الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156510 / تحميل: 5913
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

لعليعليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي»(١) .

٣ ـ وثمّة حديث مشهور أيضا ، وقد روي في كثير من مصادر العامّة ، وذلك

أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله ، فجعل الناس يطيفون به يقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا إلّا هذه اللبنة ، فكنت أنا تلك اللبنة».

لقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم بعبارات مختلفة ، وروي عن رواة عديدين ، وقد وردت هذه الجملة «وأنا خاتم النّبيين» في ذيل الحديث الآنف الذكر في أحد الموارد.

ونرى في نهاية حديث آخر : «جئت فختمت الأنبياء»(٢) .

وقد ورد هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري ـ كتاب المناقب ـ ومسند أحمد بن حنبل ، وسنن الترمذي والنسائي وكتب اخرى ، وهو من الأحاديث المعروفة والمشهورة جدّا ، وقد أورده مفسّر والفريقين كالطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره ، في ذيل الآية مورد البحث.

٤ ـ لقد ورد كون نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما للنبيين صريحا في كثير من خطب نهج البلاغة ، ومن جملة ذلك ما نراه في الخطبة ١٧٣ في وصف نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يقولعليه‌السلام : «أمين وحيه ، وخاتم رسله ، وبشير رحمته ، ونذير نقمته».

وجاء في الخطبة ١٣٣ : «أرسله على حين فترة من الرسل ، وتنازع من الألسن.

فقفّى به الرسل ، وختم به الوحي».

وقالعليه‌السلام في الخطبة الاولى من نهج البلاغة ، بعد أن عدّد تعليمات الأنبياء

__________________

(١) روى هذا الحديث محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى : ص ٧٩ طبعة مكتبة القدس ، وابن حجر في الصواعق المحرقة ، ص ١٧٧ طبعة مكتبة القاهرة ، وفي تاريخ بغداد ، المجلّد ٧ ، ص ٤٥٢ طبعة السعادة ، وكتب اخرى ككنز العمّال ، ومنتخب كنز العمال ، وينابيع المودّة. لمزيد الإيضاح حول حديث المنزلة راجع هذا التّفسير ذيل الآية (١٤٤) من سورة الأعراف.

(٢) صحيح مسلم ، الجزء ٤ ، ص ١٧٩٠ ـ ١٧٩١ باب ذكر كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيّين من كتاب الفضائل.

٢٨١

الماضين : «إلى أن بعث الله سبحانه محمّدا رسول لإنجاز عدته ، وإتمام نبوّته».

٥ ـ وقد وردت مسألة الخاتمية في ختام خطبة الوداع ، تلك الخطبة التي ألقاها نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر حجّة له ، وفي آخر سنة من عمره المبارك ، كوصيّة جامعة للناس ، حيث قال : «ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي ، ولا امّة بعدكم» ثمّ رفع يديه إلى السماء حتّى بان بياض إبطيه ، فقال : «اللهمّ اشهد أنّي قد بلّغت»(١) .

٦ ـ وجاء في حديث آخر ورد في «الكافي» عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله ختم بنبيّكم النبيّين فلا نبيّ بعده أبدا ، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبدا»(٢) .

إنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة جدّا ، بحيث جمع منها في كتاب (معالم النبوّة) ١٣٥ حديثا من كتب علماء الإسلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الإسلام العظام(٣) .

٣ ـ إجابة عن عدّة أسئلة :

١ ـ كيف تتناسب الخاتمية مع سير الإنسان التكاملي؟

السوال الأوّل الذي يطرح في هذا البحث هو : هل يمكن أن يتوقّف المجتمع الإنساني؟ أترى يوجد لسير البشر التكاملي حدّ محدود؟ ألسنا نرى بامّ أعيننا أنّ بشر اليوم قد وصلوا في العلم والثقافة إلى مرحلة تفوّق مستوى سابقيهم؟ فمع هذا الحال كيف يمكن أن يغلق سجل النبوّة مطلقا ، فيحرم الإنسان من قيادة أنبياء جدد في سيره التكاملي؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح بالالتفات إلى مسألة واحدة ، وهي أنّ

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢١ ، ص ٣٨١.

(٢) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل.

(٣) معالم النبوّة. فصل نصوص كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما.

٢٨٢

الإنسان يصل أحيانا إلى مرتبة من النضج الفكري والثقافي بحيث يكون قادرا على الاستمرار في طريقه بالاستعانة المستمرة بالأصول والتعليمات التي تركها له النّبي الخاتم بصورة جامعة ، دون أن يحتاج إلى شريعة جديدة.

وهذا الأمر يشبه تماما أن يكون الإنسان محتاجا لمعلّم جديد ومربّ آخر في كلّ مرحلة من مراحل الدراسة المختلفة ، حتّى يقضي المراحل المختلفة ، أمّا إذا حصل على الدكتوراه ، أو أصبح مجتهدا له رأيه في العلم أو العلوم المختلفة فإنّه لا يحتاج في دراسته إلى أستاذ جديد ، بل يباشر البحث والمطالعة والتحقيق استنادا إلى ما اكتسبه من الأساتذة السابقين ، وخاصّة استاذه الأخير.

