الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156476 / تحميل: 5909
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

نفي الآلهة غير الله لا نفي الآلهة و إثبات الإله تعالى(1) و هو ظاهر فلا حاجة إلى ما تكلّف به بعضهم أنّ الضمير لكلمة التوحيد المعلوم ممّا تكلّم به إبراهيمعليه‌السلام .

و المراد بعقبه ذرّيّته و ولده، و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يرجعون من عبادة آلهة غير الله إلى عبادته تعالى أي يرجع بعضهم - و هم العابدون لغير الله بدعوة بعضهم و هم العابدون لله - إلى عبادته تعالى، و بهذا يظهر أنّ المراد ببقاء الكلمة في عقبه عدم خلوّهم عن الموحّد ما داموا، و لعلّ هذا عن استجابة دعائهعليه‌السلام إذ يقول:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) إبراهيم: 35.

و قيل: الضمير في( جعل) لإبراهيمعليه‌السلام فهو الجاعل هذه الكلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجعوا إليها، و المراد بجعلها باقية فيهم وصيّته لهم بذلك كما قال تعالى:( وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) البقرة: 132.

و أنت خبير بأنّ الوصيّة بكلمة التوحيد لا تسمّى جعلاً للكلمة باقية في العقب و إن صحّ أن يقال: أراد بها ذلك لكنّه غير جعلها باقية فيهم.

و قيل: المراد أنّ الله جعل الإمامة كلمة باقية في عقبه و سيجي‏ء الكلام فيه في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و يظهر من الآية أنّ ذرّيّة إبراهيمعليه‌السلام لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: ( بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) إضراب عمّا يفهم من الآية السابقة، و المعنى: أنّ رجوعهم عن الشرك إلى التوحيد كان هو الغاية المرجوّة منهم لكنّهم لم يرجعوا بل متّعت هؤلاء من قومك و آباءهم فتمتّعوا بنعمي( حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) .

و لعلّ الالتفات إلى التكلّم وحده في قوله:( بَلْ مَتَّعْتُ ) للإشارة إلى تفخيم

____________________

(1) و ذلك أن ( الله ) فيها مرفوع على البدلية لا منصوب على الاستثناء.

١٠١

جرمهم و أنّهم لا يقصدون في كفرانهم للنعمة و كفرهم بالحقّ و رمية بالسحر إلّا إيّاه تعالى وحده.

و المراد بالحقّ الّذي جاءهم هو القرآن، و بالرسول المبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ ) هذا طعنهم في الحقّ الّذي جاءهم و هو القرآن و يستلزم الطعن في الرسول. كما أنّ قولهم الآتي:( لَوْ لا نُزِّلَ ) إلخ، كذلك.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) المراد بالقريتين مكّة و الطائف، و مرادهم بالعظمة - على ما يفيده السياق - ما هو من حيث المال و الجاه اللّذين هما ملاك الشرافة و علوّ المنزلة عند أبناء الدنيا، و المراد بقوله:( رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) رجل من إحدى القريتين حذف المضاف إيجازاً.

و مرادهم أنّ الرسالة منزلة شريفة إلهيّة لا ينبغي أن يتلبّس به إلّا رجل شريف في نفسه عظيم مطاع في قومه، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقير فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن الّذي جاء به وحياً نازلاً من الله فلو لا نزّل على رجل عظيم من مكّة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة.

و في المجمع: و يعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين الوليد بن المغيرة من مكّة و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفيّ من الطائف. عن قتادة، و قيل: عتبة بن أبي ربيعة من مكّة و ابن عبد ياليل من الطائف. عن مجاهد، و قيل: الوليد بن المغيرة من مكّة و حبيب بن عمر الثقفيّ من الطائف. عن ابن عبّاس. انتهى.

و الحقّ أنّ ذلك من تطبيق المفسّرين و إنّما قالوا ما قالوا على الإبهام و أرادوا أحد هؤلاء من عظماء القريتين على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلخ، المراد بالرحمة - على ما يعطيه السياق - النبوّة.

و قال الراغب: العيش الحياة المختصّة بالحيوان، و هو أخصّ من الحياة لأنّ الحياة تقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك، و يشتقّ منه المعيشة لما يتعيّش

١٠٢

به. انتهى. و قال: التسخير سياقه إلى الغرض المختصّ قهراً - إلى أن قال -: و السخريّ هو الّذي يُقهر فيتسخّر بإرادته. انتهى.

و الآية و الآيتان بعدها في مقام الجواب عن قولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ ) إلخ، و محصّلها أنّ قولهم هذا تحكّم ظاهر ينبغي أن يتعجّب منه فإنّهم يحكمون فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها و يرتزقون و هي رحمة منّا لا قدر لها و لا منزلة عندنا و ليست إلّا متاعاً زائلاً نحن نقسمها بينهم و هي خارجة عن مقدرتهم و مشيّتهم فكيف يقسمون النبوّة الّتي هي الرحمة الكبرى و هي مفتاح سعادة البشر الدائمة و الفلاح الخالد فيعطونها لمن شاؤا و يمنعونها ممّن شاؤا.

فقوله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) الاستفهام للإنكار، و الالتفات إلى الغيبة في قوله:( رَحْمَتَ رَبِّكَ ) و لم يقل: رحمتنا، للدلالة على اختصاص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعناية الربوبيّة في النبوّة.

و المعنى: أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة لله خاصّة به حتّى يمنعوك منها و يعطوها لمن هووا.

و قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) بيان لوجه الإنكار في الجملة السابقة بأنّهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل و لا منزلة له و هو معيشتهم في الحياة الدنيا فنحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون ما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره و هو النبوّة الّتي هي رحمة ربّك الخاصّة به.

و الدليل على أنّ الأرزاق و المعايش ليست بيد الإنسان اختلاف أفراده بالغنى و الفقر و العافية و الصحّة و في الأولاد و سائر ما يعدّ من الرزق، و كلّ يريد أن يقتني منها ما لا مزيد عليه، و لا يكاد يتيسّر لأحد منهم جميع ما يتمنّاه و يرتضيه فلو كان ذلك بيد الإنسان لم يوجد معدم فقير في شي‏ء منها بل لم يختلف اثنان فيها فاختلافهم فيها أوضح دليل على أنّ الرزق مقسوم بمشيّة من الله دون الإنسان.

على أنّ الإرادة و العمل من الإنسان بعض الأسباب الناقصة لحصول المطلوب الّذي هو الرزق و وراءهما أسباب كونيّة لا تحصى خارجة عن مقدرة الإنسان لا يحصل

١٠٣

المطلوب إلّا بحصولها جميعاً و اجتماعها عليه و ليست إلّا بيد الله الّذي إليه تنتهي الأسباب.

هذا كلّه في المال و أمّا الجاه فهو أيضاً مقسوم من عندالله فإنّه يتوقّف على صفات خاصّة بها ترتفع درجات الإنسان في المجتمع فيتمكّن من تسخير من هو دونه كالفطنة و الدهاء و الشجاعة و علوّ الهمّة و إحكام العزيمة و كثرة المال و العشيرة و شي‏ء من ذلك لا يتمّ إلّا بصنع من الله سبحانه، و ذلك قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

فيتبيّن بمجموع القولين أعني قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا ) إلخ، و قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) إلخ، إنّ القاسم للمعيشة و الجاه بين الناس هو الله سبحانه لا غير، و قوله:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي النبوّة خير من المال فكيف يملكون قسمها و هم لا يملكون قسم المال فيما بينهم.

و من الممكن أن يكون قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) عطف تفسير على قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ) إلخ، يبيّن قسم المعيشة بينهم ببيان علل انقسامها في المجتمع الإنسانيّ، بيان ذلك أنّ كثرة حوائج الإنسان في حياته الدنيا بحيث لا يقدر على رفع جميعها في عيش انفراديّ أحوجته إلى الاجتماع مع غيره من الأفراد على طريق الاستخدام و الاستدرار أوّلاً و على طريق التعاون و التعاضد ثانياً كما مرّ في مباحث النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب.

فآل الأمر إلى المعاوضة العامّة المفيدة لنوع من الاختصاص بأن يعطي كلّ ممّا عنده من حوائج الحياة ما يفضل من حاجته و يأخذ به من الغير ما يعادله ممّا يحتاج إليه فيعطي مثلاً ما يفضل من حاجته من الماء الّذي عنده و قد حصّله و اختصّ به و يأخذ من غيره ما يزيد على قوته من الغذاء، و لازم ذلك أن يسعى كلّ فرد بما يستعدّ له و يحسنه من السعي فيقتني ممّا يحتاج إليه ما يختصّ به، و لازم ذلك أن يحتاج غيره إليه فيما عنده من متاع الحياة فيتسخّر له فيفيده ما يحتاج إليه كالخبّاز يحتاج إلى ما عند السقّاء من الماء و بالعكس فيتعاونان بالمعاوضة و كالمخدوم يتسخّر للخادم لخدمته و الخادم يتسخّر للمخدوم لماله و هكذا فكلّ بعض من المجتمع مسخّر

١٠٤

لآخرين بما عنده و الآخرون متسخّرون له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط لما أنّ كلّا يرتفع على غيره بما يختصّ به ممّا عنده بدرجات مختلفة باختلاف تعلّق الهمم و القصود به.

