الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148607
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148607 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

الإنسان تقديم هذه الخدمة ، وتأمين معاشه ـ في حال الاستطاعة ـ من كدّ يمينه ، وداودعليه‌السلام أراد أن يكون ذلك العبد الممتاز.

على كلّ حال ، فإنّ داود وجّه هذه القدرة التي وهبها إيّاه الله في أفضل الطرق وهي صناعة وسائل الجهاد والدفاع ضدّ الأعداء ، ولم يحاول الاستفادة منها في صناعة وسائل الحياة العادية ، وعلاوة على الاستفادة من دخله منها في تصريف امور حياته المعاشية البسيطة ، فقد هيّأ جزءا منه للإنفاق على المحتاجين(١) . وفوق كلّ هذا ، فقد كان عمله بحدّ ذاته معجزة ارتبطت به.

نقل بعض المفسّرين قال «حكي أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها فجعل يتفكّر فيها ولا يدري ما يريد ، ولم يسأله حتّى فرغ منها ثمّ قام فلبسها وقال : نعم جنة الحرب هذه. فقال لقمان : الصمت حكمة وقليل فاعله!»(٢) .

الآية التي بعدها تتعرّض لشرح صناعة داود للدروع والأمر الإلهي العميق المعنى بهذا الخصوص. يقول تعالى :( أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) .

«سابغات» : جمع (سابغ) وهو الدرع التامّ الواسع ، و «إسباغ النعمة» أيضا بمعنى توسيعها.

«سرد» : في الأصل بمعنى حياكة ما يخشن ويغلظ كنسج الدرع وخرز الجلد ، واستعير لنظم الحديد. وجملة( وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) معناها مراعاة المقاييس المتناسبة في حلقات الدرع وطريقة نسجها. وفي الواقع فإنّ الله تعالى قد أمر داود بأن يكون مثالا يحتذى لكل الحرفيين والعمّال المؤمنين في العالم ، بمراعاته للإتقان والدقّة في العمل من حيث الكمّ والكيف في المصنوعات ، ليستطيع بالتالي مستهلكوها استعمالها براحة وبشكل جيّد ، والإفادة من متانتها.

يقول تعالى لداود : أن اصنع الدروع واسعة ومريحة ، حتّى لا تكون سجنا

__________________

(١) راجع تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ٩ ، ص ١٩٢.

(٢) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٣٨٢.

٤٠١

للمقاتل وقت ارتدائها لا تجعل حلقاتها صغيرة وضيّقة أكثر من اللازم فتفقد بذلك خاصيّة الانثناء والتطوّي ، ولا كبيرة إلى درجة يمرّ منها حدّ السيف والخنجر والسنان ، فكلّ شيء يجب أن يكون ضمن مقياس معيّن وتناسب محدّد.

الخلاصة : هي أنّ الله تعالى قد قيّض لداود «المادّة» بمقتضى( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) .

وكذلك علّمه بطريقة تحويلها وصناعتها ، حتّى يكون الناتج كاملا باجتماع «المادّة» و «الصورة».

ثمّ تختم الآية بخطاب لداود وأهل بيته( وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

ويلاحظ أنّ المخاطب كان في صدر الآية داود وحده ، بينما تحوّل الخطاب في آخر الآية ليشمل داود وأهل بيته أو داود وقومه ، ذلك لأنّ هذه الأمور مقدّمة للعمل الصالح ، فالهدف ليس صناعة الدروع وتحقيق الربح ، بل إنّ ذلك كلّه وسيلة في المسير باتّجاه العمل الصالح. وليستفيد أيضا داود وأهل بيته. وإحدى خصائص العمل الصالح هي مراعاة الدقّة الكافية في الصناعات من كلّ الجوانب وتقديم نتاج كامل ومفيد خال من أي عيب أو تقصير.

ومن المحتمل أيضا أن يكون الخطاب لداود وكلّ من تحقّقت له الاستفادة من جهده ونسيجه ، إشارة إلى أنّ هذه الوسيلة الدفاعية ينبغي أن تستخدم في طريق العمل الصالح ، وليس في طريق المعاصي والجور والظلم.

* * *

٤٠٢

الآيات

( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) )

التّفسير

هيبة سليمان وموته العبرة!!

بعد الحديث عن المواهب التي أغدق الله بها على داودعليه‌السلام تنتقل الآيات إلى الحديث عن ابنه سليمانعليه‌السلام ، وفي حين أنّ الآيات السابقة أشارت إلى موهبتين تخصّان داود ، فهذه الآيات تشير إلى ثلاث مواهب عظيمة خصّ بها ابنه

٤٠٣

سليمانعليه‌السلام يقول تعالى :( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ) (١) .

الملفت هنا أنّ الله تبارك وتعالى حينما سخّر للأب جسما خشنا وصلبا جدّا وهو الحديد ، نرى أنّه قد سخّر للابن موجودا لطيفا للغاية ، ولكنّ العملين كانا نافعين وإعجازيين ، جسم صلب يلين لداود ، وأمواج الهواء اللطيفة تجعل محكمة وفعّالة لسليمان!!

ولطافة الريح لا تمنع من أدائه أعمال هامّة ، فمن الرياح ما يحرّك السفن الكبيرة على ظهر المحيطات ، ومنها ما يدير أحجار الطاحونات الهوائية الثقيلة ، ومنها ما يرفع البالونات إلى عنان السماء ويحرّكها كالطائرات.

