الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148894
تحميل: 5085


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148894 / تحميل: 5085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا وفي الآخرة ذليلا ، ومن يخيّر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة.

فتعجّبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فاعطي الحكمة ، فانتبه يتكلّم بها»(١) .

٢ ـ صور من حكمة لقمان

لقد ذكر بعض المفسّرين بعضا من كلمات لقمان الحكيمة مناسبة للمواعظ التي وردت في آيات هذه السورة ، ونحن نذكر هنا مختصرا منها :

أ ـ كان لقمان يقول لابنه : يا بني ، إنّ الدنيا بحر عميق ، وقد هلك فيها عالم كثير ، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله ، واجعل شراعها التوكّل على الله ، واجعل زادك فيها تقوى الله ، فإن نجوت فبرحمة الله ، وإن هلكت فبذنوبك(٢) .

وقد ورد نفس هذا المطلب ضمن كلام الإمام الكاظمعليه‌السلام مع هشام بن الحكم بصورة أكمل ، نقلا عن لقمان الحكيم : «يا بنيّ ، إنّ الدنيا بحر عميق ، قد غرق فيها عالم كثير ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وحشوها الإيمان ، وشراعها التوكّل ، وقيّمها العقل ، ودليلها العلم ، وسكّانها الصبر»(٣) .

ب ـ وفي حوار آخر مع ابنه حول آداب السفر يقول :

يا بنيّ ، سافر بسيفك وخفّك وعمامتك ، وخبائك وسقائك ، وخيوطك ومخرزك ، وتزوّد معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك ، وكن لأصحابك موافقا إلّا في معصية اللهعزوجل .

يا بنيّ ، إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم.

__________________

(١) مجمع البيان الجزء ٨ صفحة ٣١٦ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) مجمع البيان. ذيل الآية مورد البحث.

(٣) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ١٣ كتاب العقل والجهل.

٤١

وأكثر التبسّم في وجوههم.

وكن كريما على زادك بينهم.

وإذا دعوك فأجبهم ، وإذا استعانوا بك فأعنهم.

واستعمل طول الصمت ، وكثرة الصلاة ، وسخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد.

وإذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم.

واجهد رأيك إذا استشاروك ، ثمّ لا تعزم حتّى تتثبّت وتنظر ، ولا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها وتقعد ، وتنام وتأكل وتصلّي ، وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته ، فإنّ من لم يمحض النتيجة من استشاره سلبه الله رأيه.

وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم ، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم.

واسمع لمن هو أكبر منك سنّا.

وإذا أمروك بأمر ، وسألوك شيئا فقل : نعم ، ولا تقل : لا ، فإنّ (لا) عي ولؤم.

يا بنيّ ، إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشيء ، صلّها واسترح منها فإنّها دين.

وصلّ في جماعة ولو على رأس زجّ.

وإن استطعت أن لا تأكل طعاما حتّى تبتدئ فتتصدّق منه فافعل.

وعليك بقراءة كتاب الله(١) .

ج ـ وثمّة قصّة معروفة أيضا عن لقمان ، وهي أنّ مولاه دعاه ـ يوم كان عبدا ـ فقال : اذبح شاة ، فأتني بأطيب مضغتين منها ، فذبح شاة ، وأتاه بالقلب واللسان.

وبعد عدّة أيّام أمره أن يذبح شاة ، ويأتيه بأخبث أعضائها ، فذبح شاة وأتاه بالقلب واللسان ، فتعجّب وسأله عن ذلك فقال : إنّ القلب واللسان إذا طهّرا فهما أطيب من كلّ شيء ، وإذا خبثا كانا أخبث من كلّ شيء(٢) .

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تفسير البيضاوي والثعلبي ، ولكن نقل في مجمع البيان جزءه الأوّل فقط.

٤٢

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «والله ما اوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا بسط في جسم ولا جمال ، ولكنّه كان رجلا قويّا في أمر الله ، متورّعا في الله ، ساكتا سكينا عميق النظر ، طويل التفكّر ، حديد البصر.

