الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148614
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148614 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ) وكان لا بدّ أن يتمّ هذا الأمر( وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ) .

«الأدعياء» جمع «دعي» ، أي الابن المتبنّى ، و «الوطر» هو الحاجة المهمّة ، وإختيار هذا التعبير في مورد طلاق زينب للطف البيان ، لئلّا يصرّح بالطلاق الذي يعدّ عيبا للنساء ، بل وحتّى للرجال ، فكأنّ كلا من هذين الشخصين كان محتاجا للآخر ليحيا حياة مشتركة لمدّة معيّنة ، وافتراقهما كان نتيجة لانتفاء هذه الحاجة ونهايتها.

والتعبير بـ( زَوَّجْناكَها ) دليل على أنّ هذا الزواج كان زواجا بأمر الله ، ولذلك ورد في التواريخ أنّ زينب كانت تفتخر بهذا الأمر على سائر زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت تقول : زوّجكنّ أهلوكنّ وزوّجني الله من السماء(١) .

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ القرآن الكريم يبيّن بمنتهى الصراحة الهدف الأصلي من هذا الزواج ، وهو إلغاء سنّة جاهلية كانت تقضي بمنع الزواج من مطلّقات الأدعياء ، وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة كلّية ، وهي أنّ تعدّد زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن أمرا عاديا بسيطا ، بل كان يرمي إلى أهداف كان لها أثرها في مصير دينه.

وجملة( كانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ) إشارة إلى وجوب الحزم في مثل هذه المسائل ، وكلّ عمل ينبغي فعله يجب أن ينجز ويتحقّق ، حيث لا معنى للاستسلام أمام الضجيج والصخب في المسائل التي تتعلّق بالأهداف العامّة والأساسية.

ويتّضح من التّفسير الواضح الذي أوردناه في بحث الآية أعلاه أنّ الادّعاءات التي أراد الأعداء أو الجهلاء إسنادها لهذه الآية لا أساس لها مطلقا ، وسنعطي في بحث الملاحظات توضيحا أكثر في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

وتقول الآية الأخيرة في تكميل المباحث السابقة :( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، المجلد ٢ ، ص ١٧٧. ومما يستحق الالتفات أن زواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب قد تم في السنة الخامسة للهجرة ، المصدر السابق.

٢٦١

فِيما فَرَضَ اللهُ ) فحيث يأمره الله سبحانه لا تجوز المداهنة في مقابل أمره تعالى ، ويجب تنفيذه بدون أيّ تردّد.

إنّ القادة الربانيين يجب أن لا يصغوا إلى كلام هذا وذاك لدى تنفيذ الأوامر الإلهيّة ، أو يراعوا الأجواء السياسية والآداب والأعراف الخاطئة السائدة في المحيط ، وربّما كان هذا الأمر قد صدر لتمزيق هذه الأعراف المغلوطة ، ولتحطيم البدع القبيحة.

إنّ القادة الإلهيين يجب أن ينفّذوا أمر الله بدون خوف من الملامة والعتاب والضجّة والغوغاء ، وأن كونوا مصداق( وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) .(١)

إنّنا إذا أردنا أن نجلس وننتظر رضا الجميع وسرورهم ثمّ ننفّذ أمر الله سبحانه ، فلنعلم أنّ هذا الأمر لا يمكن تحقّقه ، لأنّ بعض الفئات لا ترضى حتّى نستسلم لما تريد ونتّبع دينها وفكرها ، كما يقول القرآن الكريم ذلك :( وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) .

(٢) وكذلك كان الأمر في مورد الآية التي نبحثها ، لأنّ زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب كان يكتنفه في أفكار الناس العامّة إشكالان كما قلنا :

الأوّل : أنّ الزواج بمطلّقة المدّعى كان في نظر أولئك كالزواج بزوجة الابن الحقيقي ، وكانت هذه بدعة يجب أن تلغى.

والآخر : أنّ زواج رجل مرموق له مكانته في المجتمع كالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من مطلّقة غلام محرّر كان يعدّ عيبا وعارا ، لأنّه يجعل النّبي والعبد في مرتبة واحدة ، وهذه الثقافة الخاطئة كان يجب أن تقلع وتجتث من الجذور لتزرع مكانها القيم الإنسانية ، وكون الزوجين كفؤين لبعضهما إنّما يستقيم ويقاس على أساس الإسلام والإيمان والتقوى وحسب.

__________________

(١) المائدة ، ٥٤.

(٢) البقرة ، ١٢٠.

٢٦٢

وأساسا فانّ مخالفة السنن والأعراف ، واقتلاع الآداب والعادات الخرافية وغير الإنسانية يقترن عادة بالضجيج والغوغاء والصخب ، وينبغي أن لا يهتمّ الأنبياء بهذا الضجيج والصخب مطلقا ، ولذلك تعقب الجملة التالية فتقول :( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) .

