الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156463 / تحميل: 5909
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

قوله تعالى: ( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) قيد للتكذيب، و فسّروا اليقين بالموت لكونه ممّا لا شكّ فيه فالمعنى و كنّا في الدنيا نكذّب بيوم الجزاء حتّى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنّا نكذّب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقّيّة يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخيّة حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) تقدّم في بحث الشفاعة أنّ في الآية دلالة على أنّ هناك شافعين يشفعون فيشفّعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنّهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٨١

( سورة المدّثّر الآيات 49 - 56)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( 52 ) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

( بيان‏)

في معنى الاستنتاج ممّا تقدّم من الوعيد و الوعد اُورد في صورة التعجّب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفّرهم عن الحقّ الصريح كأنّه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحقّ و يتذكّروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلّا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كلّ امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلّا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثمّ يعرض عليهم التذكرة عرضاً فهم على خيرة من القبول و الردّ فإن شاؤا قبلوا و إن شاؤا ردّوا، لكن عليهم أن يعلموا أنّهم غير مستقلّين في مشيّتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلّا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتّة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) تفريع على ما تقدّم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و( لَهُمْ ) متعلّق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و( مُعْرِضِينَ ) حال من ضمير( لَهُمْ ) و( عَنِ التَّذْكِرَةِ ) متعلّق بمعرضين.

١٨٢

و المعنى: فإذا كان كذلك فأيّ شي‏ء كان - عرض - للمشركين الّذين يكذّبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدّقوا و يؤمنوا لكنّهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشيّة و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسّر بكلّ من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنّهم حمر وحشيّة نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) المراد بالصحف المنشّرة الكتاب السماويّ المشتمل على الدعوة الحقّة.

و في الكلام إضراب عمّا ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرّد النفرة بل يريد كلّ امرئ منهم أن ينزّل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنّهم إنّما يقبلون دعوته و لا يردّونها لو دعا كلّ واحد منهم بإنزال كتاب سماويّ إليه مستقلّاً و أمّا الدعوة من طريق الرّسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقّة مؤيّدة بالآيات البيّنة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) الأنعام: 124، و في معنى قول الاُمم لرسلهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) على ما قرّرنا من حجّتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إنّ الآية في معنى قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي حكاه الله في قوله:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: 93.

و يدفعه أنّ مدلول الآية أن ينزل على كلّ واحد منهم صحف منشّرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

١٨٣

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماويّ على كلّ واحد منهم فإنّ دعوة الرسالة مؤيّدة بآيات بيّنة و حجج قاطعة لا تدع ريباً لمرتاب فالحجّة تامّة قائمة على الرسول و غيره على حدّ سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كلّ واحد من الناس المدعوّين صحفاً منشّرة.

على أنّ الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحيّة النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و قوله:( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) إضراب عن قوله:( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و المراد أنّ اقتراحهم نزول كتاب على كلّ امرئ منهم قول ظاهريّ منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقيّ لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنّهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجّة بظهور الآيات البيّنات.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماويّ لكلّ امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتاباً كذلك إنّ القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعدّ للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أي فمن شاء اتّعظ به فإنّما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) دفع لما يمكن أن يتوهّموه من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أنّ الأمر إليهم و أنّهم

١٨٤

مستقلّون في إرادتهم و ما يترتّب عليها من أفعالهم فإن لم يشاؤا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصّل من الدفع أنّ حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكّرهم إن تذكّروا و إن كان فعلاً اختياريّاً صادراً عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشيّة الإلهيّة متعلّقة به بما هو اختياريّ بمعنى أنّ الله تعالى يريد بإرادة تكوينيّة أن يفعل الإنسان الفعل الفلانيّ بإرادته و اختياره فالفعل اختياريّ ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلّق الإرادة الإلهيّة ضروريّ التحقّق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقّق.

و قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل لأن يتّقى منه لأنّ له الولاية المطلقة على كلّ شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتّقاه لأنّه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) صالحة لتعليل ما تقدّم من الدعوة في قوله:( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) و هو ظاهر، و لتعليل قوله:( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلّين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمرّدهم و استكبارهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) و ذلك أنّهم قالوا: يا محمّد قد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفّارته.

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: يسألك قومك سنّة بني إسرائيل

١٨٥

في الذنوب فإن شاؤا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنّا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره ذلك لقومه.

أقول: و القصّة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدّيّ عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمّد صادقاً فليصبح تحت رأس كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصّة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: إلى فلان بن فلان من ربّ العالمين يصبح عند رأس كلّ رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدّمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: قد قال قائلون من الناس لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سرّك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصّة يأمرنا باتّباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأنّ الآية في معنى قوله تعالى:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) الآية و قد تقدّم ما فيه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: هو أهل أن يتّقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال الله عزّوجلّ: أنا أهل أن اُتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئاً و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئاً أن اُدخله الجنّة.

١٨٦

و قال: إنّ الله تبارك و تعالى أقسم بعزّته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن دينار قال: سمعت أباهريرة و ابن عمر و ابن عبّاس يقولون: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: يقول الله: أنا أهل أن اُتّقى فلا يُجعل معي شريك فإذا اتّقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٧

( سورة القيامة مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة القيامة الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لَا وَزَرَ ( 11 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

( بيان‏)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أوّلاً ثمّ تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان اُخرى، و ينبئ أنّ المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون( لا أُقْسِمُ ) كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنّه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد اُقسم بيوم

١٨٨

القيامة و لا اُقسم بالنفس اللوّامة.

و المراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانيّة أعمّ من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنّها تلوم الإنسان يوم القيامة أمّا الكافرة فإنّها تلومه على كفره و فجوره، و أمّا المؤمنة فإنّها تلومه على قلّة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الّتي تلومه يوم القيامة على ما قدّمت من كفر و معصية قال تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) يونس: 54.

و لكلّ من الأقوال وجه.

و جواب القسم محذوف يدلّ عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثنّ، و إنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: 187 و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه: 15 و قال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) النبأ: 1.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) الحسبان الظنّ، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) أي بلى نجمعها( و قادِرِينَ ) حال من فاعل مدخول بلى المقدّر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورها الّتي هي عليها بحسب خلقنا الأوّل.

و تخصيص البنان بالذكر - لعلّه - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيّات التركيب و العدد تترتّب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة الّتي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافاً إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط الّتي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ.

