الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل15%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156583 / تحميل: 5919
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب ، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة ، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها ، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.

٢ ـ أحداث غزوة بني قريظة

قلنا : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر بعد انتهاء معركة الأحزاب مباشرة أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم ، ويقال : إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحاصر حصونهم ، ودام الحصار خمسة وعشرين يوما ، وقد ألقى اللهعزوجل الرعب الشديد في قلوب اليهود ، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.

فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّدا لن يتركنا حتّى يقاتلنا ، وأنا أقترح عليكم ثلاثة امور اختاروا أحدها :

إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه ، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله ، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم ، وعند ذلك ستصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، فقالوا : لا نرجع عن حكم التوراة أبدا ، ولا نقبل بدلها شيئا.

قال : فإذا رفضتم ذلك ، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم ، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّدا وأصحابه ونرى ما يريده الله ، فإن قتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا ، وإن انتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا : أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.

قال كعب بن أسد : فإن أبيتم هذا أيضا فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّ محمّدا

٢٢١

وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة ، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا : ولا نفعل ذلك ، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبدا.

فقال كعب : ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته امّه.

بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه ، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه ، فقال الرجال : أترى لنا أن نخضع لحكم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال أبو لبابة : نعم ، وأشار إلى نحره ، أي إنّه سيقتلكم جميعا!

يقول أبو لبابة : ما إن تركتهم حتّى انتبهت لخيانتي ، فلم آت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت : لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي ، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) .(١)

وأخيرا اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا : بلى ،فقال سعد : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّدا بأنّهم يقبلون بما يحكم ، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا فقال : حكمي فيهم نافذ؟ قال : نعم ، فقال : انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين ، وسبي نسائهم وذراريهم ، وتقسيم أموالهم.

وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(٢) .

٣ ـ نتائج غزوة بني قريظة

إنّ الإنتصار على أولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين ، ومن جملتها :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٢) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٤ وما بعدها ، والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٨٥ وما بعدها بتلخيص.

٢٢٢

أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة ، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة ، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخليا.

ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية ، وخاصة فتح «خيبر».

ه ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق ، في داخل المدينة وخارجها.

٤ ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!

إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب :( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) أي أنّها قدّمت (فريقا) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقا) عن الفعل «تأسرون»!

وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك : إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى ، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى ، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا أناسا معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافة إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر ، مراعاة للانسجام بين الأمرين أكثر.

وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك ، أي أنّ الخطوة الاولى هي إيجاد الرعب ، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين ، والمفرّح لهم ، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّا.

٢٢٣

والتعبير بـ( أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.

وأخيرا فإنّ التأكيد على قدرة اللهعزوجل في آخر آية :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوما ، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوما آخر.

* * *

٢٢٤

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه ، وهي لا تختلف عن بعضها كثيرا من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة ، أو لوازم الحياة المختلفة ، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

٢٢٥

وطبقا لنقل بعض التفاسير فإنّ «أمّ سلمة» طلبت من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خادما لها ، وطلبت «ميمونة» حلّة ، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشا يمنيا خاصّا ، و «حفصة» لباسا مصريا ، و «جويرية» لباسا خاصّا ، و «سودة» بساطا خيبريا! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئا. فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تلبية طلباتهنّ ، وهو يعلم أنّ الاستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة ، واعتزلهنّ شهرا ، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة ، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الانفصال عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والذهاب إلى حيث تردن ، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر ، واقتنعتنّ بحياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله البسيطة والباعثة على الفخر ، فابقين معه ، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقّعن رفاهية العيش ، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و «مفارقته».

* * *

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (أمهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسئوليات ثقيلة ، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي امّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظننّ ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين ، ويعطى لهنّ ما ناله

٢٢٦

المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة ، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك أناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن لا يكون لوحده أسوة للناس بحكم الآيات السابقة ، بل يجب أن تكون عائلته أسوة لباقي العوائل أيضا ، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا وإمبراطورا ليكون له جناح خاصّ للنساء ، ويغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح ، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار ، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف ، حتّى أنّهنّ قلن : لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك(١) . هنا امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي ، فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«امتّعكن» من مادّة متعة ، وكما قلنا في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة ، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر ، وإن لم يكن المهر معيّنا فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها ، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادئ مفعم بالحبّ.

«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر ، و

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٢٧

«سرّحت الإبل» ، أي : أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر ، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص ، وتأتي أحيانا كناية عن الطلاق ، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله ، وفيه معنى الإطلاق أيضا. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقا مقترنا بالإحسان ، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق ، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقا بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين ، فإن أردن الفراق أجرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صيغة الطلاق ، وإلّا يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين ، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي ، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لا يجري في سائر الناس ، لا يبدو صحيحا ، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة ، إلّا أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات ، إضافة إلى أنّ لتعبير (أسرحكنّ) ظهورا في أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقدّم على تسريحهنّ ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية ٢٢٩)(١) .

وتضيف الآية التالية :( وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) .

__________________

(١) طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية ، وخاصة كتاب الجواهر ، المجلّد ٢٩ ، صفحة ١٢٢ وما بعدها.

٢٢٨

لقد جمعت هذه الآية كلّ أسس الإيمان وسلوكيات المؤمن ، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر ، ومن جهة اخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات ، وبناء على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه ، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة وأسوة للمؤمنات على الدوام ، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها ، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح ، فإنّهن يبقين أزواجا للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر ، وإلّا فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلّا أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع ، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم وأسوة لهم ، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائما ، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة ، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة ، وكذلك مقامهنّ الممتاز ، ومسئولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة ، فتقول :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة ، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لارتباطكنّ المستمر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولقائه ، إضافة إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجا وقدوة لهم. بناء على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله ، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة ، ومعيار العلم ، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة ، فإنّ لكنّ حظّا أعظم من العلم ، ولكنّ موقع

٢٢٩

حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، ومن جهة اخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه ، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنبا آخر ، ويستوجب عذابا آخر.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية ، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها أناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.

أمّا قولهعزوجل :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى ، وأنّ علاقتكنّ بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستكون مانعة منه ، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء ، أو يعيرونها أهميّة قليلة كلّا ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

«يقنت» من القنوت ، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(١) ، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله ، ويراعين الأدب مع ذلك تماما.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اخرى ، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تلمس آثاره بمقتضى( وَتَعْمَلْ صالِحاً ) .

