الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156511 / تحميل: 5913
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ) وكان لا بدّ أن يتمّ هذا الأمر( وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ) .

«الأدعياء» جمع «دعي» ، أي الابن المتبنّى ، و «الوطر» هو الحاجة المهمّة ، وإختيار هذا التعبير في مورد طلاق زينب للطف البيان ، لئلّا يصرّح بالطلاق الذي يعدّ عيبا للنساء ، بل وحتّى للرجال ، فكأنّ كلا من هذين الشخصين كان محتاجا للآخر ليحيا حياة مشتركة لمدّة معيّنة ، وافتراقهما كان نتيجة لانتفاء هذه الحاجة ونهايتها.

والتعبير بـ( زَوَّجْناكَها ) دليل على أنّ هذا الزواج كان زواجا بأمر الله ، ولذلك ورد في التواريخ أنّ زينب كانت تفتخر بهذا الأمر على سائر زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت تقول : زوّجكنّ أهلوكنّ وزوّجني الله من السماء(١) .

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ القرآن الكريم يبيّن بمنتهى الصراحة الهدف الأصلي من هذا الزواج ، وهو إلغاء سنّة جاهلية كانت تقضي بمنع الزواج من مطلّقات الأدعياء ، وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة كلّية ، وهي أنّ تعدّد زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن أمرا عاديا بسيطا ، بل كان يرمي إلى أهداف كان لها أثرها في مصير دينه.

وجملة( كانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ) إشارة إلى وجوب الحزم في مثل هذه المسائل ، وكلّ عمل ينبغي فعله يجب أن ينجز ويتحقّق ، حيث لا معنى للاستسلام أمام الضجيج والصخب في المسائل التي تتعلّق بالأهداف العامّة والأساسية.

ويتّضح من التّفسير الواضح الذي أوردناه في بحث الآية أعلاه أنّ الادّعاءات التي أراد الأعداء أو الجهلاء إسنادها لهذه الآية لا أساس لها مطلقا ، وسنعطي في بحث الملاحظات توضيحا أكثر في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

وتقول الآية الأخيرة في تكميل المباحث السابقة :( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، المجلد ٢ ، ص ١٧٧. ومما يستحق الالتفات أن زواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب قد تم في السنة الخامسة للهجرة ، المصدر السابق.

٢٦١

فِيما فَرَضَ اللهُ ) فحيث يأمره الله سبحانه لا تجوز المداهنة في مقابل أمره تعالى ، ويجب تنفيذه بدون أيّ تردّد.

إنّ القادة الربانيين يجب أن لا يصغوا إلى كلام هذا وذاك لدى تنفيذ الأوامر الإلهيّة ، أو يراعوا الأجواء السياسية والآداب والأعراف الخاطئة السائدة في المحيط ، وربّما كان هذا الأمر قد صدر لتمزيق هذه الأعراف المغلوطة ، ولتحطيم البدع القبيحة.

إنّ القادة الإلهيين يجب أن ينفّذوا أمر الله بدون خوف من الملامة والعتاب والضجّة والغوغاء ، وأن كونوا مصداق( وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) .(١)

إنّنا إذا أردنا أن نجلس وننتظر رضا الجميع وسرورهم ثمّ ننفّذ أمر الله سبحانه ، فلنعلم أنّ هذا الأمر لا يمكن تحقّقه ، لأنّ بعض الفئات لا ترضى حتّى نستسلم لما تريد ونتّبع دينها وفكرها ، كما يقول القرآن الكريم ذلك :( وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) .

(٢) وكذلك كان الأمر في مورد الآية التي نبحثها ، لأنّ زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب كان يكتنفه في أفكار الناس العامّة إشكالان كما قلنا :

الأوّل : أنّ الزواج بمطلّقة المدّعى كان في نظر أولئك كالزواج بزوجة الابن الحقيقي ، وكانت هذه بدعة يجب أن تلغى.

والآخر : أنّ زواج رجل مرموق له مكانته في المجتمع كالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من مطلّقة غلام محرّر كان يعدّ عيبا وعارا ، لأنّه يجعل النّبي والعبد في مرتبة واحدة ، وهذه الثقافة الخاطئة كان يجب أن تقلع وتجتث من الجذور لتزرع مكانها القيم الإنسانية ، وكون الزوجين كفؤين لبعضهما إنّما يستقيم ويقاس على أساس الإسلام والإيمان والتقوى وحسب.

__________________

(١) المائدة ، ٥٤.

(٢) البقرة ، ١٢٠.

٢٦٢

وأساسا فانّ مخالفة السنن والأعراف ، واقتلاع الآداب والعادات الخرافية وغير الإنسانية يقترن عادة بالضجيج والغوغاء والصخب ، وينبغي أن لا يهتمّ الأنبياء بهذا الضجيج والصخب مطلقا ، ولذلك تعقب الجملة التالية فتقول :( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) .

