الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148646
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148646 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

إلى الهدف. في حين أنّ نتيجة هذا الاستسلام هي إجهاض كلّ الجهود والمساعي ، وإحباط كلّ جهاد وكفاح.

إنّ تأريخ الإسلام يبيّن أنّ الكافرين والمنافقين سعوا مرارا إلى جرّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا الموضع ، فاقترحوا مرّة أن لا يذكر الأصنام بسوء ولا ينتقدها وينتقصها ، وقالوا مرّة اخرى : ائذن لنا أن نعبد ربّك سنة ، واعبد آلهتنا سنة ، وكانوا يقولون أحيانا : أمهلنا سنة نقيم فيها على ديننا ثمّ نؤمن بك. واقترحوا عليه مرّة أن أبعد عنك فقراء المؤمنين ومساكينهم لنضمّ صوتنا ـ نحن الأثرياء ذوي المكانة ـ إليك.

وكانوا يعلنون أحيانا استعدادهم لبذل الامتيازات المالية والمركز والمنصب الحسّاس ، والنساء الجميلات وأمثال ذلك.

من المسلّم أنّ كلّ هذه كانت شراك خطيرة في طريق انتشار الإسلام السريع ، واقتلاع جذور الكفر والنفاق ، ولو كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أظهر الليونة والميل إلى المساومة أمام واحد من هذه الاقتراحات فإنّ دعائم الثورة الإسلامية كانت ستنهار ، ولم تكن الجهود لتصل إلى نتيجة مطلقا.

ثمّ تقول في الأمر الرابع والخامس :( وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) .

إنّ هذا الجزء من الآية يوحي بأنّهم قد وضعوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت ضغط شديد لحمله على الاستسلام ، واستخدموا ضدّه وضدّ أصحابه كلّ أنواع الأذى ، سواء كان عن طريق جرح اللسان والكلام الفاحش والإهانة ، أم عن طريق الأذى الجسمي ، أو عن طريق الحصار الاقتصادي. وكان لهذا الأذى صورة وأسلوبا في مكّة ، وأسلوبا آخر في المدينة ، لأنّ «الأذى» جاء مطلقا في الآية ويشمل كلّ أنواع الأذى.

ويرى «الراغب» في المفردات أنّ «الأذى» هو كلّ ضرر يصيب الكائن الحي ، سواء في روحه ، أو جسمه ، أو يصيب من يرتبط به ، سواء في الدنيا أم الآخرة.

٣٠١

وقد استعملت هذه الكلمة في الآيات القرآنية في «الأذى اللساني» تارة كالآية (٦١) من سورة التوبة ، حيث تقول :( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) .

واستعملت أيضا بمعنى «الأذى البدني» في آيات اخرى ، كالآية (١٦) من سورة النساء :( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) أي يرتكبان الفاحشة ، فأقيموا عليهما الحدّ الشرعي.

يقول التاريخ : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الأوائل قد وقفوا كالجبل الأشمّ أمام أنواع الأذى ، ولم يقبلوا عار الاستسلام والهزيمة قطّ ، وأخيرا انتصروا في حركتهم.

وكان أساس هذه المقاومة ومعينها هو «التوكيل على الله» والاعتماد على ذاته المقدّسة الله الذي تتيسّر كلّ الصعاب والمشاكل أمام إرادته أجل يكفي الإنسان أن يكون معينه وناصره هذا الربّ الجليل.

وممّا قلناه اتّضح أنّ محتوى الآية المذكورة لم يكن نسخ لحكم الجهاد ـ كما يظنّ ذلك بعض المفسّرين ـ بل الظاهر أنّ هذه الآيات قد نزلت بعد مدّة من نزول حكم الجهاد ، وهي في مصافّ الحوادث المتعلّقة بسورة الأحزاب.

إنّ هذا حكم لكلّ العصور والقرون ، بأن لا يصرف الأئمّة الإلهيون طاقاتهم الحيوية في الاهتمام بإيذاء مخالفيهم ، فإنّهم إن فعلوا ذلك وصرفوا قواهم وطاقاتهم في هذا المجال ، يكون عدوّهم قد حقّق هدفه ، لأنّه يريد أن يشغل فكر من يقابله ، ويهدر طاقاته عن هذا الطريق هنا يكون أمر( دَعْ أَذاهُمْ ) هو الحلّ الوحيد.

وهنا أمر يستحقّ الانتباه أيضا ، وهو : أنّ الأوامر الخمسة المذكورة ، التي وردت في الآيتين الأخيرتين ، يكمل بعضها بعضا ، ويرتبط بعضها ببعض ، فإنّ

٣٠٢

تبشير المؤمنين لجذب القوى المؤمنة ، وعدم الاستسلام للكفّار والمنافقين ، وعدم الاهتمام بأذاهم ، والتوكّل على الله تشكّل مجموعة مبادئ تؤدّي إلى الهدف ، ودستور عمل جامع لكلّ سالكي طريق الحقّ.