فلست الوحيد المبتلى بهذه المشكلة ، بل إنّ الأنبياء جميعا كانوا يعانون هذه المصاعب عند مخالفتهم سنن مجتمعاتهم ، وعند سعيهم لاجتثاث اصول الأعراف الفاسدة منها.

ولم تكن المشكلة الكبرى منحصرة في محاربة هاتين السنّتين الجاهليتين ، بل إنّ هذا الزواج لمّا كان مرتبطا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه يمكن أن يعطي الأعداء حربة اخرى ليعيبوا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعله ، ويطعنوا في دينه ، وسيأتي تفصيل ذلك.

ويقول الله سبحانه في نهاية الآية تثبيتا لاتّباع الحزم في مثل هذه المسائل الأساسية :( وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) .

إنّ التعبير بـ( قَدَراً مَقْدُوراً ) قد يكون إشارة إلى كون الأمر الإلهي حتميا ، ويمكن أن يكون دالا على رعاية الحكمة والمصلحة فيه ، إلّا أنّ الأنسب في مورد الآية أن يراد منه كلا المعنيين ، أي أنّ أمر الله تعالى يصدر على أساس الحساب الدقيق والمصلحة ، وكذلك لا بدّ من تنفيذه بدون استفهام أو تلكّؤ.

والطريف أنّنا نقرأ في التواريخ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أولم للناس ووليمة عامّة لم يكن لها نظير فيما

سبق اقترانه بزوجاته(١) ، فكأنّه أراد بهذا العمل أن يبيّن للناس أنّه غير قلق ولا خائف من السنن الخرافية التي كانت سائدة في تلك البيئة ، بل إنّه يفتخر بتنفيذ هذا الأمر الإلهي ، إضافة إلى أنّه كان يطمح إلى أن يصل صوت إلغاء هذه السنّة الجاهلية إلى آذان جميع من في جزيرة العرب عن هذا الطريق.

* * *

__________________

(١) يروي المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : فتزوّجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة ، وأطعم الناس الخبز واللحم حتّى امتدّ النهار. مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٣٦١.

٢٦٣

بحثان

١ ـ أساطير كاذبة

مع أنّ القرآن الكريم كان غاية في الصراحة في قصّة زواج النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب ، وفي تبيان هذه المسألة ، والهدف من هذا الزواج ، وأعلن أنّ الهدف هو محاربة سنّة جاهلية فيما يتعلّق بالزواج من مطلّقة الابن المدّعى ، إلّا أنّها ظلّت مورد استغلال جمع من أعداء الإسلام ، فحاولوا اختلاق قصّة غرامية منها ليشوّهوا بها صورة النّبي المقدّسة ، واتّخذوا من الأحاديث المشكوك فيها أو الموضوعة في هذا الباب آلة وحربة يلوّحون بها.

ومن جملة ذلك ما كتبوه من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء إلى دار زيد ليسأل عن حاله ، فما إن فتح الباب حتّى وقعت عينه على جمال زينب ، فقال : «سبحان الله خالق النور! تبارك الله أحسن الخالقين» واتّخذوا هذه الجملة دليلا على تعلّق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب.

في حين أنّ هناك دلائل واضحة ـ بغضّ النظر عن مسألة العصمة والنبوّة ـ تكذّب هذه الأساطير :

الاولى : أنّ زينب كانت بنت عمّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تربيّا وكبرا معا في محيط عائلي تقريبا ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي خطبها بنفسه لزيد ، وإذا كان لزينب ذلك الجمال الخارق ، وعلى فرض أنّه استرعى انتباهه ، فلم يكن جمالها أمرا خافيا عليه ، ولم يكن زواجه منها قبل هذه الحادثة أمرا عسيرا ، بل إنّ زينب لم تبد أي رغبة في الاقتران بزيد ، بل أعلنت مخالفتها صراحة ، وكانت ترجّح تماما أن تكون زوجة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بحيث أنّها سرّت وفرحت عند ما ذهب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لخطبتها ظنّا منها بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطبها لنفسه ، إلّا أنّها رضخت لأمر الله ورسوله بعد نزول هذه الآية القرآنية وتزوّجت زيدا.

مع هذه المقدّمات هل يبقى مجال لهذا الوهم بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن عالما بحال

٢٦٤

زينب وجمالها؟ وأيّ مجال لهذا الظنّ الخاطئ بأن يكون راغبا في الزواج منها ولا يستطيع الإقدام عليه؟

والثّانية : أنّ زيدا عند ما كان يراجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لطلاق زوجته زينب ، كان النّبي ينصحه مرارا بصرف النظر عن هذا الأمر ، وهذا بنفسه شاهد آخر على بطلان هذه الادّعاءات والأساطير.

ومن جهة اخرى فإنّ القرآن الكريم قد أوضح الهدف من هذا الزواج بصراحة لئلّا يبقى مجال لأقاويل اخرى.

