الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156591 / تحميل: 5920
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الآيتان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) )

التّفسير

هو المالك لكلّ شيء والعالم بكلّ شيء :

خمس سور من القرآن الكريم افتتحت «بحمد الله» ، وارتبط (الحمد) في ثلاثة منها بخلق السموات والأرض وهي (سبأ وفاطر والأنعام) بينما كان مقترنا في سورة الكهف بنزول القرآن على قلب الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجاء في سورة الفاتحة تعبيرا جامعا شاملا لكلّ هذه الاعتبارات( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) . على كلّ حال ، الحمد والشكر لله تعالى في مطلع سورة سبأ هو في قبال مالكيته وحاكميته تعالى في الدنيا والآخرة.

يقول تعالى :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي

٣٨١

الْآخِرَةِ ) .

لذا فإنّ الحاكمية والمالكية في الدنيا والآخرة له سبحانه ، وكلّ موهبة ، وكلّ نعمة ، ومنفعة وبركة ، وكلّ خلقة سوية عجيبة مذهلة ، تتعلّق به تعالى ، ولذا فإنّ «الحمد» الذي حقيقته «الثناء على فعل اختياري حسن» كلّه يعود إليه تعالى ، وإذا كانت بعض المخلوقات تستحقّ الحمد والثناء ، فلأنّها شعاع من وجودهعزوجل ولأنّ أفعالها وصفاتها قبس من أفعاله وصفاته تعالى. وعليه فكلّ مدح وثناء يصدر من أحد على شيء في هذا العالم ، فإنّ مرجعه في النهاية إلى الله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف تعالى قائلا :( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) .

فقد اقتضت حكمته البالغة أن يخضع الكون لهذا النظام العجيب ، وأن يستقرّ ـ بعلمه وإحاطته ـ كلّ شيء في محلّه من الكون ، فيجد كلّ مخلوق ـ كلّ ما يحتاج إليه ـ في متناوله.

وقد تحدّث المفسّرون كثيرا في هذه الآية عن المقصود من الحمد والشكر في الآخرة

فذهب بعضهم : إنّ الآخرة وإن لم تكن دار تكليف ، إلّا أنّ عبّاد الرحمن الذين تسامت أرواحهم بعشق بارئهم هناك ، يشكرونه ويحمدونه وينتشون بلذّة خاصّة من ذلك.

وقال آخرون : إنّ أهل الجنّة يحمدونه على فضله ، وأهل النار يحمدونه على عدله.

وقيل : إنّ الإنسان ـ نتيجة وجود الحجب المختلفة على قلبه وعقله في الدنيا ـ لا يمكنه أن يحمد الله حمدا خالصا ، وعند ما ترتفع هذه الحجب يوم القيامة تتّضح مالكيته تعالى وهيمنته على عالم الوجود للجميع مصداقا لقوله تعالى( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) وحينها تلهج الألسن بحمده والثناء عليه بكامل خلوص النيّة.

٣٨٢

وكذلك فإنّ الإنسان قد يغفل في هذه الدنيا فيحمد بعض المخلوقات ، متوهما استقلالها ، إلّا أنّه في الآخرة ، وحيث يتّضح ارتباط الكلّ به تعالى كارتباط أشعّة الشمس بقرصها ، فإنّ الإنسان لن يؤدّي الحمد والثناء إلّا لله سبحانه.

فضلا عن كلّ هذا ، فقد ورد مرارا في القرآن الكريم ـ أيضا ـ أنّ أصحاب الجنّة يحمدون الله حين دخولهم جنّات الخلد :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) .(١) ( وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .(٢)

على كلّ حال فإنّ هذا الحمد والثناء لا ينطلق من ألسنة الناس والملائكة فقط ، بل تسمع همهمة الحمد والتسبيح من كلّ ذرّة في عالم الوجود بإدراك العقل ، فليس من موجود إلّا ويحمده ويسبّحه تعالى.

تنتقل الآية التي بعدها إلى التوسّع في إظهار جانب من علم الله اللامحدود ، تناسبا مع وصف الآية السابقة له تعالى بالحكيم والخبير ، فيقول سبحانه :( يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ) .

نعم ، فقد أحاط علما بكلّ حبّة مطر وقطرة ماء تنفذ وتلج في أعماق الأرض حتّى إذا وصلت طبقة صلدة تجمّعت هناك وصارت ذخيرة للإنسان.

