الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156497 / تحميل: 5913
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

مطاه أي ظهره، و المراد بتمطّيه في ذهابه التبختر و الاختيال استعارة.

و المعنى: فلم يصدّق هذا الإنسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد و لم يصلّ لربّه أي لم يتّبعها فيما فيها من الفروع و ركنها الصلاة و لكن كذّب بها و تولّى عنها ثمّ ذهب إلى أهله يتبختر و يختال مستكبراً.

قوله تعالى: ( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ) لا ريب أنّه كلمة تهديد كرّرت لتأكيد التهديد، و لا يبعد - و الله أعلم - أن يكون قوله:( أَوْلى‏ لَكَ ) خبراً لمبتدإ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان و هو أنّه لم يصدّق و لم يصلّ و لكن كذّب و تولّى ثمّ ذهب إلى أهله متبختراً مختالاً، و إثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة و العقاب.

فيكون الكلام و هي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الإنسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإيمان و التقوى و كتب عليه أنّه من أصحاب النار، و الآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى:( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى‏ لَهُمْ ) سورة محمّد: 20.

و المعنى: ما أنت عليه من الحال أولى و أرجح لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك و يأخذك ما اُعدّ لك من العذاب.

و قيل: أولى لك اسم فعل مبنيّ و معناه وليك شرّ بعد شرّ.

و قيل: أولى فعل ماض دعائيّ من الولي بمعنى القرب و فاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك و اللّام مزيدة و المعنى أولاك الهلاك.

و قيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى و اللّام مزيدة، و المعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة و المعنى أدناك الله ممّا تكرهه.

و قيل: معناه الذمّ أولى لك من تركه إلّا أنّه حذف و كثر في الكلام حتّى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الّذي لا يجوز إظهاره.

٢٠١

و قيل: المعنى أهلكك الله هلاكاً أقرب لك من كلّ شرّ و هلاك.

و قيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، و خبر لمبتدإ محذوف يقدّر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحقّ بها و أهل لها فأولى.

و هي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلّف و الوجه الأخير قريب ممّا قدّمنا و ليس به.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) .

و الاستفهام للتوبيخ، و السدي المهمل، و المعنى أ يظنّ الإنسان أن يترك مهملاً لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت و لازمه أن لا يكلّف و لا يجزى.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏ ) اسم كان ضمير راجع إلى الإنسان، و إمناء المنيّ صبّه في الرحم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) أي ثمّ كان الإنسان - أو المنيّ - قطعة من دم منعقد فقدّره فصوّره بالتعديل و التكميل.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى) أي فجعل من الإنسان الصنفين: الذكر و الاُنثى.

قوله تعالى: ( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏ ) احتجاج على البعث الّذي ينكرونه استبعاداً له بعموم القدرة و ثبوتها على الخلق الابتدائيّ و الإعادة لا تزيد على الابتداء مئونة بل هي أهون، و قد تقدّم الكلام في تقريب هذه الحجّة في تفسير الآيات المتعرّضة لها مراراً.

٢٠٢

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسيّ و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذي و النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف و الطبرانيّ و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ معاً في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعالج من التنزيل شدّة، و كان يحرّك به لسانه و شفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) قال: إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ثمّ نقرأه( فَإِذا قَرَأْناهُ‏ ) يقول: إذا أنزلناه عليك( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) فاستمع له و أنصت( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) بيّنه( نبيّنه ظ) بلسانك، و في لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق - و في لفظ استمع - فإذا ذهب قرأ كما وعده الله.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اُنزل عليه القرآن تعجّل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ‏ ) .

و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلم ختم سورة حتّى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.

أقول: و روي ما في معنى صدر الحديث في المجمع، عن ابن جبير و في معناه غير واحد من الروايات، و قد تقدّم أنّ في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء.

و في تفسير القمّيّ قوله تعالى:( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) قال: الدنيا الحاضرة( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) قال: تدعون( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) أي مشرقة( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله و نعمته.

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضاعليه‌السلام من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: قال عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

٢٠٣

ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها.

أقول: و رواه في التوحيد، و الاحتجاج، و المجمع، عن عليّعليه‌السلام ، و قد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأنّ الانتظار لا يتعدّى بإلى بل هو متعدّ بنفسه، و ردّ عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر:

و إذا نظرت إليك من ملك

و البحر دونك جدتني نعما

و قول الآخر:

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

و عدّ في الكشّاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالاً كنائيّاً و هو معنى حسن.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و الآجريّ في الشريعة و الدارقطنيّ في الرؤية و الحاكم و ابن مردويه و اللالكائيّ في السنّة و البيهقيّ عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلاً لمن ينظر إلى جنانه و أزواجه و نعيمه و خدمه و سرره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشيّة.

ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) قال: البياض و الصفاء( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظر كلّ يوم في وجهه.

أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الّذي أوردناه في تفسير الآية، و مع الغضّ عنه تقبل الحمل على رحمته و فضله و كرمه تعالى و سائر صفاته الفعليّة فإنّ وجه الشي‏ء ما يستقبل به الشي‏ء غيره و ما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمة فالنظر إلى رحمة الله و فضله و كرمه و صفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قول الله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى ربّهم بلا كيفيّة و لا حدّ محدود و لا صفة معلومة.

