الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156521 / تحميل: 5913
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

لعليعليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي»(١) .

٣ ـ وثمّة حديث مشهور أيضا ، وقد روي في كثير من مصادر العامّة ، وذلك

أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله ، فجعل الناس يطيفون به يقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا إلّا هذه اللبنة ، فكنت أنا تلك اللبنة».

لقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم بعبارات مختلفة ، وروي عن رواة عديدين ، وقد وردت هذه الجملة «وأنا خاتم النّبيين» في ذيل الحديث الآنف الذكر في أحد الموارد.

ونرى في نهاية حديث آخر : «جئت فختمت الأنبياء»(٢) .

وقد ورد هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري ـ كتاب المناقب ـ ومسند أحمد بن حنبل ، وسنن الترمذي والنسائي وكتب اخرى ، وهو من الأحاديث المعروفة والمشهورة جدّا ، وقد أورده مفسّر والفريقين كالطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره ، في ذيل الآية مورد البحث.

٤ ـ لقد ورد كون نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما للنبيين صريحا في كثير من خطب نهج البلاغة ، ومن جملة ذلك ما نراه في الخطبة ١٧٣ في وصف نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يقولعليه‌السلام : «أمين وحيه ، وخاتم رسله ، وبشير رحمته ، ونذير نقمته».

وجاء في الخطبة ١٣٣ : «أرسله على حين فترة من الرسل ، وتنازع من الألسن.

فقفّى به الرسل ، وختم به الوحي».

وقالعليه‌السلام في الخطبة الاولى من نهج البلاغة ، بعد أن عدّد تعليمات الأنبياء

__________________

(١) روى هذا الحديث محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى : ص ٧٩ طبعة مكتبة القدس ، وابن حجر في الصواعق المحرقة ، ص ١٧٧ طبعة مكتبة القاهرة ، وفي تاريخ بغداد ، المجلّد ٧ ، ص ٤٥٢ طبعة السعادة ، وكتب اخرى ككنز العمّال ، ومنتخب كنز العمال ، وينابيع المودّة. لمزيد الإيضاح حول حديث المنزلة راجع هذا التّفسير ذيل الآية (١٤٤) من سورة الأعراف.

(٢) صحيح مسلم ، الجزء ٤ ، ص ١٧٩٠ ـ ١٧٩١ باب ذكر كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيّين من كتاب الفضائل.

٢٨١

الماضين : «إلى أن بعث الله سبحانه محمّدا رسول لإنجاز عدته ، وإتمام نبوّته».

٥ ـ وقد وردت مسألة الخاتمية في ختام خطبة الوداع ، تلك الخطبة التي ألقاها نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر حجّة له ، وفي آخر سنة من عمره المبارك ، كوصيّة جامعة للناس ، حيث قال : «ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي ، ولا امّة بعدكم» ثمّ رفع يديه إلى السماء حتّى بان بياض إبطيه ، فقال : «اللهمّ اشهد أنّي قد بلّغت»(١) .

٦ ـ وجاء في حديث آخر ورد في «الكافي» عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله ختم بنبيّكم النبيّين فلا نبيّ بعده أبدا ، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبدا»(٢) .

إنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة جدّا ، بحيث جمع منها في كتاب (معالم النبوّة) ١٣٥ حديثا من كتب علماء الإسلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الإسلام العظام(٣) .

٣ ـ إجابة عن عدّة أسئلة :

١ ـ كيف تتناسب الخاتمية مع سير الإنسان التكاملي؟

السوال الأوّل الذي يطرح في هذا البحث هو : هل يمكن أن يتوقّف المجتمع الإنساني؟ أترى يوجد لسير البشر التكاملي حدّ محدود؟ ألسنا نرى بامّ أعيننا أنّ بشر اليوم قد وصلوا في العلم والثقافة إلى مرحلة تفوّق مستوى سابقيهم؟ فمع هذا الحال كيف يمكن أن يغلق سجل النبوّة مطلقا ، فيحرم الإنسان من قيادة أنبياء جدد في سيره التكاملي؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح بالالتفات إلى مسألة واحدة ، وهي أنّ

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢١ ، ص ٣٨١.

(٢) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل.

(٣) معالم النبوّة. فصل نصوص كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما.

٢٨٢

الإنسان يصل أحيانا إلى مرتبة من النضج الفكري والثقافي بحيث يكون قادرا على الاستمرار في طريقه بالاستعانة المستمرة بالأصول والتعليمات التي تركها له النّبي الخاتم بصورة جامعة ، دون أن يحتاج إلى شريعة جديدة.

وهذا الأمر يشبه تماما أن يكون الإنسان محتاجا لمعلّم جديد ومربّ آخر في كلّ مرحلة من مراحل الدراسة المختلفة ، حتّى يقضي المراحل المختلفة ، أمّا إذا حصل على الدكتوراه ، أو أصبح مجتهدا له رأيه في العلم أو العلوم المختلفة فإنّه لا يحتاج في دراسته إلى أستاذ جديد ، بل يباشر البحث والمطالعة والتحقيق استنادا إلى ما اكتسبه من الأساتذة السابقين ، وخاصّة استاذه الأخير.