ويعلم بالبذور التي تنتقل على سطح الأرض بواسطة الريح أو الحشرات ، لتنبت في مكان ما وتصبح شجرة باسقة أو عشبا طريّا.

يعلم بجذور الأشجار عند توغلها في أعماق التربة بحثا عن الماء والغذاء.

يعلم بالموجات الكهربائية والغازات المختلفة ، بذرّات الهواء التي تنفذ في الأرض ، يعلم بالكائنات الحيّة التي تشقّ طريقها فيها ، ويعطيها الحياة.

وكذلك ، يعلم بالكنوز والدفائن وأجساد الموتى من الإنسان وغيره نعم إنّه

__________________

(١) فاطر ، ٣٤.

(٢) يونس ، ١٠

٣٨٣

مطّلع على كلّ هذا.

وكذلك فهو عارف وعالم بالنباتات التي تخرج من الأرض ، والناس الذين يبعثون منها ، بالعيون التي تفور بالماء منها ، بالغازات التي تتصاعد منها ، بالبراكين التي تلوّح بجحيمها ، بالحشرات التي تتّخذ أو كارا فيها ، وتخرج منها.

والخلاصة ، فهو عالم بكلّ الموجودات التي تلج الأرض وتخرج منها أعمّ ممّا نعلمه أو ما لا نعلمه.

ثمّ يضيف قائلا :( وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها ) .

فهو يعلم بحبّات المطر ، وبأشعّة الشمس التي تنثر الحياة ، بأمواج الوحي والشرائع السماوية العظيمة ، وبالملائكة التي تهبط إلى الأرض لإبلاغ الرسالات أو أداء الأوامر الإلهيّة المختلفة. بالأشعة الكونية التي تدخل جو الأرض من الفضاء الخارجي ، بالشهب والذرّات المضطربة في الفضاء والتي تهوي نحو الأرض ، فهو تعالى محيط بهذا كلّه.

وكذلك فإنّه يعلم بأعمال العباد التي تعرج إلى السماء ، والملائكة التي تقفل صاعدة إلى السماء بعد أداء تكاليفها ، وبالشياطين الذين يرتقون إلى السماء لاستراق السمع ، وبفروع الأشجار التي تتطلّع برؤوسها إلى السماء ، وبالأبخرة التي تتصاعد من البحار إلى أعالي السماء لتتكاثف مكونة سحبا. وبالآهات التي تنطلق من قلب المظلوم متصاعدة إلى السماء نعم هو عالم بكلّ ذلك.

فهل هناك من مطّلع على كلّ ذلك غيره تعالى؟ وهل يمكن لعلوم جميع العلماء مجتمعة أن تحيط ولو بجزء من هذه المعلومات؟

وفي ختام الآية يضيف تعالى :( وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) .

لقد وصف الله تعالى نفسه بهاتين الصفتين إمّا لأجل أنّه من جملة الأمور التي تعرج إلى السماء أعمال العباد وأرواحهم فيشملها برحمته

أو لأنّ نزول البركات والعطايا السماوية تترشّح من رحمته ، والأعمال

٣٨٤

الصالحة المتصاعدة من العباد مشمولة بغفرانه بمقتضى( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

أو لكون «الرحمة» تشمل من يشكر هذه النعم ، و «الغفران» يشمل المقصّرين في ذلك.

والخلاصة : أنّ الآية أعلاه ، لها معان واسعة من جميع الوجوه ، ولا يجب حصر مؤدّاها في معنى واحد.

* * *

٣٨٥

الآيات

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) )

التّفسير

أقسم بالله لتأتينكم القيامة :

تتعرّض الآيات مورد البحث إلى موضع التوحيد وصفات الله في نفس الوقت الذي تهيء أرضيّة لموضوع المعاد ، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلّا عن طريق العلم اللامتناهي للباريّعزوجل ، كما سنرى.

لذا فإنّ الآيات مورد البحث تبدأ أوّلا بقوله تعالى :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ) . فما هو إلّا كذب وافتراء ، بل إنّ القيامة لا تأتي أحدا من الناس.

٣٨٦

ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الإعتقادات ، الحساب والكتاب والعدل والجزاء ، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.

