الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148705
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148705 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

باختصار إلى بعض خصوصيات وجزئيات حياتهم.

يقول تعالى :( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ) .

كما سنرى فإنّ عظمة هذه الآية تنبع من أنّهم بالاستفادة من خصوصيات موقعهم وطريقة إحاطة الجبال بمنطقة سكناهم وبالذكاء العالي الذي وهبهم الله ، استطاعوا حصر مياه السيول ـ التي لا تخلف وراءها إلّا الدمار ـ خلف سدّ عظيم ، وبذا عمّروا دولة رفيعة التمدّن ، فكانت آية عظيمة أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى عامل رئيسي من عوامل العمران والتمدّن!!

«سبأ» اسم من؟ وما هي؟. الموضوع مورد أخذ وردّ بين المؤرخين ، ولكن المشهور هو أنّ «سبأ» اسم «أبي العرب» في اليمن ، وطبقا للرواية الواردة عن «فروة بن مسيك» أنّه قال : «سألت رسول الله عن «سبأ» أرجل هو أم امرأة؟ فقال : هو رجل من العرب ولد له عشرة ، تيامن منهم ستّة وتشاءم منهم أربعة ، فأمّا الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وأنمار ومجد. فقال رجل من القوم : ما أنمار؟ قال : الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأمّا الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان. فالمراد بسبإ هاهنا القبيلة الذين هم أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان»(١) .

وبعضهم ذهب إلى أنّ «سبأ» اسم لأرض اليمن أو لإحدى مناطقها. وظاهر الآيات القرآنية التي تحدّثت في قصّة سليمانعليه‌السلام و (الهدهد) أشارت إلى هذا المعنى أيضا ففي الآية (٢٢) من سورة النمل ، يقول تعالى على لسان الهدهد :( وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) يعني لقد جئتك من أرض سبأ بنبإ يقين.

في حال أنّ ظاهر الآية مورد البحث هو أنّ «سبأ» كانوا «قوما» عاشوا في تلك المنطقة ، بلحاظ أنّ ضمير «هم» في «مساكنهم» يعود عليهم.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

٤٢١

ولا منافاة بين التّفسيرين لأنّ من الممكن أن يكون «سبأ» اسم شخص ابتداء ، ثمّ بعدئذ سمّي كلّ أولاده وقومه من بعده باسمه ، ثمّ انتقل الاسم ليشمل مكان سكناهم.

تنتقل الآية بعد ذلك لتجلّي الموقف عن تلك الموهبة الإلهية التي وضعت بين يدي قوم سبأ. فيقول تعالى :( جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ ) .

ما حصل هو أنّ قوم سبأ استطاعوا ـ ببناء سدّ عظيم بين الجبال الرئيسية في منطقتهم ـ حصر مياه السيول المدمّرة أو الضائعة هدرا على الأقل ، والإفادة منها وبإحداث منافذ في ذلك السدّ سيطروا تماما على ذلك الخزّان المائي الهائل ، وبالتحكّم فيه تمكّنوا من زراعة مساحات شاسعة من الأرض.

الإشكال الذي أثاره (الفخر الرازي) هو : ما هي أهميّة وجود مزرعتين لكي يذكر ذلك في آية مستقلّة؟ ثمّ يقول في الجواب أنّ هاتين المزرعتين لم تكونا عاديتين ، بل إنّهما عبارة عن سلسلة من رياض المترابطة مع بعضها البعض والممتدة على جانبي نهر عظيم يتغذّى من ذلك السدّ العظيم. وكانت تلك الرياض مليئة بالبركات إلى درجة أنّه ورد في كتب التأريخ عنها ، أن لو مرّ شخص يحمل على رأسه سلّة فارغة من تحت أشجار تلك المزارع في فصل نضوج الأثمار فانّها تمتلئ بسرعة نتيجة ما يتساقط من تلك الأثمار الناضجة.

أليس من العجيب إذا أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى سبب رئيسي للعمران بذلك الشكل المدهش؟ ثمّ ألا يعدّ ذلك من عجائب آيات الله سبحانه وتعالى؟

وعلاوة على كلّ ذلك ـ وكما سترد الإشارة إليه في الآيات الآتية ـ فإنّ من آيات الله أيضا ذلك الأمن والأمان غير العاديين اللذين شملا تلك الأرض.

ثمّ يضيف القرآن :( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌ

٤٢٢

غَفُورٌ ) (١) (٢) .

هذه الجملة القصيرة تصوّر مجموعة النعم المادية والمعنوية بأجمل تعابير ، فبلحاظ النعم المادية أرض طيّبة خالية من الأمراض المختلفة ، من السراق والظلمة ، من الآفات والبلايا ، من الجفاف والقحط ، من الخوف والوحشة ، وقيل خالية حتّى من الحشرات المؤذية.