نعم ، هذا الجسم اللطيف بهذه القدرة الإيجابية سخّر لسليمان.

أمّا كيف تحمل الريح مقعد سليمان ، (سواء أكانت كرسيا أم بساطا)؟ فليس بواضح لنا. والقدر المتيقّن هو أن لا شيء يمثّل مشكلة أو عقبة أمام قدرة الله ، لقد استطاع الإنسان بقدرته ـ الحقيرة أمام قدرة الله ـ أن يحرّك البالونات والطائرات التي تحمل مئات بل آلاف المسافرين والأحمال الاخرى في عنان السماء ، فهل أنّ تحريك بساط سليمان بواسطة الريح يشكّل أدنى مشكلة للباري جلّت قدرته!؟

ما هي العوامل التي تحفظ سليمان ووسيلة نقله من السقوط أو من ضغط الهواء والمشكلات الاخرى الناشئة من الحركة في السماء؟ هذه أيضا من المسائل التي خفيت عنّا تفصيلاتها. ولكن ما نعلمه أنّ تأريخ الأنبياء حافل بخوارق العادة والتي ـ مع الأسف ـ امتزجت نتيجة جهود بعض الجهلة أو أعداء المعرفة بالخرافات حتّى أضحت الصورة الحقيقية لهذه الأمور مشوشة وقبيحة ، ونحن

__________________

(١) «لسليمان» جار ومجرور متعلّق بفعل مقدّر تقديره «سخّرنا» كما يفهم بقرينة الآيات السابقة ، وقد صرّح بذلك في الآية (٣٦) من سورة ص. التي قال فيها سبحانه وتعالى :( فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ ) . وبعض المفسّرين يعتقد بأنّ (اللام) في (لسليمان) للتخصيص ، إشارة إلى أنّ المعجزة اختصّ بها سليمان ولم يشاركه فيها أحد من الأنبياء.

٤٠٤

نقتنع بهذا الخصوص بالمقدار الذي أشار إليه القرآن الكريم.

«غدو» : بمعنى وقت الصبح من النهار ، يقابله «الرواح» بمعنى وقت الغروب من النهار ، ويطلق على الحيوانات عند عودتها إلى مساكنها في آخر النهار للاستراحة ، ويبدو من القرائن في الآية مورد البحث أنّ «الغدو» هنا بمعنى النصف الأوّل من النهار ، و «الرواح» النصف الثّاني منه ، لذا يحتمل في معنى الآية أنّ سليمانعليه‌السلام يقطع في وقت مقداره من الصبح إلى الظهر ـ بمركبه ـ ما يعادل المسافة التي يقطعها المسافرون في ذلك الزمان بشهر كامل ، وكذا نصف النهار الثاني.

بعدئذ تنتقل الآية إلى الموهبة الثّانية التي خصّ الله بها سليمانعليه‌السلام فتقول الآية الكريمة :( وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) .

«أسلنا» من مادّة «سيلان» بمعنى الجريان ، و «القطر» بمعنى النحاس ، والمقصود أنّنا أذبنا له هذا الفلز وجعلناه كعين الماء ، وذهب البعض إلى أنّ «القطر» يعني أنواع الفلزات أو «الرصاص» ، وعلى هذا يكون قد ألين الحديد للأب ، وأذيبت الفلزات بأجمعها للابن ، ولكن المشهور هو المعنى الأوّل.

كيف يكون النحاس أو الفلزات الاخرى كعين الماء بين يدي سليمانعليه‌السلام ؟ هل أنّ الله علّم هذا النّبي كيفية إذابة هذه الفلزات بكميات كبيرة بطريقة الإعجاز؟ أو جعل عينا من هذا الفلز المائع تحت تصرفه ، تشبه عيون البراكين وقت فعاليتها ، حيث تنحدر منها على أطراف الجبل بصورة إعجازية ، أو بأي شكل آخر؟ ليس واضحا لدينا وما نعلمه هو أنّ ذلك أيضا كان من الألطاف الإلهية على هذا النّبي العظيم.

أخيرا تنتقل الآية إلى بيان الموهبة الإلهية الثالثة لسليمانعليه‌السلام وهي تسخير مجموعة كبيرة من الجنّ لخدمته فتقول الآية :( وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ) .

«الجنّ» : وكما هو معلوم من اسمه ، ذلك المخلوق المستور عن الحسّ البشري ،

٤٠٥

له عقل وقدرة ومكلّف بتكاليف إلهية ـ كما يستفاد من آيات القرآن ـ.

لقد صيغت حول «الجنّ» أساطير وحكايات وقصص خرافية كثيرة ، لو حذفناها لكان أصل وجودهم والصفات الخاصّة بهم التي وردت في القرآن موضوعا لا يخالف العلم والعقل مطلقا ، وسوف نتعرّض إن شاء الله لتفصيل هذا الموضوع أكثر عند تفسير سورة «الجنّ».

وعلى كلّ حال ، يستفاد من تعبير الآية أعلاه ، أنّ تسخير هذه القوّة العظيمة كان ـ أيضا ـ بأمر الله ، وأنّهم كانوا يتعرّضون للعقاب لدى تقصيرهم في أداء مهامهم.