* * *

٣٠٣

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) )

التّفسير

جانب من أحكام الطلاق :

إنّ آيات هذه السورة ـ الأحزاب ـ جاءت على شكل مجموعات مختلفة ، والخطاب في بعضها موجّه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي بعضها الآخر إلى كلّ المؤمنين ، ولذلك تقول أحيانا :( يا أَيُّهَا النَّبِيُ ) ، وأحيانا اخرى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) قد وردت فيها الأوامر اللازمة يوازي بعضها بعضا ، وهذا يعني أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مرادا بهذه التعليمات ، كما أنّ عموم المؤمنين يرادون بها أيضا.

والآية التي نبحثها من الآيات التي توجّه خطابها إلى كلّ المؤمنين ، في حين أنّ الآيات السابقة خاطبت شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهرا ، ويتوجّه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيات القادمة مرّة اخرى ، وبهذا فإنّ قسما من هذه السورة يتّبع أسلوب «اللفّ والنشر المرتّب».

٣٠٤

تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ) .

لقد بيّن الله سبحانه هنا حكما استثنائيا من حكم عدّة النساء المطلّقات ، وهو أنّ الطلاق ، إن وقع قبل الدخول فلا تلزم العدّة ، ومن هذا التعبير يفهم أنّ حكم العدّة كان قد بيّن قبل هذه الآية.

إنّ التعبير بـ «المؤمنات» لا يدلّ على أنّ الزواج من غير المسلمات ممنوع تماما ، بل من الممكن أن يكون إشارة إلى أولوية المؤمنات ، وبناء على هذا فإنّه لا ينافي الروايات ومشهور فتاوى الفقهاء بجواز الزواج المؤقّت من الكتابيات.

ثمّ إنّه يستفاد من تعبير (لكم) وكذلك جملة (تعتدونها) أنّ انتظار عدّة المرأة يعتبر حقّا للرجل ، ويجب أن يكون هكذا ، لأنّ من الممكن أن تكون المرأة حاملا في الواقع ، وتركها العدّة وزواجها برجل آخر يجعل حال الولد غير معلوم ، ويؤدّي إلى ضياع حقّ الرجل إضافة إلى أنّ انتظار العدّة يمنح الرجل والمرأة فرصة لتجديد النظر والرجوع إلى بعضهما ، فقد يقع الطلاق نتيجة انفعالات شديدة ، ومثل هذه الفرصة والتفكير حقّ للرجل والمرأة معا.

وأمّا ما أورده البعض على هذا الحكم ، بأنّ العدّة إن كانت حقّا للرجل ، فبإمكانه أن يسقط حقّه ، فلا يصحّ ، لأنّ في الفقه حقوقا كثيرة لا يمكن إسقاطها ، كالحقّ الذي لورثة الميّت في أمواله ، أو الحقّ الذي للفقراء في الزكاة ، إذ لا يقدر أي أحد على إسقاط هذا الحقّ الشرعي.

ثمّ تتطرّق الآية إلى حكم آخر من أحكام النساء اللاتي يطلقن قبل المباشرة الجنسية ـ والذي سبقت الإشارة إليه في سورة البقرة أيضا ـ فتقول :( فَمَتِّعُوهُنَ ) أي اعطوهنّ هدية مناسبة.

ولا شكّ أنّ تقديم هديّة مناسبة إلى المرأة يكون واجبا في حالة عدم تعيين المهر من قبل ، كما جاء في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ

٣٠٥

النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَ ) .

بناء على هذا ، فإنّ الآية مورد البحث وإن كانت مطلّقة ، وتشمل الموارد التي عين فيها المهر ، والتي لم يعيّن فيها ، إلّا أنّنا نحدّدها بالمورد الذي لم يعيّن فيه المهر بقرينة آية سورة البقرة ، لأنّه في حالة تعيين المهر وعدم الدخول يجب دفع نصف المهر ، كما جاء ذلك في الآية (٢٣٧) من سورة البقرة.

واحتمل بعض المفسّرين والفقهاء أنّ حكم تقديم هديّة مناسبة عام في الآية مورد البحث ، ويشمل حتّى الموارد التي عيّن فيها المهر ، غاية ما هناك أنّ له صفة الاستحباب في هذه الموارد ، وله صفة الوجوب في الموارد التي لم يعيّن فيها المهر. وتلاحظ في بعض الآيات والروايات إشارة إلى هذا المعنى أيضا(١) .

