الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148607
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148607 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

أيضا ، وعند ما سألوا «أحمد» ـ إمام السنّة المعروف ـ عن الغناء قال : ينبت النفاق.

وقال «مالك» ـ إمام أهل السنّة المعروف ـ مجيبا عن هذا السؤال : يفعله الفسّاق.

وصرّح «الشافعي» بأنّ شهادة أصحاب الغناء غير مقبولة ، وهذا بنفسه دليل على فسق هؤلاء.

ونقل عن أصحاب الشافعي أيضا أنّهم اعتبروا فتوى الشافعي تحريما ، على خلاف ما اعتقده البعض(١) .

٢ ـ ما هو الغناء؟

لا يواجهنا إشكال مهم في حرمة الغناء ، إنّما الإشكال الصعب هو تشخيص موضوع الغناء ، فهل أنّ كلّ صوت حسن غناء؟

من المسلّم أنّ الأمر ليس كذلك ، لأنّه قد ورد في الرّوايات الإسلامية ، وسيرة المسلمين تحكي أيضا ، أن اقرؤوا القرآن وأذّنوا بصوت حسن.

هل أنّ الغناء كلّ صوت فيه ترجيع ـ وهو تردّد الصوت في الحنجرة ـ؟ هذا أيضا غير ثابت.

والذي يمكن استفادته من مجموع كلمات فقهاء وأقوال أهل السنّة في هذا المجال ، أنّ الغناء هو كلّ لحن وصوت يطرب ، ويشتمل على اللهو والباطل.

وبعبارة أوضح : الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس الفسق والفجور ، وأهل المعصية والفساد.

وبتعبير آخر : الغناء يقال للصوت الذي يحرّك القوى الشهوانية في الإنسان ، بحيث يشعر الإنسان في تلك الحال بأنّه لو كان إلى جانب هذا الصوت خمر

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢١

ومسكر وإباحة وفساد جنسي ، لكان ذلك مناسبا جدّا!

وهناك مسألة تستحقّ الانتباه ، وهي أنّ بعض الألحان تعدّ أحيانا غناء ولهوا باطلا بذاتها ومحتواها ، مثال ذلك أشعار العشق والغرام والأشعار المفسدة التي تقرأ بألحان وموسيقى راقصة.

وقد تكون الألحان بذاتها غناء أحيانا اخرى ، مثال الأشعار الجيدة ، أو آيات القرآن والدعاء والمناجاة التي تقرأ بلحن يناسب مجالس الفاسدين والفسّاق ، وهو حرام في كلام الصورتين «فتأمّل».

وثمّة مسألة ينبغي ذكرها ، وهي أنّه يذكر للغناء معنيان : معنى عامّ ، ومعنى خاصّ ، والمعنى الخاصّ هو ما ذكرناه أعلاه ، أي الموسيقى والألحان التي تحرّك الشهوات ، وتناسب مجالس الفسق والفجور.

والمعنى العامّ هو كلّ صوت حسن ، فمن فسّر الغناء بالمعنى العامّ قسّمه إلى قسمين : غناء حلال ، وغناء حرام.

والمراد من الغناء الحرام : هو ما قيل أعلاه ، والمراد من الغناء الحلال : الصوت الحسن الجميل والذي لا يكون باعثا على الفساد ، ولا يناسب مجالس الفسق والفجور.

وبناء على هذا فلا يوجد اختلاف ـ تقريبا ـ في أصل تحريم الغناء ، بل الاختلاف في كيفية تفسيره.

ومن الطبيعي أن يكون للغناء موارد شكّ ـ ككلّ المفاهيم الاخرى ـ وأنّ الإنسان لا يعلم حقّا هل أنّ الصوت الفلاني يناسب مجالس الفسق والفجور ، أم لا؟ وفي هذه الصورة يحكم بالحلّية بحكم أصل البراءة ، وهذا ـ طبعا ـ بعد الإحاطة الكافية بالمفهوم العرفي للغناء طبق التعريف أعلاه.

ومن هنا يتّضح أنّ الأصوات والموسيقى الحماسية التي تناسب ساحات الحرب أو الرياضة وأمثالها لا دليل على حرمتها.

٢٢

ومن الطبيعي أنّ هناك بحوثا أخرى في باب الغناء ، من قبيل بعض الاستثناءات التي قبلها جماعة وأنكرها آخرون ، ومسائل أخرى ينبغي الكلام عنها في الكتب الفقهيّة.

والكلام الأخير هو أنّ ما ذكر أعلاه يتعلّق بالغناء ، وأمّا استعمال الآلات الموسيقية وحرمتها ، فهو بحث آخر خارج عن هذا الموضوع.