وبتعبير آخر ، فإنّه يحلّ المشاكل والعقبات التي تعترضه بالاستعانة بتلك الأصول الكليّة التي تعلّمها من استاذه الأخير ، وبناء على هذا فلا حاجة لأنّ يظهر دين جديد على مرّ الزمان (تأمّلوا ذلك).

وببيان آخر ، فإنّ كلّ واحد من الأنبياء السابقين قد مهّد جانبا من مسير التكامل ليكون الإنسان قادرا على سلوك هذا الطريق الصعب نحو التكامل وينال الأهلية لاستقبال منهج كامل وجامع لهذا الطريق على يد آخر نبي أرسل من قبل الله تعالى.

من البديهي أنّه مع استلام الخريطة الكاملة والمخطّط الجامع سوف لا تكون هناك حاجة إلى مخطّط آخر ، وهذا في الحقيقة هو التعبير الذي ورد في الرّوايات الدالة على كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما ، والتي عدّت نبيّ الإسلام آخر لبنة ، أو واضع آخر لبنة في قصر الرسالة البديع المحكم. وكلّ ذلك يؤكّد عدم الحاجة إلى دين جديد وشريعة مستحدثة.

أمّا فيما يتعلّق بمسألة القيادة والإمامة ، والتي تعني الإشراف التامّ على تنفيذ هذه الأصول ، والأخذ بأيدي الناس في هذا الطريق ، فهي مسألة اخرى لا يمكن أن يستغني الإنسان عنها في أيّ حين ، ولذلك فإنّ ختام سلسلة النبوّة لا يعني أبدا

٢٨٣

نهاية سلسلة الإمامة ، لأنّ «تبيين» و «توضيح» هذه الأصول و «تحقّقها في الخارج» لا يمكن أن يتمّ من دون الاستعانة بوجود قائد وإمام معصوم.

٢ ـ كيف تتلاءم القوانين الثابتة مع الحاجات المتغيّرة؟

بغضّ النظر عن مسألة السير التكاملي للبشر ، فإنّ هناك سؤالا آخر يطرح هنا ، وهو : أنّنا نعلم أنّ مقتضيات الأزمنة والأمكنة ومتطلباتها متفاوتة ، وبتعبير آخر فإنّ حاجات الإنسان في تغيّر مستمر ، في حين أنّ للشريعة الخاتمة قوانين ثابتة ، فهل تقوى هذه القوانين الثابتة على أن تؤمّن حاجات الإنسان المتغيّرة على مدى الزمان؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال جيدا بملاحظة المسألة التالية ، وهي : أنّه لو كانت لكلّ قوانين الإسلام صفة الجزئية ، وأنّها قد عيّنت لكلّ موضوع حكما جزئيا معينا لكان هناك مجال لهذا السؤال ، أمّا إذا عرفنا بأنّ في تعليمات الإسلام سلسلة من الأصول الكلية الواسعة جدّا ، والتي تقدر على أن تطابق الحاجات المتغيّرة وتؤمّنها ، فلا يبقى مجال لهذا الإشكال.

إنّنا نرى استحداث سلسلة من الاتّفاقيات الجديدة والروابط الحقوقية بين البشر لم يكن لها وجود في عصر نزول القرآن بتاتا ، فمثلا لم يكن في ذلك العصر شيء اسمه «الضمان» بفروعه المتعدّدة(١) ، وكذلك أنواع الشركات التي ظهرت في عصرنا وزماننا حسب الاحتياج اليومي ، لكن يوجد لدينا في الإسلام أصل عامّ ورد في بداية سورة «المائدة» بعنوان «لزوم الوفاء بالعهد والعقد» :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وهو قادر على احتواء كلّ هذه الاتفاقيات.

وطبعا هناك قيود وشروط بصورة عامّة وضعت لهذا الأصل العامّ في الإسلام ،

__________________

(١) طبعا يوجد في الإسلام موضوعات تشبه الضمان في حدود خاصّة ، كمسألة ضمان الجريرة ، أو تعلّق ديّة الخطأ المحض بالعاقلة ، إلّا أنّ لها مجرّد شبه بالمسألة كما قلنا.

٢٨٤

يجب أن تؤخذ بنظر الإعتبار أيضا.

بناء على هذا فالقانون الكلّي ثابت في هذا الباب بالرغم من أنّ مصاديقه متغيّرة ، فلا مانع من أن يظهر مصداق جديد له في كلّ يوم.