هواء نقي ، ونسيم يبعث على السرور ، أرض معطاءة وأشجار وافرة الثمر.

وأمّا بلحاظ النعم المعنوية فمغفرة الله التي شملتهم ، والتغاضي عن تقصيرهم ، وصرف البلاء والعذاب عنهم وعن بلدتهم.

ولكن هؤلاء الجاحدين غير الشكورين. لم يقدّروا تلك النعمة حّق قدرها. ولم يخرجوا من بوتقة الامتحان بسلام ، سلكوا طريق الإعراض والكفران ، فقرّعهم الله أيّما تقريع!!

قال تعالى :( فَأَعْرَضُوا ) استهانوا بنعمة الله ، توهّموا بأنّ العمران والمدنية والأمن أشياء عادية ، نسوا الله ، وأسكرتهم النعمة ، وتفاخر الأغنياء على الفقراء ، وظنّوا أنّهم يزاحمونهم في أرزاقهم ـ كما سيرد في الآيات اللاحقة ـ.

وهنا مسّهم سوط الجزاء ، يقول تعالى :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) فدمّر بيوتهم ومزارعهم وحوّلها إلى خرائب

«العرم» : من «العرامة» وهي شراسة وصعوبة في الخلق تظهر بالفعل ، ووصف «السيل» بالعرم إشارة إلى شدّته وقابليته على التدمير. وتعبير «سيل العرم» من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.

وقيل : «العرم» الجرذان الصحراوية ، وهي التي سبّبت انهيار السدّ بنفوذها فيه

__________________

(١) «بلدة» : خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هذه بلدة طيّبة وهذا ربّ غفور.

(٢) يمكن أن يكون هذا الخطاب الإلهي لهؤلاء القوم على أحد احتمالين ، فإمّا أن يكون قد أبلغ ذلك بواسطة الأنبياء المبعوثين منهم ، كما قال به بعض المفسّرين ، أو أنّ هذه النعم كانت توصل إلى إدراكهم مثل هذا الخطاب.

٤٢٣

(قصّة نفوذ الجرذان الصحراوية في السدّ ، مع كونها ممكنة ـ كما سيرد شرحه فيما بعد ـ لكن تعبير الآية ليس فيه أدنى تناسب مع هذا المعنى).

في «لسان العرب» ، مادّة «عرم» وردت معان مختلفة من جملتها «السيل الذي لا يطاق» ومنه قوله تعالى «الآية» ، وقيل : إضافة إلى المسنّاة أو السدّ ، وقيل : إلى الفأر(١) .

ولكن أنسب التفاسير هو الأوّل ، وهو الذي اعتمده ـ أيضا ـ علي بن إبراهيم في تفسيره.

بعدئذ يصف القرآن الكريم عاقبة هذه الأرض كما يلي :( وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) .

«أكل» : بمعنى الطعام.

«خمط» : بمعنى النبات المرّ وهو «الأراك».

«أثل» : شجر معروف.

وبذا يكون قد نبت محلّ تلك الأشجار الخضراء المثمرة ، أشجار صحراوية غليظة ليست ذات قيمة ، والتي قد يكون «السدر» أهمّها ، وهذا أيضا كان نادرا بينها. ولك ـ أيّها القارئ ـ أن تتخيّل أي بلاء حلّ بهؤلاء وبأرضهم؟!

ولعلّ ذكر هذه الأنواع الثلاثة من الأشجار التي بقيت في تلك الأرض المدمّرة إشارة إلى ثلاثة امور : أحدها قبيح المنظر ، والثّاني لا نفع فيه ، والثالث له منفعة قليلة جدّا.

يقول تعالى في الآية التالية بصراحة وكتلخيص واستنتاج لهذه القصّة( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ) .

ويجب أن لا يتبادر إلى الذهن بأنّ هذا المصير يخصّ هؤلاء القوم ، بل إنّ من

__________________

(١) لسان العرب مادّة «عرم» ج ١٢ ، ص ٣٩٦.

٤٢٤

المسلّم أنّه يعمّ كلّ من كانت لهم أعمال شبيهة بأعمال هؤلاء. وهكذا تضيف الآية( وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) .

كان هذا مختصرا عن مصير «قوم سبأ» الذي سنفصّله أكثر في تفسير الآيات اللاحقة.

* * *

٤٢٥

الآيتان

( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) )

التّفسير

( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ!! )

تعود هذه الآيات إلى قصّة قوم سبأ مرّة اخرى ، وتعطي شرحا وتفصيلا أكثر حولهم وحول العقاب الذي حلّ بهم. ليكون درسا بليغا وتربويا لكلّ سامع.