أمّا كم هو مقدار هذه الهدية؟ فقد بيّنه القرآن المجيد في سورة البقرة إجمالا بقوله :( مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ ) .(٢) وكذلك قال في نفس تلك الآية :( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) .

بناء على هذا ، فإن ذكرت في الروايات الإسلامية موارد من قبيل البيت والخادم واللباس وأمثال ذلك ، فإنّها من قبيل المصاديق لهذا الكلّي وهي تتفاوت بحسب إمكانيات الزوج وشؤون المرأة.

وآخر حكم في الآية مورد البحث هو :( وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«السراح الجميل» هو الطلاق المقترن بالمحبّة والاحترام ، وترك كلّ خشونة وظلم وجور واحتقار ، والخلاصة هو ما ورد في الآية (٢٩) من سورة البقرة :( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) فإنّ الاستمرار في الحياة الزوجية يجب أن يكون قائما على أساس المعايير الإنسانية ، والطلاق كذلك ، فلا يجوز للرجل ـ إذا

__________________

(١) كالآية (٢٤١) من سورة البقرة ، ووردت روايات متعدّدة في هذا الباب ذكرت في وسائل الشيعة ، الجزء ١٥ ، ص ٥٩ الباب ٥٠ من أبواب المهور من كتاب النكاح ، ومن جملتها ما ورد عن عليعليه‌السلام «لكلّ مطلّقة متعة إلّا المختلعة».

(٢) البقرة ، ٢٣٦.

٣٠٦

صمّم على طلاق زوجته ـ هضم حقّ الزوجة ومهرها ، وبذاءة الكلام والخشونة معها ، فإنّ هذا السلوك غير إسلامي قطعا ، ولا يمتّ إلى الإسلام بصلة.

واعتبر بعض المفسّرين «السراح الجميل» بمعنى إجراء الطلاق طبقا للسنّة الإسلامية ، وجاء هذا المعنى في الرّواية الواردة في تفسير علي بن إبراهيم وعيون الأخبار. إلّا أنّ من المسلّم أنّ «السراح الجميل» لا يتحدّد بهذا المعنى ، بالرغم من أنّه أحد مصاديقه.

واعتقد بعض آخر من المفسّرين أنّ السراح الجميل هنا يعني إذن الخروج من المنزل ، لأنّ المرأة ليست مكلّفة هنا بالعدّة ، وبناء على هذا فيجب إطلاق سراحها لتذهب حيث شاءت.

إلّا أنّ هذا المعنى يبدو بعيدا بملاحظة أنّ تعبير السراح الجميل ، أو أمثاله في الآيات القرآنية الاخرى قد ورد حتّى في شأن النساء اللاتي يجب أن يعتددن.

وقد كان لنا بحث مفصّل حول المعنى الأصلي للسراح ، وأصله اللغوي ، ولما ذا يستعمل في الإطلاقات المتعارفة بمعنى الطلاق والإطلاق في ذيل الآية (٢٨) من سورة الأحزاب هذه.

* * *

٣٠٧

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) )

التّفسير

يمكنك الزواج من هذه النّسوة :

قلنا : إنّ بعض مقاطع هذه السورة تبحث واجبات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين على طريقة اللفّ والنشر المرتّب ، ولذلك فبعد ذكر جانب من الأحكام المتعلّقة بطلاق النساء ، وجّهت الخطاب هنا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفصّلت الموارد السبعة التي يجوز للنبي الزواج فيها من تلك النسوة :

٣٠٨

١ ـ فقالت أوّلا :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ ) .

والمراد من هؤلاء النساء ـ بقرينة الجمل التالية ـ النساء اللاتي لم يكنّ يرتبطن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله برابطة قرابة وقد تزوّجنه ، وربّما كانت مسألة دفع المهر لهذا السبب ، لأنّ العرف المتّبع آنذاك هو أنّهم كانوا يدفعون المهر نقدا عند زواجهم من الأجنبيات ، إضافة إلى أفضلية التعجيل في هذا الدفع ، وخاصّة إذا كانت الزوجة بحاجة إليه. إلّا أنّ هذا الأمر ليس من الواجبات على أي حال ، إذ يمكن أن يبقى المهر دينا في ذمّة الزوج إذا ما اتّفق الطرفان على ذلك.

٢ ـ( وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ ) .

( أَفاءَ اللهُ ) من مادّة (الفيء) ، وتقال للأموال التي يحصل عليها الإنسان بدون جهد ومشقّة ، ولذلك يطلق (الفيء) على الغنائم الحربية ، وكذلك الأنفال ، وهي الثروات الطبيعية التي تعود إلى الحكومة الإسلامية ولا يملكها مالك بالخصوص.