فلست الوحيد المبتلى بهذه المشكلة ، بل إنّ الأنبياء جميعا كانوا يعانون هذه المصاعب عند مخالفتهم سنن مجتمعاتهم ، وعند سعيهم لاجتثاث اصول الأعراف الفاسدة منها.

ولم تكن المشكلة الكبرى منحصرة في محاربة هاتين السنّتين الجاهليتين ، بل إنّ هذا الزواج لمّا كان مرتبطا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه يمكن أن يعطي الأعداء حربة اخرى ليعيبوا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعله ، ويطعنوا في دينه ، وسيأتي تفصيل ذلك.

ويقول الله سبحانه في نهاية الآية تثبيتا لاتّباع الحزم في مثل هذه المسائل الأساسية :( وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) .

إنّ التعبير بـ( قَدَراً مَقْدُوراً ) قد يكون إشارة إلى كون الأمر الإلهي حتميا ، ويمكن أن يكون دالا على رعاية الحكمة والمصلحة فيه ، إلّا أنّ الأنسب في مورد الآية أن يراد منه كلا المعنيين ، أي أنّ أمر الله تعالى يصدر على أساس الحساب الدقيق والمصلحة ، وكذلك لا بدّ من تنفيذه بدون استفهام أو تلكّؤ.

والطريف أنّنا نقرأ في التواريخ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أولم للناس ووليمة عامّة لم يكن لها نظير فيما

سبق اقترانه بزوجاته(١) ، فكأنّه أراد بهذا العمل أن يبيّن للناس أنّه غير قلق ولا خائف من السنن الخرافية التي كانت سائدة في تلك البيئة ، بل إنّه يفتخر بتنفيذ هذا الأمر الإلهي ، إضافة إلى أنّه كان يطمح إلى أن يصل صوت إلغاء هذه السنّة الجاهلية إلى آذان جميع من في جزيرة العرب عن هذا الطريق.

* * *

__________________

(١) يروي المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : فتزوّجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة ، وأطعم الناس الخبز واللحم حتّى امتدّ النهار. مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٣٦١.

٢٦٣

بحثان

١ ـ أساطير كاذبة

مع أنّ القرآن الكريم كان غاية في الصراحة في قصّة زواج النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب ، وفي تبيان هذه المسألة ، والهدف من هذا الزواج ، وأعلن أنّ الهدف هو محاربة سنّة جاهلية فيما يتعلّق بالزواج من مطلّقة الابن المدّعى ، إلّا أنّها ظلّت مورد استغلال جمع من أعداء الإسلام ، فحاولوا اختلاق قصّة غرامية منها ليشوّهوا بها صورة النّبي المقدّسة ، واتّخذوا من الأحاديث المشكوك فيها أو الموضوعة في هذا الباب آلة وحربة يلوّحون بها.

ومن جملة ذلك ما كتبوه من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء إلى دار زيد ليسأل عن حاله ، فما إن فتح الباب حتّى وقعت عينه على جمال زينب ، فقال : «سبحان الله خالق النور! تبارك الله أحسن الخالقين» واتّخذوا هذه الجملة دليلا على تعلّق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب.

في حين أنّ هناك دلائل واضحة ـ بغضّ النظر عن مسألة العصمة والنبوّة ـ تكذّب هذه الأساطير :

الاولى : أنّ زينب كانت بنت عمّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تربيّا وكبرا معا في محيط عائلي تقريبا ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي خطبها بنفسه لزيد ، وإذا كان لزينب ذلك الجمال الخارق ، وعلى فرض أنّه استرعى انتباهه ، فلم يكن جمالها أمرا خافيا عليه ، ولم يكن زواجه منها قبل هذه الحادثة أمرا عسيرا ، بل إنّ زينب لم تبد أي رغبة في الاقتران بزيد ، بل أعلنت مخالفتها صراحة ، وكانت ترجّح تماما أن تكون زوجة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بحيث أنّها سرّت وفرحت عند ما ذهب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لخطبتها ظنّا منها بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطبها لنفسه ، إلّا أنّها رضخت لأمر الله ورسوله بعد نزول هذه الآية القرآنية وتزوّجت زيدا.

مع هذه المقدّمات هل يبقى مجال لهذا الوهم بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن عالما بحال

٢٦٤

زينب وجمالها؟ وأيّ مجال لهذا الظنّ الخاطئ بأن يكون راغبا في الزواج منها ولا يستطيع الإقدام عليه؟

والثّانية : أنّ زيدا عند ما كان يراجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لطلاق زوجته زينب ، كان النّبي ينصحه مرارا بصرف النظر عن هذا الأمر ، وهذا بنفسه شاهد آخر على بطلان هذه الادّعاءات والأساطير.

ومن جهة اخرى فإنّ القرآن الكريم قد أوضح الهدف من هذا الزواج بصراحة لئلّا يبقى مجال لأقاويل اخرى.