ولكنّ القرآن بناء على وضوح أدلّة القيامة يخاطب الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة حاسمة وفي معرف بيان النتيجة ، فيقول :( قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) .

والتركيز على كلمة «ربّ» لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية. فكيف يمكن أن يكون الله مالكا ومربيا للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي ، ثمّ يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كلّ شيء ، فتكون حياتهم بلا هدف وخلقهم هباء وبلا معنى.

وقد ركّز القرآن في الآية السابعة من سورة التغابن أيضا على هذا الوصف ، فقال تعالى :( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ) .

وبما أنّ أحد إشكالات الكافرين بالمعاد ، هو شكّهم ـ من جانب ـ في إمكانية جمع وإعادة بناء أعضاء الإنسان الميّت بعد تبعثرها وتفسّخها في التراب. وكذلك ـ من جانب آخر ـ في إمكانية وجود من يمكنه النظر في جميع أعمال العباد التي عملوها في السرّ والعلن والظاهر والباطن ، لذا فإنّ الله تعالى يضيف في تتمّة الآية الكريمة( عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (١) .

ولذا ، فلا يغيب عن علمه تبعثر ذرّات جسم الإنسان في التراب ، ولا اختلاطها بسائر الموجودات ، ولا حتّى حلولها في أبدان أناس آخرين عن طريق الغذاء ، ولا يشكّل مشكلة أمام إعادة بنائه من جديد وأعمالهم في هذه الدنيا تبقى محفوظة أيضا ، وإن تغيّر شكلها ، فهو سبحانه المحيط بها علما.

__________________

(١) «يعزب» : من مادة «عزوب» وتعني المتباعد في طلب الكلأ عن أهله ، يقال عزب يعزب ويعزب ثمّ اطلق على كلّ غائب ، يقال رجل عزب ، وامرأة عزبة إذا غاب عنها زوجها.

٣٨٧

وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيات الثالثة والرّابعة من سورة (ق) في قوله تعالى :( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ، قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) .

ولكن ما هو المقصود من «الكتاب المبين»؟

أغلب المفسّرين قالوا بأنّه «اللوح المحفوظ» ولكن السؤال هو : ما هو اللوح المحفوظ؟!

وكما ذكرنا سابقا فإنّ أقرب تفسير (للّوح المحفوظ) ، هو «لوح العلم الإلهي اللامتناهي» نعم في ذلك اللوح ضبط وقيّد كلّ شيء ، بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.

وعالم الوجود المترامي الأطراف ، هو الآخر انعكاس عن ذلك اللوح المحفوظ ، بلحاظ أنّ كلّ ذرّات وجودنا وكلّ أقوالنا وأفعالنا ، تبقى محفوظة فيه ، وإن كانت الظواهر تتغيّر ، لكنّها لا تخرج عن حدّها أبدا.

ثمّ يوضّح تعالى الهدف من قيام القيامة في آيتين ، أو بتعبير آخر إعطاء الدليل على لزوم مثل ذلك العالم بعد عالمنا الحالي لمنكري القيامة ، فيقول تعالى :( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) .

فإن لم يجاز المؤمنين بصالح عملهم ثوابا ، أفلا يعني ذلك تعطيل أصل العدالة الذي هو أهم أصل من اصول الخلقة؟ وهل يبقى معنى لعدالة الله بدون ذلك المفهوم؟! في الوقت الذي نرى أنّ أغلب هؤلاء الأفراد الصالحين ، لا يتلقون جزاء أعمالهم الحسنة في هذه الدنيا أبدا ، إذن لا بدّ من عالم آخر لكي يتحقّق فيه هذا الأصل.

تقديم «المغفرة» على «الرزق الكريم» ربّما كان سببه : أنّ أشدّ ما يقلق المؤمنين هو الذنوب التي ارتكبوها ، لذا فإنّ الآية تطمئنهم بعرض المغفرة عليهم أوّلا ، فضلا عن أنّ من لم يغتسل بماء المغفرة الإلهية لن يكون أهلا (للرزق الكريم) والمقام

٣٨٨

الكريم!

