الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل15%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156584 / تحميل: 5919
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الآيتان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) )

التّفسير

هو المالك لكلّ شيء والعالم بكلّ شيء :

خمس سور من القرآن الكريم افتتحت «بحمد الله» ، وارتبط (الحمد) في ثلاثة منها بخلق السموات والأرض وهي (سبأ وفاطر والأنعام) بينما كان مقترنا في سورة الكهف بنزول القرآن على قلب الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجاء في سورة الفاتحة تعبيرا جامعا شاملا لكلّ هذه الاعتبارات( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) . على كلّ حال ، الحمد والشكر لله تعالى في مطلع سورة سبأ هو في قبال مالكيته وحاكميته تعالى في الدنيا والآخرة.

يقول تعالى :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي

٣٨١

الْآخِرَةِ ) .

لذا فإنّ الحاكمية والمالكية في الدنيا والآخرة له سبحانه ، وكلّ موهبة ، وكلّ نعمة ، ومنفعة وبركة ، وكلّ خلقة سوية عجيبة مذهلة ، تتعلّق به تعالى ، ولذا فإنّ «الحمد» الذي حقيقته «الثناء على فعل اختياري حسن» كلّه يعود إليه تعالى ، وإذا كانت بعض المخلوقات تستحقّ الحمد والثناء ، فلأنّها شعاع من وجودهعزوجل ولأنّ أفعالها وصفاتها قبس من أفعاله وصفاته تعالى. وعليه فكلّ مدح وثناء يصدر من أحد على شيء في هذا العالم ، فإنّ مرجعه في النهاية إلى الله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف تعالى قائلا :( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) .

فقد اقتضت حكمته البالغة أن يخضع الكون لهذا النظام العجيب ، وأن يستقرّ ـ بعلمه وإحاطته ـ كلّ شيء في محلّه من الكون ، فيجد كلّ مخلوق ـ كلّ ما يحتاج إليه ـ في متناوله.

وقد تحدّث المفسّرون كثيرا في هذه الآية عن المقصود من الحمد والشكر في الآخرة

فذهب بعضهم : إنّ الآخرة وإن لم تكن دار تكليف ، إلّا أنّ عبّاد الرحمن الذين تسامت أرواحهم بعشق بارئهم هناك ، يشكرونه ويحمدونه وينتشون بلذّة خاصّة من ذلك.

وقال آخرون : إنّ أهل الجنّة يحمدونه على فضله ، وأهل النار يحمدونه على عدله.

وقيل : إنّ الإنسان ـ نتيجة وجود الحجب المختلفة على قلبه وعقله في الدنيا ـ لا يمكنه أن يحمد الله حمدا خالصا ، وعند ما ترتفع هذه الحجب يوم القيامة تتّضح مالكيته تعالى وهيمنته على عالم الوجود للجميع مصداقا لقوله تعالى( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) وحينها تلهج الألسن بحمده والثناء عليه بكامل خلوص النيّة.

٣٨٢

وكذلك فإنّ الإنسان قد يغفل في هذه الدنيا فيحمد بعض المخلوقات ، متوهما استقلالها ، إلّا أنّه في الآخرة ، وحيث يتّضح ارتباط الكلّ به تعالى كارتباط أشعّة الشمس بقرصها ، فإنّ الإنسان لن يؤدّي الحمد والثناء إلّا لله سبحانه.

فضلا عن كلّ هذا ، فقد ورد مرارا في القرآن الكريم ـ أيضا ـ أنّ أصحاب الجنّة يحمدون الله حين دخولهم جنّات الخلد :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) .(١) ( وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .(٢)

على كلّ حال فإنّ هذا الحمد والثناء لا ينطلق من ألسنة الناس والملائكة فقط ، بل تسمع همهمة الحمد والتسبيح من كلّ ذرّة في عالم الوجود بإدراك العقل ، فليس من موجود إلّا ويحمده ويسبّحه تعالى.

تنتقل الآية التي بعدها إلى التوسّع في إظهار جانب من علم الله اللامحدود ، تناسبا مع وصف الآية السابقة له تعالى بالحكيم والخبير ، فيقول سبحانه :( يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ) .

نعم ، فقد أحاط علما بكلّ حبّة مطر وقطرة ماء تنفذ وتلج في أعماق الأرض حتّى إذا وصلت طبقة صلدة تجمّعت هناك وصارت ذخيرة للإنسان.

ويعلم بالبذور التي تنتقل على سطح الأرض بواسطة الريح أو الحشرات ، لتنبت في مكان ما وتصبح شجرة باسقة أو عشبا طريّا.

يعلم بجذور الأشجار عند توغلها في أعماق التربة بحثا عن الماء والغذاء.

يعلم بالموجات الكهربائية والغازات المختلفة ، بذرّات الهواء التي تنفذ في الأرض ، يعلم بالكائنات الحيّة التي تشقّ طريقها فيها ، ويعطيها الحياة.

وكذلك ، يعلم بالكنوز والدفائن وأجساد الموتى من الإنسان وغيره نعم إنّه

__________________

(١) فاطر ، ٣٤.

(٢) يونس ، ١٠

٣٨٣

مطّلع على كلّ هذا.

وكذلك فهو عارف وعالم بالنباتات التي تخرج من الأرض ، والناس الذين يبعثون منها ، بالعيون التي تفور بالماء منها ، بالغازات التي تتصاعد منها ، بالبراكين التي تلوّح بجحيمها ، بالحشرات التي تتّخذ أو كارا فيها ، وتخرج منها.

والخلاصة ، فهو عالم بكلّ الموجودات التي تلج الأرض وتخرج منها أعمّ ممّا نعلمه أو ما لا نعلمه.

ثمّ يضيف قائلا :( وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها ) .

فهو يعلم بحبّات المطر ، وبأشعّة الشمس التي تنثر الحياة ، بأمواج الوحي والشرائع السماوية العظيمة ، وبالملائكة التي تهبط إلى الأرض لإبلاغ الرسالات أو أداء الأوامر الإلهيّة المختلفة. بالأشعة الكونية التي تدخل جو الأرض من الفضاء الخارجي ، بالشهب والذرّات المضطربة في الفضاء والتي تهوي نحو الأرض ، فهو تعالى محيط بهذا كلّه.

وكذلك فإنّه يعلم بأعمال العباد التي تعرج إلى السماء ، والملائكة التي تقفل صاعدة إلى السماء بعد أداء تكاليفها ، وبالشياطين الذين يرتقون إلى السماء لاستراق السمع ، وبفروع الأشجار التي تتطلّع برؤوسها إلى السماء ، وبالأبخرة التي تتصاعد من البحار إلى أعالي السماء لتتكاثف مكونة سحبا. وبالآهات التي تنطلق من قلب المظلوم متصاعدة إلى السماء نعم هو عالم بكلّ ذلك.

فهل هناك من مطّلع على كلّ ذلك غيره تعالى؟ وهل يمكن لعلوم جميع العلماء مجتمعة أن تحيط ولو بجزء من هذه المعلومات؟

وفي ختام الآية يضيف تعالى :( وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) .

لقد وصف الله تعالى نفسه بهاتين الصفتين إمّا لأجل أنّه من جملة الأمور التي تعرج إلى السماء أعمال العباد وأرواحهم فيشملها برحمته

أو لأنّ نزول البركات والعطايا السماوية تترشّح من رحمته ، والأعمال

٣٨٤

الصالحة المتصاعدة من العباد مشمولة بغفرانه بمقتضى( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

أو لكون «الرحمة» تشمل من يشكر هذه النعم ، و «الغفران» يشمل المقصّرين في ذلك.

