الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل15%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156529 / تحميل: 5914
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

إلى الهدف. في حين أنّ نتيجة هذا الاستسلام هي إجهاض كلّ الجهود والمساعي ، وإحباط كلّ جهاد وكفاح.

إنّ تأريخ الإسلام يبيّن أنّ الكافرين والمنافقين سعوا مرارا إلى جرّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا الموضع ، فاقترحوا مرّة أن لا يذكر الأصنام بسوء ولا ينتقدها وينتقصها ، وقالوا مرّة اخرى : ائذن لنا أن نعبد ربّك سنة ، واعبد آلهتنا سنة ، وكانوا يقولون أحيانا : أمهلنا سنة نقيم فيها على ديننا ثمّ نؤمن بك. واقترحوا عليه مرّة أن أبعد عنك فقراء المؤمنين ومساكينهم لنضمّ صوتنا ـ نحن الأثرياء ذوي المكانة ـ إليك.

وكانوا يعلنون أحيانا استعدادهم لبذل الامتيازات المالية والمركز والمنصب الحسّاس ، والنساء الجميلات وأمثال ذلك.

من المسلّم أنّ كلّ هذه كانت شراك خطيرة في طريق انتشار الإسلام السريع ، واقتلاع جذور الكفر والنفاق ، ولو كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أظهر الليونة والميل إلى المساومة أمام واحد من هذه الاقتراحات فإنّ دعائم الثورة الإسلامية كانت ستنهار ، ولم تكن الجهود لتصل إلى نتيجة مطلقا.

ثمّ تقول في الأمر الرابع والخامس :( وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) .

إنّ هذا الجزء من الآية يوحي بأنّهم قد وضعوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت ضغط شديد لحمله على الاستسلام ، واستخدموا ضدّه وضدّ أصحابه كلّ أنواع الأذى ، سواء كان عن طريق جرح اللسان والكلام الفاحش والإهانة ، أم عن طريق الأذى الجسمي ، أو عن طريق الحصار الاقتصادي. وكان لهذا الأذى صورة وأسلوبا في مكّة ، وأسلوبا آخر في المدينة ، لأنّ «الأذى» جاء مطلقا في الآية ويشمل كلّ أنواع الأذى.

ويرى «الراغب» في المفردات أنّ «الأذى» هو كلّ ضرر يصيب الكائن الحي ، سواء في روحه ، أو جسمه ، أو يصيب من يرتبط به ، سواء في الدنيا أم الآخرة.

٣٠١

وقد استعملت هذه الكلمة في الآيات القرآنية في «الأذى اللساني» تارة كالآية (٦١) من سورة التوبة ، حيث تقول :( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) .

واستعملت أيضا بمعنى «الأذى البدني» في آيات اخرى ، كالآية (١٦) من سورة النساء :( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) أي يرتكبان الفاحشة ، فأقيموا عليهما الحدّ الشرعي.

يقول التاريخ : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الأوائل قد وقفوا كالجبل الأشمّ أمام أنواع الأذى ، ولم يقبلوا عار الاستسلام والهزيمة قطّ ، وأخيرا انتصروا في حركتهم.

وكان أساس هذه المقاومة ومعينها هو «التوكيل على الله» والاعتماد على ذاته المقدّسة الله الذي تتيسّر كلّ الصعاب والمشاكل أمام إرادته أجل يكفي الإنسان أن يكون معينه وناصره هذا الربّ الجليل.

وممّا قلناه اتّضح أنّ محتوى الآية المذكورة لم يكن نسخ لحكم الجهاد ـ كما يظنّ ذلك بعض المفسّرين ـ بل الظاهر أنّ هذه الآيات قد نزلت بعد مدّة من نزول حكم الجهاد ، وهي في مصافّ الحوادث المتعلّقة بسورة الأحزاب.

إنّ هذا حكم لكلّ العصور والقرون ، بأن لا يصرف الأئمّة الإلهيون طاقاتهم الحيوية في الاهتمام بإيذاء مخالفيهم ، فإنّهم إن فعلوا ذلك وصرفوا قواهم وطاقاتهم في هذا المجال ، يكون عدوّهم قد حقّق هدفه ، لأنّه يريد أن يشغل فكر من يقابله ، ويهدر طاقاته عن هذا الطريق هنا يكون أمر( دَعْ أَذاهُمْ ) هو الحلّ الوحيد.

وهنا أمر يستحقّ الانتباه أيضا ، وهو : أنّ الأوامر الخمسة المذكورة ، التي وردت في الآيتين الأخيرتين ، يكمل بعضها بعضا ، ويرتبط بعضها ببعض ، فإنّ

٣٠٢

تبشير المؤمنين لجذب القوى المؤمنة ، وعدم الاستسلام للكفّار والمنافقين ، وعدم الاهتمام بأذاهم ، والتوكّل على الله تشكّل مجموعة مبادئ تؤدّي إلى الهدف ، ودستور عمل جامع لكلّ سالكي طريق الحقّ.

* * *

٣٠٣

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) )

التّفسير

جانب من أحكام الطلاق :

إنّ آيات هذه السورة ـ الأحزاب ـ جاءت على شكل مجموعات مختلفة ، والخطاب في بعضها موجّه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي بعضها الآخر إلى كلّ المؤمنين ، ولذلك تقول أحيانا :( يا أَيُّهَا النَّبِيُ ) ، وأحيانا اخرى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) قد وردت فيها الأوامر اللازمة يوازي بعضها بعضا ، وهذا يعني أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مرادا بهذه التعليمات ، كما أنّ عموم المؤمنين يرادون بها أيضا.

والآية التي نبحثها من الآيات التي توجّه خطابها إلى كلّ المؤمنين ، في حين أنّ الآيات السابقة خاطبت شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهرا ، ويتوجّه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيات القادمة مرّة اخرى ، وبهذا فإنّ قسما من هذه السورة يتّبع أسلوب «اللفّ والنشر المرتّب».

٣٠٤

تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ) .

لقد بيّن الله سبحانه هنا حكما استثنائيا من حكم عدّة النساء المطلّقات ، وهو أنّ الطلاق ، إن وقع قبل الدخول فلا تلزم العدّة ، ومن هذا التعبير يفهم أنّ حكم العدّة كان قد بيّن قبل هذه الآية.

إنّ التعبير بـ «المؤمنات» لا يدلّ على أنّ الزواج من غير المسلمات ممنوع تماما ، بل من الممكن أن يكون إشارة إلى أولوية المؤمنات ، وبناء على هذا فإنّه لا ينافي الروايات ومشهور فتاوى الفقهاء بجواز الزواج المؤقّت من الكتابيات.

ثمّ إنّه يستفاد من تعبير (لكم) وكذلك جملة (تعتدونها) أنّ انتظار عدّة المرأة يعتبر حقّا للرجل ، ويجب أن يكون هكذا ، لأنّ من الممكن أن تكون المرأة حاملا في الواقع ، وتركها العدّة وزواجها برجل آخر يجعل حال الولد غير معلوم ، ويؤدّي إلى ضياع حقّ الرجل إضافة إلى أنّ انتظار العدّة يمنح الرجل والمرأة فرصة لتجديد النظر والرجوع إلى بعضهما ، فقد يقع الطلاق نتيجة انفعالات شديدة ، ومثل هذه الفرصة والتفكير حقّ للرجل والمرأة معا.

وأمّا ما أورده البعض على هذا الحكم ، بأنّ العدّة إن كانت حقّا للرجل ، فبإمكانه أن يسقط حقّه ، فلا يصحّ ، لأنّ في الفقه حقوقا كثيرة لا يمكن إسقاطها ، كالحقّ الذي لورثة الميّت في أمواله ، أو الحقّ الذي للفقراء في الزكاة ، إذ لا يقدر أي أحد على إسقاط هذا الحقّ الشرعي.

ثمّ تتطرّق الآية إلى حكم آخر من أحكام النساء اللاتي يطلقن قبل المباشرة الجنسية ـ والذي سبقت الإشارة إليه في سورة البقرة أيضا ـ فتقول :( فَمَتِّعُوهُنَ ) أي اعطوهنّ هدية مناسبة.

ولا شكّ أنّ تقديم هديّة مناسبة إلى المرأة يكون واجبا في حالة عدم تعيين المهر من قبل ، كما جاء في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ

٣٠٥

النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَ ) .