يقول تعالى : لقد عمّرنا أرضهم إلى حدّ أنّ النعمة لم تغطّها وحدها ، بل( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ) . فقد جعلنا بينهم وبين الأرض المباركة مدائن وقرى اخرى متّصلة بفواصل قليلة إلى درجة أنّ القرية ترى من القرية الثّانية.

بعض المفسّرين قالوا في تفسير «قرى ظاهرة» بأنّها إشارة إلى القرى التي كانت تظهر للعيان من جادّة المسير بشكل واضح ، ويستطيع المسافرون التوقّف فيها ، أو

٤٢٦

أنّها القرى التي كانت على مرتفعات من الأرض فكانت واضحة للعابرين.

أمّا ما هي «الأرض المباركة»؟ فقد أجمع أغلب المفسّرين على أنّها «أرض الشام» (سوريا وفلسطين والأردن) ، لأنّ هذا التعبير اطلق على نفس هذه المنطقة في الآية الاولى من سورة الإسراء ، والآية (٨١) من سورة الأنبياء.

ولكن بعض المفسّرين احتمل أنّ المقصود منها هو «صنعاء» أو «مأرب» وكلتاهما كانتا في اليمن ، ولا يستبعد هذا التّفسير ، لأنّ المسافة بين (اليمن) الواقعة في أقصى جنوب الجزيرة العربية ، و (الشام) الواقعة في أقصى شمالها ، شاسعة ومليئة بالصحاري اليابسة المقفرة ممّا يجعل تفسير الأرض المباركة هنا (بالشام) بعيدا جدّا ، ولم ينقل في التواريخ ما يشير إلى ذلك.

بعضهم احتمل أيضا أن يكون المقصود (بالأرض المباركة). (مكّة) وهو بعيد أيضا.

هذا من جهة العمران ، ولكن العمران وحده لا يكفي ، بل إنّ شرطه الأساسي هو «الأمان» ، ولذلك تضيف الآية( وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ) أي جعلنا بينها فواصل معتدلة.( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) .

وبهذا فإنّ الفواصل والمسافات بين القرى كانت متناسقة محسوبة ، وكذلك فإنّها طرق محفوظة من حملات الضواري أو السرّاق أو قطّاع الطرق. بحيث أنّ الناس كانوا يسافرون خلال هذه الطرق. بلا زاد أو دواب وبلا استفادة من الحراس المسلّحين ، ولم يكونوا يخافون من حوادث الطريق أو قلّة الماء والزاد لديهم.

أمّا بأيّة وسيلة تمّ إبلاغ هذه الرسالة للناس( سِيرُوا فِيها ) الآية ، يرد أيضا الاحتمالان بأن يكون ذلك بواسطة أحد الأنبياءعليهم‌السلام ، أو أنّ ظاهر حال المنطقة كان يوصل هذا المعنى إلى وجدانهم.

تقديم «الليالي» على «الأيّام» قد يكون بلحاظ أنّ وجود الأمن في الليل من

٤٢٧

السرّاق او الوحوش اهمّ منه في النهار الذي تسهل معه مهمّة الأمن.

ولكن هؤلاء جحدوا نعم الله العظيمة التي شملت كلّ مناحي حياتهم ـ كما هو الحال بالنسبة لغيرهم من الأقوام المتنعّمة ـ ولبسهم الغرور ، وأحاطت بهم الغفلة ونشوة النعيم وعدم لياقتهم له ، فأسلكتهم طريق الكفران وعدم الشكر ، وانحرفوا عن الصراط وتركوا أوامر الله خلف ظهورهم.

فمن جملة مطالبهم العجيبة من الله ،( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) .

أي طلبوا أن يجعل الله المسافات بين قراهم طويلة ، كي لا يستطيع الفقراء السفر جنبا إلى جنب مع الأغنياء ، ومقصودهم هو أن تكون بين القرى ـ كما أسلفنا ـ فواصل صحراوية شاسعة ، حتّى لا يستطيع الفقراء ومتوسّطو الحال الإقدام على السفر بلا زاد أو ماء أو مركّب ، وبذا يكون السفر أحد مفاخر الأغنياء وعلامة على القدرة والثروة ، ووجوب أن يظهر هذا الامتياز ويثبت لدى الجميع.

أو أنّهم ملّوا من الراحة والرفاه ، كما ملّ بنو إسرائيل من (المنّ والسلوى) (الغذاء السماوي) وطلبوا من الله البصل والثوم والعدس.

بعضهم احتمل أيضا أن يكون المقصود بعبارة( باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) أنّهم أصبحوا كسالى إلى درجة لم يكونوا معها حاضرين للسفر لغرض رعي الحيوانات أو التجارة أو الزراعة ، ولذا طلبوا من الله أن يبقيهم في وطنهم دائما ويباعد بين السفرة والاخرى. ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أفضل.

