الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156558 / تحميل: 5914
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

باختصار إلى بعض خصوصيات وجزئيات حياتهم.

يقول تعالى :( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ) .

كما سنرى فإنّ عظمة هذه الآية تنبع من أنّهم بالاستفادة من خصوصيات موقعهم وطريقة إحاطة الجبال بمنطقة سكناهم وبالذكاء العالي الذي وهبهم الله ، استطاعوا حصر مياه السيول ـ التي لا تخلف وراءها إلّا الدمار ـ خلف سدّ عظيم ، وبذا عمّروا دولة رفيعة التمدّن ، فكانت آية عظيمة أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى عامل رئيسي من عوامل العمران والتمدّن!!

«سبأ» اسم من؟ وما هي؟. الموضوع مورد أخذ وردّ بين المؤرخين ، ولكن المشهور هو أنّ «سبأ» اسم «أبي العرب» في اليمن ، وطبقا للرواية الواردة عن «فروة بن مسيك» أنّه قال : «سألت رسول الله عن «سبأ» أرجل هو أم امرأة؟ فقال : هو رجل من العرب ولد له عشرة ، تيامن منهم ستّة وتشاءم منهم أربعة ، فأمّا الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وأنمار ومجد. فقال رجل من القوم : ما أنمار؟ قال : الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأمّا الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان. فالمراد بسبإ هاهنا القبيلة الذين هم أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان»(١) .

وبعضهم ذهب إلى أنّ «سبأ» اسم لأرض اليمن أو لإحدى مناطقها. وظاهر الآيات القرآنية التي تحدّثت في قصّة سليمانعليه‌السلام و (الهدهد) أشارت إلى هذا المعنى أيضا ففي الآية (٢٢) من سورة النمل ، يقول تعالى على لسان الهدهد :( وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) يعني لقد جئتك من أرض سبأ بنبإ يقين.

في حال أنّ ظاهر الآية مورد البحث هو أنّ «سبأ» كانوا «قوما» عاشوا في تلك المنطقة ، بلحاظ أنّ ضمير «هم» في «مساكنهم» يعود عليهم.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

٤٢١

ولا منافاة بين التّفسيرين لأنّ من الممكن أن يكون «سبأ» اسم شخص ابتداء ، ثمّ بعدئذ سمّي كلّ أولاده وقومه من بعده باسمه ، ثمّ انتقل الاسم ليشمل مكان سكناهم.

تنتقل الآية بعد ذلك لتجلّي الموقف عن تلك الموهبة الإلهية التي وضعت بين يدي قوم سبأ. فيقول تعالى :( جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ ) .

ما حصل هو أنّ قوم سبأ استطاعوا ـ ببناء سدّ عظيم بين الجبال الرئيسية في منطقتهم ـ حصر مياه السيول المدمّرة أو الضائعة هدرا على الأقل ، والإفادة منها وبإحداث منافذ في ذلك السدّ سيطروا تماما على ذلك الخزّان المائي الهائل ، وبالتحكّم فيه تمكّنوا من زراعة مساحات شاسعة من الأرض.

الإشكال الذي أثاره (الفخر الرازي) هو : ما هي أهميّة وجود مزرعتين لكي يذكر ذلك في آية مستقلّة؟ ثمّ يقول في الجواب أنّ هاتين المزرعتين لم تكونا عاديتين ، بل إنّهما عبارة عن سلسلة من رياض المترابطة مع بعضها البعض والممتدة على جانبي نهر عظيم يتغذّى من ذلك السدّ العظيم. وكانت تلك الرياض مليئة بالبركات إلى درجة أنّه ورد في كتب التأريخ عنها ، أن لو مرّ شخص يحمل على رأسه سلّة فارغة من تحت أشجار تلك المزارع في فصل نضوج الأثمار فانّها تمتلئ بسرعة نتيجة ما يتساقط من تلك الأثمار الناضجة.

أليس من العجيب إذا أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى سبب رئيسي للعمران بذلك الشكل المدهش؟ ثمّ ألا يعدّ ذلك من عجائب آيات الله سبحانه وتعالى؟

وعلاوة على كلّ ذلك ـ وكما سترد الإشارة إليه في الآيات الآتية ـ فإنّ من آيات الله أيضا ذلك الأمن والأمان غير العاديين اللذين شملا تلك الأرض.

ثمّ يضيف القرآن :( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌ

٤٢٢

غَفُورٌ ) (١) (٢) .

هذه الجملة القصيرة تصوّر مجموعة النعم المادية والمعنوية بأجمل تعابير ، فبلحاظ النعم المادية أرض طيّبة خالية من الأمراض المختلفة ، من السراق والظلمة ، من الآفات والبلايا ، من الجفاف والقحط ، من الخوف والوحشة ، وقيل خالية حتّى من الحشرات المؤذية.

هواء نقي ، ونسيم يبعث على السرور ، أرض معطاءة وأشجار وافرة الثمر.

وأمّا بلحاظ النعم المعنوية فمغفرة الله التي شملتهم ، والتغاضي عن تقصيرهم ، وصرف البلاء والعذاب عنهم وعن بلدتهم.

ولكن هؤلاء الجاحدين غير الشكورين. لم يقدّروا تلك النعمة حّق قدرها. ولم يخرجوا من بوتقة الامتحان بسلام ، سلكوا طريق الإعراض والكفران ، فقرّعهم الله أيّما تقريع!!

قال تعالى :( فَأَعْرَضُوا ) استهانوا بنعمة الله ، توهّموا بأنّ العمران والمدنية والأمن أشياء عادية ، نسوا الله ، وأسكرتهم النعمة ، وتفاخر الأغنياء على الفقراء ، وظنّوا أنّهم يزاحمونهم في أرزاقهم ـ كما سيرد في الآيات اللاحقة ـ.

وهنا مسّهم سوط الجزاء ، يقول تعالى :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) فدمّر بيوتهم ومزارعهم وحوّلها إلى خرائب

«العرم» : من «العرامة» وهي شراسة وصعوبة في الخلق تظهر بالفعل ، ووصف «السيل» بالعرم إشارة إلى شدّته وقابليته على التدمير. وتعبير «سيل العرم» من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.

وقيل : «العرم» الجرذان الصحراوية ، وهي التي سبّبت انهيار السدّ بنفوذها فيه

__________________

(١) «بلدة» : خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هذه بلدة طيّبة وهذا ربّ غفور.

(٢) يمكن أن يكون هذا الخطاب الإلهي لهؤلاء القوم على أحد احتمالين ، فإمّا أن يكون قد أبلغ ذلك بواسطة الأنبياء المبعوثين منهم ، كما قال به بعض المفسّرين ، أو أنّ هذه النعم كانت توصل إلى إدراكهم مثل هذا الخطاب.

٤٢٣

(قصّة نفوذ الجرذان الصحراوية في السدّ ، مع كونها ممكنة ـ كما سيرد شرحه فيما بعد ـ لكن تعبير الآية ليس فيه أدنى تناسب مع هذا المعنى).

في «لسان العرب» ، مادّة «عرم» وردت معان مختلفة من جملتها «السيل الذي لا يطاق» ومنه قوله تعالى «الآية» ، وقيل : إضافة إلى المسنّاة أو السدّ ، وقيل : إلى الفأر(١) .

ولكن أنسب التفاسير هو الأوّل ، وهو الذي اعتمده ـ أيضا ـ علي بن إبراهيم في تفسيره.

بعدئذ يصف القرآن الكريم عاقبة هذه الأرض كما يلي :( وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) .

«أكل» : بمعنى الطعام.

«خمط» : بمعنى النبات المرّ وهو «الأراك».

«أثل» : شجر معروف.

وبذا يكون قد نبت محلّ تلك الأشجار الخضراء المثمرة ، أشجار صحراوية غليظة ليست ذات قيمة ، والتي قد يكون «السدر» أهمّها ، وهذا أيضا كان نادرا بينها. ولك ـ أيّها القارئ ـ أن تتخيّل أي بلاء حلّ بهؤلاء وبأرضهم؟!

ولعلّ ذكر هذه الأنواع الثلاثة من الأشجار التي بقيت في تلك الأرض المدمّرة إشارة إلى ثلاثة امور : أحدها قبيح المنظر ، والثّاني لا نفع فيه ، والثالث له منفعة قليلة جدّا.

يقول تعالى في الآية التالية بصراحة وكتلخيص واستنتاج لهذه القصّة( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ) .

ويجب أن لا يتبادر إلى الذهن بأنّ هذا المصير يخصّ هؤلاء القوم ، بل إنّ من

__________________

(١) لسان العرب مادّة «عرم» ج ١٢ ، ص ٣٩٦.

٤٢٤

المسلّم أنّه يعمّ كلّ من كانت لهم أعمال شبيهة بأعمال هؤلاء. وهكذا تضيف الآية( وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) .

كان هذا مختصرا عن مصير «قوم سبأ» الذي سنفصّله أكثر في تفسير الآيات اللاحقة.

* * *

٤٢٥

الآيتان

( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) )

التّفسير

( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ!! )

تعود هذه الآيات إلى قصّة قوم سبأ مرّة اخرى ، وتعطي شرحا وتفصيلا أكثر حولهم وحول العقاب الذي حلّ بهم. ليكون درسا بليغا وتربويا لكلّ سامع.

يقول تعالى : لقد عمّرنا أرضهم إلى حدّ أنّ النعمة لم تغطّها وحدها ، بل( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ) . فقد جعلنا بينهم وبين الأرض المباركة مدائن وقرى اخرى متّصلة بفواصل قليلة إلى درجة أنّ القرية ترى من القرية الثّانية.