ولم ينم نهارا قطّ ـ أي أوّله ـ ولم يتكئ في مجلس قطّ ـ وهو عرف المتكبّرين ـ ولم يتفل في مجلس قوم قطّ ، ولم يعبث بشيء قطّ ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط قطّ ، ولا على اغتسال لشدّة تستّره وتحفّظه في أمره.

ولم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلّا أصلح بينهما ، ولم يسمع قولا استحسنه من أحد قطّ إلّا سأله عن تفسيره وعمّن أخذه ، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والعلماء ، ويتعلّم من العلوم ما يغلب به نفسه ، ويجاهد به هواه ، وكان لا يظعن إلّا

* * *

__________________

(١) مجمع البيان بتلخيص.

٤٣

الآيات

( يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) )

التّفسير

أثبت كالجبل ، وعامل الناس بالحسنى!

كانت اولى مواعظ لقمان عن مسألة التوحيد ومحاربة الشرك ، وثانيتها عن حساب الأعمال والمعاد ، والتي تكمّل حلقة المبدأ والمعاد ، فيقول :( يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ) أي في يوم القيامة ويضعها للحساب( إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) .

٤٤

«الخردل» : نبات له حبّات سوداء صغيرة جدّا يضرب المثل بصغرها ، وهذا التعبير إشارة إلى أنّ أعمال الخير والشرّ مهما كانت صغيرة لا قيمة لها ، ومهما كانت خفيّة كخردلة في بطن صخرة في أعماق الأرض ، أو في زاوية من السماء ، فإنّ الله اللطيف الخبير المطّلع على كلّ الموجودات ، صغيرها وكبيرها في جميع أنحاء العالم ، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب ، ولا يضيّع شيء في هذا الحساب.

والضمير في «إنّها» يعود إلى الحسنات والسيّئات ، والإحسان والإساءة(١) .

إنّ الالتفات والتوجّه إلى هذا الاطّلاع التامّ من قبل الخالق سبحانه على أعمال الإنسان وعلمه بها ، وبقاء كلّ الحسنات والسيّئات محفوظة في كتاب علم الله ، وعدم ضياع وتلف شيء في عالم الوجود هذا ، هو أساس كلّ الإصلاحات الفرديّة والاجتماعية ، وهو قوّة وطاقة محرّكة نحو الخيرات ، وسدّ منيع من الشرور والسيّئات. وذكر السماوات والأرض بعد بيان الصخرة ، هو في الواقع من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ.

وفي حديث روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «اتّقوا المحقّرات من الذنوب ، فإنّ لها طالبا ، يقول أحدكم : أذنب وأستغفر ، إنّ اللهعزوجل يقول :( نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) . وقالعزوجل :( إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) (٢) .

وبعد تحكيم أسس المبدأ والمعاد ، والتي هي أساس كلّ الإعتقادات الدينيّة ، تطرّق لقمان إلى أهمّ الأعمال ، أي مسألة الصلاة ، فقال :( يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ) لأنّ الصلاة أهمّ علاقة وارتباط مع الخالق ، والصلاة تنوّر قلبك ، وتصفّي روحك ، وتضيء حياتك ، وتطهّر روحك من آثار الذنب ، وتقذف نور الإيمان في أنحاء

__________________

(١) احتمل البعض أنّ الضمير أعلاه ضمير الشأن والقصّة ، أو يعود إلى مفهوم الشرك ، وكلا الاحتمالين بعيد.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٤ ، صفحة ٢٠٤.

٤٥

وجودك ، وتمنعك عن الفحشاء والمنكر.

وبعد الصلاة يتطرّق لقمان إلى أهمّ دستور اجتماعي ، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيقول :( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

وبعد هذه الأوامر العمليّة المهمّة الثلاثة ، ينتقل إلى مسألة الصبر والاستقامة ، والتي هي من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فيقول :( وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) .

