الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156603 / تحميل: 5920
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

(بعد) إمّا أن تعني (بعد) الزمانية ، أي لا نتّخذ زوجة بعد هذا الزمان ، أو أنّ المراد أنّك بعد أن خيّرت أزواجك بين البقاء معك والحياة حياة بسيطة في بيتك ، وبين فراقهنّ ، وقد رجّحن البقاء معك عن رغبة منهنّ ، فلا ينبغي أن تتزوّج بعدهنّ بامرأة اخرى.

وكذلك لا يمكنك أن تطلّق بعضهنّ وتختار مكانهنّ زوجات أخر. وبتعبير آخر : لا تزد في عددهنّ ، ولا تبدّل الموجود منهنّ.

* * *

مسائل مهمّة :

١ ـ فلسفة هذا الحكم :

إنّ هذا التحديد للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعتبر نقصا ، بل هو حكم له فلسفة دقيقة جدّا ، فطبقا للشواهد التي تستفاد من التأريخ ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان تحت ضغط شديد من قبل مختلف الأفراد والقبائل بأن يتزوّج بنساء أخر منهم ، وكلّ واحدة من القبائل المسلمة كانت تفتخر على قبائل العرب بأنّ النّبي قد صاهرهم وحتّى أنّ بعض النساء كنّ على استعداد أن يهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهر ـ كما مرّ ذلك ـ ويتزوّجنه بدون أيّ قيد أو شرط.

كانت هذه العلاقة الزوجية مع تلك القبائل والأقوام حلّا لمشاكل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومحقّقة لأهدافه الاجتماعية والسياسية ، غير أنّها إذا تجاوزت الحدّ ، فمن الطبيعي أن تخلق له المشاكل بنفسها ، وبما أنّ كلّ قبيلة كانت تأمل أن يتزوّج النّبي منها ، فلو أراد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحقّق آمال الجميع ، ويختار منهم أزواجا ، حتّى وإن كانت بمجرّد العقد ولا يدخل بها ، فإنّ ذلك سيوجد له مصاعب جمّة. ولذلك فإنّ الله الحكيم قد منع هذا الأمر ووقف دونه بإصدار قانون محكم ، فنهاه عن الزواج الجديد ، وعن تبديل أزواجه.

٣٢١

لقد كان هناك أفراد في هذا الوسط يتوسّلون للوصول إلى هدفهم بحجّة أنّ أغلب أزواجك أيامى ، ومن بينهنّ من لاحظ لها من الجمال ، فاللائق بك أن تتزوّج بامرأة ذات جمال ، ولذلك فإنّ القرآن أكّد على هذه المسألة بأنّه لا يحقّ لك أن تتزوّج النساء فيما بعد وإن أعجبك حسنهنّ وكنّ ذوات جمال.

إضافة إلى أنّ أداء الجميل ورعايته كان يوجب أن يسنّ الله تعالى مثل هذا القانون ، ويأمر به نبيّه لحفظ مقام أزواجه بعد أن أبدين وفاءهن ، ورجّحن الحياة البسيطة المعنوية مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أي شيء آخر.

وأمّا فيما يتعلّق بالجواري والمملوكات باليمين حيث أبيح الزواج منهنّ ، فإنّما هو من أجل أنّ مشكلة النّبي كانت من ناحية الحرائر ، ولذلك لم تكن هناك ضرورة تدعو إلى تحديد هذا الحكم في طرف الجواري ، مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستفد من هذا الاستثناء طبق الشواهد التأريخية.

هذا هو الشيء الذي يبدو من ظاهر الآية.

٢ ـ الروايات المخالفة :

اعتبرت جملة :( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ) في روايات عديدة ـ بعضها ضعيفة من ناحية السند ، وبعضها يستحقّ الملاحظة ـ إشارة إلى النساء اللواتي بيّن تحريمهم في الآيتين (٢٣ و٢٤) من سورة النساء ـ وهنّ الامّ والبنت والاخت والعمّة والخالة و.. ، وصرّح في ذيل بعض هذه الأخبار بأنّه : كيف يمكن أن تكون النساء حلال على الآخرين وحرام على النّبي؟ فلم تكن أيّة امرأة محرّمة عليه سوى ما حرّم على الجميع(١) .

طبعا ، يبدو بعيدا جدّا أن تكون الآية تشير إلى الآيات الواردة في سورة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

٣٢٢

النساء ، إلّا أنّ المشكلة هنا أنّ بعض الروايات قد صرّحت بأنّ المراد من( مِنْ بَعْدُ ) : بعد المحرّمات في آية سورة النساء.

بناء على هذا ، فإنّ الأفضل هو أن نغضّ النظر عن تفسير روايات الآحاد هذه ، أو كما يقال : ندع علم ذلك إلى أهله ، أي المعصومونعليهم‌السلام ، لأنّها لا تنسجم مع ظاهر الآية ، ونحن مكلّفون بظاهر الآية ، والأخبار المذكورة أخبار ظنيّة.

والمطلب الآخر هو أنّ جماعة كثيرة تعتقد بأنّ الآية مورد البحث قد حرّمت كلّ زواج جديد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ هذا الحكم قد نسخ فيما بعد ، واذن له بالزواج ، وإن كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتزوّج بعد ذلك. حتّى الآية( إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) والتي نزلت قبل الآية مورد البحث ، فإنّهم يعتبرونها ناسخة لهذه الآية. ويعتقدون بأنّ هذه الآية وإن كانت قد كتبت في القرآن بعد آية( إِنَّا أَحْلَلْنا ) إلّا أنّ الأخيرة قد نزلت قبلها! بل وينقل «الفاضل المقداد» في كنز العرفان بأنّ هذه هي الفتوى المشهورة بين الأصحاب(١) .

وهذا الرأي يتعارض مع الروايات أعلاه بوضوح ، وكذلك لا ينسجم مع ظاهر الآيات أيضا ، لأنّ ظاهر الآيات يوحي بأنّ آية( إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ) قد نزلت قبل الآية مورد البحث ، ومسألة النسخ تحتاج إلى دليل قطعي.

وعلى كلّ حال ، فليس لدينا شيء أكثر اطمئنانا ووضوحا من ظاهر الآية نفسها ، وطبقا لذلك فإنّ كلّ زواج جديد ، أو تبديل زوجات قد حرّم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول هذه الآية ، وكان لهذا الحكم مصالح ومنافع هامّة أشرنا إليها فيما سبق.

٣ ـ هل يمكن النظر إلى زوجة المستقبل قبل الزواج؟

اعتبر جمع من المفسّرين جملة( وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ ) دليلا على حكم معروف أشير إليه في الروايات الإسلامية أيضا ، وهو : أنّ من أراد من أن يتزوّج

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، صفحة ٢٤٤.

٣٢٣

بامرأة يستطيع النظر إليها من قبل نظرة تبيّن له هيكلها وأوصافها.

وحكمة هذا الحكم أن يختار الإنسان زوجته عن بصيرة تامّة ولا يندم ويأسف في المستقبل وهو ما يهدّد العلاقة الزوجية والكيان العائلي بالخطر ، كما ورد ذلك في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لأحد أصحابه حينما أراد أن يتزوّج : «انظر إليها ، فإنّه أجدر أن يدوم بينكما»(١) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال في جواب هذا السؤال : هل يستطيع الرجل أن يدقّق النظر إلى المرأة إذا أراد الزواج منها وينظر إلى وجهها وخلفها : «نعم ، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوّجها ، ينظر إلى وجهها وخلفها»(٢) .

والأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة ، وقد صرّح بعضها بأنّ هذه النظرة يجب أن لا تكون بدافع الشهوة وطلب اللذّة.

وواضح أيضا أنّ هذا الحكم خاصّ بالموارد التي يريد فيها الإنسان أن يتحقّق فعلا من المرأة التي يريد الزواج منها ، بحيث لو كانت الشروط مجتمعة فيها لتزوّجها ، أمّا الذي لم يصمّم على الزواج بعد ، بل يحتمله ، أو أنّه يريد مجرّد البحث ، فلا يجوز له النظر إلى النساء.

واحتمل البعض في هذه الآية أنّها إشارة إلى النظر للنساء صدفة ولا إراديا ، وعلى هذا فإنّ الآية لا تدلّ في هذه الحالة على الحكم المذكور آنفا ، وستكون الروايات هي الدليل الوحيد عليه. إلّا أنّ جملة :( وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ ) لا تنسجم مع نظرة الصدفة السريعة ، وبناء على هذا فإنّ دلالتها على الحكم المذكور تبدو بعيدة.

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، صفحة ٥٣٠٣.

(٢) وسائل الشيعة ، المجلّد ١٤ ، الباب ٣٦ من أبواب مقدّمات النكاح الحديث ٣.

٣٢٤

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآية : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا تزوّج «زينب بنت جحش» أولم للناس وليمة فخمة تقريبا. وقلنا سابقا : إنّ هذه الأحكام ربّما كانت من أجل تحطيم سنّة جاهلية في مجال تحريم مطلّقات الأدعياء بحزم تامّ ، وليكون لهذا التحطيم شعاع أوسع ، ولتمحى هذه السنّة الجاهلية التي كانت تعتبر

٣٢٥

الزواج بأيامى العبيد المحرّرين عيبا وعارا.

