الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148643
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148643 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

نقاط كما يلي :

١ ـ جملة «أعظكم» توضّح في الحقيقة واقع أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يريد القول بأنّي ألحظ فيما أقول لكم خيركم وصلاحكم دون أيّ شيء آخر.

٢ ـ التعبير بـ «واحدة» مع ارتباطه بالتأكيد بواسطة «إنّما» إشارة معبّرة إلى أنّ أصل جميع الإصلاحات الفردية والجماعية ، إنّما هي بإعمال الفكر ، فما دام تفكير الامّة في سبات فستكون هدفا لسرّاق ولصوص الذين والإيمان والحرية والاستقلال ، ولكن حينما تصحوا الأفكار فإنّها تقطع الطريق أمام هؤلاء.

٣ ـ التعبير بـ «قيام» ليس معناه مجرّد الوقوف على القدمين ، بل معناه الاستعداد لإنجاز العمل ، بلحاظ أنّ الإنسان بوقوفه على قدميه إنّما يكون مستعدّا لإتمام البرامج الحياتية المختلفة ، وعليه فإنّ التفكّر يحتاج إلى استعداد قبلي ، لكي يوجد السبب والمحرّك في الإنسان الذي يدفعه بالإرادة والتصميم إلى التفكّر.

٤ ـ تعبير «لله» يوضّح أنّ القيام والاستعداد يجب أن يكون باعثه إلهيا ، والتفكّر الذي يكون صادرا عن هذا الدافع له قيمة عالية ، فالإخلاص في العمل عادة ـ وحتّى في التفكّر ـ هو الأساس للنجاة والسعادة والبركة.

والملفت للنظر هو اعتبار الإيمان بالله هنا أمرا مسلّما ، وعليه فالتفكّر المطلوب إنّما هو في مسائل اخرى ، وتلك إشارة إلى أنّ التوحيد إنّما هو أمر فطري واضح يدرك حتّى بدون تفكّر.

٥ ـ التعبير بـ «مثنى وفرادى» إشارة إلى أنّ التفكّر يجب أن يكون بعيدا عن الغوغائية والفوضى ، بأن يقوم الناس آحادا أو على الأكثر مثنى ويتفكّرون ، لأنّ التفكّر وسط الضوضاء والغوغائية لا يمكنه أن يكون عميقا ، خصوصا وأنّ عوامل الذاتية والتعصّب في طريق الدفاع عن الإعتقادات الشخصية ستكون أشدّ فعلا في التجمّعات الأكبر.

بعض المفسّرين احتمل أن يكون هذان التعبيران إشارة إلى الإفادة من

٤٨١

المشورة بالخلط بين الأفكار الفردية والجماعية ، فالإنسان يجب أن يتفكّر منفردا وكذلك يستفيد من أفكار الآخرين ، لأنّ الاستبداد بالرأي والفكر سبب للعجب ، والتشاور والتعاون لأجل حلّ المشكلات العلمية ـ والذي لا يؤدّي إلى الغوغاء ـ سيعطي حتما ـ أثرا أفضل ، ويمكن أن يكون تقديم «مثنى» على «فرادى» في الآية لهذا السبب.

٦ ـ الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول هنا «تتفكّروا» دون أن يذكر بماذا؟ فحذف المتعلّق دليل على العموم ، أي في كلّ شيء ، في الحياة المعنوية والمادية ، في الأمور الكبيرة والصغيرة. وبكلمة : في كلّ أمر يجب التفكّر أوّلا ، وأهمّ من ذلك كلّه هو التفكّر للعثور على الإجابة للأسئلة الأربعة التالية : من أين جئت؟ لأي شيء أتيت؟ إلى أين أذهب؟ وأين أنا الآن؟

ولكن بعض المفسّرين ذهبوا إلى أن «تتفكّروا» تتعلّق بالجملة التي تليها وهي «ما بصاحبكم من جنّة» بمعنى أنّكم لو تفكّرتم قليلا لوجدتم أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منزّه عن اتّهامكم الواهي له بالجنون. والظاهر أنّ المعنى الأوّل أوضح.

ومن البديهي أنّ من الأمور التي يجب التفكّر بها هي مسألة النبوّة والصفات العالية التي كان يتمتّع بها شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دون أن تكون منحصرة بذلك.

٧ ـ تعبير «صاحبكم» إشارة إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّه ليس نكرة بالنسبة لكم ، فقد كان بينكم لسنوات طويلة. لقد عرفتموه بالأمانة والصدق والاستقامة ، ولم تجدوا حتّى الآن نقطة ضعف واحدة في مسيرة حياته ، لذا فعليكم بالإنصاف قليلا ، فالتّهم التي تلصقونها به لا أساس لها جميعا.