(الرزق الكريم) يشمل كلّ رزق ذي قيمة ، ومفهوم ذلك واسع إلى درجة أنّه يشمل كلّ المواهب والعطايا الإلهية ، ومنها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وبتعبير آخر فإنّ «الجنّة» بكلّ نعمها المعنوية والماديّة جمعت في هذه الكلمة ، والبعض فسّر «الكريم» بأمرين : الجيد والخالي من المنغّصات ، ولكن يبدو أنّ مفهوم الكلمة أوسع من ذلك بكثير.

ثمّ تضيف الآية الكريمة التالية ، موضّحة نوعا آخر من العدالة فيما يخصّ عقاب المذنبين والمجرمين ، فيقول تعالى : إنّ الذين كذّبوا آياتنا وسعوا في إنكارها وإبطالها وتصوّروا أنّهم يستطيعون الخلاص من دائرة قدرتنا( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ) .

فهناك كان الحديث عن «الرزق الكريم» وهنا عن «الرجز الأليم».

«الرّجز» : في الأصل بمعنى الاضطراب وعدم القدرة على حفظ التوازن ، ومنه قيل «رجز البعير رجزا» فهو أرجز ، وناقة «رجزاء» إذا تقارب خطوها واضطرب لضعف فيها. وأجبرت على تقصير خطواتها لحفظ توازنها ، ثمّ أطلقت الكلمة على كلّ ذنب ورجس. كذلك فإنّ إطلاق كلمة «الرجز» على المقاطع الشعرية الخاصّة بالنزال في الحرب ، من باب قصر مقاطعها وتقاربها.

على كلّ حال فالمقصود من (الرجز) هنا ، أسوأ أنواع العذاب ـ الذي يتأكّد بإرداف كلمة «الأليم» أيضا وأنواع العقوبات البدنية والروحية الأليمة.

والتفت البعض إلى هذه النكتة ، وهي أنّ القرآن الكريم حين ذكر نعم أهل الجنّة لم يستعمل كلمة «من» ليدلّل على سعتها ، بينما جاءت هذه الكلمة عند ذكر العذاب لتكون دليلا على محدوديته النسبية ، ولتتضح رحمته تبارك وتعالى.

«سعوا» : من السعي ، بمعنى كلّ جهد وجدّ في أمر ، والمقصود منها هنا ، الجدّ

٣٨٩

والجهد في تكذيب وإنكار آيات الحقّ وصدّ الناس عن طريق الله سبحانه وتعالى.

معاجزين : من المعاجزة ، بمعنى معجّزين ، أي مثبّطين ، وفي مثل هذه الموارد تطلق على من يفرّ من شخص آخر بحيث لا يمكّنه من التسلّط عليه ، وبديهي أنّ هذا الوصف يستخدم للمجرمين لتوهمّهم الذي يظهرونه عمليا بهذا الاتّجاه ، وعملهم يشبه إلى حد كبير من يتصوّر أنّه يستطيع القيام بأيّة جناية يشاء ، ثمّ يستطيع الفرار من سلطة القدرة الإلهيّة!!.

* * *

٣٩٠

الآيات

( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) )

التّفسير

العلماء يرون دعوتك إنّها حقّ :

كان الحديث في الآيات السابقة عن عمي البصائر ، المغفّلين الذين أنكروا المعاد مع كلّ تلك الدلائل القاطعة ، وسعوا سعيهم لتكذيب الآيات الإلهية ، وإضلال الآخرين.

٣٩١

وعلى هذا ، فإنّ الآيات مورد البحث ، تتحدّث عن العلماء والمفكّرين الذين صدّقوا بآيات الله وسعوا سعيهم لتشجيع الآخرين على التصديق بها ، يقول تعالى :( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .

فسّر بعض المفسّرين عبارة( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) ، بتلك المجموعة من علماء أهل الكتاب الذين يتّخذون موقف الخضوع والإقرار للحقّ عند مشاهدة آثار حقّانية القرآن الكريم.

وليس هناك مانع من اعتبار علماء أهل الكتاب أحد مصاديق الآية ، ولكن تحديدها بهم يفتقد إلى الدليل ، بل مع الالتفات إلى الفعل المضارع (يرى) وسعة مفهوم( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) يتّضح شمول الآية لكلّ العلماء والمفكّرين في كلّ عصر وزمان ومكان.

وإذا فسّرت بكونها إشارة إلى «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام» ، كما في تفسير علي بن إبراهيم ، فإنّ ذلك توضيح وإشارة إلى أتمّ وأكمل مصاديق الآية.