٣ ـ فلسفة تحريم الغناء :

إنّ التدقيق في مفهوم الغناء ـ مع الشروط التي قلناها في شرح هذا المفهوم ـ تجعل الغاية من تحريم الغناء واضحة جدّا.

فبنظرة سريعة إلى معطيات الغناء سنواجه المفاسد أدناه :

أوّلا : الترغيب والدعوة إلى فساد الأخلاق.

لقد بيّنت التجربة ـ والتجربة خير شاهد ـ أنّ كثيرا من الأفراد الواقعين تحت تأثير موسيقى وألحان الغناء قد تركوا طريق التقوى ، واتّجهوا نحو الشهوات والفساد.

إنّ مجلس الغناء ـ عادة ـ يعدّ مركزا لأنواع المفاسد ، والدافع على هذه المفاسد هو الغناء.

ونقرأ في بعض التقارير التي وردت في الصحف الأجنبية أنّه كان في مجلس جماعة من الفتيان والفتيات فعزفت فيه موسيقى خاصّة وعلى نمط خاص من الغناء ، فهيّجت الفتيان والفتيات إلى الحدّ الذي هجم فيه بعضهم على البعض الآخر ، وعملوا من الفضائح ما يخجل القلم عن ذكره.

وينقل في تفسير (روح المعاني) حديثا عن أحد زعماء بني أميّة أنّه قال لهم : إيّاكم والغناء فإنّه ينقص الحياء ، ويزيد في الشهوة ، ويهدم المروءة ، وإنّه ينوب عن

٢٣

الخمر ، ويفعل ما يفعل السكر(١) . وهذا يبيّن أنّه حتّى أولئك كانوا مطّلعين على مفاسده أيضا.

وعند ما نرى في الرّوايات الإسلامية : أنّ الغناء ينبت النفاق ، فإنّه إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ روح النفاق هي روح التلوّث بالفساد والابتعاد عن التقوى.

وإذا جاء في الرّوايات أنّ الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه غناء ، فبسبب التلوّث بالفساد ، لأنّ الملائكة طاهرة تطلب الطهارة ، وتتأذّى من هذه الأجواء الملوّثة.

ثانيا : الغفلة عن ذكر الله :

إنّ التعبير باللهو الذي فسّر بالغناء في بعض الرّوايات الإسلامية إشارة إلى حقيقة أنّ الغناء يجعل الإنسان عبدا ثملا من الشهوات حتّى يغفل عن ذكر الله.

وفي الآيات أعلاه قرأنا أنّ «لهو الحديث» أحد عوامل الضلالة عن سبيل الله ، وموجب للعذاب الأليم.

في حديث عن عليعليه‌السلام : «كلّ ما ألهى عن ذكر الله (وأوقع الإنسان في وحل الشهوات) فهو من الميسر»(٢) ـ أي في حكم القمار ـ.

ثالثا : الإضرار بالأعصاب :

إنّ الغناء والموسيقى ـ في الحقيقة ـ أحد العوامل المهمّة في تخدير الأعصاب ، وبتعبير آخر : إنّ الموادّ المخدّرة ترد البدن عن طريق الفمّ والشرب أحيانا كالخمر ، وأحيانا عن طريق الشمّ وحاسّة الشمّ كالهيروئين ، وأحيانا عن طريق التزريق كالمورفين ، وأحيانا عن طريق حاسّة السمع كالغناء.

ولهذا فإنّ الغناء والموسيقى المطربة قد تجعل الأفراد منتشين أحيانا إلى حدّ يشبهون فيه السكارى ، وقد لا يصل إلى هذه المرحلة أحيانا ، ولكنّه يوجد تخديرا

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، الجزء ٢١ ، صفحة ٦٠.

(٢) وسائل الشيعة ، الجزء ١٢ ، صفحة ٢٣٥.

٢٤

خفيفا ، ولهذا فإنّ كثيرا من مفاسد المخدّرات موجودة في الغناء ، سواء كان تخديره خفيفا أم قويّا.

«إنّ الانتباه بدقّة إلى سيرة مشاهير الموسيقيين يبيّن أنّهم قد واجهوا تدريجيّا مصاعب وصدمات نفسية خلال مراحل حياتهم حتّى فقدوا أعصابهم شيئا فشيئا ، وابتلي عدد منهم بأمراض نفسية ، وجماعة فقدوا مشاعرهم وساروا إلى دار المجانين ، وبعضهم أصيبوا بالشلل والعجز ، وبعضهم أصيب بالسكتة ، حيث ارتفع ضغط الدم عندهم أثناء عزف الموسيقى»(١) .