بناء على هذا ، فإنّ الآية مورد البحث وإن كانت مطلّقة ، وتشمل الموارد التي عين فيها المهر ، والتي لم يعيّن فيها ، إلّا أنّنا نحدّدها بالمورد الذي لم يعيّن فيه المهر بقرينة آية سورة البقرة ، لأنّه في حالة تعيين المهر وعدم الدخول يجب دفع نصف المهر ، كما جاء ذلك في الآية (٢٣٧) من سورة البقرة.

واحتمل بعض المفسّرين والفقهاء أنّ حكم تقديم هديّة مناسبة عام في الآية مورد البحث ، ويشمل حتّى الموارد التي عيّن فيها المهر ، غاية ما هناك أنّ له صفة الاستحباب في هذه الموارد ، وله صفة الوجوب في الموارد التي لم يعيّن فيها المهر. وتلاحظ في بعض الآيات والروايات إشارة إلى هذا المعنى أيضا(١) .

أمّا كم هو مقدار هذه الهدية؟ فقد بيّنه القرآن المجيد في سورة البقرة إجمالا بقوله :( مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ ) .(٢) وكذلك قال في نفس تلك الآية :( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) .

بناء على هذا ، فإن ذكرت في الروايات الإسلامية موارد من قبيل البيت والخادم واللباس وأمثال ذلك ، فإنّها من قبيل المصاديق لهذا الكلّي وهي تتفاوت بحسب إمكانيات الزوج وشؤون المرأة.

وآخر حكم في الآية مورد البحث هو :( وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«السراح الجميل» هو الطلاق المقترن بالمحبّة والاحترام ، وترك كلّ خشونة وظلم وجور واحتقار ، والخلاصة هو ما ورد في الآية (٢٩) من سورة البقرة :( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) فإنّ الاستمرار في الحياة الزوجية يجب أن يكون قائما على أساس المعايير الإنسانية ، والطلاق كذلك ، فلا يجوز للرجل ـ إذا

__________________

(١) كالآية (٢٤١) من سورة البقرة ، ووردت روايات متعدّدة في هذا الباب ذكرت في وسائل الشيعة ، الجزء ١٥ ، ص ٥٩ الباب ٥٠ من أبواب المهور من كتاب النكاح ، ومن جملتها ما ورد عن عليعليه‌السلام «لكلّ مطلّقة متعة إلّا المختلعة».

(٢) البقرة ، ٢٣٦.

٣٠٦

صمّم على طلاق زوجته ـ هضم حقّ الزوجة ومهرها ، وبذاءة الكلام والخشونة معها ، فإنّ هذا السلوك غير إسلامي قطعا ، ولا يمتّ إلى الإسلام بصلة.

واعتبر بعض المفسّرين «السراح الجميل» بمعنى إجراء الطلاق طبقا للسنّة الإسلامية ، وجاء هذا المعنى في الرّواية الواردة في تفسير علي بن إبراهيم وعيون الأخبار. إلّا أنّ من المسلّم أنّ «السراح الجميل» لا يتحدّد بهذا المعنى ، بالرغم من أنّه أحد مصاديقه.

واعتقد بعض آخر من المفسّرين أنّ السراح الجميل هنا يعني إذن الخروج من المنزل ، لأنّ المرأة ليست مكلّفة هنا بالعدّة ، وبناء على هذا فيجب إطلاق سراحها لتذهب حيث شاءت.

إلّا أنّ هذا المعنى يبدو بعيدا بملاحظة أنّ تعبير السراح الجميل ، أو أمثاله في الآيات القرآنية الاخرى قد ورد حتّى في شأن النساء اللاتي يجب أن يعتددن.

وقد كان لنا بحث مفصّل حول المعنى الأصلي للسراح ، وأصله اللغوي ، ولما ذا يستعمل في الإطلاقات المتعارفة بمعنى الطلاق والإطلاق في ذيل الآية (٢٨) من سورة الأحزاب هذه.

* * *

٣٠٧

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) )

التّفسير

يمكنك الزواج من هذه النّسوة :

قلنا : إنّ بعض مقاطع هذه السورة تبحث واجبات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين على طريقة اللفّ والنشر المرتّب ، ولذلك فبعد ذكر جانب من الأحكام المتعلّقة بطلاق النساء ، وجّهت الخطاب هنا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفصّلت الموارد السبعة التي يجوز للنبي الزواج فيها من تلك النسوة :

٣٠٨

١ ـ فقالت أوّلا :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ ) .

والمراد من هؤلاء النساء ـ بقرينة الجمل التالية ـ النساء اللاتي لم يكنّ يرتبطن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله برابطة قرابة وقد تزوّجنه ، وربّما كانت مسألة دفع المهر لهذا السبب ، لأنّ العرف المتّبع آنذاك هو أنّهم كانوا يدفعون المهر نقدا عند زواجهم من الأجنبيات ، إضافة إلى أفضلية التعجيل في هذا الدفع ، وخاصّة إذا كانت الزوجة بحاجة إليه. إلّا أنّ هذا الأمر ليس من الواجبات على أي حال ، إذ يمكن أن يبقى المهر دينا في ذمّة الزوج إذا ما اتّفق الطرفان على ذلك.

٢ ـ( وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ ) .

( أَفاءَ اللهُ ) من مادّة (الفيء) ، وتقال للأموال التي يحصل عليها الإنسان بدون جهد ومشقّة ، ولذلك يطلق (الفيء) على الغنائم الحربية ، وكذلك الأنفال ، وهي الثروات الطبيعية التي تعود إلى الحكومة الإسلامية ولا يملكها مالك بالخصوص.

يقول الراغب في مفرداته : الفيء بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة ، ومنه فاء الظلّ. (لحالة رجوع الظلّ) ثمّ قال : وقيل للغنيمة من دون مشقّة فيء. قال بعضهم : سمّي ذلك بالفيء تنبيها على أنّ أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظلّ زائل.

صحيح أنّ الغنائم الحربية لا تنال في بعض الأحيان إلّا بشقّ الأنفس وبذل الجهد المضني ، إلّا أنّ مشقّتها أقلّ من مشقّة تحصيل الأموال الاخرى. وقد يطلق «الفيء» أحيانا على الأموال الطائلة التي يحصل عليها من خلال هجوم واحد.

لكن من من نساء النّبي يصدق عليها هذا الحكم؟

قال بعض المفسّرين : إنّ إحدى نساء النّبي وهي «مارية القبطية» ـ كانت من الغنائم ، وكانت زوجتان أخريان ـ وهما «صفيّة» و «جويرية» ـ من الأنفال أعتقهما النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ تزوّجهما ، وكان هذا الفعل بنفسه جزءا من خطّة الإسلام العامّة في تحرير العبيد التدريجي ، وإرجاع الشخصية الإنسانية لهم.

٣ ـ( وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ

٣٠٩

مَعَكَ ) وبهذا فإنّ اللّاتي يحلّ للنّبي الزواج منهنّ من بين جميع الأقارب : بنات العمّ والعمّة ، وبنات الخال والخالة ، وبشرط أن يكنّ قد هاجرن مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ التحديد بهذه الفئات الأربع واضح ، إلّا أنّ شرط الهجرة من أجل أنّها كانت دليلا على الإيمان في ذلك اليوم ، وعدم الهجرة دليل على الكفر ، أو لأنّ الهجرة تمنحهنّ امتيازا أكبر وفخرا أعظم ، والهدف من الآية هو بيان النساء الفاضلات المؤهّلات لأن يصبحن زوجات للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهل لهذه الفئات الأربع التي ذكرت كحكم كلّي في الآية ، مصداق خارجي من بين نساء النّبي أم لا؟ إنّ المورد الوحيد الذي يمكن ذكره كمصداق هو زواجهصلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش ، الذي مرّت قصّته المثيرة في طيّات هذه السورة ، لأنّ زينب كانت بنت عمّة النّبي وكان «جحش» زوج عمّته(١) .

٤ ـ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ ) (من دون مهر)( إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) أي أنّ هذا الحكم خاص للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يشمل سائر المؤمنين( قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) وبناء على هذا فإذا كنّا قد حدّدنا بعض المسائل فيما يتعلّق بالزواج من هؤلاء النسوة ، فقد كان ذلك استنادا إلى مصلحة حاكمة في حياتك وحياتهن ، ولم يكن أيّ من هذه الأحكام والمقرّرات اعتباطيا وبدون حساب.