و على ما تقدّم فالمراد بالمعيشة كلّ ما يعاش به أعمّ من المال و الجاه أو خصوص المال و غيره تبع له كما يؤيّده قوله ذيلاً:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) فإنّ المراد به المال و غيره من لوازم الحياة مقصود بالتبع.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً - إلى قوله -وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ) الآية و ما يتلوها لبيان أنّ متاع الدنيا من مال و زينة لا قدر لها عند الله سبحانه و لا منزلة.

قالوا: المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم مجتمعين على سنّة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أنّ زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله و المؤمن صفر الكفّ منها مطلقاً، و المعارج الدرجات و المصاعد.

و المعنى: و لو لا أن يجتمع الناس على الكفر لو رأوا تنعّم الكافرين و حرمان المؤمنين لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة و درجات عليها يظهرون لغيرهم.

و يمكن أن يكون المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم جميعاً على نسبة واحدة تجاه الأسباب العاملة في حظوظ العيش من غير فرق بين المؤمن و الكافر، فمن سعى سعيه للرزق و وافقته الأسباب و العوامل الموصلة الاُخرى نال منه مؤمناً كان أو كافراً، و من لم يجتمع له حرم ذلك و قتر عليه الرزق مؤمناً أو كافراً.

و المعنى: لو لا ما أردنا أن يتساوى الناس تجاه الأسباب الموصلة إلى زخارف الدنيا و لا يختلفوا فيها بالإيمان و الكفر لجعلنا لمن يكفر، إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً ) تنكير( أَبْواباً ) و( سُرُراً ) للتفخيم، و الزخرف الذهب أو مطلق الزينة، قال في المجمع: الزخرف كمال حسن الشي‏ء و منه قيل للذهب، و يقال: زخرفه زخرفة إذا حسّنه و زيّنه، و منه

١٠٥

قيل للنقوش و التصاوير: زخرف، و في الحديث: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل الكعبة حتّى أمر بالزخرف فنحّي. انتهى. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) ( إِنْ ) للنفي و( لَمَّا ) بمعنى إلّا أي ليس كلّ ما ذكر من مزايا المعيشة إلّا متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية الّتي لا تدوم.

و قوله:( وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) المراد بالآخرة بقرينة المقام الحياة الآخرة السعيدة كان الحياة الآخرة الشقيّة لا تعدّ حياة.

و المعنى: أنّ الحياة الآخرة السعيدة بحكم من الله تعالى و قضاء منه مختصّة بالمتّقين، و هذا التخصيص و القصر يؤيّد ما قدّمناه من معنى كون الناس اُمّة واحدة في الدنيا بعض التأييد.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) يقال: عشي يعشى عشاً من باب علم يعلم إذا كان ببصره آفة لا يبصر مطلقاً أو بالليل فقط، و عشا يعشو عشواً و عشوّاً من باب نصر ينصر إذا تعامى و تعشّى بلا آفة، و التقييض التقدير و الإتيان بشي‏ء إلى شي‏ء، يقال: قيّضه له إذا جاء به إليه.

لمّا انتهى الكلام إلى ذكر المتّقين و أنّ الآخرة لهم عندالله قرنه بعاقبة أمر المعرضين عن الحقّ المتعامين عن ذكر الرحمن مشيراً إلى أمرهم من أوّله و هو أنّ تعاميهم عن ذكر الله يورثهم ملازمة قرناء الشياطين فيلازمونهم مضلّين لهم حتّى يردوا عذاب الآخرة معهم.

فقوله:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ) أي من تعامى عن ذكر الرحمن و نظر إليه نظر الأعشى جئنا إليه بشيطان، و قد عبّر تعالى عنه في موضع آخر بالإرسال فقال:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) مريم: 83، و إضافة الذكر إلى الرحمن للإشارة إلى أنّه رحمة.

و قوله:( فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) أي مصاحب لا يفارقه.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ضمير

١٠٦

( أنّهم ) للشياطين، و ضمائر الجمع الباقية للعاشين عن الذكر، و اعتبار الجمع نظراً إلى المعنى في( وَ مَنْ يَعْشُ ) إلخ، و الصدّ الصرف، و المراد بالسبيل ما يدعو إليه الذكر من سبيل الله الّذي هو دين التوحيد.

و المعنى: و إنّ الشياطين ليصرفون العاشين عن الذكر و يحسب العاشون أنّهم - أي العاشين أنفسهم - مهتدون إلى الحقّ.

و هذا أعني حسبانهم أنّهم مهتدون عند انصدادهم عن سبيل الحقّ أمارة تقييض القرين و دخولهم تحت ولاية الشيطان فإنّ الإنسان بطبعه الأوّليّ مفطور على الميل إلى الحقّ و معرفته إذا عرض عليه ثمّ إذا عرض عليه فأعرض عنه اتّباعاً للهوى و دام عليه طبع الله على قلبه و أعمى بصره و قيّض له القرين فلم ير الحقّ الّذي تراءى له و طبق الحقّ الّذي يميل إليه بالفطرة على الباطل الّذي يدعوه إليه الشيطان فيحسب أنّه مهتد و هو ضالّ و يخيّل إليه أنّه على الحقّ و هو على الباطل.

و هذا هو الغطاء الّذي يذكر تعالى أنّه مضروب عليهم في الدنيا و أنّه سينكشف عنهم يوم القيامة، قال تعالى:( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي - إلى أن قال -قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) الكهف: 104، و قال فيما يخاطبه يوم القيامة و معه قرينه:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) - إلى أن قال -( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) ق: 27.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ( حَتَّى ) غاية لاستمرار الفعل الّذي يدلّ عليه قوله في الآية السابقة:( لَيَصُدُّونَهُمْ ) و قوله:( يَحْسَبُونَ ) أي لا يزال القرناء يصدّونهم و لا يزالون يحسبون أنّهم مهتدون حتّى إذا جاءنا الواحد منهم.

و المراد بالمجي‏ء إليه تعالى البعث، و ضمير( جاء ) و( قال ) راجع إلى الموصول باعتبار لفظه، و المراد بالمشرقين المشرق و المغرب غلّب فيه جانب المشرق.

و المعنى: و أنّهم يستمرّون على صدّهم عن السبيل و يستمرّ العاشون عن الذكر

١٠٧

على حسبان أنّهم مهتدون في انصدادهم حتّى إذا حضر الواحد منهم عندنا و معه قرينه و كشف له عن ضلاله و ما يستتبعه من العذاب الأليم، قال مخاطباً لقرينه متأذّياً من صحابته: يا ليت بيني و بينك بعد المشرق و المغرب فبئس القرين أنت.

و يستفاد من السياق أنّهم معذّبون بصحابة القرناء وراء عذابهم بالنار، و لذا يتمنّون التباعد عنهم و يخصّونه بالذكر و ينسون سائر العذاب.

قوله تعالى: ( وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الظاهر أنّه معطوف على ما قبله من وصف حالهم، و المراد باليوم يوم القيامة، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) و المراد بضمير جمع المخاطب العاشون عن الذكر و قرناؤهم، و( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) واقع موقع التعليل.

و المراد - و الله أعلم - أنّكم إذا أساء بعضكم إلى بعض في الدنيا فأوقعه في مصيبة ربّما تسليتم بعض التسلّي لو ابتلي هو نفسه بمثل ما ابتلاكم به فينفعكم ذلك تسلّياً و تشفّياً لكن لا ينفعكم يوم القيامة اشتراك قرنائكم معكم في العذاب فإنّ اشتراكهم معكم في العذاب و كونهم معكم في النار هو بعينه عذاب لكم.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) ضمير راجع إلى تمنّيهم المذكور في الآية السابقة، و قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدّنيا باتّباعكم إيّاهم في الكفر و المعاصي، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليل لنفي النفع و المعنى: و لن ينفعكم تمنّي التباعد عنكم لأنّ حقّكم أن تشتركوا أنتم و قرناؤكم في العذاب.

و فيه أنّ فيه تدافعاً فإنّه أخذ قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) تعليلاً لنفي نفع التمنّي أوّلاً و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليلاً له ثانياً و لازم التطابق بين التعليلين أن يذكر ثانياً القضاء على المتمنّين التابعين بالعذاب لا باشتراك التابعين و المتبوعين فيه.

و قال بعضهم: معنى الآية أنّه لا يخفّف الاشتراك عنكم شيئاً من العذاب لأنّ

١٠٨

لكلّ واحد منكم و من قرنائكم الحظّ الأوفر من العذاب.

و فيه أنّ ما ذكر من سبب عدم النفع و إن فرض صحيحاً في نفسه لكن لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية و لا سياق الكلام.

و قال بعضهم: المعنى: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمّل أعبائها و تقسّمهم لعنائها لأنّ لكلّ منكم و من قرنائكم من العذاب ما لا تبلغه طاقته.

و فيه ما في سابقه من الكلام، و ردّ أيضاً بأنّ الانتفاع بذلك الوجه ليس ممّا يخطر ببالهم حتّى يردّ عليهم بنفيه.