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية ، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعا لكلّ هذه المواهب.

* * *

__________________

(١) المفردات للراغب ، مادّة قنوت.

٢٣٠

بحث

لما ذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا : إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف ، وإن ارتكبن ذنبا مبيّنا فلهنّ عذاب الضعف بما اكتسبن ، إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان امتلاك المقام والمكانة المرموقة ، والشخصية الاجتماعية البارزة ، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز اجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة ، بل إنّ لوجودهم بعدين : بعد يتعلّق بهم ، وبعد يرتبط بالمجتمع ، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سببا لهداية جماعة من الناس ، أو ضلال اخرى.

بناء على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين : أحدهما فردي ، والآخر اجتماعي ، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(١) !

ومضافا إلى ذلك ، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب ، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة ، حيث نقرأ : «إنّ الثواب على قدر العقل»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(٣) .

بل ورد في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إذا بلغت النفس هاهنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة ، ثمّ قرأ :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الأول ، ص ٣٧ باب لزوم الحجة على العالم.

(٢) اصول الكافي ، الجزء الأول ، صفحة ٩ كتاب العقل والجهل.

(٣) المصدر السابق.

٢٣١

بِجَهالَةٍ ) (١) .

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة ، فقد تكون ضعفين حينا ، وتكون أضعافا مضاعفة حينا آخر ، تماما كما في الأعداد التي لها صفة التكثير ، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف : ضاعفته : ضممت إليه مثله فصاعدا ـ تأمّلوا بدقّة ـ

والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفا شاهد آخر على هذا الادّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص واختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة اختلاف مكاناتهم الاجتماعية ، وكونهم أسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، وذلك أنّ رجلا قال له : إنّكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب الإمام وقال : «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن نكون كما تقول ، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ، ثمّ قرأ الآيتين»(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣٨ باب لزوم الحجّة على العالم ، والآية (١٧) من سورة النساء.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٥٤ ذيل الآية مورد البحث.

٢٣٢

الآيات

( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) )

التّفسير

هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسئولياتهنّ الخطيرة ، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات ، وتأمر الآيات نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أوامر مهمّة.

فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة :( يا ـ نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ

٢٣٣

اتَّقَيْتُنَ ) فإنّ انتسابكنّ إلى النّبي من جانب ، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر ، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن على أن تكن نموذجا وقدوة لكلّ النساء ، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية ، وبناء على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ ، ولا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.

وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها ، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة ، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخرى في هذا المجال تلقائيا ، فيقول :

( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وبأسلوب عاديّ ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة ، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة ، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وارتكاب المعاصي.

إنّ التعبير بـ( الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) تعبير بليغ جدّا ، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال والمشروعية فهي عين السلامة ، أمّا عند ما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلى حدّ الجنون ، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي ، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعا وأقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة ، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.

ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقولعزوجل : يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله ، ومقترنا مع الحقّ والعدل :( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

إنّ جملة( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) إشارة إلى طريقة التحدّث ، وجملة :( وَقُلْنَ قَوْلاً

٢٣٤

مَعْرُوفاً ) إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل ، إضافة إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه ، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.

ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولى لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا وبعيدا عن الأدب الإسلامي ، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ ، وفي الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.

ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة ، فيقول :( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) .

«قرن» من مادّة الوقار ، أي الثقل ، وهو كناية عن التزام البيوت. واحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار) ، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيرا(١) .

و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس ، وهو مأخوذ من مادّة (برج) ، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ ، تماما كما نقول لعالم : أنت عالم فلا تكذب ، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح

__________________

(١) طبعا يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار ، وحذفت الراء الاولى للتخفيف ، وانتقلت فتحة الراء إلى القاف ، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة ، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّدا ـ

٢٣٥

للآخرين ، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخرى ستأتي كالجاهلية الاولى التي ذكرها القرآن ، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي ، إلّا أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر ، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة ، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح» ، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن ، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!

ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا ، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولى هي الجاهلية قبل الإسلام ، والتي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران ، والآية (٥٠) من سورة المائدة ، والآية (٢٦) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد ، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس ، فيقول سبحانه :( وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات ، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال والارتباط بالخالقعزوجل ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله ، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة :( أَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي ، بل هي للجميع ، وإن أكّدت عليهنّ.

ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادة ـ دليل على أنّ هذه المنقبة

٢٣٦

خاصّة بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية ، وإلّا فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.

من الممكن أن يقال : إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا ، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين ، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم ، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه ، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.

وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة ، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها ، تماما كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه ، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل ، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع ، والمبادئ الفطرية والطبيعية ، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر ، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان ، أو بحكم العقل أو الشرع ، أو جميعها(١) . وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد ، أو الإعتقاد بالباطل ، وأمثال ذلك ، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه ، وإلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا ، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.

و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس ، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس

__________________

(١) ذكر الراغب في مفرداته ، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه ، وأربعة أنواع كمصاديق له.

٢٣٧

ونفي السيّئات ، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر على هذا المعنى.

وأمّا تعبير( أَهْلَ الْبَيْتِ ) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين ، وهو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية ، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة ، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(١) .

إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي ، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.

غير أنّ الانتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء ، وهي : أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة ، جاءت بصيغة ضمير النسوة ، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر ، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد ، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع واعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجالا ونساء.

ومن جهة اخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقول : إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط ، وهم : محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية ، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط ، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو : كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟

__________________

(١) ما ذكره البعض من أنّ «البيت» هنا إشارة الى بيت الله الحرام ، وأهله هم «المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، لا عن بيت الله الحرام ، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.

٢٣٨

وقد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة ، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث ، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.

وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه : لا دليل لدينا على أنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) قد نزلت مع هذه الآيات ، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة ، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده.

والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو : أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي : إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون ، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين ، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة ، وينتظر منه الله وعباده انتظارات كثيرة.

وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي ، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها ، فتقول :( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) .

فإنكنّ في مهبط الوحي ، وفي مركز نور القرآن ، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتحدّث به ، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس ، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!