والخلاصة : أنّ الآية أعلاه ، لها معان واسعة من جميع الوجوه ، ولا يجب حصر مؤدّاها في معنى واحد.

* * *

٣٨٥

الآيات

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) )

التّفسير

أقسم بالله لتأتينكم القيامة :

تتعرّض الآيات مورد البحث إلى موضع التوحيد وصفات الله في نفس الوقت الذي تهيء أرضيّة لموضوع المعاد ، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلّا عن طريق العلم اللامتناهي للباريّعزوجل ، كما سنرى.

لذا فإنّ الآيات مورد البحث تبدأ أوّلا بقوله تعالى :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ) . فما هو إلّا كذب وافتراء ، بل إنّ القيامة لا تأتي أحدا من الناس.

٣٨٦

ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الإعتقادات ، الحساب والكتاب والعدل والجزاء ، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.

ولكنّ القرآن بناء على وضوح أدلّة القيامة يخاطب الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة حاسمة وفي معرف بيان النتيجة ، فيقول :( قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) .

والتركيز على كلمة «ربّ» لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية. فكيف يمكن أن يكون الله مالكا ومربيا للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي ، ثمّ يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كلّ شيء ، فتكون حياتهم بلا هدف وخلقهم هباء وبلا معنى.

وقد ركّز القرآن في الآية السابعة من سورة التغابن أيضا على هذا الوصف ، فقال تعالى :( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ) .

وبما أنّ أحد إشكالات الكافرين بالمعاد ، هو شكّهم ـ من جانب ـ في إمكانية جمع وإعادة بناء أعضاء الإنسان الميّت بعد تبعثرها وتفسّخها في التراب. وكذلك ـ من جانب آخر ـ في إمكانية وجود من يمكنه النظر في جميع أعمال العباد التي عملوها في السرّ والعلن والظاهر والباطن ، لذا فإنّ الله تعالى يضيف في تتمّة الآية الكريمة( عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (١) .

ولذا ، فلا يغيب عن علمه تبعثر ذرّات جسم الإنسان في التراب ، ولا اختلاطها بسائر الموجودات ، ولا حتّى حلولها في أبدان أناس آخرين عن طريق الغذاء ، ولا يشكّل مشكلة أمام إعادة بنائه من جديد وأعمالهم في هذه الدنيا تبقى محفوظة أيضا ، وإن تغيّر شكلها ، فهو سبحانه المحيط بها علما.

__________________

(١) «يعزب» : من مادة «عزوب» وتعني المتباعد في طلب الكلأ عن أهله ، يقال عزب يعزب ويعزب ثمّ اطلق على كلّ غائب ، يقال رجل عزب ، وامرأة عزبة إذا غاب عنها زوجها.

٣٨٧

وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيات الثالثة والرّابعة من سورة (ق) في قوله تعالى :( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ، قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) .

ولكن ما هو المقصود من «الكتاب المبين»؟

أغلب المفسّرين قالوا بأنّه «اللوح المحفوظ» ولكن السؤال هو : ما هو اللوح المحفوظ؟!

وكما ذكرنا سابقا فإنّ أقرب تفسير (للّوح المحفوظ) ، هو «لوح العلم الإلهي اللامتناهي» نعم في ذلك اللوح ضبط وقيّد كلّ شيء ، بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.

وعالم الوجود المترامي الأطراف ، هو الآخر انعكاس عن ذلك اللوح المحفوظ ، بلحاظ أنّ كلّ ذرّات وجودنا وكلّ أقوالنا وأفعالنا ، تبقى محفوظة فيه ، وإن كانت الظواهر تتغيّر ، لكنّها لا تخرج عن حدّها أبدا.

ثمّ يوضّح تعالى الهدف من قيام القيامة في آيتين ، أو بتعبير آخر إعطاء الدليل على لزوم مثل ذلك العالم بعد عالمنا الحالي لمنكري القيامة ، فيقول تعالى :( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) .

فإن لم يجاز المؤمنين بصالح عملهم ثوابا ، أفلا يعني ذلك تعطيل أصل العدالة الذي هو أهم أصل من اصول الخلقة؟ وهل يبقى معنى لعدالة الله بدون ذلك المفهوم؟! في الوقت الذي نرى أنّ أغلب هؤلاء الأفراد الصالحين ، لا يتلقون جزاء أعمالهم الحسنة في هذه الدنيا أبدا ، إذن لا بدّ من عالم آخر لكي يتحقّق فيه هذا الأصل.

تقديم «المغفرة» على «الرزق الكريم» ربّما كان سببه : أنّ أشدّ ما يقلق المؤمنين هو الذنوب التي ارتكبوها ، لذا فإنّ الآية تطمئنهم بعرض المغفرة عليهم أوّلا ، فضلا عن أنّ من لم يغتسل بماء المغفرة الإلهية لن يكون أهلا (للرزق الكريم) والمقام

٣٨٨

الكريم!

(الرزق الكريم) يشمل كلّ رزق ذي قيمة ، ومفهوم ذلك واسع إلى درجة أنّه يشمل كلّ المواهب والعطايا الإلهية ، ومنها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وبتعبير آخر فإنّ «الجنّة» بكلّ نعمها المعنوية والماديّة جمعت في هذه الكلمة ، والبعض فسّر «الكريم» بأمرين : الجيد والخالي من المنغّصات ، ولكن يبدو أنّ مفهوم الكلمة أوسع من ذلك بكثير.

ثمّ تضيف الآية الكريمة التالية ، موضّحة نوعا آخر من العدالة فيما يخصّ عقاب المذنبين والمجرمين ، فيقول تعالى : إنّ الذين كذّبوا آياتنا وسعوا في إنكارها وإبطالها وتصوّروا أنّهم يستطيعون الخلاص من دائرة قدرتنا( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ) .

فهناك كان الحديث عن «الرزق الكريم» وهنا عن «الرجز الأليم».

«الرّجز» : في الأصل بمعنى الاضطراب وعدم القدرة على حفظ التوازن ، ومنه قيل «رجز البعير رجزا» فهو أرجز ، وناقة «رجزاء» إذا تقارب خطوها واضطرب لضعف فيها. وأجبرت على تقصير خطواتها لحفظ توازنها ، ثمّ أطلقت الكلمة على كلّ ذنب ورجس. كذلك فإنّ إطلاق كلمة «الرجز» على المقاطع الشعرية الخاصّة بالنزال في الحرب ، من باب قصر مقاطعها وتقاربها.

على كلّ حال فالمقصود من (الرجز) هنا ، أسوأ أنواع العذاب ـ الذي يتأكّد بإرداف كلمة «الأليم» أيضا وأنواع العقوبات البدنية والروحية الأليمة.

والتفت البعض إلى هذه النكتة ، وهي أنّ القرآن الكريم حين ذكر نعم أهل الجنّة لم يستعمل كلمة «من» ليدلّل على سعتها ، بينما جاءت هذه الكلمة عند ذكر العذاب لتكون دليلا على محدوديته النسبية ، ولتتضح رحمته تبارك وتعالى.

«سعوا» : من السعي ، بمعنى كلّ جهد وجدّ في أمر ، والمقصود منها هنا ، الجدّ

٣٨٩

والجهد في تكذيب وإنكار آيات الحقّ وصدّ الناس عن طريق الله سبحانه وتعالى.

معاجزين : من المعاجزة ، بمعنى معجّزين ، أي مثبّطين ، وفي مثل هذه الموارد تطلق على من يفرّ من شخص آخر بحيث لا يمكّنه من التسلّط عليه ، وبديهي أنّ هذا الوصف يستخدم للمجرمين لتوهمّهم الذي يظهرونه عمليا بهذا الاتّجاه ، وعملهم يشبه إلى حد كبير من يتصوّر أنّه يستطيع القيام بأيّة جناية يشاء ، ثمّ يستطيع الفرار من سلطة القدرة الإلهيّة!!.