قوله تعالى: ( أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) لمّا ذكر تقييضه القرناء لهم و تقليبهم إدراكهم بحيث يرون الضلال هدىً و لا يقدرون على معرفة الحقّ فرّع عليه أن نبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هؤلاء صمّ عمي لا يقدر هو على إسماعهم كلمة الحقّ و هدايتهم إلى سبيل الرشد فلا يتجشّم و لا يتكلّف في دعوتهم و لا يحزن لإعراضهم، و الاستفهام للإنكار، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) المراد بالإذهاب به توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الانتقام منهم، و قيل: المراد إذهابه بإخراجه من بينهم، و قوله:( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) أي لا محالة، و المراد بإراءته ما وعدهم الانتقام منهم قبل توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو حال كونه بينهم، و قوله:( فإنا عليهم مقتدرون) أي اقتدارنا يفوق عليهم.

و قوله في الصدر:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) أصله إن نذهب بك زيدت عليه ما و النون للتأكيد، و محصّل الآية إنّا منتقمون منهم بعد توفّيك أو قبلها لا محالة.

قوله تعالى: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الظاهر أنّه تفريع لجميع ما تقدّم من أنّ إنزال الذكر من طريق الوحي و النبوّة من سننه تعالى و أنّ كتابه النازل عليه حقّ و هو رسول مبين لا يستجيب دعوته إلّا المتّقون و لا يعرض عنها إلّا قرناء الشياطين، و لا مطمع في إيمانهم و سينتقم الله منهم.

١٠٩

فأكّد عليه الأمر بعد ذلك كلّه أن يجدّ في التمسّك بالكتاب الّذي اُوحي إليه لأنّه على صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالذكر ذكر الله، و بهذا المعنى تكرّر مراراً في السورة، و اللام في( لَكَ وَ لِقَوْمِكَ ) للاختصاص بمعنى توجّه ما فيه من التكاليف إليهم، و يؤيّده بعض التأييد قوله:( وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) أي عنه يوم القيامة.

و عن أكثر المفسّرين أنّ المراد بالذكر الشرف الّذي يذكر به، و المعنى: و إنّه لشرف عظيم لك و لقومك من العرب تذكرون به بين الاُمم.

قوله تعالى: ( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من اُممهم و علماء دينهم كقوله تعالى:( فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) يونس: 94، و فائدة هذا المجاز أنّ المسؤل عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم.

و قيل: المراد السؤال من أهل الكتابين: التوراة و الإنجيل فإنّهم و إن كفروا لكنّ الحجّة تقوم بتواتر خبرهم، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و التكليف لاُمّته.

و بُعد الوجهين غير خفيّ و يزيد الثاني بعداً التخصيص بأهل الكتابين من غير مخصّص ظاهر.

و قيل: الآية ممّا خوطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المعراج أن يسأل أرواح الأنبياءعليهم‌السلام و قد اجتمع بهم أن يسألهم هل جاؤا بدين وراء دين التوحيد.

و قد وردت به غير واحدة من الروايات عن أئمّة أهل البيتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سيوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) و قيل: الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين: عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

١١٠

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر و قد طبّقت الآية في بعضها على الإمامة في عقب الحسينعليه‌السلام .

و التأمّل في الروايات يعطي أنّ بناءها على إرجاع الضمير في( جَعَلَها ) إلى الهداية المفهومة من قوله:( سَيَهْدِينِ ) و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) أنّ الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم و إيرادهم درجات القرب من الله سبحانه و إنزال كلّ ذي عمل منزلة الّذي يستدعيه عمله، و حقيقة الهداية من الله سبحانه و تنسب إليه بالتبع أو بالعرض.

و فعليّة الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أوّلاً ثمّ تفيض عنه إلى غيره فله أتمّ الهداية و لغيره ما هي دونها و ما ذكره إبراهيمعليه‌السلام في قوله:( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتمّ مراتب الهداية الّتي هي حظّ الإمام منها فهي الإمامة و جعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك.

و في الإحتجاج، عن العسكريّ عن أبيهعليه‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة إذ قال له عبدالله بن اُميّة المخزوميّ: لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولاً لبعث أجلّ من فيما بيننا مالاً و أحسنه حالاً فهلاً نزل هذا القرآن الّذي تزعم أنّ الله أنزله عليك- و ابتعثك به رسولاً، على رجل من القريتين عظيم: إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة و إمّا عروة بن مسعود الثقفيّ بالطائف.

ثمّ ذكرعليه‌السلام في كلام طويل جواب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله بما في معنى الآيات.

ثمّ قال: و ذلك قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال الله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) يا محمّد( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) فأحوجنا بعضنا إلى بعض أحوج هذا إلى مال ذلك و أحوج ذلك إلى سلعة هذا و إلى خدمته.

فترى أجلّ الملوك و أغنى الأغنياء محتاجاً إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب إمّا سلعة معه ليست معه، و إمّا خدمة يصلح لها لا يتهيّأ لذلك الملك أن يستغني إلّا به

١١١

و أمّا باب من العلوم و الحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير الّذي يحتاج إلى مال ذلك الملك الغنيّ، و ذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.

ثمّ ليس للملك أن يقول: هلّا اجتمع إلي مالي علم هذا الفقير و لا للفقير أن يقول: هلّا اجتمع إلى رأيي و معرفتي و علمي و ما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنيّ، ثمّ قال تعالى:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

ثمّ قال: يا محمّد( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.

و في الكافي، بإسناده عن سعيد بن المسيّب قال: سألت عليّ بن الحسينعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) قال: عنى بذلك اُمّة محمّد أن يكونوا على دين واحد كفّاراً كلّهم( لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ) إلى آخر الآية.

و في تفسير القمّي، بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) يا محمّد من مكّة إلى المدينة فإنّا رادّوك إليها و منتقمون منهم بعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه عن قتادة في قوله:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) قال: قال أنس ذهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بقيت النقمة و لم ير الله نبيّه في اُمّته شيئاً يكرهه حتّى قبض و لم يكن نبيّ قطّ إلّا و قد رأى العقوبة في اُمّته إلّا نبيّكم رأى ما يصيب اُمّته بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتّى قبض.

أقول: و روي فيه هذا المعنى عنه و عن عليّ بن أبي طالب و عن غيرهما بطرق اُخرى.

و فيه، أخرج ابن مردويه من طريق محمّد بن مروان عن الكلبيّ عن أبي صالح عن جابر بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ )

١١٢

نزلت في عليّ بن أبي طالب أنّه ينتقم من الناكثين و القاسطين بعدي.

أقول: ظاهر الرواية و ما قبلها و ما في معناهما أنّ الوعيد في الآيتين للمنحرفين عن الحقّ من أهل القبلة دون كفّار قريش.

و في الإحتجاج، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث طويل يقول فيه: و أمّا قوله تعالى:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) فهذا من براهين نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي آتاه الله إيّاها و أوجب به الحجّة على سائر خلقه لأنّه لمّا ختم به الأنبياء و جعله الله رسولاً إلى جميع الاُمم و سائر الملل خصّه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوه من عزائم الله و آياته و براهينه. الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن أبي الربيع عن أبي جعفرعليه‌السلام في جواب ما سأله نافع بن الأزرق، و رواه في الدرّ المنثور، بطرق عن سعيد بن جبير و ابن جريح و ابن زيد.

١١٣

( سورة الزخرف الآيات 46 - 56)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 46 ) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ( 47 ) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا  وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 48 ) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( 50 ) وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( 51 ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ( 52 ) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( 53 ) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 54 ) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 55 ) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ ( 56 )

( بيان‏)

لمّا ذكر طغيانهم بعد تمتيعهم بنعمه و رميهم الحقّ الّذي جاءهم به رسول مبين بأنّه سحر و أنّهم قالوا:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) فرجّحوا الرجل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكثرة ماله مثّل لهم بقصّة موسىعليه‌السلام و فرعون و قومه

١١٤

حيث أرسله الله إليهم بآياته الباهرة فضحكوا منها و استهزؤا بها، و احتجّ فرعون فيما خاطب به قومه على أنّه خير من موسى بملك مصر و أنهار تجري من تحته فاستخفّهم فأطاعوه فآل أمر استكبارهم أن انتقم الله منهم فأغرقهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) اللّام في( لَقَدْ ) للقسم، و الباء في قوله:( بِآياتِنا ) للمصاحبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ ) المراد بمجيئهم بالآيات إظهار المعجزات للدلالة على الرسالة، و المراد بالضحك ضحك الاستهزاء استخفافاً بالآيات.

قوله تعالى: ( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) إلخ، الاُخت المثل، و قوله:( هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) كناية عن كون كلّ واحدة منها بالغة في الدلالة على حقّيّة الرسالة، و جملة( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ) إلخ، حال من ضمير( مِنْها ) ، و المعنى: فلمّا أتاهم بالمعجزات إذا هم منها يضحكون و الحال أنّ كلّاً منها تامّة كاملة في إعجازها و دلالتها من غير نقص و لا قصور.

و قوله:( وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي رجاء أن يرجعوا عن استكبارهم إلى قبول رسالته، و المراد بالعذاب الّذي اُخذوا به آيات الرجز الّتي نزلت عليهم من السنين و نقص من الثمرات و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم آيات مفصّلات كما في سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) ما في( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) مصدريّة أي بعهده عندك و المراد به عهده أن يكشف عنهم العذاب لو آمنوا كما قيل أو أن يستجيب دعاءه إذا دعا كما احتمله بعضهم.