ومن جهة رابعة قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ الله تعالى يقول : قد كان في حادثة زواج النّبي بمطلّقة زيد أمر كان النّبي يخشى الناس فيه ، في حين أنّ خشيته من الله أحقّ من الخشية من الناس.

إنّ مسألة خشية الله سبحانه توحي بأنّ هذا الزواج قد تمّ كتنفيذ لواجب شرعي ، يجب عنده طرح كلّ الاعتبارات الشخصية جانبا من أجل الله تعالى ليتحقّق هدف مقدّس من أهداف الرسالة ، حتّى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتّهاماتهم للنبي ، وكان هذا هو الثمن الباهض الذي دفعه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولا زال يدفعه إلى الآن ـ في مقابل طاعة أمر الله سبحانه ، وإلغاء عرف خاطئ وسنّة مبتدعة.

إلّا أنّ هناك لحظات حرجة في حياة القادة المخلصين تحتّم عليهم أن يضحّوا ويعرّضوا أنفسهم فيها الاتّهام أمثال هؤلاء الأفراد ليتحقّق هدفهم!

أجل لو كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم ير زينب من قبل مطلقا ، ولم يكن يعرفها ، ولم يكن لدى زينب الرغبة في الاقتران به ، ولم يكن زيد مستعدّا لطلاقها ـ وبغضّ النظر عن مسألة النبوّة والعصمة ـ لكان هناك مجال لمثل هذه الأقاويل والتخرّصات ، لكن بملاحظة انتفاء كلّ هذه الظروف يتّضح كون هذه الأكاذيب مختلفة.

إضافة إلى أنّ تاريخ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعكس أي دليل أو صورة تدلّ على وجود

٢٦٥

رغبة خاصّة لديهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الزواج من زينب ، بل هي كسائر الزوجات ، بل ربّما كانت أقل من بعض الزوجات من بعض الجهات ، وهذا شاهد تأريخي آخر على نفي هذه الأساطير.

ونرى في نهاية المطاف ضرورة الإشارة إلى احتمال أن يقول شخص : إنّ محاربة مثل هذه السنّة الخاطئة واجب ، ولكن أيّة ضرورة تدعو إلى أن يقتحم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الميدان بنفسه؟ فقد كان بإمكانه أن يطرح هذه المسألة ويبيّنها كقانون ، ويرغب الآخرين في الزواج من مطلّقة المتبنّي.

غير أنّ مخالفة سنّة جاهلية خاطئة ـ خاصّة وأنّها تتعلّق بالزواج من أفرادهم دون شأن المقابل ظاهرا ـ قد تكون غير مقبولة بالكلام والتقنين أحيانا ، إذ يقول الناس : إذا كان هذا الأمر حسنا فلما ذا لم يفعله هو؟ لم لم يتزوّج بمطلّقة عبده المعتق وابنه المتبنى؟

في مثل هذه الموارد ينهي الإقدام والإجراء العملي كلّ هذه الأسئلة والإشكالات ، وعندها ستتكسّر وتتلاشى تلك السنّة الخاطئة. إضافة إلى أنّ هذا العمل كان بنفسه تضحية وإيثارا.

٢ ـ روح الإسلام التسليم أمام الله

لا شكّ أنّ استقلال الإنسان الفكري والروحي لا يسمح له أن يستسلم لأحد بدون قيد أو شرط ، لأنّه إنسان مثله ، ومن الممكن أن تكون له أخطاء واشتباهات في المسائل.

أمّا إذا انتهت المسألة إلى الله العالم والحكيم ، والنّبي الذي يتحدّث عنه ويسير بأمره ، فإنّ عدم التسليم المطلق دليل على الضلال والانحراف ، حيث لا يوجد أدنى اشتباه في أوامره سبحانه. إضافة إلى أنّ أمره حافظ لمنافع الإنسان نفسه ، ولا يعود شيء على ذاته المقدّسة ، فهل يوجد إنسان عاقل يسحق مصالحه برجله

٢٦٦

بعد تشخيص هذه الحقيقة؟

ومضافا إلى ذلك فإنّنا منه تعالى ، وكلّ ما لدينا منه ، ولا يمكن أن يكون لنا أمر وقرار إلّا التسليم لإرادته وأمره ، ولذلك ترى بين دفّتي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه المسألة :

فمرّة تقول آية :( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .(١)

وتقول اخرى :( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) .(٢)

ويقول القرآن في موضع آخر :( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) .(٣)

إنّ «الإسلام» أخذ من مادّة «التسليم» ، وهو يشير إلى هذه الحقيقة ، وبناء على هذا فإنّ كلّ إنسان يتمتّع بروح الإسلام بمقدار تسليمه لله سبحانه.

ينقسم الناس عدّة أقسام من هذه الناحية : فقسم يسلّمون لأمر الله في الموارد التي تنفعهم فقط ، وهؤلاء في الحقيقة مشركون انتحلوا اسم الإسلام ، وعملهم تجزئة لأحكام الله تعالى ، فهم مصداق( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) فإيمانهم في الحقيقة إيمان بمصالحهم لا بالله تعالى.