وقد جاء في بعض الكتب التي كتبت في مجال لآثار المضرّة للموسيقى على أعصاب الإنسان ، حالات جمع من الموسيقيين والمغنّين المعروفين الذين أصيبوا بالسكتة وموت الفجأة أثناء أداء برامجهم ، وزهقت أرواحهم في ذلك المجلس(٢) .

وخلاصة القول فإنّ الآثار المضرّة للغناء والموسيقى على الأعصاب تصل إلى حدّ إيجاد الجنون ، وتؤثّر على القلب وتؤدّي إلى ارتفاع ضغط الدم وغير ذلك من الآثار المخرّبة.

ويستفاد من الإحصاءات المعدّة للوفيّات في عصرنا الحالي بأنّ معدّل موت الفجأة قد إزداد بالمقارنة مع السابق ، وقد ذكروا أسبابا مختلفة كان من جملتها الغناء والموسيقى.

رابعا : الغناء أحد وسائل الاستعمار :

إنّ مستعمري العالم يخافون دائما من وعي الشعوب ، وخاصّة الشباب ، ولذلك فإنّ جانبا من برامجهم الواسعة لاستمرار وإدامة الاستعمار هو إغراق المجتمعات بالغفلة والجهل والضلال ، وتوسعة وسائل اللهو المفسدة.

إنّ المخدّرات لا تتّصف اليوم بصفة تجارية فقط ، بل هي أحد الوسائل

__________________

(١) تأثير الموسيقى على النفس والأعصاب ، صفحة ٢٦.

(٢) يراجع المصدر السابق صفحة ٩٢ وما بعدها.

٢٥

السياسية المهمّة ، فإنّ السياسات الاستعمارية تسعى إلى إيجاد مراكز الفحشاء ونوادي القمار ووسائل اللهو الفاسدة الاخرى ، ومن جملتها توسعة ونشر الغناء والموسيقى ، وهي من أهمّ الوسائل التي يصرّ عليها المستعمرون لتخدير أفكار الناس ، ولهذا فإنّ الموسيقى تشكّل القسم الأكبر من وقت إذا عات العالم ووسائل الإعلام الأساسية.

* * *

٢٦

الآيتان

( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) )

التّفسير

هذا خلق الله :

مواصلة للبحث حول القرآن والإيمان به في الآيات السابقة ، تتحدّث الآيتان أعلاه عن أدلّة التوحيد الذي هو أهمّ الأصول العقائدية.

تشير الآية الاولى إلى خمسة أقسام من مخلوقات الله التي ترتبط مع بعضها ارتباطا وثيقا لا ينفصل ، وهي : خلق السماء ، وكون الكواكب معلّقة في الفضاء ، وخلق الجبال لتثبيت الأرض ، ثمّ خلق الدواب ، وبعد ذلك الماء والنباتات التي هي وسيلة تغذيتها ، فتقول :( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) .

(العمد) جمع (عمود) ، وتقييد بنائها وإقامتها بـ( تَرَوْنَها ) دليل على أنّه ليس لهذه السماء أعمدة مرئيّة ، ومعنى ذلك أنّ لها أعمدة إلّا أنّها غير قابلة للرؤية ، وكما

٢٧

قلنا قبل هذا في تفسير سورة الرعد أيضا ، فإنّ هذا التعبير إشارة لطيفة إلى قانون الجاذبيّة الذي يبدو كالعمود القويّ جدّا ، إلّا أنّه غير مرئيّ ، يحفظ الأجرام السماوية.

وقد صرّح في حديث رواه حسين بن خالد ، عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، أنّه قال : «سبحان الله! أليس الله يقول :( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ؟ قلت : بلى ، قال : «ثمّ عمد ولكن لا ترونها»(١) (٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الجملة أعلاه أحد معاجز القرآن المجيد العلميّة ، وقد أوردنا تفصيلا أكثر عنها في ذيل الآية (٢) من سورة الرعد.

ثمّ تقول الآية في الغاية من خلق الجبال :( وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) (٣) .

إنّ هذه الآية التي لها نظائر كثيرة في القرآن ، توضّح أنّ الجبال وسيلة لتثبيت الأرض ، وقد تثبت هذه الحقيقة اليوم من الناحية العلميّة من جهات عديدة :

فمن جهة أنّ أصولها مرتبطة مع بعضها ، وهي كالدرع المحكم يحفظ الكرة الأرضية أمام الضغوط الناشئة من الحرارة الداخلية ، ولو لا هذه الجبال فإنّ الزلازل المدمّرة كانت ستبلغ حدّا ربّما لا تدع معه للإنسان مجالا للحياة.