ومن جهة رابعة قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ الله تعالى يقول : قد كان في حادثة زواج النّبي بمطلّقة زيد أمر كان النّبي يخشى الناس فيه ، في حين أنّ خشيته من الله أحقّ من الخشية من الناس.

إنّ مسألة خشية الله سبحانه توحي بأنّ هذا الزواج قد تمّ كتنفيذ لواجب شرعي ، يجب عنده طرح كلّ الاعتبارات الشخصية جانبا من أجل الله تعالى ليتحقّق هدف مقدّس من أهداف الرسالة ، حتّى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتّهاماتهم للنبي ، وكان هذا هو الثمن الباهض الذي دفعه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولا زال يدفعه إلى الآن ـ في مقابل طاعة أمر الله سبحانه ، وإلغاء عرف خاطئ وسنّة مبتدعة.

إلّا أنّ هناك لحظات حرجة في حياة القادة المخلصين تحتّم عليهم أن يضحّوا ويعرّضوا أنفسهم فيها الاتّهام أمثال هؤلاء الأفراد ليتحقّق هدفهم!

أجل لو كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم ير زينب من قبل مطلقا ، ولم يكن يعرفها ، ولم يكن لدى زينب الرغبة في الاقتران به ، ولم يكن زيد مستعدّا لطلاقها ـ وبغضّ النظر عن مسألة النبوّة والعصمة ـ لكان هناك مجال لمثل هذه الأقاويل والتخرّصات ، لكن بملاحظة انتفاء كلّ هذه الظروف يتّضح كون هذه الأكاذيب مختلفة.

إضافة إلى أنّ تاريخ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعكس أي دليل أو صورة تدلّ على وجود

٢٦٥

رغبة خاصّة لديهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الزواج من زينب ، بل هي كسائر الزوجات ، بل ربّما كانت أقل من بعض الزوجات من بعض الجهات ، وهذا شاهد تأريخي آخر على نفي هذه الأساطير.

ونرى في نهاية المطاف ضرورة الإشارة إلى احتمال أن يقول شخص : إنّ محاربة مثل هذه السنّة الخاطئة واجب ، ولكن أيّة ضرورة تدعو إلى أن يقتحم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الميدان بنفسه؟ فقد كان بإمكانه أن يطرح هذه المسألة ويبيّنها كقانون ، ويرغب الآخرين في الزواج من مطلّقة المتبنّي.

غير أنّ مخالفة سنّة جاهلية خاطئة ـ خاصّة وأنّها تتعلّق بالزواج من أفرادهم دون شأن المقابل ظاهرا ـ قد تكون غير مقبولة بالكلام والتقنين أحيانا ، إذ يقول الناس : إذا كان هذا الأمر حسنا فلما ذا لم يفعله هو؟ لم لم يتزوّج بمطلّقة عبده المعتق وابنه المتبنى؟

في مثل هذه الموارد ينهي الإقدام والإجراء العملي كلّ هذه الأسئلة والإشكالات ، وعندها ستتكسّر وتتلاشى تلك السنّة الخاطئة. إضافة إلى أنّ هذا العمل كان بنفسه تضحية وإيثارا.

٢ ـ روح الإسلام التسليم أمام الله

لا شكّ أنّ استقلال الإنسان الفكري والروحي لا يسمح له أن يستسلم لأحد بدون قيد أو شرط ، لأنّه إنسان مثله ، ومن الممكن أن تكون له أخطاء واشتباهات في المسائل.

أمّا إذا انتهت المسألة إلى الله العالم والحكيم ، والنّبي الذي يتحدّث عنه ويسير بأمره ، فإنّ عدم التسليم المطلق دليل على الضلال والانحراف ، حيث لا يوجد أدنى اشتباه في أوامره سبحانه. إضافة إلى أنّ أمره حافظ لمنافع الإنسان نفسه ، ولا يعود شيء على ذاته المقدّسة ، فهل يوجد إنسان عاقل يسحق مصالحه برجله

٢٦٦

بعد تشخيص هذه الحقيقة؟

ومضافا إلى ذلك فإنّنا منه تعالى ، وكلّ ما لدينا منه ، ولا يمكن أن يكون لنا أمر وقرار إلّا التسليم لإرادته وأمره ، ولذلك ترى بين دفّتي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه المسألة :

فمرّة تقول آية :( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .(١)

وتقول اخرى :( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) .(٢)

ويقول القرآن في موضع آخر :( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) .(٣)

إنّ «الإسلام» أخذ من مادّة «التسليم» ، وهو يشير إلى هذه الحقيقة ، وبناء على هذا فإنّ كلّ إنسان يتمتّع بروح الإسلام بمقدار تسليمه لله سبحانه.

ينقسم الناس عدّة أقسام من هذه الناحية : فقسم يسلّمون لأمر الله في الموارد التي تنفعهم فقط ، وهؤلاء في الحقيقة مشركون انتحلوا اسم الإسلام ، وعملهم تجزئة لأحكام الله تعالى ، فهم مصداق( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) فإيمانهم في الحقيقة إيمان بمصالحهم لا بالله تعالى.