قال بعض المفسّرين : إنّ المقصود من «عذاب السعير» هنا ، عقوبة يوم القيامة ، في حين أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّها عقوبة في الدنيا.

وكذلك يستفاد من الآيات ٣٧ و٣٨ من سورة «ص» بأنّ الله قد سخّر لسليمانعليه‌السلام مجموعة من الشياطين لإنجاز أعمال عمرانية هامّة له ، وأنّهم كانوا يكبّلون بالسلاسل بأمر من سليمان عند ظهور أي تخلّف منهم( وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) .

والجدير بالملاحظة. هو أنّه لإدارة حكومة كبيرة ، ودولة واسعة كدولة سليمان يلزم وجود عوامل عديدة ، ولكن أهمّها ثلاثة عوامل ذكرتها الآية أعلاه وهي :

الأوّل : توفّر واسطة نقل سريعة مهيّأة على الدوام ، لكي يستطيع رئيس الحكومة تفقّد جميع أطراف دولته بواسطتها.

الثاني : مواد أوّلية يستفاد منها لصناعة المعدّات اللازمة لحياة الناس والصناعات المختلفة.

الثالث : قوّة عاملة فعّالة ، تستطيع الإفادة من تلك المواد بدرجة مناسبة ، وتصنيعها بالكيفية اللازمة ، وسدّ حاجة البلاد من هذه الجهة.

ونرى أنّ الله تعالى قد قيّض لسليمان هذه العناصر الثلاثة ، وقد حقّق سليمان منها أحسن الفائدة في ترقية الناس وتعمير البلاد وتحقيق الأمن فيها.

٤٠٦

وهذا الموضوع لا يختّص فقط بعصر سليمانعليه‌السلام وحكومته ، فالالتفات إليه ومراعاته من الضروريات اليوم وغدا ، وفي كلّ مكان لأجل إدارة الدول بطريقة صحيحة.

الآية التالية ، تشير إلى جانب من الأعمال الإنتاجية الهامّة ، التي كان يقوم بها فريق الجنّ بأمر سليمان.

يقول تعالى :( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ ) .

فكلّ ما أراده سليمان من معابد وتماثيل وأواني كبيرة للغذاء والتي كانت كالأحواض الكبيرة ، وقدور واسعة ثابتة ، كانت تهيّأ له ، فبعضها يرتبط بالمسائل المعنوية والعبادية ، وبعضها الآخر يرتبط بالمسائل الجسمانية ، وكانت متناسبة مع أعداد جيشه وعمّاله الهائلة.

«محاريب» جمع محراب ، ويعني «مكان العبادة» أو «القصور والمباني الكبيرة» التي بنيت كمعابد. كذلك أطلقت أيضا على صدر المجلس ، وعند ما بنيت المساجد سمّي صدر المسجد به ، قيل : سمّي محراب المسجد بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى(١) . وقيل : سمّي بذلك لأنّ الإنسان فيه يكون حريبا من أشغال الدنيا ومن توزّع الخواطر(٢) .

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء العمّال النشطين المهرة ، قاموا ببناء المعابد الضخمة والجميلة في ظلّ حكومته الإلهية والعقائدية ، حتّى يستطيع الناس أداء وظائفهم العبادية بسهولة.

«تماثيل» : جمع تمثال ، بمعنى الرسم والصورة والمجسمة ، وقد وردت تفاسير عديدة حول ماهية هذه التماثيل ولأي الموجودات كانت؟ أو لما ذا أمر سليمان

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادّة (حرب).

(٢) المصدر السابق.

٤٠٧

بصنعها؟.

يمكن أن تكون صنعت لتزيين المباني ، كما نلاحظ ذلك في المباني المهمّة القديمة في عصرنا الحالي ، أو حتّى في بعض المباني الجديدة.

أو لإضفاء الأبّهة والهيبة على المباني التي بنيت ، حيث أنّ رسم بعض أنواع الحيوانات كالأسد مثلا يضفي نوعا من الابّهة في أفكار غالبية الناس.

ثمّ ، هل كان صنع تماثيل ذوات الأرواح مباحا في شريعة سليمانعليه‌السلام مع كونه حراما في الشريعة الإسلامية؟ أو أنّ التماثيل التي كانت تصنع لغير ذوات الروح من الموجودات كالأشجار والجبال والشمس والقمر والنجوم؟

أو أنّها كانت مجرّد نقوش ورسوم على الجدران ـ كما تلاحظ في الآثار القديمة ـ وهي غير محرّمة كما هو الحال في حرمة التماثيل المجسّمة.

كلّ ذلك محتمل ، لأنّ تحريم صناعة المجسّمات في الإسلام ، كان بقصد مكافحة قضيّة عبادة الأوثان واقتلاعها من الجذور ، في حين أنّ ذلك لم يكن بتلك الدرجة من الضرورة في زمن سليمان ، لذا لم تحرم في شريعته!

ولكنّنا نقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنّها الشجر وشبهه»(١) .

وبالاستناد إلى هذه الرّواية فإنّ صنع التماثيل من ذوات الروح في شريعة سليمان كان حراما أيضا.

«جفان» جمع «جفنة» بمعنى إناء الطعام.