* * *

٣٩٠

الآيات

( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) )

التّفسير

العلماء يرون دعوتك إنّها حقّ :

كان الحديث في الآيات السابقة عن عمي البصائر ، المغفّلين الذين أنكروا المعاد مع كلّ تلك الدلائل القاطعة ، وسعوا سعيهم لتكذيب الآيات الإلهية ، وإضلال الآخرين.

٣٩١

وعلى هذا ، فإنّ الآيات مورد البحث ، تتحدّث عن العلماء والمفكّرين الذين صدّقوا بآيات الله وسعوا سعيهم لتشجيع الآخرين على التصديق بها ، يقول تعالى :( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .

فسّر بعض المفسّرين عبارة( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) ، بتلك المجموعة من علماء أهل الكتاب الذين يتّخذون موقف الخضوع والإقرار للحقّ عند مشاهدة آثار حقّانية القرآن الكريم.

وليس هناك مانع من اعتبار علماء أهل الكتاب أحد مصاديق الآية ، ولكن تحديدها بهم يفتقد إلى الدليل ، بل مع الالتفات إلى الفعل المضارع (يرى) وسعة مفهوم( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) يتّضح شمول الآية لكلّ العلماء والمفكّرين في كلّ عصر وزمان ومكان.

وإذا فسّرت بكونها إشارة إلى «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام» ، كما في تفسير علي بن إبراهيم ، فإنّ ذلك توضيح وإشارة إلى أتمّ وأكمل مصاديق الآية.

نعم ، فأي عالم موضوعي وغير متعصّب إذا تأمّل في ما ورد في هذا الكتاب السماوي ، وتدبّر في معارفه العميقة ، وأحكامه المتينة ، ونصائحه الحكيمة ، ومواعظه المؤثّرة في الوجدان إلى قصصه التأريخية المشعّة بالعبرة ، وبحوثه العلمية الإعجازية ، فسيعلم بأنّها جميعا دليل على حقّانية هذه الآيات.

واليوم ، فإنّ هناك كتبا متنوّعة كتبها مفكّرون غربيون وشرقيون حول الإسلام والقرآن ، تحوي اعترافات ظاهرة على عظمة الإسلام وصدق الآية مورد البحث.

التعبير بـ «هو الحقّ» تعبير جامع ينطبق على جميع محتوى القرآن الكريم ، حيث أنّ «الحقّ» هو تلك الواقعة العينية والوجود الخارجي ، أي إنّ محتوى القرآن يتساوق وينسجم مع قوانين الخلق وحقائق الوجود وعالم الإنسانية.

٣٩٢

ولكونه كذلك فهو يهدي إلى صراط الله ، الله «العزيز» و «الحميد» أي أنّه تعالى الأهل لكلّ حمد وثناء وفي ذات الوقت فانّ قدرته غاية القدرة والغلبة ، وليس هو كأصحاب القدرة من البشر الذي يتعامل منطلقا من كونه على عرش القدرة بالدكتاتورية والظلم والتجاوز والتلاعب.

وقد جاء نظير هذا التعبير في الآية الاولى من سورة «إبراهيم» حيث قال جلّ من قائل :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .

وواضح أنّ من كان مقتدرا وأهلا للحمد والثناء ، ومن هو عالم ومطّلع رحيم وعطوف ، من المحتّم أن يكون طريقه أكثر الطرق اطمئنان واستقامة. فمن يسلك طريقه إنّما يقترب من منبع القدرة وكلّ الأوصاف الحميدة.

ويعود تعالى إلى مسألة القيامة والبعث في الآية التي بعدها ، ويكمل البحوث السابقة بطريقة اخرى ، فيقول تعالى :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

يبدو أنّ إصرار ـ هؤلاء الكفّار ـ على إنكار مسألة المعاد يعتمد على أمرين : ـ الأوّل : توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو «المعاد الجسماني» ، أمر يسهل الإشكال عليه والطعن فيه ، وأنّ بإمكانهم تنفير الناس منه فينكرونه بسهولة.

الثّاني : أنّ الإعتقاد بالمعاد ، أو حتّى القبول باحتماله ـ على كلّ حال ـ إنّما يفرض على الإنسان مسئوليات وتعهّدات ، ويضعه وجها لوجه أمام الحقّ ، وهذا ما اعتبره رؤوس الكفر خطرا حقيقيّا ، لذا فقد أصرّوا على إلغاء فكرة المعاد والجزاء الاخروي على الأعمال من أذهان الناس. فقالوا : أيمكن لهذه العظام المتفسّخة ، وهذه الذرّات المبعثرة ، التي تعصف بها الريح من كلّ جانب ، أن تجمع في يوم وتلبس ثوب الحياة من جديد؟

٣٩٣

واستخدامهم لكلمة (رجل) بصيغة النكرة في تعبيرهم عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقصد منه التحقير «وحاشاه».

ولكن فاتهم أنّنا في بدء الخليقة لم نكن إلّا أجزاء مبعثرة ، فكلّ قطرة ماء في أبداننا إنّما كانت قطرة في زاوية من بحر أو ينبوع ماء ، وكلّ ذرّة من مواد أجسامنا ، كانت في جانب من جوانب هذه الأرض المترامية ، وسيجمعها الله تبارك وتعالى في النهاية أيضا كما جمعها في البدء ، وهو على كلّ شيء قدير.

والعجيب أنّهم اعتبروا ذلك دليلا على كذب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو جنونه ، وحاشاه( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) .

وإلّا فكيف يمكن لرجل عاقل أو صادق أن يتفوّه بمثل هذا الحديث!!؟

ولكن القرآن يردّ عليهم بشكل حاسم قائلا :( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) .

فأي ضلال أوضح من أن يرى منكر المعاد بامّ عينيه مثالا لهذا المعاد في عالم الطبيعة في كلّ عام بإحياء الأرض الميتة بالزرع.

المعاد الذي لو لا وجوده لما كان للحياة في هذا العالم أي معنى أو محتوى.

وأخيرا فإنكار المعاد مساو لإنكار قدرة وعدل وحكمة الله جلّ وعلا.

ولكن لماذا يؤكّد تعالى أنّهم الآن في العذاب والضلال؟

ذلك لأنّ الإنسان يواجه في حياته مشاكل وأحداثا لا يمكنه ـ بدون الإيمان بالآخرة ـ تحمّلها ، والحقيقة أنّ الحياة لو حدّت بهذه الأيّام القليلة من عمر الدنيا لكان تصوّر الموت بالنسبة لكلّ إنسان كابوسا مرعبا ، لهذا السبب نرى أنّ منكري المعاد في قلق دائم منغّص وعذاب أليم ، في حال المؤمنين بالمعاد يعتبرون الموت قنطرة إلى عالم البقاء ، ووسيلة لكسر القيود والتحرّر من سجن الدنيا.

نعم ، فالإيمان بالمعاد ، يغمر قلب الإنسان بالطمأنينة ، ويهوّن عليه المشكلات ، ويجعله أكثر قدرة على الإيثار والفداء والتضحية.

٣٩٤

أمّا الذين يرون المعاد ـ لجهلهم وكفرهم ـ دليلا على الكذب أو الجنون ، إنّما يأسرون أنفسهم في عذاب العمى ، والضلال البعيد.

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبروا هذا العذاب إشارة إلى عذاب الآخرة ، ولكنّ ظاهر الآية يدلّل على أنّهم أسرى هذا العذاب والضلال الآن وفي هذه الدنيا.