وآخرون جعلوا إرادتهم تبعا لإرادة الله ، وإذا تعارضت منافعهم الزائلة مع أمر الله سبحانه ، فإنّهم يغضّون الطرف عنها ويسلّمون لأمر الله ، وهؤلاء هم المؤمنون والمسلمون الحقيقيون.

والقسم الثالث أسمى من هؤلاء ، فهم لا يريدون إلّا ما أراد الله ، وليس في

__________________

(١) النور ، ٥١.

(٢) النساء ، ٦٥.

(٣) النساء ، ١٢٥.

٢٦٧

قلوبهم إلّا ما يشاؤه سبحانه ، فقد بلغوا مرتبة من التسامي لا يحبّون معها إلّا ما يحبّه الله ، ولا يبغضون إلّا ما أبغضه اللهعزوجل .

هؤلاء هم الخاصّة والمخلصون والمقرّبون لديه ، فقد صبغ التوحيد كلّ وجودهم ، وغرقوا في حبّه ، وفنوا في جماله(١) .

* * *

__________________

(١) لقد أوردنا بحثا آخر في هذا الباب في ذيل الآية (٦٥) من سورة النساء.

٢٦٨

الآية

( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) )

التّفسير

من هم المبلّغون الحقيقيون؟

تشير الآية مورد البحث ، ومناسبة للبحث الذي مرّ حول الأنبياء السابقين في آخر آية من الآيات السابقة ، إلى أحد أهم برامج الأنبياء العامّة ، فتقول :( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) .

وكذلك الحال بالنسبة إليك ، فينبغي أن لا تخش أحدا في تبليغ رسالات الله ، وعند ما يأمرك الله سبحانه أن حطّم سنّة جاهلية خاطئة في مسألة زواج مطلّقة المتبنّي ، وتزوّج بزينب مطلّقة زيد ، فيجب أن لا تدع لأدنى قلق وخوف من قول هذا وذاك في تأدية هذا التكليف إلى نفسك سبيلا ، فإنّ هذه سنّة جميع الأنبياءعليهم‌السلام .

إنّ عمل الأنبياءعليهم‌السلام في كثير من المراحل هو كسر مثل هذه السنن والأعراف عادة ، ولو أنّهم سمحوا لأقلّ خوف وتردّد أن ينفذ إلى نفوسهم فسوف يفشلون في

٢٦٩

أداء رسالاتهم ، فيجب على هذا أن يسيروا بحزم وثبات ، ويستوعبوا كلمات المسيئين الجارحة غير المتزنة ، ويستمرّوا في طريقهم دون أن يهتّموا باصطناع الأجواء ضدّهم ، وضجيج العوام ، وتآمر الفاسدين والمفسدين وتواطئهم ، لأنّ كلّ الحسابات بيد الله سبحانه ، ولذلك تقول الآية في النهاية :( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) .

إنّه يحسب إيثار الأنبياء وتضحياتهم في هذا الطريق ويجزيهم عليها ، كما يحفظ كلمات الأعداء البذيئة وثرثرتهم ليحاسبهم عليها ويجازيهم.

إنّ جملة :( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) دليل في الحقيقة على أنّ القادة الإلهيين يجب أن لا يخشوا شيئا أو أحدا في إبلاغ الرسالات ، لأنّ الله سبحانه هم المحصي لجهودهم ، وهو المثيب عليها.

* * *

ملاحظات

١ ـ المراد من «التبليغ» هنا هو الإبلاغ والإيصال ، وعند ما يرتبط الأمر بـ «رسالات الله» فإنّه يعني أن يعلّم الأنبياء الناس ما علّمهم الله عن طريق الوحي ، وأن ينفذوه إلى القلوب عن طريق الاستدلال والإنذار والتبشير والموعظة والنصيحة.

٢ ـ «الخشية» تعني الخوف المقترن بالتعظيم والاحترام ، ويختلف عن الخوف المجرّد من هذه الخاصية من هذه الجهة. وقد تستعمل أحيانا بمعنى مطلق الخوف.

وقد ورد في مؤلّفات المحقّق «الطوسي» كلام في الفرق بين هذين اللفظين ، وهو في الحقيقة يشير إلى المعنى العرفاني لا اللغوي ، فانّه يقول : إنّ الخشية والخوف وإن كانا في اللغة بمعنى واحد ـ أو يقربان من معنى واحد ـ إلّا أنّ بينهما فرقا لدى أهل البصائر ، وهو : إنّ «الخوف» يعني القلق والاضطراب الداخلي من العواقب التي ينتظرها الإنسان نتيجة ارتكابه المعاصي والذنوب ، أو تقصيره في

٢٧٠

الطاعة ، وهذه الحالة تحصل لأغلب الناس وإن اختلفت درجاتها ، أمّا أعلى مراتبها فلا تحصل إلّا لفئة قليلة منهم.

