الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156464 / تحميل: 5909
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أيضا ، وعند ما سألوا «أحمد» ـ إمام السنّة المعروف ـ عن الغناء قال : ينبت النفاق.

وقال «مالك» ـ إمام أهل السنّة المعروف ـ مجيبا عن هذا السؤال : يفعله الفسّاق.

وصرّح «الشافعي» بأنّ شهادة أصحاب الغناء غير مقبولة ، وهذا بنفسه دليل على فسق هؤلاء.

ونقل عن أصحاب الشافعي أيضا أنّهم اعتبروا فتوى الشافعي تحريما ، على خلاف ما اعتقده البعض(١) .

٢ ـ ما هو الغناء؟

لا يواجهنا إشكال مهم في حرمة الغناء ، إنّما الإشكال الصعب هو تشخيص موضوع الغناء ، فهل أنّ كلّ صوت حسن غناء؟

من المسلّم أنّ الأمر ليس كذلك ، لأنّه قد ورد في الرّوايات الإسلامية ، وسيرة المسلمين تحكي أيضا ، أن اقرؤوا القرآن وأذّنوا بصوت حسن.

هل أنّ الغناء كلّ صوت فيه ترجيع ـ وهو تردّد الصوت في الحنجرة ـ؟ هذا أيضا غير ثابت.

والذي يمكن استفادته من مجموع كلمات فقهاء وأقوال أهل السنّة في هذا المجال ، أنّ الغناء هو كلّ لحن وصوت يطرب ، ويشتمل على اللهو والباطل.

وبعبارة أوضح : الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس الفسق والفجور ، وأهل المعصية والفساد.

وبتعبير آخر : الغناء يقال للصوت الذي يحرّك القوى الشهوانية في الإنسان ، بحيث يشعر الإنسان في تلك الحال بأنّه لو كان إلى جانب هذا الصوت خمر

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢١

ومسكر وإباحة وفساد جنسي ، لكان ذلك مناسبا جدّا!

وهناك مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ بعض الألحان تعدّ أحيانا غناء ولهوا باطلا بذاتها ومحتواها ، مثال ذلك أشعار العشق والغرام والأشعار المفسدة التي تقرأ بألحان وموسيقى راقصة.

وقد تكون الألحان بذاتها غناء أحيانا اخرى ، مثال الأشعار الجيدة ، أو آيات القرآن والدعاء والمناجاة التي تقرأ بلحن يناسب مجالس الفاسدين والفسّاق ، وهو حرام في كلام الصورتين «فتأمّل».

وثمّة مسألة ينبغي ذكرها ، وهي أنّه يذكر للغناء معنيان : معنى عامّ ، ومعنى خاصّ ، والمعنى الخاصّ هو ما ذكرناه أعلاه ، أي الموسيقى والألحان التي تحرّك الشهوات ، وتناسب مجالس الفسق والفجور.

والمعنى العامّ هو كلّ صوت حسن ، فمن فسّر الغناء بالمعنى العامّ قسّمه إلى قسمين : غناء حلال ، وغناء حرام.

والمراد من الغناء الحرام : هو ما قيل أعلاه ، والمراد من الغناء الحلال : الصوت الحسن الجميل والذي لا يكون باعثا على الفساد ، ولا يناسب مجالس الفسق والفجور.

وبناء على هذا فلا يوجد اختلاف ـ تقريبا ـ في أصل تحريم الغناء ، بل الاختلاف في كيفية تفسيره.

ومن الطبيعي أن يكون للغناء موارد شكّ ـ ككلّ المفاهيم الاخرى ـ وأنّ الإنسان لا يعلم حقّا هل أنّ الصوت الفلاني يناسب مجالس الفسق والفجور ، أم لا؟ وفي هذه الصورة يحكم بالحلّية بحكم أصل البراءة ، وهذا ـ طبعا ـ بعد الإحاطة الكافية بالمفهوم العرفي للغناء طبق التعريف أعلاه.

ومن هنا يتّضح أنّ الأصوات والموسيقى الحماسية التي تناسب ساحات الحرب أو الرياضة وأمثالها لا دليل على حرمتها.

٢٢

ومن الطبيعي أنّ هناك بحوثا أخرى في باب الغناء ، من قبيل بعض الاستثناءات التي قبلها جماعة وأنكرها آخرون ، ومسائل أخرى ينبغي الكلام عنها في الكتب الفقهيّة.

والكلام الأخير هو أنّ ما ذكر أعلاه يتعلّق بالغناء ، وأمّا استعمال الآلات الموسيقية وحرمتها ، فهو بحث آخر خارج عن هذا الموضوع.

٣ ـ فلسفة تحريم الغناء :

إنّ التدقيق في مفهوم الغناء ـ مع الشروط التي قلناها في شرح هذا المفهوم ـ تجعل الغاية من تحريم الغناء واضحة جدّا.

فبنظرة سريعة إلى معطيات الغناء سنواجه المفاسد أدناه :

أوّلا : الترغيب والدعوة إلى فساد الأخلاق.

لقد بيّنت التجربة ـ والتجربة خير شاهد ـ أنّ كثيرا من الأفراد الواقعين تحت تأثير موسيقى وألحان الغناء قد تركوا طريق التقوى ، واتّجهوا نحو الشهوات والفساد.

إنّ مجلس الغناء ـ عادة ـ يعدّ مركزا لأنواع المفاسد ، والدافع على هذه المفاسد هو الغناء.

ونقرأ في بعض التقارير التي وردت في الصحف الأجنبية أنّه كان في مجلس جماعة من الفتيان والفتيات فعزفت فيه موسيقى خاصّة وعلى نمط خاص من الغناء ، فهيّجت الفتيان والفتيات إلى الحدّ الذي هجم فيه بعضهم على البعض الآخر ، وعملوا من الفضائح ما يخجل القلم عن ذكره.

وينقل في تفسير (روح المعاني) حديثا عن أحد زعماء بني أميّة أنّه قال لهم : إيّاكم والغناء فإنّه ينقص الحياء ، ويزيد في الشهوة ، ويهدم المروءة ، وإنّه ينوب عن

٢٣

الخمر ، ويفعل ما يفعل السكر(١) . وهذا يبيّن أنّه حتّى أولئك كانوا مطّلعين على مفاسده أيضا.