«جوابي» جمع «جابية» بمعنى حوض الماء.

وهنا يستفاد أنّ المقصود من التعبير الوارد في الآية الكريمة ، أنّ هؤلاء العمّال قد صنعوا لسليمانعليه‌السلام أواني للطعام كبيرة جدّا ، بحيث أنّ كلّا منها كان كالحوض ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، ب ٩٤ ، ح ١.

٤٠٨

لكي يستطيع عدد كبير من الأفراد الجلوس حوله وتناول الطعام منه. والاستفادة من الأواني الجماعية الكبيرة لتناول الطعام كانت موجودة إلى أزمنة ليست بالبعيدة. وفي الحقيقة فإنّ مائدتهم كانت تلك الأواني الكبيرة التي لا تشبه ما نستعمله هذه الأيّام من أوان صغيرة ومستقلّة.

«قدور» : جمع «قدر» على وزن «قشر». بنفس معناه الحالي ، أي الإناء الذي يطبخ فيه الطعام.

«راسيات» : جمع «راسية» بمعنى ثابتة ، والمقصود أنّ القدور كانت من العظمة بحيث لا يمكن تحريكها من مكانها.

وتعرج الآية في الختام وبعد ذكر هذه المواهب الإلهية ، إلى آل داود فتخاطبهم :( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) .

وبديهي أنّ (الشكر) الذي أشارت إليه الآية ، لو كان مقصودا به الشكر باللسان لما كانت هناك أدنى مشكلة ولمّا كان العاملون به قليلين ، ولكن المقصود هو (الشكر العملي). أي الاستفادة من تلك المواهب في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها. والمسلّم به أنّ الذين يستفيدون من المواهب الإلهية في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها هم الندرة النادرة.

قال بعض العلماء : إنّ للشكر ثلاثة مراحل : الشكر بالقلب ، بتصوّر النعمة والرضى والسرور بها. والشكر باللسان ، وبالحمد والثناء على المنعم. الشكر بسائر الأعضاء والجوارح ، وذلك بتطبيق الأعمال مع متطلّبات تلك النعمة.

«شكور» : صيغة مبالغة. يعبّر بها عن كثرة الشكر ودوامه بالقلب واللسان والأعضاء والجوارح.

وهذه الصفة تطلق أحيانا على الله سبحانه وتعالى ، كما ورد في الآية (١٧) من سورة التغابن :( اللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) . والمقصود به أنّ الله سبحانه وتعالى ، يشمل العباد المطيعين بعطاياه وألطافه ، ويشكرهم ، ويزيدهم من فضله أكثر ممّا

٤٠٩

يستحقّون.

كذلك يمكن أن يكون التعبير بـ( قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) إشارة إلى تعظيم مقام هذه المجموعة النموذجية ، أو بمعنى حثّ المستمع ليكون من أفراد تلك الزمرة ويزيد جمع الشاكرين.

آخر آية من هذه الآيات ، وهي آخر حديث عن النّبي سليمانعليه‌السلام ، يخبرنا الله سبحانه وتعالى فيها بطريقة موت ذلك النّبي العجيبة والداعية للاعتبار ، فيوضّح تلك الحقيقة الساطعة ، وهي كيف أنّ نبيّا بتلك العظمة وحاكما بكلّ تلك القدرة والابّهة ، لم يستطع حين أخذ الموت بتلابيبه من أن يستلقي على سرير مريح ، وانتزعت روحه من بدنه بتلك السهولة والسرعة. يقول تعالى :( فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) (١) .

يستفاد من تعبير الآية ومن الروايات المتعدّدة الواردة في تفسيرها ، أنّ سليمان كان واقفا متّكئا على عصاه حين فاجأه الموت واستلّ روحه من بدنه ، وبقي جثمان سليمان مدّة على حالته ، حتّى أكلت الأرضة ـ التي عبّر عنها القرآن بـ «دابّة الأرض» ـ عصاه ، فاختلّ توازنه وهوى على الأرض ، وبذا علم بموته.

لذا تضيف الآية بعد ذلك( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ ) .

جملة «تبيّنت» من مادّة «بيّن» عادة بمعنى (اتّضح) (وهو فعل لازم). وأحيانا يأتي أيضا بمعنى «العلم والاطلاع» (فعل متعد). وهنا يتناسب الحال مع المعنى الثاني. بمعنى أنّ الجنّ لم يعلموا بموت سليمان إلى ذلك الوقت ، ثمّ علموا وفهموا أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب لما بقوا حتّى ذلك الحين في تعب وآلام الأعمال

__________________

(١) «منسأته» : من مادّة (نسأ) وهو التأخير في الوقت ، والمنسأة : عصا ينسأ بها الشيء ، أي يؤخّر. قال بعض المفسّرين : إنّ هذه اللفظة من كلمات أهل اليمن ، وبما أنّ سليمانعليه‌السلام حكم تلك المنطقة فقد استخدمها القرآن حين حديثه عن ذلك النّبي. راجع مفردات الراغب وتفسير القرطبي وروح البيان.

٤١٠

الشاقّة التي كلّفوا بها.