ثمّ ينتقل القرآن الكريم لتقديم دليل آخر عن المعاد ، مقترن بتهديد الغافلين المعاندين فيقول تعالى :( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

فإنّ هذه السماء العظيمة بكلّ عجائبها ، بكواكبها الثابتة والسيّارة ، وبالأنظمة التي تحكمها ، وكذلك الأرض بكلّ مدهشاتها وأنواع موجوداتها الحيّة ، وبركاتها ومواهبها ، لأوضح دليل على قدرة الخلّاق العظيم.

فهل أنّ القدير على كلّ هذه الأمور ، عاجز عن إعادة الإنسان بعد الموت إلى الحياة؟

وهذا هو «برهان القدرة» الذي استدلّ به القرآن الكريم في آيات اخرى في مواجهة منكري المعاد ، ومن جملة هذه الآيات ، الآية (٨٢) من سورة يس. الآية (٩٩) من سورة الإسراء والآيتين (٦ و٧) من سورة ق.

ونشير إلى أنّ هذه الجملة كانت مقدّمة لتهديد تلك الفئة المتعصّبة من ذوي القلوب السوداء ، الذين يصّرون على عدم رؤية كلّ هذه الحقائق. لذا يضيف تعالى قائلا :( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ ) فنأمر الأرض فتنشقّ بزلزلة مهولة وتبتلعهم ، أو نأمر السماء فترميهم بقطعات من الحجر وتدمّر بيوتهم وتهلكهم( أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) أجل ، إنّ في هذا الأمر دلائل واضحة على قدرة الله تعالى على كلّ شيء ، ولكن يختّص بإدراك ذلك كلّ إنسان يتدبّر في مصيره ويسعى في الإنابة إلى الله( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) .

لا بدّ أن سمع أو شاهد كلّ منّا نماذج من الزلازل أو الخسف في الأرض ، أو

٣٩٥

سقوط النيازك من السماء ، أو بتساقط وتناثر صخور الجبال بسبب صاعقة أو انفجار بركان ، وكلّ عاقل يدرك إمكانية حصول مثل هذه الأمور في أيّة لحظة وفي أيّ مكان من العالم ، فإذا كانت الأرض هادئة تحت أقدامنا ، والسماء آمنة فوق رؤوسنا ، فلأنّها كذلك بقدرة اخرى وبأمر من آمر ، فكيف نستطيع ـ ونحن المحكومون بقدرته في كلّ طرفة عين ـ إنكار قدرته على البعث بعد الموت ، أو كيف نستطيع الفرار من سلطة حكومته!!.

* * *

هنا يجب الالتفات إلى جملة امور :

١ ـ يعبّر القرآن الكريم هنا عن السماء التي فوق رؤوسنا ، والأرض التي تحت أقدامنا بـ( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) و( ما خَلْفَهُمْ ) . وهو المورد الوحيد الذي يلاحظ فيه مثل هذا التعبير. وهذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ قدرة وعظمة الله أظهر في السماء وقت طلوع أو غروب الشمس وظهور القمر والنجوم فيها. ونعلم أنّ من يقف غالب باتّجاه الأفق تكون السماء بين يديه ، والأرض التي تأتي بالدرجة الثّانية من الأهميّة اطلق عليها( ما خَلْفَهُمْ ) .

كذلك هي إشارة إلى هؤلاء المغرورين أنّهم إن لم يجيزوا لأنفسهم النظر إلى ما فوق رؤوسهم ، فلا أقل من أن ينظروا إلى ما بين أيديهم في جوار الأفق.

٢ ـ نعلم بأنّنا نعيش بين مصدرين عظيمين من مصادر الخطر على حياتنا :

أوّلهما : باطن الكرة الأرضية المشتعل الذي هو عبارة عن صخور مذابة ومشتعلة وفي حالة من الفوران ، وفي الحقيقة فإنّ حياة جميع البشر فوق مجموعة من البراكن ـ بالقوّة ـ وبمجرّد صدور أمر إلهي صغير ينطلق أحد هذه البراكين ليهزّ منطقة عظيمة من الأرض وينثر عليها الأحجار الملتهبة والمواد المعدنية المذابة المشتعلة.

٣٩٦

وثانيهما : مئات الآلاف من الأحجار الصغيرة والكبيرة السابحة في الفضاء الخارجي تنجذب نحو الأرض يوميا بفعل جاذبيتها ، ولو لا احتراقها نتيجة اصطدامها بالغلاف الغازي ، لكنّا هدفا «لمطر حجري» بشكل متواصل ليل نهار ، وأحيانا تكون أحجامها وسرعتها وقوّتها إلى درجة أنّها تتخطّى ذلك المانع وتنطلق باتّجاه الأرض لتصطدم بها. وهذا واحد من الأخطار السماوية ، وعليه فإذا كنّا نعيش وسط هذين المصدرين الرهيبين للخطر ، بمنتهى الأمن والأمان بأمر الله ، أفلا يكفي ذلك لأن نتوجّه إلى جلال قدرته العظيمة ونسجد تعظيما وطاعة له!!.

٣ ـ من الجدير بالملاحظة أنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث أشارت إلى( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) ولكنّها حدّدت( لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) . والإشارة تستبعد ذلك المتمرّس بالعصيان الذي خلع عن رقبته طوق العبودية لله سبحانه وتعالى ، والغافلين الذين أداموا السير في الطريق الخاطئة الملوّثة بالخطايا واستبعدوا عن أذهانهم ـ كليا ـ التوبة والإنابة ، فهؤلاء أيضا لا يمكنهم الانتفاع من هذه الآية المشرقة ، لأنّ وجود الشمس الساطعة لا يكفي وحده لتحصل الرؤية ، بل يستلزم أيضا العين المبصرة وارتفاع الحجاب بينهما.

* * *

٣٩٧

الآيتان

( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) )

التّفسير

المواهب الإلهية العظيمة لداود :

بناء على ما مرّ ذكره في آخر المجموعة السابقة من الآيات وما قلناه حول «العبد المنيب» والثواب. ولعلمنا بأنّ هذا الوصف قد ذكر للنبي داودعليه‌السلام (في الآية ٢٤ من سورة ص) ـ كما سيرد شرحه بإذن الله ـ فالأفضل من أن نتعرّض لجانب من حياة هذا النّبيعليه‌السلام كمثال للإنابة والتوبة وإكمال البحث السابق. وهي أيضا تنبيه لكل من يغمط نعم الله ويتناساها ، ويتخلّى عن عبوديته لله عند جلوسه على مسند القدرة والسلطة.

في الآية الاولى يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً ) .

مفردة «فضل» ذات معنى وسيع ، يشمل كلّ المواهب التي تفضّل الله بها على داود ، وزادها التنكير سعة ودلّل على عظمة تلك المواهب.

٣٩٨

فقد شمل داود بالمواهب العظيمة سواء من الناحية المادية أو المعنوية ، وقد تعرّض القرآن الكريم مرارا لذكرها.

ففي موضع يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) .(١)

وفي موضع آخر يقول تعالى على لسان داود( يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) .(٢)

وسترد ضمن حديثنا حول آخر هذه الآيات ، معجزات مختلفة تمثّل جزءا من هذا الفضل العظيم ، وكذلك الصوت الباهر ، والقدرة العالية على القضاء العادل التي أشير إليها في سورة (ص) تمثّل لونا آخر من ذلك الفضل الإلهي ، وأهمّ من ذلك كلّه النبوّة والرسالة التي شرّف بها داود.