أمّا «الخشية» فهي الحالة التي تحصل للإنسان لدى إدراكه عظمة الله وهيبته ، والخوف من بقائه مبعدا عن أنوار فيضه ، وهذه الحالة لا تحصل إلّا لأولئك الذين وقفوا على عظمة ذاته المقدّسة وجلال كبريائه ، وتذوّقوا طعم قربه ، ولذلك عدّ القرآن هذه الحالة خاصّة بعباد الله العلماء فقال :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (١) .

٣ ـ جواب عن سؤال؟

قد يقال : إنّ هذه الآية تتناقض مع ما مرّ في الآيات السابقة ، فهي تقول هنا : إنّ أنبياء الله لا يخشون إلّا الله ، ولا يخشون أحدا غيره ، إلّا أنّه قد ورد في الآيات السابقة :( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) ؟

إلّا أنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بتأمّل النقطتين التاليتين :

الاولى : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما كان خائفا من عدم تحمّل عدد كبير من الناس لنقض هذه السنّة ، ومن عدم استيعابهم للمسألة ، وبذلك ستتزعزع أسس إيمانهم من هذه الجهة ، ومثل هذه الخشية ترجع في الحقيقة إلى خشية الله سبحانه.

والاخرى : أنّ الأنبياء لا يعيشون حالة الخوف والقلق من شخص ما في تبليغهم رسالات الله ، أمّا في ما يتعلّق بأمور الحياة الشخصية والخاصّة فلا مانع من أن يخافوا من أمر خطير كاتّهام وطعن الناس ، أو أن يكونوا كموسىعليه‌السلام إذ خاف ـ حسب الطبيعة البشرية ـ عند ما ألقى العصا وتحوّلت إلى ثعبان عظيم ، فإنّ مثل هذا الخوف والاضطراب إذا لم يكن مفرطا لا يعدّ عيبا ونقصا ، بل قد يواجه هذه

__________________

(١) مجمع البحرين مادّة خشي.

٢٧١

المسألة أشجع الناس أحيانا ، إنّما العيب والنقص هو الخوف من أداء التكليف الإلهي في الحياة الاجتماعية.

٤ ـ هل كان الأنبياء يستعملون التقيّة؟

استفاد جماعة من هذه الآية أنّ التقيّة حرام مطلقا للأنبياء في تبليغ الرسالة ، لأنّ القرآن يقول :( وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) .

غير أنّه يجب الانتباه إلى أنّ للتقيّة أنواعا ، ولم تنف الآية في مورد دعوة الأنبياء وإبلاغ الرسالة إلّا نوعا واحدا ، وهو التقيّة خوفا ، في حين أنّ للتقيّة أنواعا منها التقيّة مداراة وتورية.

والمراد من التقيّة المداراتية أن يكتم الإنسان عقيدته أحيانا لجلب محبّة الطرف المقابل ليقوى على استمالته للتعاون في الأهداف المشتركة.

والمراد من تقيّة «التورية» والإخفاء هو أنّه يجب أن تخفى المقدّمات والخطط للوصول إلى الهدف ، فإنّها إن أفشيت وانتشرت بين الناس وأصبحت علنية ، وأطلع العدوّ عليها فمن الممكن أن يقوم باجهاضها.

إنّ حياة الأنبياء ـ وخاصّة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مليئة بموارد التقيّة هذه ، لأنّا نعلم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان كثيرا ما يخفي أهدافه ومقاصده عند ما كان يتوجّه إلى ميدان الحرب ، وكان يرسم خططه الحربية بخفاء تامّ ، وكان يستخدم أسلوب الاستتار والتخفّي ـ والذي هو نوع من التقيّة ـ في جميع المراحل.

وكان يتّبع أحيانا أسلوب «المراحل» ـ وهو نوع من التقيّة ـ لبيان حكم ما ، فمثلا نرى أنّ مسألة تحريم الربا أو شرب الخمر لم تبيّن في مرحلة واحدة ، بل تمت في مراحل متعدّدة بأمر الله سبحانه ، أي أنّها تبدأ من المراحل الأبسط والأسهل حتّى تنتهي بالحكم النهائي الأساسي.

وعلى أيّة حال ، فإنّ للتقيّة معنى واسعا ، وهو : (إخفاء الحقائق والواقع للحفاظ

٢٧٢

على الأهداف من التعرّض للخطر والانهيار) وهذا الشيء متعارف بين عقلاء العالم ، والقادة الربّانيون يفعلون ذلك في بعض المراحل للوصول إلى أهدافهم المقدّسة ، كما نقرأ ذلك في قصّة «إبراهيم»عليه‌السلام بطل التوحيد ، حيث أخفى هدفه من البقاء في المدينة في اليوم الذي يخرج فيه عبدة الأصنام خارج المدينة لإجراء مراسم العيد ليستغلّ فرصة مناسبة فينهال على الأصنام ويحطّمها.