وعند ما نرى في الرّوايات الإسلامية : أنّ الغناء ينبت النفاق ، فإنّه إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ روح النفاق هي روح التلوّث بالفساد والابتعاد عن التقوى.

وإذا جاء في الرّوايات أنّ الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه غناء ، فبسبب التلوّث بالفساد ، لأنّ الملائكة طاهرة تطلب الطهارة ، وتتأذّى من هذه الأجواء الملوّثة.

ثانيا : الغفلة عن ذكر الله :

إنّ التعبير باللهو الذي فسّر بالغناء في بعض الرّوايات الإسلامية إشارة إلى حقيقة أنّ الغناء يجعل الإنسان عبدا ثملا من الشهوات حتّى يغفل عن ذكر الله.

وفي الآيات أعلاه قرأنا أنّ «لهو الحديث» أحد عوامل الضلالة عن سبيل الله ، وموجب للعذاب الأليم.

في حديث عن عليعليه‌السلام : «كلّ ما ألهى عن ذكر الله (وأوقع الإنسان في وحل الشهوات) فهو من الميسر»(٢) ـ أي في حكم القمار ـ.

ثالثا : الإضرار بالأعصاب :

إنّ الغناء والموسيقى ـ في الحقيقة ـ أحد العوامل المهمّة في تخدير الأعصاب ، وبتعبير آخر : إنّ الموادّ المخدّرة ترد البدن عن طريق الفمّ والشرب أحيانا كالخمر ، وأحيانا عن طريق الشمّ وحاسّة الشمّ كالهيروئين ، وأحيانا عن طريق التزريق كالمورفين ، وأحيانا عن طريق حاسّة السمع كالغناء.

ولهذا فإنّ الغناء والموسيقى المطربة قد تجعل الأفراد منتشين أحيانا إلى حدّ يشبهون فيه السكارى ، وقد لا يصل إلى هذه المرحلة أحيانا ، ولكنّه يوجد تخديرا

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، الجزء ٢١ ، صفحة ٦٠.

(٢) وسائل الشيعة ، الجزء ١٢ ، صفحة ٢٣٥.

٢٤

خفيفا ، ولهذا فإنّ كثيرا من مفاسد المخدّرات موجودة في الغناء ، سواء كان تخديره خفيفا أم قويّا.

«إنّ الانتباه بدقّة إلى سيرة مشاهير الموسيقيين يبيّن أنّهم قد واجهوا تدريجيّا مصاعب وصدمات نفسية خلال مراحل حياتهم حتّى فقدوا أعصابهم شيئا فشيئا ، وابتلي عدد منهم بأمراض نفسية ، وجماعة فقدوا مشاعرهم وساروا إلى دار المجانين ، وبعضهم أصيبوا بالشلل والعجز ، وبعضهم أصيب بالسكتة ، حيث ارتفع ضغط الدم عندهم أثناء عزف الموسيقى»(١) .

وقد جاء في بعض الكتب التي كتبت في مجال لآثار المضرّة للموسيقى على أعصاب الإنسان ، حالات جمع من الموسيقيين والمغنّين المعروفين الذين أصيبوا بالسكتة وموت الفجأة أثناء أداء برامجهم ، وزهقت أرواحهم في ذلك المجلس(٢) .

وخلاصة القول فإنّ الآثار المضرّة للغناء والموسيقى على الأعصاب تصل إلى حدّ إيجاد الجنون ، وتؤثّر على القلب وتؤدّي إلى ارتفاع ضغط الدم وغير ذلك من الآثار المخرّبة.

ويستفاد من الإحصاءات المعدّة للوفيّات في عصرنا الحالي بأنّ معدّل موت الفجأة قد إزداد بالمقارنة مع السابق ، وقد ذكروا أسبابا مختلفة كان من جملتها الغناء والموسيقى.

رابعا : الغناء أحد وسائل الاستعمار :

إنّ مستعمري العالم يخافون دائما من وعي الشعوب ، وخاصّة الشباب ، ولذلك فإنّ جانبا من برامجهم الواسعة لاستمرار وإدامة الاستعمار هو إغراق المجتمعات بالغفلة والجهل والضلال ، وتوسعة وسائل اللهو المفسدة.

إنّ المخدّرات لا تتّصف اليوم بصفة تجارية فقط ، بل هي أحد الوسائل

__________________

(١) تأثير الموسيقى على النفس والأعصاب ، صفحة ٢٦.

(٢) يراجع المصدر السابق صفحة ٩٢ وما بعدها.

٢٥

السياسية المهمّة ، فإنّ السياسات الاستعمارية تسعى إلى إيجاد مراكز الفحشاء ونوادي القمار ووسائل اللهو الفاسدة الاخرى ، ومن جملتها توسعة ونشر الغناء والموسيقى ، وهي من أهمّ الوسائل التي يصرّ عليها المستعمرون لتخدير أفكار الناس ، ولهذا فإنّ الموسيقى تشكّل القسم الأكبر من وقت إذا عات العالم ووسائل الإعلام الأساسية.

* * *

٢٦

الآيتان

( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) )

التّفسير

هذا خلق الله :

مواصلة للبحث حول القرآن والإيمان به في الآيات السابقة ، تتحدّث الآيتان أعلاه عن أدلّة التوحيد الذي هو أهمّ الأصول العقائدية.

تشير الآية الاولى إلى خمسة أقسام من مخلوقات الله التي ترتبط مع بعضها ارتباطا وثيقا لا ينفصل ، وهي : خلق السماء ، وكون الكواكب معلّقة في الفضاء ، وخلق الجبال لتثبيت الأرض ، ثمّ خلق الدواب ، وبعد ذلك الماء والنباتات التي هي وسيلة تغذيتها ، فتقول :( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) .

(العمد) جمع (عمود) ، وتقييد بنائها وإقامتها بـ( تَرَوْنَها ) دليل على أنّه ليس لهذه السماء أعمدة مرئيّة ، ومعنى ذلك أنّ لها أعمدة إلّا أنّها غير قابلة للرؤية ، وكما

٢٧

قلنا قبل هذا في تفسير سورة الرعد أيضا ، فإنّ هذا التعبير إشارة لطيفة إلى قانون الجاذبيّة الذي يبدو كالعمود القويّ جدّا ، إلّا أنّه غير مرئيّ ، يحفظ الأجرام السماوية.