وآخرون جعلوا إرادتهم تبعا لإرادة الله ، وإذا تعارضت منافعهم الزائلة مع أمر الله سبحانه ، فإنّهم يغضّون الطرف عنها ويسلّمون لأمر الله ، وهؤلاء هم المؤمنون والمسلمون الحقيقيون.

والقسم الثالث أسمى من هؤلاء ، فهم لا يريدون إلّا ما أراد الله ، وليس في

__________________

(١) النور ، ٥١.

(٢) النساء ، ٦٥.

(٣) النساء ، ١٢٥.

٢٦٧

قلوبهم إلّا ما يشاؤه سبحانه ، فقد بلغوا مرتبة من التسامي لا يحبّون معها إلّا ما يحبّه الله ، ولا يبغضون إلّا ما أبغضه اللهعزوجل .

هؤلاء هم الخاصّة والمخلصون والمقرّبون لديه ، فقد صبغ التوحيد كلّ وجودهم ، وغرقوا في حبّه ، وفنوا في جماله(١) .

* * *

__________________

(١) لقد أوردنا بحثا آخر في هذا الباب في ذيل الآية (٦٥) من سورة النساء.

٢٦٨

الآية

( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) )

التّفسير

من هم المبلّغون الحقيقيون؟

تشير الآية مورد البحث ، ومناسبة للبحث الذي مرّ حول الأنبياء السابقين في آخر آية من الآيات السابقة ، إلى أحد أهم برامج الأنبياء العامّة ، فتقول :( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) .

وكذلك الحال بالنسبة إليك ، فينبغي أن لا تخش أحدا في تبليغ رسالات الله ، وعند ما يأمرك الله سبحانه أن حطّم سنّة جاهلية خاطئة في مسألة زواج مطلّقة المتبنّي ، وتزوّج بزينب مطلّقة زيد ، فيجب أن لا تدع لأدنى قلق وخوف من قول هذا وذاك في تأدية هذا التكليف إلى نفسك سبيلا ، فإنّ هذه سنّة جميع الأنبياءعليهم‌السلام .

إنّ عمل الأنبياءعليهم‌السلام في كثير من المراحل هو كسر مثل هذه السنن والأعراف عادة ، ولو أنّهم سمحوا لأقلّ خوف وتردّد أن ينفذ إلى نفوسهم فسوف يفشلون في

٢٦٩

أداء رسالاتهم ، فيجب على هذا أن يسيروا بحزم وثبات ، ويستوعبوا كلمات المسيئين الجارحة غير المتزنة ، ويستمرّوا في طريقهم دون أن يهتّموا باصطناع الأجواء ضدّهم ، وضجيج العوام ، وتآمر الفاسدين والمفسدين وتواطئهم ، لأنّ كلّ الحسابات بيد الله سبحانه ، ولذلك تقول الآية في النهاية :( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) .

إنّه يحسب إيثار الأنبياء وتضحياتهم في هذا الطريق ويجزيهم عليها ، كما يحفظ كلمات الأعداء البذيئة وثرثرتهم ليحاسبهم عليها ويجازيهم.

إنّ جملة :( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) دليل في الحقيقة على أنّ القادة الإلهيين يجب أن لا يخشوا شيئا أو أحدا في إبلاغ الرسالات ، لأنّ الله سبحانه هم المحصي لجهودهم ، وهو المثيب عليها.

* * *

ملاحظات

١ ـ المراد من «التبليغ» هنا هو الإبلاغ والإيصال ، وعند ما يرتبط الأمر بـ «رسالات الله» فإنّه يعني أن يعلّم الأنبياء الناس ما علّمهم الله عن طريق الوحي ، وأن ينفذوه إلى القلوب عن طريق الاستدلال والإنذار والتبشير والموعظة والنصيحة.

٢ ـ «الخشية» تعني الخوف المقترن بالتعظيم والاحترام ، ويختلف عن الخوف المجرّد من هذه الخاصية من هذه الجهة. وقد تستعمل أحيانا بمعنى مطلق الخوف.

وقد ورد في مؤلّفات المحقّق «الطوسي» كلام في الفرق بين هذين اللفظين ، وهو في الحقيقة يشير إلى المعنى العرفاني لا اللغوي ، فانّه يقول : إنّ الخشية والخوف وإن كانا في اللغة بمعنى واحد ـ أو يقربان من معنى واحد ـ إلّا أنّ بينهما فرقا لدى أهل البصائر ، وهو : إنّ «الخوف» يعني القلق والاضطراب الداخلي من العواقب التي ينتظرها الإنسان نتيجة ارتكابه المعاصي والذنوب ، أو تقصيره في

٢٧٠

الطاعة ، وهذه الحالة تحصل لأغلب الناس وإن اختلفت درجاتها ، أمّا أعلى مراتبها فلا تحصل إلّا لفئة قليلة منهم.