ونضرب مثالا آخر ، وهو : لدينا في الإسلام قانون مسلّم به ، وهو قانون (لا ضرر) يمكن من خلاله تحديد أيّ حكم يكون منبعا ومصدرا للضرر والخسارة في المجتمع ، وعن هذا الطريق ترفع كثير من الاحتياجات. إضافة إلى أنّ مسائل «لزوم حفظ المجتمع» ، و «وجوب مقدّمة الواجب» ، و «تقديم الأهمّ على المهمّ» يمكن أن تكون حلا للمشاكل في كثير من الموارد.

وعلاوة على كلّ ذلك فإنّ الصلاحيات التي تمنح للحكومة الإسلامية عن طريق «ولاية الفقيه» تضع تحت تصرفها إمكانيات واسعة لحلّ المشاكل في إطار اصول الإسلام العامّة.

إنّ بيان كلّ واحد من هذه الأمور ، مع الأخذ بنظر الإعتبار كون باب الاجتهاد ـ أي استنباط الأحكام الإلهية من المصادر الإسلامية ـ يحتاج إلى بحث واسع يبعدنا تناوله عن الموضوع ولكن مع ذلك فإنّ ما أوردناه هنا من باب الإشارة يمكن أن يكون جوابا للإشكال المذكور.

٣ ـ كيف يحرم البشر من فيض الارتباط بعالم الغيب؟

السؤال الآخر هو : إنّ نزول الوحي والاتّصال بعالم الغيب وما وراء الطبيعة يعتبر نافذة أمل لكلّ المؤمنين الحقيقيين ، إضافة إلى أنّه موهبة وفخر لعالم البشرية ، ألا يعتبر قطع طريق الاتّصال هذا ، وغلق نافذة الأمل هذه حرمانا عظيما للبشر الذين يعيشون بعد وفاة خاتم الأنبياء؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة النقطتين أدناه ، وهما :

الاولى : إنّ الوحي والارتباط بعالم الغيب وسيلة لإدراك الحقائق ولمّا بيّنت كلّ

٢٨٥

الاحتياجات والحقائق إلى يوم القيامة في الأصول العامّة والتعليمات الجامعة التي وضعها خاتم النّبيين ، ولذلك فإنّ قطع طريق الاتّصال هذا لا يوجد مشكلة.

الثّانية : إنّ ما يقطع إلى الأبد بعد ختم النبوّة هو الوحي لشريعة جديدة ، أو لتكميل شريعة سابقة ، لا كلّ أنواع الاتّصال بما وراء عالم الطبيعة ، لأنّ للأئمّة ارتباطا بعالم الغيب ، وكذلك المؤمنون الحقيقيون الذين أزالوا الحجب عن قلوبهم ووصلوا إلى مقام المكاشفة والشهادة نتيجة تهذيبهم أنفسهم.

يقول الفيلسوف الشهير «صدر المتألّهين الشيرازي» في مفاتيح الغيب : «واعلم ، أنّ الوحي إذا انقطع ، وباب الرسالة إذا انسدّ استغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجّة وإكمال الدين ، كما قال الله تعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) وأمّا باب الإلهام فلا ينسدّ ، ومدد نور الهداية لا ينقطع لاحتياج الناس لاستغراقهم في هذه الوساوس إلى التنبيه والتذكير ، والله تعالى غلق باب الوحي وفتح باب الإلهام رحمة منه على عباده»(١) .

إنّ هذا الارتباط يتولّد عادة من سموّ النفس وارتقاء الروح وتصفيتها وصفاء الباطن ، ولا علاقة لها بمسألة النبوّة والرسالة ، وبناء على هذا فمتى ما تحقّقت مقدّماته وشروطه وجدت هذه الرابطة المعنوية ، وبذلك فلم يكن أيّ بشر محروما من هذا الفيض العظيم ، ولن يكون ـ تأمّلوا ذلك ـ.

* * *

__________________

(١) مفاتيح الغيب ، ص ٤١ ـ ٤٢.

٢٨٦

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) )

التّفسير

تحيّة الله والملائكة فرج للمؤمنين :

لمّا كان الكلام في الآيات السابقة عن مسئوليات نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وواجباته الثقيلة الملقاة على عاتقه ، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن جانبا من وظائف المؤمنين من أجل تهيئة الأرضية اللازمة لهذا التبليغ ، وتوسعة أطرافه في جميع الأبعاد ، فوجّهت الخطاب إليهم جميعا وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ) ونزّهوه صباحا ومساء( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

أجل لمّا كانت عوامل الغفلة في الحياة المادية كثيرة جدّا ، وسهام وسوسة الشياطين ترمى من كلّ جانب صوب الإنسان ، فلا طريق لمحاربتها إلّا بذكر الله الكثير.

٢٨٧

إنّ «الذكر الكثير» ـ بالمعنى الواقعي للكلمة ـ يعني التوجّه إلى الله سبحانه بكلّ الوجود ، لا بلقلقة اللسان وحسب.

«الذكر الكثير» هو الذي يقذف النور في كلّ أعمال الإنسان ، ويغمرها بالضياء ، ولهذا فإنّ القرآن أمر كلّ المؤمنين في هذه الآية أن يذكروا الله على كلّ حال :

فاذكروه أثناء العبادة ، فاحضروا قلوبكم وأخلصوا فيها.