وبتعبير آخر ، فإنّه يحلّ المشاكل والعقبات التي تعترضه بالاستعانة بتلك الأصول الكليّة التي تعلّمها من استاذه الأخير ، وبناء على هذا فلا حاجة لأنّ يظهر دين جديد على مرّ الزمان (تأمّلوا ذلك).

وببيان آخر ، فإنّ كلّ واحد من الأنبياء السابقين قد مهّد جانبا من مسير التكامل ليكون الإنسان قادرا على سلوك هذا الطريق الصعب نحو التكامل وينال الأهلية لاستقبال منهج كامل وجامع لهذا الطريق على يد آخر نبي أرسل من قبل الله تعالى.

من البديهي أنّه مع استلام الخريطة الكاملة والمخطّط الجامع سوف لا تكون هناك حاجة إلى مخطّط آخر ، وهذا في الحقيقة هو التعبير الذي ورد في الرّوايات الدالة على كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما ، والتي عدّت نبيّ الإسلام آخر لبنة ، أو واضع آخر لبنة في قصر الرسالة البديع المحكم. وكلّ ذلك يؤكّد عدم الحاجة إلى دين جديد وشريعة مستحدثة.

أمّا فيما يتعلّق بمسألة القيادة والإمامة ، والتي تعني الإشراف التامّ على تنفيذ هذه الأصول ، والأخذ بأيدي الناس في هذا الطريق ، فهي مسألة اخرى لا يمكن أن يستغني الإنسان عنها في أيّ حين ، ولذلك فإنّ ختام سلسلة النبوّة لا يعني أبدا

٢٨٣

نهاية سلسلة الإمامة ، لأنّ «تبيين» و «توضيح» هذه الأصول و «تحقّقها في الخارج» لا يمكن أن يتمّ من دون الاستعانة بوجود قائد وإمام معصوم.

٢ ـ كيف تتلاءم القوانين الثابتة مع الحاجات المتغيّرة؟

بغضّ النظر عن مسألة السير التكاملي للبشر ، فإنّ هناك سؤالا آخر يطرح هنا ، وهو : أنّنا نعلم أنّ مقتضيات الأزمنة والأمكنة ومتطلباتها متفاوتة ، وبتعبير آخر فإنّ حاجات الإنسان في تغيّر مستمر ، في حين أنّ للشريعة الخاتمة قوانين ثابتة ، فهل تقوى هذه القوانين الثابتة على أن تؤمّن حاجات الإنسان المتغيّرة على مدى الزمان؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال جيدا بملاحظة المسألة التالية ، وهي : أنّه لو كانت لكلّ قوانين الإسلام صفة الجزئية ، وأنّها قد عيّنت لكلّ موضوع حكما جزئيا معينا لكان هناك مجال لهذا السؤال ، أمّا إذا عرفنا بأنّ في تعليمات الإسلام سلسلة من الأصول الكلية الواسعة جدّا ، والتي تقدر على أن تطابق الحاجات المتغيّرة وتؤمّنها ، فلا يبقى مجال لهذا الإشكال.

إنّنا نرى استحداث سلسلة من الاتّفاقيات الجديدة والروابط الحقوقية بين البشر لم يكن لها وجود في عصر نزول القرآن بتاتا ، فمثلا لم يكن في ذلك العصر شيء اسمه «الضمان» بفروعه المتعدّدة(١) ، وكذلك أنواع الشركات التي ظهرت في عصرنا وزماننا حسب الاحتياج اليومي ، لكن يوجد لدينا في الإسلام أصل عامّ ورد في بداية سورة «المائدة» بعنوان «لزوم الوفاء بالعهد والعقد» :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وهو قادر على احتواء كلّ هذه الاتفاقيات.

وطبعا هناك قيود وشروط بصورة عامّة وضعت لهذا الأصل العامّ في الإسلام ،

__________________

(١) طبعا يوجد في الإسلام موضوعات تشبه الضمان في حدود خاصّة ، كمسألة ضمان الجريرة ، أو تعلّق ديّة الخطأ المحض بالعاقلة ، إلّا أنّ لها مجرّد شبه بالمسألة كما قلنا.

٢٨٤

يجب أن تؤخذ بنظر الإعتبار أيضا.

بناء على هذا فالقانون الكلّي ثابت في هذا الباب بالرغم من أنّ مصاديقه متغيّرة ، فلا مانع من أن يظهر مصداق جديد له في كلّ يوم.