أمّا «الخشية» فهي الحالة التي تحصل للإنسان لدى إدراكه عظمة الله وهيبته ، والخوف من بقائه مبعدا عن أنوار فيضه ، وهذه الحالة لا تحصل إلّا لأولئك الذين وقفوا على عظمة ذاته المقدّسة وجلال كبريائه ، وتذوّقوا طعم قربه ، ولذلك عدّ القرآن هذه الحالة خاصّة بعباد الله العلماء فقال :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (١) .

٣ ـ جواب عن سؤال؟

قد يقال : إنّ هذه الآية تتناقض مع ما مرّ في الآيات السابقة ، فهي تقول هنا : إنّ أنبياء الله لا يخشون إلّا الله ، ولا يخشون أحدا غيره ، إلّا أنّه قد ورد في الآيات السابقة :( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) ؟

إلّا أنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بتأمّل النقطتين التاليتين :

الاولى : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما كان خائفا من عدم تحمّل عدد كبير من الناس لنقض هذه السنّة ، ومن عدم استيعابهم للمسألة ، وبذلك ستتزعزع أسس إيمانهم من هذه الجهة ، ومثل هذه الخشية ترجع في الحقيقة إلى خشية الله سبحانه.

والاخرى : أنّ الأنبياء لا يعيشون حالة الخوف والقلق من شخص ما في تبليغهم رسالات الله ، أمّا في ما يتعلّق بأمور الحياة الشخصية والخاصّة فلا مانع من أن يخافوا من أمر خطير كاتّهام وطعن الناس ، أو أن يكونوا كموسىعليه‌السلام إذ خاف ـ حسب الطبيعة البشرية ـ عند ما ألقى العصا وتحوّلت إلى ثعبان عظيم ، فإنّ مثل هذا الخوف والاضطراب إذا لم يكن مفرطا لا يعدّ عيبا ونقصا ، بل قد يواجه هذه

__________________

(١) مجمع البحرين مادّة خشي.

٢٧١

المسألة أشجع الناس أحيانا ، إنّما العيب والنقص هو الخوف من أداء التكليف الإلهي في الحياة الاجتماعية.

٤ ـ هل كان الأنبياء يستعملون التقيّة؟

استفاد جماعة من هذه الآية أنّ التقيّة حرام مطلقا للأنبياء في تبليغ الرسالة ، لأنّ القرآن يقول :( وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) .

غير أنّه يجب الانتباه إلى أنّ للتقيّة أنواعا ، ولم تنف الآية في مورد دعوة الأنبياء وإبلاغ الرسالة إلّا نوعا واحدا ، وهو التقيّة خوفا ، في حين أنّ للتقيّة أنواعا منها التقيّة مداراة وتورية.

والمراد من التقيّة المداراتية أن يكتم الإنسان عقيدته أحيانا لجلب محبّة الطرف المقابل ليقوى على استمالته للتعاون في الأهداف المشتركة.

والمراد من تقيّة «التورية» والإخفاء هو أنّه يجب أن تخفى المقدّمات والخطط للوصول إلى الهدف ، فإنّها إن أفشيت وانتشرت بين الناس وأصبحت علنية ، وأطلع العدوّ عليها فمن الممكن أن يقوم باجهاضها.

إنّ حياة الأنبياء ـ وخاصّة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مليئة بموارد التقيّة هذه ، لأنّا نعلم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان كثيرا ما يخفي أهدافه ومقاصده عند ما كان يتوجّه إلى ميدان الحرب ، وكان يرسم خططه الحربية بخفاء تامّ ، وكان يستخدم أسلوب الاستتار والتخفّي ـ والذي هو نوع من التقيّة ـ في جميع المراحل.

وكان يتّبع أحيانا أسلوب «المراحل» ـ وهو نوع من التقيّة ـ لبيان حكم ما ، فمثلا نرى أنّ مسألة تحريم الربا أو شرب الخمر لم تبيّن في مرحلة واحدة ، بل تمت في مراحل متعدّدة بأمر الله سبحانه ، أي أنّها تبدأ من المراحل الأبسط والأسهل حتّى تنتهي بالحكم النهائي الأساسي.

وعلى أيّة حال ، فإنّ للتقيّة معنى واسعا ، وهو : (إخفاء الحقائق والواقع للحفاظ

٢٧٢

على الأهداف من التعرّض للخطر والانهيار) وهذا الشيء متعارف بين عقلاء العالم ، والقادة الربّانيون يفعلون ذلك في بعض المراحل للوصول إلى أهدافهم المقدّسة ، كما نقرأ ذلك في قصّة «إبراهيم»عليه‌السلام بطل التوحيد ، حيث أخفى هدفه من البقاء في المدينة في اليوم الذي يخرج فيه عبدة الأصنام خارج المدينة لإجراء مراسم العيد ليستغلّ فرصة مناسبة فينهال على الأصنام ويحطّمها.