يقول «أنس» ، وكان خادما خاصّا للنبي : أمرني النّبي أن أدعو أصحابه للغداء فدعوتهم ، فكانوا يأتون جماعة يأكلون ويخرجون ، حتّى قلت : يا رسول الله ، لم يبق أحد لم أدعه ، فأمر برفع السماط ، فرفعوا السماط وتفرّق القوم ، إلّا ثلاثة نفر بقوا في بيت النّبي وكانوا مشغولين بالحديث.

فلمّا رأى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حديثهم قد طال ، نهض ونهضت معه لعلّ القوم يلتفتون ويذهبون إلى أعمالهم ، فخرج النّبي حتّى أتى حجرة عائشة ، ثمّ رجع مرّة اخرى وكنت معه ، فرأيت القوم على جلستهم وحالهم ، فنزلت الآية أعلاه وأفهمتهم كيفية التعامل مع هذه المسائل(١) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أيضا أنّ الجيران وسائر الناس كانوا يأتون إلى بعض نساء النّبي ويستعيرون أشياء حسب المتعارف والمعتاد ، وبالرغم من أنّهم لم يكونوا يرتكبون معصية وذنبا طبقا لبساطة الحياة آنذاك ، إلّا أنّ الآية أعلاه نزلت لحفظ حيثيّة زوجات النّبي وأمرت المؤمنين أنّهم إن أرادوا أن يأخذوا من نساء النّبي شيئا فليأخذوه من وراء حجاب.

وجاء في رواية اخرى أنّ بعض مخالفي النّبي قالوا : كيف تزوّج النّبي بعض نسائنا ، أما والله لئن مات لنتزوجنّ نساءه ، فنزلت الآية أعلاه وحرّمت الزواج بنساء النّبي من بعده مطلقا ، وأنهت هذه المؤامرة(٢) .

* * *

التّفسير

مرّة اخرى يوجّه الخطاب إلى المؤمنين ، لتبيّن الآية جانبا آخر من أحكام

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٦٦ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٦٦ و٣٦٨.

٣٢٦

الإسلام ضمن جمل قصيرة بليغة وصريحة ، وخاصّة ما كان مرتبطا بآداب معاشرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبيت النبوّة ، فتقول أوّلا : لا ينبغي لكم دخول بيوت النّبي إلّا إذا دعيتم إلى طعام واذن لكم بالدخول بشرط أن تدخلوا في الوقت المقرّر ، لا أن تأتوا قبل ذلك بفترة وتجلسون في انتظار وقت الغذاء( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ) (١) .

بهذا تبيّن الآية أحد آداب المعاشرة المهمّة ، والتي كانت قلّما تراعى في تلك البيئة ، ومع أنّ الكلام يدور حول بيت النّبي إلّا أنّ من المسلّم أنّ هذا الحكم لا يختصّ به ، إذ ينبغي أن لا تدخل دار أي إنسان بدون إذنه (كما جاء ذلك في الآية ٢٧ من سورة النور) بل نقرأ في أحوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه عند ما كان يريد دخول بيت ابنته فاطمة (سلام الله عليها) ، كان يقف خارجا ويستأذن. وكان معه «جابر بن عبد الله» يوما ، فاستأذن له بعد أن استأذن لنفسه(٢) .

إضافة إلى أنّهم إذا دعوا إلى طعام فينبغي أن يكونوا عارفين بالوقت ، لئلّا يوقعوا صاحب البيت في جهد وإحراج في غير مكانه.

ثمّ تناولت الحكم الثّاني فقالت :( وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ) .

وهذا الحكم مكمّل ومؤكّد للحكم السابق في الواقع ، فلا تدخلوا البيت الذي دعيتم إليه في غير زمان الدعوة ، وفي وقت غير مناسب ، ولا تهملوا إجابة الدعوة أو أن لا تعبؤوا بها ، ولا تتأخّروا بعد تناول الطعام مدّة طويلة.

من البديهي أنّ مخالفة هذه الأمور وعدم اتّباعها سيؤدّي إلى أذى واشمئزاز المضيف ، وهي لا تلائم الأصول الأخلاقية.

وتقول في الحكم الثالث :( وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ) فلا تجلسوا حلقا تتحدّثون

__________________

(١) «إناه» من مادّة «أنّى يأني» أي حلول وقت الشيء ، وتعني هنا تهيئة الطعام للتناول.

(٢) الكافي ، المجلّد ٥ ، ص ٥٢٨.

٣٢٧

بعد تناول الطعام ، سواء كان ذلك في بيت النّبي ، أم في بيت أي صاحب دعوة.

طبعا ، قد يرغب المضيفون في مثل هذه الحلقات والمجالس ، فهذه الحالة مستثناة ، إنّما الكلام في ما لو كانت الدعوة لتناول الطعام فقط ، لا لتشكيل مجالس الانس ، حيث تجب مغادرته بعد تناول الطعام ، خاصّة إذا كان البيت كبيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مقرّ أداء أكبر رسالات الله وأعظمها ، فيجب أن لا يهدر وقته بأمور جانبية تعوقه مدّة عن تأدية رسالته.

ثمّ تبيّن الآية علّة هذا الحكم فتقول :( إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ ) .

من المسلّم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يتردّد لحظة ، ولا يخشى شيئا ، أو يستحيي من شيء في بيان الحقّ في الموارد التي لم يكن لها بعد شخصي وخاصّ ، إلّا أنّ بيان الحقّ إذا كان يعود على القائل نفسه ليس بالأمر الجميل الحسن ، أمّا تبيانه من قبل الآخرين فانّه رائع ومستحسن ، ومورد الآية من هذا القبيل أيضا ، فإنّ اصول الأخلاق والأدب كانت توجب على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يدافع عن نفسه ، بل يدافع الله سبحانه عنه.

ثمّ تبيّن الآية الحكم الرابع في باب الحجاب ، فتقول :( وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) .

قلنا : إنّ هذا الأمر كان ولا يزال متعارفا بين العرب وكثير من الناس أنّهم إذا احتاجوا شيئا من لوازم الحياة ووسائلها فإنّهم يستعيرونها من جيرانهم مؤقتا ، ولم يكن بيت النّبي مستثنى من هذا القانون ، بل كانوا يأتون إليه سواء كان الوقت مناسبا أم غير مناسب ، ويستعيرون من نساء النّبي شيئا ، ومن الواضح أن جعل نساء النّبي عرضة لأنظار الناس ـ وإن كن يرتدين الحجاب الإسلامي ـ لم يكن بالأمر الحسن ، ولذلك صدر الأمر إلى الناس أن يأخذوا الأشياء من خلف حجاب أو من خلف الباب.

٣٢٨

والمسألة التي ينبغي الانتباه إليها هنا هي أنّه ليس المراد من الحجاب في هذه الآية لباس النساء ، بل هو حكم يضاف إلى ما كان خاصّا بنساء النّبي ، وهو : أنّ الناس مكلّفون إذا أرادوا شيئا من نساء النّبي أن يأخذوه من وراء حجاب لظروف نساء النّبي الخاصّة ، ويجب عليهنّ أن لا يخرجن إلى الناس ويظهرن لهم في مثل هذه الموارد حتّى وإن كن محجّبات ، وهذا الحكم لم يرد طبعا في شأن النساء الاخريات ، بل يكفيهنّ أن يراعين الحجاب الإسلامي.

والشاهد على ذلك أنّ كلمة «الحجاب» ، وإن كانت تستعمل في المحادثات اليومية بمعنى حجاب المرأة ، إلّا أنّها ليس لها مثل هذا المعنى لا في كتب اللغة ، ولا في تعبيرات فقهائنا.

«الحجاب» في اللغة هو الشيء الذي يحول بين شيئين(١) ، ولذلك اطلق على الغشاء الموجود بين الأمعاء والقلب والرئة اسم «الحجاب الحاجز».

وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة بمعنى الحائل أو الساتر في عدّة مواضع ، كالآية (٤٥) من سورة الإسراء حيث تقول :( جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) .

ونقرأ في الآية (٣٢) من سورة ص :( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) .

وجاء في الآية (٥١) من سورة الشورى :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) .

أمّا في كلمات الفقهاء فقد استعملت كلمة «الستر» فيما يتعلّق بلباس النساء منذ قديم الأيّام وإلى يومنا هذا ، وورد أيضا في الرّوايات الإسلامية هذا التعبير أو ما يشبهه ، واستعمال كلمة «الحجاب» في شأن لباس المرأة اصطلاح ظهر في عصرنا على الأكثر ، وإذا وجد في التواريخ والرّوايات فقليل جدّا.

__________________

(١) لسان العرب مادّة حجب.