على كلّ حال فإنّهم بهذا العمل أوقعوا الظلم على أنفسهم( وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) .

نعم ، فإن كانوا يظنّون أنّهم إنّما يظلمون غيرهم فقد اشتبهوا ، إذ أنّهم قد استلّوا خنجرا ومزّقوا به صدورهم ، ودخّان النار التي أسعروها أعمى عيونهم.

وياله من تعبير رائع ، ذلك الذي أوضح به القرآن الكريم مصيرهم المؤلم ، حيث يقول : إنّنا جازيناهم ودمّرنا بلادهم ومعيشتهم بحيث :( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) .

نعم فلم يبق من تلك الحياة المرفّهة ، والتمدّن العريض المشرق ، إلّا أخبار على

٤٢٨

الألسن ، وذكريات في الخواطر ، وكلمات على صفحات التاريخ( وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) .

كيف دمّرنا أرضهم بحيث سلبت منهم معها قدرة البقاء فيها ، وبذا أصبحوا مجبرين على أن يتفرّقوا كلّ مجموعة إلى جهة لإدامة حياتهم ، ونثروا كما تنثر أوراق الخريف التي عصفت بها الريح حتّى أضحى تفرّقهم مثلا يضرب فقيل : «تفرّقوا أيادي سبأ»(١) .

وكما قال بعض المفسّرين ، فقد ذهبت قبيلة (غسّان) إلى الشام ، و (أسد) إلى عمان ، و (خزاعة) إلى جهة تهامة ، و (أنمار) إلى يثرب(٢) .

وفي ختام الآية يقول تعالى :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) ، لأنّ الصابرين والشاكرين وحدهم يستطيعون الإعتبار ممّا جرى ، خصوصا مع ملاحظة أنّ كلّا من (صبّار) و (شكور) هي صيغة مبالغة. ذلك لكونهم بصبرهم واستقامتهم يتمكّنون من الإمساك بزمام مركب الهوى والهوس الجموح ، ويقفون بوجه المعاصي ، وبشكرهم لله تعالى في طريق طاعته فإنّهم مرتبطون به وييقظون ، وعليه فإنّهم يأخذون العبرة بشكل جيّد ، أمّا أولئك الذين ركبوا سفينة الهوى وتجاهلوا نعم الله عليهم فكيف يمكنهم أخذ العبرة ممّا جرى؟

* * *

بحوث

١ ـ المصير المذهل لقوم سبأ!!

يستفاد ممّا ورد في القرآن الكريم والروايات ، وكذلك كتب التاريخ ، بأنّ «قوم سبأ» كانوا يقطنون جنوب الجزيرة ، وكانت لهم حكومة راقية ، وحضارة خلّابة.

__________________

(١) نقل هذا المثل على صورتين «تفرّقوا أيدي سبأ» و «أيادي سبأ» ، ففي الشكل الأوّل إشارة إلى التمزّق البشري ، والشكل الثّاني إشارة إلى تمزّق الأموال والنعم والإمكانات ، لأنّ «أيادي» عادة تستعمل بمعنى النعم.

(٢) تفسير القرطبي وتفسير أبي الفتوح الرازي ، ذيل الآيات مورد البحث.

٤٢٩

ورغم أنّ أرض (اليمن) كانت واسعة وصالحة للزراعة ، إلّا أنّه من استغلالها لعدم وجود نهر مهمّ في تلك المنطقة ، كما أنّ مياه الأمطار ـ التي كانت تهطل بغزارة على قمم الجبال كانت تذهب هدرا في هضاب وصحاري تلك المنطقة. ولكن أهل تلك المنطقة الأذكياء فكّروا في كيفية الاستفادة من تلك المياه المهدورة ، فبنوا لهذا الغرض عددا من السدود في النقاط الحسّاسة كان أهمّها وأكثرها مخزونا «سدّ مأرب».

«مأرب» بلدة صغيرة تقع عند انتهاء إحدى ممرّات السيول تلك ، وكانت تمرّ سيول جبال «صراة» العظيمة من جنبها ، وفي فم هذا المضيق وبين جبلي «بلق» بنوا سدّا عظيما قويا ، وأوجدوا فيه منافذ كثيرة للماء ، وقد استطاع هذا السدّ خزن كميّات هائلة من الماء خلفه إلى درجة أنّهم استطاعوا ـ بالاستفادة من ذخيرته ـ إحداث جنّات جميلة جدّا ، وبساتين مملوءة بالبركة على طرفي النهر الوارد ابتداء من مصبّ السدّ.