ونضرب مثالا آخر ، وهو : لدينا في الإسلام قانون مسلّم به ، وهو قانون (لا ضرر) يمكن من خلاله تحديد أيّ حكم يكون منبعا ومصدرا للضرر والخسارة في المجتمع ، وعن هذا الطريق ترفع كثير من الاحتياجات. إضافة إلى أنّ مسائل «لزوم حفظ المجتمع» ، و «وجوب مقدّمة الواجب» ، و «تقديم الأهمّ على المهمّ» يمكن أن تكون حلا للمشاكل في كثير من الموارد.

وعلاوة على كلّ ذلك فإنّ الصلاحيات التي تمنح للحكومة الإسلامية عن طريق «ولاية الفقيه» تضع تحت تصرفها إمكانيات واسعة لحلّ المشاكل في إطار اصول الإسلام العامّة.

إنّ بيان كلّ واحد من هذه الأمور ، مع الأخذ بنظر الإعتبار كون باب الاجتهاد ـ أي استنباط الأحكام الإلهية من المصادر الإسلامية ـ يحتاج إلى بحث واسع يبعدنا تناوله عن الموضوع ولكن مع ذلك فإنّ ما أوردناه هنا من باب الإشارة يمكن أن يكون جوابا للإشكال المذكور.

٣ ـ كيف يحرم البشر من فيض الارتباط بعالم الغيب؟

السؤال الآخر هو : إنّ نزول الوحي والاتّصال بعالم الغيب وما وراء الطبيعة يعتبر نافذة أمل لكلّ المؤمنين الحقيقيين ، إضافة إلى أنّه موهبة وفخر لعالم البشرية ، ألا يعتبر قطع طريق الاتّصال هذا ، وغلق نافذة الأمل هذه حرمانا عظيما للبشر الذين يعيشون بعد وفاة خاتم الأنبياء؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة النقطتين أدناه ، وهما :

الاولى : إنّ الوحي والارتباط بعالم الغيب وسيلة لإدراك الحقائق ولمّا بيّنت كلّ

٢٨٥

الاحتياجات والحقائق إلى يوم القيامة في الأصول العامّة والتعليمات الجامعة التي وضعها خاتم النّبيين ، ولذلك فإنّ قطع طريق الاتّصال هذا لا يوجد مشكلة.

الثّانية : إنّ ما يقطع إلى الأبد بعد ختم النبوّة هو الوحي لشريعة جديدة ، أو لتكميل شريعة سابقة ، لا كلّ أنواع الاتّصال بما وراء عالم الطبيعة ، لأنّ للأئمّة ارتباطا بعالم الغيب ، وكذلك المؤمنون الحقيقيون الذين أزالوا الحجب عن قلوبهم ووصلوا إلى مقام المكاشفة والشهادة نتيجة تهذيبهم أنفسهم.

يقول الفيلسوف الشهير «صدر المتألّهين الشيرازي» في مفاتيح الغيب : «واعلم ، أنّ الوحي إذا انقطع ، وباب الرسالة إذا انسدّ استغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجّة وإكمال الدين ، كما قال الله تعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) وأمّا باب الإلهام فلا ينسدّ ، ومدد نور الهداية لا ينقطع لاحتياج الناس لاستغراقهم في هذه الوساوس إلى التنبيه والتذكير ، والله تعالى غلق باب الوحي وفتح باب الإلهام رحمة منه على عباده»(١) .

إنّ هذا الارتباط يتولّد عادة من سموّ النفس وارتقاء الروح وتصفيتها وصفاء الباطن ، ولا علاقة لها بمسألة النبوّة والرسالة ، وبناء على هذا فمتى ما تحقّقت مقدّماته وشروطه وجدت هذه الرابطة المعنوية ، وبذلك فلم يكن أيّ بشر محروما من هذا الفيض العظيم ، ولن يكون ـ تأمّلوا ذلك ـ.

* * *

__________________

(١) مفاتيح الغيب ، ص ٤١ ـ ٤٢.

٢٨٦

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) )

التّفسير

تحيّة الله والملائكة فرج للمؤمنين :

لمّا كان الكلام في الآيات السابقة عن مسئوليات نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وواجباته الثقيلة الملقاة على عاتقه ، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن جانبا من وظائف المؤمنين من أجل تهيئة الأرضية اللازمة لهذا التبليغ ، وتوسعة أطرافه في جميع الأبعاد ، فوجّهت الخطاب إليهم جميعا وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ) ونزّهوه صباحا ومساء( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

أجل لمّا كانت عوامل الغفلة في الحياة المادية كثيرة جدّا ، وسهام وسوسة الشياطين ترمى من كلّ جانب صوب الإنسان ، فلا طريق لمحاربتها إلّا بذكر الله الكثير.

٢٨٧

إنّ «الذكر الكثير» ـ بالمعنى الواقعي للكلمة ـ يعني التوجّه إلى الله سبحانه بكلّ الوجود ، لا بلقلقة اللسان وحسب.

«الذكر الكثير» هو الذي يقذف النور في كلّ أعمال الإنسان ، ويغمرها بالضياء ، ولهذا فإنّ القرآن أمر كلّ المؤمنين في هذه الآية أن يذكروا الله على كلّ حال :

فاذكروه أثناء العبادة ، فاحضروا قلوبكم وأخلصوا فيها.