وفيما هو الفرق بين «آيات الله» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين : إنّ كليهما

٢٣٩

إشارة إلى القرآن ، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن ، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وقال البعض الآخر : إنّ «آيات الله» إشارة إلى آيات القرآن ، و «الحكمة» إشارة إلى سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مواعظه وإرشاداته الحكيمة.

ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر ، إضافة إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة ، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة :( وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ ) ويشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها ، ويعلم نيّاتكم تماما ، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع على الدقائق والخفيات ، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف ، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يا نساء النّبي ، وهو خبير بأعمالكنّ أيضا.

ويحتمل أيضا أن يكون التأكيد على «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن ، وعلى «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.

* * *

بحوث

١ ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة :

اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط ، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد ، بل إنّ إطلاق

٢٤٠

الرجس ـ وخاصّة بملاحظة ألفه ولامه ، وهي ألف لام الجنس ـ يشمل كلّ أنواع الذنوب والمعاصي ، لأنّ كلّ المعاصي رجس ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة أطلقت في القرآن على الشرك والخمور والقمار والنفاق واللحوم المحرّمة والنجسة وأمثال ذلك.

انظر الآيات : الحجّ ـ ٣٠ ، المائدة ـ ٩٠ ، التوبة ـ ١٢٥ ، الأنعام ـ ١٤٥.

وبملاحظة أنّ الإرادة الإلهيّة حتمية التنفيذ والوقوع ، وأنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) دليل على إرادته الحتمية ، وخاصّة بوجود كلمة (إنّما) الدالّة على الحصر والتأكيد ، سيتّضح أنّ إرادة الله سبحانه قد قطعت بأن يكون أهل البيت منزّهين عن كلّ رجس وخطأ ، وهذا هو مقام العصمة.

وثمّة مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّه ليس المراد من الإرادة الإلهيّة في هذه الآية الأوامر والأحكام الإلهيّة في مسائل الحلال والحرام ، لأنّ هذه الأحكام تشمل الجميع ، ولا تختّص بأهل البيت ، وبناء على هذا فإنّها لا تتناسب مع مفهوم (إنّما).

إذن ، فهذه الإرادة المستمرّة نوع من الإمداد الإلهي الذي يعيّن أهل أهل البيت على العصمة والاستمرار فيها ، وهي في الوقت نفسه لا تنافي حرية الإرادة والإختيار ، كما فصّلنا ذلك سابقا.

إنّ مفهوم هذه الآية في الحقيقة هو عين ما جاء في الزيارة الجامعة : «عصمكم الله من الزلل ، وآمنكم من الفتن ، وطهّركم من الدنس وأذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيرا».

وينبغي أن لا نشكّ بعد هذا الإيضاح في دلالة الآية المذكورة على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام .

٢ ـ فيمن نزلت آية التطهير؟

قلنا : إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت ضمن الآيات المتعلّقة بنساء النّبي ، إلّا

٢٤١

أنّ تغيير سياقها ـ حيث تبدّل ضمير الجمع المؤنث إلى ضمير الجمع المذكّر ـ دليل على أنّ لهذه الآية معنى ومحتوى مستقلا عن تلك الآيات ، ولهذا فحتّى أولئك الذين لم يعتبروا الآية مختّصة بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فإنّهم اعتقدوا أنّ لها معنى واسعا يشمل هؤلاء العظام ونساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلّا أنّ الرّوايات الكثيرة التي بين أيدينا تبيّن أنّ هذه الآية خاصّة بهؤلاء الأجلّاء ، ولا تدخل الزوجات ضمن الآية ، بالرغم من أنهنّ يتمتّعن باحترام خاصّ ، ونضع بين أيديكم بعضا من هذه الروايات :

أ: الرّوايات التي رويت عن أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنفسهنّ ، والتي حدثن فيها : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما كل يتحدّث عن هذه الآية الشريفة سألناه : أنحن من أصحاب هذه الآية؟ فكان يجيب : بأنكنّ إلى خير ، ولكن لستنّ من أصحابها.

ومن جملتها الرواية التي رواها «الثعلبي» عن «امّ سلمة» في تفسيره ، وذلك أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بيتها إذ أتته فاطمةعليها‌السلام بقطعة حرير ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ادعي لي زوجك وابنيك ـ الحسن والحسين ـ» فأتت به فطعموا ، ثمّ ألقى عليهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كساء له خيبريا وقال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» فنزلت آية التطهير ، فقلت : يا رسول الله وأنا معهم؟ قال : «إنّك إلى خير» ولكنّك لست منهم(١) .

ويروي «الثعلبي» أيضا عن «عائشة» أنّها عند ما سئلت عن حرب الجمل وتدخّلها في تلك الحرب المدمّرة الطاحنة ، قالت بأسف : كان ذلك قضاء الله.

وعند ما سئلت عن عليعليه‌السلام قالت : تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ لقد رأيت عليا وفاطمة وحسنا وحسيناعليهم‌السلام ، وجمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بثوب عليهم ثمّ قال : «اللهمّ هؤلاء أهل

__________________

(١) روى الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ، هذا الحديث بهذا المضمون بطرق متعدّدة عن أمّ سلمة. راجع شواهد التنزيل ، للحاكم الحسكاني ، المجلّد ٢ ، صفحة ٥٦ وما بعدها.

٢٤٢

بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» قالت : فقلت : يا رسول الله ، أنا من أهلك! قال : «تنحّي فإنّك إلى خير»(١) ـ إلّا أنّك لست جزءا منهم ـ.

إنّ هذه الرّوايات تصرّح أنّ زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لسن جزءا من أهل البيت في هذه الآية.

ب : لقد وردت روايات كثيرة جدّا بصورة مجملة في شأن حديث الكساء ، يستفاد منها جميعا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا عليا وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ـ أو أنّهم أتوا إليه ـ فألقى عليهم عباءة وقال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» ، فنزلت الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) .

وقد روى العالم المعروف «الحاكم الحسكاني النيسابوري» هذه الروايات في (شواهد التنزيل) بطرق مختلفة عن رواة مختلفين(٢) .

وهنا سؤال يلفت النظر ، وهو : ماذا كان الهدف من جمعهم تحت الكساء؟ كأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يريد أن يحدّد هؤلاء ويعرّفهم تماما ، ويقول : إنّ الآية أعلاه في حقّ هؤلاء خاصّة ، لئلّا يرى أحد أو يظنّ ظانّ أنّ المخاطب في هذه الآية كلّ من تربطه بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرابة ، وكلّ من يعدّ جزءا من أهله ، حتّى جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد كرّر هذه الجملة ثلاث مرّات : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا»(٣) .