١٨٩

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئاً واحداً من غير تفريق كخفّ البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئاً واحداً فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدّد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدّم أرجح.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال الراغب: الفجر شقّ الشي‏ء شقّاً واسعاً. قال: و الفجور شقّ ستر الديانة يقال: فجر فجوراً فهو فاجر و جمعه فجّار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيّاً، و ضمير( أَمامَهُ ) للإنسان.

و قوله:( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) تعليل سادّ مسدّ معلّله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و( بَلْ ) إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

و المعنى: أنّه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذّب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه اُخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرّر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرّات.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) الظاهر أنّه بيان لقوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فيفيد التعليل و أنّ السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و اُنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البيّنة و قيام الحجج القاطعة أن يتّخذ حذره و يتجهّز بالإيمان و التقوى و يتهيّأ للقاء اليوم قريباً كان أو بعيداً فكلّ ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيّان يوم القيامة؟ فليس إلّا سؤال مكذّب مستهزئ.

قوله تعالى: ( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) ذكر

١٩٠

جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيّره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي أين موضع الفرار، و قوله:( أَيْنَ الْمَفَرُّ ) مع ظهور السلطنة الإلهيّة له و علمه بأن لا مفرّ و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفرّ إذا وقع في شدّة أو هدّدته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذباً قال تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23، و قال:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: 18.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا وَزَرَ ) ردع عن طلبهم المفرّ، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ‏ ) و هو متعلّق بقوله:( الْمُسْتَقَرُّ ) يفيد الحصر فلا مستقرّ إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

و ذلك أنّ الإنسان سائر إليه تعالى كما قال:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: 8 و قال:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فهو ملاقي ربّه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أمّا الحجاب الّذي يشير إليه قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15 فسياق الآيتين يعطي أنّ المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقرّه إليه رجوع أمر ما يستقرّ فيه من سعادة أو شقاوة و جنّة أو نار إلى مشيّته تعالى فمن شاء جعله في الجنّة و هم المتّقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) المائدة: 40.

١٩١

و يمكن أن يراد به أنّ استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88.

قوله تعالى: ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ) المراد بما قدّم و أخّر ما عمله من حسنة أو سيّئة في أوّل عمره و آخره أو ما قدّمه على موته من حسنة أو سيّئة و ما أخّر من سنّة حسنة سنّها أو سنّة سيّئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيّئات.

و قيل: المراد بما قدّم ما عمله من حسنة أو سيّئة فيثاب على الأوّل و يعاقب على الثاني، و بما أخّر ما تركه من حسنة أو سيّئة فيعاقب على الأوّل و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدّم من المعاصي و ما أخّر من الطاعات، و قيل، ما قدّم من طاعة الله و أخّر من حقّه فضيّعه، و قيل: ما قدّم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) إضراب عن قوله،( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ‏ ) إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطنيّ و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجّة كما في قوله تعالى،( ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) إسراء: 102 و الإنسان نفسه حجّة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلّم يداه و رجلاه، قال تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36، و قال( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) حم السجدة: 20. و قال،( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65.

و قوله:( وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

١٩٢

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال: نفس آدم الّتي عصت فلامها الله عزّوجلّ.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه، في قوله:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، في قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إنّي لأتعشّى مع أبي عبداللهعليه‌السلام و تلا هذه الآية( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) ، ثمّ قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداها إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً و يستر سيّئاً؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.

أقول: و رواه في اُصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العبّاس عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن العيّاشيّ عن زرارة قال، سألت أباعبداللهعليه‌السلام ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال،( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) هو أعلم بما يطيق.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضاً.

١٩٣

( سورة القيامة الآيات 16 - 40)

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 ) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ( 33 ) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 35 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 39 ) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ( 40 )

( بيان‏)

تتمّة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و اُخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أنّ هذا

١٩٤

المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثمّ الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يترك سدىً فالّذي خلقه أوّلاً قادر على أن يحييه ثانياً و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ - إلى قوله -ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمّن أدباً إلهيّاً كلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرّك به لسانه و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرّد للإنصات فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) الخطاب فيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الضميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مرّ في معنى قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) القرآن ههنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتّبع

١٩٥

قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهناً بالإنصات و التوجّه التامّ إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتّبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتكرار حتّى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثمّ للتأخير الرتبيّ لأنّ البيان مترتّب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثمّ إنّ علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغيّر و الزوال حتّى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرّك لسانه عند الوحي بما اُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و اُمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي فضمير( لا تُحَرِّكْ بِهِ‏ ) للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله،( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد

١٩٦

لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثمّ إنّ علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بِهِ) ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ( لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) أي بالعلم به( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخّصاً و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) إنّ هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الروايات أنّ للقرآن نزولاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأنّ خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) اعتراضيّ غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله:( كَلَّا ) ردع عن قوله السابق:( يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) و قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا -( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها

١٩٧

حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله:( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهلّلة ظاهرة المسرّة و البشاشة قال تعالى:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، و قال:( وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الدهر: 11.

و قوله:( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و( إِلى‏ رَبِّها ) متعلّق بناظرة قدّم عليها لإفادة الحصر أو الأهمّيّة.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّيّ المتعلّق بالعين الجسمانيّة المادّيّة الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقّه تعالى بل المراد النظر القلبيّ و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمةعليهم‌السلام و قد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: 143، و قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجّهة إلى ربّهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطّع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفاً من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلّا و الرحمة الإلهيّة شاملة لهم( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) النمل: 89 و لا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنّة و لا يتنعّمون بشي‏ء من نعيمها إلّا و هم يشاهدون ربّهم به لأنّهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئاً إلّا من حيث إنّه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنّها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اُورد على القول بأنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) على( ناظِرَةٌ ) يفيد الحصر و الاختصاص، أنّ من الضروريّ أنّهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنّة.

و الجواب أنّهم لمّا لم يحجبوا عن ربّهم كان نظرهم إلى كلّ ما ينظرون إليه إنّما هو بما أنّه آية، و الآية بما أنّها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين

١٩٨

الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلّا إلى ربّهم.

و أمّا ما اُجيب به عنه أنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) لرعاية الفواصل و لو سلّم أنّه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعدّ نظراً، و لو سلّم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلّف التقييد من غير مقيّد على أنّه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنّة إلى ربّهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فسّر البسور بشدّة العبوس و الظنّ بالعلم و( فاقِرَةٌ ) صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنّه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم اُنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظنّ خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع و الظنّ بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ردع عن حبّهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنّه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربّكم و فاعل( بَلَغَتِ ) محذوف يدلّ عليه السياق كما في قوله تعالى:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه

١٩٩

الأحوال أنّه مفارقته للعاجلة الّتي كان يحبّها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ظاهره أنّ المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدّة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدّة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدّة هول المطّلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد اُخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كلّ من المعاني.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنّه الرجوع إليه، و عبّر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسيّر من يوم موته و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) حتّى يرد على ربّه يوم القيامة و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و لو كان تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربّك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربّك و هو الجنّة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنّه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) إلخ، و المراد بالتصديق المنفيّ تصديق الدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفيّة التوجّه العباديّ إليه تعالى بالصلاة الّتي هي عمود الدين.