واذكروه عند إقدامكم على المعصية وتجنّبوها وإذا ما بدرت منكم عثرة وهفوة فبادروا إلى التوبة ، وارجعوا إلى طريق الحقّ.

واذكروه عند النعم واشكروه عليها.

واذكروه عند البلايا والمصائب واصبروا عليها وتحمّلوها.

والخلاصة : لا تنسوا ذكره في كلّ مشهد من مشاهد الحياة والابتعاد عن سخطه ، والتقرّب لما يجلب رضاه.

ونطالع في حديث مروي في «سنن الترمذي» و «مسند أحمد» عن أبي سعيد الخدري عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ فقال : «الذاكرون الله كثيرا».

قال أبو سعيد : فقلت : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله؟! قال : «لو ضرب بسيفه في الكفّار والمشركين حتّى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون أفضل درجة منه»(١) ، وذلك لأنّ الجهاد المخلص لا يمكن أن يتمّ بدون ذكر الله الكثير.

ومن هنا يعلم أنّ للذكر الكثير معنى واسعا ، وإذا ما فسّر في بعض الرّوايات بتسبيح فاطمةعليها‌السلام ـ وهو ٣٤ مرّة (الله أكبر) و٣٣ مرّة (الحمد لله) و٣٣ مرّة (سبحان الله) ـ وفي كلمات بعض المفسّرين بذكر الصفات العليا والأسماء الحسنى ، وتنزيه الله سبحانه عمّا لا يليق به ، فإنّ كلّ ذلك من باب ذكر المصداق الواضح ، لا تحديد

__________________

(١) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل الميزان ، المجلّد ١٦ ، صفحة ٣٥٣.

٢٨٨

المعنى بخصوص هذه المصاديق.

وكما يظهر بوضوح من سياق الآيات ، فإنّ المراد من «تسبيح الله» في كلّ غداة وعشي هو استمرار التسبيح ، وذكر هذين الوقتين بالخصوص باعتبارهما بداية اليوم ونهايته ، وما فسّرهما به البعض من أنّ المراد صلاتي الصبح والعصر ، أو أمثال ذلك ، فهو من قبيل ذكر المصداق أيضا.

لهذا فإنّ ذكر الله الكثير ، وتسبيحه بكرة وأصيلا لا يحصل إلّا باستمرار التوجّه إلى الله ، وتنزيهه عن كلّ عيب ونقص ، وتقديسه المتّصل ، فذكر الله غذاء لروح الإنسان كما أنّ الطعام والشراب غذاء للبدن.

وجاء في الآية (٢٨) من سورة الرعد( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ونتيجة هذا الاطمئنان القلبي هو ما ورد في الآيات ٢٧ ـ ٣٠ من سورة الفجر ، حيث تقول :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

والآية التالية بمثابة نتيجة وعلّة غائيّة للتسبيح في الواقع ، فهي تقول :( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) أي من ظلمات الشرك والكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم والتقوى( وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) وبسبب هذه الرحمة كتب على نفسه هداية البشر وإرشادهم ، وأمر ملائكته أن تعينهم في ذلك.

«يصلّي» من مادة (صلاة) وهي هنا تعني الرعاية والعناية الخاصّة ، وهذه العناية بالنسبة لله تعني نزول الرحمة ، وبالنسبة للملائكة تعني الاستغفار وطلب الرحمة ، كما نقرأ ذلك في الآية (٧) من سورة غافر :( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذه الآية تتضمّن بشارة عظيمة للمؤمنين الذاكرين الله على الدوام ، فهي تقول بصراحة : إنّ هؤلاء ليسوا وحدهم في سيرهم إلى الله ، بل إنّهم ـ بمقتضى (يصلّي) وهو فعل مضارع يدلّ على الاستمرار ـ يسيرون في ظلّ

٢٨٩

رحمة الله وملائكته ، وفي ظلّ هذه الرحمة تزاح حجب الظلمة ، ويغمر قلوبهم وأرواحهم نور العلم والحكمة والإيمان والتقوى.

نعم إنّ هذه الآية بشارة كبرى لكلّ سالكي طريق الحقّ بأنّ هناك جاذبية قوية من جانب المعشوق تجذب العاشق إليها لينتهي سعي هذا العاشق الصبّ إلى نتيجة ولا يذهب سدى!

إنّ هذه الآية ضمان لكلّ المجاهدين في سبيل الله أن لا ينالهم قسم الشيطان على إغواء بني آدم ، لأنّهم في زمرة المخلصين المخلصين ، وقد أظهر الشيطان عجزه عن إضلال هذه الزمرة منذ الوهلة الاولى فقال :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .(١)

إنّ جملة( وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) وبملاحظة أنّ (كان) فعل ماض يدلّ على أنّ الله كان رحيما بالمؤمنين رحمة خاصّة على الدوام ، تأكيد مجدّد على ما جاء في بداية السورة.