ومن جهة أنّ هذه السلسلة المحكمة تقاوم جاذبية القمر والشمس الشديدة ، وإلّا فسيحدث جزر ومدّ عظيمان في القشرة الأرضية أقوى من جزر ومدّ البحار ، وتجعل الحياة بالنسبة للإنسان مستحيلة.

ومن جهة أنّها تقف سدّا أمام العواصف والرياح العاتية ، وتقلّل من تماسّ الهواء

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٢ ، صفحة ٢٧٨.

(٢) إنّ الذين اعتبروا الآية أعلاه دليلا على نفي العمد مطلقا لا بدّ لهم من التقديم والتأخير في الآية ليقولوا : إنّ أصل الجملة كانت : خلق السماوات ترونها بغير عمد ، وهذا خلاف الظاهر قطعا.

(٣) «تميد» من (الميد) أي تزلزل الأشياء واضطرابها اضطرابا عظيما ، وجملة (أن تميد بكم) في تقدير : لئلّا تميد بكم.

٢٨

المجاور للأرض عند دوران الأرض حول نفسها إلى أقلّ حدّ ، ولو لم تكن هذه الجبال لكان سطح الأرض كالصحاري اليابسة ، وعرضة للأعاصير والزوابع المهلكة ، والعواصف الهوجاء المدمّرة ليل نهار(١) .

وبعد ذكر نعمة استقرار السماء بأعمدة الجاذبية. واستقرار وثبات الأرض بواسطة الجبال ، تصل النوبة إلى خلق الكائنات الحيّة واستقرارها ، بحيث تستطيع أن تضع أقدامها في محيط هادئ مطمئن ، فتقول :( وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ) .

إنّ التعبير بـ( مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ) إشارة إلى تنوّع الحياة في صور مختلفة ، ابتداء من الكائنات الحيّة المجهرية والتي ملأت جميع الأرجاء إلى الحيوانات العملاقة والمخوفة.

وكذلك الحيوانات المختلفة الألوان ، والمتفاوتة الأشكال التي تعيش في الماء والهواء من الطيور والزواحف ، والحشرات المختلفة وأمثالها ، والتي لكلّ منها عالمها الخاصّ تعكس الحياة في مئات الآلاف من المرايا.

إلّا أنّ من المعلوم أنّ هذه الحيوانات تحتاج إلى الماء والغذاء ، ولذلك فإنّ الجملة التالية أشارت إلى هذا الموضوع ، فقالت :( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .

وبهذا فإنّ الآية تبيّن أساس حياة كلّ الحيوانات ـ وخاصّة الإنسان ـ والذي يكوّنه الماء والنبات ، فالكرة الأرضية تعتبر سماطا واسعا ذا أغذية متنوّعة يمتدّ في جميع أنحائها ، ويصلح لكلّ نوع منها حسب خلقته ، ممّا يدلّ على عظمة الخالق جلّ وعلا.

وممّا يستحقّ الانتباه هو أنّه في بيان خلق الأقسام الثلاثة الاولى ذكرت الأفعال بصيغة الغائب ، وحين وصل الأمر إلى نزول المطر ونمو النباتات أتت

__________________

(١) لمزيد الاطلاع حول فوائد الجبال راجع ذيل الآية (٣) من سورة الرعد.

٢٩

الأفعال بصيغة المتكلّم ، فيقول : نحن أنزلنا من السماء ماء ، ونحن أنبتنا النباتات في الأرض.

وهذا بنفسه أحد فنون الفصاحة ، حيث إنّهم عند ما يريدون ذكر امور مختلفة ، فإنّهم يبيّنونها بشكلين أو أكثر ، كي لا يشعر السامع بأيّ نوع من الضجر والرتابة ، إضافة إلى أنّ هذا التعبير يوضّح أنّ نزول المطر ونمو النبات كانا محطّ اهتمام خاصّ.

ثمّ تشير هذه الآية مرّة أخرى إلى مسألة (الزوجيّة في عالم النباتات) وهي أيضا من معجزات القرآن العلميّة ، لأنّ الزوجيّة ـ أي وجود الذكر والأنثى ـ في عالم النباتات لم تكن ثابتة في ذلك الزمان بصورة واسعة ، والقرآن كشف الستار عنها. ولزيادة التفصيل حول هذه المسألة يمكنكم مراجعة ذيل الآية (٧) من سورة الشعراء.

ثمّ إنّ وصف أزواج النباتات بـ «الكريم» إشارة ضمنية إلى أنواع المواهب الموجودة فيها.