وعلى كلّ حال ، فبعد هذه الإشارة الإجمالية العامّة ، تبدأ الآية بشرح وتوضيح جوانب من الفضائل المعنوية والمادية التي تمتّع بها داود ، فيقول تعالى :( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) .

كلمة «أوّبي» في الأصل من «التأويب» بمعنى الترجيع وإعادة الصوت في الحلق. وهذا الأصل يستعمل أيضا بمعنى «التوبة» لأنّ حقيقتها الرجوع إلى الله.

ومع أنّ كلّ ذرّات الوجود تذكر الله وتسبّح بحمده ، سواء سبّح داودعليه‌السلام معها أو لم يسبّح ، ولكن الميزة التي خصّ بها داود هي أنّه ما إن يرفع صوته ويبدأ التسبيح ، إلّا ويظهر ما كان خفيّا وكامنا في الموجودات ، وتتبدل الهمهمة الباطنية إلى نغمة علنية منسجمة ، كما ورد في الروايات من تسبيح الحصاة في يد الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام عند ذكره لقصّة داود «إنّه خرج يقرأ الزبور ،

__________________

(١) النمل ، ١٥.

(٢) النمل ، ١٦.

٣٩٩

وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّا أجابه»(١) .

وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية ، تذكر الآية فضيلة مادية اخرى فتقول :( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) .

يمكن القول ، بأنّ الله تعالى علّم داود ـ إعجازا ـ ما استطاع بواسطته تليين الحديد حتّى يمكنه من صنع أسلاك رقيقة وقوية لنسج الدروع منها ، أو أنّه كان قبل داود يستفاد من صفائح الحديد لصناعة الدروع والإفادة منها في الحروب ، ممّا كان يسبّب حرجا وإزعاجا للمحاربين نتيجة ثقل الحديد من جهة ، وعدم قابلية تلك الدروع للانحناء أو الالتواء حين ارتدائها ، ولم يكن أحد قد استطاع حتّى ذلك اليوم نسج الدروع من أسلاك الحديد الرفيعة المحكمة ، ليكون لباسا يمكن ارتداؤه بسهولة والإفادة من قابليته على التلوّي والانحناء مع حركة البدن برقّة وإنسياب(٢) .

ولكن ظاهر الآية يدلّل على أنّ ليونة الحديد تمّت لداود بأمر إلهي ، فما يمنع الذي أعطى لفرن النار خاصية إلانة الحديد ، أن يعطي هذه الخاصية لداود بشكل آخر ، وقد أشارت بعض الروايات أيضا إلى هذا المعنى.

فقد روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «إنّ الله أوحى إلى داود : نعم العبد أنت إلّا أنّك تأكل من بيت المال ، فبكى داود أربعين صباحا ، فألان الله له الحديد ، وكان يعمل كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعا فباعها بثلاثمائة وستّين ألفا فاستغنى عن بيت المال»(٣) .

صحيح أنّ بيت المال يؤمّن مصارف الأشخاص الذين يقدّمون خدمة مجانية للامّة ، ويتحمّلون الأعباء التي لا يتحمّلها غيرهم ، ولكن ما أروع أن يستطيع

__________________

(١) الميزان ، ج ١٦ ، ص ٣٦٧.

(٢) انظر تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٣٤٣. وتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣١٥.

(٣) مجمع البيان ـ ج ٨ ص ٣٨١.

٤٠٠

(٨٧)

سورة الأعلى

مكّيّة عند ابن عبّاس، ومدنيّة عند الضحّاك. وهي تسع عشرة آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطاه الله من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وعن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: «كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ هذه السورة( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) . وأوّل من قال: سبحان ربّي الأعلى، ميكائيل».

وعن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: «سبحان ربّي الأعلى». وكذلك روي عن عليّعليه‌السلام . وروى جرير عن الضحّاك أنّه كان يقول ذلك. وكان يقول: من قرأها فليفعل ذلك.

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: ادخل من أيّ أبواب الجنّة شئت».

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي حميصة، عن عليّعليه‌السلام ، قال: «صلّيت خلفه عشرين ليلة، فليس يقرأ إلّا( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) . وقال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، وإنّ من قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى وإبراهيم الّذي وفّى».

٤٠١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) )

ولـمّا ختم سبحانه سورة الطارق بذكر الوعيد والتهديد للكفّار، افتتح هذه السورة بذكر صفاته العلى وقدرته على ما يشاء، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) نزّه اسمه عمّا لا يصحّ فيه، من المعاني الّتي هي الإلحاد في أسمائه بالتأويلات الزائغة، مثل أن يفسّر الأعلى بمعنى العلوّ الّذي هو القهر والاقتدار على كلّ شيء، لا بمعنى العلوّ في المكان والاستواء على العرش حقيقة، كما هو مذهب المشبّهة. ومن إطلاقه على غيره راعما أنّهما فيه سواء، كعبدة الأصنام. ومن أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم. ويجوز أن يكون الأعلى صفة للربّ، والاسم باعتبار المسمّى.

وعن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: «لمّا نزلت( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (١) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم. فلمّا نزلت( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: اجعلوها في سجودكم. وكانوا يقولون في الركوع: أللّهمّ لك ركعت، وفي السجود: أللّهمّ لك سجدت».

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) خلق كلّ شيء فسوّى خلقه، بأن جعل له ما به يتأتّى كماله من الإحكام والاتّساق، على وجه يدلّ على أنّه صادر من قدير

__________________

(١) الحاقّة: ٥٢.

٤٠٢

عليم وصانع حكيم.

( وَالَّذِي قَدَّرَ ) قدّر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها وأفعالها وآجالها.

وقرأ الكسائي: قدر بالتخفيف.( فَهَدى ) فوجّهه إلى أفعاله طبعا أو اختيارا، بخلق الميول والإلهامات، فعرّفه وجه الانتفاع به. كما يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغضّ يردّ إليها بصرها، فربما كانت في برّيّة بينها وبين الريف مسيرة أيّام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتّى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحكّ بها عينيها، وترجع باصرة بإذن الله تعالى.

وإلهامات البهائم والطيور وهو امّ الأرض باب واسع لا يحيط به وصف واصف. ومن ذلك أنّه سبحانه هدى الطفل إلى ثدي أمّه، وهدى الفرخ حتّى طلب الرزق من أبيه وأمّه، وسائر الدوابّ والطيور حتّى فزع كلّ منهم إلى أمّه. وما صدر من النحل من صنعة البيوت المسدّسة والمثمّنة وغيرهما من الأشكال، على وجه يعجز عنه المهندسون العالمون في صنائعهم المحسّنة اللطيفة البديعة العجيبة، كاف في تأمّل أولي الألباب والأبصار ليهتدوا إلى الله العزيز الحكيم.

وهدايات الله للإنسان من نصب الدلائل وإنزال الآيات ـ إلى ما لا يحدّ من مصالحه، وما لا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، فسبحان ربّي الأعلى وبحمده.

( وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ) أنبت ما ترعاه الحيوانات( فَجَعَلَهُ ) بعد خضرته( غُثاءً ) يابسا هشيما( أَحْوى ) أسود. وقيل: هو حال من المرعى، أي: أخرجه حال كونه أحوى، أي: أسود من شدّة خضرته وريّه، فجعله غثاء، أي: يابسا بعد حويّه، أي: شدّة خضرته. فسبحان من دبّر هذا التدبير، وقدّر هذا التقدير. وقيل: إنّه مثل ضربه الله تعالى لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

٤٠٣

( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩) )

ثمّ بشّر نبيّه بإعطاء آيات هادية بيّنة في الإعجاز بقوله:( سَنُقْرِئُكَ ) على لسان جبرئيل، أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة.( فَلا تَنْسى ) فلا تنساه أصلا من قوّة الحفظ، مع أنّك أمّيّ، ليكون ذلك آية اخرى لك. مع أنّ الإخبار به عمّا يستقبل ووقوعه كذلك أيضا من الآيات.

