الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148617
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148617 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

الرجس ـ وخاصّة بملاحظة ألفه ولامه ، وهي ألف لام الجنس ـ يشمل كلّ أنواع الذنوب والمعاصي ، لأنّ كلّ المعاصي رجس ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة أطلقت في القرآن على الشرك والخمور والقمار والنفاق واللحوم المحرّمة والنجسة وأمثال ذلك.

انظر الآيات : الحجّ ـ ٣٠ ، المائدة ـ ٩٠ ، التوبة ـ ١٢٥ ، الأنعام ـ ١٤٥.

وبملاحظة أنّ الإرادة الإلهيّة حتمية التنفيذ والوقوع ، وأنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) دليل على إرادته الحتمية ، وخاصّة بوجود كلمة (إنّما) الدالّة على الحصر والتأكيد ، سيتّضح أنّ إرادة الله سبحانه قد قطعت بأن يكون أهل البيت منزّهين عن كلّ رجس وخطأ ، وهذا هو مقام العصمة.

وثمّة مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّه ليس المراد من الإرادة الإلهيّة في هذه الآية الأوامر والأحكام الإلهيّة في مسائل الحلال والحرام ، لأنّ هذه الأحكام تشمل الجميع ، ولا تختّص بأهل البيت ، وبناء على هذا فإنّها لا تتناسب مع مفهوم (إنّما).

إذن ، فهذه الإرادة المستمرّة نوع من الإمداد الإلهي الذي يعيّن أهل أهل البيت على العصمة والاستمرار فيها ، وهي في الوقت نفسه لا تنافي حرية الإرادة والإختيار ، كما فصّلنا ذلك سابقا.

إنّ مفهوم هذه الآية في الحقيقة هو عين ما جاء في الزيارة الجامعة : «عصمكم الله من الزلل ، وآمنكم من الفتن ، وطهّركم من الدنس وأذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيرا».

وينبغي أن لا نشكّ بعد هذا الإيضاح في دلالة الآية المذكورة على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام .

٢ ـ فيمن نزلت آية التطهير؟

قلنا : إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت ضمن الآيات المتعلّقة بنساء النّبي ، إلّا

٢٤١

أنّ تغيير سياقها ـ حيث تبدّل ضمير الجمع المؤنث إلى ضمير الجمع المذكّر ـ دليل على أنّ لهذه الآية معنى ومحتوى مستقلا عن تلك الآيات ، ولهذا فحتّى أولئك الذين لم يعتبروا الآية مختّصة بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فإنّهم اعتقدوا أنّ لها معنى واسعا يشمل هؤلاء العظام ونساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلّا أنّ الرّوايات الكثيرة التي بين أيدينا تبيّن أنّ هذه الآية خاصّة بهؤلاء الأجلّاء ، ولا تدخل الزوجات ضمن الآية ، بالرغم من أنهنّ يتمتّعن باحترام خاصّ ، ونضع بين أيديكم بعضا من هذه الروايات :

أ: الرّوايات التي رويت عن أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنفسهنّ ، والتي حدثن فيها : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما كل يتحدّث عن هذه الآية الشريفة سألناه : أنحن من أصحاب هذه الآية؟ فكان يجيب : بأنكنّ إلى خير ، ولكن لستنّ من أصحابها.

ومن جملتها الرواية التي رواها «الثعلبي» عن «امّ سلمة» في تفسيره ، وذلك أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بيتها إذ أتته فاطمةعليها‌السلام بقطعة حرير ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ادعي لي زوجك وابنيك ـ الحسن والحسين ـ» فأتت به فطعموا ، ثمّ ألقى عليهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كساء له خيبريا وقال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» فنزلت آية التطهير ، فقلت : يا رسول الله وأنا معهم؟ قال : «إنّك إلى خير» ولكنّك لست منهم(١) .

ويروي «الثعلبي» أيضا عن «عائشة» أنّها عند ما سئلت عن حرب الجمل وتدخّلها في تلك الحرب المدمّرة الطاحنة ، قالت بأسف : كان ذلك قضاء الله.

وعند ما سئلت عن عليعليه‌السلام قالت : تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ لقد رأيت عليا وفاطمة وحسنا وحسيناعليهم‌السلام ، وجمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بثوب عليهم ثمّ قال : «اللهمّ هؤلاء أهل

__________________

(١) روى الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ، هذا الحديث بهذا المضمون بطرق متعدّدة عن أمّ سلمة. راجع شواهد التنزيل ، للحاكم الحسكاني ، المجلّد ٢ ، صفحة ٥٦ وما بعدها.

٢٤٢

بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» قالت : فقلت : يا رسول الله ، أنا من أهلك! قال : «تنحّي فإنّك إلى خير»(١) ـ إلّا أنّك لست جزءا منهم ـ.