ثمّ تضيف الآية( لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ) وبالتالي ستكون قادرا على أداء المسؤوليات الملقاة على عاتقك في القيام بهذا الواجب( وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

وفي مورد القسم الأخير ـ أي النساء اللّاتي لا مهر لهنّ ـ ينبغي الالتفات إلى

__________________

(١) ذكر بعض المفسّرين وجوها أوردها «الفاضل المقداد» في كنز العرفان ، في أنّه لماذا ورد العمّ بصيغة المفرد والعمّات بصيغة الجمع ، وكذلك الخال بصيغة المفرد والخالات بصيغة الجمع ، إلّا أنّ أفضلها هو أنّ العمّ والخال يستعملان كاسم للجنس في لغة العرب ، وليس كذلك العمّات والخالات ، وقد ذكر ابن العربي عرف أهل اللغة هذا (كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٤١). وقد رجّح الآلوسي هذا الاحتمال في روح المعاني على كلّ الوجوه الاخرى.

٣١٠

النقاط أدناه :

١ ـ لا شكّ أنّ جواز اتّخاذ زوجة من دون مهر كان من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والآية صريحة في هذه المسألة ، ولذلك فهي من مسلّمات الفقه الإسلامي ، وبناء على هذا فلا يحقّ لأيّ امرئ أن يتزوّج امرأة بدون مهر ، قلّ أم كثر ، وحتّى إذا لم يرد ذكر المهر أثناء إجراء صيغة العقد ، ولم تكن هناك قرينة تعيّنه ، فيجب أن يدفع مهر المثل ، والمراد من مهر المثل : المهر الذي تجعله النساء اللاتي تشابهها في الأوصاف والخصوصيات لأنفسهنّ عادة.

٢ ـ هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل لهذا الحكم الكلّي مصداق في مورد زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أم لا؟

يعتقد البعض ـ كابن عبّاس وبعض آخر من المفسّرين ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتزوّج بأيّه امرأة على هذه الحال ، وبناء على هذا فإنّ الحكم أعلاه كان إذنا عاما للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّه لم يطبّق عمليا مطلقا.

في حين أنّ آخرين ذكروا أسماء ثلاث أو أربع نسوة من زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اللّاتي تزوجهنّ بدون مهر ، وهنّ : «ميمونة» بنت الحارث ، و «زينب» بنت خزيمة ، وكانتا من الأنصار ، وامرأة من بني أسد ، واسمها «امّ شريك» بنت جابر ، و «خولة» بنت حكيم.

ومن جملة ما ورد في الروايات أنّ «خولة» عند ما وهبت نفسها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اعترضت عائشة ، فقالت : ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟! فنزلت الآية أعلاه ، غير أنّ عائشة التفتت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : أرى الله يسارع في هواك ـ وكان هذا نوع من التعريض بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال لها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «وإنّك إن أطعت الله سارع في هواك»(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ، وفي تفسير القرطبي جملة : (والله ما أرى بك إلّا يسارع في هواك). وأوردها

٣١١

لا شكّ أنّ أمثال هؤلاء النسوة كنّ لا يطمعن إلّا في الفخر المعنوي عن طريق الاقتران بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذلك كنّ على استعداد للزواج منه بدون أيّ مهر ، إلّا أنّ وجود مثل هذا المصداق للحكم أعلاه غير مسلّم من الناحية التأريخية كما قلنا ، بل المسلّم أنّ الله سبحانه كان قد أذن لنبيّه بذلك للغاية التي سنشير إليها فيما بعد.

٣ ـ يستفاد من هذه الآية جيّدا أنّ إجراء صيغة عقد الزواج بلفظ «الهبة» كان مختّصا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقط ، ولا يستطيع أيّ فرد آخر أن يجري عقد الزواج بهذا اللفظ ، ويجوز إجراء العقد بلفظ الزواج أو النكاح ، حتّى وإن لم يجر للمهر ذكر فيه ، حيث يجب دفع مهر المثل عند عدم ذكر المهر كما قلنا آنفا ، فكأنّه في الحقيقة قد صرّح بمهر المثل.

* * *

بحث

جانب من حكمة تعدّد زوجات النّبي :

إنّ الجملة الأخيرة في الآية أعلاه إشارة في الواقع إلى فلسفة هذه الأحكام الخاصّة بنبيّنا الأكرم ، حيث تقول : إنّ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ظروفا لا يعيشها الآخرون ، وهذا التفاوت في الظروف أصبح سببا للتفاوت في الأحكام.

وبتعبير أوضح ، إنّ الهدف من هذه الأحكام رفع بعض المشاكل والصعوبات من كاهل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا تعبير لطيف يبيّن أنّ زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدّة نساء كان لحلّ سلسلة من المشاكل الاجتماعية والسياسية في حياته ، لأنّا نعلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان وحيدا حينما صدع بنداء الإسلام ورفع شعاره ، ولم يؤمن به بعد مدّة طويلة سوى عدّة معدودة ، فإنّه ثار ضدّ كلّ معتقدات عصره وبيئته الخرافية ، وأعلن الحرب ضدّ

__________________

الآلوسي في روح المعاني أيضا في ذيل الآية مورد البحث. إنّ قبح هذا التعبير ، والمعنى الذي اخفي فيه لا يخفى على أحد ، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يمرّ عليه ويتجاوزه بشكل رائع.

٣١٢

الجميع ، فمن البديهي أن تتّحد كلّ الأقوام والقبائل ضدّه.

في هذا الوضع كان لا بدّ من أن يستعين بكلّ الوسائل ويستغلّها لكسر اتّحاد الأعداء اللامشروع ، وكانت إحدى هذه الوسائل هو الزواج من القبائل المختلفة لإيجاده علاقة قرابة ونسب ، لأنّ رابطة القرابة كانت تعدّ أقوى الروابط بين عرب الجاهلية ، وكانوا يعتبرون الصهر من نفس القبيلة ، والدفاع عنه واجبا ، وتركه وحيدا جريمة وذنبا.

إنّ لدينا قرائن كثيرة تبيّن أنّ زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المتعدّد كان له صبغة سياسيّة في كثير من الموارد على أقلّ تقدير. وأحدها ـ كزواجه بزينب ـ كان لكسر سنّة جاهلية ، وقد بيّنا تفصيله في ذيل الآية (٣٧) من هذه السورة. وبعضه لتقليل العداوة ، أو لجلب محبّة أشخاص أو أقوام متعصّبين عنودين.

من الواضح أنّ شخصا يتزوّج وهو في سنّ الخامسة والعشرين ، حيث كان في عنفوان شبابه ، بامرأة أيم لها أربعون سنة ، ويكتفي بها حتّى الثالثة والخمسين من عمره ، وبهذا يكون قد قضى مرحلة الشباب وبلغ سنّ الكهولة ، ثمّ يقدم على الزواج المتعدّد ، لا بدّ أن يكون له سبب وفلسفة ، ولا يمكن أن يفسّر بأيّ وجه من الوجوه بأسباب العلاقة والرغبة الجنسية ، لأنّه لم يكن هناك مانع اجتماعي ، أو ظروف مالية صعبة ، أو أدنى نقص يمنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الزواج المتعدّد في سنّي شبابه ، خاصّة وأنّ تعدّد الزوجات كان أمرا طبيعيا بين العرب آنذاك ، بل ربّما كانت الزوجة الاولى تذهب لخطبة الزوجة الثّانية ، ولم يكونوا يعترفون بأيّ حدّ في اتّخاذ الزوجات.

والطريف أنّه قد ورد في التواريخ أنّ النّبي لم يتزوّج إلّا بكرا واحدة ، وهي عائشة ، وباقي نسائه كنّ أيامى جميعا ومن الطبيعي أن لا يتمتعنّ بإثارة جنسية

٣١٣

ملحوظة(١) .

بل نقرأ في بعض التواريخ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّج بعدّة زوجات ، ولم يجر إلّا مراسم العقد ، ولم يباشرهنّ أبدا ، ولم يباشرهنّ أبدا ، بل إنّه اكتفى في بعض الموارد بخطبة بعض نساء القبائل فقط(٢) .