من المسلّم أنّه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الأعمال الاجتماعية ، وخاصّة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن المسلّم أيضا أنّ أصحاب المصالح والمتسلّطين ، والمجرمين والأنانيّين لا يستسلمون بهذه السهولة ، بل يسعون إلى إيذاء واتّهام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، ولا يمكن الإنتصار على هذه المصاعب والعقبات بدون الصبر والتحمّل والاستقامة أبدا.

«العزم» بمعنى الإرادة المحكمة القويّة ، والتعبير بـ( عَزْمِ الْأُمُورِ ) هنا إمّا بمعنى الأعمال التي أمر الله بها أمرا مؤكّدا ، أو الأمور والأعمال التي يجب أن يمتلك الإنسان فيها إرادة فولاذية وتصميما راسخا ، وأيّا من هذين المعنيين كان فإنّه يشير إلى أهميّة تلك الأعمال.

والتعبير بـ «ذلك» إشارة إلى الصبر والتحمّل ، ويحتمل أيضا أن يعود إلى كلّ الأمور والمسائل التي ذكرت في الآية أعلاه ، ومن جملتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلّا أنّ هذا التعبير قد ورد بعد مسألة الصبر في بعض الآيات القرآنية الاخرى ، وهذا يدعم ويقوّي الاحتمال الأوّل.

ثمّ انتقل لقمان إلى المسائل الأخلاقية المرتبطة بالناس والنفس ، فيوصي أوّلا بالتواضع والبشاشة وعدم التكبّر ، فيقول :( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ) أي لا تعرض بوجهك عن الناس( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) .

٤٦

«تصعّر» : من مادّة (صعّر) ، وهي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدّي إلى اعوجاج رقبته.

و «المرح» : يعني الغرور والبطر الناشئ من النعمة.

و «المختال» : من مادّة (الخيال) و (الخيلاء) ، وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيما وكبيرا ، نتيجة سلسلة من التخيّلات والأوهام.

و «الفخور» : من مادّة (الفخر) ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين.

والفرق بين كلمتي المختال والفخور ، أنّ الاولى إشارة إلى التخيّلات الذهنيّة للكبر والعظمة ، أمّا الثّانية فهي تشير إلى أعمال التكبّر الخارجي.

وعلى هذا ، فإنّ لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدّا وأساس توهين وقطع الروابط الاجتماعية الصميميّة : إحداهما التكبّر وعدم الاهتمام بالآخرين ، والاخرى الغرور والعجب بالنفس ، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهّم والخيال ونظرة التفوّق على الآخرين ، وإسقاطه في هذه الهاوية ، وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم ، خاصّة وأنّه بملاحظة الأصل اللغوي لـ «صعّر» سيتّضح أنّ مثل هذه الصفات مرض نفسي وأخلاقي ، ونوع من الانحراف في التشخيص والتفكير ، وإلّا فإنّ الإنسان السالم من الناحية الروحية والنفسية لا يبتلى مطلقا بمثل هذه الظنون والتخيّلات.

ولا يخفى أنّ مراد لقمان لم يكن مسألة الإعراض عن الناس ، أو المشي بغرور وحسب ، بل المراد محاربة كلّ مظاهر التكبّر والغرور ، ولمّا كانت هذه الصفات تظهر في طليعة الحركات العاديّة اليوميّة ، فإنّه وضع إصبعه على مثل هذه المظاهر الخاصّة.

ثمّ بيّن في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيّين في مقابل النهيين عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول : ابتغ الاعتدال في مشيك :( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) وابتغ الاعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عاليا( وَاغْضُضْ مِنْ

٤٧

صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) (١) .

إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين ، ونهتا عن صفتين :

فالنهي عن «التكبّر» و «العجب» ، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبّر الإنسان على عباد الله ، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين ، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه ، وإن كان لا يقارن بينه وبين الآخرين.

وبالرغم من أنّ هاتين الصفتين مقترنتان غالبا ، ولهما أصل مشترك ، إلّا أنّهما قد تفترقان أحيانا.