إنّ هذه الرّوايات تصرّح أنّ زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لسن جزءا من أهل البيت في هذه الآية.

ب : لقد وردت روايات كثيرة جدّا بصورة مجملة في شأن حديث الكساء ، يستفاد منها جميعا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا عليا وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ـ أو أنّهم أتوا إليه ـ فألقى عليهم عباءة وقال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» ، فنزلت الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) .

وقد روى العالم المعروف «الحاكم الحسكاني النيسابوري» هذه الروايات في (شواهد التنزيل) بطرق مختلفة عن رواة مختلفين(٢) .

وهنا سؤال يلفت النظر ، وهو : ماذا كان الهدف من جمعهم تحت الكساء؟ كأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يريد أن يحدّد هؤلاء ويعرّفهم تماما ، ويقول : إنّ الآية أعلاه في حقّ هؤلاء خاصّة ، لئلّا يرى أحد أو يظنّ ظانّ أنّ المخاطب في هذه الآية كلّ من تربطه بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرابة ، وكلّ من يعدّ جزءا من أهله ، حتّى جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد كرّر هذه الجملة ثلاث مرّات : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا»(٣) .

ج : نقرأ في روايات عديدة اخرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقي ستّة أشهر بعد نزول هذه الآية ينادي عند مروره من جنب بيت فاطمة سلام الله عليها وهو ذاهب إلى صلاة الصبح : «الصلاة يا أهل البيت! إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا». وقد روى الحاكم الحسكاني هذا الحديث عن أنس بن

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

(٢) شواهد التنزيل ، المجلّد ٢ ، صفحة ٣١ وما بعدها.

(٣) الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث.

٢٤٣

مالك(١) .

وروى ابن عبّاس أيضا هذا الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وهنا مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ تكرار هذه الأمر ستّة أشهر أو ثمانية أو تسعة أشهر بصورة مستمرّة جنب بيت فاطمة إنّما هو لبيان هذه المسألة تماما لئلّا يبقى مجال للشكّ لدى أيّ شخص بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء النفر فقط ، خاصّة وأنّ الدار الوحيدة التي بقي بابها مفتوحا إلى داخل المسجد بعد أن أمر الله نبيّه بأن تغلق جميع أبواب بيوت الآخرين ، هي دار فاطمةعليها‌السلام ، ولا شكّ أنّ جماعة من الناس كانوا يسمعون ذلك القول من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين الصلاة هناك ـ تأمّلوا ذلك ـ.

ومع ذلك ، فإنّ ممّا يثير العجب أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ للآية معنى عامّا تدخل فيه أزواج النّبي ، بالرغم من أنّ أكثر علماء الإسلام ، السنّة منهم والشيعة ، قد حدّدوها بهؤلاء الخمسة.

وممّا يستحقّ الالتفات أنّ عائشة ـ زوجة النّبي لم تكن تدع شيئا في ذكر فضائلها ، ودقائق علاقتها بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة الروايات الإسلامية ، فإذا كانت هذه الآية تشملها فلا بدّ أنّها كانت ستتحدّث بها في المناسبات المختلفة ، في حين لم يرو شيء من ذلك عنها مطلقا.

د : رويت روايات عديدة عن الصحابي المعروف «أبي سعيد الخدري» تشهد بصراحة بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء الخمسة الأطهار : «نزلت في خمسة : في رسول الله ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين»(٣) . وهذه الرّوايات كثيرة بحيث عدّها بعض المحقّقين متواترة.

__________________

(١) شواهد التنزيل ، المجلّد ٢ ، صفحة ١١.

(٢) الدرّ المنثور ، ذيل الآية مورد البحث.

(٣) شواهد التنزيل ، الجزء ٢ ، صفحة ٢٥.

٢٤٤

وممّا قلناه نستنتج أنّ المصادر ورواة الأحاديث التي تدلّ على اختصاص الآية بالخمسة المطهّرة وحصرها بهم كثيرة بحيث لا تدع لأحد المجال للشكّ في هذه الدلالة ، حتّى أنّه ذكر في شرح (إحقاق الحقّ) أكثر من سبعين مصدرا من مصادر العامّة المعروفة ، وأمّا مصادر الشيعة في هذا الباب فتربو على الألف(١) . وقد روى صاحب كتاب (شواهد التنزيل) ـ وهو من علماء الإخوة السنّة المشهورين ـ أكثر من (١٣٠) حديثا في هذا الموضوع(٢) .

وبغضّ النظر عن كلّ ذلك ، فإنّ بعض أزواج النّبي قد قمن بأعمال طوال حياتهنّ تخالف مقام العصمة ، ولا تناسب كونهنّ معصومات ، كحادثة «حرب الجمل» التي كانت ثورة وخروجا على إمام الزمان ، والتي تسبّبت في إراقة دماء كثيرة ، فقد بلغ عدد القتلى في هذه الحرب ـ عند بعض المؤرخّين ـ سبعة عشر ألف قتيل.