واذكروه عند إقدامكم على المعصية وتجنّبوها وإذا ما بدرت منكم عثرة وهفوة فبادروا إلى التوبة ، وارجعوا إلى طريق الحقّ.

واذكروه عند النعم واشكروه عليها.

واذكروه عند البلايا والمصائب واصبروا عليها وتحمّلوها.

والخلاصة : لا تنسوا ذكره في كلّ مشهد من مشاهد الحياة والابتعاد عن سخطه ، والتقرّب لما يجلب رضاه.

ونطالع في حديث مروي في «سنن الترمذي» و «مسند أحمد» عن أبي سعيد الخدري عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ فقال : «الذاكرون الله كثيرا».

قال أبو سعيد : فقلت : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله؟! قال : «لو ضرب بسيفه في الكفّار والمشركين حتّى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون أفضل درجة منه»(١) ، وذلك لأنّ الجهاد المخلص لا يمكن أن يتمّ بدون ذكر الله الكثير.

ومن هنا يعلم أنّ للذكر الكثير معنى واسعا ، وإذا ما فسّر في بعض الرّوايات بتسبيح فاطمةعليها‌السلام ـ وهو ٣٤ مرّة (الله أكبر) و٣٣ مرّة (الحمد لله) و٣٣ مرّة (سبحان الله) ـ وفي كلمات بعض المفسّرين بذكر الصفات العليا والأسماء الحسنى ، وتنزيه الله سبحانه عمّا لا يليق به ، فإنّ كلّ ذلك من باب ذكر المصداق الواضح ، لا تحديد

__________________

(١) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل الميزان ، المجلّد ١٦ ، صفحة ٣٥٣.

٢٨٨

المعنى بخصوص هذه المصاديق.

وكما يظهر بوضوح من سياق الآيات ، فإنّ المراد من «تسبيح الله» في كلّ غداة وعشي هو استمرار التسبيح ، وذكر هذين الوقتين بالخصوص باعتبارهما بداية اليوم ونهايته ، وما فسّرهما به البعض من أنّ المراد صلاتي الصبح والعصر ، أو أمثال ذلك ، فهو من قبيل ذكر المصداق أيضا.

لهذا فإنّ ذكر الله الكثير ، وتسبيحه بكرة وأصيلا لا يحصل إلّا باستمرار التوجّه إلى الله ، وتنزيهه عن كلّ عيب ونقص ، وتقديسه المتّصل ، فذكر الله غذاء لروح الإنسان كما أنّ الطعام والشراب غذاء للبدن.

وجاء في الآية (٢٨) من سورة الرعد( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ونتيجة هذا الاطمئنان القلبي هو ما ورد في الآيات ٢٧ ـ ٣٠ من سورة الفجر ، حيث تقول :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

والآية التالية بمثابة نتيجة وعلّة غائيّة للتسبيح في الواقع ، فهي تقول :( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) أي من ظلمات الشرك والكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم والتقوى( وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) وبسبب هذه الرحمة كتب على نفسه هداية البشر وإرشادهم ، وأمر ملائكته أن تعينهم في ذلك.

«يصلّي» من مادة (صلاة) وهي هنا تعني الرعاية والعناية الخاصّة ، وهذه العناية بالنسبة لله تعني نزول الرحمة ، وبالنسبة للملائكة تعني الاستغفار وطلب الرحمة ، كما نقرأ ذلك في الآية (٧) من سورة غافر :( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذه الآية تتضمّن بشارة عظيمة للمؤمنين الذاكرين الله على الدوام ، فهي تقول بصراحة : إنّ هؤلاء ليسوا وحدهم في سيرهم إلى الله ، بل إنّهم ـ بمقتضى (يصلّي) وهو فعل مضارع يدلّ على الاستمرار ـ يسيرون في ظلّ

٢٨٩

رحمة الله وملائكته ، وفي ظلّ هذه الرحمة تزاح حجب الظلمة ، ويغمر قلوبهم وأرواحهم نور العلم والحكمة والإيمان والتقوى.

نعم إنّ هذه الآية بشارة كبرى لكلّ سالكي طريق الحقّ بأنّ هناك جاذبية قوية من جانب المعشوق تجذب العاشق إليها لينتهي سعي هذا العاشق الصبّ إلى نتيجة ولا يذهب سدى!

إنّ هذه الآية ضمان لكلّ المجاهدين في سبيل الله أن لا ينالهم قسم الشيطان على إغواء بني آدم ، لأنّهم في زمرة المخلصين المخلصين ، وقد أظهر الشيطان عجزه عن إضلال هذه الزمرة منذ الوهلة الاولى فقال :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .(١)

إنّ جملة( وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) وبملاحظة أنّ (كان) فعل ماض يدلّ على أنّ الله كان رحيما بالمؤمنين رحمة خاصّة على الدوام ، تأكيد مجدّد على ما جاء في بداية السورة.