يقول الراغب في مفرداته : الفيء بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة ، ومنه فاء الظلّ. (لحالة رجوع الظلّ) ثمّ قال : وقيل للغنيمة من دون مشقّة فيء. قال بعضهم : سمّي ذلك بالفيء تنبيها على أنّ أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظلّ زائل.

صحيح أنّ الغنائم الحربية لا تنال في بعض الأحيان إلّا بشقّ الأنفس وبذل الجهد المضني ، إلّا أنّ مشقّتها أقلّ من مشقّة تحصيل الأموال الاخرى. وقد يطلق «الفيء» أحيانا على الأموال الطائلة التي يحصل عليها من خلال هجوم واحد.

لكن من من نساء النّبي يصدق عليها هذا الحكم؟

قال بعض المفسّرين : إنّ إحدى نساء النّبي وهي «مارية القبطية» ـ كانت من الغنائم ، وكانت زوجتان أخريان ـ وهما «صفيّة» و «جويرية» ـ من الأنفال أعتقهما النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ تزوّجهما ، وكان هذا الفعل بنفسه جزءا من خطّة الإسلام العامّة في تحرير العبيد التدريجي ، وإرجاع الشخصية الإنسانية لهم.

٣ ـ( وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ

٣٠٩

مَعَكَ ) وبهذا فإنّ اللّاتي يحلّ للنّبي الزواج منهنّ من بين جميع الأقارب : بنات العمّ والعمّة ، وبنات الخال والخالة ، وبشرط أن يكنّ قد هاجرن مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ التحديد بهذه الفئات الأربع واضح ، إلّا أنّ شرط الهجرة من أجل أنّها كانت دليلا على الإيمان في ذلك اليوم ، وعدم الهجرة دليل على الكفر ، أو لأنّ الهجرة تمنحهنّ امتيازا أكبر وفخرا أعظم ، والهدف من الآية هو بيان النساء الفاضلات المؤهّلات لأن يصبحن زوجات للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهل لهذه الفئات الأربع التي ذكرت كحكم كلّي في الآية ، مصداق خارجي من بين نساء النّبي أم لا؟ إنّ المورد الوحيد الذي يمكن ذكره كمصداق هو زواجهصلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش ، الذي مرّت قصّته المثيرة في طيّات هذه السورة ، لأنّ زينب كانت بنت عمّة النّبي وكان «جحش» زوج عمّته(١) .

٤ ـ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ ) (من دون مهر)( إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) أي أنّ هذا الحكم خاص للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يشمل سائر المؤمنين( قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) وبناء على هذا فإذا كنّا قد حدّدنا بعض المسائل فيما يتعلّق بالزواج من هؤلاء النسوة ، فقد كان ذلك استنادا إلى مصلحة حاكمة في حياتك وحياتهن ، ولم يكن أيّ من هذه الأحكام والمقرّرات اعتباطيا وبدون حساب.

ثمّ تضيف الآية( لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ) وبالتالي ستكون قادرا على أداء المسؤوليات الملقاة على عاتقك في القيام بهذا الواجب( وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

وفي مورد القسم الأخير ـ أي النساء اللّاتي لا مهر لهنّ ـ ينبغي الالتفات إلى

__________________

(١) ذكر بعض المفسّرين وجوها أوردها «الفاضل المقداد» في كنز العرفان ، في أنّه لماذا ورد العمّ بصيغة المفرد والعمّات بصيغة الجمع ، وكذلك الخال بصيغة المفرد والخالات بصيغة الجمع ، إلّا أنّ أفضلها هو أنّ العمّ والخال يستعملان كاسم للجنس في لغة العرب ، وليس كذلك العمّات والخالات ، وقد ذكر ابن العربي عرف أهل اللغة هذا (كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٤١). وقد رجّح الآلوسي هذا الاحتمال في روح المعاني على كلّ الوجوه الاخرى.

٣١٠

النقاط أدناه :

١ ـ لا شكّ أنّ جواز اتّخاذ زوجة من دون مهر كان من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والآية صريحة في هذه المسألة ، ولذلك فهي من مسلّمات الفقه الإسلامي ، وبناء على هذا فلا يحقّ لأيّ امرئ أن يتزوّج امرأة بدون مهر ، قلّ أم كثر ، وحتّى إذا لم يرد ذكر المهر أثناء إجراء صيغة العقد ، ولم تكن هناك قرينة تعيّنه ، فيجب أن يدفع مهر المثل ، والمراد من مهر المثل : المهر الذي تجعله النساء اللاتي تشابهها في الأوصاف والخصوصيات لأنفسهنّ عادة.