وكذلك أخفى «مؤمن آل فرعون» إيمانه ليستطيع أن يعيّن موسىعليه‌السلام في اللحظات الحسّاسة وينقذه من القتل ، ولهذا السبب ذكر القرآن له تسعة مواقف وصفات عظيمة.

ومن هنا نعلم أنّ التقيّة خوفا فقط غير جائزة على الأنبياء ، لا الأنواع الاخرى للتقيّة.

وبالرغم من أنّ الكلام في هذا الباب كثير ، إلّا أنّنا ننهي هذا البحث بحديث جامع غنيّ المحتوى عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «التقيّة ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة ترس الله في الأرض ، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل»(١) .

وكان لنا بحث مفصّل حول التقيّة في ذيل الآية (١٠٦) من سورة النحل.

٥ ـ شرط الإنتصار في التبليغ :

إنّ الآية المذكورة دليل واضح على أنّ الحزم والإخلاص وعدم الخوف من أي أحد إلّا الله تعالى ، شرط أساسي في التقدّم والرقي في مجال الإعلام والتبليغ.

الأشخاص الذين يراعون رغبات وميول هذا وذاك في مقابل أمر الله ، ويوجّهون الحقّ والعدالة بما يناسب أهواءهم ، سوف لا يحصلون على نتيجة

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٥٢١ ذيل الآية (٢٨) من سورة المؤمن.

٢٧٣

مطلقا ، فلا نعمة أسمى من نعمة الهداية ، ولا خدمة أنفع من إهداء هذه النعمة للبشرية ، ولذلك كان جزاء وثواب هذا العمل أعظم من كلّ ثواب وعطاء ، ومن هنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن وقال لي : يا علي لا تقاتلن أحدا حتّى تدعوه ، وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير ممّا طلعت الشمس وغربت»(١) .

ولهذا السبب أيضا يجب أن يستغني المبلّغون الحقيقيون عن الناس ، ولا يخافون أي مقام ومنصب ، فإنّ تلك الحاجة والخوف سيتركان أثرا على أفكارهم وإرادتهم شاءوا أم أبوا.

إنّ المبلّغ الإلهي يفكّر فقط ـ بمقتضى( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) ـ بأنّ محصي الأعمال والمحاسب عليها هو الله تعالى ، وبيده جزاؤه وثوابه ، وهذا الوعي والعرفان هو الذي يمدّه ويعينه في هذا الطريق المليء بالعقبات.

* * *

__________________

(١) الكافي ، طبقا لنقل البحار ، الجزء ٢١ ، صفحة ٣٦١.

٢٧٤

الآية

( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) )

التّفسير

مسألة الخاتمية :

هذه الآية هي آخر ما بيّنه الله سبحانه فيما يتعلّق بمسألة زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمطلّقة زيد لكسر عرف جاهلي خاطئ ، وهي جواب مختصر كآخر جواب يقال هنا ، وتبيّن في نهايتها حقيقة مهمّة اخرى ـ وهي مسألة الخاتمية ـ بمناسبة خاصّة.

تقول أوّلا :( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) لا زيد ولا غيره ، وإذا ما أطلقوا عليه يوما انّه «ابن محمّد» فإنّما هو مجرّد عادة وعرف ليس إلّا ، وما إن جاء الإسلام حتّى اجتثّت جذوره ، وليس هو رابطة طبيعيّة عائلية.

طبعا كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أولاد حقيقيون ، وأسماؤهم «القاسم» و «الطيّب» و «الطاهر» و «إبراهيم» ، إلّا أنّهم ـ طبقا لنقل المؤرخّين ـ جميعا قد ودّعوا هذه الدنيا وارتحلوا عنها قبل البلوغ ، ولذلك لم يطلق عليهم أنّهم «رجال»(١) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير الميزان ذيل الآية مورد البحث.

٢٧٥

والإمامان الحسن والحسينعليهما‌السلام اللذان كانوا يسمّونهم أولاد النّبي رغم أنّهما بلغا سنين متقدّمة في العمر ، إلّا أنّهما كانا لا يزالان صغيرين عند نزول هذه الآية.

بناء على هذا فإنّ جملة :( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) والتي وردت بصيغة الماضي ، كانت صادقة في حقّ الجميع قطعا.

وإذا ما رأينا في بعض تعبيرات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه أنّه يقول : «أنا وعلي أبوا هذه الامّة» فمن المسلّم أنّ المراد لم يكن الابوّة النسبية ، بل الابوّة الناشئة من التعليم والتربية والقيادة والإرشاد.

مع هذه الحال ، فإنّ الزواج من مطلقّة زيد ـ والذي بيّن القرآن فلسفته بصراحة بأنّه إلغاء للسنن الخاطئة ـ لم يكن شيئا يبعث على البحث والجدال بين هذا وذاك ، أو أنّهم يريدون أن يتّخذوه وسيلة للوصول إلى نواياهم السيّئة.