أجل هذه هي رحمة الله الخاصّة التي تخرج المؤمنين من ظلمات الأوهام والشهوات والوساوس الشيطانية ، وتهديهم إلى نور اليقين والاطمئنان والسيطرة على النفس ، ولو لا رحمته سبحانه فإنّ هذا الطريق المليء بالمنعطفات والعراقيل لا يكون سالكا.

وتجسّد الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث مقام المؤمنين وثوابهم بأروع تجسيد وأقصر عبارة ، فتقول :( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ) .

«التحيّة» من مادّة «حياة» ، وهي تعني الدعاء لسلامة وحياة اخرى. ولمزيد التوضيح راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (٨٥) من سورة النساء.

هذا السّلام يعني السلامة من العذاب ، ومن كلّ أنواع الألم والعذاب والمشقّة ،

__________________

(١) سورة ص ـ ٨٢ ، ٨٣.

٢٩٠

سلام ممتزج بالهدوء والاطمئنان.

ومع أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ «تحيتهم» إشارة إلى سلام المؤمنين وتحية بعضهم بعضا ، إلّا أنّ ملاحظة الآيات السابقة التي كان الكلام فيها عن الصلاة ورحمة الله والملائكة في هذه الدنيا ، تظهر أنّ هذه التحية أيضا من الملائكة في الآخرة ، كما نقرأ ذلك في الآية (٢٣) من سورة الرعد :( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ) .

ممّا قلناه اتّضح بصورة ضمنية أنّ المراد من جملة( يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ) هو يوم القيامة الذي سمّي بيوم «لقاء الله» ، وهذا التعبير يستعمل عادة في القرآن بهذا المعنى.

بعد هذه التحيّة ، التي ترتبط ببداية الأمر ، أشارت الآية إلى نهايته فقالت :( وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ) .

إنّها جملة جمع فيها كلّ شيء على اختصارها ، وأخفيت فيها كلّ النعم والمواهب.

* * *

بحوث

١ ـ ذكر الله على كلّ حال :

عند ما يذكر اسم الله تعالى يتجلّى في قلب الإنسان عالم من العظمة والقدرة والعلم والحكمة ، لأنّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وربّ كلّ الكمالات ، ومنزّه عن كلّ عيب ونقص.

إنّ التوجّه المستمر لمثل هذه الحقيقة التي لها تلك الصفات ، يسوق روح الإنسان إلى الخيرات والأعمال الصالحة والطهارات ، ويبعده عن السيّئات والقبائح ، وبعبارة اخرى فإنّ نور صفاتهعزوجل يتجلّى في روح الإنسان.

إنّ التوجّه إلى هكذا معبود عظيم يبعث على الإحساس الدائم بحضوره بين

٢٩١

يديه تعالى ، وهذا الإحساس يؤدّي إلى زيادة الفاصلة كثيرا بين الإنسان وبين الذنب والمعصية.

ذكر الله يعني تذكر مراقبته ذكر حسابه وجزائه ذكر محكمته العادلة نعيمه وجحيمه وهذا هو الذكر الذي يصفّي الروح ، ويغمر القلب نورا وحيوية.

لهذا ورد في الروايات الإسلامية أنّ لكلّ شيء حدّا ، إلّا ذكر الله فإنّه لا حدّ له!

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في الرواية التي وردت في اصول الكافي : «ما من شيء إلّا وله حدّ ينتهي إليه ، إلّا الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه».

ثمّ يضيف : «فرض اللهعزوجل الفرائض ، فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ ، وشهر رمضان فمن صامه فهو ، والحجّ فمن حجّ حدّه ، إلّا الذكر ، فإنّ اللهعزوجل لم يرض منه بالقليل ، ولم يجعل له حدّا ينتهي إليه ، ثمّ تلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (١) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام في ذيل هذه الرواية ، «وكان أبي كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله ، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله».

وأخيرا ينتهي هذا الحديث الغني المحتوى بهذه الجملة : «والبيت الذي يقرأ فيه القرآن ، ويذكر اللهعزوجل فيه تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض»(٢) .

إنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان بحيث عدّ «ذكر الله» في حديث يعدل خير الدنيا والآخرة ، فقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من أعطي لسانا ذاكرا فقد اعطي خير الدنيا والآخرة»(٣)

__________________

(١) الكافي ، المجلّد الثّاني ، كتاب الدعاء. باب ذكر اللهعزوجل كثيرا.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٢٩٢

والروايات الواردة في أهميّة «ذكر الله» تبلغ من الكثرة حدّا بحيث أنّا لو أردنا إيرادها جميعا هنا لخرجنا عن وضع الكتاب وحدّه ، ولذلك نختم هذا الحديث بحديث آخر قصير عميق المعنى عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث يقول : «من أكثر ذكر اللهعزوجل أظلّه الله في جنّته»(١) .