وقيل: نهي، والألف للفاصلة، كقوله:( السَّبِيلَا ) (١) . والمعنى: فلا تغفل من قراءته وتكريره فتنساه.

( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) نسيانه، بأن يذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته، كقوله:( أَوْ نُنْسِها ) (٢) فإنّ الإنساء نوع من النسخ.

وقيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقّنه جبرئيل، فقال: لا تعجل، فإنّ جبرئيل

__________________

(١) الأحزاب: ٦٧.

(٢) البقرة: ١٠٦.

٤٠٤

مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكرّرة إلى أن تحفظه، ثمّ لا تنساه إلّا أن يشاء الله.

وقيل: الغرض نفي النسيان رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلّا فيما شاء الله. ولا يقصد استثناء شيء. وهو من استعمال القلّة في معنى النفي.

( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) ما ظهر من أحوالكم وما بطن، فيعلم ما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه. أو يعلم جهرك يا محمّد بالقراءة مع جبرئيل، وما دعاك إليه من مخافة التفلّت والنسيان، فيعلم ما فيه صلاحك وأمّتك من إبقاء أو إنساء.

( وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى ) معطوف على( سَنُقْرِئُكَ ) . وقوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ ) اعتراض.

والمعنى: سنوفّقك للطريقة الّتي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي. وقيل: للشريعة السمحة الّتي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذا. وقيل: نوفّقك لعمل الجنّة. ولـمّا كان التيسير متضمّنا لمعنى التوفيق قال: «نيسّرك»، لا: نيسّر لك.

روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلّا عتوّا وطغيانا. وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلظّى حسرة وتلهّفا، ويزداد جدّا في تذكيرهم وحرصا عليه، فقيل له:( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) (١) .( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ) (٢) . ثمّ قيل له:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ) وذلك بعد إلزام الحجّة بتكرير التذكير.

وقيل: ظاهر الآية شرط، ومعناه ذمّ للمذكّرين، وإخبار عن حالهم، واستبعاد لتأثير الذكرى فيهم، وتسجيل عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ

__________________

(١) ق: ٤٥.

(٢) الزخرف: ٨٩.

٤٠٥

المكّاسين(١) إن سمعوا منك، قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنّه لن يكون كذلك.

( سَيَذَّكَّرُ ) سيتّعظ وينتفع بها( مَنْ يَخْشى ) يخشى الله وسوء العاقبة، بأن يتفكّر فيها فيعلم حقيقتها، فيقوده النظر إلى اتّباع الحقّ. فأمّا هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك.

( وَيَتَجَنَّبُهَا ) ويتجنّب الذكرى( الْأَشْقَى ) الكافر، لأنّه أشقى من الفاسق.

أو الّذي هو أشقى من الكفرة، لتوغّله في جحوده وإنكاره، وحقده وشدّة غضبه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.

( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ) نار جهنّم. والصغرى: نار الدنيا، فإنّهعليه‌السلام قال: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم».

أو ما في الدرك الأسفل من أطباق النار، فإنّ ناره أحرّ وأشدّ من نار أطباق أخر.

( ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ) فيستريح( وَلا يَحْيى ) حياة تنفعه، بل صارت حياته وبالا عليه، ومشقّة يتمنّى زوالها، لـما فيها من فنون العقاب وألوان العذاب. ولهذا ذكر «ثمّ» للدلالة على أنّ التردّد بين الحياة والموت أفظع من الصلي، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة.

( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) تطهّر من الكفر والمعصية. وقيل: من الزكاء بمعنى النماء. والمعنى: من نشأ ونما في التقوى. وقيل: تطهّر للصلاة، أو أدّى الزكاة، كتصدّق من الصدقة.

( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ) وحّده بقلبه ولسانه( فَصَلَّى ) بذلك الاسم الصلوات الخمس، لقوله:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (٢) . وعن ابن عبّاس: معناه: ذكر معاده

__________________

(١) المكّاس: من يأخذ المكس. والمكس: دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهليّة.

(٢) طه: ١٤.

٤٠٦

وموقفه بين يدي ربّه، فصلّى له. وعن الضحّاك: وذكر اسم ربّه في طريق المصلّى، فصلّى صلاة العيد. وعن عليّعليه‌السلام : تصدّق بالفطر،( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ) كبّر يوم العيد، فصلّى صلاته.

ومتى قيل: على هذا القول كيف يصحّ أن تكون السورة مكّيّة، ولم يكن هناك صلاة عيد ولا زكاة فطرة؟

قلنا: يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكّة وختمت بالمدينة.

وعند أكثر علمائنا أنّ المراد بالذكر هنا الأذان والإقامة، استنادا إلى روايات واردة عن أئمّتنا صلوات الله عليهم.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الأشقين على طريقة الالتفات، أو على إضمار قل:( بَلْ تُؤْثِرُونَ ) تختارون( الْحَياةَ الدُّنْيا ) على الآخرة، فلا تفعلون ما تفلحون به. وقيل: هو عامّ في المؤمن والكافر، بناء على الأعمّ الأغلب في أمر الناس.

قال عبد الله بن مسعود: إنّ الدنيا اخضرّت لنا، وعجّل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذّتها وبهجتها، وإنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنّا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.

( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ ) أفضل في نفسها( وَأَبْقى ) وأدوم، فإنّ نعيمها ملذّ بالذات، خالص عن الغوائل، لا انقطاع له.

( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ) الإشارة إلى ما سبق من قوله: «قد أفلح» إلى قوله: «وأبقى»، فإنّه جامع أمر الديانة، وخلاصة الكتب المنزلة. والمعنى: أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف.( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) بدل من الصحف الأولى.

٤٠٧

وروي عن أبي ذرّرضي‌الله‌عنه أنّه قال: «قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟

قال: مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرون ألفا.

قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟

قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيّتهم أنبياء.

قلت: أكان آدم نبيّا؟

قال: نعم، كلّمه الله وخلقه بيده. يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك.

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟

قال: مائة وأربعة كتب، منها: على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ ـ وهو إدريس ـ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان».

وقيل: إنّ في صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه.

وقيل: إنّ كتب الله سبحانه كلّها أنزلت في شهر رمضان.

٤٠٨

(٨٨)

سورة الغاشية

مكّيّة. وهي ستّ وعشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: «من أدمن قراءة( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) في فريضة أو نافلة، غشّاه الله رحمته في الدنيا والآخرة، وأعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الأعلى بالترغيب في الآخرة، وأنّها خير من الدنيا، افتتح هذه السورة أيضا ببيان أحوال الآخرة، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) الداهية الّتي تغشى الناس بشدائدها، وتلبسهم أهوالها. يعني: يوم القيامة، من قوله:( يَوْمَ يَغْشاهُمُ

٤٠٩

الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) (١) . أو النار من قوله:( وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) (٢) ( وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (٣) .

( وُجُوهٌ ) أي: صواحبها( يَوْمَئِذٍ ) يوم إذ غشيت( خاشِعَةٌ ) ذليلة( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) تعمل في النار عملا تتعب فيه، كجرّ السلاسل والأغلال، وخوضها في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ووهادها.

وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، والتذّت بها وتنعّمت، ونصبت في أعمال لا ينفعها في الآخرة.

وقيل: عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة، من قوله:( وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ) (٤) .( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (٥) .

( أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) (٦) .