أمّا الأمر بصفتين ، فهما رعاية الاعتدال في العمل والكلام ، لأنّ التأكيد على الاعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة.

والحقّ أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفّق وسعيد وناجح في الحياة ، ومحبوب بين الناس ، وعزيز عند الله.

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ من الممكن أن نسمع أصواتا أزعج من أصوات الحمير في محيط حياتنا ، كصوت سحب بعض القطع الفلزّية إلى بعضها الآخر ، حيث يحسّ الإنسان عند سماعه بأنّ لحمه يتساقط ، إلّا أنّ هذه الأصوات لا تمتلك صفة عامّة ، إضافة إلى وجود فرق بين المزعج والقبيح من الأصوات ، والحقّ هو أنّ صوت الحمار أقبح من كلّ الأصوات العاديّة التي يسمعها الإنسان ، وبه شبّهت صرخات ونعرات المغرورين البله.

وليس القبح من جهة ارتفاع الصوت وطريقته فحسب ، بل من جهة كونه بلا سبب أحيانا ، لأنّ بعض المفسّرين يقولون : إنّ أصوات الحيوانات تعبّر غالبا عن حاجة ، إلّا أنّ هذا الحيوان يطلق صوته أحيانا بدون مبرّر أو داع ، وبدون أيّ

__________________

(١) «أنكر» أفعل التفضيل ، ومع أنّه لا يأتي عادة في مورد المفعول ، إلّا أنّ هذه الصيغة وردت بصورة نادرة في باب العيوب.

٤٨

حاجة أو مقدّمة! وربّما كان ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ الحمار كلّما أطلق صوته فقد رأى شيطانا ، لهذا السبب.

وقال البعض : إنّ صراخ كلّ حيوان تسبيح إلّا صوت الحمار!

وعلى كلّ حال ، فإنّنا إذا تجاوزنا كلّ ذلك ، فإنّ كون هذا الصوت قبيحا من بين الأصوات لا يحتاج إلى بحث ، وإذا رأينا في الرّوايات المرويّة عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، والتي فسّرت هذه الآية بالعطسة بصوت عال ، أو الصراخ عند التكلّم والتحدّث ، فإنّه في الحقيقة مصداق واضح لذلك(١) .

* * *

تعليقات

١ ـ آداب المشي

صحيح أنّ المشي مسألة سهلة وبسيطة ، إلّا أنّ نفس هذه المسألة السهلة يمكن أن تعكس أحوال وأوضاع الإنسان الداخلية والأخلاقيّة ، وقد تحدّد ملامح شخصيته ، لأنّ روحيّة الإنسان وأخلاقه تنعكس في طيّات كلّ أعماله ، كما قلنا سابقا ، وقد يكون العمل الصغير حاكيا عن روحية متأصّلة أحيانا. ولمّا كان الإسلام قد اهتمّ بكلّ أبعاد الحياة ، فإنّه لم يهمل شيئا في هذا الباب أيضا.

ففي حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من مشى على الأرض اختيالا لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها»(٢) .

وفي حديث آخر عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه نهى أن يختال الرجل في مشيه ، وقال : «من لبس ثوبا فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنّم ، وكان قرين قارون

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) ثواب الأعمال وأمالي الصدوق ، طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، الجزء ٤ ، صفحة ٢٠٧.

٤٩

لأنّه أوّل من اختال!»(١) .

وكذلك ورد عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها ـ إلى أن قال ـ وفرض على الرجلين أن لا تمشي بهما إلى شيء من معاصي الله ، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي اللهعزوجل ، فقال تعالى :( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) وقال :( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) (٢) . وقد نقل ذلك عن نبي الإسلام العزيزصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّه كان قد مرّ من طريق ، فرأى مجنونا قد اجتمع الناس حوله ينظرون إليه ، فقال : «علام اجتمع هؤلاء؟» فقالوا : على مجنون يصرع ، فنظر إليهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : «ما هذا بمجنون! ألا أخبركم بالمجنون حقّ المجنون؟» قالوا : بلى يا رسول الله ، فقال : «إنّ المجنون : المتبختر في مشيه ، الناظر في عطفيه ، المحرّك جنبيه بمنكبيه ، فذلك المجنون وهذا المبتلى»(٣) .