وقد كان هؤلاء يفرحون ويسرّون ويفتخرون بأنّ امرأة من قبيلتهم قد سمّيت بزوجة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فحصل لهم هذا الفخر ، وبذلك فإنّ علاقتهم الاجتماعية بالنّبي كانت تشتدّ وتقوى ، ويصبحون أكثر تصميما على الدفاع عنه.

ومن جانب آخر ، فمع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن رجلا عقيما ، إلّا أنّه لم يكن له من الأولاد إلّا القليل ، في حين أنّ هذا الزواج المتعدّد لو كان بسبب جاذبية هذه النسوة ، وإثارتهنّ الجنسية ، فينبغي أن يكون له من الأولاد الكثير.

وكذلك ينبغي الالتفات إلى أنّ بعض هذه النساء ـ كعائشة ـ كانت صغيرة جدّا عند ما أصبحت زوجة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد مرّت سنين حتّى استطاعت أن تكون زوجة حقيقية له ، وهذا يوحي بأنّ الاقتران بمثل هذه البنت الصغيرة كانت له أهداف اخرى ، وكان الهدف الأصلي هو ما أشرنا إليه قبل قليل.

وبالرغم من أنّ أعداء الإسلام أرادوا أن يتّخذوا من تعدّد زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حربة لأشدّ هجماتهم المغرضة ، ويحوكون منها أساطير أو هي من خيط العنكبوت للطعن في نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ سنّ النّبي المتقدّمة عند إقدامه على تكرار الزواج من جهة ، والظروف الخاصّة المتعلّقة بالنساء من ناحية العمر والقبيلة من جانب آخر ، والقرائن المختلفة التي أشرنا إلى قسم منها آنفا من جهة ثالثة تجعل الحقيقة واضحة كالشمس ، وتحبط مؤامرات المغرضين وتفضحها.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢٢ ، صفحة ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) المصدر السابق.

٣١٤

الآية

( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) )

سبب النّزول

قلنا في تفسير الآيتين ٢٨ و٢٩ من هذه السورة وبيان سبب النّزول : إنّ جمعا من نساء النّبي ـ بناء على ما نقله المفسّرون ـ قلن للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : زد في نفقتنا وامور معاشنا ـ طمعا في الغنائم الحربية ، فكنّ يحسبن أنّ قسما كبيرا منها من نصيبهنّ فنزلت الآيات المذكورة وخاطبتهنّ بصراحة بأنهنّ إن أردن الحياة الدنيا وزينتها فليفارقن النّبي إلى الأبد ، وإن أردن الله ورسوله واليوم الآخر فليعشن معه حياة بسيطة.

إضافة إلى أنّه كانت بينهنّ منافسة في كيفية تقسيم أوقات حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بينهنّ ، وكنّ يحرجن النّبي ويضايقنه مع كلّ المشاكل والمشاغل التي كانت لديه ، ومع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يراعي العدالة بينهنّ ويبذل الجهد اللازم لتحقيقها تماما ، فقد

٣١٥

كان لغطهنّ وجد الهنّ مستمرّا ، فنزلت هذه الآية وجعلت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حرّا في تقسيم أوقاته ، ثمّ أعلنت الآية لهنّ أنّ هذا حكم إلهي لئلّا يتولّد في أنفسهن أي قلق وسوء ظنّ(١) .

التّفسير

حلّ مشكلة اخرى في حياة النّبي :

إنّ قائدا ربّانيا عظيما كالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة وأنّه ابتلي بسيل من الحوادث الصعبة المرّة ، وكانوا يحوكون له الدسائس والمؤامرات داخليا وخارجيا ، لا يقدر أن يشغل فكره بحياته الخاصّة كثيرا ، بل يجب أن يكون له هدوء نسبي في حياته الداخلية ليقوى على التفرّغ لحلّ سيل المشاكل التي أحاطت به من كلّ جانب.

إنّ اضطراب الحياة الشخصية ، وكون قلبه وفكره مشغولين بوضعه العائلي في هذه اللحظات المضطربة الحسّاسة كان أمرا خطيرا للغاية.

ومع أنّ زواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المتعدّد ـ وطبقا للبحوث السابقة ، والوثائق والمستندات التي أوردناها في تفسير الآية السابقة ـ كانت له أبعاد سياسية واجتماعية وعاطفية غالبا ، وكان في الحقيقة جزءا من تنفيذ وتطبيق رسالة الله سبحانه ، إلّا أنّ الاختلاف بين زوجات النّبي ، والمنافسة النسوية المعروفة بينهنّ ، قد أثار في الوقت نفسه عاصفة من الاضطراب داخل بيت النّبي ممّا شغل فكره وزاد في همّه.

هنا منح الله سبحانه نبيّه إحدى الخصائص الاخرى ، وأنهى هذه الحوادث والأخذ والعطاء في الجدل إلى الأبد ، وأراح فكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الجهة ، وهدأ خاطره وروعه ، فقال سبحانه في هذه الآية( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ

__________________

(١) اقتباس من مجمع البيان وتفاسير اخرى.

٣١٦

مَنْ تَشاءُ ) .

«ترجي» من (الإرجاء) ، أي : التأخير ، و «تؤوي» ، من (الإيواء) ويعني استضافة شخص في بيتك.

ونعلم أنّ أحكام الإسلام في شأن الزوجات المتعدّدة تقضي بأن يقسم الزوج أوقاته بينهنّ بصورة عادلة ، فإن بات ليلة عند واحدة ، فيجب أن يبيت الليلة الاخرى عند غيرها ، إذ لا فرق ولا اختلاف بين النساء من هذه الجهة ، ويعبّرون عن هذا الموضوع في الكتب الفقهيّة الإسلامية بـ «حقّ القسم».

فكانت إحدى مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هي سقوط رعاية حقّ القسم منه بحكم الآية أعلاه ، وذلك نتيجة للظروف الخاصّة التي كان يعيشها ، والأوضاع المضطربة التي كانت تحيط به من كلّ جانب ، وخاصّة أنّ الحرب كانت تفرض عليه كلّ شهر تقريبا ، وكان له في نفس الوقت زوجات متعدّدة ، وبسقوط هذا الواجب عنه فقد كان قادرا على أن يقسم أوقاته كيف يشاء ، غير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يراعي تحقيق العدالة ما أمكن رغم هذه الظروف ، كما جاء ذلك في التواريخ الإسلامية صريحا.

إلّا أنّ وجود هذا الحكم الإلهي قد منح نساء النّبي الراحة والاطمئنان ، وأضفى على حياته الداخلية الهدوء والسكينة.

ثمّ تضيف الآية : وعند ما ترغب عن إحداهن وتعتزلها ، ثمّ ترغب فيها فلا تثريب عليك :( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ) .

وبهذا فليس الخيار بيدك في البداية وحسب ، بل إنّه بيدك حتّى في الأثناء أيضا ، وهو في الاصطلاح «تخيير استمراري» لا ابتدائي ، وبهذا الحكم الواسع ستقطع كلّ الحجج من برنامج حياتك فيما يتعلّق بأزواجك ، وتستطيع أن تسخّر فكرك لمسؤوليات الرسالة العظيمة الثقيلة.

ومن أجل أن تعلم نساء النّبي بأنهنّ إن أذعنّ لأمر الله تعالى في مسألة تقسيم أوقات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه يعتبر وسام فخر لهنّ يضاف إلى الفخر بكونهنّ أزواج النّبي

٣١٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أنّ هذا التسليم نوع من التضحية والإيثار ، وليس فيه أيّ عيب وانتقاص ، ولذلك يضيف سبحانه :( ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ ) .

وذلك أوّلا : لأنّ هذا الحكم عامّ يشملهنّ جميعا ولا يتفاوتن فيه ، وثانيا : إنّ الحكم الذي يشرع من جانب الله سبحانه إنّما يشرع لمصلحة مهمّة ، وبناء على هذا فيجب الإذعان له برغبة ورضا ، فينبغي مضافا إلى عدم القلق والتأثّر أن يفرحن لذلك.

لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكما أشرنا إلى ذلك ـ كان يراعي تقسيم أوقاته بينهنّ بعدالة قدر المستطاع ، إلّا في الظروف الخاصّة التي كانت توجب عدم التسوية وتحتّمه ، وكان هذا بحدّ ذاته مطلبا آخر يبعث على ارتياحهنّ ، لأنّهنّ كنّ يرين أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يسعى للتسوية بينهنّ مع كونه مخيّرا.