و التمطّي - على ما في المجمع - تمدّد البدن من الكسل و أصله أن يلوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ) وكان لا بدّ أن يتمّ هذا الأمر( وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ) .

«الأدعياء» جمع «دعي» ، أي الابن المتبنّى ، و «الوطر» هو الحاجة المهمّة ، وإختيار هذا التعبير في مورد طلاق زينب للطف البيان ، لئلّا يصرّح بالطلاق الذي يعدّ عيبا للنساء ، بل وحتّى للرجال ، فكأنّ كلا من هذين الشخصين كان محتاجا للآخر ليحيا حياة مشتركة لمدّة معيّنة ، وافتراقهما كان نتيجة لانتفاء هذه الحاجة ونهايتها.

والتعبير بـ( زَوَّجْناكَها ) دليل على أنّ هذا الزواج كان زواجا بأمر الله ، ولذلك ورد في التواريخ أنّ زينب كانت تفتخر بهذا الأمر على سائر زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت تقول : زوّجكنّ أهلوكنّ وزوّجني الله من السماء(١) .

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ القرآن الكريم يبيّن بمنتهى الصراحة الهدف الأصلي من هذا الزواج ، وهو إلغاء سنّة جاهلية كانت تقضي بمنع الزواج من مطلّقات الأدعياء ، وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة كلّية ، وهي أنّ تعدّد زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن أمرا عاديا بسيطا ، بل كان يرمي إلى أهداف كان لها أثرها في مصير دينه.

وجملة( كانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ) إشارة إلى وجوب الحزم في مثل هذه المسائل ، وكلّ عمل ينبغي فعله يجب أن ينجز ويتحقّق ، حيث لا معنى للاستسلام أمام الضجيج والصخب في المسائل التي تتعلّق بالأهداف العامّة والأساسية.

ويتّضح من التّفسير الواضح الذي أوردناه في بحث الآية أعلاه أنّ الادّعاءات التي أراد الأعداء أو الجهلاء إسنادها لهذه الآية لا أساس لها مطلقا ، وسنعطي في بحث الملاحظات توضيحا أكثر في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

وتقول الآية الأخيرة في تكميل المباحث السابقة :( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، المجلد ٢ ، ص ١٧٧. ومما يستحق الالتفات أن زواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب قد تم في السنة الخامسة للهجرة ، المصدر السابق.

٢٦١

فِيما فَرَضَ اللهُ ) فحيث يأمره الله سبحانه لا تجوز المداهنة في مقابل أمره تعالى ، ويجب تنفيذه بدون أيّ تردّد.

إنّ القادة الربانيين يجب أن لا يصغوا إلى كلام هذا وذاك لدى تنفيذ الأوامر الإلهيّة ، أو يراعوا الأجواء السياسية والآداب والأعراف الخاطئة السائدة في المحيط ، وربّما كان هذا الأمر قد صدر لتمزيق هذه الأعراف المغلوطة ، ولتحطيم البدع القبيحة.

إنّ القادة الإلهيين يجب أن ينفّذوا أمر الله بدون خوف من الملامة والعتاب والضجّة والغوغاء ، وأن كونوا مصداق( وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) .(١)

إنّنا إذا أردنا أن نجلس وننتظر رضا الجميع وسرورهم ثمّ ننفّذ أمر الله سبحانه ، فلنعلم أنّ هذا الأمر لا يمكن تحقّقه ، لأنّ بعض الفئات لا ترضى حتّى نستسلم لما تريد ونتّبع دينها وفكرها ، كما يقول القرآن الكريم ذلك :( وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) .

(٢) وكذلك كان الأمر في مورد الآية التي نبحثها ، لأنّ زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب كان يكتنفه في أفكار الناس العامّة إشكالان كما قلنا :

الأوّل : أنّ الزواج بمطلّقة المدّعى كان في نظر أولئك كالزواج بزوجة الابن الحقيقي ، وكانت هذه بدعة يجب أن تلغى.

والآخر : أنّ زواج رجل مرموق له مكانته في المجتمع كالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من مطلّقة غلام محرّر كان يعدّ عيبا وعارا ، لأنّه يجعل النّبي والعبد في مرتبة واحدة ، وهذه الثقافة الخاطئة كان يجب أن تقلع وتجتث من الجذور لتزرع مكانها القيم الإنسانية ، وكون الزوجين كفؤين لبعضهما إنّما يستقيم ويقاس على أساس الإسلام والإيمان والتقوى وحسب.

__________________

(١) المائدة ، ٥٤.

(٢) البقرة ، ١٢٠.

٢٦٢

وأساسا فانّ مخالفة السنن والأعراف ، واقتلاع الآداب والعادات الخرافية وغير الإنسانية يقترن عادة بالضجيج والغوغاء والصخب ، وينبغي أن لا يهتمّ الأنبياء بهذا الضجيج والصخب مطلقا ، ولذلك تعقب الجملة التالية فتقول :( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) .

فلست الوحيد المبتلى بهذه المشكلة ، بل إنّ الأنبياء جميعا كانوا يعانون هذه المصاعب عند مخالفتهم سنن مجتمعاتهم ، وعند سعيهم لاجتثاث اصول الأعراف الفاسدة منها.

ولم تكن المشكلة الكبرى منحصرة في محاربة هاتين السنّتين الجاهليتين ، بل إنّ هذا الزواج لمّا كان مرتبطا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه يمكن أن يعطي الأعداء حربة اخرى ليعيبوا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعله ، ويطعنوا في دينه ، وسيأتي تفصيل ذلك.

ويقول الله سبحانه في نهاية الآية تثبيتا لاتّباع الحزم في مثل هذه المسائل الأساسية :( وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) .

إنّ التعبير بـ( قَدَراً مَقْدُوراً ) قد يكون إشارة إلى كون الأمر الإلهي حتميا ، ويمكن أن يكون دالا على رعاية الحكمة والمصلحة فيه ، إلّا أنّ الأنسب في مورد الآية أن يراد منه كلا المعنيين ، أي أنّ أمر الله تعالى يصدر على أساس الحساب الدقيق والمصلحة ، وكذلك لا بدّ من تنفيذه بدون استفهام أو تلكّؤ.