٣٢٩

والشاهد الآخر هو ما نقرؤه في الحديث المروي عن «أنس بن مالك» خادم النّبي الخاص ، حيث يقول : أنا أعلم الناس بهذه الآية ـ آية الحجاب ـ لمّا أهديت زينب إلى رّسول الله كانت معه في البيت ـ صنع طعاما ، ودعا القوم فقعدوا يتحدّثون ، فجعل النّبي يخرج ثمّ يرجع وهم قعود يتحدّثون ، فأنزل الله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ ) ـ إلى قوله ـ( مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) فضرب الحجاب وقام القوم(١) .

وفي رواية اخرى عن «أنس» أنّه قال : أرخى الستر بيني وبينه ، فلمّا رأى القوم ذلك تفرّقوا(٢) .

بناء على هذا فإنّ الإسلام لم يأمر النساء المسلمات بأن يجلسن خلف الستور ، ولا يبرحن دورهن ، وليس لكلمة «المستورات» أو «المحجّبات» وأمثال ذلك من التعبيرات صفة إسلامية أو بعد إسلامي بالنسبة للنساء ، بل إنّ ما يلزم المرأة المسلمة هو محافظتها على الحجاب الإسلامي ، إلّا أنّ نساء النّبي قد أمرن بهذا الأمر الخاص بسبب وجود أعداء كثيرين ، ومتتبعين للعيوب والمغرضين ، وكان من الممكن أن يصبحن عرضة للتهم ، وحربة تقع بيد الانتهازيين.

وبتعبير آخر : إنّ الناس قد أمروا أن يسألوا نساء النّبي ما يبتغونه من وراء حجاب. خاصّة وأنّ التعبير بـ «وراء» يشهد لهذا المعنى.

ولذلك بيّن القرآن فلسفة هذا الحكم فقال :( ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ ) .

وبالرغم من أنّ مثل هذا التعليل لا ينافي الحكم الاستحبابي ، إلّا أنّ ظهور الأمر في جملة( فَسْئَلُوهُنَ ) لا يتزلزل في دلالته على الوجوب ، لأنّ مثل هذا التعليل قد ورد أحيانا في موارد أحكام واجبة اخرى.

ثمّ تبيّن الآية الحكم الخامس بأنّه( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ) فبالرغم

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٦ ، ص ١٤٩.

(٢) المصدر السابق.

٣٣٠

من أنّ هذا العمل قد ذكر في نفس الآية ، وهو الذهاب إلى بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت غير مناسب ، والجلوس بعد تناول الطعام ، فقد ورد في روايات سبب النّزول أنّ بعض المنافقين كانوا قد أقسموا على أن يتزوّجوا نساء النّبي من بعده ، وقد آلم ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولكن معنى الآية عام على كلّ حال ، فهو يشمل كلّ نوع من الأذى.

وأخيرا تبيّن الآية الحكم السادس والأخير في مجال حرمة الزواج بنساء النّبي من بعده ، فقالت :( وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً ) .

وهنا يأتي سؤال ، وهو : كيف حرّم الله نساء النّبي من اتّخاذ زوج لهنّ بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد كان بعضهنّ شابات تقريبا؟

وجواب هذا السؤال يتّضح بملاحظة الغاية من هذا التحريم ، وذلك لأنّه :

أوّلا : كما علمنا من سبب النّزول ، فإنّ البعض صمّم على هذا العمل كانتقام من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإهانة لقدسيته ، وكانوا يريدون أن ينزلوا ضربة بكيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذا الطريق.

ثانيا : لو كانت هذه المسألة جائزة ، فإنّ جماعة كانوا سيتّخذون زوجان النّبي أزواجا لهم من بعده ، وكان من الممكن أن يستغلّوا هذا الزواج لتحقيق مآربهم والوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة. أو أنّهم يبدؤون بتحريف الإسلام على أساس أنّهم يمتلكون معلومات خاصّة صادرة من داخل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل البيت أدرى بالذي فيه ، أو أن يبثّ المنافقون بين الناس مطالب عن هذا الطريق تخالف مقام النبوّة ـ تأمّلوا ذلك ـ.

ونلمس ذلك بصورة أوضح عند ما نعلم أنّ جماعة هيؤوا أنفسهم للقيام بهذا العمل ، وصرّح بذلك بعضهم ، وكتمه البعض الآخر في قلبه. وكان من جملة من

٣٣١

ذكره بعض مفسّري العامّة هنا هو «طلحة»(١) .

إنّ الله المطّلع على الأسرار الخفيّة والمعلنة ، والخبير بها ، قد أصدر حكما قاطعا لإحباط هذه الخطّة الخبيثة ، وليمنع من وقوع هذه الأمور ، ولتحكيم دعائم هذا الحكم فقد أطلق لقب (امّهات المؤمنين) على أزواج النّبي ليعلم أولئك بأنّ الزواج منهنّ كالزواج من امّهاتهم! وبملاحظة ما قيل يتّضح لماذا وجب على نساء النّبي أن يتقبّلن هذا الحرمان بكلّ رحابة صدر؟

قد تطرح أحيانا مسائل مهمّة على مدى حياة الإنسان ، يجب أن يظهر تجاهها التضحية والإيثار ، وأن يغضّ النظر عن بعض الحقوق التي ثبتت له ، خاصّة وأنّ الافتخارات العظيمة تصاحبها مسئوليات خطيرة ، ولا شكّ أنّ أزواج النّبي قد اكتسبن فخرا لا يضاهي وعزّا لا يسامى بزواجهنّ من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واكتساب هذا الفخر يحتاج إلى مثل هذه التضحية.

لهذا السبب كانت نساء النّبي يعشن من بعده بكلّ احترام وتقدير بين الامّة الإسلامية ، وكن راضيات جدّا عن حالهنّ ، ويعتبرن ذلك الحرمان مقابل هذه الافتخارات أمرا تافها.

وحذّرت الآية الثّانية الناس بشدّة ، فقالت :( إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) فلا تظنّوا أنّ الله سبحانه لا يعلم ما خططتم له في سبيل إيذاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سواء ما ذكر تموه ، أو الذي أضمر تموه ، فإنّه تعالى يعلم كلّ ذلك جيدا ، ويعامل كلّ إنسان بما يناسب عمله.

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، صفحة ٥٣١٠.

٣٣٢

بحوث

مناسبة للبحث الذي ورد في الآيات المذكورة في شأن واجبات المسلمين عند ما يدعون إلى ضيافة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نورد جانبا من تعليمات الإسلام فيما يتعلّق بأصل مسألة «الضيافة» ، وحقّ الضيف ، وواجبات المضيف :

١ ـ الضيافة :

لقد أولى الإسلام مسألة الضيافة أهميّة خاصّة ، حتّى أنّه ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الضيف دليل الجنّة»(١) .

إنّ أهميّة الضيف ووجوب احترامه وتقديره ، بلغ حدّا اعتبر فيه هدية سماوية ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إذا أراد الله بقوم خيرا أهدى إليهم هدية ، قالوا : وما تلك الهدية؟ قال : الضيف ينزل برزقه ، ويرتحل بذنوب أهل البيت»(٢) .

والطريف أنّ رجلا حضر عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : فداك أبي وامّي ، إنّي أسبغ الوضوء ، وأقيم الصلاة ، وأؤتي الزكاة في حينها ، وارحّب بالضيف واقريه في الله ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «بخ بخ بخ! ما لجهنّم عليك سبيل! إنّ الله قد برأك من الشحّ إن كنت كذلك».

الكلام في هذا الباب كثير ، ونكتفي بهذا القدر رعاية للاختصار.

٢ ـ مراعاة البساطة في الضيافة :

مع كلّ الأهمية التي يتمتّع بها الضيف ، فإنّ الضيافة إذا اتّسمت بالتكلّف فإنّها غير راجحة من وجهة نظر الإسلام ، بل ونهى عنها ، فإنّ الإسلام يوصي بأن تكون الضيافة بسيطة ، وجعل معيارا عادلا بين الضيف والمضيف ، وهو : أن لا يبخل

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٦٠ باب ٩٣ حديث ١٤.

(٢) المصدر السابق.

٣٣٣

المضيف بما عنده ويحضره ، وأن لا يتوقّع الضيف أكثر من ذلك!

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «المؤمن لا يحتشم من أخيه ، وما أدري أيّهما أعجب؟! الذي يكلّف أخاه إذا دخل عليه أن يتكلّف له ، أو المتكلّف لأخيه؟»(١) .

ويروي سلمان الفارسي عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أن لا نتكلّف للضيف ما ليس عندنا ، وأن نقدّم إليه ما حضرنا»(٢) .

٣ ـ حقّ الضيف :

قلنا : إنّ الضيف كالهدية السماوية من وجهة نظر الإسلام ، ويجب أن يرحّب به ويكرم غاية الإكرام ، ويحترم أقصى ما يمكن ، حتّى أنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام يروي عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من حقّ الضيف أن تمشي معه فتخرجه من حريمك إلى البر»(٣) .

ويجب تهيئة مستلزمات راحته إلى الحدّ الذي لا يبلغ التكلّف ، حتّى أنّه ورد في حديث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ من حقّ الضيف أن يعد له الخلال»(٤) .