٨ ـ «جنّة» بمعنى «جنون» وفي الأصل من مادّة «جن» بمعنى ستر الشيء عن الحاسّة ، ومن كون أنّ (المجنون) ستر عقله ، فقد اطلق عليه هذا التعبير ، والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ العبارة تريد الكشف عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ من يدعو إلى التفكّر والانتباه كيف يكون هو مجنونا ، والحال أنّ مناداته بالتفكّر إنّما هي دليل

٤٨٢

على تمام عقله ودرايته.

٩ ـ جملة( إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ ) تلخّص رسالة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في مسألة «الإنذار» أي : التحذير من المسؤولية ، ومن المحكمة الإلهية ، والعقاب الإلهي ، صحيح أنّ للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة في «التبشير» أو «البشارة» ولكن الذي يدفع الإنسان أكثر إلى التحرّك هو «الإنذار» ، لذا فقد ذكرت مسألة «الإنذار» في آيات اخرى من القرآن الكريم على أنّها وظيفة الرّسول الأكرم الأساسية ، كما في الآية (٩) من سورة الأحقاف( وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) ، كما ورد كذلك شبيه هذا المعنى في الآية ٦٥ من سورة (ص) وآيات اخرى.

١٠ ـ التعبير بـ( بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ) إشارة إلى أنّ القيامة قريبة إلى درجة وكأنّها أمام العين ، والحقّ أنّها كذلك بالنسبة إلى عمر الدنيا ، كذلك فقد ورد في الروايات الإسلامية نظير هذا المعنى كما في الأثر عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضمّصلى‌الله‌عليه‌وآله الوسطى والسبّابة.

* * *

ملاحظتان

١ ـ إستقلال آیات القرآن الکریم وتفسیرها المنحرف

لقد إتّضح من خلال تفسير الآیة الأخيرة بأنّ الأصنام والأوثان وما يعبد من دون الله تعالى ليس لها آذان صاغية لما يُطلب منها ، وإن كان لها فهي غير قادرة على حلّ مشكلة ما ، وليس لها في هذا العالم أيّ ملك ولو بقدر رأس الإبرة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) وعلى هذا الإساس اتّخذ الوهّابيون هذه الآیة ذريعة لهم للإدّعاة بأنّ كلّ شي ما لا الله جلّ وعلا ـ وإن كان نبيّاً ـ لا يسمع دعاءً ، وإن سمع فلا يجيب! كما رفضوا أي نوع من التوسّل بأرواح الأنبياء والأئمة والأولياء. واعتبروا ذلك مخالفاً للتوحيد محتجّين بقوله تعالى( والذين تدعون

٤٨٣

من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ) .

ولو أمعنا النظر في الآیات السابقة واللاحقة لهذه الآیة للاحظنا أنّ المقصود من قوله: (من دونه) هي الأصنام لا غير ، وذلك يصدق على مجموعة الأحجار والأخشاب وغيرها والتي كانت في نظر مشركي الجاهلية بأنّها ذات قدرة إزاء قدرة الخالق الكريم جلّ وعلاء كما أنّ الأنبياء والأولياء وحتّى الشهداء في سبيل الله أحياء في البرزخ ، وحياة البرزخ ـ كما هو معلوم ـ مجرّدة من الحجب المادية ومتعلّقان الدنيا ممّا يجعلها أوسع منها. يضاف إلى ذلك فإنّ التوسّل بالأرواح الطاهرة للأنبياء والأئمّة عليهم السلام لا يعني إقرارنا لهم الإستقلالية إزاء الخالق الكريم. بل اننّا إنّما نطلب العون والمدد من مقامهم وجاههم في حضرة الباريء العزيز، وهذا هو عين التوحيد (تأمّلوا جيداً).

وقد صرّح القرآن الکریم بأنّ الشفيع إنّما يشفع بإذن الله تعالى :( من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه ) فمن يستطيع إنكار مثل هذه الآیات الصریحة غير الجهلة المغرورين الذين هتفوا بمصل هذه الإدّعاءات لزرع الفرقة بين المسلمين؟!

وفي كثير من الحالات نقرأ في سيرة الصحاية أنّهم حينما تحيق بهم المشكلات يأتون إلى قبر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ویتوسّلون إليه ، ويطلبون العون من الله عزّوجلّ بشفاعة روحه الطاهرة.