٢ ـ هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل لهذا الحكم الكلّي مصداق في مورد زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أم لا؟

يعتقد البعض ـ كابن عبّاس وبعض آخر من المفسّرين ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتزوّج بأيّه امرأة على هذه الحال ، وبناء على هذا فإنّ الحكم أعلاه كان إذنا عاما للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّه لم يطبّق عمليا مطلقا.

في حين أنّ آخرين ذكروا أسماء ثلاث أو أربع نسوة من زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اللّاتي تزوجهنّ بدون مهر ، وهنّ : «ميمونة» بنت الحارث ، و «زينب» بنت خزيمة ، وكانتا من الأنصار ، وامرأة من بني أسد ، واسمها «امّ شريك» بنت جابر ، و «خولة» بنت حكيم.

ومن جملة ما ورد في الروايات أنّ «خولة» عند ما وهبت نفسها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اعترضت عائشة ، فقالت : ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟! فنزلت الآية أعلاه ، غير أنّ عائشة التفتت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : أرى الله يسارع في هواك ـ وكان هذا نوع من التعريض بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال لها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «وإنّك إن أطعت الله سارع في هواك»(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ، وفي تفسير القرطبي جملة : (والله ما أرى بك إلّا يسارع في هواك). وأوردها

٣١١

لا شكّ أنّ أمثال هؤلاء النسوة كنّ لا يطمعن إلّا في الفخر المعنوي عن طريق الاقتران بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذلك كنّ على استعداد للزواج منه بدون أيّ مهر ، إلّا أنّ وجود مثل هذا المصداق للحكم أعلاه غير مسلّم من الناحية التأريخية كما قلنا ، بل المسلّم أنّ الله سبحانه كان قد أذن لنبيّه بذلك للغاية التي سنشير إليها فيما بعد.

٣ ـ يستفاد من هذه الآية جيّدا أنّ إجراء صيغة عقد الزواج بلفظ «الهبة» كان مختّصا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقط ، ولا يستطيع أيّ فرد آخر أن يجري عقد الزواج بهذا اللفظ ، ويجوز إجراء العقد بلفظ الزواج أو النكاح ، حتّى وإن لم يجر للمهر ذكر فيه ، حيث يجب دفع مهر المثل عند عدم ذكر المهر كما قلنا آنفا ، فكأنّه في الحقيقة قد صرّح بمهر المثل.

* * *

بحث

جانب من حكمة تعدّد زوجات النّبي :

إنّ الجملة الأخيرة في الآية أعلاه إشارة في الواقع إلى فلسفة هذه الأحكام الخاصّة بنبيّنا الأكرم ، حيث تقول : إنّ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ظروفا لا يعيشها الآخرون ، وهذا التفاوت في الظروف أصبح سببا للتفاوت في الأحكام.

وبتعبير أوضح ، إنّ الهدف من هذه الأحكام رفع بعض المشاكل والصعوبات من كاهل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا تعبير لطيف يبيّن أنّ زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدّة نساء كان لحلّ سلسلة من المشاكل الاجتماعية والسياسية في حياته ، لأنّا نعلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان وحيدا حينما صدع بنداء الإسلام ورفع شعاره ، ولم يؤمن به بعد مدّة طويلة سوى عدّة معدودة ، فإنّه ثار ضدّ كلّ معتقدات عصره وبيئته الخرافية ، وأعلن الحرب ضدّ

__________________

الآلوسي في روح المعاني أيضا في ذيل الآية مورد البحث. إنّ قبح هذا التعبير ، والمعنى الذي اخفي فيه لا يخفى على أحد ، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يمرّ عليه ويتجاوزه بشكل رائع.

٣١٢

الجميع ، فمن البديهي أن تتّحد كلّ الأقوام والقبائل ضدّه.

في هذا الوضع كان لا بدّ من أن يستعين بكلّ الوسائل ويستغلّها لكسر اتّحاد الأعداء اللامشروع ، وكانت إحدى هذه الوسائل هو الزواج من القبائل المختلفة لإيجاده علاقة قرابة ونسب ، لأنّ رابطة القرابة كانت تعدّ أقوى الروابط بين عرب الجاهلية ، وكانوا يعتبرون الصهر من نفس القبيلة ، والدفاع عنه واجبا ، وتركه وحيدا جريمة وذنبا.

إنّ لدينا قرائن كثيرة تبيّن أنّ زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المتعدّد كان له صبغة سياسيّة في كثير من الموارد على أقلّ تقدير. وأحدها ـ كزواجه بزينب ـ كان لكسر سنّة جاهلية ، وقد بيّنا تفصيله في ذيل الآية (٣٧) من هذه السورة. وبعضه لتقليل العداوة ، أو لجلب محبّة أشخاص أو أقوام متعصّبين عنودين.