وكما ذكرنا سابقا فإنّ القرى المأهولة في تلك الأرض كانت شبه متّصلة ببعضها ، بحيث أنّ ظلال الأشجار كانت تتواصل مع بعضها البعض ، وكانت الأشجار محمّلة بكميّات كبيرة من الثمار حتّى أنّ من يمرّ تحتها بسلّته الخالية يخرج بعد مدّة قصيرة بسلّة ممتلئة تلقائيا ، وفور النعمة ـ ممزوجا بالأمان ـ هيّأ محيطا مرفّها لحياة طاهرة ، محيطا نموذجيا لطاعة الله ، والتكامل المعنوي ، ولكنّهم لم يقدّروا النعمة حقّ قدرها ، فنسوا الله ، وجحدوا النعمة ، وانشغلوا بالتفاخر والعناوين والمستوى الاجتماعي.

ورد في بعض كتب التاريخ بأنّ الجرذان الصحراوية ، بعيدا عن مرأى هؤلاء المغرورين السكارى ، كانت تتّخذ لها جحورا في ذلك السدّ الترابي ، وتنخره من الداخل ، وفجأة هطلت أمطار غزيرة وتجمّعت لتشكّل سيولا عظيمة ، تراكمت خلف ذلك السدّ الذي لم يعدّ حينها مؤهّلا لتحمّل الضغط الشديد من تلك الكمّيات

٤٣٠

الهائلة ، وما هي إلّا لحظة حتّى انهار هذا السدّ ليضع النهاية لتلك الحياة الزاهية ، ودمّر القرى المعمورة ، الجنان ، المزارع ، المحاصيل ، قضى على الحيوانات ، هدّم القصور والبيوت الجميلة الجذّابة ، وتحوّلت تلك الأرض الحيّة إلى صحراء جافّة لا ماء فيها ولا كلأ ، ولم يبق من تلك الجنان والأشجار المثمرة إلّا شجر (الأراك) المرّ ، و (شجر المنّ) وقليل من (السدر) ، وهاجرت الطيور المغردة ليحلّ محلّها البوم والغربان(١) .

نعم ، حينما يريد الله سبحانه وتعالى إظهار قدرته ، فإنّه يدمّر مدينة راقية بعدد من الفئران حتّى يتّضح للعباد مدى ضعفهم ولا يغترّوا بقدرتهم مهما بلغت.

٢ ـ الإعجاز القرآني التأريخي

أورد القرآن الكريم قصّة «قوم سبأ» في الوقت الذي كان المؤرخّون لا يعلمون شيئا عن وجود هؤلاء القوم ، وعن مثل تلك المدنيّة. والملفت للنظر أنّ المؤرخّين قبل الاكتشافات الحديثة ، لم يذكروا شيئا حول سلسلة ملوك سبأ والمدنية العظيمة لهم ، واعتقدوا فقط بأنّ (سبأ) هو شخص افتراضي ، عرف كأب مؤسّس لدولة «حمير» ، في حين أنّ القرآن الكريم أفرد سورة كاملة باسم هؤلاء القوم وأشار إلى أحد مظاهر مدينتهم وهو بناؤهم (لسدّ مأرب) التأريخي.

ولكن بعد الكشوف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم في اليمن ، تغيّرت أفكار علماء التأريخ. والسبب في تأخّر الكشف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم يعود إلى :

١ ـ صعوبة الطريق المؤدّية إلى مناطق التنقيب وشدّة حرارة الجو هناك.

٢ ـ تنفّر سكنة المنطقة حاليا من الأجانب ، ممّا جعل الأوربيين غير المطّلعين

__________________

(١) اقتباس من تفسير مجمع البيان وقصص القرآن وتفاسير اخرى.

٤٣١

وغير العارفين يطلقون صفة «التوحّش» على هذه الأحاسيس الصادرة من أهل المنطقة ، حتّى استطاع عدّة معدودة من علماء الآثار يدفعهم التعلّق الشديد بكشف الأسرار الأثرية النفوذ إلى قلب مدينة «مأرب» وما حولها. واكتشفوا مجموعة من الأحجار الحاوية للخطوط والنقوش الكثيرة ، وبعد ذلك تعاقبت مجاميع المنقّبين في القرن التاسع عشر الميلادي ناقلين معهم في كلّ مرّة مجموعة من النقوش والخطوط والآثار ، وبالاستفادة من تلك الآثار ، التي ناهزت الألف أثر ، أطلع العلماء على جزئيات وخصوصيات حضارة هؤلاء القوم ، وعلى تأريخ بناء «سدّ مأرب» وخصوصيات اخرى ، وثبت للغربيين بأنّ ما ذكره القرآن الكريم بهذا الخصوص لم يكن اسطورة ، بل واقع تاريخي لم يكونوا قد اطّلعوا عليه ، وبعد ذلك استطاعوا رسم مخطّط كامل لذلك السدّ العظيم وتشخيص منافذ عبور المياه فيه ، والجداول الخاصّة بالبساتين والمزارع يمينا وشمالا وسائر خصوصيات المنطقة الاخرى.