و قولهم:( يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ) خطاب استهزاء استكباراً منهم كما قالوا: ادّع ربّك و لم يقولوا: ادع ربّنا أو ادع الله استكباراً، و المراد أنّهم طلبوا منه الدعاء لكشف العذاب عنهم و وعدوه الاهتداء.

١١٥

و قيل: معنى الساحر في عرفهم العالم و كان الساحر عندهم عظيماً يعظّمونه و لم يكن صفة ذمّ. و ليس بذاك بل كانوا ساخرين على استكبارهم كما يشهد به قولهم:( ادْعُ لَنا رَبَّكَ ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) النكث نقض العهد و خلف الوعد، و وعدهم هو قولهم:( إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) أي ناداهم و هو بينهم، و فصل( قالَ ) لكونه في موضع جواب السؤال كأنّه قيل: فما ذا قال؟ فقيل: قال كذا.

و قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) أي من تحت قصري أو من بستاني الّذي فيه قصري المرتفع العالي البناء، و الجملة أعني قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) إلخ، حالية أو( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) معطوف على( مُلْكُ مِصْرَ ) ، و قوله:( تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) حال من الأنهار، و الأنهار أنهار النيل.

و قوله:( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) في معنى تكرير الاستفهام السابق في قوله:( أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) المهين الحقير الضعيف من المهانة بمعنى الحقارة، و يريد بالمهين موسىعليه‌السلام لما به من الفقر و رثاثة الحال.

و قوله:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) أي يفصح عن مراده و لعلّه كان يصف موسىعليه‌السلام به باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة لكنّ الله رفع عنه ذلك لقوله:( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) طه: 36 بعد قولهعليه‌السلام :( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) طه: 28.

و قوله في صدر الآية:( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) إلخ، أم فيه إمّا منقطعة لتقرير كلامه السابق و المعنى: بل أنا خير من موسى لأنّه كذا و كذا، و إمّا متّصلة، و أحد طرفي الترديد محذوف مع همزة الاستفهام، و التقدير: أ هذا خير أم أنا خير إلخ، و في المجمع، قال سيبويه

١١٦

و الخليل: عطف أنا بأم على( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) لأنّ معنى( أَنَا خَيْرٌ ) معنى أم تبصرون فكأنّه قال: أ فلا تبصرون أم تبصرون لأنّهم إذا قالوا له: أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده انتهى. أي إنّ وضع( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) موضع أم تبصرون من وضع المسبّب موضع السبب أو بالعكس.

و كيف كان فالإشارة إلى موسى بهذا من دون أن يذكر باسمه للتحقير و توصيفه بقوله:( الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) للتحقير و للدلالة على عدم خيريّته.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الأسورة جمع سوار بالكسر، و قال الراغب: هو معرّب دستواره قالوا: كان من دأبهم أنّهم إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوار من ذهب و طوّقوه بطوق من ذهب فالمعنى لو كان رسولاً و ساد الناس بذلك لاُلقي إليه أسورة من ذهب.

و قوله:( أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الظاهر أنّ الاقتران بمعنى التقارن كالاستباق و الاستواء بمعنى التسابق و التساوي، و المراد إتيان الملائكة معه متقارنين لتصديق رسالته، و هذه الكلمة ممّا تكرّرت على لسان مكذّبي الرسل كقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) الفرقان: 7.

قوله تعالى: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) أي استخفّ عقول قومه و أحلامهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) الإيساف الإغضاب أي فلمّا أغضبونا بفسوقهم انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، و الغضب منه تعالى إرادة العقوبة.

قوله تعالى: ( فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ ) السلف المتقدّم و الظاهر أنّ المراد بكونهم سلفاً للآخرين تقدّمهم عليهم في دخول النار، و المثل الكلام السائر الّذي يتمثّل به و يعتبر به، و الظاهر أن كونهم مثلاً لهم كونهم ممّا يعتبر به الآخرون لو اعتبروا و اتّعظوا.

١١٧

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) قال: لم يبيّن الكلام.

و في التوحيد، بإسناده إلى أحمد بن أبي عبدالله رفعه إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) قال: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون و هم مخلوقون مدبّرون فجعل رضاهم لنفسه رضىً و سخطهم لنفسه سخطاً و ذلك لأنّه جعلهم الدعاة إليه و الأدلّاء عليه فلذلك صاروا كذلك.

و ليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه و لكن هذا معنى ما قال من ذلك، و قد قال أيضاً من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة و دعاني إليها، و قال أيضاً:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) ، و قال أيضاً:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) و كلّ هذا و شبهه على ما ذكرت لك، و هكذا الرضا و الغضب و غيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك.

و لو كان يصل إلى المكوّن الأسف و الضجر و هو الّذي أحدثهما و أنشأهما لجاز لقائل أن يقول: إنّ المكوّن يبيد يوماً لأنّه إذا دخله الضجر و الغضب دخله التغيير فإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، و لو كان ذلك كذلك لم يعرف المكوّن من المكوّن و إلا القادر من المقدور و لا الخالق من المخلوقين تعالى الله عن هذا القول علوّاً كبيراً.

هو الخالق للأشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ و الكيف فيه فافهم ذلك إن شاء الله.

أقول: و روي مثله في الكافي، بإسناده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن عمّه حمزة بن بزيع عنهعليه‌السلام .

١١٨

( سورة الزخرف الآيات 57 - 65)

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 ) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ  مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا  بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 ) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 ) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ  إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( 62 ) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ  فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( 63 ) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 64 ) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ  فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 65 )

( بيان‏)

إشارة إلى قصّة عيسى بعد الفراغ عن قصّة موسىعليهما‌السلام و قدّم عليها مجادلتهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عيسىعليه‌السلام و اُجيب عنها.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ - إلى قوله -خَصِمُونَ ) الآية إلى تمام أربع آيات أو ستّ آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل ابن مريم، و الّذي يتحصّل بالتدبّر فيها نظراً إلى كون السورة مكّيّة و مع قطع النظر عن الروايات هو أنّ المراد بقوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) هو ما أنزله

١١٩

الله من وصفه في أوّل سورة مريم فإنّها السورة المكّيّة الوحيدة الّتي وردت فيها قصّة عيسى بن مريمعليه‌السلام تفصيلاً، و السورة تقصّ قصص عدّة من النبيّين بما أنّ الله أنعم عليهم كما تختتم قصصهم بقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) مريم: 58، و قد وقع في هذه الآيات قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) و هو من الشواهد على كون قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) إشارة إلى ما في سورة مريم.

و المراد بقوله:( إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) بكسر الصاد أي يضجّون و يضحكون ذمّ لقريش في مقابلتهم المثل الحقّ بالتهكّم و السخريّة، و قرئ( يَصِدُّونَ ) بضمّ الصاد أي يعرضون و هو أنسب للجملة التالية.

و قوله:( وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) الاستفهام للإنكار أي آلهتنا خير من ابن مريم كأنّهم لمّا سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة و الكرامة أعرضوا عنه بما يصفه به القرآن و أخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنّه إله ابن إله فردّوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ آلهتنا خير منه و هذا من أسخف الجدال كأنّهم يشيرون بذلك إلى أنّ الّذي في القرآن من وصفه لا يعتنى به و ما عند النصارى لا ينفع فإنّ آلهتهم خير منه.

و قوله:( ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ) أي ما وجّهوا هذا الكلام:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) إليك إلّا جدلاً يريدون به إبطال المثل المذكور و إن كان حقّاً( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) أي ثابتون على خصومتهم مصرّون عليها.

و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) ردّ لما يستفاد من قولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) أنّه إله النصارى كما سيجي‏ء.

و قال الزمخشريّ في الكشّاف، و كثير من المفسّرين و نسب إلى ابن عبّاس و غيره في تفسير الآية: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قرأ قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً فقال ابن الزبعري:

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الرجس ـ وخاصّة بملاحظة ألفه ولامه ، وهي ألف لام الجنس ـ يشمل كلّ أنواع الذنوب والمعاصي ، لأنّ كلّ المعاصي رجس ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة أطلقت في القرآن على الشرك والخمور والقمار والنفاق واللحوم المحرّمة والنجسة وأمثال ذلك.

انظر الآيات : الحجّ ـ ٣٠ ، المائدة ـ ٩٠ ، التوبة ـ ١٢٥ ، الأنعام ـ ١٤٥.

وبملاحظة أنّ الإرادة الإلهيّة حتمية التنفيذ والوقوع ، وأنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) دليل على إرادته الحتمية ، وخاصّة بوجود كلمة (إنّما) الدالّة على الحصر والتأكيد ، سيتّضح أنّ إرادة الله سبحانه قد قطعت بأن يكون أهل البيت منزّهين عن كلّ رجس وخطأ ، وهذا هو مقام العصمة.

وثمّة مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّه ليس المراد من الإرادة الإلهيّة في هذه الآية الأوامر والأحكام الإلهيّة في مسائل الحلال والحرام ، لأنّ هذه الأحكام تشمل الجميع ، ولا تختّص بأهل البيت ، وبناء على هذا فإنّها لا تتناسب مع مفهوم (إنّما).