أقول: و الرواية تؤيّد ما قدّمنا في تفسير الآية أنّ المراد به النظر القلبيّ

٢٠٤

و رؤية القلب دون العين الحسّيّة، و هي تفسّر ما ورد في عدّة روايات من طرق أهل السنّة ممّا ظاهره التشبيه و أنّ الرؤية بالعين الحسّيّة الّتي لا تفارق المحدوديّة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) قال: يقال له: من يرقيك( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) علم أنّه الفراق‏.

و في الكافي، بإسناده إلى جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ‏ ) قال: فإنّ ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبيب( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أيقن بمفارقة الأحبّة( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: المسير إلى ربّ العالمين.

و في تفسير القمّيّ:( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفّت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: يساقون إلى الله.

و في العيون، بإسناده عن عبدالعظيم الحسنيّ قال، سألت محمّد بن عليّ الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى) قال: يقول الله عزّوجلّ بعداً لك من خير الدنيا و بعداً لك من خير الآخرة.

أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدّمناه من معنى الآيتين، و كذا إلى بعض ما قيل فيه.

و في المجمع، و جاءت الرواية: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال له: أولى لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى. فقال أبوجهل: بأيّ شي‏ء تهدّدني لا تستطيع أنت و ربّك أن تفعلاً بي شيئاً، و إنّي لأعزّ أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و روي ما في معناه في الدرّ المنثور، عن عدّة عن قتادة قال: ذكر لنا و ساق الحديث.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) قال:

٢٠٥

لا يحاسب و لا يعذّب و لا يسأل عن شي‏ء.

و في العلل، بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمّدعليه‌السلام ، يا أباعبدالله إنّا خلقنا للعجب قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء فقال يا ابن أخ خلقنا للبقاء، و كيف يفنى جنّة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن قل: إنّما نتحوّل من دار إلى دار.

و في المجمع، و جاء في الحديث عن البراء عن عازب قال: لمّا نزلت هذه الآية( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبحانك اللّهمّ و بلى: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهم‌السلام .

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن أبي هريرة و غيره: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللّهمّ و بلى‏، و كذا في العيون، عن الرضاعليه‌السلام : أنّه كان إذا قرأ السورة قال عند الفراغ سبحانك اللّهمّ بلى.

٢٠٦

( سورة الدهر مدنيّة و هي إحدى و ثلاثون آية)

( سورة الإنسان الآيات 1 - 22)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ( 1 ) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 2 ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( 3 ) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ( 4 ) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ( 5 ) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ( 6 ) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ( 7 ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( 8 ) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ( 9 ) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ( 10 ) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ( 11 ) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ( 12 ) مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ( 13 ) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ( 14 ) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ( 15 ) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ( 16 ) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ( 17 ) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ( 18 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ( 19 ) وَإِذَا

٢٠٧

رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ( 20 ) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ( 21 ) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ( 22 )

( بيان‏)

تذكر السورة خلق الإنسان بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً ثمّ هدايته السبيل إمّا شاكراً و إمّا كفوراً و أنّ الله اعتد للكافرين أنواع العذاب و للأبرار ألوان النعم - و قد فصّل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية و هو الدليل على أنّه المقصود بالبيان -.

ثمّ تذكر مخاطباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ القرآن تنزيل منه تعالى عليه و تذكرة فليصبر لحكم ربّه و لا يتّبع الناس في أهوائهم و ليذكر اسم ربّه بكرة و عشيّاً و ليسجد له من الليل و ليسبّحه ليلاً طويلاً.

و السورة مدنيّة بتمامها أو صدرها - و هي اثنتان و عشرون آية من أوّلها - مدنيّ، و ذيلها - و هي تسع آيات من آخرها - مكّيّ و قد أطبقت روايات أهل البيتعليهم‌السلام على كونها مدنيّة، و استفاضت بذلك روايات أهل السنّة.

و قيل بكونها مكّيّة بتمامها، و سيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة و تحقّقه أي قد أتى على الإنسان إلخ و لعلّ هذا مراد من قال من قدماء المفسّرين: إنّ( هَلْ ) في الآية بمعنى قد، لا على أنّ ذلك أحد معاني( هل ) كما ذكره بعضهم.

و المراد بالإنسان الجنس: و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد به آدمعليه‌السلام فلا

٢٠٨

يلائمه قوله في الآية التالية:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) .

و الحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة، و الدهر الزمان الممتدّ من دون تحديد ببداية أو نهاية.

و قوله:( شَيْئاً مَذْكُوراً ) أي شيئاً يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلاً الأرض و السماء و البرّ و البحر و غير ذلك و لا يذكر الإنسان لأنّه لم يوجد بعد حتّى وجد فقيل: الإنسان فكونه مذكوراً كناية عن كونه موجوداً بالفعل فالنفي في قوله:( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) متوجّه إلى كونه شيئاً مذكوراً لا إلى أصل كونه شيئاً فقد كان شيئاً و لم يكن شيئاً مذكوراً و يؤيّده قوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) إلخ فقد كان موجوداً بمادّته و لم يتكوّن بعد إنساناً بالفعل و الآية و ما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبيّن بها أنّ الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه و خالق يخلقه، و قد خلقه ربّه و جهّزه التدبير الربوبيّ بأدوات الشعور من السمع و البصر يهتدي بها إلى السبيل الحقّ الّذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم و إن شكر فإلى نعيم مقيم.

و المعنى هل أتى - قد أتى - على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتدّ غير المحدود و الحال أنّه لم يكن موجوداً بالفعل مذكوراً في عداد المذكورات.

قوله تعالى: ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الّذي يتكوّن منه مثله، و أمشاج جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج، و وصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور و الإناث.