جمع من المفسّرين أخذ المعنى بالحالة الأولى ، وقال : إنّ مقصود الآية هو أنّه بعد أن هوى جثمان سليمانعليه‌السلام إلى الأرض اتّضحت حقيقة الجنّ للناس ، وأنّهم لا يعلمون شيئا من الغيب ، وعبثا كان إعتقاد البعض باطّلاع الجنّ على الغيب(١) .

(العذاب المهين) هذا التعبير قد يكون إشارة إلى الأعمال الشاقّة التي كان سليمانعليه‌السلام يعهد بها إلى مجموعة من الجنّ كنوع من العقاب ، وإلّا فإنّ نبيّ الله لا يمكن أن يضع أحدا في العذاب عبثا ، وهو على ما يبدو عذاب مذلّ.

* * *

بحوث

١ ـ صور من حياة سليمانعليه‌السلام :

على عكس «التوراة» الموجود اليوم والتي صوّرت «سليمان» أحد السلاطين الجبابرة وباني معابد الأوثان الضخمة ومستهتر النساء ـ يعدّ القرآن الكريم «سليمان» من أنبياء الله العظام ونموذج للحكومة والقدرة المنقطعة النظير ، وقد أعطى القرآن الكريم بعرضه البحوث المختلفة المتعلّقة بسليمان دروسا للبشر هي الأساس من ذكر قصّته.

قرأنا في هذه الآيات الكريمة ، أنّ الله تعالى أعطى لهذا الرّسول العظيم مواهب عظيمة ، فمن وسيلة النقل السريعة جدّا والتي استطاع بواسطتها التنقّل في مملكته الواسعة في مدّة قصيرة ، إلى المواد المعدنية المختلفة الكثيرة ، إلى القوى العاملة الفعّالة الكافية لتصنيع تلك المعادن.

__________________

(١) في الحالة الاولى يكون إعراب الآية كما يلي : «تبيّنت» فعل و «الجنّ» فاعل وجملة «أن لو كانوا ...» في محل مفعول به ، وفي الحالة الثّانية «تبيّنت» فعل و «أمر الجنّ» فاعل ثمّ حذف المضاف وأصبح «المضاف إليه» في محلّه ، وأن لو كانوا بيان وتوضيح للجملة.

٤١١

وقد قام سليمانعليه‌السلام بالاستفادة من المواهب المذكورة ، ببناء المعابد الضخمة ، وترغيب الناس بالعبادة ، وكذلك فقد نظّم برامج واسعة لاستضافة أفراد جيشه وعمّاله وسائر الناس في مملكته. ومن الأواني التي مرّ ذكرها يمكننا تخيّل أكثر من ذلك.

وفي قبال ذلك طالبه الله تعالى بأداء الشكر على هذه النعم ، مع تأكيده سبحانه على أنّ أداء شكر النعم يتحقّق من فئة قليلة نادرة.

ثمّ اتّضح كيف أنّ رجلا بكلّ هذه القدرة والعظمة كان أمام الموت ضعيفا لا حول له ولا قوّة ، بحيث فارق الدنيا فجأة وفي لحظة واحدة. نعم كيف أنّ الأجل لم يعطه حتّى فرصة الجلوس أو الاستلقاء على سريره. ذلك حتّى لا يتّوهم المغرورون العاصون حينما يبلغون مقاما أو منصبا أن قد أصبحوا مقتدرين حقيقة ، فإنّ المقتدر الحقيقي الذي كان الجنّ والإنس والشياطين خدما بين يديه ، والذي كان يجول في الأرض والسماء وقد بلغ قمّة الهيبة والحشمة ثمّ في لحظة قصيرة فارق الدنيا.

واتّضح كذلك كيف أنّ عصا تافهة ، أقامت جثمانه مدّة ، وجعلت الجنّ يعملون بجد واجتهاد وهم يلحظون جثمانه الواقف أو الجالس. ثمّ كيف أسقطته الأرضة على الأرض ، وكيف اضطربت بسقوطه الدولة بكلّ مسئوليها. نعم ، عصا تافهة أقامت دولة عظيمة ، ثمّ حشرة صغيرة أوقفت تلك الدولة!!

الجميل هو ما ورد في الرواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام إذ قال : «أمر سليمان بن داود الجنّ فصنعوا له قبّة من قوارير فبينا هو متكئ على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف ينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبّة قال له : من أنت ، قال : أنا الذي لا أقبل الرشا ولا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه وهو قائم متكئ على عصاه في القبّة والجنّ ينظرون إليه. قال : فمكثوا سنة يدأبون له حتّى بعث اللهعزوجل الأرضة فأكلت منسأته ـ وهي العصا ـ فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ

٤١٢

أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين» الحديث(١) .

ويجب أن نذكّر هنا أيضا ، بأنّ قصّة النّبي سليمانعليه‌السلام ككثير من قصص الأنبياء ، اختلطت مع الأسف بروايات كثيرة موضوعة وخرافات شوّهت صورة هذا النّبي العظيم ، وأكثر هذه الخرافات أخذت من التوراة الرائجة اليوم ، ولو اقتنعنا بما ورد في القرآن الكريم حول هذا النّبي لما واجهتنا أيّة مشكلة.

٢ ـ لماذا خفي موت سليمان مدّة من الزمن؟

كم هي المدّة التي ظلّ فيها موت سليمان مخفيا عن حكومته ، هل كانت سنة ، أم شهرا ، أم عدّة أيّام؟ اختلف المفسّرون حول هذا الموضوع.