وأخيرا ينهي المطلب بهذه الجملة :( وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً ) لا يستعجل في إنزال العقاب بالمذنبين.

أجل إنّ الله يعلم بأيّ حكم قد رضيتم ، وله أذعنتم بقلوبكم ، وعن أي حكم لم ترضوا.

وهو سبحانه يعلم إلى من أكثر من أزواجكم ، ومن منهنّ تحظى باهتمام أقل ، ويعلم كيف تراعون حكمه وتنفّذوه مع هذا الاختلاف في الميول والرغبات.

وكذلك يعلم سبحانه من هم الذين يجلسون جانبا ، ويعترضون على أحكام الله في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعارضونها بقلوبهم ، ويعلم من هو الذي يرضى عن هذه الأحكام ويتقبّلها بدون اعتراض.

بناء على هذا فإنّ تعبير (قلوبكم) واسع يشمل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، ويشمل كلّ المؤمنين الذين يقبلون بهذه الأحكام ، أو

* * *

٣١٨

ملاحظة

هل كان هذا الحكم في حقّ كلّ نساء النّبي :

لقد كانت هذه المسألة موضع بحث في الفقه الإسلامي في باب خصائص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ تقسيم الأوقات بين الزوجات المتعدّدة بالتساوي هل يجب على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما يجب على عامّة المسلمين ، أم أنّ النّبي كان له حكم التخيير الاستثنائي؟

المعروف والمشهور بين فقهائنا وعند جمع من فقهاء العامّة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مستثنى من هذا الحكم ، و

يعدّون الآية المذكورة أعلاه دليلا على ذلك ، فهي تقول :( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ) لأنّ جعل هذه الجملة بعد البحث حول كلّ نساء النّبي يوجب أن يعود ضمير (هنّ) عليهنّ جميعا ، وهذا مطلب مقبول من جانب الفقهاء وكثير من المفسّرين.

إلّا أنّ البعض يرى أنّ الضمير أعلاه يتعلّق بالنساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهر. في حين أنّه لم يثبت تاريخيا أنّ هذا الحكم قد تحقّق في الخارج ، وأنّ له موضوعا ومصداقا أم لا. والبعض يرى أنّ النّبي لم يتزوّج على هذه الشاكلة إلّا امرأة واحدة. وعلى كلّ حال ، فإنّ أصل المسألة لم يثبت من الناحية التاريخية هذا أوّلا.

ثانيا : إنّ هذا التّفسير خلاف الظاهر ، ولا يتناسب مع سبب النّزول الذي ذكروه لهذه الآية ، وبناء على هذا فيجب قبول الحكم المذكور عاما.

* * *

٣١٩

الآية

( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) )

التّفسير

حكم مهمّ آخر فيما يتعلّق بأزواج النّبي :

لقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية حكما آخر من الأحكام المتعلّقة بزوجات النّبي ، فقالعزوجل :( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) فالآية منعت الرّسول من الزواج الجديد إلّا الماء والجواري( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً ) .

للمفسّرين وفقهاء الإسلام بحوث كثيرة في هذه الآية ، ووردت في المصادر الإسلامية روايات مختلفة في هذا الباب ، ونحن نذكر أوّلا ما يبدو من ظاهر الآية أنّه مرتبط بالآيات السابقة واللاحقة ـ بغضّ النظر عن أقوال المفسّرين ـ ثمّ نتناول المطالب الأخرى.

الظاهر من تعبير( مِنْ بَعْدُ ) أنّ الزواج محرّم عليك بعد هذا ، وبناء على هذا فإنّ

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) )

التّفسير

بما ذا رموا موسىعليه‌السلام واتّهموه؟

بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب احترام مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وترك كلّ ما يؤذيه والابتعاد عنه ، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين ، وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ) .

إنّ إختيار موسىعليه‌السلام من جميع الأنبياء الذين طالما أوذوا ، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر ، إضافة إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك بحث بين المفسّرين في المراد من إيذاء موسىعليه‌السلام هنا؟ ولماذا ذكره

٣٦١

القرآن بشكل مبهم؟ وقد ذكروا احتمالات عديدة في تفسير الآية ، ومن جملتها :

١ ـ إنّ موسى وهارونعليهما‌السلام قد ذهبا إلى جبل ـ طبق رواية ـ وودّع هارون الحياة ، فأشاع المرجفون من بني إسرائيل أنّ موسىعليه‌السلام قد تسبّب في موته ، فأبان الله سبحانه حقيقة الأمر ، وأسقط ما في يد المرجفين.

٢ ـ كما أوردنا مفصّلا في ذيل الآيات الأخيرة من سورة القصص ، فإنّ قارون المحتال أراد أن يتملّص من قانون الزكاة ، ولا يؤدّي حقوق الضعفاء والفقراء ، فعمد إلى بغيّ واتّفق معها على أن تقوم بين الناس وتتّهم موسىعليه‌السلام بأنّه زنى بها ، إلّا أنّ هذه الخطّة قد فشلت بلطف الله سبحانه ، بل وشهدت تلك المرأة بطهارة موسىعليه‌السلام وعفته ، وبما أراده منها قارون.

٣ ـ إنّ جماعة من الأعداء اتّهموا موسىعليه‌السلام بالسحر والجنون والافتراء على الله ، ولكن الله تعالى برّأه منها بالمعجزات الباهرات.

٤ ـ إنّ جماعة من جهّال بني إسرائيل قد اتّهموه بأنّ فيه بعض العيوب الجسمية كالبرص وغيره ، لأنّه كان إذا أراد أن يغتسل ويستحمّ لا يتعرّى أمام أحد مطلقا ، فأراد أن يغتسل يوما بمنأى عن الناس ، فوضع ثيابه على حجر هناك ، فتدحرج الحجر بثيابه ، فرأى بنو إسرائيل جسمه ، فوجدوه مبرّأ من العيوب.

٥ ـ كان المعذرون من بني إسرائيل أحد عوامل إيذاء موسىعليه‌السلام ، فقد كانوا يطلبون تارة أن يريهم اللهعزوجل «جهرة» ، واخرى يقولون : إنّ نوعا واحدا من الطعام ـ وهو «المنّ والسلوى» ـ لا يناسبنا ، وثالثة يقولون : إنّنا غير مستعدّين للدخول إلى بيت المقدس ومحاربة «العمالقة». اذهب أنت وربّك فقاتلا ، وافتحاه لنا لندخله بعد ذلك!

الّا أنّ الأقرب لمعنى الآية ، هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع ، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسىعليه‌السلام من جوانب متعدّدة ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ) كإشاعة بعض الأكاذيب واتّهام زوج النّبي

٣٦٢

بتهم باطلة ، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور ـ ذيل الآيات ١١ ـ ٢٠ ـ والاعتراضات التي اعترضوا بها على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في زواجه بزينب ، وأنواع الأذى والمضايقات التي كانوا يضايقونه بها في بيته ، أو مناداته بأسلوب خال من الأدب والأخلاق ، وغير ذلك.

وأمّا الاتّهام بالسحر والجنون وأمثال ذلك ، أو العيوب البدنية ، فإنّها وإن اتّهم موسى بها ، إلّا أنّها لا تتناسب مع( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالنسبة لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يتّهم المؤمنون موسىعليه‌السلام ولا نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسحر والجنون. وكذلك الاتّهام بالعيوب البدنية ، فإنّه على فرض كونه قد حدث بالنسبة لموسىعليه‌السلام ، وأنّ الله تعالى قد برّأه ، فليس له مصداق أو حادثة تؤيّده في تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّة حال ، فيمكن أن يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيها وذا منزلة ، فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل ، فكن طاهرا وعفيفا ، واحفظ وجاهتك عند الله ، فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس ، حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس.

وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة «يوسف» الصدّيق الطاهر ، وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة.

وكذلك في شأن «مريم» بنت عمران أمّ عيسىعليه‌السلام ، حيث شهد وليدها الرضيع بطهارتها وعفّتها ، وقطع بذلك ألسن المتربّصين بها من بني إسرائيل ، والذين كانوا يسعون لاتّهامها وتلويث سمعتها.

والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصا بالمؤمنين في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى أولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به ، فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه ، وينسون مواريثه ، ولذلك

جاء في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام : «يا أيّها الذين آمنوا لا

٣٦٣

تؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في علي والأئمّة صلوات الله عليهم ...»(١) .

وآخر كلام في تفسير هذه الآية هو : أنّه بعد ملاحظة أحوال الأنبياء العظام الذين لم يكونوا بمأمن من جراحات ألسن الجاهلين والمنافقين ، يجب أن لا نتوقّع أن لا يبتلى المؤمنون والطاهرون بمثل هؤلاء الأفراد ، فإنّ الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «إنّ رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ..» ثمّ يضيف الإمام في نهاية هذا الحديث : «ألم ينسبوا إلى موسى أنّه عنين وآذوه حتّى برّأه الله ممّا قالوا ، وكان عند الله وجيها»(٢) .

قولوا الحقّ لتصلح أعمالكم :

بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النّبي ، تصدر الآية التالية أمرا هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الاجتماعي الخطير ، فتقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) .

«القول السديد» من مادّة (سد) أي المحكم المنيع الذي لا يعتريه الخلل ، والموافق للحقّ والواقع ، ويعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل. وإذا ما فسّره بعض المفسّرين بالصواب ، والبعض الآخر بكونه خالصا من الكذب واللغو وخاليا منه ، أو تساوي الظاهر والباطن ووحدتهما ، أو الصلاح والرشاد ، وأمثال ذلك ، فإنّها في الواقع تفاسير ترجع إلى المعنى الجامع أعلاه.

ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد ، فتقول :( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) .

إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه ، ومنبع قول الحقّ ، والقول الحقّ أحد العوامل المؤثّرة في إصلاح الأعمال ، وإصلاح الأعمال سبب

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٨.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٩.

٣٦٤

مغفرة الذنوب ، وذلك لـ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) .(١)

يقول علماء الأخلاق : إنّ اللسان أكثر أعضاء البدن بركة ، وأكثر الوسائل تأثيرا في الطاعة والهداية والصلاح ، وهو في الوقت نفسه يعدّ أخطر أعضاء البدن وأكثرها معصية وذنبا ، حتّى أنّ ما يقرب من الثلاثين كبيرة تصدر من هذا العضو الصغير(٢) .

وفي حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(٣) .

ومن الرائع جدّا ما ورد في حديث آخر عن الإمام السجّادعليه‌السلام : «إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه فيقول : كيف أصبحتم؟ فيقولون : بخير إن تركتنا. ويقولون : الله الله فينا ، ويناشدونه ويقولون : إنّما نثاب بك ونعاقب بك»(٤) .

هناك روايات كثيرة في هذا الباب تحكي جميعا عن الأهميّة الفائقة للّسان ودوره في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس الإنسانية ، ولذلك نقرأ في حديث : «ما جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا المنبر قطّ إلّا تلا هذه الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٢) عد الغزالي في إحياء العلوم عشرين كبيرة أو معصية تصدر عن اللسان ، وهي : ١ ـ الكذب ٢ ـ الغيبة ٣ ـ النميمة ٤ ـ النفاق في الكلام ، أي كون الإنسان ذا لسانين ووجهين ٥ ـ المدح في غير موضعه ٦ ـ بذاءة الكلام ٧ ـ الغناء والأشعار غير المرضية ٨ ـ الإفراط في المزاح ٩ ـ السخرية والاستهزاء ١٠ ـ إفشاء أسرار الآخرين ١١ ـ الوعد الكاذب ١٢ ـ اللعن في غير موضعه ١٣ ـ التخاصم والنزاع ١٤ ـ الجدال والمراء ١٥ ـ البحث في امور الباطل ١٦ ـ الثرثرة ١٧ ـ البحث في الأمور التي لا تعني الإنسان ١٨ ـ وصف مجالس الشراب والقمار والمعصية ١٩ ـ السؤال عن المسائل الخارجة عن إدراك الإنسان والبحث فيها ٢٠ ـ التصنع والتكلف في الكلام. ونزيد عليها عشرة مواضيع مهمة اخرى ، وهي : ١ ـ الاتهام ٢ ـ شهادة الزور ٣ ـ إشاعة الفحشاء ، ونشر الإشاعات التي لا أساس لها ٤ ـ مدح الإنسان نفسه ٥ ـ الإصرار في غير محله ٦ ـ الغلظة والخشونة في الكلام ٧ ـ الأذى باللسان ٨ ـ ذم من لا يستحق الذم ٩ ـ كفران النعمة اللسان ١٠ ـ الإعلام الباطل.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٧٨.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٢٧٨.

٣٦٥

اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) (١).

ثمّ تضيف الآية في النهاية :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون أعمال الإنسان صالحة ، وذنوبه مغفورة ، وهو عند الله من المبيضة وجوههم الذينرضي‌الله‌عنهم ؟!

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل تفسير الميزان ، الجزء ١٦ ، صفحة ٣٧٦.

٣٦٦

الآيتان

( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣) )

التّفسير

حمل الأمانة الإلهية أعظم افتخارات البشر :

تكمل هاتان الآيتان ـ اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب ـ المسائل المهمّة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان ، والعمل الصالح ، والجهاد ، والإيثار ، والعفّة والأدب والأخلاق ، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعا ساميا جدّا بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة الله العظيمة ، وكيف أنّه إذا ما جهل قيمه الحياتية والوجودية سيظلم نفسه غاية الظلم ، وينحدر إلى أسفل سافلين!

تبيّن الآية أوّلا أعظم امتيازات الإنسان وأهمّها في كلّ عالم الخلقة ، فتقول :( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ

٣٦٧

مِنْها ) .

ممّا لا شكّ فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وامتناعها عن ذلك لم يكن استكبارا منها ، كما كان ذلك من الشيطان ، حيث تقول الآية (٢٤) من سورة البقرة :( أَبى وَاسْتَكْبَرَ ) ، بل إنّ إياءها كان مقترنا بالإشفاق ، أي الخوف الممتزج بالتوجّه والخضوع.

إلّا أنّ الإنسان ، اعجوبة عالم الخلقة ، قد تقدّم( وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) .

لقد تحدّث كبار مفسّري الإسلام حول هذه الآية كثيرا ، وسعوا كثيرا من أجل الوصول إلى حقيقة معنى «الأمانة» ، وأبدوا وجهات نظر مختلفة ، نختار أفضلها بتقصّي القرائن الموجودة في طيّات الآية.

ويجب التأكيد في هذه الآية العميقة المحتوى على خمس موارد :

١ ـ ما هو المراد من الأمانة؟

٢ ـ ما معنى عرضها على السماوات والأرض والجبال؟

٣ ـ لماذا وكيف أبت هذه الموجودات حمل هذه الأمانة؟

٤ ـ كيف حمل الإنسان ثقل الأمانة هذا؟

٥ ـ لماذا وكيف كان ظلوما جهولا؟

لقد ذكرت تفاسير مختلفة للأمانة ومن جملتها :

أنّ المراد من الأمانة : هي الولاية الإلهية ، وكمال صفة العبودية ، والذي يحصل عن طريق المعرفة والعمل الصالح.

أنّ المراد : صفة الإختيار والحرية والإرادة التي تميّز الإنسان عن سائر الموجودات.

أنّ المراد : العقل الذي هو ملاك التكليف ، ومناط الثواب والعقاب.

أنّ المراد : أعضاء جسم الإنسان ، فالعين أمانة الله ، ويجب الحفاظ عليها وعدم

٣٦٨

استعمالها في طريق المعصية ، والاذن واليد والرجل واللسان كلّها أمانات يجب حفظها.

أنّ المراد : الأمانات التي يأخذها الناس بعضهم من بعض ، والوفاء بالعهود.

أنّ المراد : معرفة الله سبحانه.

أنّ المراد : الواجبات والتكاليف الإلهيّة كالصلاة والصوم والحجّ.

لكن يتّضح من خلال أدنى دقّة أن هذه التفاسير لا تتناقض مع بعضها ، بل يمكن إدغام بعضها في البعض الآخر ، فبعضها أخذت جانبا من الموضوع ، وبعضها الآخر كلّه.