وقد يكون الضيوف خجولين أحيانا ، ولذلك فقد صدر أمر بعدم سؤالهم عمّا إذا كانوا قد تناولوا الطعام أم لا ، بل يمدّ لهم السماط فإن شاءوا وأكلوا ، كمايقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «لا تقل لأخيك إذا دخل عليك أكلت اليوم شيئا؟ ولكن قرّب إليه ما عندك ، فإنّ الجواد كلّ الجواد من بذل ما عنده»(٥) .

ومن جملة واجبات المضيف أمام الله سبحانه أن لا يحقّر الطعام الذي أعدّه ، لأنّ نعمة الله سبحانه عزيزة ومحترمة مهما كانت ، إلّا أنّ المتعارف بين المترفين

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥٣.

(٢) المحجّة البيضاء ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٩ الباب الثالث.

(٣) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥١.

(٤) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥٥.

(٥) المصدر السابق.

٣٣٤

وأهل التكلّف أنّهم مهما نوّعوا السماط وملؤوه بأنواع الأطعمة فإنّهم يقولون : هذا شيء بسيط لا يليق بمقامكم!

وفي المقابل يجب أن لا يحتقر الضيف ما قدّم إليه ، ففي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «هلك امرؤ احتقر لأخيه ما يحضره ، وهلك امرؤ احتقر من أخيه ما قدّم إليه»(١) .

إنّ الإسلام دقيق النظرة في إكرام الضيف ، فهو يقول : استقبل الضيف وأعنه عند ما يدخل إلى بيتك ، أمّا إذا أراد الخروج فلا تعنه لئلّا يتصوّر بأنّك راغب في خروجه(٢) .

٤ ـ واجبات الضيف :

إنّ المسؤوليات تكون متقابلة دائما ، فكما أنّ على المضيف واجبات تجاه الضيف ، فكذلك توجد على الضيف واجبات ينبغي أن يراعيها.

فعلاوة على ما ذكر في الأحاديث السابقة ، فإنّ على الضيف أن ينفّذ ما يطلبه منه صاحب البيت ويقترحه عليه في شأن منزله ، فإذا طلب منه أن يجلس في مكان ما مثلا فليفعل ، فإنّ الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «إذا دخل أحدكم على أخيه في رحله فليقعد حيث يأمر صاحب الرحل ، فإنّ صاحب الرحل أعرف بعورة بيته من الداخل عليه»(٣) .

وملخّص الكلام أنّ مسألة الضيافة وآدابها قد خصّص لها بحث واسع في آداب المعاشرة الإسلامية ، وليراجع لمزيد الإيضاح في هذا الباب «بحار الأنوار» ، الأبواب ٨٨ ـ ٩٤ من أبواب العشرة ، المجلّد ١٧ و «المحجّة البيضاء» ، المجلّد ٣

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، المجلّد ٣ ، صفحة ٣٠.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥٥ حديث ٢٧.

(٣) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥١.

٣٣٥

الباب الرابع فضيلة الضيافة.

إلّا أنّ هذه السنّة الإنسانية القديمة قد تقلّصت وللأسف الشديد في عصرنا الحاضر عصر غلبة المادية وطغيانها في العالم ، وهيمنتها عليه ، بل إنّها قد اجتّثت تقريبا في بعض المجتمعات الغربية ، وقد سمعنا أنّ بعض أولئك عند ما يأتون إلى البلاد الإسلامية ويرون انتشار مسألة الضيافة التي لا زالت قائمة في البيوتات الأصيلة ، ومدى العواطف التي تكتنفها ، فإنّهم يتعجّبون كيف يمكن أن يقدّم الناس أفضل الوسائل الموجودة في البيت ، وأنفس الأطعمة وألذّها للضيوف الذين ربّما تربطهم بهم رابطة ضعيفة أحيانا ، وربّما كانوا قد تعارفوا في سفرة قصيرة؟!

إلّا أنّ ملاحظة الأحاديث الإسلامية ـ التي ورد قسم منها قبل قليل ـ تبيّن سبب هذه التضحية والإيثار ، وتوضّح الحسابات المعنوية في هذا المجال تلك الحسابات التي لا تعني شيئا لدى عبّاد المادّة والغارقين في بحرها.

* * *

٣٣٦

الآية

( لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) )

سبب النّزول

يروي بعض المفسّرين أنّ آباء نساء النّبي وأبناءهنّ وعوائلهنّ سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول آية الحجاب ـ الآية السابقة ـ : يا رسول الله ، ونحن أيضا نحدّثهنّ من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية بأنّها لا تشملكم.

التّفسير

الموارد المستثناة من قانون الحجاب :

لمّا كان الحكم الذي ورد في الآية السابقة حول حجاب نساء النّبي مطلقا ، ويمكن أن يوهم هذا الإطلاق بأنّ المحارم مكلّفون بتنفيذه أيضا ، وأن يحدّثوهنّ من وراء حجاب كالأجانب ، فقد نزلت هذه الآية وفصلت حكم هذه المسألة.

تقول الآية :( لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ

٣٣٧

إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ ) . وبتعبير آخر : فإنّ محارمهنّ الذين استثنوا في الآية هم هؤلاء الستّة فقط ، وإذا قيل : إنّ هناك أفرادا من المحارم أيضا لم يجر لهم ذكر في الآية كالأعمام والأخوال ، فيجاب على هذا السؤال بأنّه :

لمّا كان القرآن يراعي الفصاحة والبلاغة في أجلى صورها وأسماها ، وأحد اصول الفصاحة هو أن لا تكون في الكلام أي كلمة زائدة ، فقد امتنع عن ذكر الأعمام والأخوال هنا ، وذلك لأنّه حينما ذكر أولاد الأخ وأولاد الاخت ، فسوف يتّضح حكم الأعمام والأخوال من المحارم ، لأنّ لهذه المحرمية جانبان ، فكما أنّ ابن الأخ محرم بالنسبة إلى المرأة ، فإنّها ستكون محرما أيضا بالنسبة إلى ابن أخيها ـ ونحن نعلم أنّ مثل هذه المرأة تعتبر «عمّة» ـ ولأنّ ابن الاخت كما هو محرم عليها فإنّها ستكون محرما بالنسبة إلى ابن الاخت ، ونعلم أنّ مثل هذه المرأة هي «الخالة».

وعند ما تكون العمّة والخالة محرما بالنسبة إلى ابن الأخ وابن الاخت ، فإنّ العمّ والخال سيكونان أيضا محرما بالنسبة إلى ابنة الأخ وابنة الاخت ، حيث لا فرق بين العمّ والعمّة ، والخال والخالة ، وهذه إحدى دقائق القرآن الكريم. (تدبّر ذلك).

وهنا يطرح سؤال آخر ، وهو : إنّ أبا الزوج وابن الزوج بعض محارم المرأة ، فلما ذا لم يذكرا هنا؟ في حين أنّهما ذكرا من جملة المحارم في الآية (٣١) من سورة النور.

والإجابة عن هذا السؤال واضحة ، لأنّ الكلام في هذه الآية منحصر في حكم نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن نعلم أنّ أبا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن موجودا حال حياته ، ولا امّه ، ولم يكن له ابن(١) . «فتأمّل».

__________________

(١) ذكر المؤرخّون ثلاثة أولاد للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : القاسم وعبد الله (الملقّب بالطيّب والطاهر) ، وكانا من خديجة ، وقد ودّعا

٣٣٨

إنّ عدم ذكر الإخوة والأخوات من الرضاعة ، وأمثالهم بسبب أنّ هؤلاء في حكم الأخ والاخت وسائر المحارم ، ولا يحتاجون إلى ذكر مستقل.

ويتغيّر أسلوب الآية في نهايتها من الغائب إلى المخاطب ، فتخاطب نساء النّبي وتقول:( وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ) فإنّ الحجاب والستر وأمثالهما وسائل للحفظ والإبعاد عن الذنب والمعصية ليس إلّا ، والدعامة الأساسية هي التقوى فحسب ، ولولاها فسوف لا تنفع كلّ هذه الوسائل.

والجدير بالذكر أنّ( نِسائِهِنَ ) إشارة إلى النساء المسلمات ، وذلك لأنّ من غير اللائق بالنساء المسلمات ـ وكما قلنا في تفسير سورة النور ـ أن يكنّ بدون حجاب أمام غير المسلمات ، إذ أنّ من الممكن أن تصفهنّ غير المسلمات لأزواجهنّ(١) .

وأمّا جملة :( وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ ) فلها معنى واسع ـ كما قلنا ذلك في تفسير سورة النور أيضا ـ يشمل الجواري والغلمان ، إلّا أنّها تختّص بالجواري طبقا لبعض الرّوايات الإسلامية ، وبناء على هذا فإن ذكرهنّ بعد ذكر «النساء» قد يكون من جهة شمولها للجواري غير المسلمات عموما. (دقّقوا ذلك).