هل أنّ الكتمان كان من قبل مقربيه الذين قصدوا من وراء ذلك تمشية امور الدولة ، أم أنّهم هم الآخرون قد خفي عليهم ذلك؟

يبدو من المستبعد تماما أن يخفى أمر وفاته عن حاشيته لمدّة طويلة ، لا بل حتّى لأكثر من يوم واحد ، لأنّ من المسلّم أنّ هناك أفرادا كانوا مكلّفين بإيصال احتياجاته وغذائه إليه ، وهؤلاء سيعلمون بموته حتما ، وعليه فلا يستبعد ـ كما قال بعض المفسّرين ـ أنّهم علموا بأمر موته ، لكنّهم أخفوا ذلك الأمر لغايات معيّنة ، لذا فقد ورد في بعض الروايات بأنّ «آصف بن برخيا» وزير سليمان الخاص ، هو الذي كان يدير امور الدولة.

ألم تشكّل مسألة عدم تناول الطعام والماء لمدّة طويلة تساؤلا لدى ناظريه؟

مع اليقين بأنّ كلّ أعمال سليمانعليه‌السلام كانت عجيبة ، فيمكن اعتبار هذه المسألة من عجائبه أيضا ، وحتّى أنّه ورد في بعض الروايات أنّه بعد مدّة من بقاء سليمانعليه‌السلام على حاله كثر الهمس بين البعض في وجوب عيادة سليمان ، لأنّه على

__________________

(١) علل الشرائع ، طبقا لنقل الميزان ، ج ١٦ ، ص ٣٦٦.

٤١٣

حاله منذ مدّة لم يتحرّك ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم(١) . ولكن حينما تحطّمت العصا ، وسقط الجثمان على الأرض تبدّدت كلّ هذه الأفكار والأوهام.

على كلّ حال ، فإنّ تأخير إعلان موت سليمانعليه‌السلام كشف كثيرا من الأمور :

١ ـ اتّضح للجميع أنّ الإنسان حتّى إذا بلغ أوج القدرة والقوّة ، فلا يزال هو الموجود الضعيف قبال الحوادث ، كالقشّة في خضمّ الطوفان يتقاذفها في كلّ جانب.

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسّلام) في إحدى خطبه «فلو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلما أو لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داودعليهما‌السلام الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة»(٢) .

٢ ـ اتّضح للجميع أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب ، والمغفّلين من البشر الذين كانوا يعبدونهم كانوا على خطأ فادح.

٣ ـ اتّضحت لجميع الناس أيضا حقيقة إمكان أن يرتبط نظام دولة بموضوع صغير ، بوجوده يمكن أن يقوم هذا النظام ، وبانهياره ينهار هذا النظام ، ومن وراء ذلك تجلّت القدرة اللامتناهية للباريعزوجل .

٣ ـ سليمان في القرآن والتوراة الحالية

يصوّر القرآن سليمان بصورة نبي عظيم ، ذي علم وافر ، وتقوى عالية ، لم يأسره المقام والمال أبدا ، مع كلّ ما كان له من سلطة في حكومة عظيمة ، وقال حينما أرسلت ملكة سبأ ـ لخداعه ـ هدايا نفيسة وثمينة( أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٣٤٥.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٢.

٤١٤

مِمَّا آتاكُمْ ) (١) لم يكن لهم من هم سوى أداء الشكر لله على نعمه( وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ) (٢) .

قائد لم يسمح بظلم نملة حينما قالت وهم في وادي النمل :( يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (٣) .

كان «عابدا» إذا غفل عن ذكر ربّه أو شغل بالدنيا عاد منيبا وهو يقول :( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) (٤) .

كان «حكيما» لم يجانب المنطق في قول ، حتّى في حديثه مع الهدهد ، لم يتخلّ عن الحقّ والعدالة.

كان «حاكما» له من المعاونين من له من علم الكتاب ما استطاع به إحضار عرش بلقيس في أقلّ من طرفة عين.

وقد وصفه القرآن الكريم بـ «الأوّاب» و «نعم العبد».

شخص أعطاه الله «الحكم» و «العلم» وشمله بهدايته ، ولم يشرك بالله طرفة عين أبدا.

لكنّنا نجد أنّ التوراة الحالية المحرّفة ، قد لوّثت صفحة هذا النّبي العظيم بالشرك وغيره ، فقد نسبت إليه أسوأ الأوصاف فيما يخصّ بناء المعابد الوثنية ، والترويج لعبادة الأوثان ، والوالع المفرط بالنساء ، وتعبيرات قبيحة جدّا من أوصاف العشّاق المبتذلين ، التي نخجل عن ذكرها.

ونكتفي بذكر بعض ما ورد في التوراة من الأساطير الأهون قبحا ، ففي الكتاب الأوّل للملوك من التوراة نقرأ ما يلي :

__________________

(١) النمل ، ٣٦.

(٢) النمل ، ١٩.

(٣) النمل ـ ١٨.

(٤) سورة ص ، ٣٢.