٢ ـ آداب الحديث

لقد وردت إشارة إلى آداب الحديث في مواعظ لقمان ، وقد فتح في الإسلام باب واسع لهذه المسألة ، وذكرت فيه آداب كثيرة من جملتها :

ـ طالما لم تكن هناك ضرورة للحديث والتكلّم ، فإنّ السكوت خير منه ، كما نرى ذلك في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «السكوت راحة للعقل»(٤) .

ـ وجاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام : «من علامات الفقه: العلم والحلم والصمت ، إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة»(٥) .

ـ وقد ورد التأكيد في روايات اخرى على أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يسكت في

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) اصول الكافي ، الجزء الثّاني ، صفحة ٢٨ باب (أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها).

(٣) بحار الأنوار ، ج ٧٦ ، صفحة ٥٧.

(٤) الوسائل ، الجزء صفحة ٥٣٢.

(٥) المصدر السابق.

٥٠

المواضع التي يلزم فيها الكلام ، وأنّ الأنبياء بعثوا بالكلام لا بالسكوت ، وأنّ وسيلة الوصول إلى الجنّة والخلاص من النار هي الكلام في الموضع المناسب(١) .

٣ ـ آداب العشرة

لقد اهتمّت الروايات الإسلامية الواردة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بمسألة التواضع وحسن الخلق والملاطفة في المعاملة ، وترك الخشونة والجفاء في المعاشرة ، اهتماما قلّ نظيره في الموارد الاخرى ، وأفضل وأبلغ شاهد في هذا الباب هي الروايات الإسلامية نفسها ، ونذكر منها هنا نماذج :

جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، أوصني ، فكان فيما أوصاه أن قال : «الق أخاك بوجه منبسط»(٢) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»(٣) .

ـ وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «البرّ وحسن الخلق يعمران الديار ، ويزيدان في الأعمار»(٤) .

ونقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أكثر ما تلج به امّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخلق»(٥) .

وعن عليعليه‌السلام في شأن التواضع : «زينة الشريف التواضع»(٦) .

ـ وأخيرا نطالع في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «التواضع أصل كلّ خير

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) بحار الأنوار ، الجزء ٧٤ ، صفحة ١٧١.

(٣) اصول الكافي ، الجزء ٢ ، باب حسن الخلق وما بعده صفحة ٨١ ، ٨٢.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

(٦) بحار الأنوار ، الجزء ٧٥ ، صفحة ١٢٠.

٥١

نفيس ، ومرتبة رفيعة ، ولو كان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب ومن تواضع لله شرّفه الله على كثير من عباده وليس للهعزوجل عبادة يقبلها ويرضاها إلّا وبابها التواضع»(١) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، الجزء ٧٥ ، صفحة ١٢١.

٥٢

الآيات

( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) )

التّفسير

بعد انتهاء مواعظ لقمان العشر حول المبدأ والمعاد وطريقة الحياة ، وخطط وبرامج القرآن الأخلاقية والاجتماعية ، ولأجل إكمال البحث ، تتّجه الآيات إلى بيان نعم الله تعالى لتبعث في الناس حسن الشكر الشكر الذي يكون منبعا لمعرفة

٥٣

الله وطاعة أوامره(١) ، فيوجّه الخطاب لكلّ البشر ، فيقول :( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) .