وقد صرّح في حديث رواه حسين بن خالد ، عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، أنّه قال : «سبحان الله! أليس الله يقول :( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ؟ قلت : بلى ، قال : «ثمّ عمد ولكن لا ترونها»(١) (٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الجملة أعلاه أحد معاجز القرآن المجيد العلميّة ، وقد أوردنا تفصيلا أكثر عنها في ذيل الآية (٢) من سورة الرعد.

ثمّ تقول الآية في الغاية من خلق الجبال :( وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) (٣) .

إنّ هذه الآية التي لها نظائر كثيرة في القرآن ، توضّح أنّ الجبال وسيلة لتثبيت الأرض ، وقد تثبت هذه الحقيقة اليوم من الناحية العلميّة من جهات عديدة :

فمن جهة أنّ أصولها مرتبطة مع بعضها ، وهي كالدرع المحكم يحفظ الكرة الأرضية أمام الضغوط الناشئة من الحرارة الداخلية ، ولو لا هذه الجبال فإنّ الزلازل المدمّرة كانت ستبلغ حدّا ربّما لا تدع معه للإنسان مجالا للحياة.

ومن جهة أنّ هذه السلسلة المحكمة تقاوم جاذبية القمر والشمس الشديدة ، وإلّا فسيحدث جزر ومدّ عظيمان في القشرة الأرضية أقوى من جزر ومدّ البحار ، وتجعل الحياة بالنسبة للإنسان مستحيلة.

ومن جهة أنّها تقف سدّا أمام العواصف والرياح العاتية ، وتقلّل من تماسّ الهواء

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٢ ، صفحة ٢٧٨.

(٢) إنّ الذين اعتبروا الآية أعلاه دليلا على نفي العمد مطلقا لا بدّ لهم من التقديم والتأخير في الآية ليقولوا : إنّ أصل الجملة كانت : خلق السماوات ترونها بغير عمد ، وهذا خلاف الظاهر قطعا.

(٣) «تميد» من (الميد) أي تزلزل الأشياء واضطرابها اضطرابا عظيما ، وجملة (أن تميد بكم) في تقدير : لئلّا تميد بكم.

٢٨

المجاور للأرض عند دوران الأرض حول نفسها إلى أقلّ حدّ ، ولو لم تكن هذه الجبال لكان سطح الأرض كالصحاري اليابسة ، وعرضة للأعاصير والزوابع المهلكة ، والعواصف الهوجاء المدمّرة ليل نهار(١) .

وبعد ذكر نعمة استقرار السماء بأعمدة الجاذبية. واستقرار وثبات الأرض بواسطة الجبال ، تصل النوبة إلى خلق الكائنات الحيّة واستقرارها ، بحيث تستطيع أن تضع أقدامها في محيط هادئ مطمئن ، فتقول :( وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ) .

إنّ التعبير بـ( مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ) إشارة إلى تنوّع الحياة في صور مختلفة ، ابتداء من الكائنات الحيّة المجهرية والتي ملأت جميع الأرجاء إلى الحيوانات العملاقة والمخوفة.

وكذلك الحيوانات المختلفة الألوان ، والمتفاوتة الأشكال التي تعيش في الماء والهواء من الطيور والزواحف ، والحشرات المختلفة وأمثالها ، والتي لكلّ منها عالمها الخاصّ تعكس الحياة في مئات الآلاف من المرايا.

إلّا أنّ من المعلوم أنّ هذه الحيوانات تحتاج إلى الماء والغذاء ، ولذلك فإنّ الجملة التالية أشارت إلى هذا الموضوع ، فقالت :( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .

وبهذا فإنّ الآية تبيّن أساس حياة كلّ الحيوانات ـ وخاصّة الإنسان ـ والذي يكوّنه الماء والنبات ، فالكرة الأرضية تعتبر سماطا واسعا ذا أغذية متنوّعة يمتدّ في جميع أنحائها ، ويصلح لكلّ نوع منها حسب خلقته ، ممّا يدلّ على عظمة الخالق جلّ وعلا.

وممّا يستحقّ الانتباه هو أنّه في بيان خلق الأقسام الثلاثة الاولى ذكرت الأفعال بصيغة الغائب ، وحين وصل الأمر إلى نزول المطر ونمو النباتات أتت

__________________

(١) لمزيد الاطلاع حول فوائد الجبال راجع ذيل الآية (٣) من سورة الرعد.

٢٩

الأفعال بصيغة المتكلّم ، فيقول : نحن أنزلنا من السماء ماء ، ونحن أنبتنا النباتات في الأرض.

وهذا بنفسه أحد فنون الفصاحة ، حيث إنّهم عند ما يريدون ذكر امور مختلفة ، فإنّهم يبيّنونها بشكلين أو أكثر ، كي لا يشعر السامع بأيّ نوع من الضجر والرتابة ، إضافة إلى أنّ هذا التعبير يوضّح أنّ نزول المطر ونمو النبات كانا محطّ اهتمام خاصّ.

ثمّ تشير هذه الآية مرّة أخرى إلى مسألة (الزوجيّة في عالم النباتات) وهي أيضا من معجزات القرآن العلميّة ، لأنّ الزوجيّة ـ أي وجود الذكر والأنثى ـ في عالم النباتات لم تكن ثابتة في ذلك الزمان بصورة واسعة ، والقرآن كشف الستار عنها. ولزيادة التفصيل حول هذه المسألة يمكنكم مراجعة ذيل الآية (٧) من سورة الشعراء.

ثمّ إنّ وصف أزواج النباتات بـ «الكريم» إشارة ضمنية إلى أنواع المواهب الموجودة فيها.

بعد ذكر عظمة الله في عالم الخلقة ، وذكر صور مختلفة من المخلوقات ، وجّهت الآية الخطاب إلى المشركين ، وجعلتهم موضع سؤال واستجواب ، فقالت :( هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) ؟!

من المسلّم أنّ أولئك لم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون أيّ من المخلوقات من خلق الأصنام ، وعلى هذا فإنّهم كانوا يقرّون بتوحيد الخالق ، مع هذا الحال كيف يستطيعون تعليل الشرك في العبادة؟! لأنّ توحيد الخالق دليل على توحيد الربّ وكون مدبّر العالم واحدا ، وهو دليل على توحيد العبوديّة.