* * *

__________________

الحياة في طفولتهما ، وإبراهيم الذي ولد في السنة الثامنة للهجرة ، ولم يعش أكثر من ١٨ أو ١٦ شهرا ولم يكن أي منهم حيّا عند نزول سورة الأحزاب ، وإبراهيم ولد بعد ذلك ومات في طفولته. يراجع : اسد الغابة ، وسائر كتب التأريخ والرجال.

(١) يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (٣١) من سورة النور.

٣٣٩

الآيات

( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) )

التّفسير (١)

الصلاة على النّبي والسلام عليه :

بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب حفظ حرمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم إيذائه ، فإنّ هذه الآيات تتحدّث أوّلا عن محبّة الله وملائكته للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتعظيمهم له ، وبعد ذلك تأمر المؤمنين بذلك ، ثمّ تذكر العواقب المشؤومة الأليمة لأولئك الذين يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ تبيّن أخيرا عظم ذنب الذين يؤذون المؤمنين باتّهامهم والافتراء عليهم.

__________________

(١) الطريف أنّ البدء بهذه الآيات صادف ليلة ميلاد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في شهر ربيع الأوّل سنة الف وأربعمائة وأربع للهجرة.

٣٤٠

تقول أوّلا :( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ) .

إنّ مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنزلته من العظمة بمكان ، بحيث أنّ خالق عالم الوجود ، وكلّ الملائكة الموكّلين بتدبير أمر هذا العالم بأمر الله سبحانه يصلّون عليه ، وإذا كان الأمر كذلك فضمّوا أصواتكم إلى نداء عالم الوجود هذا ، فـ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) .

إنّه جوهرة نفيسة لعالم الخلقة ، وقد جعل بينكم بلطف الله ، فلا تستصغروا قدره ، ولا تنسوا مقامه ومنزلته عند الله وملائكة السماوات إنّه إنسان ظهر من بينكم ، لكنّه ليس إنسانا عاديا ، بل هو إنسان يتلخّص عالم الوجود في وجوده.

وهنا امور يجب الالتفات إليها :

١ ـ (الصلاة) وجمعها «صلوات» ، كلّما نسبت إلى الله سبحانه فإنّها تعني «إرسال الرحمة» ، وكلّما نسبت إلى الملائكة فإنّها تعني «طلب الرحمة»(١) .

٢ ـ إنّ التعبير بـ (يصلّون) وهو فعل مضارع يدلّ على الاستمرار ، يعني أنّ الله وملائكته يصلّون عليه دائما وباستمرار صلاة دائمة خالدة.

٣ ـ اختلف المفسّرون في الفرق بين (صلّوا) و (سلّموا) والذي يبدو أنسب للأصل اللغوي للكلمتين ، وأوفق لظاهر الآية القرآنية ، هو : أن (صلّوا) أمر بطلب الرحمة والصلاة على النّبي ، أمّا (سلّموا) فتعني التسليم لأوامر نبي الإسلام الأكرم ، كما ورد في الآية (٦٥) من سورة النساء( ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) .

وكما نقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ أبا بصير سأله فقال : قد عرفت صلاتنا على النّبي ، فكيف التسليم؟ قال : «هو التسليم له في الأمور»(٢) .

أو أن يكون بمعنى «السلام» على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (السلام عليك يا رسول الله) وما

__________________

(١) أورد الراغب هذا المعنى بعبارات اخرى في المفردات.

(٢) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

٣٤١

أشبه ذلك ، والذي يعني طلب سلامة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الله سبحانه.

يروي «أبو حمزة الثمالي» عن «كعب» ـ وهو أحد أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية قلنا : قد عرفنا السلام عليك ، فكيف نصلّي عليك؟ فقال : «قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد»(١) . ومن هذا الحديث تتّضح كيفية الصلاة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك يتّضح معنى «السلام».

وبالرغم من أنّ هذين المعنيين للسلام يبدوان مختلفين تماما ، إلّا أنّه يمكن عطفهما وإرجاعهما إلى نقطة واحدة إذا دقّقنا فيهما ، وهي : التسليم القولي والفعلي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ من يسلّم عليه ويرجو من الله سلامته ، يعشقه ويعرفه كنبي مفترض الطاعة.

٤ ـ ممّا يلفت النظر أنّه قد ورد صريحا في كيفية الصلاة على النّبي وفي روايات لا تحصى من طرق العامّة وأهل البيت ، أن يضاف (آل محمّد) عند الصلوات على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقد روي في «الدرّ المنثور» عن صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه ورواه آخرين عن كعب بن عجرة : أنّ رجلا أتى إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أمّا السلام عليك فقد علمناه ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «قل اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد. اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد».

وقد أورد صاحب تفسير الدرّ المنثور ثمانية عشر حديثا آخر إضافة إلى هذا

__________________

(١) المصدر السابق. وروي الحديث الثّاني في كتب الفريقين بطرق متعدّدة ، وبعبارات قريبة الألفاظ.

٣٤٢

الحديث ، صرّحت جميعا بوجوب ذكر «آل محمّد» عند الصلوات.

وقد رويت هذه الأحاديث عن كتب أهل السنّة المعروفة المشهورة عن جماعة من الصحابة منهم : ابن عبّاس ، وطلحة ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، وأبو مسعود الأنصاري ، وبريدة ، وابن مسعود ، وكعب بن عجرة ، وأمير المؤمنين عليعليه‌السلام (١) .

وقد رويت في صحيح البخاري (وهو أشهر مصادر الحديث عند أهل السنّة) روايات عديدة في هذا الباب يستطيع من يريد مزيد الإيضاح أن يرجع إليه(٢) .

وكذلك وردت في صحيح مسلم روايتان في هذا الباب(٣) .

والعجيب في هذا الكتاب أنّه بالرغم من ورود (آل محمّد) عدّة مرّات في هذين الحديثين ، فإنّه اختار هذا العنوان لهذا الباب : (باب الصلاة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ) بدون ذكر «الآل»!!

وثمّة مسألة تستحقّ الانتباه وهي : أنّ في بعض روايات أهل السنّة ، وفي كثير من روايات أهل البيت لم ترد حتّى كلمة (على) لتفرّق بين محمّد وآل محمّد ، بل كيفية الصلاة هي : اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.

وننهي هذا البحث بحديث آخر عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ «ابن حجر» يروي في الصواعق : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء؟ قال : تقولون : اللهمّ صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللهمّ صلّ على على محمّد وآل محمّد»(٤) .

ولهذه الرّوايات فقد اعتبر جمع من كبار فقهاء العامّة إضافة (آل محمّد) إلى

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث ، طبقا لتفسير الميزان ، ج ١٦ ، صفحة ٣٤٤.

(٢) صحيح البخاري ، المجلّد ٦ ، صفحة ١٥١.

(٣) صحيح مسلم ، المجلّد ١ ، صفحة ٣٠٥ باب الصلاة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٤) الصواعق المحرقة ، صفحة ١٤٤.

٣٤٣

اسم «محمّد» في تشهد الصلاة واجبا(١) .

٥ ـ هل أنّ الصلاة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واجبة أم لا؟ وإذا كانت واجبة فأين تجب؟

يقول الفقهاء في الإجابة عن هذا السؤال : إنّ جميع فقهاء أهل البيت يعتبرونها واجبة في التشهّد الأوّل والثّاني من الصلاة ، ومستحبة في غيرهما.

وعلاوة على الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام في هذا الباب ، فإنّ الروايات الواردة في كتب أهل السنّة ، والدالّة على الوجوب ، ليست بالقليلة ، ومن جملتها ما ورد عن عائشة أنّها قالت : سمعت رسول الله يقول : «لا يقبل صلاة إلّا بطهور وبالصلاة عليّ».

ويعتبر «الشافعي» ـ وهو من فقهاء العامّة ـ الصلاة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واجبة في التشهّد الثاني ، و «أحمد» في إحدى الروايتين المرويتين عنه ، وجمع آخر من الفقهاء ، غير أنّ «أبا حنيفة» لا يعتبرها واجبة.

والطريف أنّ «الشافعي» قد نظّم فتواه هذه شعرا وذكرها بصراحة حيث يقول :

يا أهل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له(٢)

ثمّ تبيّن الآية التالية النقطة المقابلة للآية السابقة ، فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) .

ماذا يراد من أذى الله سبحانه؟

قال البعض : إنّ المراد منه هو الكفر والإلحاد الذي يغضب اللهعزوجل ، لأنّ «الأذى» لا يعني في شأن الله تعالى إلّا إغضابه.

__________________

(١) أورد العلّامة الحلّي هذا القول في بحث التشهّد من التذكرة ـ إضافة إلى كلّ علماء الشيعة ـ عن الإمام أحمد وبعض الشافعية.

(٢) ذكر العلّامة الأميني في كتاب «الغدير» النفيس نسبة هذه الأشعار إلى الشافعي عن شرح المواهب للزرقاني وجماعة آخرين.

٣٤٤

ويحتمل أيضا أن يكون إيذاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين هو إيذاء الله تعالى ، وذكر الله في الآية لأهمية المطلب وتأكيده.