إذن ، فهذه الإرادة المستمرّة نوع من الإمداد الإلهي الذي يعيّن أهل أهل البيت على العصمة والاستمرار فيها ، وهي في الوقت نفسه لا تنافي حرية الإرادة والإختيار ، كما فصّلنا ذلك سابقا.

إنّ مفهوم هذه الآية في الحقيقة هو عين ما جاء في الزيارة الجامعة : «عصمكم الله من الزلل ، وآمنكم من الفتن ، وطهّركم من الدنس وأذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيرا».

وينبغي أن لا نشكّ بعد هذا الإيضاح في دلالة الآية المذكورة على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام .

٢ ـ فيمن نزلت آية التطهير؟

قلنا : إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت ضمن الآيات المتعلّقة بنساء النّبي ، إلّا

٢٤١

أنّ تغيير سياقها ـ حيث تبدّل ضمير الجمع المؤنث إلى ضمير الجمع المذكّر ـ دليل على أنّ لهذه الآية معنى ومحتوى مستقلا عن تلك الآيات ، ولهذا فحتّى أولئك الذين لم يعتبروا الآية مختّصة بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فإنّهم اعتقدوا أنّ لها معنى واسعا يشمل هؤلاء العظام ونساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلّا أنّ الرّوايات الكثيرة التي بين أيدينا تبيّن أنّ هذه الآية خاصّة بهؤلاء الأجلّاء ، ولا تدخل الزوجات ضمن الآية ، بالرغم من أنهنّ يتمتّعن باحترام خاصّ ، ونضع بين أيديكم بعضا من هذه الروايات :

أ: الرّوايات التي رويت عن أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنفسهنّ ، والتي حدثن فيها : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما كل يتحدّث عن هذه الآية الشريفة سألناه : أنحن من أصحاب هذه الآية؟ فكان يجيب : بأنكنّ إلى خير ، ولكن لستنّ من أصحابها.

ومن جملتها الرواية التي رواها «الثعلبي» عن «امّ سلمة» في تفسيره ، وذلك أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بيتها إذ أتته فاطمةعليها‌السلام بقطعة حرير ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ادعي لي زوجك وابنيك ـ الحسن والحسين ـ» فأتت به فطعموا ، ثمّ ألقى عليهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كساء له خيبريا وقال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» فنزلت آية التطهير ، فقلت : يا رسول الله وأنا معهم؟ قال : «إنّك إلى خير» ولكنّك لست منهم(١) .

ويروي «الثعلبي» أيضا عن «عائشة» أنّها عند ما سئلت عن حرب الجمل وتدخّلها في تلك الحرب المدمّرة الطاحنة ، قالت بأسف : كان ذلك قضاء الله.

وعند ما سئلت عن عليعليه‌السلام قالت : تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ لقد رأيت عليا وفاطمة وحسنا وحسيناعليهم‌السلام ، وجمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بثوب عليهم ثمّ قال : «اللهمّ هؤلاء أهل

__________________

(١) روى الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ، هذا الحديث بهذا المضمون بطرق متعدّدة عن أمّ سلمة. راجع شواهد التنزيل ، للحاكم الحسكاني ، المجلّد ٢ ، صفحة ٥٦ وما بعدها.

٢٤٢

بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» قالت : فقلت : يا رسول الله ، أنا من أهلك! قال : «تنحّي فإنّك إلى خير»(١) ـ إلّا أنّك لست جزءا منهم ـ.

إنّ هذه الرّوايات تصرّح أنّ زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لسن جزءا من أهل البيت في هذه الآية.

ب : لقد وردت روايات كثيرة جدّا بصورة مجملة في شأن حديث الكساء ، يستفاد منها جميعا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا عليا وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ـ أو أنّهم أتوا إليه ـ فألقى عليهم عباءة وقال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» ، فنزلت الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) .

وقد روى العالم المعروف «الحاكم الحسكاني النيسابوري» هذه الروايات في (شواهد التنزيل) بطرق مختلفة عن رواة مختلفين(٢) .

وهنا سؤال يلفت النظر ، وهو : ماذا كان الهدف من جمعهم تحت الكساء؟ كأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يريد أن يحدّد هؤلاء ويعرّفهم تماما ، ويقول : إنّ الآية أعلاه في حقّ هؤلاء خاصّة ، لئلّا يرى أحد أو يظنّ ظانّ أنّ المخاطب في هذه الآية كلّ من تربطه بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرابة ، وكلّ من يعدّ جزءا من أهله ، حتّى جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد كرّر هذه الجملة ثلاث مرّات : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا»(٣) .

ج : نقرأ في روايات عديدة اخرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقي ستّة أشهر بعد نزول هذه الآية ينادي عند مروره من جنب بيت فاطمة سلام الله عليها وهو ذاهب إلى صلاة الصبح : «الصلاة يا أهل البيت! إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا». وقد روى الحاكم الحسكاني هذا الحديث عن أنس بن

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

(٢) شواهد التنزيل ، المجلّد ٢ ، صفحة ٣١ وما بعدها.

(٣) الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث.

٢٤٣

مالك(١) .

وروى ابن عبّاس أيضا هذا الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وهنا مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ تكرار هذه الأمر ستّة أشهر أو ثمانية أو تسعة أشهر بصورة مستمرّة جنب بيت فاطمة إنّما هو لبيان هذه المسألة تماما لئلّا يبقى مجال للشكّ لدى أيّ شخص بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء النفر فقط ، خاصّة وأنّ الدار الوحيدة التي بقي بابها مفتوحا إلى داخل المسجد بعد أن أمر الله نبيّه بأن تغلق جميع أبواب بيوت الآخرين ، هي دار فاطمةعليها‌السلام ، ولا شكّ أنّ جماعة من الناس كانوا يسمعون ذلك القول من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين الصلاة هناك ـ تأمّلوا ذلك ـ.

ومع ذلك ، فإنّ ممّا يثير العجب أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ للآية معنى عامّا تدخل فيه أزواج النّبي ، بالرغم من أنّ أكثر علماء الإسلام ، السنّة منهم والشيعة ، قد حدّدوها بهؤلاء الخمسة.

وممّا يستحقّ الالتفات أنّ عائشة ـ زوجة النّبي لم تكن تدع شيئا في ذكر فضائلها ، ودقائق علاقتها بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة الروايات الإسلامية ، فإذا كانت هذه الآية تشملها فلا بدّ أنّها كانت ستتحدّث بها في المناسبات المختلفة ، في حين لم يرو شيء من ذلك عنها مطلقا.

د : رويت روايات عديدة عن الصحابي المعروف «أبي سعيد الخدري» تشهد بصراحة بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء الخمسة الأطهار : «نزلت في خمسة : في رسول الله ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين»(٣) . وهذه الرّوايات كثيرة بحيث عدّها بعض المحقّقين متواترة.

__________________

(١) شواهد التنزيل ، المجلّد ٢ ، صفحة ١١.

(٢) الدرّ المنثور ، ذيل الآية مورد البحث.

(٣) شواهد التنزيل ، الجزء ٢ ، صفحة ٢٥.

٢٤٤

وممّا قلناه نستنتج أنّ المصادر ورواة الأحاديث التي تدلّ على اختصاص الآية بالخمسة المطهّرة وحصرها بهم كثيرة بحيث لا تدع لأحد المجال للشكّ في هذه الدلالة ، حتّى أنّه ذكر في شرح (إحقاق الحقّ) أكثر من سبعين مصدرا من مصادر العامّة المعروفة ، وأمّا مصادر الشيعة في هذا الباب فتربو على الألف(١) . وقد روى صاحب كتاب (شواهد التنزيل) ـ وهو من علماء الإخوة السنّة المشهورين ـ أكثر من (١٣٠) حديثا في هذا الموضوع(٢) .

وبغضّ النظر عن كلّ ذلك ، فإنّ بعض أزواج النّبي قد قمن بأعمال طوال حياتهنّ تخالف مقام العصمة ، ولا تناسب كونهنّ معصومات ، كحادثة «حرب الجمل» التي كانت ثورة وخروجا على إمام الزمان ، والتي تسبّبت في إراقة دماء كثيرة ، فقد بلغ عدد القتلى في هذه الحرب ـ عند بعض المؤرخّين ـ سبعة عشر ألف قتيل.

ولا شكّ أنّ هذه المعركة لا يمكن توجيهها ، بل إنّنا نرى أنّ عائشة نفسها قد أظهرت الندم بعدها ، وقد مرّ نموذج من هذا الندم في البحوث السابقة.

إنّ انتقاص عائشة من خديجة ـ والتي هي من أعظم نساء المسلمين ، وأكثر هنّ تضحية وإيثارا ، وأجلّهنّ فضيلة وقدرا ـ مشهور في تاريخ الإسلام ، وقد آلم هذا الكلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى ظهرت على وجهه الشريف آثار الغضب وقال : «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس»(٣) .