ولا شكّ أنّ هذه المعركة لا يمكن توجيهها ، بل إنّنا نرى أنّ عائشة نفسها قد أظهرت الندم بعدها ، وقد مرّ نموذج من هذا الندم في البحوث السابقة.

إنّ انتقاص عائشة من خديجة ـ والتي هي من أعظم نساء المسلمين ، وأكثر هنّ تضحية وإيثارا ، وأجلّهنّ فضيلة وقدرا ـ مشهور في تاريخ الإسلام ، وقد آلم هذا الكلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى ظهرت على وجهه الشريف آثار الغضب وقال : «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس»(٣) .

٣ ـ هل أن الإرادة الإلهية هنا تكوينية أم تشريعية؟

مرّت الإشارة في طيّات تفسير هذه الآية إلى هذا الموضوع ، وقلنا : إنّ الإرادة

__________________

(١) يراجع الجزء الثّاني ، من إحقاق الحقّ وهوامشه.

(٢) يراجع المجلّد الثّاني ، من شواهد التنزيل ، صفحة ١٠ ـ ٩٢.

(٣) الإستيعاب ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم. طبقا لنقل المراجعات صفحة ٢٢٩ الرسالة ٧٢.

٢٤٥

في جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) إرادة تكوينية لا تشريعية.

ولمزيد التوضيح ينبغي أن نذكّر بأنّ المراد من «الإرادة التشريعية» هي أوامر الله ونواهيه ، فنعلم مثلا أنّ الله سبحانه يريد منّا أداء الصلاة والصوم والحجّ والجهاد ، وهذه إرادة تشريعية. ومن المعلوم أنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال اللهعزوجل . في حين أنّ الآية أعلاه تتعلّق بأفعال الله سبحانه ، فهي تقول : إنّ الله أراد أن يذهب عنكم الرجس ، وبناء على هذا فإنّ مثل هذه الإرادة يجب أن تكون تكوينية ، ومرتبطة بإرادة الله سبحانه في عالم التكوين.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ مسألة الإرادة التشريعية فيما يتعلّق بالتقوى والعفّة لا تنحصر بأهل البيتعليهم‌السلام ، لأنّ الله قد أمر الجميع بالتقوى والتطهّر من الذنوب ، وبذلك لا تكون لهم مزيّة وخاصيّة ، لأنّ كلّ المكلّفين مشمولون بهذا الأمر.

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذا الموضوع ـ أي الإرادة التشريعيّة ـ مضافا إلى أنّه لا يناسب ظاهر الآية ، فانّه لا يتناسب مع الأحاديث السابقة بأيّ وجه من الوجوه ، لأنّ كلّ تلك الأحاديث تتحدّث عن فضيلة سامية وهبة مهمّة خاصّة بأهل البيتعليهم‌السلام .

ومن المسلّم أيضا أنّ «الرجس» هنا لا يعني الرجس الظاهري ، بل هو إشارة إلى الأرجاس الباطنية ، وإطلاق هذه الكلمة ينفي انحصارها وكونها محدودة بالشرك والكفر والأعمال المنافية للعفّة وأمثال ذلك ، فإنّها تشمل كلّ الذنوب والمعاصي والمفاسد العقائدية والأخلاقية والعملية.

والمسألة الاخرى التي ينبغي الالتفات إليها بدقّة هي أنّ الإرادة التكوينية التي تعني الخلقة والإيجاد ، تعني هنا «المقتضي» لا العلّة التامّة لتكون موجبة للجبر وسلب الإختيار.

وتوضيح ذلك ، إنّ مقام العصمة يعني حالة تقوى الله التي توجد عند الأنبياء والأئمّة بمعونة الله سبحانه ، لكن وجود هذه الحالة لا يعني أنّهم غير قادرين على

٢٤٦

ارتكاب المعصية ، بل إنّهم قادرون على إتيانها ، غير أنّهم يعفّون أنفسهم ويجلّونها عن التلوّث بها باختيارهم ، ويغضّون الطرف عنها طوعا ، تماما كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقا مادّة سمّية جدّا وهو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها ، ومع أنّه قادر على تناولها ، إلّا أنّ علومه واطلاعه ومبادئه الفكرية والروحية تدفعه إلى الامتناع إراديا واختيارا عن هذا العمل.

ويجب التذكير بهذه المسألة ، وهي أنّ هذه التقوى موهبة خاصّة منحت للأنبياء لا للآخرين ، لكن الله سبحانه قد منحهم إيّاها للمسؤوليات الثقيلة الخطيرة الملقاة على عاتقهم في قيادة الناس وإرشادهم ، وبناء على هذا فإنّه امتياز يعود نفعه على الجميع ، وهذه عين العدالة ، تماما كالامتياز الخاصّ الذي منحه الله لطبقات العين وأغشيتها الرقيقة والحسّاسة جدّا ، والتي يستفيد منها جميع البدن.