ولذلك اعتبرت الآية عمل أولئك منطبقا على الظلم والضلال ، فقالت :( بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ومعلوم أنّ «الظلم» له معنى واسعا يشمل وضع كلّ شيء في غير موضعه ، ولمّا

٣٠

كان المشركون يربطون العبادة ، وتدبير العالم أحيانا بالأصنام ، فإنّهم كانوا مرتكبين لأكبر ظلم وضلالة.

ثمّ إنّ التعبير أعلاه يتضمّن إشارة لطيفة إلى ارتباط «الظلم» و «الضلال» ، لأنّ الإنسان عند ما لا يعرف مكانة الموجودات الموضوعية في العالم ، أو يعرفها ولا يراعيها ، ولا يرى كلّ شيء في مكانه ، فمن المسلّم أنّ هذا الظلم سيكون سببا للضلالة والضياع.

* * *

٣١

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) )

التّفسير

احترام الوالدين :

لتكميل البحوث السابقة حول التوحيد والشرك ، وأهميّة وعظمة القرآن ، والحكمة التي استعملت واتّبعت في هذا الكتاب السماوي ، فقد ورد الكلام في هذه الآيات التي التي نبحثها والآيات الاخرى التالية عن لقمان الحكيم ، وعن جانب

٣٢

من المواعظ المهمّة لهذا الرجل المتألّه في باب التوحيد ومحاربة الشرك ، وقد انعكست المسائل الأخلاقيّة المهمّة في مواعظ لقمان لابنه.

إنّ هذه المواعظ العشرة التي ذكرت ضمن ستّ آيات ، قد بيّنت بأسلوب رائع المسائل العقائدية ، إضافة إلى أصول الواجبات الدينيّة والمباحث الأخلاقية.

وسنبحث فيما بعد ـ في بحث الملاحظات ـ إن شاء الله تعالى ، من هو لقمان؟ وأيّة خصائص كان يمتلكها؟ ولكنّ ما نذكره هنا هو أنّ القرائن تبيّن أنّه لم يكن نبيّا ، بل كان رجلا ورعا مهذّبا انتصر في ميدان جهاد هوى النفس ، فكان أن فجّر الله تعالى في قلبه ينابيع العلم والحكمة.

ويكفي في عظمة مقامه أنّ الله قد قرن مواعظه بكلامه ، وذكرها في طيّات آيات القرآن.

أجل عند ما يتنوّر قلب الإنسان بنور الحكمة نتيجة للطهارة والتقوى ، فإنّ الكلام الإلهي يجري على لسانه ، ويقول ما يقوله الله ، ويفكّر بالشكل الذي يرضاه الله! بعد هذا التوضيح الموجز نعود إلى تفسير الآيات :

تقول الآية الاولى :( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (١) .

فما هي الحكمة؟

في معرض الحديث عن ماهية الحكمة ينبغي القول : إنّهم قد ذكروا للحكمة معاني كثيرة ، مثل : معرفة أسرار عالم الوجود ، والإحاطة والعلم بحقائق القرآن ،

__________________

(١) هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل يوجد لجملة (أن اشكر لله) شيء مقدّر أم لا؟ فالبعض يعتقد أنّ جملة (قلنا له) مقدّرة قبلها ، والبعض يقولون : لا تحتاج إلى تقدير ، و (أنّ) في جملة (أن اشكر) تفسيرية ، لأنّ الشكر بنفسه عين الحكمة ، والحكمة عينه. وكلا التّفسيرين يمكن قبوله.

٣٣

والوصول إلى الحقّ من جهة القول والعمل ، ومعرفة الله.

إلّا أنّ كلّ هذه المعاني يمكن جمعها في تعريف واحد ، فالحكمة التي يتحدّث عنها القرآن ، والتي كان الله قد آتاها لقمان ، كانت مجموعة من المعرفة والعلم ، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية.

وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، أنّه قال لهشام بن الحكم في تفسير هذه الآية : «إنّ الحكمة هي الفهم والعقل»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية ، أنّه قال : «أوتي معرفة إمام زمانه»(٢) .

ومن الواضح أنّ كلّا من هذه المفاهيم يعتبر أحد فروع معنى الحكمة الواسع ، ولا منافاة بينها.

وعلى كلّ حال ، فإنّ لقمان بامتلاكه هذه الحكمة كان يشكر الله ، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهيّة ، وكيفيّة استغلالها والاستفادة منها ، وكان يضعها بدقّة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق الهدف الذي خلقت من أجله ، وهذه هي الحكمة ، هي وضع كلّ شيء في موضعه ، وبناء على هذا فإنّ الشكر والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة.

وقد اتّضحت نتيجة الشكر والكفران للنعم بصورة ضمنية في الآية ، وهي أنّ شكر النعمة سيكون من صالح الإنسان وفي منفعته ، وأنّ كفران النعمة سيكون سببا لضرره أيضا ، لأنّ الله سبحانه غنيّ عن العالمين ، فلو أنّ كلّ الممكنات قد شكرته فلا يزيد في عظمته شيء ، ولو أنّ كلّ الكائنات كفرت فلا ينقص من كبريائه شيء! إنّ «اللام» في جملة( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ) لام الإختصاص ، و «اللام» في( لِنَفْسِهِ ) لام النفع ، وبناء على هذا ، فإنّ نفع الشكر ، والذي ودوام النعمة وكثرتها ، إضافة

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٣. كتاب العقل والجهل حديث ١٢.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٤ ، صفحة ١٩٦.

٣٤

إلى ثواب الآخرة يعود على الإنسان نفسه ، كما أنّ مضرّة الكفر تحيق به فقط.

والتعبير بـ( غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) إشارة إلى شكر الناس للأفراد العاديين أمّا أن يؤدّي إلى النفع المادّي للمشكور ، أو زيادة مكانة صاحبه في أنظار الناس ، إلّا أنّ أيّا من هذين الأمرين لا معنى له ولا مصداق في حقّ الله تعالى ، فإنّه غنيّ عن الجميع ، وهو أهل لحمد كلّ الحامدين وثنائهم ، فالملائكة تحمده ، وكلّ ذرّات الوجود والموجودات مشغولة بتسبيحه ، وإذا ما نطق إنسان بالكفر فليس له أدنى تأثير ، فحتّى ذرّات وجوده مشغولة بحمده وثنائه بلسان الحال!