مثالنا على ذلك ما ذكره «البيهقي» من محدّثي العامّة ، قال : في زمن الخليفة الثّاني مرّ في الناس قحط وجدب ، ممّا حدا ببلال وعدد من الصحابة إلى الذهاب لقبر رسول الله وقالوا عنده : «يا رسول الله ، استق لأمّتك فإنّهم قد هلكوا»(١) .

كما نقل «الآلوسي» في (روح المعاني) الكثير من الأحاديث في هذا الصدد ، وبعد المناقشة لهذه الأحاديث يخرج بالقول : إنّني لا أرى مانعاً من التضرّع لله

٤٨٤

جلّ وعلا بمقام الرّسول الأكرم في حياته أو بعد مماته ثمّ أنّ الآخرین الذين يمتلكون مقاماً وقرباً من الخالق الكريم يجوز التوسّل بالله سبحانه بواسطتهم (١) .

ولمزيد من الإطلاع راجع تفسيرنا هذا ، ذيل الآية ٣٥ من سورة المائدة.

٢ ـ جانب من الروايات الإسلامية في التفكّر والتأمّل :

اهتّمت الرواية الإسلامية ـ وعلى خطى القرآن الكريم ـ بمسألة التفكّر إلى حدّ أن جعلتها في المقام الأوّل من الأهميّة ، ويلاحظ المطالع للروايات تعبيرات جميلة ومعبّرة أوردنا نماذج منها هنا :

ألف ـ التفكّر أعظم عبادة : نقرأ عن الإمام الرضاعليه‌السلام «ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم إنّما العبادة التفكّر في أمر اللهعزوجل »(١) .

ونقرأ في رواية اخرى : «كان أكثر عبادة أبي ذكر التفكّر»(٢) .

ب ـ ساعة تفكّر أفضل من ليلة من العبادة : عن الحسن الصيقل قال : سألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام : عمّا يروي الناس أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة ، قلت : كيف يتفكّر؟ قال : «يمرّ بالخربة أو بالدار فيقول : أين ساكنوك وأين بانوك ، ما لك لا تتكلّمين؟»(٣) .

ج ـ التفكّر مصدر العمل : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «إنّ التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به»(٤) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد ٢ ، كتاب الكفر والإيمان ـ باب التفكّر ـ صفحة ٥٥ حديث ٤.

(٢) سفينة البحار ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٣٨٢.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٤٨٥

الآيات

( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) )

التّفسير

وما يبدئ الباطل وما يعيد :

قلنا أنّ الله تعالى أمر رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه السلسلة من الآيات الكريمة خمس مرّات بأن يخاطب هؤلاء الضالّين ويقطع عليهم طريق الاعتذار من كلّ جانب.

فالآية السابقة كانت دعوة للتفكّر ونفي أي حالة من عدم التوازن الروحي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي مطلع هذه الآيات ، يتحدّث القرآن في عدم مطالبة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بأي أجر مقابل تبليغ الرسالة. تقول الآية الاولى :( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ، إِنْ

٤٨٦

أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) .

وذلك إشارة إلى أنّ العاقل حينما يتصرّف أي تصرّف يجب أن يكون لتصرفه باعث ، فحينما يثبت لكم بأنّ لدي عقل كامل ، وترون بأن ليس لي هدف مادّي ، فيجب أن تعلموا بأنّ هناك دافعا ومحرّكا إلهيا ومعنويا هو الذي دفعني إلى ذلك التصرّف أو العمل.

بتعبير آخر : أنا دعوتكم للتفكّر ، والآن تأمّلوا ، واسألوا وجدانكم ، أي سبب يدعوني لأن أنذركم من العذاب الإلهي الشديد؟ ، وأي ربح سوف أجنيه من هذا العمل؟ ، وأي فائدة مادية لي فيه؟. إضافة إلى ذلك فإن كانت حجّتكم في هذا الإعراض ومخالفة الحقّ ، هو أنّكم ستدفعون لي أجرا عليه ، فسيضيع جزافا ، لأنّي أساسا لم أطالبكم بأي أجر أو جزاء.

كذلك فقد ورد هذا المعنى بصراحة أيضا في الآية (٤٦) من سورة القلم( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) .

أمّا ما هو تفسير جملة( فَهُوَ لَكُمْ ) ؟ فهناك تفسيران :

الأوّل : أنّ الجملة كناية عن عدم المطالبة بأي أجر كما لو قلت «كلّ ما أردته منك فهو لك» كناية عن أنّك لا تريد شيئا مطلقا. والدليل على ذلك هو الجملة التالية والتي تقول :( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) .