والطريف أنّنا نقرأ في التواريخ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أولم للناس ووليمة عامّة لم يكن لها نظير فيما

سبق اقترانه بزوجاته(١) ، فكأنّه أراد بهذا العمل أن يبيّن للناس أنّه غير قلق ولا خائف من السنن الخرافية التي كانت سائدة في تلك البيئة ، بل إنّه يفتخر بتنفيذ هذا الأمر الإلهي ، إضافة إلى أنّه كان يطمح إلى أن يصل صوت إلغاء هذه السنّة الجاهلية إلى آذان جميع من في جزيرة العرب عن هذا الطريق.

* * *

__________________

(١) يروي المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : فتزوّجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة ، وأطعم الناس الخبز واللحم حتّى امتدّ النهار. مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٣٦١.

٢٦٣

بحثان

١ ـ أساطير كاذبة

مع أنّ القرآن الكريم كان غاية في الصراحة في قصّة زواج النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب ، وفي تبيان هذه المسألة ، والهدف من هذا الزواج ، وأعلن أنّ الهدف هو محاربة سنّة جاهلية فيما يتعلّق بالزواج من مطلّقة الابن المدّعى ، إلّا أنّها ظلّت مورد استغلال جمع من أعداء الإسلام ، فحاولوا اختلاق قصّة غرامية منها ليشوّهوا بها صورة النّبي المقدّسة ، واتّخذوا من الأحاديث المشكوك فيها أو الموضوعة في هذا الباب آلة وحربة يلوّحون بها.

ومن جملة ذلك ما كتبوه من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء إلى دار زيد ليسأل عن حاله ، فما إن فتح الباب حتّى وقعت عينه على جمال زينب ، فقال : «سبحان الله خالق النور! تبارك الله أحسن الخالقين» واتّخذوا هذه الجملة دليلا على تعلّق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب.

في حين أنّ هناك دلائل واضحة ـ بغضّ النظر عن مسألة العصمة والنبوّة ـ تكذّب هذه الأساطير :

الاولى : أنّ زينب كانت بنت عمّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تربيّا وكبرا معا في محيط عائلي تقريبا ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي خطبها بنفسه لزيد ، وإذا كان لزينب ذلك الجمال الخارق ، وعلى فرض أنّه استرعى انتباهه ، فلم يكن جمالها أمرا خافيا عليه ، ولم يكن زواجه منها قبل هذه الحادثة أمرا عسيرا ، بل إنّ زينب لم تبد أي رغبة في الاقتران بزيد ، بل أعلنت مخالفتها صراحة ، وكانت ترجّح تماما أن تكون زوجة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بحيث أنّها سرّت وفرحت عند ما ذهب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لخطبتها ظنّا منها بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطبها لنفسه ، إلّا أنّها رضخت لأمر الله ورسوله بعد نزول هذه الآية القرآنية وتزوّجت زيدا.

مع هذه المقدّمات هل يبقى مجال لهذا الوهم بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن عالما بحال

٢٦٤

زينب وجمالها؟ وأيّ مجال لهذا الظنّ الخاطئ بأن يكون راغبا في الزواج منها ولا يستطيع الإقدام عليه؟

والثّانية : أنّ زيدا عند ما كان يراجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لطلاق زوجته زينب ، كان النّبي ينصحه مرارا بصرف النظر عن هذا الأمر ، وهذا بنفسه شاهد آخر على بطلان هذه الادّعاءات والأساطير.

ومن جهة اخرى فإنّ القرآن الكريم قد أوضح الهدف من هذا الزواج بصراحة لئلّا يبقى مجال لأقاويل اخرى.

ومن جهة رابعة قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ الله تعالى يقول : قد كان في حادثة زواج النّبي بمطلّقة زيد أمر كان النّبي يخشى الناس فيه ، في حين أنّ خشيته من الله أحقّ من الخشية من الناس.

إنّ مسألة خشية الله سبحانه توحي بأنّ هذا الزواج قد تمّ كتنفيذ لواجب شرعي ، يجب عنده طرح كلّ الاعتبارات الشخصية جانبا من أجل الله تعالى ليتحقّق هدف مقدّس من أهداف الرسالة ، حتّى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتّهاماتهم للنبي ، وكان هذا هو الثمن الباهض الذي دفعه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولا زال يدفعه إلى الآن ـ في مقابل طاعة أمر الله سبحانه ، وإلغاء عرف خاطئ وسنّة مبتدعة.

إلّا أنّ هناك لحظات حرجة في حياة القادة المخلصين تحتّم عليهم أن يضحّوا ويعرّضوا أنفسهم فيها الاتّهام أمثال هؤلاء الأفراد ليتحقّق هدفهم!

أجل لو كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم ير زينب من قبل مطلقا ، ولم يكن يعرفها ، ولم يكن لدى زينب الرغبة في الاقتران به ، ولم يكن زيد مستعدّا لطلاقها ـ وبغضّ النظر عن مسألة النبوّة والعصمة ـ لكان هناك مجال لمثل هذه الأقاويل والتخرّصات ، لكن بملاحظة انتفاء كلّ هذه الظروف يتّضح كون هذه الأكاذيب مختلفة.

إضافة إلى أنّ تاريخ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعكس أي دليل أو صورة تدلّ على وجود

٢٦٥

رغبة خاصّة لديهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الزواج من زينب ، بل هي كسائر الزوجات ، بل ربّما كانت أقل من بعض الزوجات من بعض الجهات ، وهذا شاهد تأريخي آخر على نفي هذه الأساطير.

ونرى في نهاية المطاف ضرورة الإشارة إلى احتمال أن يقول شخص : إنّ محاربة مثل هذه السنّة الخاطئة واجب ، ولكن أيّة ضرورة تدعو إلى أن يقتحم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الميدان بنفسه؟ فقد كان بإمكانه أن يطرح هذه المسألة ويبيّنها كقانون ، ويرغب الآخرين في الزواج من مطلّقة المتبنّي.

غير أنّ مخالفة سنّة جاهلية خاطئة ـ خاصّة وأنّها تتعلّق بالزواج من أفرادهم دون شأن المقابل ظاهرا ـ قد تكون غير مقبولة بالكلام والتقنين أحيانا ، إذ يقول الناس : إذا كان هذا الأمر حسنا فلما ذا لم يفعله هو؟ لم لم يتزوّج بمطلّقة عبده المعتق وابنه المتبنى؟

في مثل هذه الموارد ينهي الإقدام والإجراء العملي كلّ هذه الأسئلة والإشكالات ، وعندها ستتكسّر وتتلاشى تلك السنّة الخاطئة. إضافة إلى أنّ هذا العمل كان بنفسه تضحية وإيثارا.