إضافة إلى أنّ الأنبياء تعظم مسئولياتهم وواجباتهم بنفس المقدار الذي يتمتّعون بهذا المواهب الإلهية والامتيازات ، فإنّ ترك الاولى من قبلهم يعادل ذنبا كبيرا يصدر من الناس العاديين ، وهذا معيار وتشخيص لخطّ العدالة.

والنتيجة أنّ هذه الإرادة إرادة تكوينية في حدود المقتضى ـ وليست علّة تامّة ـ وهي في الوقت نفسه لا توجب الجبر ولا تسلب الإختيار والإرادة الإنسانية.

٤ ـ جاهلية القرن العشرين!

مرّت الإشارة إلى أنّ جمعا من المفسّرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاولى) وكأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اخرى في العالم بعد ظهور الإسلام ، وأنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة ، إلّا أنّ هذا الأمر قد تجلّى للجميع اليوم ، حيث نرى مظاهر جاهلية القرن العشرين المرعبة ، ويجب أن تعدّ تلك إحدى تنبؤات القرآن الإعجازية.

إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون ويحاربون ، وإذا كان سوق عكاظ ـ

٢٤٧

مثلا ـ ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات ، وقتل على أثرها أفراد معدودون ، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان ، وجرح وتعوّق أكثر من هذا العدد!

وإذا كانت النساء «تتبرّج» في زمن الجاهلية ويلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهنّ ونحورهنّ ، وقلائدهنّ وأقراطهنّ ، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّى بنوادي العراة ـ ونموذجها مشهور في بريطانيا ـ حيث يتعرّى أفرادها كما ولدتهم امّهاتهم ، وفضائح البلاجات على سواحل البحار والمسابح ، بل وحتّى في الأماكن العامّة وعلى قارعة الطريق يخجل القلم من ذكرها.

وإذا كانت في الجاهلية «زانيات من ذوات الأعلام» ، حيث كنّ يرفعن أعلاما فوق بيوتهنّ ليدعين الناس إلى أنفسهنّ ، في جاهلية قرننا أناس يطرحون أمورا ومطالب في هذا المجال عبر صحف خاصّة ، يندى لها الجبين ، ولجاهلية العرب مائة مرتبة من الشرف على هذه الجاهلية.

والخلاصة : ماذا نقول عن وضع المفاسد التي توجد في عصرنا الحاضر عصر التمدّن المادّي الآلي الخالي من الإيمان ، فعدم الحديث عنها أولى ، ولا ينبغي أن نلوّث هذا التّفسير بذكرها.

إنّ ما قلناه كان جانبا من العبء الملقى على عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن الله تعالى ، فإنّهم وإن امتلكوا آلاف الجامعات والمراكز العلمية والعلماء المعروفين ، فهم غارقون في وحل الفساد ومستنقع الرذيلة ، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية وعلماءها في خدمة هذه الفجائع والمفاسد أحيانا.

* * *

٢٤٨

الآية

( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) )

سبب النّزول

أورد جمع من المفسّرين في سبب نزول هذه الآية انّه عند ما رجعت «أسماء بنت عميس» زوجة «جعفر بن أبي طالب» من الحبشة مع زوجها ، جاءت إلى زوجات النّبي ، فسألتهن : هل نزل فينا شيء من القرآن؟ فقلن : لا ، فأتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت :

«يا رسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار. فقال : وممّ ذلك؟ قالت : لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال. فأنزل الله تعالى هذه الآية (التي طمأنت النساء بأنّ

٢٤٩

لهنّ درجة عند الله مساوية للرجال ، وأكّدت على أنّ المعيار هو العقيدة والعمل والأخلاق الإسلامية).

التّفسير

شخصية المرأة ومكانتها في الإسلام :

بعد البحوث التي ذكرت في الآيات السابقة حول واجبات أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ورد في هذه الآية كلام جامع عميق المحتوى في شأن كلّ النساء والرجال وصفاتهم ، وبعد أن ذكرت عشر صفات من صفاتهم العقائدية والأخلاقية والعملية ، بيّنت الثواب العظيم المعدّ لهم في نهايتها.

إنّ بعض هذه الصفات العشر تتحدّث عن مراحل الإيمان (الإقرار باللسان ، والتصديق بالقلب والجنان ، والعمل بالأركان).

والقسم الآخر يبحث في التحكّم باللسان والبطن والشهوة الجنسية ، والتي تشكّل ثلاثة عوامل مصيرية في حياة البشر وأخلاقهم.