ج : نقرأ في روايات عديدة اخرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقي ستّة أشهر بعد نزول هذه الآية ينادي عند مروره من جنب بيت فاطمة سلام الله عليها وهو ذاهب إلى صلاة الصبح : «الصلاة يا أهل البيت! إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا». وقد روى الحاكم الحسكاني هذا الحديث عن أنس بن

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

(٢) شواهد التنزيل ، المجلّد ٢ ، صفحة ٣١ وما بعدها.

(٣) الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث.

٢٤٣

مالك(١) .

وروى ابن عبّاس أيضا هذا الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وهنا مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ تكرار هذه الأمر ستّة أشهر أو ثمانية أو تسعة أشهر بصورة مستمرّة جنب بيت فاطمة إنّما هو لبيان هذه المسألة تماما لئلّا يبقى مجال للشكّ لدى أيّ شخص بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء النفر فقط ، خاصّة وأنّ الدار الوحيدة التي بقي بابها مفتوحا إلى داخل المسجد بعد أن أمر الله نبيّه بأن تغلق جميع أبواب بيوت الآخرين ، هي دار فاطمةعليها‌السلام ، ولا شكّ أنّ جماعة من الناس كانوا يسمعون ذلك القول من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين الصلاة هناك ـ تأمّلوا ذلك ـ.

ومع ذلك ، فإنّ ممّا يثير العجب أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ للآية معنى عامّا تدخل فيه أزواج النّبي ، بالرغم من أنّ أكثر علماء الإسلام ، السنّة منهم والشيعة ، قد حدّدوها بهؤلاء الخمسة.

وممّا يستحقّ الالتفات أنّ عائشة ـ زوجة النّبي لم تكن تدع شيئا في ذكر فضائلها ، ودقائق علاقتها بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة الروايات الإسلامية ، فإذا كانت هذه الآية تشملها فلا بدّ أنّها كانت ستتحدّث بها في المناسبات المختلفة ، في حين لم يرو شيء من ذلك عنها مطلقا.

د : رويت روايات عديدة عن الصحابي المعروف «أبي سعيد الخدري» تشهد بصراحة بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء الخمسة الأطهار : «نزلت في خمسة : في رسول الله ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين»(٣) . وهذه الرّوايات كثيرة بحيث عدّها بعض المحقّقين متواترة.

__________________

(١) شواهد التنزيل ، المجلّد ٢ ، صفحة ١١.

(٢) الدرّ المنثور ، ذيل الآية مورد البحث.

(٣) شواهد التنزيل ، الجزء ٢ ، صفحة ٢٥.

٢٤٤

وممّا قلناه نستنتج أنّ المصادر ورواة الأحاديث التي تدلّ على اختصاص الآية بالخمسة المطهّرة وحصرها بهم كثيرة بحيث لا تدع لأحد المجال للشكّ في هذه الدلالة ، حتّى أنّه ذكر في شرح (إحقاق الحقّ) أكثر من سبعين مصدرا من مصادر العامّة المعروفة ، وأمّا مصادر الشيعة في هذا الباب فتربو على الألف(١) . وقد روى صاحب كتاب (شواهد التنزيل) ـ وهو من علماء الإخوة السنّة المشهورين ـ أكثر من (١٣٠) حديثا في هذا الموضوع(٢) .

وبغضّ النظر عن كلّ ذلك ، فإنّ بعض أزواج النّبي قد قمن بأعمال طوال حياتهنّ تخالف مقام العصمة ، ولا تناسب كونهنّ معصومات ، كحادثة «حرب الجمل» التي كانت ثورة وخروجا على إمام الزمان ، والتي تسبّبت في إراقة دماء كثيرة ، فقد بلغ عدد القتلى في هذه الحرب ـ عند بعض المؤرخّين ـ سبعة عشر ألف قتيل.

ولا شكّ أنّ هذه المعركة لا يمكن توجيهها ، بل إنّنا نرى أنّ عائشة نفسها قد أظهرت الندم بعدها ، وقد مرّ نموذج من هذا الندم في البحوث السابقة.

إنّ انتقاص عائشة من خديجة ـ والتي هي من أعظم نساء المسلمين ، وأكثر هنّ تضحية وإيثارا ، وأجلّهنّ فضيلة وقدرا ـ مشهور في تاريخ الإسلام ، وقد آلم هذا الكلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى ظهرت على وجهه الشريف آثار الغضب وقال : «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس»(٣) .

٣ ـ هل أن الإرادة الإلهية هنا تكوينية أم تشريعية؟

مرّت الإشارة في طيّات تفسير هذه الآية إلى هذا الموضوع ، وقلنا : إنّ الإرادة

__________________

(١) يراجع الجزء الثّاني ، من إحقاق الحقّ وهوامشه.

(٢) يراجع المجلّد الثّاني ، من شواهد التنزيل ، صفحة ١٠ ـ ٩٢.

(٣) الإستيعاب ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم. طبقا لنقل المراجعات صفحة ٢٢٩ الرسالة ٧٢.

٢٤٥

في جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) إرادة تكوينية لا تشريعية.

ولمزيد التوضيح ينبغي أن نذكّر بأنّ المراد من «الإرادة التشريعية» هي أوامر الله ونواهيه ، فنعلم مثلا أنّ الله سبحانه يريد منّا أداء الصلاة والصوم والحجّ والجهاد ، وهذه إرادة تشريعية. ومن المعلوم أنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال اللهعزوجل . في حين أنّ الآية أعلاه تتعلّق بأفعال الله سبحانه ، فهي تقول : إنّ الله أراد أن يذهب عنكم الرجس ، وبناء على هذا فإنّ مثل هذه الإرادة يجب أن تكون تكوينية ، ومرتبطة بإرادة الله سبحانه في عالم التكوين.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ مسألة الإرادة التشريعية فيما يتعلّق بالتقوى والعفّة لا تنحصر بأهل البيتعليهم‌السلام ، لأنّ الله قد أمر الجميع بالتقوى والتطهّر من الذنوب ، وبذلك لا تكون لهم مزيّة وخاصيّة ، لأنّ كلّ المكلّفين مشمولون بهذا الأمر.

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذا الموضوع ـ أي الإرادة التشريعيّة ـ مضافا إلى أنّه لا يناسب ظاهر الآية ، فانّه لا يتناسب مع الأحاديث السابقة بأيّ وجه من الوجوه ، لأنّ كلّ تلك الأحاديث تتحدّث عن فضيلة سامية وهبة مهمّة خاصّة بأهل البيتعليهم‌السلام .