بعض المفسّرين قالوا في تفسير «قرى ظاهرة» بأنّها إشارة إلى القرى التي كانت تظهر للعيان من جادّة المسير بشكل واضح ، ويستطيع المسافرون التوقّف فيها ، أو

٤٢٦

أنّها القرى التي كانت على مرتفعات من الأرض فكانت واضحة للعابرين.

أمّا ما هي «الأرض المباركة»؟ فقد أجمع أغلب المفسّرين على أنّها «أرض الشام» (سوريا وفلسطين والأردن) ، لأنّ هذا التعبير اطلق على نفس هذه المنطقة في الآية الاولى من سورة الإسراء ، والآية (٨١) من سورة الأنبياء.

ولكن بعض المفسّرين احتمل أنّ المقصود منها هو «صنعاء» أو «مأرب» وكلتاهما كانتا في اليمن ، ولا يستبعد هذا التّفسير ، لأنّ المسافة بين (اليمن) الواقعة في أقصى جنوب الجزيرة العربية ، و (الشام) الواقعة في أقصى شمالها ، شاسعة ومليئة بالصحاري اليابسة المقفرة ممّا يجعل تفسير الأرض المباركة هنا (بالشام) بعيدا جدّا ، ولم ينقل في التواريخ ما يشير إلى ذلك.

بعضهم احتمل أيضا أن يكون المقصود (بالأرض المباركة). (مكّة) وهو بعيد أيضا.

هذا من جهة العمران ، ولكن العمران وحده لا يكفي ، بل إنّ شرطه الأساسي هو «الأمان» ، ولذلك تضيف الآية( وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ) أي جعلنا بينها فواصل معتدلة.( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) .

وبهذا فإنّ الفواصل والمسافات بين القرى كانت متناسقة محسوبة ، وكذلك فإنّها طرق محفوظة من حملات الضواري أو السرّاق أو قطّاع الطرق. بحيث أنّ الناس كانوا يسافرون خلال هذه الطرق. بلا زاد أو دواب وبلا استفادة من الحراس المسلّحين ، ولم يكونوا يخافون من حوادث الطريق أو قلّة الماء والزاد لديهم.

أمّا بأيّة وسيلة تمّ إبلاغ هذه الرسالة للناس( سِيرُوا فِيها ) الآية ، يرد أيضا الاحتمالان بأن يكون ذلك بواسطة أحد الأنبياءعليهم‌السلام ، أو أنّ ظاهر حال المنطقة كان يوصل هذا المعنى إلى وجدانهم.

تقديم «الليالي» على «الأيّام» قد يكون بلحاظ أنّ وجود الأمن في الليل من

٤٢٧

السرّاق او الوحوش اهمّ منه في النهار الذي تسهل معه مهمّة الأمن.

ولكن هؤلاء جحدوا نعم الله العظيمة التي شملت كلّ مناحي حياتهم ـ كما هو الحال بالنسبة لغيرهم من الأقوام المتنعّمة ـ ولبسهم الغرور ، وأحاطت بهم الغفلة ونشوة النعيم وعدم لياقتهم له ، فأسلكتهم طريق الكفران وعدم الشكر ، وانحرفوا عن الصراط وتركوا أوامر الله خلف ظهورهم.

فمن جملة مطالبهم العجيبة من الله ،( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) .

أي طلبوا أن يجعل الله المسافات بين قراهم طويلة ، كي لا يستطيع الفقراء السفر جنبا إلى جنب مع الأغنياء ، ومقصودهم هو أن تكون بين القرى ـ كما أسلفنا ـ فواصل صحراوية شاسعة ، حتّى لا يستطيع الفقراء ومتوسّطو الحال الإقدام على السفر بلا زاد أو ماء أو مركّب ، وبذا يكون السفر أحد مفاخر الأغنياء وعلامة على القدرة والثروة ، ووجوب أن يظهر هذا الامتياز ويثبت لدى الجميع.

أو أنّهم ملّوا من الراحة والرفاه ، كما ملّ بنو إسرائيل من (المنّ والسلوى) (الغذاء السماوي) وطلبوا من الله البصل والثوم والعدس.

بعضهم احتمل أيضا أن يكون المقصود بعبارة( باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) أنّهم أصبحوا كسالى إلى درجة لم يكونوا معها حاضرين للسفر لغرض رعي الحيوانات أو التجارة أو الزراعة ، ولذا طلبوا من الله أن يبقيهم في وطنهم دائما ويباعد بين السفرة والاخرى. ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أفضل.

على كلّ حال فإنّهم بهذا العمل أوقعوا الظلم على أنفسهم( وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) .

نعم ، فإن كانوا يظنّون أنّهم إنّما يظلمون غيرهم فقد اشتبهوا ، إذ أنّهم قد استلّوا خنجرا ومزّقوا به صدورهم ، ودخّان النار التي أسعروها أعمى عيونهم.

وياله من تعبير رائع ، ذلك الذي أوضح به القرآن الكريم مصيرهم المؤلم ، حيث يقول : إنّنا جازيناهم ودمّرنا بلادهم ومعيشتهم بحيث :( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) .

نعم فلم يبق من تلك الحياة المرفّهة ، والتمدّن العريض المشرق ، إلّا أخبار على

٤٢٨

الألسن ، وذكريات في الخواطر ، وكلمات على صفحات التاريخ( وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) .

كيف دمّرنا أرضهم بحيث سلبت منهم معها قدرة البقاء فيها ، وبذا أصبحوا مجبرين على أن يتفرّقوا كلّ مجموعة إلى جهة لإدامة حياتهم ، ونثروا كما تنثر أوراق الخريف التي عصفت بها الريح حتّى أضحى تفرّقهم مثلا يضرب فقيل : «تفرّقوا أيادي سبأ»(١) .

وكما قال بعض المفسّرين ، فقد ذهبت قبيلة (غسّان) إلى الشام ، و (أسد) إلى عمان ، و (خزاعة) إلى جهة تهامة ، و (أنمار) إلى يثرب(٢) .

وفي ختام الآية يقول تعالى :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) ، لأنّ الصابرين والشاكرين وحدهم يستطيعون الإعتبار ممّا جرى ، خصوصا مع ملاحظة أنّ كلّا من (صبّار) و (شكور) هي صيغة مبالغة. ذلك لكونهم بصبرهم واستقامتهم يتمكّنون من الإمساك بزمام مركب الهوى والهوس الجموح ، ويقفون بوجه المعاصي ، وبشكرهم لله تعالى في طريق طاعته فإنّهم مرتبطون به وييقظون ، وعليه فإنّهم يأخذون العبرة بشكل جيّد ، أمّا أولئك الذين ركبوا سفينة الهوى وتجاهلوا نعم الله عليهم فكيف يمكنهم أخذ العبرة ممّا جرى؟

* * *

بحوث

١ ـ المصير المذهل لقوم سبأ!!

يستفاد ممّا ورد في القرآن الكريم والروايات ، وكذلك كتب التاريخ ، بأنّ «قوم سبأ» كانوا يقطنون جنوب الجزيرة ، وكانت لهم حكومة راقية ، وحضارة خلّابة.

__________________

(١) نقل هذا المثل على صورتين «تفرّقوا أيدي سبأ» و «أيادي سبأ» ، ففي الشكل الأوّل إشارة إلى التمزّق البشري ، والشكل الثّاني إشارة إلى تمزّق الأموال والنعم والإمكانات ، لأنّ «أيادي» عادة تستعمل بمعنى النعم.

(٢) تفسير القرطبي وتفسير أبي الفتوح الرازي ، ذيل الآيات مورد البحث.

٤٢٩

ورغم أنّ أرض (اليمن) كانت واسعة وصالحة للزراعة ، إلّا أنّه من استغلالها لعدم وجود نهر مهمّ في تلك المنطقة ، كما أنّ مياه الأمطار ـ التي كانت تهطل بغزارة على قمم الجبال كانت تذهب هدرا في هضاب وصحاري تلك المنطقة. ولكن أهل تلك المنطقة الأذكياء فكّروا في كيفية الاستفادة من تلك المياه المهدورة ، فبنوا لهذا الغرض عددا من السدود في النقاط الحسّاسة كان أهمّها وأكثرها مخزونا «سدّ مأرب».

«مأرب» بلدة صغيرة تقع عند انتهاء إحدى ممرّات السيول تلك ، وكانت تمرّ سيول جبال «صراة» العظيمة من جنبها ، وفي فم هذا المضيق وبين جبلي «بلق» بنوا سدّا عظيما قويا ، وأوجدوا فيه منافذ كثيرة للماء ، وقد استطاع هذا السدّ خزن كميّات هائلة من الماء خلفه إلى درجة أنّهم استطاعوا ـ بالاستفادة من ذخيرته ـ إحداث جنّات جميلة جدّا ، وبساتين مملوءة بالبركة على طرفي النهر الوارد ابتداء من مصبّ السدّ.

وكما ذكرنا سابقا فإنّ القرى المأهولة في تلك الأرض كانت شبه متّصلة ببعضها ، بحيث أنّ ظلال الأشجار كانت تتواصل مع بعضها البعض ، وكانت الأشجار محمّلة بكميّات كبيرة من الثمار حتّى أنّ من يمرّ تحتها بسلّته الخالية يخرج بعد مدّة قصيرة بسلّة ممتلئة تلقائيا ، وفور النعمة ـ ممزوجا بالأمان ـ هيّأ محيطا مرفّها لحياة طاهرة ، محيطا نموذجيا لطاعة الله ، والتكامل المعنوي ، ولكنّهم لم يقدّروا النعمة حقّ قدرها ، فنسوا الله ، وجحدوا النعمة ، وانشغلوا بالتفاخر والعناوين والمستوى الاجتماعي.