وأمّا إيذاء نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله فله معنى واسع ، ويشمل كلّ عمل يؤذيه ، سواء كان الكفر والإلحاد ومخالفة أوامر الله والافتراءات والتّهم ، أم الأذى الذي يراه حين يدعوهم إلى بيته ، كما مرّ في الآية (٥٣) من هذه السورة( إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ ) .

أو الموضوع الذي ورد في الآية (٦١) من سورة التوبة عند ما اتّهموا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه «اذن» نتيجة إصغائه لكلام الناس ورعايته لأدب المحادثة( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) وأمثال ذلك.

بل ويستفاد من الرواية الواردة في ذيل الآية أنّ إيذاء أهل بيت النّبي وخاصّة علي وفاطمةعليهما‌السلام ، يدخل ضمن الآية ، وقد جاء في المجلّد الخامس من صحيح البخاري ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني»(١) .

وورد هذا الحديث في «صحيح مسلم» بهذه العبارة : «إنّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها»(٢) .

وروي هذا المعنى في حقّ عليّعليه‌السلام عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) .

وأمّا «اللعن» الوارد في الآية أعلاه ، فإنّه بمعنى الطرد عن رحمة الله ، وهو في مقابل الرحمة والصلوات التي وردت في الآية السابقة تماما.

إنّ اللعن والطرد عن رحمة الله سبحانه تلك الرحمة الواسعة التي لا تعرف الحدود ، يعدّ أسوأ أنواع العذاب ، خاصّة إذا كان هذا الطرد في الدنيا والآخرة كما هو في الآية مورد البحث ، ولعلّ ذكر مسألة اللعن قبل العذاب المهين لهذا السبب.

__________________

(١) صحيح البخاري ، الجزء ٥ ، صفحة ٢٦.

(٢) صحيح مسلم ، المجلّد ٤ ، صفحة ١٩٠٣ باب فضائل فاطمة.

(٣) تفسير مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

٣٤٥

والتعبير بـ (أعدّ) دليل على تأكيد هذا العذاب وشدّته.

وتتحدّث الآية الأخيرة عن إيذاء المؤمنين ، وتهتمّ به جدّا بعد إيذاء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقول :( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) لأنّ للمؤمن علاقة بالله ورسوله عن طريق الإيمان ، ولهذا جعل في مرتبة الله ورسوله هنا.

وتعبير( بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ) إشارة إلى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا ذنبا حتّى يؤذوا. ومن هنا يتّضح أنّهم إن بدر منهم ذنب يستوجب الحدّ والقصاص فلا مانع من إجرائه وتنفيذه في حقّهم ، وكذلك لا يشمل هذا الكلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إنّ تقديم «البهتان» على «الإثم المبين» لأهميّته ، لأنّ البهتان يعتبر من أكبر الذنوب ، والجراحات التي تنجم عنه أشدّ ألما من جراحات السنان ، كما قال الشاعر العربي:

جراحات السنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

وقد أولت الرّوايات الإسلامية هذه المسألة اهتماما فائقا ، ففي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ اللهعزوجل يقول : «ليأذن بحرب منّي من آذى عبدي المؤمن»(١) .

وقال بعض المفسّرين : يستفاد من أسلوب الآية أنّ جماعة في المدينة كانوا يطلقون الشائعات ويثيرون الشبهات حول المؤمنين ، ويتّهمونهم بما ليس فيهم ، وحتّى نبي الله لم يكن بمنأى عن ألسن أولئك المؤذين. وهذه الفئة ليست قليلة في المجتمعات الاخرى ، وخاصّة في مجتمعات اليوم ، وليس لها عمل إلّا التآمر ضدّ الصالحين والمحسنين ، واختلاق الأكاذيب والتّهم.

__________________

(١) أصول الكافي ، المجلّد ٢ ، صفحة ٣٥.

٣٤٦

لقد هاجم القرآن الكريم هؤلاء الأشخاص أشدّ هجوم ، ووصفت أعمالهم بالبهتان والإثم المبين. والشاهد لهذا الكلام سيأتي في الآيات التالية.

وجاء في حديث آخر يرويه الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من بهت مؤمنا أو مؤمنة ، أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتّى يخرج ممّا قاله فيه»(١) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ١٩٤.

٣٤٧

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) )

سبب النّزول

جاء في تفسير «علي بن إبراهيم» في سبب نزول الآية الاولى : فإنّه كان سبب نزولها أنّ النساء كن يخرجن إلى المسجد ويصلّين خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإذا كان بالليل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة ، يقعد الشبّان لهنّ في طريقهنّ فيؤذونهن ويتعرّضون لهنّ فأنزل الله :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ ) ـ إلى قوله ـ( ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً

٣٤٨

رَحِيماً ) (١) .

وجاء في نفس الكتاب في شأن نزول الآية الثانية ، أنّها نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج في بعض غزواته يقولون قتل وأسر فيغتمّ المسلمون لذلك ويشكون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله في ذلك :( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ) ـ إلى قوله ـ( ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً ) (٢) فبذلك هدّدت مختلقي الشايعات بشدّة.

التّفسير

تحذير شديد للمؤذين ومختلقي الإشاعات!

بعد النهي عن إيذاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الذي ورد في الآية السابقة ، أكّدت الآية هنا على أحد موارد الأذى ، ومن أجل الوقوف أمامه سلكت طريقين : فأمرت المؤمنات أوّلا أن لا يدعن في يد المفسدين والعابثين حجّة يتشبّثون بها في سبيل تحقيق أذاهم ، ثمّ هاجمت المنافقين ومختلقي الإشاعات وهدّدتهم بتهديد قلّ نظيره في آيات القرآن.

فتقول الآية في الجزء الأوّل :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) .

هناك رأيان لدى المفسّرين في المراد من «المعرفة» لا يتناقضان :

الأوّل : أنّه كان من المتعارف ذلك اليوم أن تخرج الجواري من المنازل مكشوفات الرأس والرقبة ، ولمّا لم يكن مقبولات من الناحية الأخلاقية ، فقد كان بعض الشباب المتهوّر يضايقوهنّ ، فأمرت المسلمات الحرائر أن يلتزمن الحجاب التامّ ليتميّزن عن الجواري ، وبالتالي لا يقدر أن يؤذيهنّ أولئك الشباب.

__________________

(١) تفسير القمّي ج ٢ ص ١٩٦.

(٢) المصدر السابق طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٠٧.

٣٤٩

ومن البديهي أنّ هذا الكلام لا يعني أنّه كان لأولئك الطائشين حقّ أذى الجواري ، بل المراد سلب الحجّة من الأفراد الفاسدين.

والآخر : أنّ الهدف هو أن لا تتساهل المسلمات في أمر الحجاب كبعض النساء المتحلّلات والمتبرجات المسلوبات الحياء رغم التظاهر بالحجاب ، هذا التبرّج يغري السفلة والأراذل ويلفت انتباههم.

أمّا المراد من «الجلباب» فقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة عدّة معان له :

١ ـ أنّه «الملحفة» ، وهي قماش أطول من الخمار يغطّي الرأس والرقبة والصدر.

٢ ـ أنّه المقنعة والخمار.

٣ ـ أنّه القميص الفضفاض الواسع(١) .

ومع أنّ هذه المعاني تختلف عن بعضها ، إلّا أنّ العامل المشترك فيها أنّها تستر البدن.

وتجدر الإشارة إلى أنّ «الجلباب» يقرأ بكسر الجيم وفتحها.

إلّا أنّ الأظهر أنّ المراد هو الحجاب الذي يكون أكبر من الخمار وأقصر من العباءة ، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب.

والمراد من (يدنين) أن يقربن الجلباب إلى أبدانهن ليكون أستر لهنّ ، لا أن يدعنه كيف ما كان بحيث يقع من هنا وهناك فينكشف البدن ، وبتعبير أبسط أن يلاحظن ثيابهنّ ويحافظن على حجابهنّ.

أمّا ما استفاده البعض من أنّ الآية تدلّ على وجوب ستر الوجه أيضا ، فلا دليل عليه ، والنادر من المفسّرين من اعتبر ستر الوجه داخلا في الآية(٢) .

وعلى كلّ حال ، فيستفاد من هذه الآية أنّ حكم الحجاب بالنسبة للحرائر كان

__________________

(١) لسان العرب ، مجمع البحرين ، مفردات الراغب القطر المحيط ، وتاج العروس.

(٢) كان لنا بحث حول فلسفة الحجاب وأهميّته ، وكذلك حول استثناء الوجه والكفّين في ذيل الآيتين ٣١ و٣٢ من سورة النور.

٣٥٠

قد نزل من قبل ، إلّا أنّ بعض النسوة كنّ يتساهلن في تطبيقه ، فنزلت الآية المذكورة للتأكيد على الدقّة في التطبيق.

ولمّا كان نزول هذا الحكم قد أقلق بعض المؤمنات ممّا كان منهن قبل ذلك ، فقد أضافت الآية في نهايتها( وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) فكلّ ما بدر منكنّ إلى الآن كان نتيجة الجهل فإنّ الله سيغفره لكنّ ، فتبن إلى الله وارجعن إليه ، ونفذن واجب العفّة والحجاب جيدا.