من الواضح أنّ شخصا يتزوّج وهو في سنّ الخامسة والعشرين ، حيث كان في عنفوان شبابه ، بامرأة أيم لها أربعون سنة ، ويكتفي بها حتّى الثالثة والخمسين من عمره ، وبهذا يكون قد قضى مرحلة الشباب وبلغ سنّ الكهولة ، ثمّ يقدم على الزواج المتعدّد ، لا بدّ أن يكون له سبب وفلسفة ، ولا يمكن أن يفسّر بأيّ وجه من الوجوه بأسباب العلاقة والرغبة الجنسية ، لأنّه لم يكن هناك مانع اجتماعي ، أو ظروف مالية صعبة ، أو أدنى نقص يمنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الزواج المتعدّد في سنّي شبابه ، خاصّة وأنّ تعدّد الزوجات كان أمرا طبيعيا بين العرب آنذاك ، بل ربّما كانت الزوجة الاولى تذهب لخطبة الزوجة الثّانية ، ولم يكونوا يعترفون بأيّ حدّ في اتّخاذ الزوجات.

والطريف أنّه قد ورد في التواريخ أنّ النّبي لم يتزوّج إلّا بكرا واحدة ، وهي عائشة ، وباقي نسائه كنّ أيامى جميعا ومن الطبيعي أن لا يتمتعنّ بإثارة جنسية

٣١٣

ملحوظة(١) .

بل نقرأ في بعض التواريخ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّج بعدّة زوجات ، ولم يجر إلّا مراسم العقد ، ولم يباشرهنّ أبدا ، ولم يباشرهنّ أبدا ، بل إنّه اكتفى في بعض الموارد بخطبة بعض نساء القبائل فقط(٢) .

وقد كان هؤلاء يفرحون ويسرّون ويفتخرون بأنّ امرأة من قبيلتهم قد سمّيت بزوجة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فحصل لهم هذا الفخر ، وبذلك فإنّ علاقتهم الاجتماعية بالنّبي كانت تشتدّ وتقوى ، ويصبحون أكثر تصميما على الدفاع عنه.

ومن جانب آخر ، فمع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن رجلا عقيما ، إلّا أنّه لم يكن له من الأولاد إلّا القليل ، في حين أنّ هذا الزواج المتعدّد لو كان بسبب جاذبية هذه النسوة ، وإثارتهنّ الجنسية ، فينبغي أن يكون له من الأولاد الكثير.

وكذلك ينبغي الالتفات إلى أنّ بعض هذه النساء ـ كعائشة ـ كانت صغيرة جدّا عند ما أصبحت زوجة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد مرّت سنين حتّى استطاعت أن تكون زوجة حقيقية له ، وهذا يوحي بأنّ الاقتران بمثل هذه البنت الصغيرة كانت له أهداف اخرى ، وكان الهدف الأصلي هو ما أشرنا إليه قبل قليل.

وبالرغم من أنّ أعداء الإسلام أرادوا أن يتّخذوا من تعدّد زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حربة لأشدّ هجماتهم المغرضة ، ويحوكون منها أساطير أو هي من خيط العنكبوت للطعن في نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ سنّ النّبي المتقدّمة عند إقدامه على تكرار الزواج من جهة ، والظروف الخاصّة المتعلّقة بالنساء من ناحية العمر والقبيلة من جانب آخر ، والقرائن المختلفة التي أشرنا إلى قسم منها آنفا من جهة ثالثة تجعل الحقيقة واضحة كالشمس ، وتحبط مؤامرات المغرضين وتفضحها.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢٢ ، صفحة ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) المصدر السابق.

٣١٤

الآية

( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) )

سبب النّزول

قلنا في تفسير الآيتين ٢٨ و٢٩ من هذه السورة وبيان سبب النّزول : إنّ جمعا من نساء النّبي ـ بناء على ما نقله المفسّرون ـ قلن للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : زد في نفقتنا وامور معاشنا ـ طمعا في الغنائم الحربية ، فكنّ يحسبن أنّ قسما كبيرا منها من نصيبهنّ فنزلت الآيات المذكورة وخاطبتهنّ بصراحة بأنهنّ إن أردن الحياة الدنيا وزينتها فليفارقن النّبي إلى الأبد ، وإن أردن الله ورسوله واليوم الآخر فليعشن معه حياة بسيطة.