ورد في بعض كتب التاريخ بأنّ الجرذان الصحراوية ، بعيدا عن مرأى هؤلاء المغرورين السكارى ، كانت تتّخذ لها جحورا في ذلك السدّ الترابي ، وتنخره من الداخل ، وفجأة هطلت أمطار غزيرة وتجمّعت لتشكّل سيولا عظيمة ، تراكمت خلف ذلك السدّ الذي لم يعدّ حينها مؤهّلا لتحمّل الضغط الشديد من تلك الكمّيات

٤٣٠

الهائلة ، وما هي إلّا لحظة حتّى انهار هذا السدّ ليضع النهاية لتلك الحياة الزاهية ، ودمّر القرى المعمورة ، الجنان ، المزارع ، المحاصيل ، قضى على الحيوانات ، هدّم القصور والبيوت الجميلة الجذّابة ، وتحوّلت تلك الأرض الحيّة إلى صحراء جافّة لا ماء فيها ولا كلأ ، ولم يبق من تلك الجنان والأشجار المثمرة إلّا شجر (الأراك) المرّ ، و (شجر المنّ) وقليل من (السدر) ، وهاجرت الطيور المغردة ليحلّ محلّها البوم والغربان(١) .

نعم ، حينما يريد الله سبحانه وتعالى إظهار قدرته ، فإنّه يدمّر مدينة راقية بعدد من الفئران حتّى يتّضح للعباد مدى ضعفهم ولا يغترّوا بقدرتهم مهما بلغت.

٢ ـ الإعجاز القرآني التأريخي

أورد القرآن الكريم قصّة «قوم سبأ» في الوقت الذي كان المؤرخّون لا يعلمون شيئا عن وجود هؤلاء القوم ، وعن مثل تلك المدنيّة. والملفت للنظر أنّ المؤرخّين قبل الاكتشافات الحديثة ، لم يذكروا شيئا حول سلسلة ملوك سبأ والمدنية العظيمة لهم ، واعتقدوا فقط بأنّ (سبأ) هو شخص افتراضي ، عرف كأب مؤسّس لدولة «حمير» ، في حين أنّ القرآن الكريم أفرد سورة كاملة باسم هؤلاء القوم وأشار إلى أحد مظاهر مدينتهم وهو بناؤهم (لسدّ مأرب) التأريخي.

ولكن بعد الكشوف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم في اليمن ، تغيّرت أفكار علماء التأريخ. والسبب في تأخّر الكشف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم يعود إلى :

١ ـ صعوبة الطريق المؤدّية إلى مناطق التنقيب وشدّة حرارة الجو هناك.

٢ ـ تنفّر سكنة المنطقة حاليا من الأجانب ، ممّا جعل الأوربيين غير المطّلعين

__________________

(١) اقتباس من تفسير مجمع البيان وقصص القرآن وتفاسير اخرى.

٤٣١

وغير العارفين يطلقون صفة «التوحّش» على هذه الأحاسيس الصادرة من أهل المنطقة ، حتّى استطاع عدّة معدودة من علماء الآثار يدفعهم التعلّق الشديد بكشف الأسرار الأثرية النفوذ إلى قلب مدينة «مأرب» وما حولها. واكتشفوا مجموعة من الأحجار الحاوية للخطوط والنقوش الكثيرة ، وبعد ذلك تعاقبت مجاميع المنقّبين في القرن التاسع عشر الميلادي ناقلين معهم في كلّ مرّة مجموعة من النقوش والخطوط والآثار ، وبالاستفادة من تلك الآثار ، التي ناهزت الألف أثر ، أطلع العلماء على جزئيات وخصوصيات حضارة هؤلاء القوم ، وعلى تأريخ بناء «سدّ مأرب» وخصوصيات اخرى ، وثبت للغربيين بأنّ ما ذكره القرآن الكريم بهذا الخصوص لم يكن اسطورة ، بل واقع تاريخي لم يكونوا قد اطّلعوا عليه ، وبعد ذلك استطاعوا رسم مخطّط كامل لذلك السدّ العظيم وتشخيص منافذ عبور المياه فيه ، والجداول الخاصّة بالبساتين والمزارع يمينا وشمالا وسائر خصوصيات المنطقة الاخرى.

٣ ـ لفتات هامّة للعبرة في قصّة قصيرة

إنّ التعرّض لسرد قصّة قوم سبأ بعد قصّة سليمانعليه‌السلام له مفهوم خاصّ :

١ ـ إنّ داود وسليمانعليهما‌السلام كانا نبيّين عظيمين استطاعا تشكيل حكومة قويّة ، وإيجاد حضارة مشرقة تلاشت بوفاتهم ، وكذلك الحضارة الكبرى التي أقامها قوم سبأ تلاشت بانهيار سدّ مأرب!!

والجدير بالملاحظة أنّ الروايات تشير إلى أن عصا سليمانعليه‌السلام أكلتها حشرة «الأرضة» ، كما أنّ سدّ مأرب نخرته الجرذان الصحراوية ، كي يعلم هذا الإنسان المغرور بأنّ النعم المادية مهما كانت عظيمة ومصدرا للخير ، فإنّها أحيانا تتلاشى بواسطة حشرة أو حيوان ضعيف يقلب عاليها أسفلها. وبالنتيجة ينتبه المؤمنون

٤٣٢

والعارفون ولا يقعوا أسرى في شراك هذه النعم ، ويفيق المغرورون من سكر غفلتهم ولا يسلكوا طريق الظلم والعدوان.

٢ ـ نلاحظ هنا حضارتين عظيمتين ، إحداهما رحمانية ، والاخرى شيطانية المصير ، لكنّهما واجهتا الفناء ولم تخلدا.

٣ ـ وممّا يستحقّ الانتباه ، هو أنّ المغرورين من قوم سبأ الذين لم يستطيعوا تحمّل وجود المستضعفين بينهم ، وتمنّوا حاجزا منيعا بين الأقليّة الأشراف والأكثرية الفقراء يحول دون اختلاطهم ، ودعوا الله أن يباعد بين قراهم حتّى يشقّ السفر على الفقراء ، وقد استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم وفرّق جمعهم ، ومزّقهم أيادي سبأ ، حتّى أنّهم لو أرادوا الالتقاء لتطلّب منهم ذلك أن يصرفوا عمرا كاملا في السفر.

٤ ـ حينما يدقّق المتأمّل في وضع تلك الأرض قبل هجوم «سيل العرم» وبعده ، لا يمكنه أن يصدّق بسهولة أنّ هذه الأرض بعد السيل هي تلك الأرض الخضراء المليئة بالأشجار المورقة المثمرة ، وكيف أضحت الآن صحراء موحشة ليس فيها إلّا بضعة أشجار مبعثرة من الشجر المرّ والأراك وقليل من شجر السدر تتراءى من بعيد كمسافرين أضاعوا طريقهم وتبعثروا هنا وهناك.

وهذا يجسّد بلسان الحال : أنّ «كيان الإنسان» كهذه الأرض ، فإذا استطاع السيطرة على قواه الخلّاقة واستخدمها بالشكل الصحيح ، فإنّه ينبت بساتين مليئة بالطراوة من العلم والعمل والفضائل الأخلاقية ، ولكن إذا كسر سدّ التقوى ، وانهالت الغرائز كالسيل المدمّر ، وغطّت أرض حياة الإنسان ، فلن يبقى غير الخراب ، وأحيانا فإنّ أعمالا ظاهرها أنّها بسيطة تبدأ بالتأثير تدريجيا على الاسس ، حتّى ينهار كلّ شيء ، لذا يجب الخوف والحذر حتّى من هذه الأمور الصغيرة التافهة ظاهرا.

٤٣٣

٥ ـ آخر ما نروم الإشارة إليه ، هو أنّ ذلك المصير العجيب يثبت مرّة اخرى حقيقة أنّ (الموت) مخفي في جوهر حياة الإنسان ، ونفس الشيء الذي يكون سببا لحياة الإنسان وعمرانها يوما ، يكون عامل موته وهلاكه في يوم آخر.

* * *

٤٣٤

الآيتان

( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) )

التّفسير

لا أحد مجبر على اتّباع الشّيطان :

هذه الآيات في الحقيقة تمثّل نوعا من الاستنتاج العام من قصّة «قوم سبأ» التي مرّت في الآيات السابقة ، ورأينا كيف أنّهم باستسلامهم لهوى النفس ووسوسة الشيطان ، أصبحوا معرضا لكلّ تلك الخيبة وسوء التوفيق.

يقول تعالى في الآية الاولى من هذه الآيات :( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

بتعبير آخر ، فإنّ إبليس بعد امتناعه من السجود لآدم وطرده من محضر الكبرياء الإلهي ، توقّع وقال :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (١) وإنّ هذا التوقّع قد صحّ بالنسبة لهؤلاء القوم. فمع أنّه (لعنه الله) قد قال

__________________

(١) النمل ، ١٩

٤٣٥

حديثه هذا تخمينا وتوقّعا ، ولكن هذا التخمين أصبح واقعا في النتيجة. واتّبعه ضعفاء الإيمان والإرادة وسقطوا في فخاخه زرافات ووحدانا ، إلّا مجموعة صغيرة من المؤمنين استطاعت تحطيم سلاسل الوساوس الشيطانية ، وتفادت الوقوع في مصيدته ، جاءوا أحرارا وعاشوا أحرارا ورحلوا أحرارا ، ومع أنّهم كانوا قلّة من حيث العدد ، إلّا أنّ كلّ واحد منهم كان يعدل دنيا بأسرها من حيث القيمة المعنوية «أولئك هم الأقلّون عددا والأكثرون عند الله قدرا»(١) .

وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية ، والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته ، والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان ، فتقول الآية المباركة :( وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ ) .

إذن فنحن الذين نجيز له الدخول ونعطيه تأشيرة العبور من حدود دولة الفردية إلى داخل قلوبنا. وذلك هو عين ما ينقله القرآن عن لسان الشيطان نفسه( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (٢) ، ولكن من الواضح أنّه بعد إجابة دعوته من قبل عديمي الإيمان ، وعبيد الهوى ، لا يهدأ له بال ، بل يسعى إلى إحكام سلطته على وجودهم.

لذا فإنّ الآية تؤكّد أنّ الهدف من إطلاق يد إبليس في وسوساته ، إنّما هو لأجل معرفة المؤمنين من غيرهم ممّن هم في شكّ :( إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ ) (٣) .

بديهي أنّ الله تعالى مطّلع تماما على كلّ ما يقع في هذا العالم منذ الأزل حتّى الأبد ، وعليه فإنّ جملة «لنعلم» ليس مفهومها أنّ الله تعالى يقول : «بأنّنا لم نكن

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار.

(٢) إبراهيم ، ٢٢.

(٣) على هذا المعنى الذي ذكرناه في تفسير الآية ، فإنّ الاستثناء هنا «استثناء متّصل» بقرينة ما ورد في الآية (٤٢) من سورة الحجر :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) ، بلحاظ أنّ ظاهر هذه الآية أنّ للشيطان سلطة على الغاوين ـ طبعا بعض المفسّرين احتملوا أن يكون «الاستثناء منقطعا أيضا».

٤٣٦

نعلم بالمؤمنين بالآخرة من الذين هم في شكّ منها ، ويجب أن تكون هناك للشيطان وسوسة حتّى نعلم ذلك» كلّا ، بل المقصود من هذه الجملة هو التحقّق العيني لعلم الله ، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعاقب أحدا بناء على علمه بالبواطن ، والأعمال المستقبلية لذلك الشخص ، بل يجب توفّر ميدان للامتحان ، ومن خلال وساوس الشياطين وهوى النفس يظهر الإنسان ما بداخله ـ بكامل الإرادة والإختيار إلى الواقع الفعلي ، ويتحقّق علم الله سبحانه وتعالى عينا ، لأنّه لو لا تحقّق الأعمال بالفعل لا يحصل الاستحقاق للثواب والعقاب.

وبتعبير آخر : فإنّ الثواب والعقاب لا يقع على حسن الباطن أو سوئه ، فلا بدّ لما هو موجود بالقوّة أن يتحقّق بالفعل.

ثمّ تختتم الآية بتنبيه للعباد( وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) . حتّى لا يتصوّر أتباع الشيطان بأنّ أعمالهم وأقوالهم تتلاشى في هذه الدنيا ، أو أنّ الله ينسى ، كلّا ، بل إنّ الله يحتفظ بكلّ ذلك إلى يوم الجزاء.

* * *

٤٣٧

الآيات

( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) )

التّفسير

نبئوني لماذا؟

قلنا في بداية السورة بأنّ هناك مجموعة من آياتها تتحدّث حول المبدأ والمعاد والإعتقادات الحقّة ، ومن ربطها مع بعضها نحصل على حقائق جديدة.

٤٣٨

في هذا المقطع من الآيات يجرّ القرآن المشركين في الواقع إلى المحاكمة ، وبالضربات الماحقة للأسئلة المنطقية ، يحشرهم في زاوية ضيّقة ، ثمّ يبيّن تفسّخ منطقهم الواهي بخصوص شفاعة الأصنام.

في هذه المجموعة من الآيات ، خوطب الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله خمس مرّات ، وقيل له : (قل) لهم وفي كلّ مرّة تعرض الآيات مطلبا جديدا يتعلّق بمصير الأصنام وعبّادها ، بشكل يشعر معه بأن ليس هناك عقيدة أفرغ ولا أجوف من عبادة الأصنام ، بل لا يمكن أساسا تسمية هذه العبادة (عقيدة) أو (مذهبا).

في الآية الاولى يقول تعالى :( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) ولكن اعلموا أنّ هذه الأصنام أو الشركاء لا يستجيبون لدعائكم أبدا ، ولا يحلّون لكم مشكلة ، ثمّ تنتقل الآية إلى عرض الدليل على هذا القول ، فيقول تعالى : لأنّهم( لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ) .

فلو كانوا يستطيعون شيئا لكان لهم أحد هذه الأوصاف الثلاثة : إمّا مالكية مستقلّة لشيء في السماء أو الأرض ، أو على الأقل مشاركة مع الله في أمر الخلق ، أو معاونة الخالق في شيء من هذه الأمور.

في حال أنّ الواضح هو أنّ «واجب الوجود» واحد لا غير ، والباقون جميعهم «ممكن الوجود» مرتبطون به. ولو قطع الله تعالى نظر لطفه عنهم لحظة لأحلّهم دار البوار والعدم.

واللطيف هو قوله تعالى :( مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) ، فموجودات لا تملك في هذه السماء اللامحدودة ، وهذه الأرض المترامية الأطراف ما يعادل( مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) ، فأي مشكلة يمكنها حلّها لنفسها ، ناهيك عن سواها!!

__________________

(١) في الحقيقة إنّ في الجملة مستترين : الأوّل بعد «زعمتم» تقديره «أنّهم آلهة» والثّاني بعد «من دون الله» تقديره «لا يستجيبون دعاءكم» والجملة تكون هكذا «قل ادعوا الذين زعمتم أنّهم آلهة من دون الله لا يستجيبون لكم».

٤٣٩

هنا يتبادر إلى الذهن فورا السؤال التالي : إذا كانت الأمر كذلك ، فما ذا تكون قضيّة شفاعة الشفعاء؟

وللإجابة على هذا التساؤل تقول الآية التي بعدها : لو كان هناك شفعاء لدى الله تعالى فانّهم لا يشفعون إلّا بإذنه وأمره( وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) .

وعليه فإنّ العذر الذي يتعلّل به الوثنيون بقولهم :( هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) (١) ، ينتهي بهذا الجواب ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى ، لم يجز شفاعتها أبدا.

أمّا جملة( إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) فهي إشارة إلى الشافعين أو إلى المشفوع لهم.

احتمل المفسّرون الاحتمالين ، وإن كان يناسب ما ورد في الآية السابقة من الحديث حول الأصنام وأولئك الذين توهّموا أنّها شفعاؤهم ، أن تكون الإشارة إلى «الشافعين».

ثمّ هل أنّ المقصود من «الشفاعة» هنا شفاعة الدنيا ، أم الآخرة؟ كلّا الاحتمالين واردان ، ولكن الجملة التي تلي ذلك تدلّل على أنّ المقصود هو شفاعة الآخرة.

لذا تقول العبارة بعدها بأنّه في ذلك اليوم تهيمن الوحشة والاضطراب على القلوب ، ويستولي القلق على الشافعين والمشفوع لهم بانتظار أن يروا لمن يأمر الله بجواز الشفاعة؟ وعلى من ستجوز تلك الشفاعة؟ وتستمر حالة القلق والاضطراب ، حتّى حين فيزول ذلك الفزع والاضطراب عن القلوب بصدور الأمر الإلهي.( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) (٢) .

على كلّ حال فذلك يوم الفزع ، وعيون الذين يطمعون بالشفاعة تعلّقت بالشفعاء ، ملتمسة منهم الشفاعة بلسان الحال أو بالقول. ولكن الشفعاء أيضا ينتظرون أمر الله ، كيف؟ ولمن سيجيز الشفاعة؟ ويبقى ذلك الفزع وذلك

__________________

(١) يونس ، ١٨.

(٢) (فزع) من مادّة «فزع» ، وفي وقت تعدّيها بحرف الجرّ (عن) تكون بمعنى إزالة الفزع والوحشة والاضطراب ، كذلك لو وردت بصورة الثلاثي المجرّد وتعدّت بحرف الجرّ (عن) يكون لها نفس المعنى أيضا.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فأحرجها قائلة: إلى الله أشكو عقوق أبنائي(٦٦٥) .

[ عبدالله بن حكيم التميمي وطلحة ]

جاء عبدالله بن حكيم يناشد طلحة فيقول له(١) : يا أبا محمد أما هذا كتبك إلينا ؟. قال طلحة: بلى قال: كتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه ! فلعمري ما هذا رأيك، ان تريد إلا هذه الدنيا، فمهلا مهلا. ولم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة، فبايعته طائعا راضيا، ثم نكثت بيعتك، وجئت لتدخلنا في فتنتك ؟ فقال: ان عليا دعاني إلى بيعته بعدما بايعه الناس(٢) ، فعلمت إني لو لم أقبل ما عرضه علي لم يتم لي الأمر، ثم يغري بي من معه(٦٦٦) .

[ حكيم من بني جشم ينصح أهل البصرة ]

لما انتهت عائشة بمن معها إلى المربد - مكان من البصرة - قام الجشمي يخاطب أهل البصرة وقد اجتمعوا هناك فيقول(٣) : أنا فلان بن فلان الجشمي وقد أتاكم هؤلاء القوم، فان أتوكم خائفين، فانما أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير والوحش والسباع، وان كانوا أتوكم بدم عثمان فغيرنا ولي قتله، فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا، فانكم ان لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس، والفتنة الصماء، فحصبه من أهل البصرة أشياع الجمل(٦٦٧) .