بعد الأمر الذي صدر في الآية السابقة للمؤمنات ، تناولت هذه الآية بعدا آخر لهذه المسألة ، أي أساليب الأراذل والأوباش في مجال الإيذاء ، فقالت :( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً ) (١) .

(المرجفون) من مادّة «إرجاف» ، وهي إشاعة الأباطيل بقصد إيذاء الآخرين وإحزانهم ، وأصل الإرجاف : الاضطراب والتزلزل ، ولمّا كانت الإشاعات الباطلة تحدث اضطرابا عامّا ، فقد أطلقت هذه الكلمة عليها.

و (نغرينّك) من مادّة «الإغراء» ، ويعني الدعوة إلى تنفيذ عمل ، أو تعلّم شيء ، دعوة تقترن بالترغيب والتحريض.

ويستفاد من سياق الآية أنّ ثلاث فئات في المدينة كانت مشتغلة بأعمال التخريب والهدم ، وكلّ منها كان يحقّق أهدافه بأسلوب خاصّ ، فظهر ذلك كتيار ومخطّط جماعي ، ولم تكن له صبغة فردية :

فالفئة الاولى : هم «المنافقون» الذين كانوا يسعون لاقتلاع جذور الإسلام عبر مؤامرتهم ضدّه.

والثّانية : هم «الأراذل» الذين يعبّر عنه القرآن :( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) كما

__________________

(١) (قليلا) هنا مستثنى من محذوف ، والتقدير : لا يجاورونك زمانا إلّا زمانا قليلا.

٣٥١

أنّ هذا التعبير قد ورد في الآية (٣٢) من سورة الأحزاب في شأن من يتّبع أهواءه وشهواته( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) .

والفئة الثالثة : هم الذين كانوا يبثّون الإشاعات في المدينة ، وخاصّة عند ما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين يتّجهون إلى الغزوات ، لإضعاف معنوياتهم ، وكانوا ينشرون الأخبار الكاذبة عن هزيمة النّبي والمؤمنين ، وهؤلاء هم «اليهود» برأي بعض المفسّرين.

وبهذا فإنّ القرآن الكريم هدّد هذه الفئات الثلاثة جميعا.

ويحتمل في تفسير الآية أيضا ، أنّ كلّ أعمال التخريب للفئات الثلاثة كانت من عمل المنافقين ، وفصلها عن بعضها هو فصل الصفات لا الأشخاص.

ومهما كان ، فإنّ القرآن يقول : إنّ هؤلاء إن استمروا في أعمالهم القبيحة المشينة فسنصدر أمرا بالهجوم العام عليهم ، لنقتلع جذورهم من المدينة بحركة المؤمنين الشعبية ، ولا يقدرون على البقاء في المدينة بعد ذلك.

وعند ما يطردون من هذه المدينة ، ويخرجون عن حماية الحكومة الإسلامية ، فإنّهم سيكونون( مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ) .

«ثقفوا» من مادّة «ثقف» و «ثقافة» ، وهي : السيطرة على الشيء بدقّة ومهارة ، ولهذا يقال للعلم وتحصيله والإحاطة به «ثقافة». وهذا التعبير إشارة إلى أنّهم سوف لا يجدون مكانا آمنا بعد هذا الهجوم ، بل سيبحث عنهم المؤمنون بدقّة حتّى يجدوهم ويرسلوهم إلى ديار الفناء.

وهناك احتمالان في المراد من الآية : فامّا أنّه سيطاردون المنافقين ويتعقّبونهم خارج المدينة ويقتلونهم ، أو أنّهم إذا بقوا في المدينة بعد حكم الإبعاد العام سيلاقون هذا المصير ، ولا منافاة بينهما ، إذ أنّ المعنى هو أنّ هؤلاء المنافقين والمخرّبين والمرجفين ومرضى القلوب سوف لا يكونون بمأمن من سطوة المسلمين الشجعان بعد أن هدرت دماؤهم ، وسحبت الحماية عنهم ، وصدر الحكم

٣٥٢

بإخراجهم من المدينة ، سواء بقوا فيها أم خرجوا.

ثمّ تضيف الآية الأخيرة من هذه الآيات أنّ هذا الأمر ليس جديدا ، بل( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) فكلّما زادت صلافة المفسدين وتجاوزت مؤامراتهم الحدود ، يصدر الأمر بالهجوم عليهم.

ولمّا كان هذا الحكم سنّة إلهيّة ، فإنّه سوف لا يتغيّر ولا يتبدّل أبدا ، حيث أنّ سنّة الله ثابتة( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ) .

إنّ هذا التعبير يجسّد كون هذا التهديد حقيقيا وجديا ، ليعلموا أنّ هذا المطلب والمصير حتمي ، وله جذوره ونظائره في التأريخ ، ولا سبيل إلى تغييره وتبديله ، فإمّا أن ينتهوا عن أعمالهم المخزية ، أو أن ينتظروا هذا المصير المؤلم.

* * *

تعليقات

١ ـ ابدأ بنفسك!

الأمر الذي ورد في الآيات مورد البحث حول وجوب رعاية الحجاب الإسلامي بدقّة ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبلغ هذا الأمر ، أوّل ما بدأ بنساء النّبي ، ثمّ بناته ، ثمّ المؤمنات ، وهو إشارة إلى أنّك يجب أن تبدأ بنفسك وأهل بيتك في أيّ برنامج إصلاحي ، وهذا خطّ لكلّ مصلحي البشر.

وبدأ بالزوجات عند ما دار الأمر بين الزوجات والبنات ، وذلك لأنّهنّ أقرب إلى الرجل ، لأنّ البنات يتزوجنّ وينتقلن إلى بيوت الأزواج.

٢ ـ العلاج من طريقين :

لمّا كانت المفاسد الاجتماعية لا تنبعث من علّة واحدة غالبا ، فلذلك يجب أن تبدأ مكافحتها من جميع الجوانب. والطريف في الأمر أنّ الآيات المذكورة ، ومن

٣٥٣

أجل الوقوف أمام مضايقات الطائشين قد أمرت المؤمنات أوّلا أن لا يتركن ذريعة بيد الطائشين ، ثمّ أوقفتهم عند حدّهم بتهديدهم أشدّ تهديد.

وهذا أيضا برنامج دائمي للجميع ، بأنّ الصديق لا بدّ من إصلاحه ، ويوقف العدوّ عند حدّه بالقوّة.

٣ ـ موقع المسلمين القوي :

يستفاد جيّدا من تهديدات الآيات القويّة والشديدة أنّه بعد انتهاء حادثة «بني قريظة» ، واجتثاث جذور هذه الفئة من الأعداء الداخليين الخطرين ، فإنّ موقع المسلمين قد قوي في المدينة تماما ، ولم تكن المخالفات تأتي إلّا من جانب المنافقين المندسّين بين صفوف المسلمين ، أو من جانب جماعة من الأوباش والمتهوّرين ومطلقي الإشاعات ، فتعامل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم من موقع القوّة ، وحذّرهم بشدّة بأنّهم إن لم يكفوا عن مؤامراتهم ونفثهم للسموم ، فإنّه سيقوم بتصفية الحساب معهم بهجوم واحد ويقضي عليهم!

وقد أثّر هذا التعامل الحازم والدقيق أثره بوضوح تامّ.

٤ ـ اجتثاث جذور الفساد :

هل أنّ ما ورد في الآيات أعلاه عن اقتلاع جذور المفاسد كمؤامرات المنافقين ، وملاحقة أعراض المسلمين وأذاهم ، وإطلاق الإشاعات يصلح علاجا في سائر الأعصار والقرون ، ولكلّ الحكومات الإسلامية؟

قليل من المفسّرين من بحث ذلك ، إلّا أنّه يبدو أنّ هذا الحكم كسائر الأحكام الإسلامية لا يختّص بزمان أو مكان أو أشخاص.

إذا كان نفث السموم والتآمر قد تجاوز الحدّ على أرض الواقع ، وأصبح كتيار جارف يهدّد المجتمع الإسلامي بأخطار حقيقية ، فما المانع من أن تنفذ الحكومة

٣٥٤

الإسلامية أوامر الآيات أعلاه ، والتي أنزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنحته هذه الصلاحية ، وتعبئ الناس للقضاء على جذور الفساد؟

إلّا أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الأعمال وأمثالها ، خاصّة وأنّها مطروحة كسنّة لا تقبل التغيير ، لا يسمح بها كتصرّف شخصي ، وتمسّك برأي خاصّ ، بل تجوز فقط بعد إذن ولي أمر المسلمين وحكّام الشرع بها.

٥ ـ سنن الله الثابتة :

قرأنا في الآيات السابقة أنّ القرآن ذكر أنّ إحدى سنن الله التي لا تقبل التغيير هي اقتلاع جذور التآمر بهجوم عامّ ، وقد كانت هذه السنّة جارية في الأمم السابقة.