ومن المسلّم أيضا أنّ «الرجس» هنا لا يعني الرجس الظاهري ، بل هو إشارة إلى الأرجاس الباطنية ، وإطلاق هذه الكلمة ينفي انحصارها وكونها محدودة بالشرك والكفر والأعمال المنافية للعفّة وأمثال ذلك ، فإنّها تشمل كلّ الذنوب والمعاصي والمفاسد العقائدية والأخلاقية والعملية.

والمسألة الاخرى التي ينبغي الالتفات إليها بدقّة هي أنّ الإرادة التكوينية التي تعني الخلقة والإيجاد ، تعني هنا «المقتضي» لا العلّة التامّة لتكون موجبة للجبر وسلب الإختيار.

وتوضيح ذلك ، إنّ مقام العصمة يعني حالة تقوى الله التي توجد عند الأنبياء والأئمّة بمعونة الله سبحانه ، لكن وجود هذه الحالة لا يعني أنّهم غير قادرين على

٢٤٦

ارتكاب المعصية ، بل إنّهم قادرون على إتيانها ، غير أنّهم يعفّون أنفسهم ويجلّونها عن التلوّث بها باختيارهم ، ويغضّون الطرف عنها طوعا ، تماما كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقا مادّة سمّية جدّا وهو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها ، ومع أنّه قادر على تناولها ، إلّا أنّ علومه واطلاعه ومبادئه الفكرية والروحية تدفعه إلى الامتناع إراديا واختيارا عن هذا العمل.

ويجب التذكير بهذه المسألة ، وهي أنّ هذه التقوى موهبة خاصّة منحت للأنبياء لا للآخرين ، لكن الله سبحانه قد منحهم إيّاها للمسؤوليات الثقيلة الخطيرة الملقاة على عاتقهم في قيادة الناس وإرشادهم ، وبناء على هذا فإنّه امتياز يعود نفعه على الجميع ، وهذه عين العدالة ، تماما كالامتياز الخاصّ الذي منحه الله لطبقات العين وأغشيتها الرقيقة والحسّاسة جدّا ، والتي يستفيد منها جميع البدن.

إضافة إلى أنّ الأنبياء تعظم مسئولياتهم وواجباتهم بنفس المقدار الذي يتمتّعون بهذا المواهب الإلهية والامتيازات ، فإنّ ترك الاولى من قبلهم يعادل ذنبا كبيرا يصدر من الناس العاديين ، وهذا معيار وتشخيص لخطّ العدالة.

والنتيجة أنّ هذه الإرادة إرادة تكوينية في حدود المقتضى ـ وليست علّة تامّة ـ وهي في الوقت نفسه لا توجب الجبر ولا تسلب الإختيار والإرادة الإنسانية.

٤ ـ جاهلية القرن العشرين!

مرّت الإشارة إلى أنّ جمعا من المفسّرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاولى) وكأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اخرى في العالم بعد ظهور الإسلام ، وأنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة ، إلّا أنّ هذا الأمر قد تجلّى للجميع اليوم ، حيث نرى مظاهر جاهلية القرن العشرين المرعبة ، ويجب أن تعدّ تلك إحدى تنبؤات القرآن الإعجازية.

إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون ويحاربون ، وإذا كان سوق عكاظ ـ

٢٤٧

مثلا ـ ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات ، وقتل على أثرها أفراد معدودون ، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان ، وجرح وتعوّق أكثر من هذا العدد!

وإذا كانت النساء «تتبرّج» في زمن الجاهلية ويلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهنّ ونحورهنّ ، وقلائدهنّ وأقراطهنّ ، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّى بنوادي العراة ـ ونموذجها مشهور في بريطانيا ـ حيث يتعرّى أفرادها كما ولدتهم امّهاتهم ، وفضائح البلاجات على سواحل البحار والمسابح ، بل وحتّى في الأماكن العامّة وعلى قارعة الطريق يخجل القلم من ذكرها.

وإذا كانت في الجاهلية «زانيات من ذوات الأعلام» ، حيث كنّ يرفعن أعلاما فوق بيوتهنّ ليدعين الناس إلى أنفسهنّ ، في جاهلية قرننا أناس يطرحون أمورا ومطالب في هذا المجال عبر صحف خاصّة ، يندى لها الجبين ، ولجاهلية العرب مائة مرتبة من الشرف على هذه الجاهلية.

والخلاصة : ماذا نقول عن وضع المفاسد التي توجد في عصرنا الحاضر عصر التمدّن المادّي الآلي الخالي من الإيمان ، فعدم الحديث عنها أولى ، ولا ينبغي أن نلوّث هذا التّفسير بذكرها.

إنّ ما قلناه كان جانبا من العبء الملقى على عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن الله تعالى ، فإنّهم وإن امتلكوا آلاف الجامعات والمراكز العلمية والعلماء المعروفين ، فهم غارقون في وحل الفساد ومستنقع الرذيلة ، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية وعلماءها في خدمة هذه الفجائع والمفاسد أحيانا.

* * *

٢٤٨

الآية

( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) )

سبب النّزول

أورد جمع من المفسّرين في سبب نزول هذه الآية انّه عند ما رجعت «أسماء بنت عميس» زوجة «جعفر بن أبي طالب» من الحبشة مع زوجها ، جاءت إلى زوجات النّبي ، فسألتهن : هل نزل فينا شيء من القرآن؟ فقلن : لا ، فأتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت :

«يا رسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار. فقال : وممّ ذلك؟ قالت : لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال. فأنزل الله تعالى هذه الآية (التي طمأنت النساء بأنّ

٢٤٩

لهنّ درجة عند الله مساوية للرجال ، وأكّدت على أنّ المعيار هو العقيدة والعمل والأخلاق الإسلامية).

التّفسير

شخصية المرأة ومكانتها في الإسلام :

بعد البحوث التي ذكرت في الآيات السابقة حول واجبات أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ورد في هذه الآية كلام جامع عميق المحتوى في شأن كلّ النساء والرجال وصفاتهم ، وبعد أن ذكرت عشر صفات من صفاتهم العقائدية والأخلاقية والعملية ، بيّنت الثواب العظيم المعدّ لهم في نهايتها.

إنّ بعض هذه الصفات العشر تتحدّث عن مراحل الإيمان (الإقرار باللسان ، والتصديق بالقلب والجنان ، والعمل بالأركان).