بعد ذكر عظمة الله في عالم الخلقة ، وذكر صور مختلفة من المخلوقات ، وجّهت الآية الخطاب إلى المشركين ، وجعلتهم موضع سؤال واستجواب ، فقالت :( هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) ؟!

من المسلّم أنّ أولئك لم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون أيّ من المخلوقات من خلق الأصنام ، وعلى هذا فإنّهم كانوا يقرّون بتوحيد الخالق ، مع هذا الحال كيف يستطيعون تعليل الشرك في العبادة؟! لأنّ توحيد الخالق دليل على توحيد الربّ وكون مدبّر العالم واحدا ، وهو دليل على توحيد العبوديّة.

ولذلك اعتبرت الآية عمل أولئك منطبقا على الظلم والضلال ، فقالت :( بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ومعلوم أنّ «الظلم» له معنى واسعا يشمل وضع كلّ شيء في غير موضعه ، ولمّا

٣٠

كان المشركون يربطون العبادة ، وتدبير العالم أحيانا بالأصنام ، فإنّهم كانوا مرتكبين لأكبر ظلم وضلالة.

ثمّ إنّ التعبير أعلاه يتضمّن إشارة لطيفة إلى ارتباط «الظلم» و «الضلال» ، لأنّ الإنسان عند ما لا يعرف مكانة الموجودات الموضوعية في العالم ، أو يعرفها ولا يراعيها ، ولا يرى كلّ شيء في مكانه ، فمن المسلّم أنّ هذا الظلم سيكون سببا للضلالة والضياع.

* * *

٣١

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) )

التّفسير

احترام الوالدين :

لتكميل البحوث السابقة حول التوحيد والشرك ، وأهميّة وعظمة القرآن ، والحكمة التي استعملت واتّبعت في هذا الكتاب السماوي ، فقد ورد الكلام في هذه الآيات التي التي نبحثها والآيات الاخرى التالية عن لقمان الحكيم ، وعن جانب

٣٢

من المواعظ المهمّة لهذا الرجل المتألّه في باب التوحيد ومحاربة الشرك ، وقد انعكست المسائل الأخلاقيّة المهمّة في مواعظ لقمان لابنه.

إنّ هذه المواعظ العشرة التي ذكرت ضمن ستّ آيات ، قد بيّنت بأسلوب رائع المسائل العقائدية ، إضافة إلى أصول الواجبات الدينيّة والمباحث الأخلاقية.

وسنبحث فيما بعد ـ في بحث الملاحظات ـ إن شاء الله تعالى ، من هو لقمان؟ وأيّة خصائص كان يمتلكها؟ ولكنّ ما نذكره هنا هو أنّ القرائن تبيّن أنّه لم يكن نبيّا ، بل كان رجلا ورعا مهذّبا انتصر في ميدان جهاد هوى النفس ، فكان أن فجّر الله تعالى في قلبه ينابيع العلم والحكمة.

ويكفي في عظمة مقامه أنّ الله قد قرن مواعظه بكلامه ، وذكرها في طيّات آيات القرآن.

أجل عند ما يتنوّر قلب الإنسان بنور الحكمة نتيجة للطهارة والتقوى ، فإنّ الكلام الإلهي يجري على لسانه ، ويقول ما يقوله الله ، ويفكّر بالشكل الذي يرضاه الله! بعد هذا التوضيح الموجز نعود إلى تفسير الآيات :

تقول الآية الاولى :( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (١) .

فما هي الحكمة؟

في معرض الحديث عن ماهية الحكمة ينبغي القول : إنّهم قد ذكروا للحكمة معاني كثيرة ، مثل : معرفة أسرار عالم الوجود ، والإحاطة والعلم بحقائق القرآن ،

__________________

(١) هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل يوجد لجملة (أن اشكر لله) شيء مقدّر أم لا؟ فالبعض يعتقد أنّ جملة (قلنا له) مقدّرة قبلها ، والبعض يقولون : لا تحتاج إلى تقدير ، و (أنّ) في جملة (أن اشكر) تفسيرية ، لأنّ الشكر بنفسه عين الحكمة ، والحكمة عينه. وكلا التّفسيرين يمكن قبوله.

٣٣

والوصول إلى الحقّ من جهة القول والعمل ، ومعرفة الله.

إلّا أنّ كلّ هذه المعاني يمكن جمعها في تعريف واحد ، فالحكمة التي يتحدّث عنها القرآن ، والتي كان الله قد آتاها لقمان ، كانت مجموعة من المعرفة والعلم ، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية.

وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، أنّه قال لهشام بن الحكم في تفسير هذه الآية : «إنّ الحكمة هي الفهم والعقل»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية ، أنّه قال : «أوتي معرفة إمام زمانه»(٢) .

ومن الواضح أنّ كلّا من هذه المفاهيم يعتبر أحد فروع معنى الحكمة الواسع ، ولا منافاة بينها.

وعلى كلّ حال ، فإنّ لقمان بامتلاكه هذه الحكمة كان يشكر الله ، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهيّة ، وكيفيّة استغلالها والاستفادة منها ، وكان يضعها بدقّة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق الهدف الذي خلقت من أجله ، وهذه هي الحكمة ، هي وضع كلّ شيء في موضعه ، وبناء على هذا فإنّ الشكر والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة.

وقد اتّضحت نتيجة الشكر والكفران للنعم بصورة ضمنية في الآية ، وهي أنّ شكر النعمة سيكون من صالح الإنسان وفي منفعته ، وأنّ كفران النعمة سيكون سببا لضرره أيضا ، لأنّ الله سبحانه غنيّ عن العالمين ، فلو أنّ كلّ الممكنات قد شكرته فلا يزيد في عظمته شيء ، ولو أنّ كلّ الكائنات كفرت فلا ينقص من كبريائه شيء! إنّ «اللام» في جملة( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ) لام الإختصاص ، و «اللام» في( لِنَفْسِهِ ) لام النفع ، وبناء على هذا ، فإنّ نفع الشكر ، والذي ودوام النعمة وكثرتها ، إضافة

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٣. كتاب العقل والجهل حديث ١٢.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٤ ، صفحة ١٩٦.

٣٤

إلى ثواب الآخرة يعود على الإنسان نفسه ، كما أنّ مضرّة الكفر تحيق به فقط.

والتعبير بـ( غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) إشارة إلى شكر الناس للأفراد العاديين أمّا أن يؤدّي إلى النفع المادّي للمشكور ، أو زيادة مكانة صاحبه في أنظار الناس ، إلّا أنّ أيّا من هذين الأمرين لا معنى له ولا مصداق في حقّ الله تعالى ، فإنّه غنيّ عن الجميع ، وهو أهل لحمد كلّ الحامدين وثنائهم ، فالملائكة تحمده ، وكلّ ذرّات الوجود والموجودات مشغولة بتسبيحه ، وإذا ما نطق إنسان بالكفر فليس له أدنى تأثير ، فحتّى ذرّات وجوده مشغولة بحمده وثنائه بلسان الحال!

وممّا يجدر ذكره أنّ الشكر قد ذكر بصيغة المضارع ، والذي يدلّ على الاستمرار ، أمّا الكفر فقد جاء بصيغة الماضي الذي يصدق حتّى على المرّة الواحدة ، وهذا إشارة إلى أنّ الكفران ولو لمرّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى عواقب وخيمة مؤلمة ، أمّا الشكر فإنّه لازم ، ويجب أن يكون مستمرّا ليطوي الإنسان مسيره التكاملي.

وبعد تعريف لقمان ومقامه العلمي والحكمي ، أشارت الآية التالية إلى اولى مواعظه ، وهي في الوقت نفسه أهمّ وصاياه لولده ، فقالت :( وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) .

إنّ حكمة لقمان توجب عليه أن يتوجّه قبل كلّ شيء إلى أهمّ المسائل الأساسية ، وهي مسألة التوحيد التوحيد في كلّ المجالات والأبعاد ، لأنّ كلّ حركة هدّامة ضدّ التوجّه الإلهي تنبع من الشرك ، من عبادة الدنيا والمنصب والهوى وأمثال ذلك ، والذي يعتبر كلّ منها فرعا من الشرك.

كما أنّ أساس كلّ الحركات الصحيحة البنّاءة هو التوحيد والتوجّه إلى الله ، وإطاعة أوامره ، والابتعاد عن غيره ، وكسر كلّ الأصنام في ساحة كبريائه!

وممّا يستحقّ الإشارة أنّ لقمان الحكيم قد جعل علّة نفي الشرك هو أنّ الشرك

٣٥

ظلم عظيم ، وقد احيط بالتأكيد من عدّة جهات(١) .

وأيّ ظلم أعظم منه ، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصافّ الله ودرجته ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجرّون الناس إلى الضلال والانحراف ، ويظلمونهم بجناياتهم وجرائمهم ، وهم يظلمون أنفسهم أيضا حيث ينزلونها من قمّة عزّة العبودية لله ويهوون بها إلى منحدر ذلّة العبودية لغيره.