وقيل: هم أصحاب الصوامع. ومعناه: أنّها خشعت لله، وعملت ونصبت في أعمالها، من الصوم الدائب(٧) والتهجّد الواصب.

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «كلّ ناصب لنا وإن تعبّد واجتهد يصير إلى هذه الآية «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ».

( تَصْلى ناراً ) تدخلها. قيل: المصلّي عند العرب أن يحفروا حفيرا، فيجمعوا فيه جمرا كثيرا، ثمّ يعمدوا إلى شاة فيدسّوها وسطه. فأمّا ما يشوى فوق

__________________

(١) العنكبوت: ٥٥.

(٢) إبراهيم: ٥٠.

(٣) الأعراف: ٤١.

(٤) الفرقان: ٢٣.

(٥) الكهف: ١٠٤.

(٦) آل عمران: ٢٢.

(٧) الدائب: الدائم المستمرّ. والتهجّد الواصب: الدائم المواظب على القيام به.

٤١٠

الجمر، أو على المقلى(١) ، أو في التنّور، فلا يسمّى مصلّيا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر تصلى، من: أصلاه الله.( حامِيَةً ) متناهية في الحرّ.

( تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) متناهية في الحرّ، كقوله:( وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) (٢) قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنّم مذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا، هذا شرابهم.

وقال أبو الدرداء: إنّ الله يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيذكرون أنّهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون فيعطشهم الله ألف سنة، ثمّ يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة ولا مريئة، كلّما أدنوه من وجوههم سلخ وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، فذلك قوله:( وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) (٣) .

( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) يبيس الشبرق. وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس تحامته، وهو سمّ قاتل. وقيل: شجرة ناريّة تشبه الضريع، كما نقل.

وعن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك، أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشدّ حرّا من النار، سمّاه الله الضريع».

وإنّما قال:( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) . وفي الحاقّة:( وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) (٤) وظاهر الكلامين تناف، لأنّ العذاب ألوان، والمعذّبون طبقات، فمنهم أكلة الزقّوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع.

__________________

(١) المقلى: وعاء يقلى ـ أي: ينضج ـ فيه الطعام.

(٢) الرحمن: ٤٤.

(٣) محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٥.

(٤) الحاقة: ٣٦.

٤١١

( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (١) . أو المراد: إنّما طعامهم ممّا تتحاماه الإبل وتعافه، لضرّه وعدم نفعه.

وهذا إشارة إلى أنواع طعام جهنّم، من الضريع والزقّوم والغسلين.

روي: أنّ المشركين لـمّا سمعوا هذه الآية قالوا: إن إبلنا لتسمن على الضريع. وكذبوا في ذلك، لأنّ الإبل لا ترعاه كما علمت. فقال سبحانه تكذيبا لهم :

( لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) أي: لا يسمن أحدا، ولا يدفع جوعا. وهذا مرفوع المحلّ أو مجروره على وصف: طعام أو ضريع. والمعنى: طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنّما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع.

وقيل: أراد الله سبحانه بهذه الآية أن لا طعام لهم أصلا، لأنّ الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس، لأنّ الطعام ما أشبع أو أسمن، وهو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظلّ إلّا الشمس، تريد: نفي الظلّ على التوكيد.

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) )

ثمّ وصف أهل الجنّة بقوله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) ذات بهجة وحسن، أو متنعّمة في أنواع اللذّات( لِسَعْيِها ) في الدنيا( راضِيَةٌ ) رضيت بعملها لـمّا رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة والثواب لسعيها.

__________________

(١) الحجر: ٤٤.

٤١٢

( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) عليّة المحلّ أو القدر( لا تَسْمَعُ فِيها ) يا مخاطب، أو الوجوه. وقرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير وأبو عمرو ورويس. وبالتاء نافع.

( لاغِيَةً ) لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو، فإنّ أهل الجنّة لا يتكلّمون إلّا بالذكر والحكم، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم.

( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) يجري ماؤها ولا ينقطع. يريد عيونا في غاية الكثرة، كقوله:( عَلِمَتْ نَفْسٌ ) (١) . فهي اسم جنس. والتنوين للتعظيم. فلكلّ إنسان في قصره من الجنّة عين جارية من كلّ شراب يشتهيه.

( فِيها سُرُرٌ ) ألواحها من ذهب مكلّلة بالزبرجد والدرّ والياقوت( مَرْفُوعَةٌ ) رفيعة السمك، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربّه من الملك والنعيم الدائم. أو رفيعة القدر.

( وَأَكْوابٌ ) جمع كوب. وهو إناء من ذهب وفضّة لا عروة له.( مَوْضُوعَةٌ ) بين أيديهم لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو على حافّات العيون معدّة للشرب.

( وَنَمارِقُ ) جمع نمرقة بالفتح والضمّ، وهي الوسادة( مَصْفُوفَةٌ ) بعضها إلى جنب بعض، أينما أراد أن يجلس جلس على مسورة(٢) واستند إلى اخرى.

( وَزَرابِيُ ) وبسط عراض فاخرة. وقيل: هي الطنافس(٣) الّتي لها خمل رقيق. جمع زربية.( مَبْثُوثَةٌ ) مبسوطة، أو مفرّقة في المجالس.

( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ

__________________

(١) التكوير: ١٤.

(٢) المسورة: متّكأ من جلد.

(٣) الطنافس جمع الطنفسة: البساط، الحصير.

٤١٣

سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦) )

ولـمّا نعت الله سبحانه الجنّة وما فيها عجب من ذلك أهل الضلال، فبيّن سبحانه أفعاله العجيبة الغريبة الدالّة على كمال القدرة، الموجبة لفعل كلّ ما أراد من الصنائع العظيمة العجيبة، فقال :

( أَفَلا يَنْظُرُونَ ) نظر اعتبار( إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) خلقا عجيبا دالّا على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها لجرّ الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل، ناهضة بالحمل، منقادة لمن اقتادها، ولو كان قائدها غير إنسان، كما حكي أنّ فارة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرّها وهي تتبعها حتّى دخلت الجحر، فجرّت الزمام فقرّبت فمها من جحر الفار. طوال الأعناق لتنوء بالأوقار(١) ، ترعى كلّ نابت في البراري والمفاوز ممّا لا يرعاه سائر البهائم، وتحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتّى لها قطع البراري والمفاوز. مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصّت بالذكر لبيان الآيات المنبثّة في الحيوانات الّتي هي أشرف المركّبات وأكثرها صنعا، ولأنّها أعجب ما عند العرب من هذا النوع.

وقيل: المراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز، لأنّ الإبل ليست من أسماء السحاب حقيقة، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك.

( وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) بلا عمد، مع ما في خلقها من صنائع القدرة

__________________

(١) الأوقار جمع الوقر: الحمل الثقيل.

٤١٤

وبدائع الفطرة، من الشمس والقمر والكواكب، وعلّق بها منافع الخلق وأسباب معايشهم.

( وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) فهي راسخة لا تميل ولا تزول، ولولاها لمادت الأرض بأهلها.

( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) بسطت حتّى صارت مهادا للمتقلّب عليها.

ووجه حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض: أنّ هذه الأشياء غالبا في مناظر العرب ومطاع(١) نظرهم في أوديتهم وبواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم.

وملخّص المعنى: أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركّبات، ليتحقّقوا كمال قدرة الخالق، فلا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به، ويستعدّوا للقائه؟ ولذلك عقّب به أمر المعاد، ورتّب عليه الأمر بالتذكير، فقال:( فَذَكِّرْ ) أي: لا ينظرون، فذكّرهم ولا تلحّ عليهم( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) أي: فلا عليك إن لم ينظروا ولم يتذكّروا، إذ ما عليك إلّا البلاغ، كقوله:( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ) (٢) .

( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) بمتسلّط يمكنك أن تدخل الإيمان في قلوبهم وتجبرهم عليه، كقوله:( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) (٣) . وعن الكسائي بالسين على الأصل، وحمزة بالإشمام.

( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) الاستثناء منقطع. والمعنى: لست بمستول عليهم، ولكن من تولّى عن الذكر وكفر بالله( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) الّذي هو عذاب جهنّم.

__________________

(١) كذا في النسخة الخطّية، ولعلّ الصحيح: ومطمح.

(٢) الشورى: ٤٨.

(٣) ق: ٤٥.

٤١٥

وقيل: متّصل، فإنّ جهاد الكفّار وقتلهم تسلّط. وكأنّه أوعدهم الجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة.

وقيل: هو استثناء من قوله: «فذكّر» أي: فذكّر إلّا من انقطع طمعك من إيمانه وتولّى، فاستحقّ العذاب الأكبر. وما بينهما اعتراض.

( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) رجوعهم بعد الموت( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) في المحشر. وتقديم الخبر للتخصيص والمبالغة في الوعيد. كأنّه قال: إنّ إيابهم ليس إلّا إلى الجبّار المقتدر على الانتقام، وإنّ حسابهم ليس بواجب إلّا عليه، وهو الّذي يحاسب على النقير والقطمير. ومعنى الوجوب الوجوب في الحكمة.

٤١٦

(٨٩)

سورة الفجر

مكّيّة. وهي ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها في ليال عشر غفر الله له، ومن قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة».

وروى داود بن فرقد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «اقرؤا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنّها سورة الحسين بن عليّعليه‌السلام ، من قرأها كان مع الحسين بن عليّعليه‌السلام يوم القيامة في درجته من الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) )

٤١٧

ولـمّا ختم سورة الغاشية بأنّ إياب الخلق إليه وحسابهم عليه، افتتح هذه السورة بتأكيد ذلك المعنى حين أقسم أنّه بالمرصاد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْفَجْرِ ) أقسم بمطلق الصبح في الأيّام، كما أقسم في قوله:( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) (١) . أو بمطلق فلقه، كقوله:( وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) (٢) . أو بصلاة الفجر، أو بفجر يوم النحر، أو بفجر عرفة، أو فجر أوّل ذي الحجّة، أو فجر أوّل المحرّم. والأوّل أشمل وأعمّ، ومنقول عن عكرمة والحسن والجبائي، ورواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

( وَلَيالٍ عَشْرٍ ) عشر ذي الحجّة، على ما نقل عن مجاهد والضحّاك وابن عبّاس والحسن وقتادة والسدّي. ولذلك فسّر الفجر بفجر عرفة أو النحر. وقيل: عشر رمضان الأخير. ولأنّها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، وقعت منكّرة من بين ما أقسم به. ولو عرّفت بلام العهد، لأنّها ليال معلومة معهودة، لم تستقلّ بمعنى الفضيلة الّذي في التنكير، فإنّ التنكير للتعظيم والتفخيم. ولأنّ الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية، فيوهم أنّ المراد جنس العشرات لا العشرات المعيّنة المطلوبة.

( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) أي: والأشياء كلّها، شفعها ووترها. أو الخلق، لقوله:( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) (٣) والخالق، لأنّه فرد.

ومن فسّرهما بشفع هذه الليالي ووترها، وبالعناصر والأفلاك والبروج والسيّارات. أو شفع الصلوات ووترها. أو بيومي النحر وعرفة، لأنّها تاسع أيّامها

__________________

(١) المدّثر: ٣٤.

(٢) التكوير: ١٨.

(٣) الذاريات: ٤٩.

٤١٨

وذلك عاشرها، فقد روي مرفوعا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام .

أو الوتر آدم، شفّع بزوجته. أو الشفع الأيّام، والوتر اليوم الّذي لا ليل بعده، وهو يوم القيامة. أو الشفع عليّ وفاطمةعليهما‌السلام ، والوتر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أو الصفا والمروة، والوتر البيت. فلعلّه(١) أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلا في الدين، أو مناسبة لـما قبلها، أو أكثر منفعة موجبة للشكر.

وقرأ حمزة والكسائي: والوتر، بفتح الواو. وهما لغتان، كالحبر والحبر.

( وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) إذا يمضي، كقوله:( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) (٢) . وأصله: يسري، حذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا. وقد خصّه نافع وأبو عمرو بالوقف. والتقييد بذلك لـما في التعاقب من قوّة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعم.

( هَلْ فِي ذلِكَ ) الإقسام، أو المقسم به( قَسَمٌ ) حلف، أو محلوف به( لِذِي حِجْرٍ ) يعتبره ويعظم بالإقسام به، ويؤكّد به ما يريد تحقيقه. والحجر: العقل. سمّي به لأنّه يحجر عمّا لا ينبغي، كما سمّي عقلا ونهية وحصاة من الإحصاء، وهو الضبط. وفي هذا تعظيم وتأكيد لـما وقع به القسم.

والمعنى: أنّ من كان ذا لبّ علم أنّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على توحيد الله، توضح عن عجائب صنعه وبدائع حكمته.

والمقسم عليه محذوف، وهو: ليعذّبنّ. يدلّ عليه قوله:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) . الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفيه تنبيه للكفّار على ما فعله سبحانه بالأمم السابقة لـمّا كفرت بالله وبأنبيائه، وكانت أطول أعمارا وأشدّ قوّة. وعاد قوم ثمود، سمّوا باسم أبيهم، كما سمّي بنو هاشم باسمه. وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.

__________________

(١) خبر لقوله: ومن فسّرهما ...، في بداية الفقرة.

(٢) المدّثر: ٣٣.

٤١٩

( إِرَمَ ) عطف بيان لـ «عاد» إيذانا بأنّهم عاد الأولى القديمة. وهذا على تقدير مضاف، أي: سبط إرم، أو أهل إرم، إن صحّ أنّه اسم بلدتهم. وقيل: سمّي أوائلهم ـ وهم عاد الأولى ـ بإرم اسم جدّهم، ومن بعدهم سمّوا عادا الأخيرة. ومنع صرفه للعلميّة والتأنيث، باعتبار القبيلة أو البلدة.( ذاتِ الْعِمادِ ) ذات البناء الرفيع، أو القدود(١) الطوال. ومنه قولهم: رجل معمد إذا كان طويلا. ورجل طويل العماد، أي: القامة. أو ذات الرفعة والثبات.

( الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) صفة اخرى لـ «إرم». والضمير لها، سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة. والمعنى: لم يخلق مثل عاد في جميع بلاد الدنيا عظم أجرام وقوّة. فقد روي أنّ طول الرجل منهم كان أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحيّ فيهلكهم. أو لم يخلق مثل مدينة إرم في جميع بلاد الدنيا.

وقيل: كان لعاد ابنان: شدّاد وشديد، فملكا وقهرا، ثمّ مات شديد فخلص الأمر لشداد، وملك المعمورة، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنّة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنّة وسمّاها إرم، فلمّا تمّ سار إليها بأهله، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.

وعن عبد الله بن قلابة: أنّه خرج في طلب إبله فوقع عليها. وقصّة ذلك مفصّلا على ما روى وهب بن منبّه: أنّ عبد الله بن قلابة خرج يوما في طلب إبل له شردت، فبينا هو في صحاري عدن إذ هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال.

فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله، فنزل عن دابّته وعقلها، وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن. فلمّا دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم

__________________

(١) القدود جمع القدّ: قدر الشيء وتقطيعه.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510