____________________

(٦٦٥) (١) كما في ص ٥٠٠ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس).

(٢) كذب هذا الناكث، إذ كان أول مبايع لعلى، نعوذ بالله من سوء الخاتمة (منه قدس).

(٦٦٦) الغدير ج ٩ / ٩٩.

(٣) كما في أواخر ص ٤٩٨ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس)

(٦٦٧) تاريخ الطبري ج٥ / ١٧٥ (*).

٤٦١

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٤١: -

[ خطاب عائشة في أهل البصرة ]

ثم أقبلت عائشة على جملها عسكر، فنادت بصوت مرتفع(١) : أيها الناس أقلوا الكلام واسكتوا، فسكت الناس لها فقالت: أيها الناس ان أمير المؤمنين عثمان كان قد غير وبدل، ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا، وانما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل، ألا وان قريشا رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها اياه شيئا، ولا سلكت به سبيلا قاصدا، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنبه القائم، وتقيم الجالس، وليسلطن الله عليهم قوما لا يرحمونهم، يسومونهم سوء العذاب.

أيها الناس انه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه، ماصوه كما يماص الثوب الرحيض، ثم عدوا عليه فقتلوه بعد توبته، وخروجه من ذنبه، وبايعوا ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا، أترونني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم ! ألا ان عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان.

____________________

(١) كما في ص ٤٩٩ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس) (*).

٤٦٢

قال أهل السير والأخبار: فماج الناس واختلفوا. فمن قائل: القول ما قالت أم المؤمنين. ومن قائل يقول: ما هي وهذا الأمر انما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها. وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط، حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى، ثم تمايزوا فريقين، فريقا مع عثمان بن حنيف، وفريقا مع عائشة وأصحابها(٦٦٨) .

[ وقوف الفريقين للقتال ]

ثم أصبح الفريقان من غد، فصفا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف(١) فناشد عائشة الله والإسلام، وأذكر طلحة والزبير بيعتهما عليا. فقالا: نطلب بدم عثمان فقال لهما: وما أنتما وذاك، أين بنوه ؟ أين بنو أعمامه الذين هم أحق به منكم ؟ كلا ولكنكما حسدتما عليا حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر، وتعملان له، وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما ؟ ! فشتماه شتما قبيحا وذكرا أمه، فقال للزبير: لولا صفية ومكانها من رسول الله، فانها أدنتك إلى الظل، وان الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة يعني طلحة. ثم قال: اللهم اني قد أعذرت.

ثم حمل فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم تحاجزوا واصطلحوا على كيفية خاصة، فصلها المؤرخون، أرجأوا فيها الأمر إلى ما بعد وصول أمير المؤمنين إلى البصرة، وأعطى الفريقان على ما كتبوه

____________________

(٦٦٨) وقريب منه في: الكامل لابن الأثير ج ٣ / ١٠٩.

(١) كما في ص ٥٠٠ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس) (*).

٤٦٣

من الصلح عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة وميثاق، وختم الكتاب من الفريقين(٦٦٩) .

لكن عائشة وطلحة والزبير أجمعوا على مراسلة القبائل واستمالة العرب ووجوه الناس وأهل الرئاسة والشرف، من حيث لا يشعر الأمير ابن حنيف وأصحابه، فلما استوثق لأصحاب الجمل أمرهم، خرجوا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر، وقد لبسوا الدروع وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا، إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه وأقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي، فأخره أصحاب طلحة والزبير وقدموا الزبير، فجاءت الشرطة وحرس بيت المال فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان، ثم غلبهم أصحاب الزبير وقدموه، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، فصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون بالله يا أصحاب محمد ؟ وقد طلعت الشمس، فغلب الزبير وصلى بالناس.

فلما فرغ من صلاته صاح بأصحابه المسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف فلما أسر ضرب ضرب الموت ونتفت لحيته وشارباه وحاجباه وأشفار عينيه، وكل شعرة في رأسه ووجهه، وأخذوا الشرطة وحراس بيت المال وهم سبعون رجلا من المؤمنين من شيعة علي فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة فقالت لابان بن عثمان: اخرج إليه فاضرب عنقه فان الأنصار قتلوا أباك.

فنادى عثمان بن حنيف: يا عائشة ويا طلحة ويا زبير ان أخي سهلا خليفة علي على المدينة، وأقسم بالله ان لو قتلت ليضعن السيف في نبي أبيكم ورهطكم فلا يبقي ولا يذر. فكفوا عنه.

وأمرت عائشة الزبير أن يقتل الشرطة وحراس بيت المال وقالت له: قد بلغني الذي صنعوا بك، فذبحهم والله الزبير كما

____________________

(٦٦٩) راجع: الكامل ج ٣ / ١١٠، مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٨ ط بيروت. (*)

٤٦٤

يذبح الغنم، ولي ذلك منهم ابنه عبدالله وهم سبعون رجلا، وبقيت منهم طائفة مستمسكين بيت المال قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين. فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا.

فكان هذا الغدر بعثمان بن حنيف، أول غدر كان في الإسلام، وكان قتل الشرطة وحراس بيت المال أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا، وكانوا مائة وعشرين رجلا، وقيل كانوا (كما في ٥٠١ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدي) أربعمأة رجل(٦٧٠) .

ثم طردوا عثمان بن حنيف فلحق بعلي، فلما رآه بكى وقال له: فارقتك شيخا وجئتك أمرد. فقال علي: انا لله وانا إليه راجعون. يقولها ثلاثا(٦٧١)

وقد منيعليه‌السلام في هذه المأساة بغصة لا تساغ، كان يشكو بثه فيها وحزنه إلى الله فيقول على المنبر: " اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ثم قالوا: ألا ان في الحق ان تأخذه، وفي الحق أن تتركه "(٦٧٢) (ثم ذكر أصحاب الجمل فقال): " فخرجوا يجرون حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تجر الأمة عند شرائها متوجهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله لهما ولغيرهما في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره فقدموا على عامل بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبرا وطائفة غدرا. " الخطبة وهي في نهج البلاغة(٦٧٣) .

____________________

(٦٧٠) مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٨.

(٦٧١) تاريخ الطبري ج ٥ / ١٨٦.

(٦٧٢) نهج البلاغة الخطبة - ٢١٧ -.

(٦٧٣) نهج البلاغة الخطبة - ١٧٢ - (*).

٤٦٥

[ موقف حكيم بن جبلة(١) ]

لما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم خرج في ثلثمائة من عبدالقيس وكان سيدهم. فخرج القوم إليه وحملوا عائشة على جمل، فسمي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر، ويومها مع علي يوم الجمل الأكبر.

وتجالد الفريقان بالسيوف وأبلى حكيم وأصحابه بلاء حسنا، لكن شد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم فضرب رجل فقطعها، ووقع الأزدي عن فرسه، فجثا حكيم فأخذ رجله المقطوعة فضرب بها الأزدي فصرعه ثم دب إليه فقتله خنقا متكئا عليه حتى زهقت نفسه، فمر بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه فقال له: من فعل بك هذا ؟ قال: وسادي فنظر فإذا الأزدي تحته.

وكان حكيم من أبطال العرب وشجعان المسلمين المستبصرين في شأن أهل البيت، وقد قتل معه ابنه الأشرف وإخوة له ثلاثة، وقتل معه أصحابه كلهم وهم ثلثمائة من عبدالقيس وكلهم من الاخيار، وربما كان بعض المقتولين يومئذ من بكر بن وائل. فلما صفت البصرة لعائشة وطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه، وطردا ابن حنيف عنها.

اختلف طلحة والزبير في الصلاة، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليما له، ورضي بتقدمه ،

____________________

(١) فصله أهل السير والأخبار فراجعه في ص ٥٠١ من المجلد الثاني من شرح النهج (منه قدس) (*).

٤٦٦

فأصلحت بينهما عائشة بأن جعلت الإمامة يوما لعبد الله بن الزبير، ويوما لمحمد ابن طلحة ولما دخلوا بيت المال في البصرة ورأوا ما فيه من الأموال. قرأ الزبير - وقد استفزه الفرح -:( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) فنحن أحق بها من أهل البصرة(٦٧٤) .

هذا مجمل ما كان في البصرة من الأحداث قبل وصول أمير المؤمنين إليها.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٤٦: -

[ وصول علي إلى البصرة والتقاء الجمعين ]

ثم جاء علي بعدها إلى البصرة بمن معه فنهدت إليه عائشة بمن معها تذوده عنها، وكانت رابطة الجأش، مشيعة القلب فكف يده عنها وعنهم باذلا وسعه في إصلاح ذا البين على ما يرضي الله تعالى ورسوله، وبلغ في ذلك كل مبلغ من قول أو فعل.

حتى روى ابن جرير الطبري(١) وغيره من اثبات أهل السير والأخبار: ان عليا دعا إليه الزبير يومئذ فذكره بكلمة قالها النبي له بمسمع منه وهي قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " ليقاتلنك ابن عمتك هذا وهو لك ظالم "(٦٧٥) فانصرف عنه الزبير

____________________

(٦٧٤) اختلاف طلحة والزبير في الإمارة: مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٧، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٨٢.

(١) في خبر وقعة الجمل أواخر ص ٥١٩ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك (منه قدس).