والآيتان التاليتان جمل معترضة ذكرها الله تعالى في طيّات مواعظ لقمان ، لكنّ هذا الاعتراض لا يعني عدم الاتّصال والارتباط ، بل يعني الصلة الواضحة لكلام اللهعزوجل بكلام لقمان ، لأنّ في هاتين الآيتين بحثا عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما ، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر الله.

إضافة إلى أنّهما تعتبران تأكيدا على كون مواعظ لقمان لابنه خالصة ، لأنّ الوالدين مع هذه العلاقة القويّة وخلوص النيّة لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلّا ما فيه خير وصلاح الولد ، فتقول أوّلا :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الامّ العظيمة ، فتقول :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ) (٢) .

وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية ، إذ أوضحت التجارب أنّ الامّهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن ، لأنّهنّ يصرفن خلاصة وجودهنّ في تغذية وتنمية الجنين ، ويقدّمن له من موادهنّ الحياتية أفضلها ، ولذلك فإنّ الامّهات أثناء فترة الحمل يبتلين بنقص أنواع الفيتامينات وفي حالة عدم تعويض هذا النقص فسيؤدّي إلى آلام ومتاعب كثيرة.

وهذا الأمر يستمر حتّى في فترة الرضاعة ، لأنّ اللبن عصارة وجود الامّ ، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) كما أشير إلى ذلك في

__________________

(١) إنّ كلّا من (أن) و «اللام» ، وكون الجملة اسميّة من أدوات التأكيد.

(٢) إنّ جملة (وهنا على وهن) يمكن أن تكون حالا للامّ بتقدير كلمة «ذات» ، فكان تقديرها (حملته أمّه ذات وهن على وهن). واحتمل أيضا أن تكون مفعولا مطلقا لفعل مقدّر من مادّة (وهن) فكان تقديره : (تهن وهنا على وهن).

٣٦

موضع آخر من القرآن :( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (١) ، والمراد فترة الرضاعة الكاملة ، وإن كانت تتمّ أحيانا بفترة أقلّ.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الامّ في هذه ال (٣٣) شهرا ـ فترة الحمل ، وفترة الرضاع ـ تبدي وتقدّم أعظم تضحية لولدها ، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي ، أو الجسمي ، أو من جهة الخدمات والرعاية.

والملفت للنظر هنا أنّها توصي في البداية بالوالدين معا ، إلّا أنّها عند بيان المشاقّ والمتاعب تؤكّد على متاعب الامّ ، لتنبّه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقّها العظيم.

ثمّ تقول :( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصلّي عليك ، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين ، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسئولية إيصال نعمي إليك. فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه!

ويقول الله تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب :( إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) . نعم ، فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كلّ هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقّة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب الله. وكذلك شكر نعمة وجود الأبوين وعواطفهما الصادقة الطاهرة لينجح في ذلك الحساب وتلك المحكمة.

وفي هذا المجال التفت بعض المفسّرين إلى مسألة لطيفة ، وهي أنّه قد ورد التأكيد على رعاية حقوق الأبوين مرارا في القرآن المجيد ، إلّا أنّ التوصية بالأولاد تلاحظ قليلا ـ ما عدا مورد النهي عن قتل الأولاد ، والتي كانت عادة مشؤومة قبيحة واستثنائية في عصر الجاهلية ـ وذلك لأنّ الوالدين ، وبحكم

__________________

(١) البقرة ، ٢٣٣.

٣٧

عواطفهما القويّة ، قلّ ما يهملوا أولادهما بيد النسيان ، في حين يلاحظ بكثرة أنّ الأولاد ينسون الأبوين ، وخاصّة عند الكبر والعجز ، وتعتبر هذه آلم وأشدّ حالة لهما ، وأسوأ صور كفران النعمة بالنسبة للأولاد(١) .

إنّ الوصيّة بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الاشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتّى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان ، لكنّ الآية التالية تقول :( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان بأمّه وأبيه مقدّمة على علاقته بالله مطلقا ، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينيّة أبدا.

جملة( جاهَداكَ ) إشارة إلى أنّ الأبوين قد يظنّان أحيانا أنّهما يريدان سعادة الولد ، ويسعيان إلى جرّه إلى عقيدتهما المنحرفة والإيمان بها ، وهذا يلاحظ لدى كلّ الآباء والامّهات.

إنّ واجب الأولاد أن لا يستسلموا أبدا أمام هذه الضغوط ، ويجب أن يحافظوا على استقلالهم الفكري ، ولا يساوموا على عقيدة التوحيد ، أو يبدّلوها بأيّ شيء.