ولمزيد الاطلاع في هذا المجال يراجع المجلّد الثّاني من اصول الكافي ـ الأبواب التي تتعلّق بذكر الله ، وخاصّة الأبواب التي تقول : إنّ الآفات والبلايا والمصائب لا تحيط بمن يذكرون الله).

وهناك مطلب ينبغي التأكيد عليه ، وهو أنّ كلّ هذه البركات والخيرات لا ترتبط قطعا بالذكر اللفظي وحركة اللسان الخالية من الفكر والعمل ، بل الهدف هو الذكر الذي يكون مصدرا ومنبعا للفكر ذلك الفكر الذي يتجلّى نوره في أعمال الإنسان ، كما صرّحت الروايات بهذا المعنى(٢) .

٢ ـ توضيح حول «لقاء الله» :

قلنا : إنّ هذا التعبير في القرآن المجيد يشير إلى القيامة عادة ، ولمّا كان اللقاء الحسّي لا يصدق في شأن الله ، إذ ليس هو بجسم ، وليس له العوارض الجسمية ، ولذلك اضطر بعض المفسّرين إلى تقدير شيء هنا ، فقالوا : إن المراد هو «لقاء ثواب الله» ، أو «لقاء ملائكة الله».

غير أنّ «اللقاء» يمكن أن يؤخذ هنا بمعنى اللقاء الحقيقي بعين القلب ، حيث أنّ الحجب تزال في القيامة وتتجلّى عظمة الله وآياته أكثر من أيّ وقت مضى ، ويصل الإنسان إلى مقام المشاهدة الباطنية والرؤية القلبية ، وينال كلّ شخص من هذه المشاهدة مرتبة تتناسب مع مقدار معرفته وعمله الصالح.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) خصال الصدوق ، طبقا لنقل تفسير الميزان ، المجلّد ١٦ ، صفحة ٣٥٣.

٢٩٣

وللفخر الرازي في تفسيره هنا بيان جميل يمكن جمعه مع ما قلناه ، فهو يقول : إنّ الإنسان يغفل في هذه الدنيا عن الله غالبا نتيجة لغرقه في الأمور المادية ، والسعي لتحصيل المعاش ، إلّا أنّه يتوجّه يوم القيامة بكلّ وجوده إلى ربّ العالمين ، لأنّ كلّ هذه المشاغل الفكرية ستزول ، وهذا هو معنى لقاء الله(١) .

ثمّ إنّه اتّضح ممّا قلناه أنّ قول بعض المفسّرين بأنّ هذا التعبير إشارة إلى لحظة الموت واللقاء بملك الموت لا يناسب الآيات مورد البحث ، ولا التعبيرات المشابهة الواردة في آيات القرآن الاخرى ، وخاصّة وأنّ ضمير المفعول الذي في جملة «يلقونه» جاء بصيغة المفرد ، وهو إشارة إلى ذات الله المقدّسة في حين أنّ الملائكة التي تقبض الأرواح جمع ، وجاءت كلمة «الملائكة» بصيغة الجمع في الآية السابقة أيضا (إلّا اللهمّ أن تقدّر كلمة ما).

٣ ـ أجور المؤمنين معدّة منذ الآن!

إنّ جملة( أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ) توحي بأنّ الجنّة ونعمها قد خلقت ، وهي بانتظار المؤمنين. ويمكن أن يتبادر هذا السؤال إلى الأذهان : إنّ التهيئة والإعداد يليقان بالشخص المحدود القدرة ، حيث أنّه ربّما لا يستطيع في بعض الأحيان أن يهيء وقت الحاجة ما يريد ، إلّا أنّ مثل هذه الحاجة إلى الاستعداد لا تصدق في شأن الله سبحانه ، إذ أنّ قدرته لا تحدّ ، وإذا أراد شيئا في أيّة لحظة فإنّه يقول له : كن فيكون ، فما هو المراد من التأكيد على التهيئة والإعداد في هذه الآية وسائر آيات القرآن الاخرى؟!

وبملاحظة نقطة واحدة يحلّ هذا الإشكال ، وهي أنّ تهيئة الشيء ليس نابعا من كون القدرة محدودة دائما ، بل قد يكون أحيانا من أجل تهدئة الخاطر واطمئنان

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآية مورد البحث.

٢٩٤

النفس أكثر ، وقد يكون أحيانا من أجل زيادة الاحترام والإكرام ، ولذلك فإنّنا إذا دعونا ضيفا ، وبدأنا بتهيئة وسائل استقباله وضيافته ، فسنكون قد اهتممنا به واحترمناه أكثر ، على عكس ما إذا قمنا بهذا الاستعداد لاستقباله يوم مجيئه ، وفي ساعة وصوله ، فإنّ هذا كاف لوحده في الدلالة على عدم اهتمامنا وقلّة احترامنا لهذا الضيف.