والقسم الآخر يبحث في التحكّم باللسان والبطن والشهوة الجنسية ، والتي تشكّل ثلاثة عوامل مصيرية في حياة البشر وأخلاقهم.

وتحدّثت في جانب آخر عن مسألة الدفاع عن المحرومين ، والاستقامة أمام الحوادث الصعبة ، أي الصبر الذي هو أساس الإيمان.

وأخيرا تتحدّث عن عامل استمرار هذه الصفات ، أي «ذكر الله تعالى».

تقول الآية :( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ) . أي المطيعين لأوامر الله والمطيعات.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد اعتبر الإسلام والإيمان في الآية بمعنى واحد ، إلّا أنّ من الواضح أنّ هذا التكرار يوحي بأنّ المراد منهما شيئان مختلفان ، وهو إشارة إلى المطلب الذي ورد في الآية (١٤) من سورة الحجرات :( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) !

وهو إشارة إلى أنّ «الإسلام» هو الإقرار باللسان الذي يجعل الإنسان في صفّ

٢٥٠

المسلمين ، ويصبح مشمولا بأحكامهم ، إلّا أنّ «الإيمان» هو التصديق بالقلب والجنان.

وقد أشارت الرّوايات الإسلامية إلى هذا التفاوت في المعنى ، ففي رواية أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام سأله عن الإسلام والإيمان ، وهل أنّهما مختلفان؟ فقال الإمامعليه‌السلام : «إنّ الإيمان يشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان» ، فاستوضح الرجل الإمام أكثر فقالعليه‌السلام : «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب ، وما ظهر من العمل به»(١) .

«قانت» من مادّة (القنوت) ، وهي ـ كما قلنا سابقا ـ الطاعة المقترنة بالخضوع ، الطاعة التي تنبع من الإيمان والإعتقاد ، وهذه إشارة إلى الجوانب العملية للإيمان وآثاره.

ثمّ تطرقت إلى أحد أهمّ صفات المؤمنين الحقيقيين ، أي حفظ اللسان ، فتقول :( وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ) .

ويستفاد من الرّوايات أنّ استقامة إيمان الإنسان وصدقه باستقامة لسانه وصدقه : «لا يستقيم إيمان امرئ حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(٢) .

ولمّا كان الصبر والتحمّل والصلابة أمام المشاكل والعقبات هو أساس الإيمان ، ودوره ومنزلته في معنويات الإنسان بمنزلة الرأس من الجسد ، فقد وصفتهم الآية بصفتهم الخامسة ، فقالت :( وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ) .

ونعلم أنّ أحد أسوأ الآفات الأخلاقية هو الكبر والغرور وحبّ الجاه ، والنقطة التي تقع في مقابله هي «الخشوع» ، لذلك كانت الصفة السادسة :( وَالْخاشِعِينَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، صفحة ٢١ باب أن الإيمان يشرك الإسلام.

(٢) المحجة البيضاء ، المجلد ٥ ، ص ١٩٣.

٢٥١

وَالْخاشِعاتِ ) .

وإذا تجاوزنا حبّ الجاه ، فإنّ حبّ المال أيضا آفة كبرى ، وعبادته والتعلّق به ذلّة خطيرة مرّة ، ويقابله الإنفاق ومساعدة المحتاجين ، لذلك كانت صفتهم السابعة :( وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ) .

قلنا : إنّ ثلاثة أشياء إذا تخلّص الإنسان من شرّها ، فإنّه سيبقى في مأمن من كثير من الآفات والشرور الأخلاقية ، وهي : اللسان والبطن والشهوة الجنسية ، وقد أشير إلى الأوّل في الصفة الرّابعة ، أمّا الشيء الثّاني والثالث فقد أشارت إليهما الآية في الصفتين الثامنة والتاسعة ، فقالت :( وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ) .

وأخيرا تطرّقت الآية إلى الصفة العاشرة التي يرتبط بها الاستمرار في كلّ الصفات السابقة والمحافظة عليها ، فقالت :( وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ) .

أجل إنّ هؤلاء يجب أن يكونوا مع الله ويذكروه في كلّ حال ، وفي كلّ الظروف ، وأن يزيحوا عن قلوبهم حجب الغفلة والجهل ، ويبعدون عن أنفسهم همزات الشياطين ووساوسهم ، وإذا ما بدرت منهم عثرة فإنّهم يهبون لجبرانها في الحال لئلّا يحيدوا عن الصراط المستقيم.

وقد ذكرت تفاسير مختلفة لـ «الذكر الكثير» في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، وكلّها من قبيل ذكر المصداق ظاهرا ، ويشملها جميعا معنى الكلمة الواسع. ومن جملتها ما نقرؤه

في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضّئا وصلّيا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»(١) .

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من بات على تسبيح فاطمةعليها‌السلام كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»(٢) .

__________________

(١) تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٢٥٢

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الذكر الكثير» هو الذكر حال القيام والقعود ، وذكر الله عند ما يأوي المرء إلى فراشه.

وعلى أي تقدير ، فإنّ الذكر علامة الفكر ، والفكر مقدّمة للعمل ، فليس الهدف هو الذكر الخالي من الفكر والعمل مطلقا.

ثمّ تبيّن الآية في النهاية الأجر الجزيل لهذه الفئة من الرجال والنساء الذين يتمتّعون بهذه الخصائص العشرة بأنّهم قد( أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) فإنّه تعالى قد غسل ذنوبهم التي كانت سببا في تلوّث أرواحهم ، بماء المغفرة ، ثمّ كتب لهم الثواب العظيم الذي لا يعرف مقداره إلّا هو.

والواقع إنّ أحد هذين الأمرين يطرد كلّ المنغّصات ، والآخر يجلب كلّ الخيرات.

إنّ التعبير بـ «أجرا» دليل بنفسه على عظمته ، ووصفه بـ «العظيم» تأكيد على هذه العظمة ، وكون هذه العظمة مطلقة دليل آخر على سعة أطرافها وتراميها ، ومن البديهي ، أنّ الشيء الذي يعده الله عظيما يكون خارقا في عظمته.

وثمّة مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ جملة( أَعَدَّ ) قد وردت بصيغة الماضي ، وهو بيان لحتمية هذا الأجر والجزاء وعدم إمكان خلفه وعدم الوفاء به ، أو أنّه إشارة إلى أنّ الجنّة ونعمها معدّة منذ الآن للمؤمنين.