٢ ـ روح الإسلام التسليم أمام الله

لا شكّ أنّ استقلال الإنسان الفكري والروحي لا يسمح له أن يستسلم لأحد بدون قيد أو شرط ، لأنّه إنسان مثله ، ومن الممكن أن تكون له أخطاء واشتباهات في المسائل.

أمّا إذا انتهت المسألة إلى الله العالم والحكيم ، والنّبي الذي يتحدّث عنه ويسير بأمره ، فإنّ عدم التسليم المطلق دليل على الضلال والانحراف ، حيث لا يوجد أدنى اشتباه في أوامره سبحانه. إضافة إلى أنّ أمره حافظ لمنافع الإنسان نفسه ، ولا يعود شيء على ذاته المقدّسة ، فهل يوجد إنسان عاقل يسحق مصالحه برجله

٢٦٦

بعد تشخيص هذه الحقيقة؟

ومضافا إلى ذلك فإنّنا منه تعالى ، وكلّ ما لدينا منه ، ولا يمكن أن يكون لنا أمر وقرار إلّا التسليم لإرادته وأمره ، ولذلك ترى بين دفّتي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه المسألة :

فمرّة تقول آية :( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .(١)

وتقول اخرى :( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) .(٢)

ويقول القرآن في موضع آخر :( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) .(٣)

إنّ «الإسلام» أخذ من مادّة «التسليم» ، وهو يشير إلى هذه الحقيقة ، وبناء على هذا فإنّ كلّ إنسان يتمتّع بروح الإسلام بمقدار تسليمه لله سبحانه.

ينقسم الناس عدّة أقسام من هذه الناحية : فقسم يسلّمون لأمر الله في الموارد التي تنفعهم فقط ، وهؤلاء في الحقيقة مشركون انتحلوا اسم الإسلام ، وعملهم تجزئة لأحكام الله تعالى ، فهم مصداق( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) فإيمانهم في الحقيقة إيمان بمصالحهم لا بالله تعالى.

وآخرون جعلوا إرادتهم تبعا لإرادة الله ، وإذا تعارضت منافعهم الزائلة مع أمر الله سبحانه ، فإنّهم يغضّون الطرف عنها ويسلّمون لأمر الله ، وهؤلاء هم المؤمنون والمسلمون الحقيقيون.

والقسم الثالث أسمى من هؤلاء ، فهم لا يريدون إلّا ما أراد الله ، وليس في

__________________

(١) النور ، ٥١.

(٢) النساء ، ٦٥.

(٣) النساء ، ١٢٥.

٢٦٧

قلوبهم إلّا ما يشاؤه سبحانه ، فقد بلغوا مرتبة من التسامي لا يحبّون معها إلّا ما يحبّه الله ، ولا يبغضون إلّا ما أبغضه اللهعزوجل .

هؤلاء هم الخاصّة والمخلصون والمقرّبون لديه ، فقد صبغ التوحيد كلّ وجودهم ، وغرقوا في حبّه ، وفنوا في جماله(١) .

* * *

__________________

(١) لقد أوردنا بحثا آخر في هذا الباب في ذيل الآية (٦٥) من سورة النساء.

٢٦٨

الآية

( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) )

التّفسير

من هم المبلّغون الحقيقيون؟

تشير الآية مورد البحث ، ومناسبة للبحث الذي مرّ حول الأنبياء السابقين في آخر آية من الآيات السابقة ، إلى أحد أهم برامج الأنبياء العامّة ، فتقول :( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) .

وكذلك الحال بالنسبة إليك ، فينبغي أن لا تخش أحدا في تبليغ رسالات الله ، وعند ما يأمرك الله سبحانه أن حطّم سنّة جاهلية خاطئة في مسألة زواج مطلّقة المتبنّي ، وتزوّج بزينب مطلّقة زيد ، فيجب أن لا تدع لأدنى قلق وخوف من قول هذا وذاك في تأدية هذا التكليف إلى نفسك سبيلا ، فإنّ هذه سنّة جميع الأنبياءعليهم‌السلام .

إنّ عمل الأنبياءعليهم‌السلام في كثير من المراحل هو كسر مثل هذه السنن والأعراف عادة ، ولو أنّهم سمحوا لأقلّ خوف وتردّد أن ينفذ إلى نفوسهم فسوف يفشلون في

٢٦٩

أداء رسالاتهم ، فيجب على هذا أن يسيروا بحزم وثبات ، ويستوعبوا كلمات المسيئين الجارحة غير المتزنة ، ويستمرّوا في طريقهم دون أن يهتّموا باصطناع الأجواء ضدّهم ، وضجيج العوام ، وتآمر الفاسدين والمفسدين وتواطئهم ، لأنّ كلّ الحسابات بيد الله سبحانه ، ولذلك تقول الآية في النهاية :( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) .

إنّه يحسب إيثار الأنبياء وتضحياتهم في هذا الطريق ويجزيهم عليها ، كما يحفظ كلمات الأعداء البذيئة وثرثرتهم ليحاسبهم عليها ويجازيهم.

إنّ جملة :( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) دليل في الحقيقة على أنّ القادة الإلهيين يجب أن لا يخشوا شيئا أو أحدا في إبلاغ الرسالات ، لأنّ الله سبحانه هم المحصي لجهودهم ، وهو المثيب عليها.

* * *

ملاحظات

١ ـ المراد من «التبليغ» هنا هو الإبلاغ والإيصال ، وعند ما يرتبط الأمر بـ «رسالات الله» فإنّه يعني أن يعلّم الأنبياء الناس ما علّمهم الله عن طريق الوحي ، وأن ينفذوه إلى القلوب عن طريق الاستدلال والإنذار والتبشير والموعظة والنصيحة.

٢ ـ «الخشية» تعني الخوف المقترن بالتعظيم والاحترام ، ويختلف عن الخوف المجرّد من هذه الخاصية من هذه الجهة. وقد تستعمل أحيانا بمعنى مطلق الخوف.

وقد ورد في مؤلّفات المحقّق «الطوسي» كلام في الفرق بين هذين اللفظين ، وهو في الحقيقة يشير إلى المعنى العرفاني لا اللغوي ، فانّه يقول : إنّ الخشية والخوف وإن كانا في اللغة بمعنى واحد ـ أو يقربان من معنى واحد ـ إلّا أنّ بينهما فرقا لدى أهل البصائر ، وهو : إنّ «الخوف» يعني القلق والاضطراب الداخلي من العواقب التي ينتظرها الإنسان نتيجة ارتكابه المعاصي والذنوب ، أو تقصيره في

٢٧٠

الطاعة ، وهذه الحالة تحصل لأغلب الناس وإن اختلفت درجاتها ، أمّا أعلى مراتبها فلا تحصل إلّا لفئة قليلة منهم.