٣ ـ هل أن الإرادة الإلهية هنا تكوينية أم تشريعية؟

مرّت الإشارة في طيّات تفسير هذه الآية إلى هذا الموضوع ، وقلنا : إنّ الإرادة

__________________

(١) يراجع الجزء الثّاني ، من إحقاق الحقّ وهوامشه.

(٢) يراجع المجلّد الثّاني ، من شواهد التنزيل ، صفحة ١٠ ـ ٩٢.

(٣) الإستيعاب ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم. طبقا لنقل المراجعات صفحة ٢٢٩ الرسالة ٧٢.

٢٤٥

في جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) إرادة تكوينية لا تشريعية.

ولمزيد التوضيح ينبغي أن نذكّر بأنّ المراد من «الإرادة التشريعية» هي أوامر الله ونواهيه ، فنعلم مثلا أنّ الله سبحانه يريد منّا أداء الصلاة والصوم والحجّ والجهاد ، وهذه إرادة تشريعية. ومن المعلوم أنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال اللهعزوجل . في حين أنّ الآية أعلاه تتعلّق بأفعال الله سبحانه ، فهي تقول : إنّ الله أراد أن يذهب عنكم الرجس ، وبناء على هذا فإنّ مثل هذه الإرادة يجب أن تكون تكوينية ، ومرتبطة بإرادة الله سبحانه في عالم التكوين.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ مسألة الإرادة التشريعية فيما يتعلّق بالتقوى والعفّة لا تنحصر بأهل البيتعليهم‌السلام ، لأنّ الله قد أمر الجميع بالتقوى والتطهّر من الذنوب ، وبذلك لا تكون لهم مزيّة وخاصيّة ، لأنّ كلّ المكلّفين مشمولون بهذا الأمر.

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذا الموضوع ـ أي الإرادة التشريعيّة ـ مضافا إلى أنّه لا يناسب ظاهر الآية ، فانّه لا يتناسب مع الأحاديث السابقة بأيّ وجه من الوجوه ، لأنّ كلّ تلك الأحاديث تتحدّث عن فضيلة سامية وهبة مهمّة خاصّة بأهل البيتعليهم‌السلام .

ومن المسلّم أيضا أنّ «الرجس» هنا لا يعني الرجس الظاهري ، بل هو إشارة إلى الأرجاس الباطنية ، وإطلاق هذه الكلمة ينفي انحصارها وكونها محدودة بالشرك والكفر والأعمال المنافية للعفّة وأمثال ذلك ، فإنّها تشمل كلّ الذنوب والمعاصي والمفاسد العقائدية والأخلاقية والعملية.

والمسألة الاخرى التي ينبغي الالتفات إليها بدقّة هي أنّ الإرادة التكوينية التي تعني الخلقة والإيجاد ، تعني هنا «المقتضي» لا العلّة التامّة لتكون موجبة للجبر وسلب الإختيار.

وتوضيح ذلك ، إنّ مقام العصمة يعني حالة تقوى الله التي توجد عند الأنبياء والأئمّة بمعونة الله سبحانه ، لكن وجود هذه الحالة لا يعني أنّهم غير قادرين على

٢٤٦

ارتكاب المعصية ، بل إنّهم قادرون على إتيانها ، غير أنّهم يعفّون أنفسهم ويجلّونها عن التلوّث بها باختيارهم ، ويغضّون الطرف عنها طوعا ، تماما كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقا مادّة سمّية جدّا وهو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها ، ومع أنّه قادر على تناولها ، إلّا أنّ علومه واطلاعه ومبادئه الفكرية والروحية تدفعه إلى الامتناع إراديا واختيارا عن هذا العمل.

ويجب التذكير بهذه المسألة ، وهي أنّ هذه التقوى موهبة خاصّة منحت للأنبياء لا للآخرين ، لكن الله سبحانه قد منحهم إيّاها للمسؤوليات الثقيلة الخطيرة الملقاة على عاتقهم في قيادة الناس وإرشادهم ، وبناء على هذا فإنّه امتياز يعود نفعه على الجميع ، وهذه عين العدالة ، تماما كالامتياز الخاصّ الذي منحه الله لطبقات العين وأغشيتها الرقيقة والحسّاسة جدّا ، والتي يستفيد منها جميع البدن.

إضافة إلى أنّ الأنبياء تعظم مسئولياتهم وواجباتهم بنفس المقدار الذي يتمتّعون بهذا المواهب الإلهية والامتيازات ، فإنّ ترك الاولى من قبلهم يعادل ذنبا كبيرا يصدر من الناس العاديين ، وهذا معيار وتشخيص لخطّ العدالة.

والنتيجة أنّ هذه الإرادة إرادة تكوينية في حدود المقتضى ـ وليست علّة تامّة ـ وهي في الوقت نفسه لا توجب الجبر ولا تسلب الإختيار والإرادة الإنسانية.

٤ ـ جاهلية القرن العشرين!

مرّت الإشارة إلى أنّ جمعا من المفسّرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاولى) وكأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اخرى في العالم بعد ظهور الإسلام ، وأنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة ، إلّا أنّ هذا الأمر قد تجلّى للجميع اليوم ، حيث نرى مظاهر جاهلية القرن العشرين المرعبة ، ويجب أن تعدّ تلك إحدى تنبؤات القرآن الإعجازية.

إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون ويحاربون ، وإذا كان سوق عكاظ ـ

٢٤٧

مثلا ـ ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات ، وقتل على أثرها أفراد معدودون ، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان ، وجرح وتعوّق أكثر من هذا العدد!

وإذا كانت النساء «تتبرّج» في زمن الجاهلية ويلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهنّ ونحورهنّ ، وقلائدهنّ وأقراطهنّ ، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّى بنوادي العراة ـ ونموذجها مشهور في بريطانيا ـ حيث يتعرّى أفرادها كما ولدتهم امّهاتهم ، وفضائح البلاجات على سواحل البحار والمسابح ، بل وحتّى في الأماكن العامّة وعلى قارعة الطريق يخجل القلم من ذكرها.

وإذا كانت في الجاهلية «زانيات من ذوات الأعلام» ، حيث كنّ يرفعن أعلاما فوق بيوتهنّ ليدعين الناس إلى أنفسهنّ ، في جاهلية قرننا أناس يطرحون أمورا ومطالب في هذا المجال عبر صحف خاصّة ، يندى لها الجبين ، ولجاهلية العرب مائة مرتبة من الشرف على هذه الجاهلية.

والخلاصة : ماذا نقول عن وضع المفاسد التي توجد في عصرنا الحاضر عصر التمدّن المادّي الآلي الخالي من الإيمان ، فعدم الحديث عنها أولى ، ولا ينبغي أن نلوّث هذا التّفسير بذكرها.

إنّ ما قلناه كان جانبا من العبء الملقى على عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن الله تعالى ، فإنّهم وإن امتلكوا آلاف الجامعات والمراكز العلمية والعلماء المعروفين ، فهم غارقون في وحل الفساد ومستنقع الرذيلة ، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية وعلماءها في خدمة هذه الفجائع والمفاسد أحيانا.

* * *

٢٤٨

الآية

( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) )

سبب النّزول

أورد جمع من المفسّرين في سبب نزول هذه الآية انّه عند ما رجعت «أسماء بنت عميس» زوجة «جعفر بن أبي طالب» من الحبشة مع زوجها ، جاءت إلى زوجات النّبي ، فسألتهن : هل نزل فينا شيء من القرآن؟ فقلن : لا ، فأتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت :

«يا رسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار. فقال : وممّ ذلك؟ قالت : لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال. فأنزل الله تعالى هذه الآية (التي طمأنت النساء بأنّ

٢٤٩

لهنّ درجة عند الله مساوية للرجال ، وأكّدت على أنّ المعيار هو العقيدة والعمل والأخلاق الإسلامية).

التّفسير

شخصية المرأة ومكانتها في الإسلام :

بعد البحوث التي ذكرت في الآيات السابقة حول واجبات أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ورد في هذه الآية كلام جامع عميق المحتوى في شأن كلّ النساء والرجال وصفاتهم ، وبعد أن ذكرت عشر صفات من صفاتهم العقائدية والأخلاقية والعملية ، بيّنت الثواب العظيم المعدّ لهم في نهايتها.

إنّ بعض هذه الصفات العشر تتحدّث عن مراحل الإيمان (الإقرار باللسان ، والتصديق بالقلب والجنان ، والعمل بالأركان).

والقسم الآخر يبحث في التحكّم باللسان والبطن والشهوة الجنسية ، والتي تشكّل ثلاثة عوامل مصيرية في حياة البشر وأخلاقهم.

وتحدّثت في جانب آخر عن مسألة الدفاع عن المحرومين ، والاستقامة أمام الحوادث الصعبة ، أي الصبر الذي هو أساس الإيمان.

وأخيرا تتحدّث عن عامل استمرار هذه الصفات ، أي «ذكر الله تعالى».

تقول الآية :( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ) . أي المطيعين لأوامر الله والمطيعات.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد اعتبر الإسلام والإيمان في الآية بمعنى واحد ، إلّا أنّ من الواضح أنّ هذا التكرار يوحي بأنّ المراد منهما شيئان مختلفان ، وهو إشارة إلى المطلب الذي ورد في الآية (١٤) من سورة الحجرات :( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) !