و الابتلاء نقل الشي‏ء من حال إلى حال و من طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة، و ابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنّه يخلق النطفة فيجعلها علقة و العلقة مضغة إلى آخر الأطوار الّتي تتعاقبها حتّى ينشئه خلقاً آخر.

٢٠٩

و قيل: المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف، و يدفعه تفريع قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) على الابتلاء و لو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعاً بصيراً لا بالعكس، و الجواب عنه بأنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً و التقدير إنّا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، لا يصغي إليه.

و قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) سياق الآيات و خاصّة قوله:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) إلخ يفيد أنّ ذكر جعله سميعاً بصيراً للتوسّل به في التدبير الربوبيّ إلى غايته و هي أن يرى آيات الله الدالّة على المبدإ و المعاد و يسمع كلمة الحقّ الّتي تأتيه من جانب ربّه بإرسال الرسل و إنزال الكتب فيدعوه البصر و السمع إلى سلوك سبيل الحقّ و السير في مسير الحياة بالإيمان و العمل الصالح فإن لزم السبيل الّذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد و إلّا فإلى عذاب مخلّد.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه تسجيل أنّه تعالى هو خالقه و مدبّر أمره.

و المعنى: إنّا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة و الحال أنّا ننقله من حال إلى حال و من طور إلى طور فجعلناه سميعاً بصيراً ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهيّة، و يبصر الآيات الإلهيّة الدالّة على وحدانيّته تعالى و النبوّة و المعاد.

قوله تعالى: ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب و المراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة و هو المؤدّي إلى الغاية المطلوبة و هو سبيل الحقّ.

و الشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) آل عمران: 144 أنّ حقيقة كون العبد شاكراً لله كونه مخلصاً لربّه، و الكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم.

و قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) حالان من ضمير( هَدَيْناهُ ) لا من( السَّبِيلَ ) كما قاله بعضهم، و( إِمَّا ) يفيد التقسيم و التنويع أي إنّا هديناه السبيل حال كونه

٢١٠

منقسماً إلى الشاكر و الكفور أي إنّه مهديّ سواء كان كذا أو كذلك.

و التعبير بقوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) هو الدليل أوّلاً: على أنّ المراد بالسبيل السنّة و الطريقة الّتي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا و الآخرة و تسوقه إلى كرامة القرب و الزلفى من ربّه و محصّله الدين الحقّ و هو عندالله الإسلام.

و به يظهر أنّ تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد.

و ثانياً: أنّ السبيل المهديّ إليه سبيل اختياريّ و أنّ الشكر و الكفر اللّذين يترتّبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقرّ الاختيار للإنسان أن يتلبّس بأيّهما شاء من غير إكراه و إجبار كما قال تعالى:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20، و ما في آخر السورة من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) إنّما يفيد تعلّق مشيّته تعالى بمشيّة العبد لا بفعل العبد الّذي تعلّقت به مشيّة العبد حتّى يفيد نفي تأثير مشيّة العبد المتعلّقة بفعله، و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مراراً.

و الهداية الّتي هي نوع إيذان و إعلام منه تعالى للإنسان هداية فطريّة هي تنبيه بسبب نوع خلقته و ما جهّز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حقّ الاعتقاد و صالح العمل قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8 و أوسع مدلولاً منه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: 30.

و هداية قوليّة من طريق الدعوة يبعث الأنبياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع الإلهيّة، و لم يزل التدبير الربوبيّ تدعم الحياة الإنسانيّة بالدعوة الدينيّة القائم بها أنبياؤه و رسله، و يؤيّد بذلك دعوة الفطرة كما قال:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - إلى أن قال -رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: 165.

٢١١

و من الفرق بين الهدايتين أنّ الهداية الفطريّة عامّة بالغة لا يستثني منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانيّة و هي في الأفراد بالسويّة غير أنّها ربّما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل و أسباب تشغل الإنسان و تصرفه عن التوجّه إلى ما يدعو إليه عقله و يهديه إليه فطرته أو ملكات و أحوال رديئة سيّئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد و اللجاج و ما يشبه ذلك قال تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: 23، و الهداية المنفيّة في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) .

و أمّا الهداية القوليّة و هي التي تتضمّنها الدعوة الدينيّة فإنّ من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحقّ على الباطل و أمّا بلوغها لكلّ واحد واحد منهم فإنّ العلل و الأسباب الّتي يتوسّل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربّما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف و الأزمنة و البيئات من الاختلاف و كيف يمكن لإنسان أن يدعو كلّ إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذّر ذلك جدّاً.

و إلى المعنى الأوّل أشار تعالى بقوله:( وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) فاطر: 24، و إلى الثاني بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) يس: 6.

فمن بلغته الدعوة و انكشف له الحقّ فقد تمّت عليه الحجّة و من لم تبلغه الدعوة بلوغاً ينكشف به له الحقّ فقد أدركه الفضل الإلهيّ بعدّه مستضعفاً أمره إلى الله إن يشأ يغفر له و إن يشأ يعذّبه قال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ) النساء: 98.