ثمّ تضيف : بأنّ علاقة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معكم إنّما هي من جهة الرسالة والخاتمية فقط( وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وبهذا قطع صدر الآية الارتباط والعلاقة النسبية بشكل تامّ وقطعي ، وأثبت ذيلها العلاقة المعنوية الناشئة من الرسالة والخاتمية ، ومن هنا يتّضح ترابط صدر الآية وذيلها.

هذا إضافة إلى أنّ الآية تشير إلى حقيقة هي : أنّ علاقته معكم في الوقت نفسه أشدّ وأسمى من علاقة والد بولده ، لأنّ علاقته علاقة الرّسول بالامّة ، ويعلم أنّ سوف لا يأتي رسول بعده ، فكان يجب عليه أن يبيّن لهذه الامّة ويطرح لها كلّ ما تحتاجه إلى يوم القيامة في منتهى الدقّة وغاية الحرص عليها.

ولا شكّ أنّ الله العليم الخبير قد وضع تحت تصرّفه كلّ ما كان لازما في هذا الباب ، من الأصول والفروع ، والكليّات والجزئيات في جميع المجالات ، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية :( وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) .

وينبغي الالتفات إلى أنّ كونه «خاتم الأنبياء» يعني أيضا أنّه خاتم المرسلين ، وما ألصقه بعض مبتدعي الأديان لخدش كون مسألة الخاتمية بهذا المعنى ، من أنّ

٢٧٦

القرآن قد اعتبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء لا خاتم المرسلين ، إنّما هو اشتباه كبير ، لأنّ من كان خاتما للأنبياء يكون خاتما للرسل بطريق أولى ، لأنّ مرحلة «الرسالة» أسمى من مرحلة «النبوّة» ـ تأمّلوا ذلك ـ.

إنّ هذا الكلام يشبه تماما أن نقول : إنّ فلانا ليس في بلاد الحجاز ، فمن المسلّم أنّ هذا الشخص سوف لا يكون موجودا في مكّة ، أمّا إذا قلنا : إنّه ليس في مكّة ، فمن الممكن أن يكون في مكان آخر من الحجاز.

بناء على هذا ، فإنّه تعالى لو كان قد سمّى النّبي خاتم المرسلين ، فمن الممكن أن لا يكون خاتم الأنبياء ، أمّا وقد سمّاه «خاتم الأنبياء» فمن المسلّم أنّه سيكون خاتم الرسل أيضا ، وبتعبير المصطلحات فإنّ النسبة بين النّبي والرّسول نسبة العموم والخصوص المطلق.

* * *

بحوث

١ ـ ما هو الخاتم؟

«الخاتم» ـ على زنة حاتم ـ لدى أرباب اللغة : هو الشيء الذي تنهى به الأمور ، وكذلك جاء بمعنى الشيء الذي تختم به الأوراق وما شابهها.

وكان هذا الأمر متداولا فيما مضى ـ ولا يزال إلى اليوم ـ حينما يريدون إغلاق الرسالة أو غطاء الوعاء أو باب المنزل لئلّا يفتحها أحد ، فإنّهم كانوا يضعون مادّة لاصقة على الباب أو القفل ويختمون عليها. ويكون هذا الخاتم من الصلابة بحيث إنّه لا بدّ من كسره إذا ما أريد فتح الباب ، وهذه المادّة التي توضع على مثل هذه الأشياء تسمّى «خاتما».

ولمّا كانوا في السابق يستعملون لهذا الأمر الطين الصلب الذي يلصق ، فإنّنا نقرأ

٢٧٧

في متون بعض كتب اللغة المعروفة أنّ معنى الخاتم هو «ما يوضع على الطينة»(١) .

كلّ ذلك بسبب أنّ هذه الكلمة مأخوذة من مادّة «الختم» أي النهاية ، ولمّا كان هذا العمل ـ أي الختم ـ يجري في الخاتمة والنهاية فقد اطلق عليه اسم الخاتم لذلك.

وإذا ما رأينا أنّ أحد معاني الخاتم هو الخاتم الذي يوضع في اليد ، فبسبب أنّهم كانوا يضعون إمضاءهم وتوقيعهم على خواتيمهم ويختمون الرسائل بها ، ولذلك فإنّ من جملة الأمور التي تذكر في أحوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدىعليهم‌السلام والشخصيات الاخرى هو نقش خاتمهم.

ويروي «الكليني» ـرحمه‌الله ـ في الكافي حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ خاتم رسول الله كان من فضّة نقشه محمّد رسول الله»(٢) .

وجاء في بعض التواريخ أنّ إحدى حوادث السنة السادسة للهجرة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اختار لنفسه خاتما نقش فيها ، وذلك أنّهم أخبروه أنّ الملوك لا يقرءون الرسائل إذا لم تكن مختومة(٣) .