الثاني : أنّكم إن لاحظتم أنّي في بعض ما أخبرتكم به عن الله سبحانه وتعالى ، قلت لكم :( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (١) ، فهذا أيضا يعود نفعه إليكم ، لأنّ مودّة ذي القربى ترتبط بمفهوم (الإمامة والولاية) و «استمرار خطّ النبوّة ، الذي هو ضروري لإدامة هدايتكم.

الدليل على هذا القول هو ما ورد في أسباب النّزول الذي نقله بعضهم هنا ، ففي

__________________

(١) الشورى ، ٢٣.

٤٨٧

تفسير روح البيان ، ورد أنّه عند نزول الآية( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمشركي مكّة : «لا تؤذوا ذوي قرباي» وهم قبلوا بهذا الطلب ، ولكن عند ما نال الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من أصنامهم ، قالوا : إنّ محمّدا لم ينصفنا ، فهو من جانب يدعونا لعدم التعرّض لذوي قرباه بالأذى ، ولكنّه من جانب آخر يمسّ أربابنا بالأذى ، وهنا نزلت الآية موضوع بحثنا( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) . فما أردته منكم بهذا الخصوص هو بنفعكم ، سواء آذيتموهم أو لم تؤذوهم.

ثمّ تختم الآية بالقول :( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) . فإن كنت أريد أجري من الله وحده فلأنّه وحده عالم بكلّ أعمالي ومطّلع على نواياي. علاوة على أنّه هو سبحانه وتعالى شاهد صدقي وحقّانية دعوتي ، لأنّه هو سبحانه سخّر لي كلّ هذه المعجزات والآيات البيّنات ، والحقّ أنّه سبحانه وتعالى نعم الشاهد ، فهو الذي قد أحاط بكلّ شيء علما وهو أفضل من يستطيع الأداء ، ولا يصدر عنه إلّا الحقّ وهو خير الشاهدين. وهو الله سبحانه وتعالى.

بالالتفات إلى ما قيل حول حقّانية دعوة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تضيف الآية التي بعدها قائلة أنّ القرآن واقع غير قابل للإنكار لأنّه ملقى من الله سبحانه وتعالى على قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

كلمة «يقذف» من مادّة (قذف) وهو الرمي البعيد ، وثمّة تفسيرات متعدّدة لهذه الآية ، يمكن جمعها مع بعضها البعض.

أوّلا : المقصود بـ «يقذف بالحقّ» هو الكتب السماوية والوحي الإلهي على قلوب الأنبياء والمرسلين ، ولأنّه سبحانه وتعالى هو علّام الغيوب ، فهو يعلم بالقلوب المهيّأة ، فينتخبها ويقذف الوحي فيها حتّى ينفذ إلى أعماقها.

وعلى ذلك فالمعنى شبيه بما ورد في الحديث المعروف «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء».

٤٨٨

والتعبير بـ «علّام الغيوب» يؤيّد هذا المعنى.

الآخر : إنّ المقصود من «قذف الحقّ على الباطل وزهوق الباطل» ، يعني أنّ للحقّ قوّة تجعله قادرا على تجاوز أي عائق في طريقه ، وليس لأحد طاقة على الوقوف بوجهه ، وبهذا تكون الآية تهديدا للمخالفين لكي لا يقفوا بوجه القرآن ، وأن يعلموا أنّ حقّانية القرآن ستسحقهم.

وبذا تكون الآية تعبيرا مشابها لما ورد في الآية (١٨) من سورة الأنبياء( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) .

ويحتمل أن يكون المقصود بتعبير «القذف» هنا هو نفوذ حقّانية القرآن إلى نقاط العالم القريبة والبعيدة ، وهي إشارة إلى أنّ هذا الوحي السماوي سيضيء جميع العالم بنوره في نهاية الأمر.

بعدئذ ولزيادة التأكيد يضيف سبحانه وتعالى :( قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ) (١) . وعليه فلن يكون للباطل أي دور مقابل الحقّ ، لا خطّة اولى جديدة ، ولا خطّة معادة ، إذ أنّ خطط الباطل نقش على الماء ، ولهذا السبب فلم يتمكّن الباطل من طمس نور الحقّ ومحو أثره من القلوب.