وكذلك أخفى «مؤمن آل فرعون» إيمانه ليستطيع أن يعيّن موسىعليه‌السلام في اللحظات الحسّاسة وينقذه من القتل ، ولهذا السبب ذكر القرآن له تسعة مواقف وصفات عظيمة.

ومن هنا نعلم أنّ التقيّة خوفا فقط غير جائزة على الأنبياء ، لا الأنواع الاخرى للتقيّة.

وبالرغم من أنّ الكلام في هذا الباب كثير ، إلّا أنّنا ننهي هذا البحث بحديث جامع غنيّ المحتوى عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «التقيّة ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة ترس الله في الأرض ، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل»(١) .

وكان لنا بحث مفصّل حول التقيّة في ذيل الآية (١٠٦) من سورة النحل.

٥ ـ شرط الإنتصار في التبليغ :

إنّ الآية المذكورة دليل واضح على أنّ الحزم والإخلاص وعدم الخوف من أي أحد إلّا الله تعالى ، شرط أساسي في التقدّم والرقي في مجال الإعلام والتبليغ.

الأشخاص الذين يراعون رغبات وميول هذا وذاك في مقابل أمر الله ، ويوجّهون الحقّ والعدالة بما يناسب أهواءهم ، سوف لا يحصلون على نتيجة

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٥٢١ ذيل الآية (٢٨) من سورة المؤمن.

٢٧٣

مطلقا ، فلا نعمة أسمى من نعمة الهداية ، ولا خدمة أنفع من إهداء هذه النعمة للبشرية ، ولذلك كان جزاء وثواب هذا العمل أعظم من كلّ ثواب وعطاء ، ومن هنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن وقال لي : يا علي لا تقاتلن أحدا حتّى تدعوه ، وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير ممّا طلعت الشمس وغربت»(١) .

ولهذا السبب أيضا يجب أن يستغني المبلّغون الحقيقيون عن الناس ، ولا يخافون أي مقام ومنصب ، فإنّ تلك الحاجة والخوف سيتركان أثرا على أفكارهم وإرادتهم شاءوا أم أبوا.

إنّ المبلّغ الإلهي يفكّر فقط ـ بمقتضى( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) ـ بأنّ محصي الأعمال والمحاسب عليها هو الله تعالى ، وبيده جزاؤه وثوابه ، وهذا الوعي والعرفان هو الذي يمدّه ويعينه في هذا الطريق المليء بالعقبات.

* * *

__________________

(١) الكافي ، طبقا لنقل البحار ، الجزء ٢١ ، صفحة ٣٦١.

٢٧٤

الآية

( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) )

التّفسير

مسألة الخاتمية :

هذه الآية هي آخر ما بيّنه الله سبحانه فيما يتعلّق بمسألة زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمطلّقة زيد لكسر عرف جاهلي خاطئ ، وهي جواب مختصر كآخر جواب يقال هنا ، وتبيّن في نهايتها حقيقة مهمّة اخرى ـ وهي مسألة الخاتمية ـ بمناسبة خاصّة.

تقول أوّلا :( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) لا زيد ولا غيره ، وإذا ما أطلقوا عليه يوما انّه «ابن محمّد» فإنّما هو مجرّد عادة وعرف ليس إلّا ، وما إن جاء الإسلام حتّى اجتثّت جذوره ، وليس هو رابطة طبيعيّة عائلية.

طبعا كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أولاد حقيقيون ، وأسماؤهم «القاسم» و «الطيّب» و «الطاهر» و «إبراهيم» ، إلّا أنّهم ـ طبقا لنقل المؤرخّين ـ جميعا قد ودّعوا هذه الدنيا وارتحلوا عنها قبل البلوغ ، ولذلك لم يطلق عليهم أنّهم «رجال»(١) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير الميزان ذيل الآية مورد البحث.

٢٧٥

والإمامان الحسن والحسينعليهما‌السلام اللذان كانوا يسمّونهم أولاد النّبي رغم أنّهما بلغا سنين متقدّمة في العمر ، إلّا أنّهما كانا لا يزالان صغيرين عند نزول هذه الآية.

بناء على هذا فإنّ جملة :( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) والتي وردت بصيغة الماضي ، كانت صادقة في حقّ الجميع قطعا.

وإذا ما رأينا في بعض تعبيرات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه أنّه يقول : «أنا وعلي أبوا هذه الامّة» فمن المسلّم أنّ المراد لم يكن الابوّة النسبية ، بل الابوّة الناشئة من التعليم والتربية والقيادة والإرشاد.

مع هذه الحال ، فإنّ الزواج من مطلقّة زيد ـ والذي بيّن القرآن فلسفته بصراحة بأنّه إلغاء للسنن الخاطئة ـ لم يكن شيئا يبعث على البحث والجدال بين هذا وذاك ، أو أنّهم يريدون أن يتّخذوه وسيلة للوصول إلى نواياهم السيّئة.