٣ ـ لفتات هامّة للعبرة في قصّة قصيرة

إنّ التعرّض لسرد قصّة قوم سبأ بعد قصّة سليمانعليه‌السلام له مفهوم خاصّ :

١ ـ إنّ داود وسليمانعليهما‌السلام كانا نبيّين عظيمين استطاعا تشكيل حكومة قويّة ، وإيجاد حضارة مشرقة تلاشت بوفاتهم ، وكذلك الحضارة الكبرى التي أقامها قوم سبأ تلاشت بانهيار سدّ مأرب!!

والجدير بالملاحظة أنّ الروايات تشير إلى أن عصا سليمانعليه‌السلام أكلتها حشرة «الأرضة» ، كما أنّ سدّ مأرب نخرته الجرذان الصحراوية ، كي يعلم هذا الإنسان المغرور بأنّ النعم المادية مهما كانت عظيمة ومصدرا للخير ، فإنّها أحيانا تتلاشى بواسطة حشرة أو حيوان ضعيف يقلب عاليها أسفلها. وبالنتيجة ينتبه المؤمنون

٤٣٢

والعارفون ولا يقعوا أسرى في شراك هذه النعم ، ويفيق المغرورون من سكر غفلتهم ولا يسلكوا طريق الظلم والعدوان.

٢ ـ نلاحظ هنا حضارتين عظيمتين ، إحداهما رحمانية ، والاخرى شيطانية المصير ، لكنّهما واجهتا الفناء ولم تخلدا.

٣ ـ وممّا يستحقّ الانتباه ، هو أنّ المغرورين من قوم سبأ الذين لم يستطيعوا تحمّل وجود المستضعفين بينهم ، وتمنّوا حاجزا منيعا بين الأقليّة الأشراف والأكثرية الفقراء يحول دون اختلاطهم ، ودعوا الله أن يباعد بين قراهم حتّى يشقّ السفر على الفقراء ، وقد استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم وفرّق جمعهم ، ومزّقهم أيادي سبأ ، حتّى أنّهم لو أرادوا الالتقاء لتطلّب منهم ذلك أن يصرفوا عمرا كاملا في السفر.

٤ ـ حينما يدقّق المتأمّل في وضع تلك الأرض قبل هجوم «سيل العرم» وبعده ، لا يمكنه أن يصدّق بسهولة أنّ هذه الأرض بعد السيل هي تلك الأرض الخضراء المليئة بالأشجار المورقة المثمرة ، وكيف أضحت الآن صحراء موحشة ليس فيها إلّا بضعة أشجار مبعثرة من الشجر المرّ والأراك وقليل من شجر السدر تتراءى من بعيد كمسافرين أضاعوا طريقهم وتبعثروا هنا وهناك.

وهذا يجسّد بلسان الحال : أنّ «كيان الإنسان» كهذه الأرض ، فإذا استطاع السيطرة على قواه الخلّاقة واستخدمها بالشكل الصحيح ، فإنّه ينبت بساتين مليئة بالطراوة من العلم والعمل والفضائل الأخلاقية ، ولكن إذا كسر سدّ التقوى ، وانهالت الغرائز كالسيل المدمّر ، وغطّت أرض حياة الإنسان ، فلن يبقى غير الخراب ، وأحيانا فإنّ أعمالا ظاهرها أنّها بسيطة تبدأ بالتأثير تدريجيا على الاسس ، حتّى ينهار كلّ شيء ، لذا يجب الخوف والحذر حتّى من هذه الأمور الصغيرة التافهة ظاهرا.

٤٣٣

٥ ـ آخر ما نروم الإشارة إليه ، هو أنّ ذلك المصير العجيب يثبت مرّة اخرى حقيقة أنّ (الموت) مخفي في جوهر حياة الإنسان ، ونفس الشيء الذي يكون سببا لحياة الإنسان وعمرانها يوما ، يكون عامل موته وهلاكه في يوم آخر.

* * *

٤٣٤

الآيتان

( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) )

التّفسير

لا أحد مجبر على اتّباع الشّيطان :

هذه الآيات في الحقيقة تمثّل نوعا من الاستنتاج العام من قصّة «قوم سبأ» التي مرّت في الآيات السابقة ، ورأينا كيف أنّهم باستسلامهم لهوى النفس ووسوسة الشيطان ، أصبحوا معرضا لكلّ تلك الخيبة وسوء التوفيق.