مع أنّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مصاديق «الحقّ» و «الباطل» في هذه الآية في حدود معيّنة ، لكن الواضح أنّ مفهوم الإثنين واسع وشامل جدّا ، القرآن ، الوحي الإلهي ، تعليمات الإسلام ، جميعها مصاديق لمفهوم «الحقّ». والشرك والكفر ، والضلال ، والظلم والذنوب ، ووساوس الشيطان ، والبدع الطاغوتية كلّها تندرج تحت معنى «الباطل» ، وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية شبيهة بالآية (٨١) من سورة الإسراء ،( وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) .

وقد ورد أنّ ابن مسعود قال : دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة وحول البيت ثلاثمائة

__________________

(١) (يبدئ) من مادّة «بدء» بمعنى الإيجاد الابتدائي ، و (يعيد) : من مادّة (عود) بمعنى التكرار ، الباطل : فاعل ، والمفعول محذوف ، والتقدير «ما يبدئ الباطل شيئا وما يعيد شيئا».

٤٨٩

وستّون صنما فجعل يطعنها بعود في يديه ويقول : «جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ـ جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد»(١) .

سؤال :

يثار هنا سؤال وهو أنّ الآية أعلاه تقول : إنّه بظهور الحقّ ، يمحق الباطل ، ويفقد كلّ خلّاقيته ، والحال أنّنا نرى أنّ الباطل له جولات وصيت إلى الآن ، ويسيطر على مناطق كثيرة؟

وللإجابة على هذا السؤال ، يجب الالتفات إلى ما يلي :

أوّلا : إنّه بظهور الحقّ وإشراقه. فإنّ الباطل ـ والذي هو الشرك والنفاق والكفر وكلّ ما ينبع عنها ـ يفقد بريقه ، وإذا استمرّ وجوده فبالقوّة والظلم والضغط ، وإلّا فإنّ النقاب قد ازيل عن وجهه ، وظهرت صورته القبيحة لمن يطلب الحقّ ، وهذا هو المقصود من مجيء الحقّ ومحو الباطل.

ثانيا : لأجل تحقّق حكومة الحقّ وزوال حكومة الباطل في العالم ، فإضافة إلى الإمكانيات التي يضعها الله في خدمة عباده ، هناك شرائط اخرى مرتبطة بالعباد أنفسهم ، والتي أهمّها «القيام بترتيب المقدّمات للاستفادة من تلك الإمكانات الإلهية». وبتعبير آخر ، فإنّ انتصار الحقّ على الباطل ليس فقط في المناحي العقائدية والمنطقية وفي الأهداف ، بل في المناحي الإجرائية على أساسين ، «فاعلية الفاعل» و «قابلية القابل» وإذا لم يصل الحقّ إلى النصر على الباطل في المرحلة العملية نتيجة عدم تحقّق (القابلية) فليس ذلك دليلا على عدم انتصاره.

ولنضرب لذلك مثلا قرآنيا ، فالآية الكريمة تقول :( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ ) (٢) ، ولكن المعلوم لدينا بأنّ استجابة الدعاء ليست بدون قيد أو شرط ، فإن تحقّقت شرائط

__________________

(١) مجمع البيان ، مجلّد ٨ ، صفحة ٣٩٧.

(٢) المؤمن ، ٦٠

٤٩٠

الدعاء فهو مستجاب قطعا ، وفي غير هذه الحالة ينبغي عدم انتظار الاستجابة ، (شرح هذا المعنى جاء في تفسير الآية ١٨٦ ـ من سورة البقرة).

وذلك بالضبط كما لو أنّنا أتينا بطبيب حاذق لمريض ممدّد على فراشه ، وعندها نقول له : زادت فرصة النجاة لك ، وفي أي وقت أحضرنا له دواء نذكره بأنّنا قد حللنا له مشكلا آخر ، في حين أنّ كلّ هذه الأمور هي من مقتضيات الشفاء وليست (علّة عامّة) ، فيجب أن يكون الدواء مؤثّرا في المريض ، وأن تراعى توصيات الطبيب ، كما أنّه يجب أن لا ننسى الحمية وأثرها ، لكي يتحقّق الشفاء العيني والواقعي (تأمّل).

ثمّ يضيف تعالى : لأجل إيضاح أنّ ما يقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو من الله ، وأنّ كلّ هداية منه ، وأن ليس هناك أدنى خطأ أو نقص في الوحي الإلهي ،( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) (١) .

أي إنّني لو اتّكلت على نفسي فسوف أضلّ ، لأنّ الاهتداء إلى طريق الحقّ من بين أكداس الباطل ليس ممكنا بغير إمداد الله ، ونور الهداية الذي ليس فيه ضلال وتيه هو نور الوحي الإلهي.