وتحدّثت في جانب آخر عن مسألة الدفاع عن المحرومين ، والاستقامة أمام الحوادث الصعبة ، أي الصبر الذي هو أساس الإيمان.

وأخيرا تتحدّث عن عامل استمرار هذه الصفات ، أي «ذكر الله تعالى».

تقول الآية :( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ) . أي المطيعين لأوامر الله والمطيعات.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد اعتبر الإسلام والإيمان في الآية بمعنى واحد ، إلّا أنّ من الواضح أنّ هذا التكرار يوحي بأنّ المراد منهما شيئان مختلفان ، وهو إشارة إلى المطلب الذي ورد في الآية (١٤) من سورة الحجرات :( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) !

وهو إشارة إلى أنّ «الإسلام» هو الإقرار باللسان الذي يجعل الإنسان في صفّ

٢٥٠

المسلمين ، ويصبح مشمولا بأحكامهم ، إلّا أنّ «الإيمان» هو التصديق بالقلب والجنان.

وقد أشارت الرّوايات الإسلامية إلى هذا التفاوت في المعنى ، ففي رواية أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام سأله عن الإسلام والإيمان ، وهل أنّهما مختلفان؟ فقال الإمامعليه‌السلام : «إنّ الإيمان يشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان» ، فاستوضح الرجل الإمام أكثر فقالعليه‌السلام : «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب ، وما ظهر من العمل به»(١) .

«قانت» من مادّة (القنوت) ، وهي ـ كما قلنا سابقا ـ الطاعة المقترنة بالخضوع ، الطاعة التي تنبع من الإيمان والإعتقاد ، وهذه إشارة إلى الجوانب العملية للإيمان وآثاره.

ثمّ تطرقت إلى أحد أهمّ صفات المؤمنين الحقيقيين ، أي حفظ اللسان ، فتقول :( وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ) .

ويستفاد من الرّوايات أنّ استقامة إيمان الإنسان وصدقه باستقامة لسانه وصدقه : «لا يستقيم إيمان امرئ حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(٢) .

ولمّا كان الصبر والتحمّل والصلابة أمام المشاكل والعقبات هو أساس الإيمان ، ودوره ومنزلته في معنويات الإنسان بمنزلة الرأس من الجسد ، فقد وصفتهم الآية بصفتهم الخامسة ، فقالت :( وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ) .

ونعلم أنّ أحد أسوأ الآفات الأخلاقية هو الكبر والغرور وحبّ الجاه ، والنقطة التي تقع في مقابله هي «الخشوع» ، لذلك كانت الصفة السادسة :( وَالْخاشِعِينَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، صفحة ٢١ باب أن الإيمان يشرك الإسلام.

(٢) المحجة البيضاء ، المجلد ٥ ، ص ١٩٣.

٢٥١

وَالْخاشِعاتِ ) .

وإذا تجاوزنا حبّ الجاه ، فإنّ حبّ المال أيضا آفة كبرى ، وعبادته والتعلّق به ذلّة خطيرة مرّة ، ويقابله الإنفاق ومساعدة المحتاجين ، لذلك كانت صفتهم السابعة :( وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ) .

قلنا : إنّ ثلاثة أشياء إذا تخلّص الإنسان من شرّها ، فإنّه سيبقى في مأمن من كثير من الآفات والشرور الأخلاقية ، وهي : اللسان والبطن والشهوة الجنسية ، وقد أشير إلى الأوّل في الصفة الرّابعة ، أمّا الشيء الثّاني والثالث فقد أشارت إليهما الآية في الصفتين الثامنة والتاسعة ، فقالت :( وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ) .

وأخيرا تطرّقت الآية إلى الصفة العاشرة التي يرتبط بها الاستمرار في كلّ الصفات السابقة والمحافظة عليها ، فقالت :( وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ) .

أجل إنّ هؤلاء يجب أن يكونوا مع الله ويذكروه في كلّ حال ، وفي كلّ الظروف ، وأن يزيحوا عن قلوبهم حجب الغفلة والجهل ، ويبعدون عن أنفسهم همزات الشياطين ووساوسهم ، وإذا ما بدرت منهم عثرة فإنّهم يهبون لجبرانها في الحال لئلّا يحيدوا عن الصراط المستقيم.

وقد ذكرت تفاسير مختلفة لـ «الذكر الكثير» في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، وكلّها من قبيل ذكر المصداق ظاهرا ، ويشملها جميعا معنى الكلمة الواسع. ومن جملتها ما نقرؤه

في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضّئا وصلّيا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»(١) .

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من بات على تسبيح فاطمةعليها‌السلام كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»(٢) .

__________________

(١) تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٢٥٢

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الذكر الكثير» هو الذكر حال القيام والقعود ، وذكر الله عند ما يأوي المرء إلى فراشه.

وعلى أي تقدير ، فإنّ الذكر علامة الفكر ، والفكر مقدّمة للعمل ، فليس الهدف هو الذكر الخالي من الفكر والعمل مطلقا.