ثمّ من الدليل على أنّ الدعوة الإلهيّة و هي الهداية إلى السبيل حقّ يجب على الإنسان أن يتّبعها فطرة الإنسان و خلقته المجهّزة بما يهدي إليها من الاعتقاد و العمل، و وقوع الدعوة خارجاً من طريق النبوّة و الرسالة فإنّ سعادة كلّ موجود و كماله في الآثار و الأعمال الّتي تناسب ذاته و تلائمها بما جهّزت به من القوى

٢١٢

و الأدوات فسعادة الإنسان و كماله في اتّباع الدين الإلهيّ الّذي هو سنّة الحياة الفطرية و قد حكم به العقل و جاءت به الأنبياء و الرسل عليهم السلام.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالًا وَ سَعِيراً ) الاعتاد التهيئة، و سلاسل جمع سلسلة و هي القيد الّذي يقاد به المجرم، و أغلال جمع غلّ بالضمّ قيل هي القيد الّذي يجمع اليدين على العنق، و قال الراغب: فالغلّ مختصّ بما يقيّد به فيجعل الأعضاء وسطه. انتهى. و السعير النار المشتعلة، و المعنى ظاهر.

و الآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) و قدّم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) الكأس إناء الشراب إذا كان فيه شراب، و المزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، و الكافور معروف يضرب به المثل في البرودة و طيب الرائحة، و قيل: هو اسم عين في الجنّة.

و الأبرار جمع برّ بفتح الباء صفة مشبهة من البرّ و هو الإحسان و يتحصّل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعاً يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنّه خير لا لأنّ فيه نفعاً يرجع إلى نفسه و إن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مرّ مخالفة نفسه فيما يريده و يعمل العمل لأنّه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأنّ فيه خيراً لغيره كإطعام الطعام للمستحقّين من عباد الله.

و إذ لا خير في عمل و لا صلاح إلّا بالإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر كما قال تعالى:( أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ) الأحزاب: 19 إلى غير ذلك من الآيات.

فالأبرار مؤمنون بالله و رسوله و اليوم الآخر، و إذ كان إيمانهم إيمان رشد و بصيرة فهم يرون أنفسهم عبيداً مملوكين لربّهم، له خلقهم و أمرهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً عليهم أن لا يريدوا إلّا ما أراده ربّهم و لا يفعلوا إلّا ما يرتضيه فقدّموا إرادته على إرادة أنفسهم و عملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه

٢١٣

و تحبّه و كلفة الطاعة، و عملوا ما عملوه لوجه الله، فأخلصوا العبوديّة في مرحلة العمل لله سبحانه.

و هذه الصفات هي الّتي عرّف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله:( يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ) و قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) و قوله:( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا ) و هي المستفادة من قوله في صفتهم:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) الخ البقرة: 177 و قد مرّ بعض الكلام في معنى البرّ في تفسير الآية و سيأتي بعضه في قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) المطفّفين: 18.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ) إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ ) إلخ المبيّن لحال الكافرين في الآخرة، تبيّن حال الأبرار في الآخرة في الجنّة، و أنّهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور بارداً طيّب الرائحة.

قوله تعالى:: ( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) ( عَيْناً ) منصوب بنزع الخافض و التقدير من عين أو بالاختصاص و التقدير أخصّ عينا، و الشرب - على ما قيل - يتعدّى بنفسه و بالباء فشرب بها و شربها واحد، و التعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحلّيهم بحلية العبوديّة و قيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح.

و تفجير العين شقّ الأرض لإجرائها، و ينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأنّ نعم الجنّة لا تحتاج في تحقّقها و التنعّم بها إلى أزيد من مشيّة أهلها قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35.

و الآيتان - كما تقدّمت الإشارة إليه - تصفان تنعّم الأبرار بشراب الجنّة في الآخرة، و بذلك فسّرت الآيتان.

و لا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسّم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر و إطعام الطعام لوجه الله، و أنّ أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجّرونها بأعمالهم الصالحة

٢١٤

و ستظهر لهم بحقيقتها في جنّة الخلد و إن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) يس: 8.

و يؤيّد ذلك ظاهر قوله( يَشْرَبُونَ ) و( يَشْرَبُ بِها ) و لم يقل: سيشربون و سيشرب بها، و وقوع قوله: يشربون و يوفون و يخافون و يطعمون متعاقبة في سياق واحد، و ذكر التفجير في قوله:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) الظاهر في استخراج العين و إجرائها بالتوسّل بالأسباب.

و لهم في مفردات الآيتين و إعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها.

قوله تعالى: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشا و انتشر في الأقطار غاية الانتشار و هو أبلغ من طار كما قيل: يقال: استطار الحريق و استطار الفجر إذا اتّسعا غايته، و المراد باستطارة شرّ اليوم و هو يوم القيامة بلوغ شدائده و أهواله و ما فيه من العذاب غايته.

و المراد بالإيفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه، و قول القائل: إنّ المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتّباع الشارع في جميع ما شرّعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه.

قوله تعالى: ( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ) ضمير( عَلى‏ حُبِّهِ ) للطعام على ما هو الظاهر، و المراد بحبّه توقان النفس إليه لشدّة الحاجة، و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى:( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران: 92.

و قيل: الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبّاً لله لا طمعاً في الثواب، و يدفعه أنّ قوله تعالى حكاية منهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) يغني عنه.

و يليه في الضعف ما قيل: إنّ الضمير للإطعام المفهوم من قوله:( وَ يُطْعِمُونَ )

٢١٥

وجه الضعف أنّه إن اُريد بحب الإطعام حقيقة معناه فليس في حبّ الإطعام في نفسه فضل حتّى يمدحوا به، و إن اُريد به كون الإطعام بطيب النفس و عدم التكلّف فهو خلاف الظاهر، و رجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر.