إنّ لتسخير الموجودات السماوية والأرضيّة للإنسان معنى واسعا يشمل الأمور التي في قبضته وإختياره ، ويستخدمها برغبته وإرادته في طريق تحصيل منافعه ككثير من الموجودات الأرضيّة ، كما تشمل الأمور التي ليست تحت تصرّفه وإختياره ، لكنّها تخدم الإنسان بأمر الله جلّ وعلا كالشمس والقمر. وبناء على هذا فإنّ كلّ الموجودات مسخّرة بإذن الله لنفع البشر ، سواء كانت مسخّرة بأمر الإنسان أم لا ، وعلى هذا فإنّ اللام في (لكم) لام المنفعة(٢) .

ثمّ تضيف الآية :( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً ) .

«أسبغ» من مادّة (سبغ) وهي في الأصل بمعنى الثوب أو الدرع العريض الكامل ، ثمّ اطلق على النعم الكثيرة الوفيرة أيضا.

هناك اختلاف بين المفسّرين في المراد من النعم الظاهرة والباطنة في هذه الآية

فالبعض اعتقد أنّ النعمة الظاهرة هي الشيء الذي لا يمكن لأيّ أحد إنكاره كالخلق والحياة وأنواع الأرزاق ، والنعم الباطنة إشارة إلى الأمور التي لا يمكن إدراكها من دون دقّة ومطالعة ككثير من القوى الروحية والغرائز المهمّة.

والبعض عدّ الأعضاء الظاهرة هي النعم الظاهرة ، والقلب هو النعمة الباطنة.

والبعض الآخر اعتبر حسن الصورة والوجه والقامة المستقيمة وسلامة الأعضاء النعمة الظاهرة ، ومعرفة الله هي النعمة الباطنة.

__________________

(١) اعتقد بعض المفسّرين كالآلوسي في روح المعاني ، والفخر الرازي في التّفسير الكبير ، بأنّ هذه الآيات مرتبطة بالآيات التي سبقت مواعظ لقمان ، حيث تخاطب المشركين :( هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) وتقول في الآيات مورد البحث :( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) . إلّا أنّ آخر هذه الآية والآيات التي بعدها ، والروايات الواردة في تفسيرها تتناسب مع عموميّة الآية.

(٢) كانت لنا بحوث اخرى حول تسخير الموجودات للإنسان في ذيل الآية (٢) من سورة الرعد.

٥٤

وفي حديث عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ابن عبّاس سأله عن النعم الظاهرة والباطنة فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا بن عبّاس ، أمّا ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك ، وما أفاض عليك من الرزق ، وأمّا ما بطن فستر مساوئ عملك ولم يفضحك به»(١) .

وفي حديث آخر عن الباقرعليه‌السلام : «النعمة الظاهرة : النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به النّبي من معرفة الله ، وأمّا النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقد مودّتنا»(٢) .

إلّا أنّه لا توجد أيّة منافاة بين هذه التفاسير في الحقيقة ، وكلّ منها يبيّن مصداقا بارزا للنعمة الظاهرة والنعمة الباطنة دون أن يحدّد معناها الواسع.

وتتحدّث الآية في النهاية عمّن يكفر بالنعم الإلهية الكبيرة العظيمة ، والتي تحيط الإنسان من كلّ جانب ، ويهبّ إلى الجدال ومحاربة الحقّ ، فتقول :( مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ) وبدل أن يعرف ويقدّر هبة وعطاء كلّ هذه النعم الظاهرة والباطنة ، فإنّه يتّجه إلى الشرك والجحود نتيجة الجهل.

ولكن ما هو الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟

لعلّ أفضل ما يمكن أن يقال في ذلك هو أنّ «العلم» : إشارة إلى الإدراكات التي يدركها الإنسان عن طريق عقله ، و «الهدى» : إشارة إلى المعلّمين والقادة الربّانيين والسماويين ، والعلماء الذين يأخذون بيده في هذا المسير ويوصلونه إلى الغاية والهدف ، والمراد من «الكتاب المنير» : الكتب السماوية التي تملأ قلب الإنسان نورا عن طريق الوحي.