إضافة إلى أنّه كانت بينهنّ منافسة في كيفية تقسيم أوقات حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بينهنّ ، وكنّ يحرجن النّبي ويضايقنه مع كلّ المشاكل والمشاغل التي كانت لديه ، ومع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يراعي العدالة بينهنّ ويبذل الجهد اللازم لتحقيقها تماما ، فقد

٣١٥

كان لغطهنّ وجد الهنّ مستمرّا ، فنزلت هذه الآية وجعلت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حرّا في تقسيم أوقاته ، ثمّ أعلنت الآية لهنّ أنّ هذا حكم إلهي لئلّا يتولّد في أنفسهن أي قلق وسوء ظنّ(١) .

التّفسير

حلّ مشكلة اخرى في حياة النّبي :

إنّ قائدا ربّانيا عظيما كالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة وأنّه ابتلي بسيل من الحوادث الصعبة المرّة ، وكانوا يحوكون له الدسائس والمؤامرات داخليا وخارجيا ، لا يقدر أن يشغل فكره بحياته الخاصّة كثيرا ، بل يجب أن يكون له هدوء نسبي في حياته الداخلية ليقوى على التفرّغ لحلّ سيل المشاكل التي أحاطت به من كلّ جانب.

إنّ اضطراب الحياة الشخصية ، وكون قلبه وفكره مشغولين بوضعه العائلي في هذه اللحظات المضطربة الحسّاسة كان أمرا خطيرا للغاية.

ومع أنّ زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المتعدّد ـ وطبقا للبحوث السابقة ، والوثائق والمستندات التي أوردناها في تفسير الآية السابقة ـ كانت له أبعاد سياسية واجتماعية وعاطفية غالبا ، وكان في الحقيقة جزءا من تنفيذ وتطبيق رسالة الله سبحانه ، إلّا أنّ الاختلاف بين زوجات النّبي ، والمنافسة النسوية المعروفة بينهنّ ، قد أثار في الوقت نفسه عاصفة من الاضطراب داخل بيت النّبي ممّا شغل فكره وزاد في همّه.

هنا منح الله سبحانه نبيّه إحدى الخصائص الاخرى ، وأنهى هذه الحوادث والأخذ والعطاء في الجدل إلى الأبد ، وأراح فكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الجهة ، وهدأ خاطره وروعه ، فقال سبحانه في هذه الآية( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ

__________________

(١) اقتباس من مجمع البيان وتفاسير اخرى.

٣١٦

مَنْ تَشاءُ ) .

«ترجي» من (الإرجاء) ، أي : التأخير ، و «تؤوي» ، من (الإيواء) ويعني استضافة شخص في بيتك.

ونعلم أنّ أحكام الإسلام في شأن الزوجات المتعدّدة تقضي بأن يقسم الزوج أوقاته بينهنّ بصورة عادلة ، فإن بات ليلة عند واحدة ، فيجب أن يبيت الليلة الاخرى عند غيرها ، إذ لا فرق ولا اختلاف بين النساء من هذه الجهة ، ويعبّرون عن هذا الموضوع في الكتب الفقهيّة الإسلامية بـ «حقّ القسم».

فكانت إحدى مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هي سقوط رعاية حقّ القسم منه بحكم الآية أعلاه ، وذلك نتيجة للظروف الخاصّة التي كان يعيشها ، والأوضاع المضطربة التي كانت تحيط به من كلّ جانب ، وخاصّة أنّ الحرب كانت تفرض عليه كلّ شهر تقريبا ، وكان له في نفس الوقت زوجات متعدّدة ، وبسقوط هذا الواجب عنه فقد كان قادرا على أن يقسم أوقاته كيف يشاء ، غير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يراعي تحقيق العدالة ما أمكن رغم هذه الظروف ، كما جاء ذلك في التواريخ الإسلامية صريحا.

إلّا أنّ وجود هذا الحكم الإلهي قد منح نساء النّبي الراحة والاطمئنان ، وأضفى على حياته الداخلية الهدوء والسكينة.

ثمّ تضيف الآية : وعند ما ترغب عن إحداهن وتعتزلها ، ثمّ ترغب فيها فلا تثريب عليك :( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ) .

وبهذا فليس الخيار بيدك في البداية وحسب ، بل إنّه بيدك حتّى في الأثناء أيضا ، وهو في الاصطلاح «تخيير استمراري» لا ابتدائي ، وبهذا الحكم الواسع ستقطع كلّ الحجج من برنامج حياتك فيما يتعلّق بأزواجك ، وتستطيع أن تسخّر فكرك لمسؤوليات الرسالة العظيمة الثقيلة.

ومن أجل أن تعلم نساء النّبي بأنهنّ إن أذعنّ لأمر الله تعالى في مسألة تقسيم أوقات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه يعتبر وسام فخر لهنّ يضاف إلى الفخر بكونهنّ أزواج النّبي

٣١٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أنّ هذا التسليم نوع من التضحية والإيثار ، وليس فيه أيّ عيب وانتقاص ، ولذلك يضيف سبحانه :( ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ ) .