وفي الوقت نفسه ، لا يمنع هذا الكلام من تعاظم الأجر والثواب وزيادته وفق العمل ، وأنّ المؤمنين كلّما اجتهدوا أكثر في تهذيب أنفسهم وتطهيرها ، فإنّ الأجور الإلهيّة المعدّة لهم تتكامل أكثر وتعظّم ، وتسير نحو الكمال بنفس النسبة التي يتكاملون فيها.

* * *

٢٩٥

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) )

التّفسير

السّراج المنير!

الخطاب في هذه الآيات موجّه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ نتيجته لكلّ المؤمنين ، وبذلك فإنّها تكمل الآيات السابقة التي كانت تبحث في بعض وظائف المؤمنين وواجباتهم.

لقد جاءت في الآيتين الأوليين من هذه الآيات الأربع «خمس صفات» للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجاء في الآيتين الأخريين بيان خمس واجبات يرتبط بعضها ببعض ، وتكمل إحداها الاخرى.

تقول الآية أوّلا :( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ) فهو من جانب شاهد على أعمال أمّته ، لأنّه يرى أعمالهم كما نقرأ ذلك في موضع آخر :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ

٢٩٦

وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) .(١) وهذا العلم يمكن تحقّقه عن طريق عرض أعمال الامّة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام ، وقد مرّ تفصيل ذلك في ذيل الآية المذكورة (١٠٥ من سورة التوبة).

وهو من جانب آخر شاهد على الأنبياء الماضين الذين كانوا شهودا على أممهم :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) .(٢)

ومن جهة ثالثة فإنّ وجودك بما لك من الصفات والأخلاق والبرامج والتعليمات البنّاءة ، إضافة إلى تاريخك المشرق وأعمالك المشرفة ، شاهد على أحقّية دينك ، وشاهد على عظمة الله وقدرته.

ثمّ تطرّقت الآية إلى الصفتين الثّانية والثالثة فقالت :( وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) فهو مبشّر للمحسنين بثواب الله اللامتناهي بالسلامة والسعادة الخالدة بالظفر والتوفيق المليء بالفخر والاعتزاز ونذير للكافرين والمنافقين من عذاب الله الأليم من خسران كلّ رأسمال الوجود ، ومن السقوط في شراك التعاسة في الدنيا والآخرة.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ البشارة والإنذار يجب أن يقترنا في كلّ مكان ، وأن يكون أحدهما معادل للآخر ، لأنّ نصف وجود الإنسان عبارة عن حبّه لجلب المنفعة ، ونصفه الآخر سعيه لدفع المضرّة عنه ، فالبشارة تشكّل الدافع على القسم الأوّل ، والإنذار على النصف الثاني ، فالمناهج التي تعتمد على جانب واحد لم تدرك حقيقة الإنسان ، ولم تدرك دوافعه وميوله(٣) .

وأشارت الآية التالية إلى الصفة الرّابعة والخامسة ، فقالت :( وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) .

* * *

__________________

(١) التوبة ، ١٠٥.

(٢) النساء ، ٤١.

(٣) لقد أوردنا بحثا مفصّلا في هذا الباب تحت عنوان أصلان تربويان مهمّان ، في ذيل الآية (١١٩) من سورة البقرة.

٢٩٧

ملاحظات

وهنا ينبغي الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

١ ـ لقد ذكر مقام «الشهادة» ، وكون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهدا قبل جميع صفاته الاخرى ، وذلك لأنّ هذا المقام لا يحتاج إلى مقدّمة سوى وجود النّبي ورسالته ، فعند ما يتمّ نصبه في هذا المقام يكون شاهدا من جميع الجهات التي ذكرناها سابقا ، غير أنّ مقام «البشارة» و «الإنذار» أمر يتحقّق بعد ذلك.

٢ ـ إنّ الدعوة إلى الله سبحانه مرحلة تأتي بعد البشارة والإنذار ، لأنّ البشارة والإنذار وسيلة لتهيئة الأفراد لقبول الحقّ ، فعند ما تتهيّأ هذه الأرضية عن طريق الترغيب والترهيب ، تبدأ مرحلة الدعوة إلى الله سبحانه ، وستكون مؤثّرة في هذه الحالة فقط.

٣ ـ مع أنّ كلّ أعمال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بإذن الله وأمره ، إلّا أنّ الدعوة هي الوحيدة التي قيّدت بإذن الله هنا ، وذلك لأنّ أشقّ أعمال الأنبياء وأهمّها هي الدعوة إلى الله سبحانه ، حيث يجب عليهم أن يسوقوا الناس في طريق يخالف ميولهم وشهواتهم ، فيجب أن تستبطن إذن الله وأمره ونصرته في هذه المرحلة ليتمّ تنفيذها ، ومن هنا يتّضح أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يملك شيئا من عند نفسه ، بل كلّ ما يقوله بإذن الله(١) .