(٦٧٥) يوجد هذا الحديث بهذا اللفظ وقريب منه في كل من: المستدرك للحاكم ج ٣ / ٣٦٦ وصححه هو والذهبي، الأغاني لأبي الفرج ج ١٦ / ١٣١ و ١٣٢، العقد الفريد ج ٢ / ٢٧٩، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦٣، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١٢٢، مطالب السئول ص ٤١، الرياض النضرة ج ٢ / ٢٧٣، مجمع الزوائد ج ٧ / ٢٣٥، =>

٤٦٧

وقال: فاني لا أقاتلك ورجع إلى ابنه عبدالله فقال: مالي في هذا الحرب بصيرة، فقال له ابنه: انك قد خرجت على بحيرة ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت ان تحتها الموت فجبنت. فأحفظه ولده حتى أرعد وغصب وقال ويحك إني قد حلفت له أن لا أقاتله، فقال ابنه: كفر عن يمينك بعتق غلامك سرجس. فأعتقه وقام في الصف معهم(٦٧٦) .

وقال الطبري: وكان علي قال للزبير: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته سلط الله على أشدنا عليه اليوم ما يكره(١) ، ودعا علي طلحة فقال: يا طلحة جئت بعرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت، أما بايعتني ؟. قال: بايعتك وعلى عنقي اللج، وأصر طلحة على الحرب.

وحينئذ رجع علي إلى أصحابه فقال لهم (فيما حكاه الطبري وغيره): أيكم يعرض عليهم هذا المصحف(٢) وما فيه، فان قطعت يده أخذه بيده الأخرى فان قطعت أيضا أخذه بأسنانه. قال فتى شاب: أنا. فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلا ذلك الشاب. فقال له علي: أعرض عليهم هذا

____________________

=> فتح الباري لابن حجر ج ١٣ / ٤٦، المواهب اللدنية للقسطلاني ج ٢ / ١٩٥، شرح المواهب للزرقاني ج ٣ / ٣١٨ وج ٧ / ٢١٧، الخصائص الكبرى للسيوطي ج ٢ / ١٣٧، السيرة الحلبية ج ٣ / ٣١٥، شرح الشفا للخفاجي ج ٣ / ١٦٥، الغدير للأميني ج ٣ / ١٩١ وج ٩ / ١٠١، تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٠٠ و ٢٠٤، تذكرة الخواص ص ٧٠.

(٦٧٦) تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٠٠، الكامل في التاريخ ج ٣ / ١٢٣، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦٣، تذكرة الخواص ص ٧٠.

(١) راجع ص ٥٢٠ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك، وقد استجاب الله دعاء على فسلط الله على الزبير عمرو بن جرموز فقتله في ذلك اليوم (منه قدس).

(٢) تنبغي الإشارة إلى ان ابن العاص أخذ حيلة المصاحف في صفين من هذه الواقعة وأساء استخدامها كما لا يخفى (منه قدس).

٤٦٨

وقل هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره، والله الله في دمائنا ودمائكم. فلما جاءهم الفتى حملوا عليه وفي يده المصحف فقطعوا يديه، فأخذه بأسنانه حتى قتل، وعندئذ قال علي لأصحابه: قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم.

ورثت أم الغلام المرسل بالمصحف بقولها فيما رواه الطبري(١) :

لاهم ان مسلما دعاهم

يتلو كتاب الله لا يخشاهم

وأمهم قائمة تراهم

يأتمرون الغي لا تناهم

قد خضبت من علق لحاهم(٦٧٧)

وبرزت ربه الجمل والهودج إلى المعركة، وقد عصفت في رأسها النخوة ونزت فيه سورة الانفة، فأدركتها حمية منكرة، وكانت أجرأ من ذي لبدة، قد جمعت ثيابها على أسد، تلهب حماسها في جيشها، فتدفعهم به إلى الموت دون جملها، وقد نظرت عن يسارها فقالت: من القوم عن يساري؟.

فأجابها صبرة بن شيمان (كما في الكامل لابن الأثير وغيره): نحن بنوك الأزد.

فقالت: يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الذي كنا نسمع به في قول القائل :

وجالد من غسان أهل حفاظها

وكعب وأوس جالدت وشبيب

فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون: بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك، وقالت لمن يمينها: من القوم عن يمينى ؟. قالوا: بكر بن وائل. قالت: لكم يقول القائل :

وجاءوا إلينا في الحديد كأنهم

من العزة القعساء بكر بن وائل

____________________

(١) راجع ص ٥٢٢ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك (منه قدس).

(٦٧٧) تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٠٤ و ٢٠٦، تذكرة الخواص ص ٧١، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦١ (*).

٤٦٩

انما بازائكم عبدالقيس. وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم ؟ قالوا: بنو ناجية. قالت: بخ بخ سيوف أبطحية قرشية، فجالدوا جلادا يتفادى منه، فكأنما أشعلت فيهم من الحماسة نارا تلظى. وتتابع حملة اللواء على خطام جملها مستميتين يقولون :

يا أمنا يا زوجة النبي

يا زوجة المبارك المهدي

نحن بنو ضبة لا نفر

حتى نرى جما جما تخر

يخر منها العلق المحمر

وما زالت تستفز حميتهم حتى عقر الجمل، بعد ان قتل على خطامه أربعون رجلا وكانت الهزيمة بأذن الله. ولو عناية أمير المؤمنين ساعتئذ في حفظها، ووقوفه بنفسه على صونها، لكان ما كان مما أعاذها الله منه في هذه الفتنة العمياء التي شقت عصا المسلمين إلى يوم الدين، وعلى أسسها كانت صفين والنهروان ومأساة كربلا وما بعدها. حتى نكبة فلسطين، في عصرنا هذا.

لكن أخا النبي وأبا سبطيه، وقف على الجمل بنفسه، حين أطفئت الفتنة بعقره، وما ان هوى بالهودج حتى آواه - وفيه عائشة - إلى وارف من ظله منيع، وجعل معها أخاها محمدا ليقوم بمهامها في نسوة من الصالحات، ومن على محاربيه وتفضل عليهم، وأطلق الأسرى من أعدائه الألداء، واختص عائشة من الكرامة بكل ما يناسب خلقه الكريم. وفضله العميم، وحكمته البالغة وهذا كله معلوم بحكم الضرورة من كتب السير والأخبار.

وتسمى هذه الوقعة وقعة الجمل الأكبر. وكانت يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين، وتفصيل الوقعتين في كتب السير والتواريخ فلتراجع.

٤٧٠

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٥٠: -

وقد كانت القتلى يوم الجمل

الأكبر ثلاثة عشر ألفا من أبناء عائشة فيهم طلحة والزبير بكل أسف، واستشهد يومئذ من أولياء علي اللهم وال من والاه وعاد من عاداه - ألف أو دونه أو أكثر منه(٦٧٨) .

هذا وقد كانت أم المؤمنين من أعلم الناس بأن عليا أخو رسول الله ووليه ووارثه ووصيه(٦٧٩) وانه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله(٦٨٠) وانه

____________________

(٦٧٨) ولأجل المزيد من الاطلاع حول هذه الواقعة راجع: أحاديث أم المؤمنين عائشة ق ١ / ١٢١ - ٢٠٠، الجمل للشيخ المفيد ط الحيدرية، مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٩ - ٣٦٠، أسد الغابة ج ٢ / ١١٤ و ١٧٨ وج ١ / ٣٨٥ وج ٤ / ٤٦ و ١٠٠ وج ٥ / ١٤٣ و ١٤٦ و ٢٨٦، الإصابة ج ١ / ٢٤٨ وج ٢ / ٣٩٥، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٦٣، الكامل لابن الأثير ج ٣ / ١٠٥، تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ / ١٤٩.

(٦٧٩) كما تقدم تحت رقم (٥٥١ و ٥٥٢ و ٥٥٣ و ٥٥٤).

(٦٨٠) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١ / ١٥٧ ح ٢١٩ و ٢٢٠ و ٢٢١ و ٢٢٢ و ٢٢٧ و ٢٣٢ و ٢٣٨ و ٢٤٠ و ٢٤٢ و ٢٤٣ و ٢٤٤ و ٢٤٥ و ٢٤٦ و ٢٤٧ و ٢٤٨ و ٢٥٢ و ٢٥٣ و ٢٥٤ و ٢٥٥ و ٢٦٠ و ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٤ و ٢٧٠ و ٢٧١ و ٢٧٣ و ٢٧٥ و ٢٧٦ و ٢٧٨ و ٢٧٩ و ٢٨٩ و ٢٩٠ ط ١، المستدرك للحاكم ج ٣ / ٣٨، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٤٥، فرائد السمطين ج ١ / ٢٥٣، مصنف ابن أبى شيبة ج ٦ / ١٥٤، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٢٣، الاستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ / ٣٦، تاريخ بغداد ج ٨ / ٥، إحقاق الحق ج ٥ / ٤٠٠، أنساب الأشراف للبلاذري ج ٢ / ٩٣، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ١٨١ ح ٢١٧ و ٢٢١ ط ١، السنن الكبرى للبيهقي ج ٩ / ١٠٦، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٥٥ و ٥٦، ينابيع المودة للقندوزي ص ٤٨ ط اسلامبول، صحيح مسلم في باب مناقب علي بن أبي طالب ج ٧ / ١٢١ ط العامرة بمصر، حلية الأولياء ج ١ / ٦٢، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ١١٠ ط دار صادر، السيرة النبوية لابن هشام، البداية والنهاية ج ٤ / ١٨٦ وج ٧ / ٣٣٦، صحيح البخاري باب مناقب علي بن أبي طالب ج ٥ / ٢٣، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٤٩، أسد الغابة ج ٤ / ٢١، تذكرة الخواص ص ٢٥، التاريخ الكبير للبخاري ج ٤ / ٢٦٢، نزل الأبرار ص ٤٣. راجع بقية المصادر فيما تقدم تحت رق م (٤٧٤).