وهو إشارة إلى أنّ «الإسلام» هو الإقرار باللسان الذي يجعل الإنسان في صفّ

٢٥٠

المسلمين ، ويصبح مشمولا بأحكامهم ، إلّا أنّ «الإيمان» هو التصديق بالقلب والجنان.

وقد أشارت الرّوايات الإسلامية إلى هذا التفاوت في المعنى ، ففي رواية أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام سأله عن الإسلام والإيمان ، وهل أنّهما مختلفان؟ فقال الإمامعليه‌السلام : «إنّ الإيمان يشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان» ، فاستوضح الرجل الإمام أكثر فقالعليه‌السلام : «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب ، وما ظهر من العمل به»(١) .

«قانت» من مادّة (القنوت) ، وهي ـ كما قلنا سابقا ـ الطاعة المقترنة بالخضوع ، الطاعة التي تنبع من الإيمان والإعتقاد ، وهذه إشارة إلى الجوانب العملية للإيمان وآثاره.

ثمّ تطرقت إلى أحد أهمّ صفات المؤمنين الحقيقيين ، أي حفظ اللسان ، فتقول :( وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ) .

ويستفاد من الرّوايات أنّ استقامة إيمان الإنسان وصدقه باستقامة لسانه وصدقه : «لا يستقيم إيمان امرئ حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(٢) .

ولمّا كان الصبر والتحمّل والصلابة أمام المشاكل والعقبات هو أساس الإيمان ، ودوره ومنزلته في معنويات الإنسان بمنزلة الرأس من الجسد ، فقد وصفتهم الآية بصفتهم الخامسة ، فقالت :( وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ) .

ونعلم أنّ أحد أسوأ الآفات الأخلاقية هو الكبر والغرور وحبّ الجاه ، والنقطة التي تقع في مقابله هي «الخشوع» ، لذلك كانت الصفة السادسة :( وَالْخاشِعِينَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، صفحة ٢١ باب أن الإيمان يشرك الإسلام.

(٢) المحجة البيضاء ، المجلد ٥ ، ص ١٩٣.

٢٥١

وَالْخاشِعاتِ ) .

وإذا تجاوزنا حبّ الجاه ، فإنّ حبّ المال أيضا آفة كبرى ، وعبادته والتعلّق به ذلّة خطيرة مرّة ، ويقابله الإنفاق ومساعدة المحتاجين ، لذلك كانت صفتهم السابعة :( وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ) .

قلنا : إنّ ثلاثة أشياء إذا تخلّص الإنسان من شرّها ، فإنّه سيبقى في مأمن من كثير من الآفات والشرور الأخلاقية ، وهي : اللسان والبطن والشهوة الجنسية ، وقد أشير إلى الأوّل في الصفة الرّابعة ، أمّا الشيء الثّاني والثالث فقد أشارت إليهما الآية في الصفتين الثامنة والتاسعة ، فقالت :( وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ) .

وأخيرا تطرّقت الآية إلى الصفة العاشرة التي يرتبط بها الاستمرار في كلّ الصفات السابقة والمحافظة عليها ، فقالت :( وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ) .

أجل إنّ هؤلاء يجب أن يكونوا مع الله ويذكروه في كلّ حال ، وفي كلّ الظروف ، وأن يزيحوا عن قلوبهم حجب الغفلة والجهل ، ويبعدون عن أنفسهم همزات الشياطين ووساوسهم ، وإذا ما بدرت منهم عثرة فإنّهم يهبون لجبرانها في الحال لئلّا يحيدوا عن الصراط المستقيم.

وقد ذكرت تفاسير مختلفة لـ «الذكر الكثير» في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، وكلّها من قبيل ذكر المصداق ظاهرا ، ويشملها جميعا معنى الكلمة الواسع. ومن جملتها ما نقرؤه

في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضّئا وصلّيا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»(١) .

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من بات على تسبيح فاطمةعليها‌السلام كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»(٢) .

__________________

(١) تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٢٥٢

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الذكر الكثير» هو الذكر حال القيام والقعود ، وذكر الله عند ما يأوي المرء إلى فراشه.

وعلى أي تقدير ، فإنّ الذكر علامة الفكر ، والفكر مقدّمة للعمل ، فليس الهدف هو الذكر الخالي من الفكر والعمل مطلقا.

ثمّ تبيّن الآية في النهاية الأجر الجزيل لهذه الفئة من الرجال والنساء الذين يتمتّعون بهذه الخصائص العشرة بأنّهم قد( أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) فإنّه تعالى قد غسل ذنوبهم التي كانت سببا في تلوّث أرواحهم ، بماء المغفرة ، ثمّ كتب لهم الثواب العظيم الذي لا يعرف مقداره إلّا هو.

والواقع إنّ أحد هذين الأمرين يطرد كلّ المنغّصات ، والآخر يجلب كلّ الخيرات.

إنّ التعبير بـ «أجرا» دليل بنفسه على عظمته ، ووصفه بـ «العظيم» تأكيد على هذه العظمة ، وكون هذه العظمة مطلقة دليل آخر على سعة أطرافها وتراميها ، ومن البديهي ، أنّ الشيء الذي يعده الله عظيما يكون خارقا في عظمته.

وثمّة مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ جملة( أَعَدَّ ) قد وردت بصيغة الماضي ، وهو بيان لحتمية هذا الأجر والجزاء وعدم إمكان خلفه وعدم الوفاء به ، أو أنّه إشارة إلى أنّ الجنّة ونعمها معدّة منذ الآن للمؤمنين.

* * *

بحث

مساواة الرجل والمرأة عند الله :

يتصوّر البعض أحيانا أنّ الإسلام قد رجّح كفّة شخصية الرجال ، ولا مكانة مهمّة للنساء في برامج الإسلام ، وربّما كان منشأ هذا الاشتباه هو بعض الاختلافات الحقوقية ، والتي لكلّ منها فلسفة خاصّة.

٢٥٣

ومع غضّ النظر عن مثل هذه الاختلافات التي لها علاقة بالمكانات والمراكز الاجتماعية وظروفها الطبيعية ـ فلا شكّ في عدم وجود أي فرق بين الرجل والمرأة في تعليمات الإسلام من الناحية الإنسانية والمقامات المعنوية ، والآية المذكورة دليل واضح على هذه الحقيقة ، لأنّها وضعت المرأة والرجل في مرتبة واحدة ككفّتي ميزان لدى تبيانها خصائص المؤمنين ، وأهمّ المسائل العقائدية والأخلاقية والعملية ، ووعدت الإثنين بمكافاة متكافئة وثواب متساو بدون أي تفاوت واختلاف.

وبتعبير آخر : لا يمكن إنكار التفاوت الجسمي بين الرجل والمرأة ، كما لا يمكن إنكار التفاوت النفسي بينهما أيضا ، ومن البديهي أنّ هذا التفاوت ضروري لإدامة نظام المجتمع الإنساني ، كما أنّه يفرز آثارا ونتائج في بعض القوانين الحقوقية للمرأة والرجل ، إلّا أنّ الإسلام لم يطرح شخصية المرأة الإنسانية للمناقشة ـ كما فعل ذلك بعض القساوسة المسيحيين في القرون الماضية ـ بأنّ المرأة هل هي إنسان في الواقع؟ وهل لها روح إنسانية أم لا؟!

ولم يكتف بذلك فحسب ، بل أكّد على عدم الفرق بين الجنسين من ناحية الروح الإنسانية ، ولذلك نقرأ في الآية (٩٧) من سورة النحل( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

لقد أقرّ الإسلام للمرأة نفس الاستقلال الاقتصادي الذي أقرّه للرجل ، على عكس كثير من قوانين العالم السابقة ، بل وحتّى قوانين عالم اليوم التي لم تبح للمرأة الاستقلال الاقتصادي مطلقا.

من هنا ، فإنّنا نلاحظ في علم الرجال الإسلامي جانبا خاصّا يتعلّق بالنساء العالمات اللواتي كنّ في مصافّ الرواة والفقهاء ، وقد ذكرن كشخصيات مؤثّرة وفاعلة في التاريخ الإسلامي.

٢٥٤

وإذا رجعنا إلى تاريخ العرب قبل الإسلام ، وحقّقنا في وضع النساء في ذلك المجتمع ، ورأينا كيف أنهنّ كنّ محرومات من أبسط حقوق الإنسان ، بل لم يكن المشركون يعتقدون بأنّ لهنّ حقّ الحياة أحيانا ، ولذلك كانوا يئدونهنّ وهنّ أحياء بعد ولادتهنّ!!

وكذلك إذا نظرنا إلى وضع المرأة في عالمنا المعاصر حيث أصبحت العوبة لا إختيار لها ولا إرادة في أيدي مجموعة من المتلبّسين بلباس الإنسانية ويدعون التمدّن ، فسوف ندرك جيدا بأنّ الإسلام قد خدم المرأة أيّما خدمة ، وله حقّ عظيم عليهنّ(١) ؟!

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث آخر في هذا المجال في ذيل الآية (٢٢٨) من سورة البقرة ، وكذلك ورد بحث آخر في ذيل الآية (٩٧) من سورة النحل.