وذلك أوّلا : لأنّ هذا الحكم عامّ يشملهنّ جميعا ولا يتفاوتن فيه ، وثانيا : إنّ الحكم الذي يشرع من جانب الله سبحانه إنّما يشرع لمصلحة مهمّة ، وبناء على هذا فيجب الإذعان له برغبة ورضا ، فينبغي مضافا إلى عدم القلق والتأثّر أن يفرحن لذلك.

لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكما أشرنا إلى ذلك ـ كان يراعي تقسيم أوقاته بينهنّ بعدالة قدر المستطاع ، إلّا في الظروف الخاصّة التي كانت توجب عدم التسوية وتحتّمه ، وكان هذا بحدّ ذاته مطلبا آخر يبعث على ارتياحهنّ ، لأنّهنّ كنّ يرين أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يسعى للتسوية بينهنّ مع كونه مخيّرا.

وأخيرا ينهي المطلب بهذه الجملة :( وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً ) لا يستعجل في إنزال العقاب بالمذنبين.

أجل إنّ الله يعلم بأيّ حكم قد رضيتم ، وله أذعنتم بقلوبكم ، وعن أي حكم لم ترضوا.

وهو سبحانه يعلم إلى من أكثر من أزواجكم ، ومن منهنّ تحظى باهتمام أقل ، ويعلم كيف تراعون حكمه وتنفّذوه مع هذا الاختلاف في الميول والرغبات.

وكذلك يعلم سبحانه من هم الذين يجلسون جانبا ، ويعترضون على أحكام الله في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعارضونها بقلوبهم ، ويعلم من هو الذي يرضى عن هذه الأحكام ويتقبّلها بدون اعتراض.

بناء على هذا فإنّ تعبير (قلوبكم) واسع يشمل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، ويشمل كلّ المؤمنين الذين يقبلون بهذه الأحكام ، أو

* * *

٣١٨

ملاحظة

هل كان هذا الحكم في حقّ كلّ نساء النّبي :

لقد كانت هذه المسألة موضع بحث في الفقه الإسلامي في باب خصائص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ تقسيم الأوقات بين الزوجات المتعدّدة بالتساوي هل يجب على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما يجب على عامّة المسلمين ، أم أنّ النّبي كان له حكم التخيير الاستثنائي؟

المعروف والمشهور بين فقهائنا وعند جمع من فقهاء العامّة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مستثنى من هذا الحكم ، و

يعدّون الآية المذكورة أعلاه دليلا على ذلك ، فهي تقول :( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ) لأنّ جعل هذه الجملة بعد البحث حول كلّ نساء النّبي يوجب أن يعود ضمير (هنّ) عليهنّ جميعا ، وهذا مطلب مقبول من جانب الفقهاء وكثير من المفسّرين.

إلّا أنّ البعض يرى أنّ الضمير أعلاه يتعلّق بالنساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهر. في حين أنّه لم يثبت تاريخيا أنّ هذا الحكم قد تحقّق في الخارج ، وأنّ له موضوعا ومصداقا أم لا. والبعض يرى أنّ النّبي لم يتزوّج على هذه الشاكلة إلّا امرأة واحدة. وعلى كلّ حال ، فإنّ أصل المسألة لم يثبت من الناحية التاريخية هذا أوّلا.

ثانيا : إنّ هذا التّفسير خلاف الظاهر ، ولا يتناسب مع سبب النّزول الذي ذكروه لهذه الآية ، وبناء على هذا فيجب قبول الحكم المذكور عاما.

* * *

٣١٩

الآية

( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) )

التّفسير

حكم مهمّ آخر فيما يتعلّق بأزواج النّبي :

لقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية حكما آخر من الأحكام المتعلّقة بزوجات النّبي ، فقالعزوجل :( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) فالآية منعت الرّسول من الزواج الجديد إلّا الماء والجواري( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً ) .

للمفسّرين وفقهاء الإسلام بحوث كثيرة في هذه الآية ، ووردت في المصادر الإسلامية روايات مختلفة في هذا الباب ، ونحن نذكر أوّلا ما يبدو من ظاهر الآية أنّه مرتبط بالآيات السابقة واللاحقة ـ بغضّ النظر عن أقوال المفسّرين ـ ثمّ نتناول المطالب الأخرى.

الظاهر من تعبير( مِنْ بَعْدُ ) أنّ الزواج محرّم عليك بعد هذا ، وبناء على هذا فإنّ

٣٢٠