أجل هذه هي رحمة الله الخاصّة التي تخرج المؤمنين من ظلمات الأوهام والشهوات والوساوس الشيطانية ، وتهديهم إلى نور اليقين والاطمئنان والسيطرة على النفس ، ولو لا رحمته سبحانه فإنّ هذا الطريق المليء بالمنعطفات والعراقيل لا يكون سالكا.

وتجسّد الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث مقام المؤمنين وثوابهم بأروع تجسيد وأقصر عبارة ، فتقول :( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ) .

«التحيّة» من مادّة «حياة» ، وهي تعني الدعاء لسلامة وحياة اخرى. ولمزيد التوضيح راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (٨٥) من سورة النساء.

هذا السّلام يعني السلامة من العذاب ، ومن كلّ أنواع الألم والعذاب والمشقّة ،

__________________

(١) سورة ص ـ ٨٢ ، ٨٣.

٢٩٠

سلام ممتزج بالهدوء والاطمئنان.

ومع أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ «تحيتهم» إشارة إلى سلام المؤمنين وتحية بعضهم بعضا ، إلّا أنّ ملاحظة الآيات السابقة التي كان الكلام فيها عن الصلاة ورحمة الله والملائكة في هذه الدنيا ، تظهر أنّ هذه التحية أيضا من الملائكة في الآخرة ، كما نقرأ ذلك في الآية (٢٣) من سورة الرعد :( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ) .

ممّا قلناه اتّضح بصورة ضمنية أنّ المراد من جملة( يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ) هو يوم القيامة الذي سمّي بيوم «لقاء الله» ، وهذا التعبير يستعمل عادة في القرآن بهذا المعنى.

بعد هذه التحيّة ، التي ترتبط ببداية الأمر ، أشارت الآية إلى نهايته فقالت :( وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ) .

إنّها جملة جمع فيها كلّ شيء على اختصارها ، وأخفيت فيها كلّ النعم والمواهب.

* * *

بحوث

١ ـ ذكر الله على كلّ حال :

عند ما يذكر اسم الله تعالى يتجلّى في قلب الإنسان عالم من العظمة والقدرة والعلم والحكمة ، لأنّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وربّ كلّ الكمالات ، ومنزّه عن كلّ عيب ونقص.

إنّ التوجّه المستمر لمثل هذه الحقيقة التي لها تلك الصفات ، يسوق روح الإنسان إلى الخيرات والأعمال الصالحة والطهارات ، ويبعده عن السيّئات والقبائح ، وبعبارة اخرى فإنّ نور صفاتهعزوجل يتجلّى في روح الإنسان.

إنّ التوجّه إلى هكذا معبود عظيم يبعث على الإحساس الدائم بحضوره بين

٢٩١

يديه تعالى ، وهذا الإحساس يؤدّي إلى زيادة الفاصلة كثيرا بين الإنسان وبين الذنب والمعصية.

ذكر الله يعني تذكر مراقبته ذكر حسابه وجزائه ذكر محكمته العادلة نعيمه وجحيمه وهذا هو الذكر الذي يصفّي الروح ، ويغمر القلب نورا وحيوية.

لهذا ورد في الروايات الإسلامية أنّ لكلّ شيء حدّا ، إلّا ذكر الله فإنّه لا حدّ له!

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في الرواية التي وردت في اصول الكافي : «ما من شيء إلّا وله حدّ ينتهي إليه ، إلّا الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه».

ثمّ يضيف : «فرض اللهعزوجل الفرائض ، فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ ، وشهر رمضان فمن صامه فهو ، والحجّ فمن حجّ حدّه ، إلّا الذكر ، فإنّ اللهعزوجل لم يرض منه بالقليل ، ولم يجعل له حدّا ينتهي إليه ، ثمّ تلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (١) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام في ذيل هذه الرواية ، «وكان أبي كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله ، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله».

وأخيرا ينتهي هذا الحديث الغني المحتوى بهذه الجملة : «والبيت الذي يقرأ فيه القرآن ، ويذكر اللهعزوجل فيه تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض»(٢) .

إنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان بحيث عدّ «ذكر الله» في حديث يعدل خير الدنيا والآخرة ، فقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من أعطي لسانا ذاكرا فقد اعطي خير الدنيا والآخرة»(٣)

__________________

(١) الكافي ، المجلّد الثّاني ، كتاب الدعاء. باب ذكر اللهعزوجل كثيرا.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٢٩٢

والروايات الواردة في أهميّة «ذكر الله» تبلغ من الكثرة حدّا بحيث أنّا لو أردنا إيرادها جميعا هنا لخرجنا عن وضع الكتاب وحدّه ، ولذلك نختم هذا الحديث بحديث آخر قصير عميق المعنى عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث يقول : «من أكثر ذكر اللهعزوجل أظلّه الله في جنّته»(١) .