أمّا «الخشية» فهي الحالة التي تحصل للإنسان لدى إدراكه عظمة الله وهيبته ، والخوف من بقائه مبعدا عن أنوار فيضه ، وهذه الحالة لا تحصل إلّا لأولئك الذين وقفوا على عظمة ذاته المقدّسة وجلال كبريائه ، وتذوّقوا طعم قربه ، ولذلك عدّ القرآن هذه الحالة خاصّة بعباد الله العلماء فقال :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (١) .

٣ ـ جواب عن سؤال؟

قد يقال : إنّ هذه الآية تتناقض مع ما مرّ في الآيات السابقة ، فهي تقول هنا : إنّ أنبياء الله لا يخشون إلّا الله ، ولا يخشون أحدا غيره ، إلّا أنّه قد ورد في الآيات السابقة :( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) ؟

إلّا أنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بتأمّل النقطتين التاليتين :

الاولى : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما كان خائفا من عدم تحمّل عدد كبير من الناس لنقض هذه السنّة ، ومن عدم استيعابهم للمسألة ، وبذلك ستتزعزع أسس إيمانهم من هذه الجهة ، ومثل هذه الخشية ترجع في الحقيقة إلى خشية الله سبحانه.

والاخرى : أنّ الأنبياء لا يعيشون حالة الخوف والقلق من شخص ما في تبليغهم رسالات الله ، أمّا في ما يتعلّق بأمور الحياة الشخصية والخاصّة فلا مانع من أن يخافوا من أمر خطير كاتّهام وطعن الناس ، أو أن يكونوا كموسىعليه‌السلام إذ خاف ـ حسب الطبيعة البشرية ـ عند ما ألقى العصا وتحوّلت إلى ثعبان عظيم ، فإنّ مثل هذا الخوف والاضطراب إذا لم يكن مفرطا لا يعدّ عيبا ونقصا ، بل قد يواجه هذه

__________________

(١) مجمع البحرين مادّة خشي.

٢٧١

المسألة أشجع الناس أحيانا ، إنّما العيب والنقص هو الخوف من أداء التكليف الإلهي في الحياة الاجتماعية.

٤ ـ هل كان الأنبياء يستعملون التقيّة؟

استفاد جماعة من هذه الآية أنّ التقيّة حرام مطلقا للأنبياء في تبليغ الرسالة ، لأنّ القرآن يقول :( وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) .

غير أنّه يجب الانتباه إلى أنّ للتقيّة أنواعا ، ولم تنف الآية في مورد دعوة الأنبياء وإبلاغ الرسالة إلّا نوعا واحدا ، وهو التقيّة خوفا ، في حين أنّ للتقيّة أنواعا منها التقيّة مداراة وتورية.

والمراد من التقيّة المداراتية أن يكتم الإنسان عقيدته أحيانا لجلب محبّة الطرف المقابل ليقوى على استمالته للتعاون في الأهداف المشتركة.

والمراد من تقيّة «التورية» والإخفاء هو أنّه يجب أن تخفى المقدّمات والخطط للوصول إلى الهدف ، فإنّها إن أفشيت وانتشرت بين الناس وأصبحت علنية ، وأطلع العدوّ عليها فمن الممكن أن يقوم باجهاضها.

إنّ حياة الأنبياء ـ وخاصّة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مليئة بموارد التقيّة هذه ، لأنّا نعلم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان كثيرا ما يخفي أهدافه ومقاصده عند ما كان يتوجّه إلى ميدان الحرب ، وكان يرسم خططه الحربية بخفاء تامّ ، وكان يستخدم أسلوب الاستتار والتخفّي ـ والذي هو نوع من التقيّة ـ في جميع المراحل.

وكان يتّبع أحيانا أسلوب «المراحل» ـ وهو نوع من التقيّة ـ لبيان حكم ما ، فمثلا نرى أنّ مسألة تحريم الربا أو شرب الخمر لم تبيّن في مرحلة واحدة ، بل تمت في مراحل متعدّدة بأمر الله سبحانه ، أي أنّها تبدأ من المراحل الأبسط والأسهل حتّى تنتهي بالحكم النهائي الأساسي.

وعلى أيّة حال ، فإنّ للتقيّة معنى واسعا ، وهو : (إخفاء الحقائق والواقع للحفاظ

٢٧٢

على الأهداف من التعرّض للخطر والانهيار) وهذا الشيء متعارف بين عقلاء العالم ، والقادة الربّانيون يفعلون ذلك في بعض المراحل للوصول إلى أهدافهم المقدّسة ، كما نقرأ ذلك في قصّة «إبراهيم»عليه‌السلام بطل التوحيد ، حيث أخفى هدفه من البقاء في المدينة في اليوم الذي يخرج فيه عبدة الأصنام خارج المدينة لإجراء مراسم العيد ليستغلّ فرصة مناسبة فينهال على الأصنام ويحطّمها.

وكذلك أخفى «مؤمن آل فرعون» إيمانه ليستطيع أن يعيّن موسىعليه‌السلام في اللحظات الحسّاسة وينقذه من القتل ، ولهذا السبب ذكر القرآن له تسعة مواقف وصفات عظيمة.

ومن هنا نعلم أنّ التقيّة خوفا فقط غير جائزة على الأنبياء ، لا الأنواع الاخرى للتقيّة.

وبالرغم من أنّ الكلام في هذا الباب كثير ، إلّا أنّنا ننهي هذا البحث بحديث جامع غنيّ المحتوى عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «التقيّة ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة ترس الله في الأرض ، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل»(١) .

وكان لنا بحث مفصّل حول التقيّة في ذيل الآية (١٠٦) من سورة النحل.

٥ ـ شرط الإنتصار في التبليغ :

إنّ الآية المذكورة دليل واضح على أنّ الحزم والإخلاص وعدم الخوف من أي أحد إلّا الله تعالى ، شرط أساسي في التقدّم والرقي في مجال الإعلام والتبليغ.

الأشخاص الذين يراعون رغبات وميول هذا وذاك في مقابل أمر الله ، ويوجّهون الحقّ والعدالة بما يناسب أهواءهم ، سوف لا يحصلون على نتيجة

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٥٢١ ذيل الآية (٢٨) من سورة المؤمن.