ثمّ تبيّن الآية في النهاية الأجر الجزيل لهذه الفئة من الرجال والنساء الذين يتمتّعون بهذه الخصائص العشرة بأنّهم قد( أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) فإنّه تعالى قد غسل ذنوبهم التي كانت سببا في تلوّث أرواحهم ، بماء المغفرة ، ثمّ كتب لهم الثواب العظيم الذي لا يعرف مقداره إلّا هو.

والواقع إنّ أحد هذين الأمرين يطرد كلّ المنغّصات ، والآخر يجلب كلّ الخيرات.

إنّ التعبير بـ «أجرا» دليل بنفسه على عظمته ، ووصفه بـ «العظيم» تأكيد على هذه العظمة ، وكون هذه العظمة مطلقة دليل آخر على سعة أطرافها وتراميها ، ومن البديهي ، أنّ الشيء الذي يعده الله عظيما يكون خارقا في عظمته.

وثمّة مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ جملة( أَعَدَّ ) قد وردت بصيغة الماضي ، وهو بيان لحتمية هذا الأجر والجزاء وعدم إمكان خلفه وعدم الوفاء به ، أو أنّه إشارة إلى أنّ الجنّة ونعمها معدّة منذ الآن للمؤمنين.

* * *

بحث

مساواة الرجل والمرأة عند الله :

يتصوّر البعض أحيانا أنّ الإسلام قد رجّح كفّة شخصية الرجال ، ولا مكانة مهمّة للنساء في برامج الإسلام ، وربّما كان منشأ هذا الاشتباه هو بعض الاختلافات الحقوقية ، والتي لكلّ منها فلسفة خاصّة.

٢٥٣

ومع غضّ النظر عن مثل هذه الاختلافات التي لها علاقة بالمكانات والمراكز الاجتماعية وظروفها الطبيعية ـ فلا شكّ في عدم وجود أي فرق بين الرجل والمرأة في تعليمات الإسلام من الناحية الإنسانية والمقامات المعنوية ، والآية المذكورة دليل واضح على هذه الحقيقة ، لأنّها وضعت المرأة والرجل في مرتبة واحدة ككفّتي ميزان لدى تبيانها خصائص المؤمنين ، وأهمّ المسائل العقائدية والأخلاقية والعملية ، ووعدت الإثنين بمكافاة متكافئة وثواب متساو بدون أي تفاوت واختلاف.

وبتعبير آخر : لا يمكن إنكار التفاوت الجسمي بين الرجل والمرأة ، كما لا يمكن إنكار التفاوت النفسي بينهما أيضا ، ومن البديهي أنّ هذا التفاوت ضروري لإدامة نظام المجتمع الإنساني ، كما أنّه يفرز آثارا ونتائج في بعض القوانين الحقوقية للمرأة والرجل ، إلّا أنّ الإسلام لم يطرح شخصية المرأة الإنسانية للمناقشة ـ كما فعل ذلك بعض القساوسة المسيحيين في القرون الماضية ـ بأنّ المرأة هل هي إنسان في الواقع؟ وهل لها روح إنسانية أم لا؟!

ولم يكتف بذلك فحسب ، بل أكّد على عدم الفرق بين الجنسين من ناحية الروح الإنسانية ، ولذلك نقرأ في الآية (٩٧) من سورة النحل( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

لقد أقرّ الإسلام للمرأة نفس الاستقلال الاقتصادي الذي أقرّه للرجل ، على عكس كثير من قوانين العالم السابقة ، بل وحتّى قوانين عالم اليوم التي لم تبح للمرأة الاستقلال الاقتصادي مطلقا.

من هنا ، فإنّنا نلاحظ في علم الرجال الإسلامي جانبا خاصّا يتعلّق بالنساء العالمات اللواتي كنّ في مصافّ الرواة والفقهاء ، وقد ذكرن كشخصيات مؤثّرة وفاعلة في التاريخ الإسلامي.

٢٥٤

وإذا رجعنا إلى تاريخ العرب قبل الإسلام ، وحقّقنا في وضع النساء في ذلك المجتمع ، ورأينا كيف أنهنّ كنّ محرومات من أبسط حقوق الإنسان ، بل لم يكن المشركون يعتقدون بأنّ لهنّ حقّ الحياة أحيانا ، ولذلك كانوا يئدونهنّ وهنّ أحياء بعد ولادتهنّ!!

وكذلك إذا نظرنا إلى وضع المرأة في عالمنا المعاصر حيث أصبحت العوبة لا إختيار لها ولا إرادة في أيدي مجموعة من المتلبّسين بلباس الإنسانية ويدعون التمدّن ، فسوف ندرك جيدا بأنّ الإسلام قد خدم المرأة أيّما خدمة ، وله حقّ عظيم عليهنّ(١) ؟!