وممّا يجدر ذكره أنّ الشكر قد ذكر بصيغة المضارع ، والذي يدلّ على الاستمرار ، أمّا الكفر فقد جاء بصيغة الماضي الذي يصدق حتّى على المرّة الواحدة ، وهذا إشارة إلى أنّ الكفران ولو لمرّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى عواقب وخيمة مؤلمة ، أمّا الشكر فإنّه لازم ، ويجب أن يكون مستمرّا ليطوي الإنسان مسيره التكاملي.

وبعد تعريف لقمان ومقامه العلمي والحكمي ، أشارت الآية التالية إلى اولى مواعظه ، وهي في الوقت نفسه أهمّ وصاياه لولده ، فقالت :( وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) .

إنّ حكمة لقمان توجب عليه أن يتوجّه قبل كلّ شيء إلى أهمّ المسائل الأساسية ، وهي مسألة التوحيد التوحيد في كلّ المجالات والأبعاد ، لأنّ كلّ حركة هدّامة ضدّ التوجّه الإلهي تنبع من الشرك ، من عبادة الدنيا والمنصب والهوى وأمثال ذلك ، والذي يعتبر كلّ منها فرعا من الشرك.

كما أنّ أساس كلّ الحركات الصحيحة البنّاءة هو التوحيد والتوجّه إلى الله ، وإطاعة أوامره ، والابتعاد عن غيره ، وكسر كلّ الأصنام في ساحة كبريائه!

وممّا يستحقّ الإشارة أنّ لقمان الحكيم قد جعل علّة نفي الشرك هو أنّ الشرك

٣٥

ظلم عظيم ، وقد احيط بالتأكيد من عدّة جهات(١) .

وأيّ ظلم أعظم منه ، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصافّ الله ودرجته ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجرّون الناس إلى الضلال والانحراف ، ويظلمونهم بجناياتهم وجرائمهم ، وهم يظلمون أنفسهم أيضا حيث ينزلونها من قمّة عزّة العبودية لله ويهوون بها إلى منحدر ذلّة العبودية لغيره.

والآيتان التاليتان جمل معترضة ذكرها الله تعالى في طيّات مواعظ لقمان ، لكنّ هذا الاعتراض لا يعني عدم الاتّصال والارتباط ، بل يعني الصلة الواضحة لكلام اللهعزوجل بكلام لقمان ، لأنّ في هاتين الآيتين بحثا عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما ، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر الله.

إضافة إلى أنّهما تعتبران تأكيدا على كون مواعظ لقمان لابنه خالصة ، لأنّ الوالدين مع هذه العلاقة القويّة وخلوص النيّة لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلّا ما فيه خير وصلاح الولد ، فتقول أوّلا :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الامّ العظيمة ، فتقول :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ) (٢) .

وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية ، إذ أوضحت التجارب أنّ الامّهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن ، لأنّهنّ يصرفن خلاصة وجودهنّ في تغذية وتنمية الجنين ، ويقدّمن له من موادهنّ الحياتية أفضلها ، ولذلك فإنّ الامّهات أثناء فترة الحمل يبتلين بنقص أنواع الفيتامينات وفي حالة عدم تعويض هذا النقص فسيؤدّي إلى آلام ومتاعب كثيرة.

وهذا الأمر يستمر حتّى في فترة الرضاعة ، لأنّ اللبن عصارة وجود الامّ ، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) كما أشير إلى ذلك في

__________________

(١) إنّ كلّا من (أن) و «اللام» ، وكون الجملة اسميّة من أدوات التأكيد.

(٢) إنّ جملة (وهنا على وهن) يمكن أن تكون حالا للامّ بتقدير كلمة «ذات» ، فكان تقديرها (حملته أمّه ذات وهن على وهن). واحتمل أيضا أن تكون مفعولا مطلقا لفعل مقدّر من مادّة (وهن) فكان تقديره : (تهن وهنا على وهن).

٣٦

موضع آخر من القرآن :( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (١) ، والمراد فترة الرضاعة الكاملة ، وإن كانت تتمّ أحيانا بفترة أقلّ.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الامّ في هذه ال (٣٣) شهرا ـ فترة الحمل ، وفترة الرضاع ـ تبدي وتقدّم أعظم تضحية لولدها ، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي ، أو الجسمي ، أو من جهة الخدمات والرعاية.

والملفت للنظر هنا أنّها توصي في البداية بالوالدين معا ، إلّا أنّها عند بيان المشاقّ والمتاعب تؤكّد على متاعب الامّ ، لتنبّه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقّها العظيم.

ثمّ تقول :( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصلّي عليك ، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين ، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسئولية إيصال نعمي إليك. فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه!

ويقول الله تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب :( إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) . نعم ، فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كلّ هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقّة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب الله. وكذلك شكر نعمة وجود الأبوين وعواطفهما الصادقة الطاهرة لينجح في ذلك الحساب وتلك المحكمة.

وفي هذا المجال التفت بعض المفسّرين إلى مسألة لطيفة ، وهي أنّه قد ورد التأكيد على رعاية حقوق الأبوين مرارا في القرآن المجيد ، إلّا أنّ التوصية بالأولاد تلاحظ قليلا ـ ما عدا مورد النهي عن قتل الأولاد ، والتي كانت عادة مشؤومة قبيحة واستثنائية في عصر الجاهلية ـ وذلك لأنّ الوالدين ، وبحكم

__________________

(١) البقرة ، ٢٣٣.

٣٧

عواطفهما القويّة ، قلّ ما يهملوا أولادهما بيد النسيان ، في حين يلاحظ بكثرة أنّ الأولاد ينسون الأبوين ، وخاصّة عند الكبر والعجز ، وتعتبر هذه آلم وأشدّ حالة لهما ، وأسوأ صور كفران النعمة بالنسبة للأولاد(١) .

إنّ الوصيّة بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الاشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتّى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان ، لكنّ الآية التالية تقول :( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان بأمّه وأبيه مقدّمة على علاقته بالله مطلقا ، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينيّة أبدا.