إنّ هذه الجماعة العنيدة في الحقيقة لا يمتلكون علما ، ولا يتّبعون مرشدا وهاديا ، ولا يستلهمون من الوحي الإلهي ، ولمّا كانت طرق الهداية منحصرة بهذه

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

٥٥

الأمور الثلاثة فإنّ هؤلاء لمّا تركوها سقطوا في هاوية الضلال والضياع ووادي الشياطين.

وتشير الآية التالية إلى المنطق الضعيف السقيم لهذه الفئة ، فتقول :( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) ولمّا لم يكن اتّباع الآباء الجهلة المنحرفين جزءا من أيّ واحد من الطرق الثلاثة المذكورة أعلاه للهداية ، فإنّ القرآن ذكره بعنوان الطريق الشيطاني ، وقال :( أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ) (١) .

إنّ القرآن ـ في الحقيقة ـ يزيح هنا الغطاء عن اتّباع سنّة الآباء والأجداد الزائفة ، ويبيّن الوجه الحقيقي لعمل هؤلاء والذي هو في حقيقته اتّباع الشيطان في مسير جهنّم.

أجل ، إنّ قيادة الشيطان بذاتها تستوجب أن يخالفها الإنسان وإن كانت مبطّنة بالدعوة إلى الحقّ ، فمن المسلّم أنّه غطاء وخدعة ، والدعوة إلى النار كافية لوحدها أيضا للمخالفة بالرغم من أنّ الداعي مجهول الحال ، فإذا كان الداعي الشيطان ، ودعوته إلى نار جهنّم المستعرة ، فالأمر واضح.

هل يوجد عاقل يترك دعوة أنبياء الله إلى الجنّة ، ويلهث وراء دعوة الشيطان إلى جهنّم؟!

ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى بيان حال مجموعتين : المؤمنين الخلّص ، والكفّار الملوّثين ، وتجعلهم مورد اهتمامها في المقارنة بينهم ، فقالت :( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) .

والمراد من تسليم الوجه إلى الله سبحانه ، هو التوجّه الكامل وبكلّ الوجود إلى ذات الله المقدّسة ، لأنّ الوجه لمّا كان أشرف عضو في البدن ، ومركزا لأهمّ

__________________

(١) اعتبر المفسّرون (لو) هنا شرطية كالمعتاد ، وجزاؤها محذوف ، والتقدير : لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير أيتبعونه.

٥٦

الحواسّ الإنسانية ، فإنّه يستعمل كناية عن ذاته.

والتعبير بـ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) من قبيل ذكر العمل الصالح بعد الإيمان.

والاستمساك بالعروة الوثقى تشبيه لطيف لهذه الحقيقة ، وهي أنّ الإنسان يحتاج لنجاته من منحدر الماديّة والارتقاء إلى أعلى قمم المعرفة والمعنويات وتسامي الروح ، إلى واسطة ووسيلة محكمة مستقرّة ثابتة ، وليست هذه الوسيلة إلّا الإيمان والعمل الصالح ، وكلّ سبيل ومتّكأ غيرهما متهرّئ متخرّق هاو وسبب للسقوط والموت ، إضافة إلى أنّ ما يبقى هو هذه الوسيلة ، وكلّ ما عداها فان ، ولذلك فإنّ الآية تقول في النهاية :( وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ) .

جاء في حديث نقل في تفسير البرهان عن طرق العامّة عن الإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «وسيكون بعدي فتنة مظلمة ، الناجي منها من تمسّك بالعروة الوثقى ، فقيل : يا رسول الله ، وما العروة الوثقى؟ قال : ولاية سيّد الوصيّين ، قيل : يا رسول الله ، ومن سيّد الوصيّين؟ قال : أمير المؤمنين ، قيل : يا رسول الله ومن أمير المؤمنين؟ قال : مولى المسلمين وإمامهم بعدي ، قيل : يا رسول الله ، ومن مولى المسلمين وإمامهم بعدك؟ قال : أخي علي بن أبي طالب»(١) .