٤١٥

«وأولع سليمان بنساء غريبات كثيرات فضلا عن ابنة فرعون ، فتزوّج نساء موابيات وعمّونيّات وأدوميات وصيدونيات وحثيات ، وكلّهنّ من بنات الأمم التي نهي الربّ بني إسرائيل عن الزواج منهنّ قائلا لهم : «لا تتزوّجوا منهم ولا هم منكم لأنّهم يغوون قلوبكم وراء آلهتهم» ولكن سليمان التصق بهنّ لفرط محبّته لهنّ ، فكانت له سبع مائة زوجة ، وثلاث مائة محضية ، فانحرفن بقلبه عن الربّ فاستطعن في زمن شيخوخته أن يغوين قلبه وراء آلهة اخرى ، فلم يكن قلبه مستقيما مع الربّ إلهه كقلب داود أبيه ، وما لبث أن عبد عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم إله العمونيين البغيض ، وارتكب الشرّ في عيني الربّ ، ولم يتّبع سبيل الربّ بكمال كما فعل أبوه داود ، وأقام على تلّ شرقي أورشليم مرتفعا تكموش إله الموآبيين الفاسق. ولمولك إله بني عمون البغيض ، وشيّد مرتفعات لجميع نسائه الغربيات ، اللواتي رحن يوقدن البخور عليها ، ويقربن المحرّقات لآلهتهنّ فغضب الربّ على سليمان لأنّ قلبه ضلّ عنه مع أنّه تجلّى له مرّتين ونهاه عن الغواية وراء آلهة اخرى ، فلم يطع وصيّته ، لهذا قال الله لسليمان! لأنّك انحرفت عنّي ونكثت عهدي ، ولم تطع فرائضي التي أوصيتك بها ، فانّي حتما امزّق أوصال مملكتك وأعطيها لأحد عبيدك ، إلّا أنّني لا أفعل ذلك في أيّامك ، من أجل داود أبيك ، بل من يد ابنك امزّقها ، غير أنّي ابقي له سبطا واحدا يملك عليه إكراما لداود عبدي ...»(١) .

ومن مجموع هذه القصّة الخرافية للتوراة يتّضح ما يلي :

١ ـ إنّ سليمان كان يحبّ كثيرا النساء الوثنيات ، وتزوّج بكثير منهنّ على خلاف أوامر الله تعالى ، وتدريجيّا مال إلى دينهنّ ، وبالرغم من كثرة نسائه (٧٠٠ زوجة و٣٠٠ محضية) فانّ حبّه لهنّ أدّى إلى انحرافه عن طريق الحقّ (نعوذ بالله).

__________________

(١) التوراة كتاب الملوك الأوّل ـ الفصل ١١ ـ ١٢ ـ زوجات سليمان.

٤١٦

٢ ـ إنّ سليمان أمر بصراحة ببناء معابد للأوثان فوق الجبل المقابل لأورشليم المركز الديني المقدّس لبني إسرائيل ، وأحد المعابد كان لصنم «كموش» الذي يعبده الموآبيون ، والآخر لصنم «عشترون» الذي كان يعبده الصيداويون. وكلّ ذلك حدث في أيّام شيخوخته.

٣ ـ إنّ الله تعالى قرّر عقوبة سليمان بسبب انحرافه وذنوبه الكبيرة بأن يفقد مملكته ، ولكن لا من يده ، بل من يد ابنه «رحبعام» ويتركه إلى آخر عمره يلعب ويعبث كيفما شاء من أجل أبيه داود العبد المخلص ، أي ذلك العبد الذي تقول التوراة عنه انّه ارتكب قتل النفس وزنا المحصنة والاستيلاء على زوجة قائد جيشه المتفاني!! فهل يمكن تصديق مثل هذه التّهم ضدّ رجل مقدّس مثل سليمان؟!

ولو فرضنا أنّ سليمان لم يكن نبيّا ـ كما يصرّح القرآن بذلك ـ وقلنا بأنّه من ملوك بني إسرائيل ، فمع ذلك لا يمكن تصديق مثل هذه التّهم في حقّه ، لأنّه لو لم يكن نبيّا فلا أقل من أنّ مرتبته كانت تالية لمرتبة النّبي ، لأنّ له كتابين من كتب العهد القديم أحدها يدعى : «مواعظ سليمان» والآخر «أشعار سليمان».

وأساسا كيف يجيب اليهود والنصارى الذين يعتقدون بهذه التوراة الحالية على هذه الأسئلة والإشكالات؟ وكيف يتسنّى لهم قبول مثل هذه الفضائح؟!

٤ ـ وقليل من عبادي الشكور

قبل كلّ شيء يلزم البحث في الأصل اللغوي لكلمة «شكر».

الراغب الأصفهاني يقول في مفرداته ، الشكر : تصوّر النعمة وإظهارها ، قيل وهو مقلوب عن «الكشر» أي الكشف ، ويضادّه الكفر ، وهو نسيان النعمة وسترها ، «ودابة شكور» مظهرة بسمنها إسداء صاحبها إليها. وقيل أصله عين شكرى ، أي ممتلئة فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه.

٤١٧

والشكر ثلاثة أضرب : شكر القلب ، وهو تصوّر النعمة. وشكر اللسان ، وهو الثناء على المنعم ، وشكر سائر الجوارح ، وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها.

