ج15، ص21.

٣٣٥

3 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (1)

ماذا يعنى بذات الحُبُك؟

الحُبُك: جمع الحَبِيكة بمعنى الطَريقة المـَتّخذة، قال الراغب. فمنهم مَن تصوّر منها الطَرائق المحسوسة بالنجوم والمـَجرّات، ومنهم مَن اعتبر ذلك بما فيه مِن الطَرائق المعقولة المـُدرَكة بالبصيرة.

والحُبُك: المـُنعطفات على وجه الماء الصافي تحصل على أثرِ هُبوب الرياح الخفيفة، وهي تكسّرات على وجه الماء كتجعّدات الشعر، ويُقال للشعر المـُجعَّد: حُبُك والواحد حِباك وحَبيكة، قاله الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان.

من ذلك قول زهير يصف روضة:

مُكلَّلٌ بأُصولِ النَجْمِ تَنْسِجُهُ

ريحٌ خَريقٌ لضاحي مائِهِ حُبُكُ

مراده بالنَجم النبات الناعم، وشَبّه تربية الرياح له بالنَسج، كأنّه إكليل (تاج مزيّن بالجواهر) نَسَجته الريح، ووصف الريح بالخَريق، وهو العاصف.

ثُمّ وَصَف ضاحي مائِهِ - وهو الصافي الزُلال - بأنّ على وجهه قَسَمات وتَعاريج على أثر مَهبّ الرياح عليه، وهو منظر بهيج.

فعلى احتمال إرادة التعرّجات المتأرجحة من الآية، فهي إشارة إلى تلكُم التمرُّجات النوريّة التي تُجلِّل كَبْدَ السماء زينةً لها وبهجةً للناظرين، فسبحان الصانع العظيم!

4 - ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً) (2)

في هذه الآية تَوجّه الخطاب إلى عامّة الناس ولا سيّما الأُمَم السالفة الجاهلة حيث لا يعرفون من أطباق السماء شيئاً، فكيف يُعرض عليهم دليلاً على إتقان صنعه تعالى؟ (الآية في سورة نوح والخطاب عن لسانه موجّه إلى قومه).

____________________

(1) الذاريات 51: 7.

(2) نوح 71: 15.

٣٣٦

وهكذا قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) (1) .

وقوله: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) (2) .

قلت: هذا بناءً على تفسير الطِباق بذات الطَبقات.

هكذا فسّره المشهور: طِباقاً، واحدة فوق أخرى كالقِباب بعضها فوق بعض (3) .

لكنّ الطِباق هو بمعنى الوِفاق والتَماثل في الصُنع والإتقان، بدليل تفسيره بقوله تعالى: ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) ، أي كلّها في الصُنع والاستحكام متشاكل.

وقد أُشرِب هنا معنى الالتحام والتلاصق التامّ بين أجزائها مُراداً به الانسجام في الخَلق، بدليل قوله تعالى: ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي انشقاق وخَلَل وعَدم انسجام، وكذا قوله: ( وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) أي منفرجات وخلاّت تُوجب فصل بعضها عن بعض بحيث تُضادّ النَظم القائم، الأمر الذي يستطيع كلّ إنسان - مهما كان مَبلَغه مِن العِلم - من الوقوف عليه إذا تأمّل في النَظم الساطي على السماوات والأرض.

5 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) (4)

( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) (5) ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ) (6) ، أو هل تعني البُرُوج هذه ما تصوّره الفلكيّون بشأن البروج الاثني عشر في أشكالٍ رَسَموها لرصد النجوم؟

قلت: المعنيّ بالبُرُوج هذه هي نفس النُجوم؛ تشبيهاً لها بالقصور الزاهية والحصون المنيعة الرفيعة، بدليل عطف السِراج - وهي الشمس الوهّاجة - والقمر المنير عليها.

____________________

(1) ق 50: 6.

(2) الملك 67: 3.

(3) راجع: مجمع البيان، ذيل الآية من سورة المـُلك والآية من سورة نوح، ج 10، ص 322 و 363، وروح المعاني للآلوسي، ج 29، ص 6 و75، وتفسير المراغي، ج 29، ص 6 و 85... وغيرها.

(4) البروج 85: 1.

(5) الحجر 15: 16.

(6) الفرقان 25: 61.

٣٣٧

ولا صلة لها بالأَشكال الفَلكيّة الاثني عشر.

البُرج - في اللغة - بمعنى الحِصن والقصر وكلّ بناءٍ رفيع على شكلٍ مُستدير، فالنُجوم باعتبار إنارتها تبدو مُستديرةً، وباعتبار تلألؤها تبدو كعُبابات تَعوم على وجه السماء زينةً لها، وباعتبارها مراصد لحراسة السماء ( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (1) ، هي حُصون منيعة، فصحّ إطلاق البروج عليها من هذه الجوانب لا غيرها.

هذا، وقد خُلِط على لفيفٍ من المفسّرين فَحَسبوها منازل الشمس والقمر حسب ترسيم الفلكيّين (2) .

وسيّدنا العلاّمة الطباطبائي وإنْ كان في تفسيره لسورتَي الحِجر والفُرقان قد ذهب مذهب المشهور، لكنّه (قدس سره) عَدَل عنه عند تفسيره لسورة البُروج، قال: البُروج، جمع بُرج وهو الأمر الظاهر ويَغلب استعماله في القصر العالي والبِناء المـُرتفع على سُور البلد، وهو المـُراد في الآية، فالمـُراد بالبُروج مواضع الكواكب من السماء، قال: وبذلك يَظهر أنّ تفسير البُروج (في الآيات الثلاث) بالبُروج الاثني عشر المـُصطلح عليها في عِلم النجوم غير سديد (3) .