٢٧٣

مطلقا ، فلا نعمة أسمى من نعمة الهداية ، ولا خدمة أنفع من إهداء هذه النعمة للبشرية ، ولذلك كان جزاء وثواب هذا العمل أعظم من كلّ ثواب وعطاء ، ومن هنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن وقال لي : يا علي لا تقاتلن أحدا حتّى تدعوه ، وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير ممّا طلعت الشمس وغربت»(١) .

ولهذا السبب أيضا يجب أن يستغني المبلّغون الحقيقيون عن الناس ، ولا يخافون أي مقام ومنصب ، فإنّ تلك الحاجة والخوف سيتركان أثرا على أفكارهم وإرادتهم شاءوا أم أبوا.

إنّ المبلّغ الإلهي يفكّر فقط ـ بمقتضى( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) ـ بأنّ محصي الأعمال والمحاسب عليها هو الله تعالى ، وبيده جزاؤه وثوابه ، وهذا الوعي والعرفان هو الذي يمدّه ويعينه في هذا الطريق المليء بالعقبات.

* * *

__________________

(١) الكافي ، طبقا لنقل البحار ، الجزء ٢١ ، صفحة ٣٦١.

٢٧٤

الآية

( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) )

التّفسير

مسألة الخاتمية :

هذه الآية هي آخر ما بيّنه الله سبحانه فيما يتعلّق بمسألة زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمطلّقة زيد لكسر عرف جاهلي خاطئ ، وهي جواب مختصر كآخر جواب يقال هنا ، وتبيّن في نهايتها حقيقة مهمّة اخرى ـ وهي مسألة الخاتمية ـ بمناسبة خاصّة.

تقول أوّلا :( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) لا زيد ولا غيره ، وإذا ما أطلقوا عليه يوما انّه «ابن محمّد» فإنّما هو مجرّد عادة وعرف ليس إلّا ، وما إن جاء الإسلام حتّى اجتثّت جذوره ، وليس هو رابطة طبيعيّة عائلية.

طبعا كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أولاد حقيقيون ، وأسماؤهم «القاسم» و «الطيّب» و «الطاهر» و «إبراهيم» ، إلّا أنّهم ـ طبقا لنقل المؤرخّين ـ جميعا قد ودّعوا هذه الدنيا وارتحلوا عنها قبل البلوغ ، ولذلك لم يطلق عليهم أنّهم «رجال»(١) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير الميزان ذيل الآية مورد البحث.

٢٧٥

والإمامان الحسن والحسينعليهما‌السلام اللذان كانوا يسمّونهم أولاد النّبي رغم أنّهما بلغا سنين متقدّمة في العمر ، إلّا أنّهما كانا لا يزالان صغيرين عند نزول هذه الآية.

بناء على هذا فإنّ جملة :( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) والتي وردت بصيغة الماضي ، كانت صادقة في حقّ الجميع قطعا.

وإذا ما رأينا في بعض تعبيرات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه أنّه يقول : «أنا وعلي أبوا هذه الامّة» فمن المسلّم أنّ المراد لم يكن الابوّة النسبية ، بل الابوّة الناشئة من التعليم والتربية والقيادة والإرشاد.

مع هذه الحال ، فإنّ الزواج من مطلقّة زيد ـ والذي بيّن القرآن فلسفته بصراحة بأنّه إلغاء للسنن الخاطئة ـ لم يكن شيئا يبعث على البحث والجدال بين هذا وذاك ، أو أنّهم يريدون أن يتّخذوه وسيلة للوصول إلى نواياهم السيّئة.

ثمّ تضيف : بأنّ علاقة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معكم إنّما هي من جهة الرسالة والخاتمية فقط( وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وبهذا قطع صدر الآية الارتباط والعلاقة النسبية بشكل تامّ وقطعي ، وأثبت ذيلها العلاقة المعنوية الناشئة من الرسالة والخاتمية ، ومن هنا يتّضح ترابط صدر الآية وذيلها.

هذا إضافة إلى أنّ الآية تشير إلى حقيقة هي : أنّ علاقته معكم في الوقت نفسه أشدّ وأسمى من علاقة والد بولده ، لأنّ علاقته علاقة الرّسول بالامّة ، ويعلم أنّ سوف لا يأتي رسول بعده ، فكان يجب عليه أن يبيّن لهذه الامّة ويطرح لها كلّ ما تحتاجه إلى يوم القيامة في منتهى الدقّة وغاية الحرص عليها.

ولا شكّ أنّ الله العليم الخبير قد وضع تحت تصرّفه كلّ ما كان لازما في هذا الباب ، من الأصول والفروع ، والكليّات والجزئيات في جميع المجالات ، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية :( وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) .

وينبغي الالتفات إلى أنّ كونه «خاتم الأنبياء» يعني أيضا أنّه خاتم المرسلين ، وما ألصقه بعض مبتدعي الأديان لخدش كون مسألة الخاتمية بهذا المعنى ، من أنّ

٢٧٦

القرآن قد اعتبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء لا خاتم المرسلين ، إنّما هو اشتباه كبير ، لأنّ من كان خاتما للأنبياء يكون خاتما للرسل بطريق أولى ، لأنّ مرحلة «الرسالة» أسمى من مرحلة «النبوّة» ـ تأمّلوا ذلك ـ.

إنّ هذا الكلام يشبه تماما أن نقول : إنّ فلانا ليس في بلاد الحجاز ، فمن المسلّم أنّ هذا الشخص سوف لا يكون موجودا في مكّة ، أمّا إذا قلنا : إنّه ليس في مكّة ، فمن الممكن أن يكون في مكان آخر من الحجاز.

بناء على هذا ، فإنّه تعالى لو كان قد سمّى النّبي خاتم المرسلين ، فمن الممكن أن لا يكون خاتم الأنبياء ، أمّا وقد سمّاه «خاتم الأنبياء» فمن المسلّم أنّه سيكون خاتم الرسل أيضا ، وبتعبير المصطلحات فإنّ النسبة بين النّبي والرّسول نسبة العموم والخصوص المطلق.

* * *

بحوث

١ ـ ما هو الخاتم؟

«الخاتم» ـ على زنة حاتم ـ لدى أرباب اللغة : هو الشيء الذي تنهى به الأمور ، وكذلك جاء بمعنى الشيء الذي تختم به الأوراق وما شابهها.