نعم ، فأي عالم موضوعي وغير متعصّب إذا تأمّل في ما ورد في هذا الكتاب السماوي ، وتدبّر في معارفه العميقة ، وأحكامه المتينة ، ونصائحه الحكيمة ، ومواعظه المؤثّرة في الوجدان إلى قصصه التأريخية المشعّة بالعبرة ، وبحوثه العلمية الإعجازية ، فسيعلم بأنّها جميعا دليل على حقّانية هذه الآيات.

واليوم ، فإنّ هناك كتبا متنوّعة كتبها مفكّرون غربيون وشرقيون حول الإسلام والقرآن ، تحوي اعترافات ظاهرة على عظمة الإسلام وصدق الآية مورد البحث.

التعبير بـ «هو الحقّ» تعبير جامع ينطبق على جميع محتوى القرآن الكريم ، حيث أنّ «الحقّ» هو تلك الواقعة العينية والوجود الخارجي ، أي إنّ محتوى القرآن يتساوق وينسجم مع قوانين الخلق وحقائق الوجود وعالم الإنسانية.

٣٩٢

ولكونه كذلك فهو يهدي إلى صراط الله ، الله «العزيز» و «الحميد» أي أنّه تعالى الأهل لكلّ حمد وثناء وفي ذات الوقت فانّ قدرته غاية القدرة والغلبة ، وليس هو كأصحاب القدرة من البشر الذي يتعامل منطلقا من كونه على عرش القدرة بالدكتاتورية والظلم والتجاوز والتلاعب.

وقد جاء نظير هذا التعبير في الآية الاولى من سورة «إبراهيم» حيث قال جلّ من قائل :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .

وواضح أنّ من كان مقتدرا وأهلا للحمد والثناء ، ومن هو عالم ومطّلع رحيم وعطوف ، من المحتّم أن يكون طريقه أكثر الطرق اطمئنان واستقامة. فمن يسلك طريقه إنّما يقترب من منبع القدرة وكلّ الأوصاف الحميدة.

ويعود تعالى إلى مسألة القيامة والبعث في الآية التي بعدها ، ويكمل البحوث السابقة بطريقة اخرى ، فيقول تعالى :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

يبدو أنّ إصرار ـ هؤلاء الكفّار ـ على إنكار مسألة المعاد يعتمد على أمرين : ـ الأوّل : توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو «المعاد الجسماني» ، أمر يسهل الإشكال عليه والطعن فيه ، وأنّ بإمكانهم تنفير الناس منه فينكرونه بسهولة.

الثّاني : أنّ الإعتقاد بالمعاد ، أو حتّى القبول باحتماله ـ على كلّ حال ـ إنّما يفرض على الإنسان مسئوليات وتعهّدات ، ويضعه وجها لوجه أمام الحقّ ، وهذا ما اعتبره رؤوس الكفر خطرا حقيقيّا ، لذا فقد أصرّوا على إلغاء فكرة المعاد والجزاء الاخروي على الأعمال من أذهان الناس. فقالوا : أيمكن لهذه العظام المتفسّخة ، وهذه الذرّات المبعثرة ، التي تعصف بها الريح من كلّ جانب ، أن تجمع في يوم وتلبس ثوب الحياة من جديد؟

٣٩٣

واستخدامهم لكلمة (رجل) بصيغة النكرة في تعبيرهم عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقصد منه التحقير «وحاشاه».

ولكن فاتهم أنّنا في بدء الخليقة لم نكن إلّا أجزاء مبعثرة ، فكلّ قطرة ماء في أبداننا إنّما كانت قطرة في زاوية من بحر أو ينبوع ماء ، وكلّ ذرّة من مواد أجسامنا ، كانت في جانب من جوانب هذه الأرض المترامية ، وسيجمعها الله تبارك وتعالى في النهاية أيضا كما جمعها في البدء ، وهو على كلّ شيء قدير.

والعجيب أنّهم اعتبروا ذلك دليلا على كذب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو جنونه ، وحاشاه( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) .

وإلّا فكيف يمكن لرجل عاقل أو صادق أن يتفوّه بمثل هذا الحديث!!؟

ولكن القرآن يردّ عليهم بشكل حاسم قائلا :( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) .