وقال الشيخ مُحمّد عَبده: وفُسّرت البُروج بالنُجوم وبالبُروج الفلكيّة وبالقُصور على التشبيه، ولا ريب في أنّ النُجوم أَبنية فخيمة عظيمة، فيصحّ إطلاق البُروج عليها تشبيهاً لها بما يُبنى من الحُصون والقُصور في الأرض (4) .

6 - ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)

قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ

____________________

(1) الحجر 15: 17.

(2) تفسير القمي، ج 1، ص 373، والميزان، ج 12، ص 143 و 154، وتفسير ابن كثير، ج 2، ص 548، وروح المعاني، ج 14، ص 20.

(3) تفسير الميزان، ج 20، ص 368.

(4) تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص 57.

٣٣٨

يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) (1) .

(يُزجي): يَسوق، (يُؤلّف بينه): يؤلّف بين متفرّقه، (يجعله رُكاماً): متكاثفاً، (فترى الوَدق): قَطرات المطر الآخِذة في الهُطول.

( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) ؟

السؤال هنا: ماذا يعني بالجبال هذه؟ وماذا يكون المقصود مِن البَرد وهو الماء المتجمّد على أثر ضغط البرد؟ وكيف يكون هناك في السماء جبالٌ مِن بردٍ؟

وقد مرّ عليها أكثر المفسّرين القُدامى مرور الكرام، وبعضهم أَخذها على ظاهرها وقال: إنّ في السّماء جِبالاً من برد (من ثلج) يَنزل منها المطر، كما تنحدر المياه من جبال الأرض على أثر تراكم الثلوج عليها، عن الحسن والجبّائي (2) وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسّرين: أنّ المراد بالسّماء هي المظلّة وبالجبال حقيقتها، قالوا: إنّ الله خَلَق في السّماء جِبالاً من برد كما خَلق في الأرض جبالاً من صخر، قال الآلوسي: وليس في العقل ما ينفيه من قاطع، فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل (3) .

قال السيّد المرتضى: وجدتُ المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه تعالى أراد: أنّ في السّماء جِبالاً من بردٍ، وفيهم مَن قال: ما قَدْرُه قَدْرُ جبال، يعني مِقدار جبال مِن كثرته.

قال: وأبو مسلم بن بحر الإصبهانيّ خاصّةً انفرد في هذا الموضع بتأويلٍ طريف، وهو أنْ قال: الجبال، ما جَبَل الله مِن بَرَد، وكلّ جسم شديد مُستحجِر فهو من الجبال، ألم ترَ إلى قوله تعالى في خَلق الأُمَم: ( وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ ) (4) ، والناس يقولون: فلا مجبول على كذا.

وأورد عليه السيّد بأنّه يَلزمه أنّ جعل الجبال اسماً للبرد نفسه؛ من حيث كان مجبولاً مستحجراً! وهذا غلط؛ لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجَبْل

____________________

(1) النور 24: 43.

(2) مجمع البيان، ج 7، ص 148.

(3) روح المعاني، ج 18، ص 172، وراجع: التفسير الكبير، ج 24، ص 14.

(4) الشعراء 26: 184.

٣٣٩

والجَمْع، فقد صارت اسماً لذي هيئةٍ مخصوصة؛ ولهذا لا يُسمّي أحد من أهل اللغة كلَّ جسم ضُمَّ بعضه إلى بعض - مع استحجار أو غير استحجار - بأنّه جبل، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلاّ أجساماً مخصوصةً... كما أنّ اسم الدابّة وإن كان مشتقّاً في الأصل من الدبيب فقد صار اسماً لبعض ما دبّ، ولا يعمّ كلّ ما وقع منه الدبيب.

قال: والأَولى أنْ يُريد بلفظة السماء - هنا - ما عَلا من الغَيم وارتفع فصار سماءً لنا؛ لأنّ سماء البيت وسماواته ما ارتفع منه، وأراد بالجبال التشبيه؛ لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تُشبّهه العرب بالجِبال والجِمال، وهذا شائعٌ في كلامها، كأنّه تعالى قال: ويُنزّل من السحاب الذي يشبه الجِبال في تَراكُمِه بَرداً.

قال: وعلى هذا التفسير تكون (مِن) الأُولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة لا حكم لها، ويكون تقدير الكلام: ويُنزّل من جبالٍ في السماء بَرداً، فزادت (مِن) كما تزاد في قولهم: ما في الدار من أحد، وكم أعطيته من درهم، ومالك عندي من حقّ، وما أشبه ذلك.

وأضاف: إنّه قد ظهر مفعولٌ صحيحٌ لـ (نُنزّل)، ولا مفعول لهذا الفعل على سائر التأويلات (1) .

قلت: وهو تأويل وجيه لولا جانب زيادة (مِن) في الإيجاب.

قال ابن هشام: شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ولم يشترطه الكوفيّون واستدلّوا بقول العرب، قد كان من مطر. وبقول عمر بن أبي ربيعة:

ويَنمي لها حبُّها عندَنا

فما قال مِن كاشحٍ لم يَضِرّ

أي فما قاله كاشحٌ - وهو الذي يُضمر العداوة - لم يَضرّ.

قال: وقال الفارسي في قوله تعالى: ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) : يجوز كون (مِن) الثانية والثالثة زائدتَين، فجوّز الزيادة في الإيجاب (2) .

____________________

(1) الأمالي للسيّد المرتضى عَلَم الهدى، ج 2، ص 304 - 306.

(2) مغني اللبيب لابن هشام، حرف الميم، ج 1، ص 325.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510