جملة( جاهَداكَ ) إشارة إلى أنّ الأبوين قد يظنّان أحيانا أنّهما يريدان سعادة الولد ، ويسعيان إلى جرّه إلى عقيدتهما المنحرفة والإيمان بها ، وهذا يلاحظ لدى كلّ الآباء والامّهات.

إنّ واجب الأولاد أن لا يستسلموا أبدا أمام هذه الضغوط ، ويجب أن يحافظوا على استقلالهم الفكري ، ولا يساوموا على عقيدة التوحيد ، أو يبدّلوها بأيّ شيء.

ثمّ إنّ جملة( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) تشير ضمنا إلى أنّنا لو نتجاهل أدلّة بطلان الشرك ، ولم نقم لها وزنا ، فإنّه لا يوجد دليل على إثباته ، ولا يستطيع أيّ متعنّت إثبات الشرك بالدليل.

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ الشرك إن كانت له حقيقة ، فينبغي أن يكون هناك دليل على إثباته ، ولمّا لم يكن هناك دليل على إثباته ، فإنّ هذا بنفسه دليل على بطلانه.

ولمّا كان من الممكن أيضا أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب استخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم احترامهما ، ولذلك أضافت الآية أنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلا على وجوب قطع العلاقة معهما ، بل تأمره الآية أن

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، الجزء ٦ ، ص ٤٨٤.

٣٨

( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

فلاطفهما وأظهر المحبّة لهما في الحياة الدنيويّة والمعاشرة ، ولا تستسلم لأفكارهما واقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينيّة ، وهذه بالضبط نقطة الاعتدال الأصليّة التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين ، ولذا يضيف بعد ذلك( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ ) لأنّ المصير إليه سبحانه( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

إنّ سبب النفي والإثبات المتلاحق ، والأوامر والنواهي المتتابعة في الآيات أعلاه هو أن يجد المسلمون الخطّ الأصلي ويشخّصوه في مثل هذه المسائل ، حيث يبدو في أوّل الأمر أنّ هناك تناقضا في أداء هذين الواجبين ، فإن تفكّروا قليلا فإنّ المسير الصحيح سيكون نصب أعينهم ، وسيسيرون فيه دون أدنى إفراط ولا تفريط ، وهذه الدقّة واللطافة القرآنية في أمثال هذه الدقائق من صور فصاحة القرآن وبلاغته العميقة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية أعلاه تشبه ما جاء في الآية (٨) من سورة العنكبوت ، حيث تقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وقد أوردنا في ذيل الآية (٨) من سورة العنكبوت سبب نزول لها ذكر في بعض التفاسير.

بحثان

١ ـ من هو لقمان؟

لقد ورد اسم «لقمان» في آيتين من القرآن في هذه السورة ، ولا يوجد في القرآن دليل صريح على أنّه كان نبيّا أم لا ، كما أنّ أسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي بأنّه لم يكن نبيّا ، لأنّه يلاحظ في القرآن أنّ الكلام في شأن الأنبياء عادة يدور حول الرسالة والدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك وانحرافات البيئة ، وعدم

٣٩

المطالبة بالأجر والمكافأة ، وكذلك بشارة الأمم وإنذارها ، في حين أنّ أيّا من هذه الأمور لم يذكر في شأن لقمان ، والذي ورد هو مجموعة مواعظ خاصّة مع ولده (رغم شموليتها وعموميتها) ، وهذا دليل على أنّه كان رجلا حكيما وحسب.

وفي حديثه عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «حقّا أقول : لم يكن لقمان نبيّا ، ولكن كان عبدا كثير التفكّر ، حسن اليقين ، أحبّ الله فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة».

وجاء في بعض التواريخ : أنّ لقمان كان عبدا أسود من سودان مصر ، ولكنّه إلى جانب وجهه الأسود كان له قلب مضيء وروح صافية ، وكان يصدق في القول من البداية ، ولا يمزج الأمانة بالخيانة ، ولم يكن يتدخّل فيما لا يعنيه(١) .

واحتمل بعض المفسّرين نبوّته ، لكن ـ كما قلنا ـ لا يوجد دليل على ذلك ، بل لدينا شواهد واضحة على نقيض ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات : أنّ شخصا سأل لقمان : ألم تكون ترعى معنا؟ قال:نعم.

قال الرجل : فمن أين أتاك كلّ هذا العلم والحكمة؟

قال : قدر الله ، وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، والصمت عمّا لا يعنيني(٢) .

وورد كذلك في ذيل الحديث الذي نقلناه عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كان لقمان نائما نصف النهار ، إذ جاءه نداء : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت : إن خيّرني ربّي قبلت العافية ، ولم أقبل البلاء ، وإن عزم عليّ فسمعا وطاعة ، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني.

فقالت الملائكة : دون أن يراهم : لم يا لقمان؟

قال : لأنّ الحكم أشدّ المنازل وآكدها ، يغشاه الظلم من كلّ مكان ، إن وقي فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي

__________________

(١) قصص القرآن. شرح أحوال لقمان.

(٢) مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

قوله تعالى: ( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) قيد للتكذيب، و فسّروا اليقين بالموت لكونه ممّا لا شكّ فيه فالمعنى و كنّا في الدنيا نكذّب بيوم الجزاء حتّى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنّا نكذّب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقّيّة يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخيّة حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) تقدّم في بحث الشفاعة أنّ في الآية دلالة على أنّ هناك شافعين يشفعون فيشفّعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنّهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٨١

( سورة المدّثّر الآيات 49 - 56)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( 52 ) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

( بيان‏)

في معنى الاستنتاج ممّا تقدّم من الوعيد و الوعد اُورد في صورة التعجّب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفّرهم عن الحقّ الصريح كأنّه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحقّ و يتذكّروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلّا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كلّ امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلّا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثمّ يعرض عليهم التذكرة عرضاً فهم على خيرة من القبول و الردّ فإن شاؤا قبلوا و إن شاؤا ردّوا، لكن عليهم أن يعلموا أنّهم غير مستقلّين في مشيّتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلّا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتّة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) تفريع على ما تقدّم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و( لَهُمْ ) متعلّق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و( مُعْرِضِينَ ) حال من ضمير( لَهُمْ ) و( عَنِ التَّذْكِرَةِ ) متعلّق بمعرضين.