ثمّ تضيف : بأنّ علاقة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معكم إنّما هي من جهة الرسالة والخاتمية فقط( وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وبهذا قطع صدر الآية الارتباط والعلاقة النسبية بشكل تامّ وقطعي ، وأثبت ذيلها العلاقة المعنوية الناشئة من الرسالة والخاتمية ، ومن هنا يتّضح ترابط صدر الآية وذيلها.

هذا إضافة إلى أنّ الآية تشير إلى حقيقة هي : أنّ علاقته معكم في الوقت نفسه أشدّ وأسمى من علاقة والد بولده ، لأنّ علاقته علاقة الرّسول بالامّة ، ويعلم أنّ سوف لا يأتي رسول بعده ، فكان يجب عليه أن يبيّن لهذه الامّة ويطرح لها كلّ ما تحتاجه إلى يوم القيامة في منتهى الدقّة وغاية الحرص عليها.

ولا شكّ أنّ الله العليم الخبير قد وضع تحت تصرّفه كلّ ما كان لازما في هذا الباب ، من الأصول والفروع ، والكليّات والجزئيات في جميع المجالات ، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية :( وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) .

وينبغي الالتفات إلى أنّ كونه «خاتم الأنبياء» يعني أيضا أنّه خاتم المرسلين ، وما ألصقه بعض مبتدعي الأديان لخدش كون مسألة الخاتمية بهذا المعنى ، من أنّ

٢٧٦

القرآن قد اعتبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء لا خاتم المرسلين ، إنّما هو اشتباه كبير ، لأنّ من كان خاتما للأنبياء يكون خاتما للرسل بطريق أولى ، لأنّ مرحلة «الرسالة» أسمى من مرحلة «النبوّة» ـ تأمّلوا ذلك ـ.

إنّ هذا الكلام يشبه تماما أن نقول : إنّ فلانا ليس في بلاد الحجاز ، فمن المسلّم أنّ هذا الشخص سوف لا يكون موجودا في مكّة ، أمّا إذا قلنا : إنّه ليس في مكّة ، فمن الممكن أن يكون في مكان آخر من الحجاز.

بناء على هذا ، فإنّه تعالى لو كان قد سمّى النّبي خاتم المرسلين ، فمن الممكن أن لا يكون خاتم الأنبياء ، أمّا وقد سمّاه «خاتم الأنبياء» فمن المسلّم أنّه سيكون خاتم الرسل أيضا ، وبتعبير المصطلحات فإنّ النسبة بين النّبي والرّسول نسبة العموم والخصوص المطلق.

* * *

بحوث

١ ـ ما هو الخاتم؟

«الخاتم» ـ على زنة حاتم ـ لدى أرباب اللغة : هو الشيء الذي تنهى به الأمور ، وكذلك جاء بمعنى الشيء الذي تختم به الأوراق وما شابهها.

وكان هذا الأمر متداولا فيما مضى ـ ولا يزال إلى اليوم ـ حينما يريدون إغلاق الرسالة أو غطاء الوعاء أو باب المنزل لئلّا يفتحها أحد ، فإنّهم كانوا يضعون مادّة لاصقة على الباب أو القفل ويختمون عليها. ويكون هذا الخاتم من الصلابة بحيث إنّه لا بدّ من كسره إذا ما أريد فتح الباب ، وهذه المادّة التي توضع على مثل هذه الأشياء تسمّى «خاتما».

ولمّا كانوا في السابق يستعملون لهذا الأمر الطين الصلب الذي يلصق ، فإنّنا نقرأ

٢٧٧

في متون بعض كتب اللغة المعروفة أنّ معنى الخاتم هو «ما يوضع على الطينة»(١) .

كلّ ذلك بسبب أنّ هذه الكلمة مأخوذة من مادّة «الختم» أي النهاية ، ولمّا كان هذا العمل ـ أي الختم ـ يجري في الخاتمة والنهاية فقد اطلق عليه اسم الخاتم لذلك.

وإذا ما رأينا أنّ أحد معاني الخاتم هو الخاتم الذي يوضع في اليد ، فبسبب أنّهم كانوا يضعون إمضاءهم وتوقيعهم على خواتيمهم ويختمون الرسائل بها ، ولذلك فإنّ من جملة الأمور التي تذكر في أحوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدىعليهم‌السلام والشخصيات الاخرى هو نقش خاتمهم.

ويروي «الكليني» ـرحمه‌الله ـ في الكافي حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ خاتم رسول الله كان من فضّة نقشه محمّد رسول الله»(٢) .

وجاء في بعض التواريخ أنّ إحدى حوادث السنة السادسة للهجرة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اختار لنفسه خاتما نقش فيها ، وذلك أنّهم أخبروه أنّ الملوك لا يقرءون الرسائل إذا لم تكن مختومة(٣) .