ثمّ إنّ جملة( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) تشير ضمنا إلى أنّنا لو نتجاهل أدلّة بطلان الشرك ، ولم نقم لها وزنا ، فإنّه لا يوجد دليل على إثباته ، ولا يستطيع أيّ متعنّت إثبات الشرك بالدليل.

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ الشرك إن كانت له حقيقة ، فينبغي أن يكون هناك دليل على إثباته ، ولمّا لم يكن هناك دليل على إثباته ، فإنّ هذا بنفسه دليل على بطلانه.

ولمّا كان من الممكن أيضا أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب استخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم احترامهما ، ولذلك أضافت الآية أنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلا على وجوب قطع العلاقة معهما ، بل تأمره الآية أن

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، الجزء ٦ ، ص ٤٨٤.

٣٨

( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

فلاطفهما وأظهر المحبّة لهما في الحياة الدنيويّة والمعاشرة ، ولا تستسلم لأفكارهما واقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينيّة ، وهذه بالضبط نقطة الاعتدال الأصليّة التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين ، ولذا يضيف بعد ذلك( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ ) لأنّ المصير إليه سبحانه( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

إنّ سبب النفي والإثبات المتلاحق ، والأوامر والنواهي المتتابعة في الآيات أعلاه هو أن يجد المسلمون الخطّ الأصلي ويشخّصوه في مثل هذه المسائل ، حيث يبدو في أوّل الأمر أنّ هناك تناقضا في أداء هذين الواجبين ، فإن تفكّروا قليلا فإنّ المسير الصحيح سيكون نصب أعينهم ، وسيسيرون فيه دون أدنى إفراط ولا تفريط ، وهذه الدقّة واللطافة القرآنية في أمثال هذه الدقائق من صور فصاحة القرآن وبلاغته العميقة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية أعلاه تشبه ما جاء في الآية (٨) من سورة العنكبوت ، حيث تقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وقد أوردنا في ذيل الآية (٨) من سورة العنكبوت سبب نزول لها ذكر في بعض التفاسير.

بحثان

١ ـ من هو لقمان؟

لقد ورد اسم «لقمان» في آيتين من القرآن في هذه السورة ، ولا يوجد في القرآن دليل صريح على أنّه كان نبيّا أم لا ، كما أنّ أسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي بأنّه لم يكن نبيّا ، لأنّه يلاحظ في القرآن أنّ الكلام في شأن الأنبياء عادة يدور حول الرسالة والدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك وانحرافات البيئة ، وعدم

٣٩

المطالبة بالأجر والمكافأة ، وكذلك بشارة الأمم وإنذارها ، في حين أنّ أيّا من هذه الأمور لم يذكر في شأن لقمان ، والذي ورد هو مجموعة مواعظ خاصّة مع ولده (رغم شموليتها وعموميتها) ، وهذا دليل على أنّه كان رجلا حكيما وحسب.

وفي حديثه عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «حقّا أقول : لم يكن لقمان نبيّا ، ولكن كان عبدا كثير التفكّر ، حسن اليقين ، أحبّ الله فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة».

وجاء في بعض التواريخ : أنّ لقمان كان عبدا أسود من سودان مصر ، ولكنّه إلى جانب وجهه الأسود كان له قلب مضيء وروح صافية ، وكان يصدق في القول من البداية ، ولا يمزج الأمانة بالخيانة ، ولم يكن يتدخّل فيما لا يعنيه(١) .

واحتمل بعض المفسّرين نبوّته ، لكن ـ كما قلنا ـ لا يوجد دليل على ذلك ، بل لدينا شواهد واضحة على نقيض ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات : أنّ شخصا سأل لقمان : ألم تكون ترعى معنا؟ قال:نعم.

قال الرجل : فمن أين أتاك كلّ هذا العلم والحكمة؟

قال : قدر الله ، وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، والصمت عمّا لا يعنيني(٢) .

وورد كذلك في ذيل الحديث الذي نقلناه عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كان لقمان نائما نصف النهار ، إذ جاءه نداء : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت : إن خيّرني ربّي قبلت العافية ، ولم أقبل البلاء ، وإن عزم عليّ فسمعا وطاعة ، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني.

فقالت الملائكة : دون أن يراهم : لم يا لقمان؟

قال : لأنّ الحكم أشدّ المنازل وآكدها ، يغشاه الظلم من كلّ مكان ، إن وقي فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي

__________________

(١) قصص القرآن. شرح أحوال لقمان.

(٢) مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.

٤٠