ومن أجل الحصول على جواب جامع كاف ، يجب أن نلقي نظرة على الإنسان لنرى أي شيء يمتلكه وتفتقده السماوات والأرضون والجبال؟

إنّ الإنسان موجود له استعدادات وقابليات يستطيع من خلال استغلالها أن يكون أتمّ مصداق لخليفة الله ، ويستطيع أن يصل إلى قمّة العظمة والشرف باكتساب المعرفة وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات ، وأن يسمو حتّى على الملائكة.

إنّ هذا الاستعداد المقترن بالحرية والإرادة والإختيار يعني أنّ الإنسان يطوي هذا الطريق بإرادته وإختياره ، ويبدأ فيه من الصفر ويسير إلى ما لا نهاية.

إنّ السماء والأرض والجبال تمتلك نوعا من المعرفة الإلهية ، وهي تذكر الله سبحانه وتسبّحه ، وتخضع لعظمته وتخشع لها وتسجد ، إلّا أنّ كلّ ذلك ذاتي وتكويني وإجباري ، ولذلك ليس فيه تكامل ورقي ، والموجود الوحيد الذي لا ينتهي منحني صعوده ونزوله ، وهو قادر على ارتقاء قمّة التكامل بصورة لا تعرف الحدود ، ويقوم بكلّ هذه الأعمال بإرادته وإختياره ، هو الإنسان ، وهذه هي «الأمانة الإلهيّة» التي امتنعت من حملها كلّ الموجودات ، وحملها الإنسان! ولذلك نرى الآية التالية قسّمت البشر إلى ثلاث فئات : «المؤمنين» و «الكفّار» و

٣٦٩

«المنافقين».

بناء على هذا يجب القول في عبارة مختصرة أنّ الأمانة الإلهية هي قابلية التكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والإختيار ، والوصول إلى مقام الإنسان الكامل ، وعبودية الله الخاصّة وتقبّل ولاية الله.

لكن لماذا عبّر عن هذا الأمر بالأمانة ، مع أنّ كلّ وجودنا وكلّ ما لدينا أمانة الله؟

لقد عبّر بهذا التعبير لأهميّة امتياز البشر العظيم هذا ، وإلّا فإنّ بقية المواهب أمانات الله أيضا ، غير أنّ أهميّتها تقلّ أمام هذا الامتياز.

ويمكن أن نعبّر هنا عن هذه الأمانة بتعبير آخر ونقول : إنّها التعهّد والالتزام وقبول المسؤولية.

بناء على هذا فإنّ أولئك الذين فسّروا الأمانة بصفة الإختيار والحرية في الإرادة ، قد أشاروا إلى جانب من هذه الأمانة العظمى ، كما أنّ أولئك الذين فسّروها بالعقل ، أو أعضاء البدن ، أو أمانات الناس لدى بعضهم البعض ، أو الفرائض والواجبات ، أو التكاليف بصورة عامّة ، قد أشار كلّ منهم إلى غصن من أغصان هذه الشجرة العظيمة المثمرة ، واقتطف منها ثمرة.

لكن ما هو المراد من عرض هذه الأمانة على السموات والأرض؟

هل المراد : أنّ الله سبحانه قد منح هذه الموجودات شيئا من العقل والشعور ثمّ عرض عليها حمل هذه الأمانة؟

أو أنّ المراد من العرض هو المقارنة؟ أي أنّها عند ما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من القابليات والاستعدادات أعلنت عدم لياقتها واستعدادها عن تحمّل هذه الأمانة العظيمة.

طبعا ، يبدو أنّ المعنى الثّاني هو الأنسب ، وبهذا فإنّ السماوات والأرض والجبال قد صرخت جميعا بأنّا لا طاقة لنا بحمل هذه الأمانة.

٣٧٠

ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثالث أيضا ، بأنّ هذه الموجودات لما ذا وكيف رفضت وأبت حمل هذه الأمانة العظمى ، وأظهرت إشفاقها من ذلك؟

ومن هنا تتّضح كيفية حمل الإنسان لهذه الأمانة الإلهية ، لأنّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤولية والقيام بها ، وأن يتقبّل ولاية الله ، ويسير في طريق العبودية والكمال ويتّجه نحو المعبود الدائم ، وأن يطوي هذا الطريق بقدمه وإرادته ، وبالاستعانة بربّه.

أمّا ما ورد في روايات عديدة وردت عن أهل البيتعليهم‌السلام من تفسير هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وولده ، فمن أجل أنّ ولاية الأنبياء والأئمّة نور ساطع من تلك الولاية الإلهية الكليّة ، والوصول إلى مقام العبودية ، وطي طريق التكامل لا يمكن أن يتمّ من دون قبول ولاية أولياء الله.

جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه سئل عن تفسير آية عرض الأمانة ، فقال : «الأمانة الولاية ، من ادّعاها بغير حقّ كفر»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال عند ما سئل عن تفسير هذه الآية : «الأمانة الولاية ، والإنسان هو أبو الشرور المنافق»(٢) .

والمسألة الاخرى التي يلزم ذكرها هنا ، هي أنّنا قلنا في ذيل الآية (١٧٢) من سورة الأعراف فيما يتعلّق بعالم الذرّ بأن أخذ ميثاق الله على التوحيد كان عن طريق الفطرة ، واستعداد وطبيعة الآدمي ، وإنّ عالم الذرّ هو عالم الاستعداد والفطرة.

وفي مورد قبول الأمانة الإلهيّة يجب القول بأنّ هذا القبول لم يكن قبول اتّفاق وعقد ، بل كان قبولا تكوينيا حسب عالم الاستعداد.

السؤال الوحيد الذي يبقى هو مسألة كون الإنسان «ظلوما جهولا» ، فهل أنّ

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٣ ، صفحة ٣٤١ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

٣٧١

وصف الإنسان بهاتين الصفتين ـ وظاهرهما ذمّه وتوبيخه ـ كان نتيجة قبوله لهذه الأمانة؟

من المسلّم أنّ النفي هو جواب هذا السؤال ، لأنّ قبول هذه الأمانة أعظم فخر وميزة للإنسان ، فكيف يمكن أن يذمّ على قبوله مثل هذا المقام السامي؟

أم أنّ هذا الوصف بسبب نسيان غالب البشر وظلمهم أنفسهم ، وعدم العلم بقدر الإنسان ومنزلته وبسبب الفعل الذي بدأ منذ ابتداء نسل آدم من قبل قابيل وأتباعه ، ولا يزال إلى اليوم.

إنّ الإنسان الذي ينادى من العرش ، وبني آدم الذين وضع على رؤوسهم تاج (كرّمنا بني آدم) والبشر الذين هم وكلاء الله في الأرض بمقتضى قوله سبحانه :( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) والإنسان الذي كان معلّما للملائكة وسجدت له ، كم يجب أن يكون ظلوما جهولا لينسى كلّ هذه القيم السامية الرفيعة ، ويجعل نفسه أسيرة هذه الدنيا ، وتابعا لهذا التراب ، ويكون في مصاف الشياطين ، فينحدر إلى أسفل سافلين؟!

أجل إنّ قبول هذا الخطّ المنحرف ـ والذي كان ولا يزال له أتباع وسالكون كثيرون جدّا ـ خير دليل على كون الإنسان ظلوما جهولا ، ولذلك نرى أنّه حتّى آدم نفسه ، والذي كان رأس السلسلة ومتمتّعا بالعصمة ، يعترف بأنّه قد ظلم نفسه( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .(١)

لقد كان «ترك الأولى» الذي صدر منه ناشئا في الحقيقة عن نسيان جزء من عظمة هذه الأمانة الكبرى!

وعلى أي حال ، فيجب الاعتراف بأنّ الإنسان الضعيف والصغير في الظاهر ، هو اعجوبة علم الخلقة ، حيث استطاع أن يتحمّل أعباء الأمانة التي عجزت السماوات

__________________

(١) الأعراف ، ٢٣.

٣٧٢

والأرضون عن حملها إذا لم ينس مقامه ومنزلته(١) .

وتبيّن الآية التالية علّة عرض هذه الأمانة على الإنسان ، وبيان حقيقة أنّ أفراد البشر قد انقسموا بعد حمل هذه الأمانة إلى ثلاث فئات : المنافقين والمشركين والمؤمنين ، فتقول :( لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

يوجد هناك احتمالان في معنى «اللام» في( لِيُعَذِّبَ ) :

الأوّل : أنّها «لام الغاية» التي تذكر لبيان عاقبة الشيء ونهايته ، وبناء على هذا يكون معنى الآية : كانت عاقبة حمل هذه الأمانة أن سلك جماعة طريق النفاق ، وجماعة سبيل الشرك ، وهؤلاء سيبتلون بعذاب الله لخيانتهم أمانته ، وجماعة هم أهل الإيمان الذين ستشملهم رحمته لأدائهم هذه الأمانة والقيام بواجباتهم.