* * *

بحث

مساواة الرجل والمرأة عند الله :

يتصوّر البعض أحيانا أنّ الإسلام قد رجّح كفّة شخصية الرجال ، ولا مكانة مهمّة للنساء في برامج الإسلام ، وربّما كان منشأ هذا الاشتباه هو بعض الاختلافات الحقوقية ، والتي لكلّ منها فلسفة خاصّة.

٢٥٣

ومع غضّ النظر عن مثل هذه الاختلافات التي لها علاقة بالمكانات والمراكز الاجتماعية وظروفها الطبيعية ـ فلا شكّ في عدم وجود أي فرق بين الرجل والمرأة في تعليمات الإسلام من الناحية الإنسانية والمقامات المعنوية ، والآية المذكورة دليل واضح على هذه الحقيقة ، لأنّها وضعت المرأة والرجل في مرتبة واحدة ككفّتي ميزان لدى تبيانها خصائص المؤمنين ، وأهمّ المسائل العقائدية والأخلاقية والعملية ، ووعدت الإثنين بمكافاة متكافئة وثواب متساو بدون أي تفاوت واختلاف.

وبتعبير آخر : لا يمكن إنكار التفاوت الجسمي بين الرجل والمرأة ، كما لا يمكن إنكار التفاوت النفسي بينهما أيضا ، ومن البديهي أنّ هذا التفاوت ضروري لإدامة نظام المجتمع الإنساني ، كما أنّه يفرز آثارا ونتائج في بعض القوانين الحقوقية للمرأة والرجل ، إلّا أنّ الإسلام لم يطرح شخصية المرأة الإنسانية للمناقشة ـ كما فعل ذلك بعض القساوسة المسيحيين في القرون الماضية ـ بأنّ المرأة هل هي إنسان في الواقع؟ وهل لها روح إنسانية أم لا؟!

ولم يكتف بذلك فحسب ، بل أكّد على عدم الفرق بين الجنسين من ناحية الروح الإنسانية ، ولذلك نقرأ في الآية (٩٧) من سورة النحل( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

لقد أقرّ الإسلام للمرأة نفس الاستقلال الاقتصادي الذي أقرّه للرجل ، على عكس كثير من قوانين العالم السابقة ، بل وحتّى قوانين عالم اليوم التي لم تبح للمرأة الاستقلال الاقتصادي مطلقا.

من هنا ، فإنّنا نلاحظ في علم الرجال الإسلامي جانبا خاصّا يتعلّق بالنساء العالمات اللواتي كنّ في مصافّ الرواة والفقهاء ، وقد ذكرن كشخصيات مؤثّرة وفاعلة في التاريخ الإسلامي.

٢٥٤

وإذا رجعنا إلى تاريخ العرب قبل الإسلام ، وحقّقنا في وضع النساء في ذلك المجتمع ، ورأينا كيف أنهنّ كنّ محرومات من أبسط حقوق الإنسان ، بل لم يكن المشركون يعتقدون بأنّ لهنّ حقّ الحياة أحيانا ، ولذلك كانوا يئدونهنّ وهنّ أحياء بعد ولادتهنّ!!

وكذلك إذا نظرنا إلى وضع المرأة في عالمنا المعاصر حيث أصبحت العوبة لا إختيار لها ولا إرادة في أيدي مجموعة من المتلبّسين بلباس الإنسانية ويدعون التمدّن ، فسوف ندرك جيدا بأنّ الإسلام قد خدم المرأة أيّما خدمة ، وله حقّ عظيم عليهنّ(١) ؟!

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث آخر في هذا المجال في ذيل الآية (٢٢٨) من سورة البقرة ، وكذلك ورد بحث آخر في ذيل الآية (٩٧) من سورة النحل.

٢٥٥

الآيات

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) )

سبب النّزول

نزلت هذه الآيات ـ على قول أغلب المفسّرين ـ في قضيّة زواج «زينب بنت جحش» ـ بنت عمّة الرّسول الأكرم ـ بزيد بن حارثة مولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المعتق ، وكانت القصّة كما يلي :

٢٥٦

كانت خديجة قد اشترت قبل البعثة وبعد زواجها بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عبدا اسمه زيد ، ثمّ وهبته للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعتقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا طردته عشيرته وتبرّأت منه تبنّاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبعد ظهور الإسلام أصبح زيد مسلما مخلصا متفانيا ، وأصبح له موقع ممتاز في الإسلام ، وكما نعلم فإنّه أصبح في النهاية أحد قوّاد جيش الإسلام في معركة مؤتة واستشهد فيها.

وعند ما صمّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أن ينتخب زوجة لزيد ، خطب له «زينب بنت جحش» ـ والتي كانت بنت «أميّة بنت عبد المطلّب» ، أي بنت عمّته ـ فكانت زينب تظنّ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يريد أن يخطبها لنفسه ، فسرّت ورضيت ، ولكنّها لمّا علمت فيما بعد أن خطبته كانت لزيد تأثّرت تأثّرا شديدا وامتنعت ، وكذلك خالف أخوها عبد الله هذه الخطبة أشدّ مخالفة.

هنا نزلت الآية الاولى من الآيات مورد البحث وحذّرت زينب وعبد الله وأمثالهما بأنّهم لا يقدرون على مخالفة أمر يراه الله ورسوله ضروريا ، فلمّا سمعا ذلك سلّما لأمر الله.

إنّ هذا الزواج لم يكن زواجا بسيطا ـ كما سنرى ذلك ـ بل كان مقدّمة لتحطيم سنّة جاهلية مغلوطة ، حيث لم تكن أيّة امرأة لها مكانتها وشخصيتها في المجتمع مستعدّة للاقتران بعبد في زمن الجاهلية ، حتّى وإن كان متمتّعا بقيم إنسانية عالية.

غير أنّ هذا الزواج لم يدم طويلا ، بل انتهى إلى الطلاق نتيجة عدم الانسجام واختلاف أخلاق الزوجين ، بالرغم من أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مصرّا على أن لا يتمّ هذا الطلاق.

بعد ذلك اتّخذ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله «زينب» زوجة له لتعوّض بذلك فشلها في زواجها ، فانتهت المسألة هنا ، إلّا أنّ همهمات وأقاويل قد ظهرت بين الناس ، وقد اقتلعها القرآن وعالجها في هذه الآيات التي نبحثها ، وسيأتي تفصيل ذلك ، إن

٢٥٧

شاء الله تعالى(١) .