و المراد بالمسكين و اليتيم معلوم، و المراد بالأسير ما هو الظاهر منه و هو المأخوذ من أهل دار الحرب.

و قول بعضهم: إنّ المراد به اُسارى بدر أو الأسير من أهل القبلة في دار الحرب بأيدي الكفّار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كلّ ذلك تكلّف من غير دليل يدلّ عليه.

و الّذي يجب أن يتنبّه له أنّ سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوماً من المؤمنين تسمّيهم الأبرار و تكشف عن بعض أعمالهم و هو الإيفاء بالنذر و إطعام مسكين و يتيم و أسير و تمدحهم و تعدهم الوعد الجميل.

فما تشير إليه من القصّة سبب النزول، و ليس سياقها سياق فرض موضوع و ذكر آثارها الجميلة، ثمّ الوعد الجميل عليها، ثمّ إنّ عدّ الأسير فيمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنيّة فإنّ الأسر إنّما كان بعد هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ظهور الإسلام على الكفر و الشرك لا قبلها.

قوله تعالى: ( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) وجه الشي‏ء هو ما يستقبل به غيره، و وجهه تعالى صفاته الفعليّة الكريمة الّتي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق و التدبير و الرزق و بالجملة الرحمة العامّة الّتي بها قيام كلّ شي‏ء، و معنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله و طلب مرضاته بالاقتصار على ذلك و الإعراض عمّا عند غيره من الجزاء المطلوب، و لذا ذيّلوا قولهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) بقولهم:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) .

و وراء ذلك صفاته الذاتيّة الكريمة الّتي هي المبدأ لصفاته الفعليّة و لما يترتّب

٢١٦

عليها من الخير في العالم، و مرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الإتيان بالعمل حبّاً لله لأنّه الجميل على الإطلاق، و إن شئت فقل: عبادته تعالى لأنّه أهل للعبادة.

و ابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الأعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) الكهف: 28، و قوله:( وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) البقرة: 272، و في هذا المعنى قوله:( وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) البيّنة: 5، و قوله:( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: 65، و قوله:( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) الزمر: 3.

و قوله:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً، و يعمّ الفعل و القول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملاً لا لساناً.

و الشكر و الشكور ذكر النعمة و إظهارها قلباً أو لساناً أو عملاً، و المراد به في الآية و قد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لساناً.

و الآية أعني قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين و اليتيم و الأسير إمّا بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول و كيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المنّ و الأذى، و إمّا بلسان الحال و هو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الإخلاص في قلوبهم.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) عدّ اليوم و هو يوم القيامة عبوساً من الاستعارة، و المراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدّته، و القمطرير الصعب الشديد على ما قيل.

و الآية في مقام التعليل لقولهم المحكي:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ ينبّهون بقولهم هذا أنّ قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصاً للعبوديّة لمخافتهم ذاك اليوم

٢١٧

الشديد، و لم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتّى نسبوه نحواً من النسبة إلى ربّهم فقالوا:( نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً ) إلخ لأنّهم لمّا لم يريدوا إلّا وجه ربّهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره و إنّما يخافون و يرجون ربّهم فلا يخافون يوم القيامة إلّا لأنّه من ربّهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها.

و أمّا قوله قبلاً:( وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإنّ الواصف فيه هو الله سبحانه و قد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلاً حيث قال:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ ) إلخ.

و بالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبوديّة لازمة للإنسان لا تفارقه و إن بلغ ما بلغ قال تعالى:( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الغاشية: 26.

قوله تعالى: ( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الوقاية الحفظ و المنع من الأذى و لقّي بكذا يلقّيه أي استقبله به و النضرة البهجة و حسن اللون و السرور مقابل المساءة و الحزن.

و المعنى: فحفظهم الله و منع عنهم شرّ ذلك اليوم و استقبلهم بالنضرة و السرور، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) القيامة: 22.

قوله تعالى: ( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً ) المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة و على الطاعة و عن المعصية فإنّهم ابتغوا في الدنيا وجه ربّهم و قدّموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم و أراده من المحن و مصائب الدنيا في حقّهم، و صبروا على امتثال ما أمرهم به و صبروا على ترك ما نهاهم عنه و إن كان مخالفاً لأهواء أنفسهم فبدّل الله ما لقوه من المشقّة و الكلفة نعمة و راحة.

قوله تعالى: ( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً ) الأرائك جمع أريكة و هو ما يتّكئ عليه، و الزمهرير البرد الشديد، و المعنى حال كونهم

٢١٨

متّكئين في الجنّة على الأرائك لا يرون فيها شمساً حتّى يتأذّوا بحرّها و لا زمهريراً حتّى يتأذّوا ببرده.

قوله تعالى: ( وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا ) الظلال جمع ظلّ، و دنوّ الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكانّ الدنوّ مضمّن معنى الانبساط و قطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو الثمرة المقطوفة المجتناة، و تذليل القطوف لهم جعلها مسخّرة لهم يقطفونها كيف شاؤا من غير مانع أو كلفة.

قوله تعالى: ( وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ) الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء و هو الوعاء، و أكواب جمع كوب و هو إناء الشراب الّذي لا عروة له و لا خرطوم و المراد طواف الولدان المخلّدين عليهم بالآنية و أكواب الشراب كما سيأتي في قوله:( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ ) الآية.