١٨٢

و المعنى: فإذا كان كذلك فأيّ شي‏ء كان - عرض - للمشركين الّذين يكذّبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدّقوا و يؤمنوا لكنّهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشيّة و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسّر بكلّ من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنّهم حمر وحشيّة نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) المراد بالصحف المنشّرة الكتاب السماويّ المشتمل على الدعوة الحقّة.

و في الكلام إضراب عمّا ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرّد النفرة بل يريد كلّ امرئ منهم أن ينزّل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنّهم إنّما يقبلون دعوته و لا يردّونها لو دعا كلّ واحد منهم بإنزال كتاب سماويّ إليه مستقلّاً و أمّا الدعوة من طريق الرّسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقّة مؤيّدة بالآيات البيّنة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) الأنعام: 124، و في معنى قول الاُمم لرسلهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) على ما قرّرنا من حجّتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إنّ الآية في معنى قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي حكاه الله في قوله:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: 93.

و يدفعه أنّ مدلول الآية أن ينزل على كلّ واحد منهم صحف منشّرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

١٨٣

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماويّ على كلّ واحد منهم فإنّ دعوة الرسالة مؤيّدة بآيات بيّنة و حجج قاطعة لا تدع ريباً لمرتاب فالحجّة تامّة قائمة على الرسول و غيره على حدّ سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كلّ واحد من الناس المدعوّين صحفاً منشّرة.

على أنّ الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحيّة النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و قوله:( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) إضراب عن قوله:( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و المراد أنّ اقتراحهم نزول كتاب على كلّ امرئ منهم قول ظاهريّ منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقيّ لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنّهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجّة بظهور الآيات البيّنات.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماويّ لكلّ امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتاباً كذلك إنّ القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعدّ للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أي فمن شاء اتّعظ به فإنّما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) دفع لما يمكن أن يتوهّموه من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أنّ الأمر إليهم و أنّهم

١٨٤

مستقلّون في إرادتهم و ما يترتّب عليها من أفعالهم فإن لم يشاؤا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصّل من الدفع أنّ حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكّرهم إن تذكّروا و إن كان فعلاً اختياريّاً صادراً عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشيّة الإلهيّة متعلّقة به بما هو اختياريّ بمعنى أنّ الله تعالى يريد بإرادة تكوينيّة أن يفعل الإنسان الفعل الفلانيّ بإرادته و اختياره فالفعل اختياريّ ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلّق الإرادة الإلهيّة ضروريّ التحقّق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقّق.

و قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل لأن يتّقى منه لأنّ له الولاية المطلقة على كلّ شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتّقاه لأنّه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) صالحة لتعليل ما تقدّم من الدعوة في قوله:( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) و هو ظاهر، و لتعليل قوله:( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلّين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمرّدهم و استكبارهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) و ذلك أنّهم قالوا: يا محمّد قد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفّارته.

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: يسألك قومك سنّة بني إسرائيل

١٨٥

في الذنوب فإن شاؤا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنّا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره ذلك لقومه.

أقول: و القصّة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدّيّ عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمّد صادقاً فليصبح تحت رأس كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصّة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: إلى فلان بن فلان من ربّ العالمين يصبح عند رأس كلّ رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدّمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: قد قال قائلون من الناس لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سرّك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصّة يأمرنا باتّباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأنّ الآية في معنى قوله تعالى:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) الآية و قد تقدّم ما فيه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: هو أهل أن يتّقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال الله عزّوجلّ: أنا أهل أن اُتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئاً و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئاً أن اُدخله الجنّة.

١٨٦

و قال: إنّ الله تبارك و تعالى أقسم بعزّته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن دينار قال: سمعت أباهريرة و ابن عمر و ابن عبّاس يقولون: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: يقول الله: أنا أهل أن اُتّقى فلا يُجعل معي شريك فإذا اتّقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٧

( سورة القيامة مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة القيامة الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لَا وَزَرَ ( 11 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

( بيان‏)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أوّلاً ثمّ تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان اُخرى، و ينبئ أنّ المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون( لا أُقْسِمُ ) كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنّه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد اُقسم بيوم

١٨٨

القيامة و لا اُقسم بالنفس اللوّامة.

و المراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانيّة أعمّ من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنّها تلوم الإنسان يوم القيامة أمّا الكافرة فإنّها تلومه على كفره و فجوره، و أمّا المؤمنة فإنّها تلومه على قلّة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الّتي تلومه يوم القيامة على ما قدّمت من كفر و معصية قال تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) يونس: 54.

و لكلّ من الأقوال وجه.

و جواب القسم محذوف يدلّ عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثنّ، و إنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: 187 و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه: 15 و قال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) النبأ: 1.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) الحسبان الظنّ، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) أي بلى نجمعها( و قادِرِينَ ) حال من فاعل مدخول بلى المقدّر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورها الّتي هي عليها بحسب خلقنا الأوّل.

و تخصيص البنان بالذكر - لعلّه - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيّات التركيب و العدد تترتّب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة الّتي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافاً إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط الّتي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ.

١٨٩

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئاً واحداً من غير تفريق كخفّ البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئاً واحداً فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدّد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدّم أرجح.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال الراغب: الفجر شقّ الشي‏ء شقّاً واسعاً. قال: و الفجور شقّ ستر الديانة يقال: فجر فجوراً فهو فاجر و جمعه فجّار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيّاً، و ضمير( أَمامَهُ ) للإنسان.

و قوله:( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) تعليل سادّ مسدّ معلّله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و( بَلْ ) إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

و المعنى: أنّه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذّب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه اُخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرّر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرّات.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) الظاهر أنّه بيان لقوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فيفيد التعليل و أنّ السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و اُنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البيّنة و قيام الحجج القاطعة أن يتّخذ حذره و يتجهّز بالإيمان و التقوى و يتهيّأ للقاء اليوم قريباً كان أو بعيداً فكلّ ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيّان يوم القيامة؟ فليس إلّا سؤال مكذّب مستهزئ.