٤ ـ إنّ كون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (سراجا منيرا) إشارة إلى المعجزات وأدلّة أحقّية دعوة الرّسول ، وعلامة صدقها ، فهو سراج منير شاهد بنفسه على نفسه ، يزيح الظلمات ويلفت الأنظار ويجذب القلوب إليه ، فكما أنّ بزوغ الشمس دليل على وجود الشمس ، فكذلك وجودهصلى‌الله‌عليه‌وآله دليل على كونه حقّا ، ودليل على أحقّيته.

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ لفظة «السراج» قد وردت في القرآن المجيد أربع مرّات ، ثلاث منها في شأن الشمس ، ومن جملتها ما ورد في الآية (١٦) من سورة

__________________

(١) يحتمل أيضا أنّ قيد (بإذنه) يعود إلى جميع الأوصاف السابقة ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو أنّ الضمير يعود إلى مسألة الدعوة إلى الله.

٢٩٨

نوح حيث تقول :( وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) .

«السراج» في الأصل يعني المصباح الذي يضاء سابقا بواسطة الفتيلة والزيت ، وبواسطة الطاقة الكهربائية وأمثالها في العصر الحاضر ، فينبعث ضياؤه ونوره ، إلّا أنّه اطلق ـ على قول الراغب في مفرداته ـ على كلّ مصدر للنور فيما بعد ، وإطلاقه على الشمس من أجل أنّ نورها ينبع من داخلها ، ولا تكتسب نورها من مصدر آخر كالقمر.

إنّ وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كالشمس المنيرة التي تزيح ظلمات الجهل والشرك والكفر عن سماء روح البشر ، لكن كما لا ينتفع العمي بنور الشمس ، وكما تخفي الخفافيش أنفسها عنه حيث لا طاقة لعيونها برؤية هذا النور ، فإنّ عمي القلوب العنودين المتعصّبين لم يستفيدوا ولن يستفيدوا من هذا النور مطلقا ، وكان أبو جهل وأمثاله يضعون أصابعهم في آذانهم حتّى لا يسمعوا صوت قرأنه ونغمته.

إنّ الظلام يبعث على الخوف والوحشة دائما ، والنور يبعث الاطمئنان والراحة ، فالسرّاق واللصوص يستغلّون ظلام الليل للسطو على الدور ونهب ما يقدرون عليه ، والحيوانات المفترسة تخرج من حجورها في ظلمة الليل غالبا.

الظلام يسبّب الفرقة ، والنور يسبّب الاجتماع ، ولذلك فإنّنا إذا أسرجنا سراجا في ليلة مظلمة فستجتمع حوله أنواع الحشرات في فترة قصيرة.

إنّ النور والضياء أساس نمو الأشجار ، ونضج الفواكه والأثمار ، والخلاصة : كلّ نشاطات الحياة ، وتشبيه وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمصدر للنور يبعث على تداعي كلّ هذه المفاهيم في الذهن.

إنّ وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أساس الهدوء والاطمئنان ، وفرار لصوص الدين والإيمان ، وهرب الذئاب الضارية الظالمة لمجتمعاتها ، ويوجب هدوء الخاطر ، ونمو روح الإيمان والأخلاق ، والخلاصة : أساس الحياة والحركة ، وتأريخ حياته شاهد حي على هذا الموضوع.

٢٩٩

وفي الآيتين الأخريين من الآيات مورد البحث بيانا لخمسة واجبات من واجبات النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله المهمّة بعد بيان صفاته الخمس ، فتقول أوّلا :( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّ مسألة تبشير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يحدّ بالثواب الإلهي بمقدار أعمال المؤمنين الصالحة ، بل إنّ الله سبحانه يفيض عليهم من فضله بحيث تضطرب المعادلة بين العمل والجزاء تماما كما تشهد بذلك الآيات القرآنية.

فتقول في موضع :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .(١)

وتقول في موضع آخر :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) .(٢)

وقد تذهب أبعد من ذلك فتقول :( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .(٣)

وبهذا فإنّ أبعاد الفضل الإلهي الكبير أوسع وأسمى ممّا يخطر في التصوّر والأوهام.

ثمّ تناولت الواجب الثّاني والثالث ، فقالت :( وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ) .

لا شكّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطع الكافرين والمنافقين مطلقا ، إلّا أنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان ، ولذلك أكّدت الآية على هذا الموضوع بالخصوص من باب التأكيد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والتحذير والقدوة للآخرين ، فهي تحذّرهم من الأخطار والعقبات المهمّة التي تعترض طريق القادة المخلصين ، والتي تجرّهم إلى المساومة والتسليم أثناء المسيرة ، وتتهيّأ أرضية هذا التسليم عن طريق التهديد تارة ، وعن طريق منح الامتيازات تارة اخرى ، حتّى أنّ الإنسان قد يشتبه أحيانا فيظنّ أنّ الخضوع والامتثال لمثل لهذه المساومة والاستسلام هو طريق الوصول

__________________

(١) الأنعام ، ١٦٠.

(٢) البقرة ، ٢٦١.

(٣) الم السجدة ، ١٧.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510