وجاء في كتاب «الطبقات» : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا صمّم أن ينشر دعوته في الآفاق ، ويكتب الرسائل إلى ملوك الأرض وسلاطينها أمر أن يصنعوا له خاتما كتب عليه (محمّد رسول الله) وكان يختم به رسائله(٤) .

بهذا البيان يتّضح جيدا أنّ الخاتم وإن اطلق اليوم على خاتم الزينة أيضا ، إلّا أنّ أصله مأخوذ من الختم ، أي النهاية ، وكان يطلق ذلك اليوم على الخواتيم التي كانوا يختمون بها الرسائل.

__________________

(١) لسان العرب ، وقاموس اللغة مادّة ختم : الخاتم ما يوضع على الطينة.

(٢) أورد هذا الخبر أيضا البيهقي في سننه ، المجلّد ١٠ ، ص ١٢٨.

(٣) سفينة البحار ، المجلّد ١ ، صفحة ٣٨٦.

(٤) الطبقات الكبرى ، المجلّد ١ ، صفحة ٢٥٨.

٢٧٨

إضافة إلى أنّ هذه المادّة قد استعملت في القرآن في موارد متعدّدة ، وكلّها تعني الإنهاء أو الختم والغلق ، مثل :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ) .(١)

( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) (٢) .

ومن هنا يعلم أنّ الذين شكّكوا في دلالة هذه الآية على كون نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء ، وانتهاء سلسلة الأنبياء به ، غير مطّلعين على معنى هذه الكلمة تماما ، أو أنّهم تظاهروا بعدم الإحاطة والاطلاع عليها ، وإلّا فإنّ من له أدنى إحاطة بآداب العرب يعلم أنّ كلمة «خاتم النّبيين» تدلّ على الخاتمية.

وإذا قيل ـ عند ذاك ـ في تفسير هذه الآية غير هذا التّفسير فإنّه تفسير متطفّل غير متّزن ، كأن نقول : إنّ نبي الإسلام كان خاتم الأنبياء ، أي أنّه زينة الأنبياء ، لأنّ الخاتم آلة زينة للإنسان ، ولا يمكن أن يوازي الإنسان في المرتبة مطلقا ، وإذا فسّرنا الآية بهذا التّفسير فسنكون قد حططنا من مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنزلنا منزلته إلى أدنى المستويات ، مع إنّه لا يناسب المعنى اللغوي ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة حيثما استعملت في القرآن الكريم ـ في ثمانية موارد ـ فإنّها أعطت معنى الإنهاء والإغلاق.

٢ ـ أدلّة كون نبيّ الإسلام خاتما للأنبياء :

بالرغم من أنّ الآية المذكورة كافية لوحدها في إثبات هذا المطلب ، إلّا أنّ الدليل على كون نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما للأنبياء لا ينحصر بها ، فإنّ آيات اخرى في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى ، إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب :

فمن جملتها في الآية (١٩) من سورة الأنعام :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) سورة البقرة ، ٧.

٢٧٩

لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) فإنّ سعة مفهوم تعبير( وَمَنْ بَلَغَ ) توضّح رسالة القرآن ونبي الإسلام العالمية من جهة ، ومسألة الخاتمية من جهة اخرى.

وهناك آيات اخرى تثبت عمومية دعوة نبي الإسلام لكلّ البشر ، مثل :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) .(١)

وكقوله تعالى :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) .(٢)

والآية :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) .(٣)

إنّ ملاحظة سعة مفهوم «العالمين» و «الناس» و «الكافّة» تؤيّد هذا المعنى أيضا. إضافة إلى أنّ إجماع علماء الإسلام من جهة ، وكون هذه المسألة ضرورية لدى المسلمين من جانب آخر ، والروايات الكثيرة الواردة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وباقي أئمّة الهدىعليهم‌السلام من جانب ثالث توضّح هذا المطلب ، ونكتفي هنا بذكر بعضها من باب الشاهد والمثال :

١ ـ ورد في الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة»(٤) .

إنّ هذا التعبير مبيّن لاستمرار هذه الشريعة حتّى نهاية العالم وفنائه.

وقد روي هذا الحديث بهذه الصيغة أحيانا : «حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ، ولا يجيء غيره»(٥) .

٢ ـ حديث المنزلة المعروف ، والذي ورد في مختلف كتب الشيعة والسنّة ، وهو في شأن عليعليه‌السلام وبقائه مكان النّبي في المدينة عند ما توجّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غزوة تبوك.

فإنّه يوضّح مسألة الخاتمية تماما ، لأنّا نقرأ في هذا الحديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال

__________________

(١) سورة الفرقان ـ ١.

(٢) سورة سبأ ، ٢٨.

(٣) سورة الأعراف ، ١٥٨.

(٤) بحار الأنوار ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٢٦٠ باب ٣١ حديث ١٧.

(٥) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، باب البدع والرأي والمقاييس حديث ١٩.

٢٨٠