قوله تعالى: ( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) ذكر

١٩٠

جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيّره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي أين موضع الفرار، و قوله:( أَيْنَ الْمَفَرُّ ) مع ظهور السلطنة الإلهيّة له و علمه بأن لا مفرّ و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفرّ إذا وقع في شدّة أو هدّدته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذباً قال تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23، و قال:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: 18.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا وَزَرَ ) ردع عن طلبهم المفرّ، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ‏ ) و هو متعلّق بقوله:( الْمُسْتَقَرُّ ) يفيد الحصر فلا مستقرّ إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

و ذلك أنّ الإنسان سائر إليه تعالى كما قال:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: 8 و قال:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فهو ملاقي ربّه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أمّا الحجاب الّذي يشير إليه قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15 فسياق الآيتين يعطي أنّ المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقرّه إليه رجوع أمر ما يستقرّ فيه من سعادة أو شقاوة و جنّة أو نار إلى مشيّته تعالى فمن شاء جعله في الجنّة و هم المتّقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) المائدة: 40.

١٩١

و يمكن أن يراد به أنّ استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88.

قوله تعالى: ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ) المراد بما قدّم و أخّر ما عمله من حسنة أو سيّئة في أوّل عمره و آخره أو ما قدّمه على موته من حسنة أو سيّئة و ما أخّر من سنّة حسنة سنّها أو سنّة سيّئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيّئات.

و قيل: المراد بما قدّم ما عمله من حسنة أو سيّئة فيثاب على الأوّل و يعاقب على الثاني، و بما أخّر ما تركه من حسنة أو سيّئة فيعاقب على الأوّل و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدّم من المعاصي و ما أخّر من الطاعات، و قيل، ما قدّم من طاعة الله و أخّر من حقّه فضيّعه، و قيل: ما قدّم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) إضراب عن قوله،( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ‏ ) إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطنيّ و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجّة كما في قوله تعالى،( ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) إسراء: 102 و الإنسان نفسه حجّة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلّم يداه و رجلاه، قال تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36، و قال( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) حم السجدة: 20. و قال،( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65.

و قوله:( وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

١٩٢

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال: نفس آدم الّتي عصت فلامها الله عزّوجلّ.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه، في قوله:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، في قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إنّي لأتعشّى مع أبي عبداللهعليه‌السلام و تلا هذه الآية( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) ، ثمّ قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداها إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً و يستر سيّئاً؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.

أقول: و رواه في اُصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العبّاس عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن العيّاشيّ عن زرارة قال، سألت أباعبداللهعليه‌السلام ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال،( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) هو أعلم بما يطيق.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضاً.

١٩٣

( سورة القيامة الآيات 16 - 40)

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 ) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ( 33 ) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 35 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 39 ) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ( 40 )

( بيان‏)

تتمّة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و اُخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أنّ هذا

١٩٤

المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثمّ الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يترك سدىً فالّذي خلقه أوّلاً قادر على أن يحييه ثانياً و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ - إلى قوله -ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمّن أدباً إلهيّاً كلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرّك به لسانه و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرّد للإنصات فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) الخطاب فيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الضميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مرّ في معنى قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) القرآن ههنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتّبع

١٩٥

قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهناً بالإنصات و التوجّه التامّ إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتّبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتكرار حتّى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثمّ للتأخير الرتبيّ لأنّ البيان مترتّب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثمّ إنّ علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغيّر و الزوال حتّى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرّك لسانه عند الوحي بما اُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و اُمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي فضمير( لا تُحَرِّكْ بِهِ‏ ) للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله،( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد

١٩٦

لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثمّ إنّ علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بِهِ) ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ( لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) أي بالعلم به( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخّصاً و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) إنّ هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الروايات أنّ للقرآن نزولاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأنّ خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) اعتراضيّ غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله:( كَلَّا ) ردع عن قوله السابق:( يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) و قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا -( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها

١٩٧

حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله:( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهلّلة ظاهرة المسرّة و البشاشة قال تعالى:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، و قال:( وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الدهر: 11.

و قوله:( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و( إِلى‏ رَبِّها ) متعلّق بناظرة قدّم عليها لإفادة الحصر أو الأهمّيّة.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّيّ المتعلّق بالعين الجسمانيّة المادّيّة الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقّه تعالى بل المراد النظر القلبيّ و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمةعليهم‌السلام و قد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: 143، و قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجّهة إلى ربّهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطّع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفاً من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلّا و الرحمة الإلهيّة شاملة لهم( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) النمل: 89 و لا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنّة و لا يتنعّمون بشي‏ء من نعيمها إلّا و هم يشاهدون ربّهم به لأنّهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئاً إلّا من حيث إنّه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنّها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اُورد على القول بأنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) على( ناظِرَةٌ ) يفيد الحصر و الاختصاص، أنّ من الضروريّ أنّهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنّة.

و الجواب أنّهم لمّا لم يحجبوا عن ربّهم كان نظرهم إلى كلّ ما ينظرون إليه إنّما هو بما أنّه آية، و الآية بما أنّها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين

١٩٨

الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلّا إلى ربّهم.

و أمّا ما اُجيب به عنه أنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) لرعاية الفواصل و لو سلّم أنّه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعدّ نظراً، و لو سلّم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلّف التقييد من غير مقيّد على أنّه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنّة إلى ربّهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فسّر البسور بشدّة العبوس و الظنّ بالعلم و( فاقِرَةٌ ) صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنّه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم اُنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظنّ خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع و الظنّ بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ردع عن حبّهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنّه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربّكم و فاعل( بَلَغَتِ ) محذوف يدلّ عليه السياق كما في قوله تعالى:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه

١٩٩

الأحوال أنّه مفارقته للعاجلة الّتي كان يحبّها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ظاهره أنّ المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدّة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدّة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدّة هول المطّلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد اُخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كلّ من المعاني.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنّه الرجوع إليه، و عبّر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسيّر من يوم موته و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) حتّى يرد على ربّه يوم القيامة و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و لو كان تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربّك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربّك و هو الجنّة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنّه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) إلخ، و المراد بالتصديق المنفيّ تصديق الدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفيّة التوجّه العباديّ إليه تعالى بالصلاة الّتي هي عمود الدين.

و التمطّي - على ما في المجمع - تمدّد البدن من الكسل و أصله أن يلوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510