التّفسير

تمرّد عظيم على العرف :

نعلم أنّ روح الإسلام التسليم ، ويجب أن يكون تسليما لأمر الله تعالى بدون قيد أو شرط ، وقد ورد هذا المعنى في آيات مختلفة من القرآن الكريم ، وبعبارات مختلفة ، ومن جملتها الآية أعلاه ، والتي تقول :( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) بل يجب أن يجعلوا إرادتهم تبعا لإرادة الله تعالى ، كما أنّ كلّ وجودهم من الشعر حتّى أخمص القدمين مرتبط به ومذعن له.

(قضى) هنا تعني القضاء التشريعي ، والقانون والأمر والحكم والقضاء ، ومن البديهي أنّ الله تعالى غني عن طاعة الناس وتسليمهم ، ولم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ينظر بعين الطمع لهذه الطاعة ، بل هي في الحقيقة لمصلحتهم ومنفعتهم ، فإنّهم قد يجهلونها لكون علمهم وآفاتهم محدودة ، إلّا أنّ الله تعالى يعلمها فيأمر نبيّه بإبلاغها.

إنّ هذه الحالة تشبه تماما حالة الطبيب الماهر الذي يقول للمريض : إنّني أبدا بعلاجك إذا أذعنت لأوامري تماما ، ولم تبد أي مخالفة تجاهها ، وهذه الكلمات تبيّن غاية حرص الطبيب على علاج مريضه ، والله تعالى أسمى وأرحم بعباده من مثل هذا الطبيب ، ولذلك أشارت الآية إلى هذه المسألة في نهايتها ، حيث تقول :( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) .

فسوف يضلّ طريق السعادة ، ويسلك طريق الضلال والضياع ، لأنّه لم يعبأ بأمر

__________________

(١) اقتباس من تفسير مجمع البيان ، والقرطبي ، والميزان ، والفخر الرازي ، وفي ظلال القرآن ، وتفاسير اخرى في ذيل الآيات مورد البحث ، وكذلك سيرة ابن هشام ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٢٦٤ ، والكامل لابن الأثير ، المجلّد الثّاني ، صفحة ١٧٧.

٢٥٨

ربّ الكون الرحيم ، وبأمر رسوله ، ذلك الأمر الضامن لخيره وسعادته ، وأيّة ضلالة أوضح من هذه؟!

ثمّ تناولت الآية التالية قصّة «زيد» وزوجته «زينب» المعروفة ، والتي هي إحدى المسائل الحسّاسة في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولها ارتباط بمسألة أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي مرّت في الآيات السابقة ، فتقول :( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ) .

والمراد من نعمة الله تعالى هي نعمة الهداية والإيمان التي منحها لزيد بن حارثة ، ومن نعمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان قد أعتقه وكان يعامله كولده الحبيب العزيز.

ويستفاد من هذه الآية أنّ شجارا قد وقع بين زيد وزينب ، وقد استمرّ هذا الشجار حتّى بلغ أعتاب الطلاق ، وبملاحظة جملة( تَقُولُ ) حيث إنّ فعلها مضارع ، يستفاد أنّ النّبي كان ينصحه دائما ويمنعه من الطلاق.

هل أنّ هذا الشجار كان نتيجة عدم تكافؤ الحالة الاجتماعية بين زينب وزيد ، حيث كانت من قبيلة معروفة ، وكان هو عبدا معتق؟

أم كان ناتجا عن بعض الخشونة في أخلاق زيد؟

أو لا هذا ولا ذاك ، بل لعدم وجود انسجام روحي وأخلاقي بينهما ، فإنّ من الممكن أن يكون شخصان جيدين ، إلّا أنّهما يختلفان من ناحية السلوك والفكر والطباع بحيث لا يستطيعان أن يستمرا في حياة مشتركة؟

ومهما يكن الأمر فإنّ المسألة إلى هنا ليست بذلك التعقيد.

ثمّ تضيف الآية :( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) .

لقد أسهب المفسّرون هنا في الكلام ، وكان تسامح بعضهم في التعبيرات قد منح الأعداء حربة للطعن ، في حين يفهم من القرائن الموجودة في نفس الآية ، وسبب نزول الآيات ، والتأريخ ، أنّ معنى الآية ليس مطلبا ومبحثا معقّدا ، وذلك :

٢٥٩

إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد قرّر أن يتّخذ «زينب» زوجة له إذا ما فشل الصلح بين الزوجين ووصل أمرهم إلى الطلاق لجبران هذه النكسة الروحية التي نزلت بابنة عمّته زينب من جرّاء طلاقها من عبده المعتق ، إلّا أنّه كان قلقا وخائفا من أن يعيبه الناس ويثير مخالفيه ضجّة وضوضاء ، من جهتين :

الاولى : أنّ زيدا كان ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتبنّي ، وكان الابن المتبنّى ـ طبقا لسنّة جاهلية ـ يتمتّع بكلّ أحكام الابن الحقيقي ، ومن جملتها أنّهم كانوا يعتقدون حرمة الزواج من زوجة الابن المتبنّى المطلّقة.

والاخرى : هي كيف يمكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوّج مطلّقة عبده المعتق وهو في تلك المنزلة الرفيعة والمكانة السامية؟

ويظهر من بعض الروايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد صمّم على أن يقدم على هذا الأمر بأمر الله سبحانه رغم كلّ الملابسات والظروف ، وفي الجزء التالي من الآية قرينة على هذا المعنى.

بناء على هذا ، فإنّ هذه المسألة كانت مسألة أخلاقية وإنسانية ، وكذلك كانت وسيلة مؤثّرة لكسر سنّتين جاهليتين خاطئتين ، وهما : الاقتران بمطلّقة الابن المتبنّى ، والزواج من مطلّقة عبد معتق.

من المسلّم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينبغي أن يخاف الناس في مثل هذه المسائل ، ولا يدع للضعف والتزلزل والخشية من تأليب الأعداء وشايعاتهم إلى نفسه سبيلا ، إلّا أنّ من الطبيعي أن يبتلى الإنسان بالخوف والتردّد في مثل هذه المواقف ، خاصّة وأنّ أساس هذه المسائل كان إختيار الزوجة ، وأنّه كان من الممكن أن تؤثّر هذه الأقاويل والضجيج على انتشار أهدافه المقدّسة وتوسّع الإسلام ، وبالتالي ستؤثّر على ضعفاء الإيمان ، وتغرس في قلوبهم الشكّ والتردّد.

لهذا تقول الآية في متابعة المسألة : إنّ زيد لمّا أنهى حاجته منها وطلّقها زوجناها لك:( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510