٤٧١

منه بمنزلة هارون من موسى إلا في النبوة(٦٨١) وقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله "(٦٨٢) ، " رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار "(٦٨٣) .

____________________

(٦٨١) حديث المنزلة: من الأحاديث المتواترة ولأجل الاطلاع على مصادره راجع كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١١٧ تحت رقم (٤٧٥) ففيه الكفاية.

(٦٨٢) حديث المولاة: ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ / ١٣ ح ٥٠٨ و ٥١٣ و ٥١٤ و ٥٢٣ و ٥٤٤ و ٥٦٢ و ٥٦٩، كفاية الطالب ص ٦٣ ط الحيدرية وص ١٧ ط الغرى، كنز العمال ج ٦ / ٤٠٣ ط ١ وج ١٥ / ١١٥ ح ٣٣٢ و ٤٠٢ ط ٢، شواهد التنزيل للحسكاني ج ١ / ١٥٧ ح ٢١١ وص ١٩٢ ح ٢٥٠، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٠٥، إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٥١ ط السعيدية وص ١٣٧ ط العثمانية، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٩٦ ط الحيدرية وص ٢٦ و ٢٧ ط مصر، الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ١٦٣ ط بيروت وبهامش الفصل لابن حزم ج ١ / ٢٢٠، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ٢٠٩ و ٢٨٩ ط ١ وج ٢ / ٢٨٩ وج ٣ / ٢٠٨ بتحقيق أبو الفضل، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٣٢ ط الميمنية، أنساب الأشراف للبلاذري ج ٢ / ١١٢، نظم درر السمطين للزرندي ص ١١٢، المناقب للخوارزمي ص ٨٠ و ٩٤ و ١٣٠، ينابيع المودة للقندوزي ص ٢٨٩ ط اسلامبول وص ٢٩٧ ط الحيدرية، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ٦٩ ح ٣٦ و ٣٩ و ٤٠، نزل الأبرار للبدخشاني ص ٥١ - ٥٤، وراجع بقية مصادر الحديث في كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٨٢.

(٦٨٣) حديث: " الحق مع علي ". صحيح الترمذي ج ٥ / ٢٩٧ ح ٣٧٩٨، المستدرك للحاكم ج ٣ / ١٢٤، المناقب للخوارزمي ص ٥٦، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٣ / ١١٧ ح ١١٥٩ و ١١٦٠، غاية المرام ص ٥٣٩ (باب) ٤٥، شرح النهج لابن أبى الحديد ج ٢ / ٥٧٢ ط ١ وج ١٠ / ٢٧٠ بتحقيق أبو الفضل، منتخب كنز العمال بهامش =>

٤٧٢

وقد شهدت حجة الوداع مع رسول الله فرأته يوم الموقف يشيد بفضله آمرا أمته بالتمسك بثقليه تارة وبخصوص علي أخرى، منذرا بضلال من لم يأخذ بهما معا(٦٨٤) .

ويوم الغدير رأتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد رقى منبر الحدائج يعهد إلى علي عهده، ويوليه على الأمة بعده، بمسمع ومنظر من تلك الألوف المؤلفة قافلة من حجة الوداع، حيث تفترق بهم الطرق إلى بلادهم(٦٨٥) .

ورأته وقد نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين يقول لهم: " أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم " أخرجه كل من الإمامين أحمد في مسنده(١) والحاكم في صحيحه المستدرك، والطبراني في الكبير، ورواه الترمذي بسنده الصحيح إلى زيد بن أرقم، كما في ترجمة الزهراء من الإصابة(٦٨٦) .

____________________

=> مسند أحمد ج ٥ / ٦٢، الفتح الكبير للنبهاني ج ٢ / ١٣١، جامع الأصول لابن الأثير ج ٩ / ٤٢٠، إحقاق الحق للتستري ج ٥ / ٦٢٦، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ١٧٦ ح ١٣٨، الغدير ج ٣ / ١٧٩، دلائل الصدق ج ٢ / ٣٠٢، المعيار والموازنة للاسكافي المعتزلي ص ٣٥ و ١١٩، نزل الأبرار للبدخشانى ص ٥٦، راجع بقية المصادر في كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٧٠ ط بيروت.

(٦٨٤) تقدم حديث الثقلين مع مصادره تحت رقم (١٥) وسوف يأتي أيضا.

(٦٨٥) الغدير للأميني ج ١ / ٩، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ٧٣ ح ٣٩. ولأجل المزيد من الاطلاع على هذه الحادثة مع مصادرها راجع: سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٧٣ تحت رقم (٦١٥ و ٦١٦ و ٦١٧ و ٦١٨ و ٦١٩ و ٦٢٠ و ٦٢١ و ٦٢٢) ففيها مئات المصادر لهذه الواقعة المباركة. وسوف يأتي بعض منها.

(١) راجع من المسند ص ٤٤٢ من جزئه الثاني بالإسناد إلى أبى هريرة (منه قدس).

(٦٨٦) صحيح الترمذي ج ٥ / ٣٦٠ ح ٣٩٦٢، سنن ابن ماجة ج ١ / ٥٢ ح ١٤٥، =>

٤٧٣

ورأتهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ جللهم بكسائه يقول حينئذ: " أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم وعدو لمن عاداهم "(٦٨٧) إلى كثير من أمثال هذه النصوص الصحيحة التي لم يخف شئ منها على أم المؤمنين فانها عيبة الحديث حتى قيل عنها :

حفظت أربعين ألف حديث

ومن الذكر آية تنساها(٦٨٨)

وحسبها ما قد رواه أبوها أبو بكر إذ قال: رأيت رسول الله خيم

____________________

=> المستدرك للحاكم ج ٣ / ١٤٩، تلخيص المستدرك للذهبي بذيل المستدرك، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ٦٤ ح ٩٠ ط ١، أسد الغابة ج ٣ / ١١ وج ٥ / ٥٢٣ ذخائر العقبى ص ٢٥، الصواعق المحرقة ص ١١٢ ط الميمنية وص ١٨٥ ط المحمدية، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٦٦ و ١٦٩، كفاية الطالب ص ٣٣٠ و ٣٣١ ط الحيدرية وص ١٨٨ و ١٨٩ ط الغرى، ينابيع المودة للقندوزي ص ٣٥ و ١٦٥ و ١٧٢ و ١٩٤ و ٢٣٠ و ٢٦١ و ٢٩٤ و ٣٠٩ و ٣٧٠ ط اسلامبول، شواهد التنزيل للحسكاني ج ٢ / ٢٧، المناقب للخوارزمي ص ٩١، مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ / ٦١ و ٩٩، المعجم الصغير للطبراني ج ٢ / ٣، الفتح الكبير للنبهاني ج ١ / ٢٧١، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٩٢، إحقاق الحق ج ٩ / ١٦١ - ١٧٤، نزل الأبرار ص ٣٥ و ١٠٥، فرائد السمطين للحمويني ج ٢ / ٣٩، سمط النجوم ج ٢ / ٤٨٨. وقد تقدم مع مصادر أخرى تحت رقم (١٢٦).

(٦٨٧) نقل ابن حجر الهيثمي في تفسير الآية من آيات فضلهم التي وردت في الفصل الحادي عشر من صواعقه، وقد استفاض قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله حرب علي حربي وسلمه سلمى (منه قدس). الصواعق لابن حجر ص ١٤٢ و ١٨٥ ط المحمدية و ٨٥ و ١١٢ ط الميمنية، الإصابة ج ٤ / ٣٧٨، ينابيع المودة ص ٢٢٩ و ٢٩٤ و ٣٠٩ ط اسلامبول، نظم درر السمطين ص ٢٣٢ و ٢٣٩، مصابيح السنة للبغوي ج ٢ / ٢٨٠، مشكاة المصابيح ج ٣ / ٢٥٨، ذخائر العقبى ص ٢٣، الرياض النضرة ج ٢ / ٢٤٩، وقد تقدم تحت رقم (١٢٨).

(٦٨٨) هذا البيت للشيخ كاظم الأزري راجع الأزرية ص. (*)

٤٧٤

خيمة(١) وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " معشر الناس أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم ولي لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد طيب المولد. ولا يبغضهم إلا شقي الجد ردئ المولد "(٦٨٩) .

فهل يا ترى كانت أم المؤمنين في هذا الخروج وما إليه تريد الله ورسوله والدار الآخرة، وأنها من المحسنات ؟ تبتغي بذلك الأجر والثواب الذي وعد الله به نساء نبيه إذ يقول:( وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) (٦٩٠) .

أم كانت ترى أن بينها وبين الله هوادة، تبيح لها ما قد حرمه الله على العالمين ؟ فارتكبت بخروجها - على الإمام - ما أرتكبت آمنة من وعيده إذ يقول:( يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ

____________________

(١) لعل هذه الخيمة هي الكساء الذي جللهم به حين أوحى إليه فيهم: "( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ". وقد فصلنا ذلك في الفصل الثاني من المطلب الأول من كلمتنا الغراء في تفضيل الزهراء، فليراجعها من أراد الشفاء من كل داء (منه قدس).

(٦٨٩) تجد هذا الحديث منقولا عن أبى بكر الصديق في كتاب عبقرية محمد للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد بعين لفظه تحت عنوان - النبي والإمام والصحابة - فراجع (منه قدس).