التعبير القرآني في الآية( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) يشير إلى أنّ الشكر أكثر من مقولة ، إنّه «عمل» ، ويجب أن يظهر من بين أعمال الإنسان ، وعليه فقد يكون القرآن الكريم قد عدّ الشاكرين الحقيقيين قلّة لهذا السبب. وفضلا عمّا ورد في هذه الآيات فإنّ في الآية (٢٣) من سورة الملك ، ذكر بعد تعداد بعض النعم الإلهية العظيمة ، كخلق السمع والبصر والقلب ، ذكر( قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) ، وكذا في الآية (٧٣) من سورة النمل ورد( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) . وهذا من جانب.

ومن جانب آخر فمع الالتفات إلى أنّ الإنسان غارق من رأسه حتّى أخمص قدميه بنعم الله التي لا تعدّ ولا تحصى ، كما عبّر عن ذلك القرآن الكريم( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) يتّضح لما ذا يمتنع الشكر كما ينبغي لله قبال جميع النعم التي أفاضها الباري جلّ وعلا.

بتعبير آخر ، وكما ورد على لسان بعض كبار المفسّرين ، فإنّ «الشكر المطلق» ، هو أن يكون الإنسان على ذكر دائم لله بلا أدنى نسيان ، سائرا في طريقه تعالى بدون أيّة معصية ، طائعا لأوامره بلا أدنى لفّ أو دوران ، ومسلّم بأنّ هذه الأوصاف لا تجتمع إلّا في القلّة النادرة ، ولا يصغى إلى قول من يقول : إنّه أمر بما لا يطاق ، فإنّه ناشئ من قلّة التدبّر في هذه الحقائق والبعد من ساحة العبودية(١) .

قد يقال : إنّ أداء حقّ الشكر لله سبحانه وتعالى قضيّة معقّدة بلحاظ إنّه في الوقت الذي يقف فيه الإنسان في مقام الشكر ويوفّق لذلك ، بأن تتوفّر لديه أسباب أداء الشكر ، فإنّ ذلك بحدّ ذاته نعمة جديدة تحتاج إلى شكر آخر ، وبذا يستمرّ هذا الموضوع بشكل متتابع ، وكلّما بذل الإنسان جهدا أكثر في طريق الشكر سيكون مشمولا بنعمة متزايدة لا يمكنه معها أداء شكرها. لكن إذا انتبهنا أنّ أحد طرق أداء

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٤ ، ص ٣٨.

٤١٨

الشكر لله هو بإظهار العجز عن أدائه كما بيّن القرآن الكريم يتّضح حقيقة قلّة الشاكرين وملاحظة الأحاديث التالية تساعد في توضيح هذا المطلب.

فعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال : «نعم» قلت : ما هو؟ قال : يحمد الله على كلّ نعمة عليه في أهل ومال ، وإن كان فيما أنعم عليه في ماله حقّ أدّاه»(١) .

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : «شكر النعمة اجتناب المحارم»(٢) .

وعن الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام أيضا قال : «فيما أوحى اللهعزوجل إلى موسىعليه‌السلام : يا موسى اشكرني حقّ شكري ، فقال : يا ربّ وكيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به عليّ؟ قال : يا موسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي»(٣) .

نلفت النظر كذلك إلى أنّ شكر الإنسان الذي يكون وسيلة للنعمة لشخص آخر ، هو شعبة من شكر الله ، وكما ورد عن علي بن الحسين السجّادعليه‌السلام قوله : إنّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ويحبّ كلّ عبد شكور ، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة : أشكرت فلانا؟ فيقول : بل شكرتك يا ربّ ، فيقول : لم تشكرني إذ لم تشكره ، ثمّ قال : أشكركم لله أشكركم للناس»(٤) .

وفيما يخصّ موضوع (حقيقة الشكر) وكيف يكون الشكر سببا في زيادة النعمة ، وكيف يكون الكفر سببا في ذهابها وفنائها ، هناك شرح مفصّل في تفسير الآية السابعة من سورة إبراهيم.

* * *

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، باب الشكر ، ص ٩٥ ، ح ١٢ وح ١٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الكافي ، ج ٢ ، باب الشكر ، ص ٩٨ ، ح ٢٧.

(٤) الكافي ، ج ٢ ، باب الشكر ، ص ٩٩ ، ح ٣٠.

٤١٩

الآيات

( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) )

التّفسير

المدينة الراقية التي أضاعها الكفران :

بعد أن تطرّقت الآيات السابقة إلى توضيح النعم الإلهية العظيمة التي أولاها الله داود وسليمانعليهما‌السلام ، وأداء هذين النّبيين العظيمين وظيفتهما بالشكر ، تنتقل الآيات أعلاه إلى الحديث عن قوم آخرين يمثّلون الموقف المقابل للموقف السابق ، ويحتمل أن يكونوا قد عاصروا داود وسليمان أو عاشوا بعدهما بفترة قليلة قوم شملهم الله بأنواع النعم ، ولكنّهم سلكوا طريق الكفران ، فسلبهم الله ذلك ، ومزّقهم شرّ ممزّق ، حتّى أصبح ما حلّ بهم عبرة للعالمين ، أولئك كانوا «قوم سبأ».

عرض القرآن المجيد تأريخ «قوم سبأ» من خلال خمس آيات ، وأشار

٤٢٠