والثاني : أنّها «لام العلّة» ، فتكون هناك جملة مقدرة ، وعلى هذا يكون تفسير الآية : كان الهدف من عرض الأمانة أن يوضع كلّ البشر في بوتقة الاختبار ، ليظهر كلّ إنسان باطنه فيرى من الثواب والعقاب ما يستحقّه.

وهنا امور ينبغي الالتفات إليها :

١ ـ إنّ سبب تقديم أهل النفاق على المشركين هو أنّ المنافق يتظاهر بأنّه أمين في حين أنّه خائن ، إلّا أنّ خيانة المشرك ظاهرة مكشوفة ، ولذلك فإنّ المنافق يستحقّ حظّا أكبر من العذاب.

٢ ـ يمكن أن يكون سبب تقديم هاتين الفئتين على المؤمنين هو أنّ الآية

__________________

(١) اتّضح ممّا قلناه في تفسير الآية أن لا حاجة مطلقا إلى أن نقدر شيئا في الآية ، كما قال ذلك جمع من المفسّرين ، ففسّروا الآية بأنّ المراد من عرض أمانة الله على السماء والأرض والجبال هو عرضها على أهلها ، أي الملائكة! ولذلك قالوا بأنّ أولئك الذين أبوا أن يحملوها قد أدّوها ، وأولئك الذين حملوها خانوها. إنّ هذا التّفسير ليس مخالفا لظاهر الآية من ناحية الاحتياج إلى التقدير وحسب ، بل يمكن أن يناقش ويورد على اعتقاده بأنّ على الملائكة نوع تكليف ، وأنّها حاملة لجزء من هذه الأمانة. وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإنّ تفسير أهل الجبال بالملائكة لا يخلو من غرابة ، دقّقوا ذلك.

٣٧٣

السابقة قد ختمت بـ( ظَلُوماً جَهُولاً ) وهاتان الصفتان تناسبان المنافق والمشرك ، فالمنافق ظالم ، والمشرك جهول.

٣ ـ لقد وردت كلمة (الله) مرّة واحدة في شأن المنافقين والمشركين ، ومرّة في شأن المؤمنين ، وذلك لأنّ مصير الفئتين الاوّليين واحد ، وحساب المؤمنين يختلف عنهما.

٤ ـ يمكن أن يكون التعبير بالتوبة بدل الجزاء والثواب في شأن المؤمنين بسبب أنّ أكثر خوف المؤمنين من الذنوب والمعاصي التي تصدر عنهم أحيانا ، ولذا فإنّ الآية تطمئنهم وتمنحهم السكينة بأنّ ذنوبهم ستغفر.

أو لأنّ توبة الله على عباده تعني رجوعه عليهم بالرحمة ، ونعلم أنّ كلّ الهبات والعطايا والمكافآت قد أخفيت في كلمة «الرحمة».

٥ ـ إنّ وصف الله بالغفور والرحيم ربّما كان في مقابل الظلوم والجهول. أو لمناسبته ذكر التوبة بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات.

الآن وقد بلغنا نهاية سورة الأحزاب بفضل الله سبحانه ، نرى لزاما ذكر هذه المسألة ، وهي : أنّ انسجام بداية هذه السورة مع نهايتها يستحقّ الدقّة والانتباه ، لأنّ هذه السورة ـ سورة الأحزاب ـ قد بدأت بخطاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بتقوى الله ، ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين ، والتأكيد على كون الله عليما حكيما ، وانتهت بذكر أعظم مسألة في حياة البشر ، أي حمل أمانة الله. ثمّ بتقسيم البشر إلى ثلاث فئات : المنافقين ، والكافرين ، والمؤمنين ، والتأكيد على كون الله غفورا رحيما.

وبين هذين البحثين طرحت بحوثا كثيرة حول هذه الفئات الثلاثة ، وأسلوب تعاملهم مع هذه الأمانة الإلهية ، وكلّ هذه البحوث يكمل بعضها بعضا ، ويوضّح بعضها بعضا.

اللهمّ اجعلنا ممّن قبلوا أمانتك بإخلاص ، وحملوها بعشق ولذّة ، وقاموا

٣٧٤

بواجباتهم تجاهها.

اللهمّ اجعلنا من المؤمنين الذين وسعتهم رحمتك ، لا من المنافقين والمشركين الذين استحقّوا العذاب لكونهم ظلومين جهولين.

اللهمّ انزل غضبك وسخطك على أحزاب الكفر التي اتّحدت مرّة اخرى ، واحتّلت مدينة الإسلام في عصرنا الحاضر ، واهدم قصورهم على رؤوسهم. اللهمّ وهب لنا من الثبات والاستقامة ما نقف به كالجبل لندافع عن مدينة الإسلام ونحرسها في هذه اللحظات الحسّاسة.

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة الأحزاب

٣٧٥
٣٧٦

سورة

سبأ

مكيّة

وعدد آياتها أربع وخمسون آية

٣٧٧
٣٧٨

«سورة سبأ»

محتوى سورة سبأ :

سمّيت السورة بهذا الاسم (سبأ) لذكرها قصّة قوم سبأ ، وهي من السور المكيّة ، التي تشتمل عادة على بحوث المعارف الإسلامية واصول الإعتقادات ، خصوصا «المبدأ» و «المعاد» و «النبوّة». فأغلب بحوثها تحوم حول تلكم الموضوعات ، لحاجة المسلمين لبلورة امور العقيدة في مكّة ، وإعدادهم للانتقال إلى فروع الدين ، وتشكيل الحكومة ، وتطبيق كافّة البرامج الإسلامية.

وبشكل إجمالي يمكن القول بأنّ محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع :

١ ـ «التوحيد» ، وبعض الآثار الدالّة عليه في عالم الوجود ، وبعض صفات الله المقدّسة كالوحدانية ، والربوبية ، والالوهية.

٢ ـ قضيّة المعاد التي نالت النصيب الأوفى من العرض في هذه السورة ، باستعراضها ضمن بحوث منوّعة ومن زوايا مختلفة.

٣ ـ نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والردّ على تخرصات أعدائه حوله ، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء.

٤ ـ التعرّض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة ، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال استعراض جانب من حياة النّبي سليمانعليه‌السلام وحياة قوم سبأ.

٥ ـ الدعوة إلى التفكّر والتأمّل والإيمان والعمل الصالح ، وبيان تأثير هذه

٣٧٩

العوامل في سعادة وموفقية البشر.

وعلى كلّ حال ، فانّها تشكّل برنامجا تربويا شاملا لتربية الباحثين عن الحقّ.

فضيلة هذه السورة :

يلاحظ في الروايات تعبيرات ملفتة حول أهميّة هذه السورة وأهميّة قراءتها. من جملتها ما ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ الحمدين جميعا ، سبأ وفاطر ، في ليلة لم يزل ليلته في حفظ الله تعالى وكلاءته ، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه ، واعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»(٢) .

ونذكّر ـ كما في بداية كلّ سورة ـ بأنّ من الطبيعي أنّ هذا الثواب العظيم لا يكون نصيب من يكتفي من قراءته بلقلقة اللسان وحسب ، بل يجب أن تكون القراءة مقدّمة للتفكير الذي يكون بدوره باعثا على العمل الصالح.

فإنّ من يقرأ هذه السورة مثلا ، سيعلم بأنّ الدمار الذي حلّ بقوم سبأ وجعل من مصرعهم عبرة للعالمين ، ومصيرهم مضربا للأمثال ، إنّما كان لكفرانهم النعم الإلهية الوافرة.

ومن يطّلع على ذلك فسيؤدّي شكر النعمة بطريقة عملية. والشاكر بنعمة الله سيكون في حفظه وأمانه تعالى.

وقد ذكرنا شرحا أوفى حول هذا الموضوع في أوّل تفسيرنا لسورة النور.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، بداية سورة سبأ ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٧٥.

(٢) المصدر السابق.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510