فأي ضلال أوضح من أن يرى منكر المعاد بامّ عينيه مثالا لهذا المعاد في عالم الطبيعة في كلّ عام بإحياء الأرض الميتة بالزرع.

المعاد الذي لو لا وجوده لما كان للحياة في هذا العالم أي معنى أو محتوى.

وأخيرا فإنكار المعاد مساو لإنكار قدرة وعدل وحكمة الله جلّ وعلا.

ولكن لماذا يؤكّد تعالى أنّهم الآن في العذاب والضلال؟

ذلك لأنّ الإنسان يواجه في حياته مشاكل وأحداثا لا يمكنه ـ بدون الإيمان بالآخرة ـ تحمّلها ، والحقيقة أنّ الحياة لو حدّت بهذه الأيّام القليلة من عمر الدنيا لكان تصوّر الموت بالنسبة لكلّ إنسان كابوسا مرعبا ، لهذا السبب نرى أنّ منكري المعاد في قلق دائم منغّص وعذاب أليم ، في حال المؤمنين بالمعاد يعتبرون الموت قنطرة إلى عالم البقاء ، ووسيلة لكسر القيود والتحرّر من سجن الدنيا.

نعم ، فالإيمان بالمعاد ، يغمر قلب الإنسان بالطمأنينة ، ويهوّن عليه المشكلات ، ويجعله أكثر قدرة على الإيثار والفداء والتضحية.

٣٩٤

أمّا الذين يرون المعاد ـ لجهلهم وكفرهم ـ دليلا على الكذب أو الجنون ، إنّما يأسرون أنفسهم في عذاب العمى ، والضلال البعيد.

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبروا هذا العذاب إشارة إلى عذاب الآخرة ، ولكنّ ظاهر الآية يدلّل على أنّهم أسرى هذا العذاب والضلال الآن وفي هذه الدنيا.

ثمّ ينتقل القرآن الكريم لتقديم دليل آخر عن المعاد ، مقترن بتهديد الغافلين المعاندين فيقول تعالى :( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

فإنّ هذه السماء العظيمة بكلّ عجائبها ، بكواكبها الثابتة والسيّارة ، وبالأنظمة التي تحكمها ، وكذلك الأرض بكلّ مدهشاتها وأنواع موجوداتها الحيّة ، وبركاتها ومواهبها ، لأوضح دليل على قدرة الخلّاق العظيم.

فهل أنّ القدير على كلّ هذه الأمور ، عاجز عن إعادة الإنسان بعد الموت إلى الحياة؟

وهذا هو «برهان القدرة» الذي استدلّ به القرآن الكريم في آيات اخرى في مواجهة منكري المعاد ، ومن جملة هذه الآيات ، الآية (٨٢) من سورة يس. الآية (٩٩) من سورة الإسراء والآيتين (٦ و٧) من سورة ق.

ونشير إلى أنّ هذه الجملة كانت مقدّمة لتهديد تلك الفئة المتعصّبة من ذوي القلوب السوداء ، الذين يصّرون على عدم رؤية كلّ هذه الحقائق. لذا يضيف تعالى قائلا :( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ ) فنأمر الأرض فتنشقّ بزلزلة مهولة وتبتلعهم ، أو نأمر السماء فترميهم بقطعات من الحجر وتدمّر بيوتهم وتهلكهم( أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) أجل ، إنّ في هذا الأمر دلائل واضحة على قدرة الله تعالى على كلّ شيء ، ولكن يختّص بإدراك ذلك كلّ إنسان يتدبّر في مصيره ويسعى في الإنابة إلى الله( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) .

لا بدّ أن سمع أو شاهد كلّ منّا نماذج من الزلازل أو الخسف في الأرض ، أو

٣٩٥

سقوط النيازك من السماء ، أو بتساقط وتناثر صخور الجبال بسبب صاعقة أو انفجار بركان ، وكلّ عاقل يدرك إمكانية حصول مثل هذه الأمور في أيّة لحظة وفي أيّ مكان من العالم ، فإذا كانت الأرض هادئة تحت أقدامنا ، والسماء آمنة فوق رؤوسنا ، فلأنّها كذلك بقدرة اخرى وبأمر من آمر ، فكيف نستطيع ـ ونحن المحكومون بقدرته في كلّ طرفة عين ـ إنكار قدرته على البعث بعد الموت ، أو كيف نستطيع الفرار من سلطة حكومته!!.