يقول تعالى في الآية الاولى من هذه الآيات :( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

بتعبير آخر ، فإنّ إبليس بعد امتناعه من السجود لآدم وطرده من محضر الكبرياء الإلهي ، توقّع وقال :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (١) وإنّ هذا التوقّع قد صحّ بالنسبة لهؤلاء القوم. فمع أنّه (لعنه الله) قد قال

__________________

(١) النمل ، ١٩

٤٣٥

حديثه هذا تخمينا وتوقّعا ، ولكن هذا التخمين أصبح واقعا في النتيجة. واتّبعه ضعفاء الإيمان والإرادة وسقطوا في فخاخه زرافات ووحدانا ، إلّا مجموعة صغيرة من المؤمنين استطاعت تحطيم سلاسل الوساوس الشيطانية ، وتفادت الوقوع في مصيدته ، جاءوا أحرارا وعاشوا أحرارا ورحلوا أحرارا ، ومع أنّهم كانوا قلّة من حيث العدد ، إلّا أنّ كلّ واحد منهم كان يعدل دنيا بأسرها من حيث القيمة المعنوية «أولئك هم الأقلّون عددا والأكثرون عند الله قدرا»(١) .

وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية ، والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته ، والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان ، فتقول الآية المباركة :( وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ ) .

إذن فنحن الذين نجيز له الدخول ونعطيه تأشيرة العبور من حدود دولة الفردية إلى داخل قلوبنا. وذلك هو عين ما ينقله القرآن عن لسان الشيطان نفسه( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (٢) ، ولكن من الواضح أنّه بعد إجابة دعوته من قبل عديمي الإيمان ، وعبيد الهوى ، لا يهدأ له بال ، بل يسعى إلى إحكام سلطته على وجودهم.

لذا فإنّ الآية تؤكّد أنّ الهدف من إطلاق يد إبليس في وسوساته ، إنّما هو لأجل معرفة المؤمنين من غيرهم ممّن هم في شكّ :( إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ ) (٣) .

بديهي أنّ الله تعالى مطّلع تماما على كلّ ما يقع في هذا العالم منذ الأزل حتّى الأبد ، وعليه فإنّ جملة «لنعلم» ليس مفهومها أنّ الله تعالى يقول : «بأنّنا لم نكن

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار.

(٢) إبراهيم ، ٢٢.

(٣) على هذا المعنى الذي ذكرناه في تفسير الآية ، فإنّ الاستثناء هنا «استثناء متّصل» بقرينة ما ورد في الآية (٤٢) من سورة الحجر :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) ، بلحاظ أنّ ظاهر هذه الآية أنّ للشيطان سلطة على الغاوين ـ طبعا بعض المفسّرين احتملوا أن يكون «الاستثناء منقطعا أيضا».

٤٣٦

نعلم بالمؤمنين بالآخرة من الذين هم في شكّ منها ، ويجب أن تكون هناك للشيطان وسوسة حتّى نعلم ذلك» كلّا ، بل المقصود من هذه الجملة هو التحقّق العيني لعلم الله ، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعاقب أحدا بناء على علمه بالبواطن ، والأعمال المستقبلية لذلك الشخص ، بل يجب توفّر ميدان للامتحان ، ومن خلال وساوس الشياطين وهوى النفس يظهر الإنسان ما بداخله ـ بكامل الإرادة والإختيار إلى الواقع الفعلي ، ويتحقّق علم الله سبحانه وتعالى عينا ، لأنّه لو لا تحقّق الأعمال بالفعل لا يحصل الاستحقاق للثواب والعقاب.

وبتعبير آخر : فإنّ الثواب والعقاب لا يقع على حسن الباطن أو سوئه ، فلا بدّ لما هو موجود بالقوّة أن يتحقّق بالفعل.

ثمّ تختتم الآية بتنبيه للعباد( وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) . حتّى لا يتصوّر أتباع الشيطان بأنّ أعمالهم وأقوالهم تتلاشى في هذه الدنيا ، أو أنّ الله ينسى ، كلّا ، بل إنّ الله يحتفظ بكلّ ذلك إلى يوم الجزاء.

* * *

٤٣٧

الآيات

( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) )

التّفسير

نبئوني لماذا؟

قلنا في بداية السورة بأنّ هناك مجموعة من آياتها تتحدّث حول المبدأ والمعاد والإعتقادات الحقّة ، ومن ربطها مع بعضها نحصل على حقائق جديدة.

٤٣٨

في هذا المقطع من الآيات يجرّ القرآن المشركين في الواقع إلى المحاكمة ، وبالضربات الماحقة للأسئلة المنطقية ، يحشرهم في زاوية ضيّقة ، ثمّ يبيّن تفسّخ منطقهم الواهي بخصوص شفاعة الأصنام.