وقد رويت روايات اخرى في هذا الباب تؤيّد أنّ المراد من العروة الوثقى مودّة أهل البيتعليهم‌السلام ، أو حبّ آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الأئمّة من ولد الحسينعليهم‌السلام (٢) .

وقد قلنا مرارا : إنّ هذه التفاسير بيان للمصاديق الواضحة ، ولا تتنافي مع المصاديق الاخرى كالتوحيد والتقوى وأمثال ذلك.

ثمّ تطرقت الآية التالية إلى بيان حال الفئة الثّانية ، فقالت :( وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ) لأنّك قد أدّيت واجبك على أحسن وجه ، وهو الذي قد ظلم نفسه.

__________________

(١) تفسير البرهان ، الجزء ٣ ، صفحة ٢٧٩ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) لمزيد الإيضاح راجع تفسير البرهان ، الجزء ٣ ، صفحة ٢٧٨ و٢٧٩.

٥٧

ومثل هذه التعبيرات التي وردت مرارا في القرآن ، تبيّن أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتألّم ويتعذّب كثيرا عند ما يرى الجاهلين العنودين يتركون سبيل الله مع تلك الدلائل البيّنة والعلامات الواضحة ، ويسلكون سبيل الغيّ والضلال ، وكان يغتمّ إلى درجة أنّ الله تعالى كان يسلّي خاطره في عدّة مرّات ، وهذا دأب وحال المرشد والقائد الحريص المخلص.

فلا تحزن أن تكفر جماعة من الناس ، ويظلموا ويجوروا وهم متنعّمون بالنعم الإلهيّة ولا يعاقبون ، فلا عجلة في الأمر ، إذ :( إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ) فإنّنا مطّلعون على أسرارهم ونيّاتهم كاطّلاعنا على أعمالهم ، فـ :( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

إنّ تعبير : إنّ الله ينبّئ الناس في القيامة بأعمالهم ، أو أنّه تعالى ينبّئهم بما كانوا فيه يختلفون ، قد ورد في آيات كثيرة من القرآن المجيد ، وبملاحظة أنّ (ننبّئكم) من مادّة (نبأ) والنبأ ـ على ما أورده الراغب في مفرداته ـ يقال للخبر الذي ينطوي على محتوى وفائدة مهمّة ، وهو صريح وخال من كلّ أشكال الكذب ، سيتّضح أنّ هذه التعبيرات تشير إلى أنّ الله سبحانه يفشي ويفضح أعمال البشر بحيث لا يبقى لأحد أيّ اعتراض وإنكار ، فهو يظهر ما عمله الناس في هذه الدنيا ونسوه أو تناسوه ، ويهيّؤه للحساب والجزاء ، وحتّى ما يخطر في قلب الإنسان ولم يطّلع عليه إلّا الله تعالى ، فإنّه سبحانه سيذكرهم بها.

ثمّ يضيف بأنّ تمتّع هؤلاء بالحياة لا ينبغي أن يثير عجبك ، لأنّا( نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ) ذلك العذاب الأليم المستمر.

إنّ هذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يتصوّروا أنّهم خارجون عن قبضة قدرة الله سبحانه ، بل إنّه يريد أن يمهل هؤلاء للفتنة وإتمام الحجّة والأهداف الاخرى ، وإنّ هذا المتاع القليل من جانبه أيضا ، وكم يختلف حال هؤلاء الذين

٥٨

يجرّون ويسحبون بذلّة وإكراه إلى العذاب الإلهي الغليظ ، وحال أولئك الذين وضعوا كلّ وجودهم في طريق العبودية لله سبحانه ، واستمسكوا بالعروة الوثقى ، فهم يعيشون في هذه الدنيا طاهرين صالحين ، وفي الآخرة يتنعّمون بجوار رحمة الله.

* * *

٥٩

الآيات

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) )

( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) )

التّفسير

عشر صفات لله سبحانه :

بيّنت الآيات الستّة أعلاه مجموعة من صفات الله سبحانه ، وهي عشر صفات

٦٠