وأيضا في: فرائد السمطين للحمويني ج ٢ / ٤٠ ح ٣٧٣، المناقب للخوارزمي ص ٢١١، مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ / ٤، سمط النجوم ج ٢ / ٤٨٨ راجع بقية المصادر فيما تقدم تحت رقم (١٢٨).

(٦٩٠) سورة الأحزاب: ٢٩ (*).

٤٧٥

وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) (٦٩١) .

أم أنها يا ترى رأت خروجها ذلك الخروج، عبادة لله وقنوتا منها له ولرسوله وعملا صالحا ؟ فاستأثرت به عملا بقوله تعالى:( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ) (٦٩٢) !

أم أنها أرادت أن تمثل التقوى والورع بخروجها دون صواحبها من نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لتستأثر من بينهن بالعمل بقوله تعالى:( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ) (٦٩٣) .

وهل رأت بيت ابن ضبة بيتها الذي أمرها الله أن تقرأ فيه ؟ ورأت قيادتها لتلك الجيوش سرداقا ضربه طلحة والزبير عليها يصونها عن تبرج الجاهلية الأولى ؟ ويفرغها للصلاة والزكاة وطاعة الله ورسوله ؟(٦٩٤) .

ورأت أنها تكون بذلك كله نصب أمر الله ونهيه إذ يقول عزوجل:( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (٦٩٥) .

وماذا تقول ؟ أو يقول أولياؤها ؟ في خطاب الله لها ولصاحبتها بقوله:( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (١) وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ

____________________

(٦٩١) سورة الأحزاب: ٣٠.

(٦٩٢) سورة الأحزاب: ٣١.

(٦٩٣) سورة الأحزاب: ٣٢.

(٦٩٤) إشارة إلى البيت الذي استقرت فيه في البصرة. راجع: شرح ابن أبى الحديد.

(٦٩٥) سورة الأحزاب: ٣٣.

(١) ثبت بهذه الآية صدور الذنب منهما، ووجوب التوبة عليهما (منه قدس) (*).

٤٧٦

وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (١) * عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) (٦٩٦) .

وحسبهما من الله تعالى حجة عليهما، مثله العظيم، الذي ضربه لهما في سورة التحريم، أعني قوله عز من قائل:( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٦٩٧) .

ولله قول من يقول من أبطال أهل البيت علما وعملا :

عائش ما نقول في قتالك

سلكت في مسالك المهالك

وحسبك ما أخرج البخاري

من الصحيح مومئا للدار(٢)

____________________

(١) هذه هي الغاية في الاستعداد لمكافحتهما في نصرته والدفاع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لو تظاهر عليه أهل الأرض في الطول والعرض، ما أعد لمكافحتهم أكثر من هذه القوة كما لا يخفى (منه قدس).

(٦٩٦) سورة التحريم: ٤ و ٥. راجع ما تقدم من مصادر تحت رقم (٦٢٠).

(٦٩٧) سورة التحريم: ٩ و ١٠. راجع: تفسير القرطبي ج ١٨ / ٢٠٢، فتح القدير للشوكاني ج ٥ / ٢٥٥.

(٢) يشير في هذا البيت إلى ما أخرجه البخاري في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي من كتاب الجهاد والسير ص ١٢٥ من الجزء الثاني من صحيحه عن عبدالله قال: قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأشار إلى مسكن عائشة فقال: ههنا الفتنة ههنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان، ولفظه عند مسلم: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من بيت عائشة فقال رأس الكفر من ههنا حيث يطلع قرن الشيطان. فراجعه في كتاب الفتن واشراط الساعة ص ٥٠٣ من الجزء الثاني من صحيحه (منه قدس) (*).

٤٧٧

قد قيل تبت وعلي غمضا

فلم سجدت الشكر لما قبضا "(١)

ولم ركبت البغل في يوم الحسن

تؤججين نار هاتيك الفتن(٦٩٨)

____________________

(١) اشارة إلى ما كان من أم المؤمنين، حين بلغها نعى علىعليه‌السلام من أنها سجدت لله شكرا ثم رفعت رأسها قائلة :

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

ثم سألت: من قتله ؟. فقيل لها: رجل من مراد. فقالت :

فان يك نائيا فلقد نعاه

غلام ليس في فيه التراب

فأنكرت عليها زينب بنت أم سلمة قائلة لها، العلى تقولين هذا يا عائش ؟ !. فأجابت عائش: أنى نسيت، فإذا نسيت فذكروني ! ! (منه قدس).

(٦٩٨) كان الإمام أبو محمد الحسن الزكي سيد شباب أهل الجنة، أنذر الهاشميين قبل وفاته بفتنة يخشاها من بني أمية إذا أراد الهاشميون دفنه عند جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعهد إلى أخيه سيد الشهداء أن يتدارك الشر إذا هبت عواصفه، بدفنه في البقيع عند جدته فاطمة بنت أسد، وأقسم عليه أن لا يريق في سبيله مل‌ء محجمة من دم. فلما قضى (بأبي وأمي) نحبه، أراد الهاشميون أن يجددوا به العهد بجده رسول الله، أو أنهم أرادوا أن يدفنوه عنده إذا أمنوا الفتنة، فقامت قيامة بني أمية، وأعدوا للحرب عدتها متجهزين بجهازها، وعلى رأسهم مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وكان مروان ينادى يا رب هيجاء هي خير من دعة، أيدفن أمير المؤمنين (عثمان) في أقصى المدينة، ويدفن الحسن مع رسول الله. وجاؤا بعائشة وهي على بغل، تذودهم عن بيتها قائلة: لا تدخلوه بيتي.

ففي ترجمة الحسن من كتاب (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الاصفهانى المروانى عن على بن طاهر بن زيد يقول: لما أرادوا دفنه، أي الحسن، ركبت عائشة بغلا واستعونت بني أمية ومروان ومن كان هناك منهم ومن حشمهم وهو قول القائل: يوما على بغل، ويوما على جمل. وذكر المسعودي ركوب عائشة البغلة الشهباء، ليومها الثاني من أهل البيت قال: فأتاها القاسم بن محمد بن أبى بكر فقال: يا عمة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال: يوم البغلة الشهباء. أه‍. وفى ذلك يقول القائل: =>

٤٧٨

... ..

____________________

=>

تجملت تبغلت ولو عشت تفيلت

لك التسع من الثمن وفى الكل تصرفت

ولنا هنا أن نبحث عن الوجه في كون بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيتها تدخل فيه من تحب، وتنرود عنه من لا تحب ؟ شأن المالك يتصرف في ملكه المطلق كيف يشاء، فهل يا ترى ملكها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيته ببيع أو هبة أو نحوهما ؟ كلا. وما أظن ان أحدا قال ذلك أو توهمه.

نعم أسكنها في حجرة من حجرات داره، كما أسكن غيرها من نسائه في حجرات اخر، وكما يسكن كل رجل زوجته في بيته قياما بواجب المرأة على زوجها فان اسكانها من نفقاتها الواجبة لها عليه اجماعا وقولا واحدا. والمرأة انما تسكن في بيت زوجها. فيدها على مسكنها ليست من امارات الملك في شئ، لان المتصرف في مسكنها في الحقيقة، انما هو الرجل، حيث انه هو الذى أسكنها فيه وحيث انه كان يساكنها في نفس البيت، ولو في يومها وليلتها في أقل الفروض.

على انه لو سلمنا ان يد عائشة على حجرتها، امارة تملكها، فلم لم تكن يد الزهراء على فدك امارة على تملكها ؟ ! وشتان بين هاتين اليدين، فان يد البنت على شئ من أملاك أبيها تتصرف فيه على عهده بمنظر منه ومسمع، لمن امارات الملك بلا كلام، ولاسيما إذا كانت نازحة على بيت أبيها إلى بيت زوجها. بخلاف يد الزوجة على حجرة من حجرات دار زوجها، ونحن نحكم العرف البشرى في هذه الفرق بين هاتين اليدين.

ولعل الخليفة يومئذ وهو أبوها، ملكها بيت رسول الله بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بولايته العامة، وهذا ليس بالبعيد، لكنا كنا نأمل منه، أن يعامل بنت رسول الله فيما كان في يدها، معاملة بنته، ولو فعل لكان ذلك أقرب إلى اجتماع الكلمة، ولم شعث الأمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم (منه قدس). هذه الأبيات. (*)

٤٧٩

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٥٩: -

[ الفصل الخامس ] [ تأول خالد بن الوليد ] [ المورد - (٨٦) -: ذلك ما فعله خالد بن الوليد يوم فتح مكة ]

وقد نهاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ عن القتل والقتال، كما نص عليه أهل السير والأخبار، ورواه أثبات المحدثين بأسانيدهم الصحيحة، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله له يومئذ وللزبير: " لا تقاتلا إلا من قاتلكما ".

ولكن خالدا قاتل مع ذلك وقتل نيفا وعشرين رجلا من قريش وأربعة نفر من هذيل فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة، فرأى امرأة مقتولة، فسأل حنظلة الكاتب: من قتلها ؟: قال: خالد بن الوليد. فأمره أن يدرك خالدا فينهاه أن يقتل امرأة أو وليدا، أو عسيفا - أي أجيرا -(٦٩٩) إلى آخر ما تجده من هذه القضية في " عبقرية عمر " للأستاذ العقاد ص ٢٦٦.

____________________

(٦٩٩) هذه الحادثة رواها ابن هشام في غزوة حنين في السيرة النبوية ج ١٤ ١٠٠ ولعلها قد تكررت من خالد. (*)

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510