قوله تعالى: ( قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً ) بدل من قوارير في الآية السابقة، و كون القوارير من فضّة مبنيّ على التشبيه البليغ أي إنّها في صفاء الفضّة و إن لم تكن منها حقيقة، كذا قيل. و احتمل أن يكون بحذف مضاف و التقدير من صفاء الفضّة.

و ضمير الفاعل في( قَدَّرُوها) للأبرار و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب كونها على ما شاؤا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد و لا تنقص كما قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35 و قد قال تعالى قبل:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) .

و يحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله:( يُطافُ عَلَيْهِمْ ) و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا.

قوله تعالى: ( وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ) قيل: إنّهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الأبرار بذلك و زنجبيل الجنّة أطيب و ألذّ.

قوله تعالى: ( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ) أي من عين أو التقدير أعني أو أخصّ

٢١٩

عينا.

قال الراغب: و قوله:( سَلْسَبِيلًا ) أي سهلاً لذيذاً سلساً حديد الجرية.

قوله تعالى: ( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ) أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء و صباحة المنظر، و قيل: أي مقرّطون بخلدة و هي ضرب من القرط.

و المراد بحسبانهم لؤلؤاً منثوراً أنّهم في صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و انعكاس أشعّة بعضهم على بعض و انبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) ( ثَمَّ ) ظرف مكان ممحّض في الظرفيّة، و لذا قيل: إنّ معنى( رَأَيْتَ ) الأوّل: رميت ببصرك، و المعنى و إذا رميت ببصرك ثمّ يعني الجنّة رأيت نعيماً لا يوصف و ملكاً كبيراً لا يقدّر قدره.

و قيل:( ثَمَّ ) صلة محذوفة الموصول و التقدير و إذا رأيت ما ثمّ من النعيم و الملك، و هو كقوله:( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) الأنعام: 94 و الكوفيّون من النحاة يجوّزون حذف الموصول و إبقاء الصلة و إن منعه البصريّون منهم.

قوله تعالى: ( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ ) إلخ الظاهر أنّ( عالِيَهُمْ ) حال من الأبرار الراجعة إليه الضمائر و( ثِيابُ ) فاعله، و السندس - كما قيل - ما رقّ نسجه من الحرير، و الخضر صفة ثياب و الإستبرق ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، و هو معرّب كالسندس.

و قوله:( وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ) التحلية التزيين، و أساور جمع سوار و هو معروف، و قال الراغب: هو معرّب دستواره.

و قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) أي بالغاً في التطهير لا تدع قذارة إلّا أزالها و من القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه و الاحتجاب عن التوجّه إليه فهم غير محجوبين عن ربّهم و لذا كان لهم أن يحمدوا ربّهم كما قال:( وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) يونس: 10 و قد تقدّم في تفسير سورة الحمد أنّ الحمد وصف لا يصلح له إلّا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: 160.

٢٢٠

للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب ، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة ، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها ، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.

٢ ـ أحداث غزوة بني قريظة

قلنا : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر بعد انتهاء معركة الأحزاب مباشرة أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم ، ويقال : إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحاصر حصونهم ، ودام الحصار خمسة وعشرين يوما ، وقد ألقى اللهعزوجل الرعب الشديد في قلوب اليهود ، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.

فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّدا لن يتركنا حتّى يقاتلنا ، وأنا أقترح عليكم ثلاثة امور اختاروا أحدها :

إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه ، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله ، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم ، وعند ذلك ستصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، فقالوا : لا نرجع عن حكم التوراة أبدا ، ولا نقبل بدلها شيئا.

قال : فإذا رفضتم ذلك ، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم ، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّدا وأصحابه ونرى ما يريده الله ، فإن قتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا ، وإن انتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا : أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.

قال كعب بن أسد : فإن أبيتم هذا أيضا فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّ محمّدا

٢٢١

وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة ، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا : ولا نفعل ذلك ، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبدا.

فقال كعب : ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته امّه.

بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه ، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه ، فقال الرجال : أترى لنا أن نخضع لحكم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال أبو لبابة : نعم ، وأشار إلى نحره ، أي إنّه سيقتلكم جميعا!

يقول أبو لبابة : ما إن تركتهم حتّى انتبهت لخيانتي ، فلم آت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت : لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي ، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) .(١)

وأخيرا اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا : بلى ،فقال سعد : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّدا بأنّهم يقبلون بما يحكم ، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا فقال : حكمي فيهم نافذ؟ قال : نعم ، فقال : انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين ، وسبي نسائهم وذراريهم ، وتقسيم أموالهم.

وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(٢) .

٣ ـ نتائج غزوة بني قريظة

إنّ الإنتصار على أولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين ، ومن جملتها :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٢) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٤ وما بعدها ، والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٨٥ وما بعدها بتلخيص.

٢٢٢

أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة ، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة ، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخليا.

ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية ، وخاصة فتح «خيبر».

ه ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق ، في داخل المدينة وخارجها.

٤ ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!

إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب :( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) أي أنّها قدّمت (فريقا) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقا) عن الفعل «تأسرون»!

وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك : إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى ، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى ، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا أناسا معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافة إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر ، مراعاة للانسجام بين الأمرين أكثر.

وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك ، أي أنّ الخطوة الاولى هي إيجاد الرعب ، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين ، والمفرّح لهم ، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّا.

٢٢٣

والتعبير بـ( أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.

وأخيرا فإنّ التأكيد على قدرة اللهعزوجل في آخر آية :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوما ، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوما آخر.