صحيح أنّ العقل هو مصباح مضيء ، غير أنّ الإنسان ليس معصوما ، وشعاع هذا المصباح لا يمكنه كشف جميع حجب الظلام ، إذا تعالوا وتعلّقوا بنور الوحي الإلهي هذا حتّى تخرجوا من الظلمات ، وتضعوا أقدامكم على أرض النور.

وفي ختام الآية يضيف تعالى :( إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) .

فلعلّكم تعتقدون أنّه تعالى لا يسمع ما نقول وما تقولون ، أو أنّه يسمع ذلك ولكنّه بعيد ، كلّا ، فهو (سميع) و (قريب) ، فلا تعزب عنه ذرّة ممّا نقول أن ندعو.

* * *

__________________

(١) فيما يخصّ لما ذا أورد في الجملة الاولى( عَلى نَفْسِي ) وفي الجملة الثّانية( فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) قال بعض المفسّرين : كلّ واحدة من هاتين الجملتين تحتوي على محذوف مقدّر ، والتقدير كاملا «إن ضللت فإنّما أضلّ نفسي وإن اهتديت فإنّما أهتدي لنفسي بما يوحي إليّ ربّي» (تأمّل!!) ـ تفسير روح المعاني ـ تفسير الآية مورد بحثنا.

٤٩١

الآيات

( وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤) )

التّفسير

ليس للكافرين مفرّ :

الآيات الأخيرة من سورة سبأ تعود إلى الحديث في المشركين المعاندين الذين مرّ الحديث فيهم في الآيات السابقة عن طريق مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فتصوّر حال تلك المجموعة عند وقوعها في قبضة العذاب الإلهي ، كيف تفكّر في الإيمان ، حين لا يكون لإيمانهم أدنى فائدة.

يقول تعالى :( وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) .

ثمّة آراء بين المفسّرين في : متى يكون ذلك الصراخ والفزع والاضطراب؟

فبعضهم يرى أنّه عذاب الدنيا أو عذاب الموت ، وبعضهم يرى أنّه يخصّ عقاب يوم

٤٩٢

القيامة ، غير أنّ آخر هذه الآية ، يشير إلى أنّ هذه الآيات جميعها تتحدّث عن الدنيا وعذاب الاستئصال ، أو لحظة تسليم الروح ، إذ يقول تعالى في الآية الأخيرة من هذا المقطع( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ) وهذا التعبير لا ينسجم مع يوم القيامة. لأنّ الجميع يجمعون في ذلك اليوم للحساب ، كما تشير إلى ذلك الآية (١٠٢) من سورة هود( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) .

وفي الآيتين ٤٩ ـ ٥٠ من سورة الواقعة أيضا نقرأ( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) .

وعليه فإنّ المقصود من جملة( أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) هو أنّ هؤلاء الأفراد الكافرين والظالمين ، ليس فقط لا يمكنهم الفرار من يد القدرة الإلهيّة فحسب ، بل إنّ الله سبحانه وتعالى يأخذهم بالعذاب من مكان قريب منهم جدّا.

ألم يدفن الفراعنة في أمواج النيل الذي كان المصدر الأساس لفخرهم ، ألم تنخسف الأرض بقارون وكنوزه ، و «قوم سبأ» الذين مرّت بنا قصّتهم في هذه السورة ألم يحيق بهم الهلاك أقرب الأمكنة لهم ، وهو ذلك السدّ العظيم الذي كان سبب عمران بلادهم وسبب حياتهم وحركتهم؟ لذا فإنّه الله يأخذ بالعذاب من أقرب الأماكن حتّى يعلم مدى قدرته وسطوته.

فأكثر السلاطين الظلمة قتلوا على أيدي أقرب أفراد حواشيهم ، وأغلب المتسلّطين الجبابرة تلقّوا الضربة الأخيرة من داخل قصورهم.

ولو لا حظنا ما ورد في الكثير من الروايات من طرق السنّة والشيعة ، لرأينا أنّ لهذه الآية مصداقا في أحاديث «السفياني» (مجموعة على خطّ أبي سفيان وعصارة عصر الجاهلية يخرجون على أتباع الحقّ في عصر ظهور المهديعليه‌السلام ). حيث أنّ السفياني وجيشه تخسف بهم الصحراء وسط الطريق إلى مكّة ، وذلك في الحقيقة واحد من مصاديق الآية( وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) . حيث أنّهم وقعوا في

٤٩٣

العذاب الإلهي من أقرب النقاط لهم ، وهي الأرض التي تحت أقدامهم. وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المضمون عن ابن عبّاس وابن مسعود وأبي هريرة وحذيفة وامّ سلمة وعائشة ، كما يلاحظ في كتب السنّة ، وكلّهم ينقلون عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وقد أوردت تلك الأحاديث في تفسير هذه الآية في الكثير من كتب التّفسير الشيعية من أمثال تفسير القمّي ، ومجمع البيان ، ونور الثقلين ، والصافي ، والكثير من كتب التّفسير السنّية كتفسير روح المعاني ، وروح البيان ، والقرطبي.