٢٥٥

الآيات

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) )

سبب النّزول

نزلت هذه الآيات ـ على قول أغلب المفسّرين ـ في قضيّة زواج «زينب بنت جحش» ـ بنت عمّة الرّسول الأكرم ـ بزيد بن حارثة مولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المعتق ، وكانت القصّة كما يلي :

٢٥٦

كانت خديجة قد اشترت قبل البعثة وبعد زواجها بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عبدا اسمه زيد ، ثمّ وهبته للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعتقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا طردته عشيرته وتبرّأت منه تبنّاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبعد ظهور الإسلام أصبح زيد مسلما مخلصا متفانيا ، وأصبح له موقع ممتاز في الإسلام ، وكما نعلم فإنّه أصبح في النهاية أحد قوّاد جيش الإسلام في معركة مؤتة واستشهد فيها.

وعند ما صمّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أن ينتخب زوجة لزيد ، خطب له «زينب بنت جحش» ـ والتي كانت بنت «أميّة بنت عبد المطلّب» ، أي بنت عمّته ـ فكانت زينب تظنّ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يريد أن يخطبها لنفسه ، فسرّت ورضيت ، ولكنّها لمّا علمت فيما بعد أن خطبته كانت لزيد تأثّرت تأثّرا شديدا وامتنعت ، وكذلك خالف أخوها عبد الله هذه الخطبة أشدّ مخالفة.

هنا نزلت الآية الاولى من الآيات مورد البحث وحذّرت زينب وعبد الله وأمثالهما بأنّهم لا يقدرون على مخالفة أمر يراه الله ورسوله ضروريا ، فلمّا سمعا ذلك سلّما لأمر الله.

إنّ هذا الزواج لم يكن زواجا بسيطا ـ كما سنرى ذلك ـ بل كان مقدّمة لتحطيم سنّة جاهلية مغلوطة ، حيث لم تكن أيّة امرأة لها مكانتها وشخصيتها في المجتمع مستعدّة للاقتران بعبد في زمن الجاهلية ، حتّى وإن كان متمتّعا بقيم إنسانية عالية.

غير أنّ هذا الزواج لم يدم طويلا ، بل انتهى إلى الطلاق نتيجة عدم الانسجام واختلاف أخلاق الزوجين ، بالرغم من أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مصرّا على أن لا يتمّ هذا الطلاق.

بعد ذلك اتّخذ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله «زينب» زوجة له لتعوّض بذلك فشلها في زواجها ، فانتهت المسألة هنا ، إلّا أنّ همهمات وأقاويل قد ظهرت بين الناس ، وقد اقتلعها القرآن وعالجها في هذه الآيات التي نبحثها ، وسيأتي تفصيل ذلك ، إن

٢٥٧

شاء الله تعالى(١) .

التّفسير

تمرّد عظيم على العرف :

نعلم أنّ روح الإسلام التسليم ، ويجب أن يكون تسليما لأمر الله تعالى بدون قيد أو شرط ، وقد ورد هذا المعنى في آيات مختلفة من القرآن الكريم ، وبعبارات مختلفة ، ومن جملتها الآية أعلاه ، والتي تقول :( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) بل يجب أن يجعلوا إرادتهم تبعا لإرادة الله تعالى ، كما أنّ كلّ وجودهم من الشعر حتّى أخمص القدمين مرتبط به ومذعن له.

(قضى) هنا تعني القضاء التشريعي ، والقانون والأمر والحكم والقضاء ، ومن البديهي أنّ الله تعالى غني عن طاعة الناس وتسليمهم ، ولم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ينظر بعين الطمع لهذه الطاعة ، بل هي في الحقيقة لمصلحتهم ومنفعتهم ، فإنّهم قد يجهلونها لكون علمهم وآفاتهم محدودة ، إلّا أنّ الله تعالى يعلمها فيأمر نبيّه بإبلاغها.

إنّ هذه الحالة تشبه تماما حالة الطبيب الماهر الذي يقول للمريض : إنّني أبدا بعلاجك إذا أذعنت لأوامري تماما ، ولم تبد أي مخالفة تجاهها ، وهذه الكلمات تبيّن غاية حرص الطبيب على علاج مريضه ، والله تعالى أسمى وأرحم بعباده من مثل هذا الطبيب ، ولذلك أشارت الآية إلى هذه المسألة في نهايتها ، حيث تقول :( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) .

فسوف يضلّ طريق السعادة ، ويسلك طريق الضلال والضياع ، لأنّه لم يعبأ بأمر

__________________

(١) اقتباس من تفسير مجمع البيان ، والقرطبي ، والميزان ، والفخر الرازي ، وفي ظلال القرآن ، وتفاسير اخرى في ذيل الآيات مورد البحث ، وكذلك سيرة ابن هشام ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٢٦٤ ، والكامل لابن الأثير ، المجلّد الثّاني ، صفحة ١٧٧.

٢٥٨

ربّ الكون الرحيم ، وبأمر رسوله ، ذلك الأمر الضامن لخيره وسعادته ، وأيّة ضلالة أوضح من هذه؟!

ثمّ تناولت الآية التالية قصّة «زيد» وزوجته «زينب» المعروفة ، والتي هي إحدى المسائل الحسّاسة في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولها ارتباط بمسألة أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي مرّت في الآيات السابقة ، فتقول :( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ) .

والمراد من نعمة الله تعالى هي نعمة الهداية والإيمان التي منحها لزيد بن حارثة ، ومن نعمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان قد أعتقه وكان يعامله كولده الحبيب العزيز.

ويستفاد من هذه الآية أنّ شجارا قد وقع بين زيد وزينب ، وقد استمرّ هذا الشجار حتّى بلغ أعتاب الطلاق ، وبملاحظة جملة( تَقُولُ ) حيث إنّ فعلها مضارع ، يستفاد أنّ النّبي كان ينصحه دائما ويمنعه من الطلاق.

هل أنّ هذا الشجار كان نتيجة عدم تكافؤ الحالة الاجتماعية بين زينب وزيد ، حيث كانت من قبيلة معروفة ، وكان هو عبدا معتق؟

أم كان ناتجا عن بعض الخشونة في أخلاق زيد؟

أو لا هذا ولا ذاك ، بل لعدم وجود انسجام روحي وأخلاقي بينهما ، فإنّ من الممكن أن يكون شخصان جيدين ، إلّا أنّهما يختلفان من ناحية السلوك والفكر والطباع بحيث لا يستطيعان أن يستمرا في حياة مشتركة؟

ومهما يكن الأمر فإنّ المسألة إلى هنا ليست بذلك التعقيد.

ثمّ تضيف الآية :( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) .

لقد أسهب المفسّرون هنا في الكلام ، وكان تسامح بعضهم في التعبيرات قد منح الأعداء حربة للطعن ، في حين يفهم من القرائن الموجودة في نفس الآية ، وسبب نزول الآيات ، والتأريخ ، أنّ معنى الآية ليس مطلبا ومبحثا معقّدا ، وذلك :

٢٥٩

إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد قرّر أن يتّخذ «زينب» زوجة له إذا ما فشل الصلح بين الزوجين ووصل أمرهم إلى الطلاق لجبران هذه النكسة الروحية التي نزلت بابنة عمّته زينب من جرّاء طلاقها من عبده المعتق ، إلّا أنّه كان قلقا وخائفا من أن يعيبه الناس ويثير مخالفيه ضجّة وضوضاء ، من جهتين :

الاولى : أنّ زيدا كان ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتبنّي ، وكان الابن المتبنّى ـ طبقا لسنّة جاهلية ـ يتمتّع بكلّ أحكام الابن الحقيقي ، ومن جملتها أنّهم كانوا يعتقدون حرمة الزواج من زوجة الابن المتبنّى المطلّقة.

والاخرى : هي كيف يمكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوّج مطلّقة عبده المعتق وهو في تلك المنزلة الرفيعة والمكانة السامية؟

ويظهر من بعض الروايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد صمّم على أن يقدم على هذا الأمر بأمر الله سبحانه رغم كلّ الملابسات والظروف ، وفي الجزء التالي من الآية قرينة على هذا المعنى.

بناء على هذا ، فإنّ هذه المسألة كانت مسألة أخلاقية وإنسانية ، وكذلك كانت وسيلة مؤثّرة لكسر سنّتين جاهليتين خاطئتين ، وهما : الاقتران بمطلّقة الابن المتبنّى ، والزواج من مطلّقة عبد معتق.

من المسلّم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينبغي أن يخاف الناس في مثل هذه المسائل ، ولا يدع للضعف والتزلزل والخشية من تأليب الأعداء وشايعاتهم إلى نفسه سبيلا ، إلّا أنّ من الطبيعي أن يبتلى الإنسان بالخوف والتردّد في مثل هذه المواقف ، خاصّة وأنّ أساس هذه المسائل كان إختيار الزوجة ، وأنّه كان من الممكن أن تؤثّر هذه الأقاويل والضجيج على انتشار أهدافه المقدّسة وتوسّع الإسلام ، وبالتالي ستؤثّر على ضعفاء الإيمان ، وتغرس في قلوبهم الشكّ والتردّد.

لهذا تقول الآية في متابعة المسألة : إنّ زيد لمّا أنهى حاجته منها وطلّقها زوجناها لك:( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510