* * *

٢٢٤

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه ، وهي لا تختلف عن بعضها كثيرا من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة ، أو لوازم الحياة المختلفة ، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

٢٢٥

وطبقا لنقل بعض التفاسير فإنّ «أمّ سلمة» طلبت من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خادما لها ، وطلبت «ميمونة» حلّة ، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشا يمنيا خاصّا ، و «حفصة» لباسا مصريا ، و «جويرية» لباسا خاصّا ، و «سودة» بساطا خيبريا! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئا. فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تلبية طلباتهنّ ، وهو يعلم أنّ الاستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة ، واعتزلهنّ شهرا ، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة ، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الانفصال عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والذهاب إلى حيث تردن ، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر ، واقتنعتنّ بحياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله البسيطة والباعثة على الفخر ، فابقين معه ، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقّعن رفاهية العيش ، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و «مفارقته».

* * *

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (أمهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسئوليات ثقيلة ، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي امّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظننّ ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين ، ويعطى لهنّ ما ناله

٢٢٦

المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة ، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك أناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن لا يكون لوحده أسوة للناس بحكم الآيات السابقة ، بل يجب أن تكون عائلته أسوة لباقي العوائل أيضا ، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا وإمبراطورا ليكون له جناح خاصّ للنساء ، ويغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح ، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار ، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف ، حتّى أنّهنّ قلن : لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك(١) . هنا امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي ، فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«امتّعكن» من مادّة متعة ، وكما قلنا في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة ، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر ، وإن لم يكن المهر معيّنا فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها ، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادئ مفعم بالحبّ.

«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر ، و

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٢٧

«سرّحت الإبل» ، أي : أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر ، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص ، وتأتي أحيانا كناية عن الطلاق ، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله ، وفيه معنى الإطلاق أيضا. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقا مقترنا بالإحسان ، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق ، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقا بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين ، فإن أردن الفراق أجرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صيغة الطلاق ، وإلّا يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين ، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي ، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لا يجري في سائر الناس ، لا يبدو صحيحا ، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة ، إلّا أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات ، إضافة إلى أنّ لتعبير (أسرحكنّ) ظهورا في أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقدّم على تسريحهنّ ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية ٢٢٩)(١) .

وتضيف الآية التالية :( وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) .

__________________

(١) طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية ، وخاصة كتاب الجواهر ، المجلّد ٢٩ ، صفحة ١٢٢ وما بعدها.

٢٢٨

لقد جمعت هذه الآية كلّ أسس الإيمان وسلوكيات المؤمن ، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر ، ومن جهة اخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات ، وبناء على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه ، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة وأسوة للمؤمنات على الدوام ، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها ، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح ، فإنّهن يبقين أزواجا للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر ، وإلّا فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلّا أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع ، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم وأسوة لهم ، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائما ، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة ، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة ، وكذلك مقامهنّ الممتاز ، ومسئولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة ، فتقول :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة ، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لارتباطكنّ المستمر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولقائه ، إضافة إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجا وقدوة لهم. بناء على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله ، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة ، ومعيار العلم ، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة ، فإنّ لكنّ حظّا أعظم من العلم ، ولكنّ موقع

٢٢٩

حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، ومن جهة اخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه ، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنبا آخر ، ويستوجب عذابا آخر.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية ، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها أناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.

أمّا قولهعزوجل :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى ، وأنّ علاقتكنّ بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستكون مانعة منه ، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء ، أو يعيرونها أهميّة قليلة كلّا ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

«يقنت» من القنوت ، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(١) ، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله ، ويراعين الأدب مع ذلك تماما.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اخرى ، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تلمس آثاره بمقتضى( وَتَعْمَلْ صالِحاً ) .

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية ، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعا لكلّ هذه المواهب.

* * *

__________________

(١) المفردات للراغب ، مادّة قنوت.

٢٣٠

بحث

لما ذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا : إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف ، وإن ارتكبن ذنبا مبيّنا فلهنّ عذاب الضعف بما اكتسبن ، إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان امتلاك المقام والمكانة المرموقة ، والشخصية الاجتماعية البارزة ، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز اجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة ، بل إنّ لوجودهم بعدين : بعد يتعلّق بهم ، وبعد يرتبط بالمجتمع ، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سببا لهداية جماعة من الناس ، أو ضلال اخرى.

بناء على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين : أحدهما فردي ، والآخر اجتماعي ، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(١) !

ومضافا إلى ذلك ، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب ، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة ، حيث نقرأ : «إنّ الثواب على قدر العقل»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(٣) .

بل ورد في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إذا بلغت النفس هاهنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة ، ثمّ قرأ :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الأول ، ص ٣٧ باب لزوم الحجة على العالم.

(٢) اصول الكافي ، الجزء الأول ، صفحة ٩ كتاب العقل والجهل.

(٣) المصدر السابق.

٢٣١

بِجَهالَةٍ ) (١) .