كذلك فإنّ العلّامة المجلسي ـ أعلى الله مقامه ـ أورد العديد من الروايات عن الإمام الباقرعليه‌السلام بهذا الخصوص ، والتي تشير إلى كونها أحد مصاديق هذه الآيات ، باعتبار أنّ الخسف الذي يحلّ بالسفياني وجيشه هو مصداق للأخذ من مكان قريب(٢) .

وكما أشرنا مرارا فإنّ الرّوايات التي يوردها المفسّرون للتدليل على معنى الآية ، إنّما هي المصاديق الأوضح ، وليس معناها تحديد معنى الآية في ذلك.

الآية التي بعدها ، تعرض وضع هؤلاء بعد أن أخذهم العذاب الإلهي تقول الآية الكريمة( وَقالُوا آمَنَّا بِهِ ) (٣) ولكن( أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) .

نعم فبحلول الموت وعذاب الاستئصال أغلقت أبواب العودة كليّا ، وحيل كالسدّ المحكم بين الإنسان وبين أن يكفّر عن ذنوبه ، لذا فإنّ إظهار الإيمان في ذلك الحين ، كأنّه كائن من مكان بعيد ، وهو إيمان اضطراري بسبب الخوف الشديد من العذاب الذي يعاين هناك ، مثل ذلك الإيمان أصلا لا قيمة له ، لذا فإنّ الآية

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلّد ١٦ ، صفحة ٤١٩.

(٢) بحار الأنوار ، مجلّد ٥٢ ، صفحة ١٨٥ فيما بعد.

(٣) الضمير في كلمة «به» يعود على «الحقّ» على اعتبار أنّه أقرب مرجع له ، ونعلم بأنّ الحقّ الآيات السابقة يشير إلى «القرآن ومحتواه والمبدأ والمعاد ورسول الإسلام».

٤٩٤

(٢٨) من سورة الأنعام تعبّر عنهم قائلة :( بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

«التناوش» من مادّة «نوش» ـ على زنة خوف ـ بمعنى التناول ، وبعضهم اعتبروا أنّها بمعنى «التناول بسهولة» أي كيف يتناولون الإيمان من مكان بعيد ولم يكونوا يتناولونه من قريب؟

كيف يستطيعون الآن وبعد أن انتهى كلّ شيء ، أن ينبروا لجبران خطاياهم ويؤمنوا ، في حين أنّهم قبل هذا كفروا مع أنّهم كانوا يتمتّعون بالاختيار والإرادة :( وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) .

ولم يكتفوا بالكفر فقط ، بل إنّهم ألصقوا بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبتعاليمه مختلف أنواع التّهم ، وحكموا أحكاما خاطئة فيما يخصّ (عالم الغيب ـ والقيامة ـ والنبوّة) :( وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) .

«القذف» ـ كما قلنا ـ الرمي من بعيد ، و «الغيب» هو عالم ما وراء الحسّ ، والجملة كناية لطيفة عمّن يطلق أحكامه على عالم ما وراء الطبيعة بلا سابق علم أو معرفة ، كمن يرمي شيئا من نقطة بعيدة ، فقلّما يصيب الهدف ، فظنونهم وأمانيهم وأحكامهم لا تصيب أهدافها أيضا. فقد عدّوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (ساحرا) حينا ، وحينا (مجنونا) وآخر (كذّابا) ، وحينا اعتبروا القرآن «نتاجا فكريا بشريا». ومرّة أنكروا الجنّة والنار والقيامة بشكل كلّي ، كلّ هذه أنواع «للرجم بالغيب» أو «اصطياد الطيور في ظلام الليل» أو بعبارة اخرى «القذف من مكان بعيد».

ثمّ يضيف تعالى :( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ) ففي لحظة مؤلمة ، فصل بينهم وبين كلّ ثرواتهم وأموالهم ، وقصورهم ومقاماتهم ، وأمانيهم ، فكيف سيكون حالهم؟ هؤلاء الذين كانوا يعشقون الدرهم والدينار ، والذين كانت قلوبهم لا تطاوعهم في التخلّي عن أبسط الإمكانات المادية كيف سيكون حالهم في تلك اللحظة التي يجب عليهم فيها أن يودّعوا كلّ ذلك وداعا

٤٩٥

أخيرا ، ثمّ يغمضون عيونهم ويسيرون باتّجاه مستقبل مظلم موحش.