ولمزيد الاطلاع في هذا المجال يراجع المجلّد الثّاني من اصول الكافي ـ الأبواب التي تتعلّق بذكر الله ، وخاصّة الأبواب التي تقول : إنّ الآفات والبلايا والمصائب لا تحيط بمن يذكرون الله).

وهناك مطلب ينبغي التأكيد عليه ، وهو أنّ كلّ هذه البركات والخيرات لا ترتبط قطعا بالذكر اللفظي وحركة اللسان الخالية من الفكر والعمل ، بل الهدف هو الذكر الذي يكون مصدرا ومنبعا للفكر ذلك الفكر الذي يتجلّى نوره في أعمال الإنسان ، كما صرّحت الروايات بهذا المعنى(٢) .

٢ ـ توضيح حول «لقاء الله» :

قلنا : إنّ هذا التعبير في القرآن المجيد يشير إلى القيامة عادة ، ولمّا كان اللقاء الحسّي لا يصدق في شأن الله ، إذ ليس هو بجسم ، وليس له العوارض الجسمية ، ولذلك اضطر بعض المفسّرين إلى تقدير شيء هنا ، فقالوا : إن المراد هو «لقاء ثواب الله» ، أو «لقاء ملائكة الله».

غير أنّ «اللقاء» يمكن أن يؤخذ هنا بمعنى اللقاء الحقيقي بعين القلب ، حيث أنّ الحجب تزال في القيامة وتتجلّى عظمة الله وآياته أكثر من أيّ وقت مضى ، ويصل الإنسان إلى مقام المشاهدة الباطنية والرؤية القلبية ، وينال كلّ شخص من هذه المشاهدة مرتبة تتناسب مع مقدار معرفته وعمله الصالح.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) خصال الصدوق ، طبقا لنقل تفسير الميزان ، المجلّد ١٦ ، صفحة ٣٥٣.

٢٩٣

وللفخر الرازي في تفسيره هنا بيان جميل يمكن جمعه مع ما قلناه ، فهو يقول : إنّ الإنسان يغفل في هذه الدنيا عن الله غالبا نتيجة لغرقه في الأمور المادية ، والسعي لتحصيل المعاش ، إلّا أنّه يتوجّه يوم القيامة بكلّ وجوده إلى ربّ العالمين ، لأنّ كلّ هذه المشاغل الفكرية ستزول ، وهذا هو معنى لقاء الله(١) .

ثمّ إنّه اتّضح ممّا قلناه أنّ قول بعض المفسّرين بأنّ هذا التعبير إشارة إلى لحظة الموت واللقاء بملك الموت لا يناسب الآيات مورد البحث ، ولا التعبيرات المشابهة الواردة في آيات القرآن الاخرى ، وخاصّة وأنّ ضمير المفعول الذي في جملة «يلقونه» جاء بصيغة المفرد ، وهو إشارة إلى ذات الله المقدّسة في حين أنّ الملائكة التي تقبض الأرواح جمع ، وجاءت كلمة «الملائكة» بصيغة الجمع في الآية السابقة أيضا (إلّا اللهمّ أن تقدّر كلمة ما).

٣ ـ أجور المؤمنين معدّة منذ الآن!

إنّ جملة( أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ) توحي بأنّ الجنّة ونعمها قد خلقت ، وهي بانتظار المؤمنين. ويمكن أن يتبادر هذا السؤال إلى الأذهان : إنّ التهيئة والإعداد يليقان بالشخص المحدود القدرة ، حيث أنّه ربّما لا يستطيع في بعض الأحيان أن يهيء وقت الحاجة ما يريد ، إلّا أنّ مثل هذه الحاجة إلى الاستعداد لا تصدق في شأن الله سبحانه ، إذ أنّ قدرته لا تحدّ ، وإذا أراد شيئا في أيّة لحظة فإنّه يقول له : كن فيكون ، فما هو المراد من التأكيد على التهيئة والإعداد في هذه الآية وسائر آيات القرآن الاخرى؟!

وبملاحظة نقطة واحدة يحلّ هذا الإشكال ، وهي أنّ تهيئة الشيء ليس نابعا من كون القدرة محدودة دائما ، بل قد يكون أحيانا من أجل تهدئة الخاطر واطمئنان

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآية مورد البحث.

٢٩٤

النفس أكثر ، وقد يكون أحيانا من أجل زيادة الاحترام والإكرام ، ولذلك فإنّنا إذا دعونا ضيفا ، وبدأنا بتهيئة وسائل استقباله وضيافته ، فسنكون قد اهتممنا به واحترمناه أكثر ، على عكس ما إذا قمنا بهذا الاستعداد لاستقباله يوم مجيئه ، وفي ساعة وصوله ، فإنّ هذا كاف لوحده في الدلالة على عدم اهتمامنا وقلّة احترامنا لهذا الضيف.