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة ، فقد تكون ضعفين حينا ، وتكون أضعافا مضاعفة حينا آخر ، تماما كما في الأعداد التي لها صفة التكثير ، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف : ضاعفته : ضممت إليه مثله فصاعدا ـ تأمّلوا بدقّة ـ

والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفا شاهد آخر على هذا الادّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص واختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة اختلاف مكاناتهم الاجتماعية ، وكونهم أسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، وذلك أنّ رجلا قال له : إنّكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب الإمام وقال : «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن نكون كما تقول ، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ، ثمّ قرأ الآيتين»(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣٨ باب لزوم الحجّة على العالم ، والآية (١٧) من سورة النساء.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٥٤ ذيل الآية مورد البحث.

٢٣٢

الآيات

( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) )

التّفسير

هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسئولياتهنّ الخطيرة ، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات ، وتأمر الآيات نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أوامر مهمّة.

فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة :( يا ـ نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ

٢٣٣

اتَّقَيْتُنَ ) فإنّ انتسابكنّ إلى النّبي من جانب ، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر ، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن على أن تكن نموذجا وقدوة لكلّ النساء ، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية ، وبناء على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ ، ولا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.

وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها ، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة ، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخرى في هذا المجال تلقائيا ، فيقول :

( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وبأسلوب عاديّ ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة ، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة ، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وارتكاب المعاصي.

إنّ التعبير بـ( الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) تعبير بليغ جدّا ، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال والمشروعية فهي عين السلامة ، أمّا عند ما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلى حدّ الجنون ، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي ، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعا وأقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة ، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.

ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقولعزوجل : يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله ، ومقترنا مع الحقّ والعدل :( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

إنّ جملة( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) إشارة إلى طريقة التحدّث ، وجملة :( وَقُلْنَ قَوْلاً

٢٣٤

مَعْرُوفاً ) إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل ، إضافة إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه ، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.

ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولى لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا وبعيدا عن الأدب الإسلامي ، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ ، وفي الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.

ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة ، فيقول :( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) .

«قرن» من مادّة الوقار ، أي الثقل ، وهو كناية عن التزام البيوت. واحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار) ، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيرا(١) .

و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس ، وهو مأخوذ من مادّة (برج) ، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ ، تماما كما نقول لعالم : أنت عالم فلا تكذب ، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح

__________________

(١) طبعا يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار ، وحذفت الراء الاولى للتخفيف ، وانتقلت فتحة الراء إلى القاف ، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة ، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّدا ـ

٢٣٥

للآخرين ، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخرى ستأتي كالجاهلية الاولى التي ذكرها القرآن ، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي ، إلّا أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر ، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة ، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح» ، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن ، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!

ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا ، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولى هي الجاهلية قبل الإسلام ، والتي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران ، والآية (٥٠) من سورة المائدة ، والآية (٢٦) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد ، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس ، فيقول سبحانه :( وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات ، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال والارتباط بالخالقعزوجل ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله ، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة :( أَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي ، بل هي للجميع ، وإن أكّدت عليهنّ.

ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادة ـ دليل على أنّ هذه المنقبة

٢٣٦

خاصّة بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية ، وإلّا فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.

من الممكن أن يقال : إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا ، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين ، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم ، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه ، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.

وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة ، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها ، تماما كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه ، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل ، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع ، والمبادئ الفطرية والطبيعية ، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر ، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان ، أو بحكم العقل أو الشرع ، أو جميعها(١) . وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد ، أو الإعتقاد بالباطل ، وأمثال ذلك ، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه ، وإلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا ، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.

و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس ، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس

__________________

(١) ذكر الراغب في مفرداته ، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه ، وأربعة أنواع كمصاديق له.

٢٣٧

ونفي السيّئات ، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر على هذا المعنى.

وأمّا تعبير( أَهْلَ الْبَيْتِ ) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين ، وهو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية ، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة ، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(١) .

إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي ، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.

غير أنّ الانتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء ، وهي : أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة ، جاءت بصيغة ضمير النسوة ، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر ، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد ، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع واعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجالا ونساء.

ومن جهة اخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقول : إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط ، وهم : محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية ، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط ، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو : كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟

__________________

(١) ما ذكره البعض من أنّ «البيت» هنا إشارة الى بيت الله الحرام ، وأهله هم «المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، لا عن بيت الله الحرام ، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.

٢٣٨

وقد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة ، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث ، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.

وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه : لا دليل لدينا على أنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) قد نزلت مع هذه الآيات ، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة ، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده.

والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو : أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي : إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون ، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين ، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة ، وينتظر منه الله وعباده انتظارات كثيرة.

وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي ، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها ، فتقول :( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) .

فإنكنّ في مهبط الوحي ، وفي مركز نور القرآن ، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتحدّث به ، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس ، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!

وفيما هو الفرق بين «آيات الله» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين : إنّ كليهما

٢٣٩

إشارة إلى القرآن ، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن ، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وقال البعض الآخر : إنّ «آيات الله» إشارة إلى آيات القرآن ، و «الحكمة» إشارة إلى سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مواعظه وإرشاداته الحكيمة.

ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر ، إضافة إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة ، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة :( وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ ) ويشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها ، ويعلم نيّاتكم تماما ، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع على الدقائق والخفيات ، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف ، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يا نساء النّبي ، وهو خبير بأعمالكنّ أيضا.

ويحتمل أيضا أن يكون التأكيد على «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن ، وعلى «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.

* * *

بحوث

١ ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة :

اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط ، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد ، بل إنّ إطلاق

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510