جملة( حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ) ، فسّرت بتفسيرين :

الأوّل : هو ما عرضناه سابقا.

الثاني : أنّه حيل بينهم وبين رغبتهم في الإيمان وجبران ما فاتهم غير أنّ التّفسير الأوّل ينسجم أكثر مع جملة( ما يَشْتَهُونَ ) .

فضلا عن أنّ جملة( أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) قد تعرّضت إلى قضيّة عدم تمكّنهم من الإيمان عند الموت وعذاب الاستئصال كما ذكرنا ، فلا يبدو أنّ هناك داعيا للتكرار.

من الجدير بالذكر أيضا أنّ كثيرا من مفسّري هذه الآية اعتبروا هذه الآيات ممّا يخصّ الحديث في عقوبات الآخرة وندامة المسيئين في المحشر ، ولكن الآية الأخيرة وبالأخصّ جملة( كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ) لا تنسجم مع هذا المعنى ، بل إنّ المقصود هو لحظة الموت ومشاهدة عذاب الفناء.

وما أجمل ما يقول أمير المؤمنين علي (عليه أفضل الصلاة والسّلام) حينما يصوغ بكلماته النورانية وصفا للحظات فراق الروح لعالم الدنيا ، ومفارقة نعمها : «اجتمعت عليهم سكرة الموت ، وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم!

ثمّ زاد الموت فيهم ولوجا ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنّه لبين أهله ، ينظر ببصره ويسمع باذنه

يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها ، أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصرحاتها ومشبهاتها!

فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره ، ويتمنّى أنّ الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها

٤٩٦

دونه»!(١) .

اللهمّ اجعلنا من الذين ينتبهون قبل فوات الفرص ، ويجبرون ما فاتهم.

شباك الدنيا ومغرياتها مشرعة لنا ، والعدوّ شديد المراس ، ولو لا لطفك ، فإنّ أعمالنا تافهة حقيرة

اللهمّ!! جعلنا من الذين يشكرون النعم حين حلولها ، وأعذنا من الغفلة والغرور ، واجعلنا من الذين لا يجزعون حين المصائب والشدائد

إنّك عليّ سميع

نهاية تفسير سورة سبأ

نهاية المجلّد الثالث عشر

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٠٩.

٤٩٧
٤٩٨

فهرس الموضوعات

«سورة لقمان»

محتوى السورة ٧

فضل سورة لقمان ٨

تفسير الآيات : ١ ـ ٥ ١٠

من هم المحسنون ١٠

تفسير الآيات : ٦ ـ ٩ ١٣

سبب النّزول ١٣

الغناء أحد مكائد الشياطين الكبيرة ١٤

بحوث

١ ـ تحريم الغناء ١٨

٢ ـ ما هو الغناء ٢١

٣ ـ فلسفة تحريم الغناء ٢٣

تفسير الآيتان : ١٠ ـ ١١ ٢٧

هذا خلق الله ٢٧

تفسير الآيات : ١٢ ـ ١٥ ٣٢

احترام الوالدين ٣٢

فما هي الحكمة ٣٣

٤٩٩

بحثان

١ ـ من هو لقمان ٣٩

٢ ـ صور من حكمة لقمان ٤١

تفسير الآيات : ١٦ ـ٤١ ٤١

أثبت كالجبل ، وعامل الناس بالحسنى ٤٤

تعليقات ٤٩

١ ـ آداب المشي ٤٩

٢ ـ آداب الحديث ٥٠

٣ ـ آداب العشرة ٥١

تفسير الآيات : ٢٠ ـ ٢٤ ٥٢

تفسير الآيات : ٢٥ ـ ٣٠ ٦٠

عشر صفات لله سبحانه ٦٠

تفسير الآيتان : ٣١ ـ ٣٢ ٧٠

في دوّامة البلاء ٧٠

تفسير الآيتان : ٣٣ ـ٤٢ ٧٠

سعة علم الله ٧٥

بحوث

١ ـ أنواع الغرور والخدع ٧٩

٢ ـ خداع الدنيا ٧٩

٣ ـ هذه العلوم الخمسة مختصّة بالله ٨٠

سورة السجدة

أسماء هذه السورة ٨٨

٥٠٠