وجاء في كتاب «الطبقات» : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا صمّم أن ينشر دعوته في الآفاق ، ويكتب الرسائل إلى ملوك الأرض وسلاطينها أمر أن يصنعوا له خاتما كتب عليه (محمّد رسول الله) وكان يختم به رسائله(٤) .

بهذا البيان يتّضح جيدا أنّ الخاتم وإن اطلق اليوم على خاتم الزينة أيضا ، إلّا أنّ أصله مأخوذ من الختم ، أي النهاية ، وكان يطلق ذلك اليوم على الخواتيم التي كانوا يختمون بها الرسائل.

__________________

(١) لسان العرب ، وقاموس اللغة مادّة ختم : الخاتم ما يوضع على الطينة.

(٢) أورد هذا الخبر أيضا البيهقي في سننه ، المجلّد ١٠ ، ص ١٢٨.

(٣) سفينة البحار ، المجلّد ١ ، صفحة ٣٨٦.

(٤) الطبقات الكبرى ، المجلّد ١ ، صفحة ٢٥٨.

٢٧٨

إضافة إلى أنّ هذه المادّة قد استعملت في القرآن في موارد متعدّدة ، وكلّها تعني الإنهاء أو الختم والغلق ، مثل :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ) .(١)

( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) (٢) .

ومن هنا يعلم أنّ الذين شكّكوا في دلالة هذه الآية على كون نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء ، وانتهاء سلسلة الأنبياء به ، غير مطّلعين على معنى هذه الكلمة تماما ، أو أنّهم تظاهروا بعدم الإحاطة والاطلاع عليها ، وإلّا فإنّ من له أدنى إحاطة بآداب العرب يعلم أنّ كلمة «خاتم النّبيين» تدلّ على الخاتمية.

وإذا قيل ـ عند ذاك ـ في تفسير هذه الآية غير هذا التّفسير فإنّه تفسير متطفّل غير متّزن ، كأن نقول : إنّ نبي الإسلام كان خاتم الأنبياء ، أي أنّه زينة الأنبياء ، لأنّ الخاتم آلة زينة للإنسان ، ولا يمكن أن يوازي الإنسان في المرتبة مطلقا ، وإذا فسّرنا الآية بهذا التّفسير فسنكون قد حططنا من مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنزلنا منزلته إلى أدنى المستويات ، مع إنّه لا يناسب المعنى اللغوي ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة حيثما استعملت في القرآن الكريم ـ في ثمانية موارد ـ فإنّها أعطت معنى الإنهاء والإغلاق.

٢ ـ أدلّة كون نبيّ الإسلام خاتما للأنبياء :

بالرغم من أنّ الآية المذكورة كافية لوحدها في إثبات هذا المطلب ، إلّا أنّ الدليل على كون نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما للأنبياء لا ينحصر بها ، فإنّ آيات اخرى في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى ، إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب :

فمن جملتها في الآية (١٩) من سورة الأنعام :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) سورة البقرة ، ٧.

٢٧٩

لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) فإنّ سعة مفهوم تعبير( وَمَنْ بَلَغَ ) توضّح رسالة القرآن ونبي الإسلام العالمية من جهة ، ومسألة الخاتمية من جهة اخرى.

وهناك آيات اخرى تثبت عمومية دعوة نبي الإسلام لكلّ البشر ، مثل :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) .(١)

وكقوله تعالى :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) .(٢)

والآية :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) .(٣)

إنّ ملاحظة سعة مفهوم «العالمين» و «الناس» و «الكافّة» تؤيّد هذا المعنى أيضا. إضافة إلى أنّ إجماع علماء الإسلام من جهة ، وكون هذه المسألة ضرورية لدى المسلمين من جانب آخر ، والروايات الكثيرة الواردة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وباقي أئمّة الهدىعليهم‌السلام من جانب ثالث توضّح هذا المطلب ، ونكتفي هنا بذكر بعضها من باب الشاهد والمثال :

١ ـ ورد في الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة»(٤) .

إنّ هذا التعبير مبيّن لاستمرار هذه الشريعة حتّى نهاية العالم وفنائه.

وقد روي هذا الحديث بهذه الصيغة أحيانا : «حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ، ولا يجيء غيره»(٥) .

٢ ـ حديث المنزلة المعروف ، والذي ورد في مختلف كتب الشيعة والسنّة ، وهو في شأن عليعليه‌السلام وبقائه مكان النّبي في المدينة عند ما توجّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غزوة تبوك.

فإنّه يوضّح مسألة الخاتمية تماما ، لأنّا نقرأ في هذا الحديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال

__________________

(١) سورة الفرقان ـ ١.

(٢) سورة سبأ ، ٢٨.

(٣) سورة الأعراف ، ١٥٨.

(٤) بحار الأنوار ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٢٦٠ باب ٣١ حديث ١٧.

(٥) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، باب البدع والرأي والمقاييس حديث ١٩.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510