في هذه المجموعة من الآيات ، خوطب الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله خمس مرّات ، وقيل له : (قل) لهم وفي كلّ مرّة تعرض الآيات مطلبا جديدا يتعلّق بمصير الأصنام وعبّادها ، بشكل يشعر معه بأن ليس هناك عقيدة أفرغ ولا أجوف من عبادة الأصنام ، بل لا يمكن أساسا تسمية هذه العبادة (عقيدة) أو (مذهبا).

في الآية الاولى يقول تعالى :( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) ولكن اعلموا أنّ هذه الأصنام أو الشركاء لا يستجيبون لدعائكم أبدا ، ولا يحلّون لكم مشكلة ، ثمّ تنتقل الآية إلى عرض الدليل على هذا القول ، فيقول تعالى : لأنّهم( لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ) .

فلو كانوا يستطيعون شيئا لكان لهم أحد هذه الأوصاف الثلاثة : إمّا مالكية مستقلّة لشيء في السماء أو الأرض ، أو على الأقل مشاركة مع الله في أمر الخلق ، أو معاونة الخالق في شيء من هذه الأمور.

في حال أنّ الواضح هو أنّ «واجب الوجود» واحد لا غير ، والباقون جميعهم «ممكن الوجود» مرتبطون به. ولو قطع الله تعالى نظر لطفه عنهم لحظة لأحلّهم دار البوار والعدم.

واللطيف هو قوله تعالى :( مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) ، فموجودات لا تملك في هذه السماء اللامحدودة ، وهذه الأرض المترامية الأطراف ما يعادل( مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) ، فأي مشكلة يمكنها حلّها لنفسها ، ناهيك عن سواها!!

__________________

(١) في الحقيقة إنّ في الجملة مستترين : الأوّل بعد «زعمتم» تقديره «أنّهم آلهة» والثّاني بعد «من دون الله» تقديره «لا يستجيبون دعاءكم» والجملة تكون هكذا «قل ادعوا الذين زعمتم أنّهم آلهة من دون الله لا يستجيبون لكم».

٤٣٩

هنا يتبادر إلى الذهن فورا السؤال التالي : إذا كانت الأمر كذلك ، فما ذا تكون قضيّة شفاعة الشفعاء؟

وللإجابة على هذا التساؤل تقول الآية التي بعدها : لو كان هناك شفعاء لدى الله تعالى فانّهم لا يشفعون إلّا بإذنه وأمره( وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) .

وعليه فإنّ العذر الذي يتعلّل به الوثنيون بقولهم :( هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) (١) ، ينتهي بهذا الجواب ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى ، لم يجز شفاعتها أبدا.

أمّا جملة( إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) فهي إشارة إلى الشافعين أو إلى المشفوع لهم.

احتمل المفسّرون الاحتمالين ، وإن كان يناسب ما ورد في الآية السابقة من الحديث حول الأصنام وأولئك الذين توهّموا أنّها شفعاؤهم ، أن تكون الإشارة إلى «الشافعين».

ثمّ هل أنّ المقصود من «الشفاعة» هنا شفاعة الدنيا ، أم الآخرة؟ كلّا الاحتمالين واردان ، ولكن الجملة التي تلي ذلك تدلّل على أنّ المقصود هو شفاعة الآخرة.

لذا تقول العبارة بعدها بأنّه في ذلك اليوم تهيمن الوحشة والاضطراب على القلوب ، ويستولي القلق على الشافعين والمشفوع لهم بانتظار أن يروا لمن يأمر الله بجواز الشفاعة؟ وعلى من ستجوز تلك الشفاعة؟ وتستمر حالة القلق والاضطراب ، حتّى حين فيزول ذلك الفزع والاضطراب عن القلوب بصدور الأمر الإلهي.( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) (٢) .

على كلّ حال فذلك يوم الفزع ، وعيون الذين يطمعون بالشفاعة تعلّقت بالشفعاء ، ملتمسة منهم الشفاعة بلسان الحال أو بالقول. ولكن الشفعاء أيضا ينتظرون أمر الله ، كيف؟ ولمن سيجيز الشفاعة؟ ويبقى ذلك الفزع وذلك

__________________

(١) يونس ، ١٨.

(٢) (فزع) من مادّة «فزع» ، وفي وقت تعدّيها بحرف الجرّ (عن) تكون بمعنى إزالة الفزع والوحشة والاضطراب ، كذلك لو وردت بصورة الثلاثي المجرّد وتعدّت بحرف الجرّ (عن) يكون لها نفس المعنى أيضا.

٤٤٠