وفي الوقت نفسه ، لا يمنع هذا الكلام من تعاظم الأجر والثواب وزيادته وفق العمل ، وأنّ المؤمنين كلّما اجتهدوا أكثر في تهذيب أنفسهم وتطهيرها ، فإنّ الأجور الإلهيّة المعدّة لهم تتكامل أكثر وتعظّم ، وتسير نحو الكمال بنفس النسبة التي يتكاملون فيها.

* * *

٢٩٥

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) )

التّفسير

السّراج المنير!

الخطاب في هذه الآيات موجّه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ نتيجته لكلّ المؤمنين ، وبذلك فإنّها تكمل الآيات السابقة التي كانت تبحث في بعض وظائف المؤمنين وواجباتهم.

لقد جاءت في الآيتين الأوليين من هذه الآيات الأربع «خمس صفات» للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجاء في الآيتين الأخريين بيان خمس واجبات يرتبط بعضها ببعض ، وتكمل إحداها الاخرى.

تقول الآية أوّلا :( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ) فهو من جانب شاهد على أعمال أمّته ، لأنّه يرى أعمالهم كما نقرأ ذلك في موضع آخر :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ

٢٩٦

وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) .(١) وهذا العلم يمكن تحقّقه عن طريق عرض أعمال الامّة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام ، وقد مرّ تفصيل ذلك في ذيل الآية المذكورة (١٠٥ من سورة التوبة).

وهو من جانب آخر شاهد على الأنبياء الماضين الذين كانوا شهودا على أممهم :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) .(٢)

ومن جهة ثالثة فإنّ وجودك بما لك من الصفات والأخلاق والبرامج والتعليمات البنّاءة ، إضافة إلى تاريخك المشرق وأعمالك المشرفة ، شاهد على أحقّية دينك ، وشاهد على عظمة الله وقدرته.

ثمّ تطرّقت الآية إلى الصفتين الثّانية والثالثة فقالت :( وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) فهو مبشّر للمحسنين بثواب الله اللامتناهي بالسلامة والسعادة الخالدة بالظفر والتوفيق المليء بالفخر والاعتزاز ونذير للكافرين والمنافقين من عذاب الله الأليم من خسران كلّ رأسمال الوجود ، ومن السقوط في شراك التعاسة في الدنيا والآخرة.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ البشارة والإنذار يجب أن يقترنا في كلّ مكان ، وأن يكون أحدهما معادل للآخر ، لأنّ نصف وجود الإنسان عبارة عن حبّه لجلب المنفعة ، ونصفه الآخر سعيه لدفع المضرّة عنه ، فالبشارة تشكّل الدافع على القسم الأوّل ، والإنذار على النصف الثاني ، فالمناهج التي تعتمد على جانب واحد لم تدرك حقيقة الإنسان ، ولم تدرك دوافعه وميوله(٣) .

وأشارت الآية التالية إلى الصفة الرّابعة والخامسة ، فقالت :( وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) .

* * *

__________________

(١) التوبة ، ١٠٥.

(٢) النساء ، ٤١.

(٣) لقد أوردنا بحثا مفصّلا في هذا الباب تحت عنوان أصلان تربويان مهمّان ، في ذيل الآية (١١٩) من سورة البقرة.

٢٩٧

ملاحظات

وهنا ينبغي الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

١ ـ لقد ذكر مقام «الشهادة» ، وكون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهدا قبل جميع صفاته الاخرى ، وذلك لأنّ هذا المقام لا يحتاج إلى مقدّمة سوى وجود النّبي ورسالته ، فعند ما يتمّ نصبه في هذا المقام يكون شاهدا من جميع الجهات التي ذكرناها سابقا ، غير أنّ مقام «البشارة» و «الإنذار» أمر يتحقّق بعد ذلك.

٢ ـ إنّ الدعوة إلى الله سبحانه مرحلة تأتي بعد البشارة والإنذار ، لأنّ البشارة والإنذار وسيلة لتهيئة الأفراد لقبول الحقّ ، فعند ما تتهيّأ هذه الأرضية عن طريق الترغيب والترهيب ، تبدأ مرحلة الدعوة إلى الله سبحانه ، وستكون مؤثّرة في هذه الحالة فقط.

٣ ـ مع أنّ كلّ أعمال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بإذن الله وأمره ، إلّا أنّ الدعوة هي الوحيدة التي قيّدت بإذن الله هنا ، وذلك لأنّ أشقّ أعمال الأنبياء وأهمّها هي الدعوة إلى الله سبحانه ، حيث يجب عليهم أن يسوقوا الناس في طريق يخالف ميولهم وشهواتهم ، فيجب أن تستبطن إذن الله وأمره ونصرته في هذه المرحلة ليتمّ تنفيذها ، ومن هنا يتّضح أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يملك شيئا من عند نفسه ، بل كلّ ما يقوله بإذن الله(١) .