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث آخر في هذا المجال في ذيل الآية (٢٢٨) من سورة البقرة ، وكذلك ورد بحث آخر في ذيل الآية (٩٧) من سورة النحل.

٢٥٥

الآيات

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) )

سبب النّزول

نزلت هذه الآيات ـ على قول أغلب المفسّرين ـ في قضيّة زواج «زينب بنت جحش» ـ بنت عمّة الرّسول الأكرم ـ بزيد بن حارثة مولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المعتق ، وكانت القصّة كما يلي :

٢٥٦

كانت خديجة قد اشترت قبل البعثة وبعد زواجها بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عبدا اسمه زيد ، ثمّ وهبته للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعتقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا طردته عشيرته وتبرّأت منه تبنّاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبعد ظهور الإسلام أصبح زيد مسلما مخلصا متفانيا ، وأصبح له موقع ممتاز في الإسلام ، وكما نعلم فإنّه أصبح في النهاية أحد قوّاد جيش الإسلام في معركة مؤتة واستشهد فيها.

وعند ما صمّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أن ينتخب زوجة لزيد ، خطب له «زينب بنت جحش» ـ والتي كانت بنت «أميّة بنت عبد المطلّب» ، أي بنت عمّته ـ فكانت زينب تظنّ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يريد أن يخطبها لنفسه ، فسرّت ورضيت ، ولكنّها لمّا علمت فيما بعد أن خطبته كانت لزيد تأثّرت تأثّرا شديدا وامتنعت ، وكذلك خالف أخوها عبد الله هذه الخطبة أشدّ مخالفة.

هنا نزلت الآية الاولى من الآيات مورد البحث وحذّرت زينب وعبد الله وأمثالهما بأنّهم لا يقدرون على مخالفة أمر يراه الله ورسوله ضروريا ، فلمّا سمعا ذلك سلّما لأمر الله.

إنّ هذا الزواج لم يكن زواجا بسيطا ـ كما سنرى ذلك ـ بل كان مقدّمة لتحطيم سنّة جاهلية مغلوطة ، حيث لم تكن أيّة امرأة لها مكانتها وشخصيتها في المجتمع مستعدّة للاقتران بعبد في زمن الجاهلية ، حتّى وإن كان متمتّعا بقيم إنسانية عالية.

غير أنّ هذا الزواج لم يدم طويلا ، بل انتهى إلى الطلاق نتيجة عدم الانسجام واختلاف أخلاق الزوجين ، بالرغم من أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مصرّا على أن لا يتمّ هذا الطلاق.

بعد ذلك اتّخذ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله «زينب» زوجة له لتعوّض بذلك فشلها في زواجها ، فانتهت المسألة هنا ، إلّا أنّ همهمات وأقاويل قد ظهرت بين الناس ، وقد اقتلعها القرآن وعالجها في هذه الآيات التي نبحثها ، وسيأتي تفصيل ذلك ، إن

٢٥٧

شاء الله تعالى(١) .

التّفسير

تمرّد عظيم على العرف :

نعلم أنّ روح الإسلام التسليم ، ويجب أن يكون تسليما لأمر الله تعالى بدون قيد أو شرط ، وقد ورد هذا المعنى في آيات مختلفة من القرآن الكريم ، وبعبارات مختلفة ، ومن جملتها الآية أعلاه ، والتي تقول :( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) بل يجب أن يجعلوا إرادتهم تبعا لإرادة الله تعالى ، كما أنّ كلّ وجودهم من الشعر حتّى أخمص القدمين مرتبط به ومذعن له.

(قضى) هنا تعني القضاء التشريعي ، والقانون والأمر والحكم والقضاء ، ومن البديهي أنّ الله تعالى غني عن طاعة الناس وتسليمهم ، ولم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ينظر بعين الطمع لهذه الطاعة ، بل هي في الحقيقة لمصلحتهم ومنفعتهم ، فإنّهم قد يجهلونها لكون علمهم وآفاتهم محدودة ، إلّا أنّ الله تعالى يعلمها فيأمر نبيّه بإبلاغها.

إنّ هذه الحالة تشبه تماما حالة الطبيب الماهر الذي يقول للمريض : إنّني أبدا بعلاجك إذا أذعنت لأوامري تماما ، ولم تبد أي مخالفة تجاهها ، وهذه الكلمات تبيّن غاية حرص الطبيب على علاج مريضه ، والله تعالى أسمى وأرحم بعباده من مثل هذا الطبيب ، ولذلك أشارت الآية إلى هذه المسألة في نهايتها ، حيث تقول :( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) .