* * *

هنا يجب الالتفات إلى جملة امور :

١ ـ يعبّر القرآن الكريم هنا عن السماء التي فوق رؤوسنا ، والأرض التي تحت أقدامنا بـ( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) و( ما خَلْفَهُمْ ) . وهو المورد الوحيد الذي يلاحظ فيه مثل هذا التعبير. وهذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ قدرة وعظمة الله أظهر في السماء وقت طلوع أو غروب الشمس وظهور القمر والنجوم فيها. ونعلم أنّ من يقف غالب باتّجاه الأفق تكون السماء بين يديه ، والأرض التي تأتي بالدرجة الثّانية من الأهميّة اطلق عليها( ما خَلْفَهُمْ ) .

كذلك هي إشارة إلى هؤلاء المغرورين أنّهم إن لم يجيزوا لأنفسهم النظر إلى ما فوق رؤوسهم ، فلا أقل من أن ينظروا إلى ما بين أيديهم في جوار الأفق.

٢ ـ نعلم بأنّنا نعيش بين مصدرين عظيمين من مصادر الخطر على حياتنا :

أوّلهما : باطن الكرة الأرضية المشتعل الذي هو عبارة عن صخور مذابة ومشتعلة وفي حالة من الفوران ، وفي الحقيقة فإنّ حياة جميع البشر فوق مجموعة من البراكن ـ بالقوّة ـ وبمجرّد صدور أمر إلهي صغير ينطلق أحد هذه البراكين ليهزّ منطقة عظيمة من الأرض وينثر عليها الأحجار الملتهبة والمواد المعدنية المذابة المشتعلة.

٣٩٦

وثانيهما : مئات الآلاف من الأحجار الصغيرة والكبيرة السابحة في الفضاء الخارجي تنجذب نحو الأرض يوميا بفعل جاذبيتها ، ولو لا احتراقها نتيجة اصطدامها بالغلاف الغازي ، لكنّا هدفا «لمطر حجري» بشكل متواصل ليل نهار ، وأحيانا تكون أحجامها وسرعتها وقوّتها إلى درجة أنّها تتخطّى ذلك المانع وتنطلق باتّجاه الأرض لتصطدم بها. وهذا واحد من الأخطار السماوية ، وعليه فإذا كنّا نعيش وسط هذين المصدرين الرهيبين للخطر ، بمنتهى الأمن والأمان بأمر الله ، أفلا يكفي ذلك لأن نتوجّه إلى جلال قدرته العظيمة ونسجد تعظيما وطاعة له!!.

٣ ـ من الجدير بالملاحظة أنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث أشارت إلى( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) ولكنّها حدّدت( لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) . والإشارة تستبعد ذلك المتمرّس بالعصيان الذي خلع عن رقبته طوق العبودية لله سبحانه وتعالى ، والغافلين الذين أداموا السير في الطريق الخاطئة الملوّثة بالخطايا واستبعدوا عن أذهانهم ـ كليا ـ التوبة والإنابة ، فهؤلاء أيضا لا يمكنهم الانتفاع من هذه الآية المشرقة ، لأنّ وجود الشمس الساطعة لا يكفي وحده لتحصل الرؤية ، بل يستلزم أيضا العين المبصرة وارتفاع الحجاب بينهما.

* * *

٣٩٧

الآيتان

( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) )

التّفسير

المواهب الإلهية العظيمة لداود :

بناء على ما مرّ ذكره في آخر المجموعة السابقة من الآيات وما قلناه حول «العبد المنيب» والثواب. ولعلمنا بأنّ هذا الوصف قد ذكر للنبي داودعليه‌السلام (في الآية ٢٤ من سورة ص) ـ كما سيرد شرحه بإذن الله ـ فالأفضل من أن نتعرّض لجانب من حياة هذا النّبيعليه‌السلام كمثال للإنابة والتوبة وإكمال البحث السابق. وهي أيضا تنبيه لكل من يغمط نعم الله ويتناساها ، ويتخلّى عن عبوديته لله عند جلوسه على مسند القدرة والسلطة.

في الآية الاولى يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً ) .