وقد ورد نظير هذا التعبير في مواضع اخرى من القرآن ، ومن جملتها ما ورد في الآية (٣٨) من سورة الأحزاب هذه ، فبعد أن أجاز سبحانه مخالفة سنّة جاهلية خاطئة وإلغاءها في مسألة مطلقة الابن بالادّعاة ، يقول : ليس للنبي أيّ ذنب إذا ما نفّذ أوامر الله مهما كانت.

ثمّ يضيف تعالى :( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) .

وفي الآية (٤٣) من سورة فاطر ، وبعد أن هدّد الكافرين والمجرمين بالفناء والهلاك ، يقول سبحانه :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً ) .

وفي الآية (٨٥) من سورة غافر ، وبعد أن صرّح بأنّ إيمان الكفّار العنودين من الأقوام الماضين عند مشاهدتهم عذاب الاستئصال لم ينفعهم شيئا ، يضيف :( سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) .

وفي الآية (٢٣) من سورة الفتح ، وبعد أن ذكر انتصار المؤمنين وهزيمة الكفّار في الحروب ، وأن ليس لهم ولي ولا نصير ، يضيف :( سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ

٣٥٥

وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ) .

وكذلك في الآية (٧٧) من سورة الإسراء عند ما يبيّن مؤامرة إبعاد النّبي أو قتله ، يضيف :( وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً ) .

يستفاد من مجموع هذه الآيات جيّدا أنّ المراد من السنّة في مثل هذه الموارد : القوانين الإلهيّة الثابتة والأساسية ، سواء التكوينية منها أم التشريعية ، التي لا تتغيّر مطلقا.

وبتعبير آخر : فإنّ لله سبحانه في عالم التكوين والتشريع قوانين وأصولا ثابتة ، كالقوانين الأساسية والدساتير المسنونة بين شعوب العالم والتي لا تتبدّل ، ولا تكون عرضة للتغيير ، وهذه القوانين الإلهية كانت حاكمة على الأقوام الماضين ، وتحكّمنا اليوم ، وستكون حاكمة في المستقبل على الأجيال الآتية.

إنّ نصرة النّبي ، وهزيمة الكفّار ، ووجوب تنفيذ أوامر الله والعمل بموجبها ، حتّى وإن أدّت إلى إثارة سخط الناس وعدم رضاهم ، عدم جدوى التوبة حين نزول العذاب الإلهي ، وأمثال ذلك هي جزء من هذه السنن الخالدة.

إنّ هذه التعبيرات تسلّي خواطر كلّ السائرين في طريق الحقّ ، وتمنحهم الهدوء والطمأنينة من جهة ، وتوضّح من جهة اخرى وحدة دعوة الأنبياء وانسجامها ، وتناسق القوانين الحاكمة على نظام الخلقة ونظام الحياة الإنسانية واتّحادها ، وهي في الحقيقة فرع من فروع التوحيد.

* * *

٣٥٦

الآيات

( يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) )

التّفسير

يسألون أيّان يوم القيامة؟!

كانت الآيات السابقة تتحدّث عن مؤامرات المنافقين والأشرار ، وقد أشير في هذه الآيات التي نبحثها إلى واحدة اخرى من خططهم الهدّامة ، وأعمالهم المخرّبة ، حيث كانوا يطرحون أحيانا هذا السؤال : متى تقوم القيامة التي يخبر بها محمّد ويذكر لها كلّ هذه الصفات؟ وذلك إمّا استهزاء ، أو لزرع الشكّ فيها في قلوب

٣٥٧

البسطاء ، فتقول الآية :( يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ) .

ويحتمل أيضا أن يكون بعض المؤمنين قد سأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا السؤال بدافع من حبّ الاستطلاع ، أو للحصول على معلومات أكثر حول هذا الموضوع.

غير أنّ ملاحظة الآيات التي تلي هذه الآية ترجّح التّفسير الأوّل ، والشاهد الآخر لهذا الكلام ما ورد في الآيتين ١٧ ـ ١٨ / سورة الشورى في هذا الباب ، حيث تقولان :( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ) .

ثمّ تقول الآية ـ مورد البحث ـ في مقام جوابهم :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ ) ولا يعلمها حتّى المرسلون والملائكة المقرّبون.

ثمّ تضيف بعد ذلك :( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ) .

وبناء على هذا يجب أن نكون مستعدّين دائما لقيام القيامة ، وهذه هي الحكمة من كونها خافية مجهولة لئلّا يظنّ أحد أنّه في مأمن منها ، ويتصوّر أنّ القيامة بعيدة فعلا ، ويعتبر نفسه في معزل عن عذاب الله وعقابه.

ثمّ تطرّقت الآية إلى تهديد الكافرين ، وتناولت جانبا من عقابهم الأليم ، فقالت :( إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

الفرق بين «الولي» و «النصير» هنا هو : أنّ «الولي» من يتولّى القيام بكلّ الأعمال وتنفيذها ، أمّا «النصير» فهو الذي يعين على الوصول إلى الهدف المطلوب. إلّا أنّ هؤلاء الكافرين لا وليّ لهم في القيامة ولا نصير.

ثمّ بيّنت جزءا آخر من عذابهم الأليم في القيامة فقالت :( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) وهذا التقليب إمّا أن يكون في لون البشرة والوجه حيث تصبح حمراء أو سوداء أحيانا ، أو من جهة تقلّبهم في النار ولهيبها حيث تكون وجوههم في مواجهة النار أحيانا ، وأحيانا جوانب اخرى (نعوذ بالله من ذلك).

٣٥٨

هنا ستنطلق صرخات حسرتهم ، و( يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ) فإنّا لو كنّا أطعناهما لم يكن ينتظرنا مثل هذا المصير الأسود الأليم.

( وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (١) .

(السادة) جمع «سيّد» ، وهو المالك العظيم الذي يتولّى إدارة المدن المهمّة أو الدول ، و «الكبراء» جمع «كبير» وهو الفرد الكبير سواء من ناحية السنّ ، أو العلم ، أو المركز الاجتماعي وأمثال ذلك. وبهذا فإنّ السادة إشارة إلى رؤساء البلاد العظام ، والكبراء هم الذين يتولّون إدارة الأمور تحت إشراف أولئك السادة ، ويعتبرون معاونين ومشاورين لهم ، وكأنّهم يقولون : إنّنا قد جعلنا طاعة السادة محل طاعة الله ، وطاعة الكبراء مكان طاعة الأنبياء ، فابتلينا بأنواع الانحرافات والتعاسة والشقاء.

من البديهي أنّ معيار السيادة وكون الشخص كبيرا بين أولئك الأقوام هو القوّة والسيطرة ، والمال والثروة الغير مشروعة ، والمكر والخداع. وربّما كان إختيار هذين التعبيرين هنا من أجل أنّهم يحاولون توجيه عذرهم ويقولون : لقد كنّا تحت تأثير العظمة الظاهرية لأولئك.

هنا تثور ثائرة هؤلاء الجهنميين الضالّين ، ويطلبون من الله سبحانه أن يزيد في عذاب مضلّيهم وعقابهم أشدّ عقاب فيقولون :( رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) ـ عذاب لإضلالهم ـ.

من المسلّم أنّ هؤلاء يستحقّون العذاب واللعن ، واستحقاقهم للعذاب المضاعف واللعن الكبير بسبب سعيهم في سبيل إضلال الآخرين ، ودفعهم إلى طريق الانحراف.

والطريف ما ورد في الآية ٣٨ من سورة الأعراف ، من أنّ هؤلاء المتّبعين

__________________

(١) إنّ الألف في «الرسولا» و «السبيلا» هي ألف الإطلاق ، ولتناسق آخر الآيات ، وإلّا فإنّ التنوين لا يجتمع مع الألف واللام مطلقا.

٣٥٩

الضالّين عند ما يطلبون عذاب الضعف لسادتهم وأئمّتهم ، يقال :( لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) .

إنّ كون عذاب أئمّة الكفر والضلال مضاعفا واضح ، لكن لما ذا يكون عذاب من اتّبعهم مضاعفا؟

إنّ سبب ذلك هو أنّهم استحقّوا عذابا لضلالتهم ، والعذاب الآخر لمعونة الظالمين ومؤازرتهم ، لأنّ الظالمين لا يقدرون على أن يستمرّوا في عمل ما لوحدهم مهما كانت لهم من قوّة ، إلّا أنّ أتباعهم هم الذين يؤجّجون نار حروبهم ، ويسجرون أتون ظلمهم وكفرهم ، وإن كان عذاب أئمّة الكفر ـ إذا ما قورن بعذاب المتّبعين ـ أشدّ وآلم بدون شكّ.

وقد كان لنا بحث مفصّل في هذا الباب في الآية (٣٠) من هذه السورة.

* * *

__________________

(١) ممّا يستحقّ الانتباه أنّه قد ورد «الضعفان» في الآيات مورد البحث ، و «الضعف» في آية سورة الأعراف ، إلّا أنّه بالتدقيق في معنى الضعف يتّضح أنّ لكليهما معنى واحدا.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510