فسوف يضلّ طريق السعادة ، ويسلك طريق الضلال والضياع ، لأنّه لم يعبأ بأمر

__________________

(١) اقتباس من تفسير مجمع البيان ، والقرطبي ، والميزان ، والفخر الرازي ، وفي ظلال القرآن ، وتفاسير اخرى في ذيل الآيات مورد البحث ، وكذلك سيرة ابن هشام ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٢٦٤ ، والكامل لابن الأثير ، المجلّد الثّاني ، صفحة ١٧٧.

٢٥٨

ربّ الكون الرحيم ، وبأمر رسوله ، ذلك الأمر الضامن لخيره وسعادته ، وأيّة ضلالة أوضح من هذه؟!

ثمّ تناولت الآية التالية قصّة «زيد» وزوجته «زينب» المعروفة ، والتي هي إحدى المسائل الحسّاسة في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولها ارتباط بمسألة أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي مرّت في الآيات السابقة ، فتقول :( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ) .

والمراد من نعمة الله تعالى هي نعمة الهداية والإيمان التي منحها لزيد بن حارثة ، ومن نعمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان قد أعتقه وكان يعامله كولده الحبيب العزيز.

ويستفاد من هذه الآية أنّ شجارا قد وقع بين زيد وزينب ، وقد استمرّ هذا الشجار حتّى بلغ أعتاب الطلاق ، وبملاحظة جملة( تَقُولُ ) حيث إنّ فعلها مضارع ، يستفاد أنّ النّبي كان ينصحه دائما ويمنعه من الطلاق.

هل أنّ هذا الشجار كان نتيجة عدم تكافؤ الحالة الاجتماعية بين زينب وزيد ، حيث كانت من قبيلة معروفة ، وكان هو عبدا معتق؟

أم كان ناتجا عن بعض الخشونة في أخلاق زيد؟

أو لا هذا ولا ذاك ، بل لعدم وجود انسجام روحي وأخلاقي بينهما ، فإنّ من الممكن أن يكون شخصان جيدين ، إلّا أنّهما يختلفان من ناحية السلوك والفكر والطباع بحيث لا يستطيعان أن يستمرا في حياة مشتركة؟

ومهما يكن الأمر فإنّ المسألة إلى هنا ليست بذلك التعقيد.

ثمّ تضيف الآية :( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) .

لقد أسهب المفسّرون هنا في الكلام ، وكان تسامح بعضهم في التعبيرات قد منح الأعداء حربة للطعن ، في حين يفهم من القرائن الموجودة في نفس الآية ، وسبب نزول الآيات ، والتأريخ ، أنّ معنى الآية ليس مطلبا ومبحثا معقّدا ، وذلك :

٢٥٩

إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد قرّر أن يتّخذ «زينب» زوجة له إذا ما فشل الصلح بين الزوجين ووصل أمرهم إلى الطلاق لجبران هذه النكسة الروحية التي نزلت بابنة عمّته زينب من جرّاء طلاقها من عبده المعتق ، إلّا أنّه كان قلقا وخائفا من أن يعيبه الناس ويثير مخالفيه ضجّة وضوضاء ، من جهتين :

الاولى : أنّ زيدا كان ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتبنّي ، وكان الابن المتبنّى ـ طبقا لسنّة جاهلية ـ يتمتّع بكلّ أحكام الابن الحقيقي ، ومن جملتها أنّهم كانوا يعتقدون حرمة الزواج من زوجة الابن المتبنّى المطلّقة.

والاخرى : هي كيف يمكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوّج مطلّقة عبده المعتق وهو في تلك المنزلة الرفيعة والمكانة السامية؟

ويظهر من بعض الروايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد صمّم على أن يقدم على هذا الأمر بأمر الله سبحانه رغم كلّ الملابسات والظروف ، وفي الجزء التالي من الآية قرينة على هذا المعنى.

بناء على هذا ، فإنّ هذه المسألة كانت مسألة أخلاقية وإنسانية ، وكذلك كانت وسيلة مؤثّرة لكسر سنّتين جاهليتين خاطئتين ، وهما : الاقتران بمطلّقة الابن المتبنّى ، والزواج من مطلّقة عبد معتق.

من المسلّم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينبغي أن يخاف الناس في مثل هذه المسائل ، ولا يدع للضعف والتزلزل والخشية من تأليب الأعداء وشايعاتهم إلى نفسه سبيلا ، إلّا أنّ من الطبيعي أن يبتلى الإنسان بالخوف والتردّد في مثل هذه المواقف ، خاصّة وأنّ أساس هذه المسائل كان إختيار الزوجة ، وأنّه كان من الممكن أن تؤثّر هذه الأقاويل والضجيج على انتشار أهدافه المقدّسة وتوسّع الإسلام ، وبالتالي ستؤثّر على ضعفاء الإيمان ، وتغرس في قلوبهم الشكّ والتردّد.

لهذا تقول الآية في متابعة المسألة : إنّ زيد لمّا أنهى حاجته منها وطلّقها زوجناها لك:( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

٢٦٠