٤ ـ إنّ كون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (سراجا منيرا) إشارة إلى المعجزات وأدلّة أحقّية دعوة الرّسول ، وعلامة صدقها ، فهو سراج منير شاهد بنفسه على نفسه ، يزيح الظلمات ويلفت الأنظار ويجذب القلوب إليه ، فكما أنّ بزوغ الشمس دليل على وجود الشمس ، فكذلك وجودهصلى‌الله‌عليه‌وآله دليل على كونه حقّا ، ودليل على أحقّيته.

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ لفظة «السراج» قد وردت في القرآن المجيد أربع مرّات ، ثلاث منها في شأن الشمس ، ومن جملتها ما ورد في الآية (١٦) من سورة

__________________

(١) يحتمل أيضا أنّ قيد (بإذنه) يعود إلى جميع الأوصاف السابقة ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو أنّ الضمير يعود إلى مسألة الدعوة إلى الله.

٢٩٨

نوح حيث تقول :( وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) .

«السراج» في الأصل يعني المصباح الذي يضاء سابقا بواسطة الفتيلة والزيت ، وبواسطة الطاقة الكهربائية وأمثالها في العصر الحاضر ، فينبعث ضياؤه ونوره ، إلّا أنّه اطلق ـ على قول الراغب في مفرداته ـ على كلّ مصدر للنور فيما بعد ، وإطلاقه على الشمس من أجل أنّ نورها ينبع من داخلها ، ولا تكتسب نورها من مصدر آخر كالقمر.

إنّ وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كالشمس المنيرة التي تزيح ظلمات الجهل والشرك والكفر عن سماء روح البشر ، لكن كما لا ينتفع العمي بنور الشمس ، وكما تخفي الخفافيش أنفسها عنه حيث لا طاقة لعيونها برؤية هذا النور ، فإنّ عمي القلوب العنودين المتعصّبين لم يستفيدوا ولن يستفيدوا من هذا النور مطلقا ، وكان أبو جهل وأمثاله يضعون أصابعهم في آذانهم حتّى لا يسمعوا صوت قرأنه ونغمته.

إنّ الظلام يبعث على الخوف والوحشة دائما ، والنور يبعث الاطمئنان والراحة ، فالسرّاق واللصوص يستغلّون ظلام الليل للسطو على الدور ونهب ما يقدرون عليه ، والحيوانات المفترسة تخرج من حجورها في ظلمة الليل غالبا.

الظلام يسبّب الفرقة ، والنور يسبّب الاجتماع ، ولذلك فإنّنا إذا أسرجنا سراجا في ليلة مظلمة فستجتمع حوله أنواع الحشرات في فترة قصيرة.

إنّ النور والضياء أساس نمو الأشجار ، ونضج الفواكه والأثمار ، والخلاصة : كلّ نشاطات الحياة ، وتشبيه وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمصدر للنور يبعث على تداعي كلّ هذه المفاهيم في الذهن.

إنّ وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أساس الهدوء والاطمئنان ، وفرار لصوص الدين والإيمان ، وهرب الذئاب الضارية الظالمة لمجتمعاتها ، ويوجب هدوء الخاطر ، ونمو روح الإيمان والأخلاق ، والخلاصة : أساس الحياة والحركة ، وتأريخ حياته شاهد حي على هذا الموضوع.

٢٩٩

وفي الآيتين الأخريين من الآيات مورد البحث بيانا لخمسة واجبات من واجبات النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله المهمّة بعد بيان صفاته الخمس ، فتقول أوّلا :( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّ مسألة تبشير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يحدّ بالثواب الإلهي بمقدار أعمال المؤمنين الصالحة ، بل إنّ الله سبحانه يفيض عليهم من فضله بحيث تضطرب المعادلة بين العمل والجزاء تماما كما تشهد بذلك الآيات القرآنية.

فتقول في موضع :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .(١)

وتقول في موضع آخر :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) .(٢)

وقد تذهب أبعد من ذلك فتقول :( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .(٣)

وبهذا فإنّ أبعاد الفضل الإلهي الكبير أوسع وأسمى ممّا يخطر في التصوّر والأوهام.

ثمّ تناولت الواجب الثّاني والثالث ، فقالت :( وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ) .

لا شكّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطع الكافرين والمنافقين مطلقا ، إلّا أنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان ، ولذلك أكّدت الآية على هذا الموضوع بالخصوص من باب التأكيد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والتحذير والقدوة للآخرين ، فهي تحذّرهم من الأخطار والعقبات المهمّة التي تعترض طريق القادة المخلصين ، والتي تجرّهم إلى المساومة والتسليم أثناء المسيرة ، وتتهيّأ أرضية هذا التسليم عن طريق التهديد تارة ، وعن طريق منح الامتيازات تارة اخرى ، حتّى أنّ الإنسان قد يشتبه أحيانا فيظنّ أنّ الخضوع والامتثال لمثل لهذه المساومة والاستسلام هو طريق الوصول

__________________

(١) الأنعام ، ١٦٠.

(٢) البقرة ، ٢٦١.

(٣) الم السجدة ، ١٧.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510