وكان هذا الأمر متداولا فيما مضى ـ ولا يزال إلى اليوم ـ حينما يريدون إغلاق الرسالة أو غطاء الوعاء أو باب المنزل لئلّا يفتحها أحد ، فإنّهم كانوا يضعون مادّة لاصقة على الباب أو القفل ويختمون عليها. ويكون هذا الخاتم من الصلابة بحيث إنّه لا بدّ من كسره إذا ما أريد فتح الباب ، وهذه المادّة التي توضع على مثل هذه الأشياء تسمّى «خاتما».

ولمّا كانوا في السابق يستعملون لهذا الأمر الطين الصلب الذي يلصق ، فإنّنا نقرأ

٢٧٧

في متون بعض كتب اللغة المعروفة أنّ معنى الخاتم هو «ما يوضع على الطينة»(١) .

كلّ ذلك بسبب أنّ هذه الكلمة مأخوذة من مادّة «الختم» أي النهاية ، ولمّا كان هذا العمل ـ أي الختم ـ يجري في الخاتمة والنهاية فقد اطلق عليه اسم الخاتم لذلك.

وإذا ما رأينا أنّ أحد معاني الخاتم هو الخاتم الذي يوضع في اليد ، فبسبب أنّهم كانوا يضعون إمضاءهم وتوقيعهم على خواتيمهم ويختمون الرسائل بها ، ولذلك فإنّ من جملة الأمور التي تذكر في أحوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدىعليهم‌السلام والشخصيات الاخرى هو نقش خاتمهم.

ويروي «الكليني» ـرحمه‌الله ـ في الكافي حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ خاتم رسول الله كان من فضّة نقشه محمّد رسول الله»(٢) .

وجاء في بعض التواريخ أنّ إحدى حوادث السنة السادسة للهجرة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اختار لنفسه خاتما نقش فيها ، وذلك أنّهم أخبروه أنّ الملوك لا يقرءون الرسائل إذا لم تكن مختومة(٣) .

وجاء في كتاب «الطبقات» : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا صمّم أن ينشر دعوته في الآفاق ، ويكتب الرسائل إلى ملوك الأرض وسلاطينها أمر أن يصنعوا له خاتما كتب عليه (محمّد رسول الله) وكان يختم به رسائله(٤) .

بهذا البيان يتّضح جيدا أنّ الخاتم وإن اطلق اليوم على خاتم الزينة أيضا ، إلّا أنّ أصله مأخوذ من الختم ، أي النهاية ، وكان يطلق ذلك اليوم على الخواتيم التي كانوا يختمون بها الرسائل.

__________________

(١) لسان العرب ، وقاموس اللغة مادّة ختم : الخاتم ما يوضع على الطينة.

(٢) أورد هذا الخبر أيضا البيهقي في سننه ، المجلّد ١٠ ، ص ١٢٨.

(٣) سفينة البحار ، المجلّد ١ ، صفحة ٣٨٦.

(٤) الطبقات الكبرى ، المجلّد ١ ، صفحة ٢٥٨.

٢٧٨

إضافة إلى أنّ هذه المادّة قد استعملت في القرآن في موارد متعدّدة ، وكلّها تعني الإنهاء أو الختم والغلق ، مثل :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ) .(١)

( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) (٢) .

ومن هنا يعلم أنّ الذين شكّكوا في دلالة هذه الآية على كون نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء ، وانتهاء سلسلة الأنبياء به ، غير مطّلعين على معنى هذه الكلمة تماما ، أو أنّهم تظاهروا بعدم الإحاطة والاطلاع عليها ، وإلّا فإنّ من له أدنى إحاطة بآداب العرب يعلم أنّ كلمة «خاتم النّبيين» تدلّ على الخاتمية.

وإذا قيل ـ عند ذاك ـ في تفسير هذه الآية غير هذا التّفسير فإنّه تفسير متطفّل غير متّزن ، كأن نقول : إنّ نبي الإسلام كان خاتم الأنبياء ، أي أنّه زينة الأنبياء ، لأنّ الخاتم آلة زينة للإنسان ، ولا يمكن أن يوازي الإنسان في المرتبة مطلقا ، وإذا فسّرنا الآية بهذا التّفسير فسنكون قد حططنا من مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنزلنا منزلته إلى أدنى المستويات ، مع إنّه لا يناسب المعنى اللغوي ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة حيثما استعملت في القرآن الكريم ـ في ثمانية موارد ـ فإنّها أعطت معنى الإنهاء والإغلاق.

٢ ـ أدلّة كون نبيّ الإسلام خاتما للأنبياء :

بالرغم من أنّ الآية المذكورة كافية لوحدها في إثبات هذا المطلب ، إلّا أنّ الدليل على كون نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما للأنبياء لا ينحصر بها ، فإنّ آيات اخرى في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى ، إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب :

فمن جملتها في الآية (١٩) من سورة الأنعام :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) سورة البقرة ، ٧.

٢٧٩

لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) فإنّ سعة مفهوم تعبير( وَمَنْ بَلَغَ ) توضّح رسالة القرآن ونبي الإسلام العالمية من جهة ، ومسألة الخاتمية من جهة اخرى.

وهناك آيات اخرى تثبت عمومية دعوة نبي الإسلام لكلّ البشر ، مثل :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) .(١)

وكقوله تعالى :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) .(٢)

والآية :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) .(٣)

إنّ ملاحظة سعة مفهوم «العالمين» و «الناس» و «الكافّة» تؤيّد هذا المعنى أيضا. إضافة إلى أنّ إجماع علماء الإسلام من جهة ، وكون هذه المسألة ضرورية لدى المسلمين من جانب آخر ، والروايات الكثيرة الواردة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وباقي أئمّة الهدىعليهم‌السلام من جانب ثالث توضّح هذا المطلب ، ونكتفي هنا بذكر بعضها من باب الشاهد والمثال :

١ ـ ورد في الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة»(٤) .

إنّ هذا التعبير مبيّن لاستمرار هذه الشريعة حتّى نهاية العالم وفنائه.

وقد روي هذا الحديث بهذه الصيغة أحيانا : «حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ، ولا يجيء غيره»(٥) .

٢ ـ حديث المنزلة المعروف ، والذي ورد في مختلف كتب الشيعة والسنّة ، وهو في شأن عليعليه‌السلام وبقائه مكان النّبي في المدينة عند ما توجّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غزوة تبوك.

فإنّه يوضّح مسألة الخاتمية تماما ، لأنّا نقرأ في هذا الحديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال

__________________

(١) سورة الفرقان ـ ١.

(٢) سورة سبأ ، ٢٨.

(٣) سورة الأعراف ، ١٥٨.

(٤) بحار الأنوار ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٢٦٠ باب ٣١ حديث ١٧.

(٥) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، باب البدع والرأي والمقاييس حديث ١٩.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510