مفردة «فضل» ذات معنى وسيع ، يشمل كلّ المواهب التي تفضّل الله بها على داود ، وزادها التنكير سعة ودلّل على عظمة تلك المواهب.

٣٩٨

فقد شمل داود بالمواهب العظيمة سواء من الناحية المادية أو المعنوية ، وقد تعرّض القرآن الكريم مرارا لذكرها.

ففي موضع يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) .(١)

وفي موضع آخر يقول تعالى على لسان داود( يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) .(٢)

وسترد ضمن حديثنا حول آخر هذه الآيات ، معجزات مختلفة تمثّل جزءا من هذا الفضل العظيم ، وكذلك الصوت الباهر ، والقدرة العالية على القضاء العادل التي أشير إليها في سورة (ص) تمثّل لونا آخر من ذلك الفضل الإلهي ، وأهمّ من ذلك كلّه النبوّة والرسالة التي شرّف بها داود.

وعلى كلّ حال ، فبعد هذه الإشارة الإجمالية العامّة ، تبدأ الآية بشرح وتوضيح جوانب من الفضائل المعنوية والمادية التي تمتّع بها داود ، فيقول تعالى :( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) .

كلمة «أوّبي» في الأصل من «التأويب» بمعنى الترجيع وإعادة الصوت في الحلق. وهذا الأصل يستعمل أيضا بمعنى «التوبة» لأنّ حقيقتها الرجوع إلى الله.

ومع أنّ كلّ ذرّات الوجود تذكر الله وتسبّح بحمده ، سواء سبّح داودعليه‌السلام معها أو لم يسبّح ، ولكن الميزة التي خصّ بها داود هي أنّه ما إن يرفع صوته ويبدأ التسبيح ، إلّا ويظهر ما كان خفيّا وكامنا في الموجودات ، وتتبدل الهمهمة الباطنية إلى نغمة علنية منسجمة ، كما ورد في الروايات من تسبيح الحصاة في يد الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام عند ذكره لقصّة داود «إنّه خرج يقرأ الزبور ،

__________________

(١) النمل ، ١٥.

(٢) النمل ، ١٦.

٣٩٩

وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّا أجابه»(١) .

وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية ، تذكر الآية فضيلة مادية اخرى فتقول :( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) .

يمكن القول ، بأنّ الله تعالى علّم داود ـ إعجازا ـ ما استطاع بواسطته تليين الحديد حتّى يمكنه من صنع أسلاك رقيقة وقوية لنسج الدروع منها ، أو أنّه كان قبل داود يستفاد من صفائح الحديد لصناعة الدروع والإفادة منها في الحروب ، ممّا كان يسبّب حرجا وإزعاجا للمحاربين نتيجة ثقل الحديد من جهة ، وعدم قابلية تلك الدروع للانحناء أو الالتواء حين ارتدائها ، ولم يكن أحد قد استطاع حتّى ذلك اليوم نسج الدروع من أسلاك الحديد الرفيعة المحكمة ، ليكون لباسا يمكن ارتداؤه بسهولة والإفادة من قابليته على التلوّي والانحناء مع حركة البدن برقّة وإنسياب(٢) .

ولكن ظاهر الآية يدلّل على أنّ ليونة الحديد تمّت لداود بأمر إلهي ، فما يمنع الذي أعطى لفرن النار خاصية إلانة الحديد ، أن يعطي هذه الخاصية لداود بشكل آخر ، وقد أشارت بعض الروايات أيضا إلى هذا المعنى.

فقد روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «إنّ الله أوحى إلى داود : نعم العبد أنت إلّا أنّك تأكل من بيت المال ، فبكى داود أربعين صباحا ، فألان الله له الحديد ، وكان يعمل كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعا فباعها بثلاثمائة وستّين ألفا فاستغنى عن بيت المال»(٣) .

صحيح أنّ بيت المال يؤمّن مصارف الأشخاص الذين يقدّمون خدمة مجانية للامّة ، ويتحمّلون الأعباء التي لا يتحمّلها غيرهم ، ولكن ما أروع أن يستطيع

__________________

(١) الميزان ، ج ١٦ ، ص ٣٦٧.

(٢) انظر تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٣٤٣. وتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣١٥.

(٣) مجمع البيان ـ ج ٨ ص ٣٨١.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510