الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 148662
تحميل: 5075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148662 / تحميل: 5075
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

رئيسيّة ، أو عشرة أسماء من الأسماء الحسنى :

الغني ، الحميد ، العزيز ، الحكيم ، السميع ، البصير ، الخبير ، الحقّ ، العليّ ، والكبير. هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ الآية الاولى تتحدّث عن «خالقية» الله ، والآية الثّانية عن «مالكيته» المطلقة ، والثالثة عن «علمه» اللامتناهي ، والآية الرّابعة والخامسة عن «قدته» اللامتناهية. والآية الأخيرة تخلص إلى هذه النتيجة ، وهي أنّ الذي يمتلك هذه الصفات ويتمتّع بها هو الله تعالى ، وكلّ ما دونه باطل أجوف حقير.

مع ملاحظة هذا البحث الإجمالي نعود إلى شرح الآيات ، فتقول الآية الاولى :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) .

هذا التعبير ـ والذي يلاحظ في آيات القرآن الاخرى ، كالآية (٦١ ـ ٦٣) من سورة العنكبوت ، والآية (٣٨) من الزمر ، والآية (٩) من الزخرف ـ يدلّ من جهة على أنّ المشركين لم يكونوا منكرين لتوحيد الخالق مطلقا ، ولم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون الأصنام خالقة ، إنّما كانوا معتقدين بالشرك في عبادة الأصنام وشفاعتها فقط. ومن جهة اخرى يدلّ على كون التوحيد فطريّا وأنّ هذا النور كامن في طينة وطبيعة كلّ البشر.

ثمّ تقول : إذا كان هؤلاء معترفين بتوحيد الخالق فـ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ تتطرّق إلى «مالكية» الله ، لأنّه بعد ثبوت كونه خالقا لا حاجة إلى دليل على كونه مالكا ، فتقول :( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) . ومن البديهي أنّ الخالق والمالك يكون مدبّرا لأمر العالم أيضا ، وبهذا تثبت أركان التوحيد الثلاثة ، وهي : «توحيد الخالقية» و «توحيد المالكية» و «توحيد الربوبية». والذي يكون على هذا الحال فإنّه غنيّ عن كلّ شيء ، وأهل لكلّ حمد وثناء ، ولذلك تقول الآية في النهاية :( إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) .

٦١

إنّه غنيّ على الإطلاق ، وحميد من كلّ جهة ، لأنّ كلّ موهبة في هذا العالم تعود إليه ، وكلّ ما يملكه الإنسان فإنّه صادر منه وخزائن كلّ الخيرات بيده ، وهذا دليل حيّ على غناه.

ولمّا كان «الحمد» بمعنى الثناء على العمل الحسن الذي يصدر عن المرء باختياره ، وكلّ حسن نراه في هذا العالم فهو من الله سبحانه ، فإنّ كلّ حمد وثناء منه ، فحتّى إذا مدحنا جمال الزهور ، ووصفنا جاذبية العشق الملكوتي ، وقدّرنا إيثار الشخص الكريم ، فإنّنا في الحقيقة نحمده ، لأنّ هذا الجمال والجاذبية والكرم منه أيضا إذن فهو حميد على الإطلاق.

ثمّ تجسّد الآية التالية علم الله اللامحدود من خلال ذكر مثال بليغ جدّا ، وقبل ذلك نرى لزوم ذكر هذه المسألة ، وهي ـ طبقا لما جاء في تفسير علي بن إبراهيم : إنّ قوما من اليهود عند ما سألوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حول مسألة الروح ، وأجابهم القرآن بأن( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) صعب هذا الكلام عليهم ، وسألوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : هل أنّ هذا في حقّنا فقط؟ فأجابهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «بل الناس عامّة» ، قالوا : فكيف يجتمع هذا يا محمّد؟! أتزعم أنّك لم تؤت من العلم إلّا قليلا ، وقد أوتيت القرآن وأوتينا التوراة ، وقد قرأت :( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ) ـ وهي التوراة ـ( فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) هنا نزلت الآية( وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ) ـ الآية مورد البحث ـ وأوضحت أنّ علم الإنسان مهما كان واسعا فإنّه في مقابل علم اللهعزوجل ليس إلّا ذرّة تافهة ، والذي يعدّ كثيرا في نظركم ، هو قليل جدّا عند الله(١) .

وقد بيّنا نظير هذه الرواية عن طريق آخر في ذيل الآية (١٠٩) من سورة الكهف.

__________________

(١) تفسير البرهان ، الجزء ٣ ، صفحة ٢٧٩.

٦٢

وعلى كلّ حال ، فإنّ القرآن الكريم ولأجل تجسيد علم الله اللامتناهي يقول :( وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

«يمدّه» من مادّة (المداد) وهي بمعنى الحبر أو المادّة الملوّنة التي يكتبون بها ، وهي في الأصل من (مدّ) بمعنى الخطّ ، لأنّ الخطوط تظهر على صفحة الورق بواسطة جرّ القلم.

ونقل بعض المفسّرين معنى آخر لها ، وهو الزيت الذي يوضع في السراج ويسبّب إنارة السراج. وكلا المعنيين في الواقع يرجعان إلى أصل واحد.

«الكلمات» جمع «كلمة» ، وهي في الأصل الألفاظ التي يتحدّث ويتكلّم بها الإنسان ، ثمّ أطلقت على معنى أوسع ، وهو كلّ شيء يمكنه أن يبيّن المراد والمطلب ، ولمّا كانت مخلوقات هذا العالم المختلفة يبيّن كلّ منها ذات الله المقدّسة وعظمته ، فقد أطلق على كلّ موجود (كلمة الله) ، واستعمل هذا التعبير خاصّة في الموجودات الأشرف والأعظم ، كما نقرأ في شأن المسيح في الآية (١٧١) من سورة النساء( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ ) ثمّ استعملت كلمات الله بمعنى علم الله لهذه المناسبة.

والآن يجب أن نفكّر بدقّة وبشكل صحيح بأنّه قد يكفي أحيانا قلم واحد مع مقدار من الحبر لكتابة كلّ المعلومات التي تتعلّق بإنسان ما ، بل قد يكون من الممكن أن يسجّل أفراد آخرون مجموعة معلوماتهم على الأوراق بنفس ذلك القلم ، إلّا أنّ القرآن يقول : لو أنّ كلّ الأشجار الموجودة على سطح الأرض تصبح أقلاما ـ ونحن نعلم أنّه قد تصنع من شجرة ضخمة ، من ساقها وأغصانها ، آلاف ، بل ملايين الأقلام ، ومع الأخذ بنظر الإعتبار المقدار العظيم للأشجار الموجودة في الأرض ، والغابات التي تغطّي الكثير من الجبال والسهول ، وعدد الأقلام الذي سينتج منها

٦٣

وكذلك لو كانت كلّ البحار والمحيطات الموجودة ، والتي تشكّل ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة تقريبا ، بذلك العمق الساحق ، تصبح حبرا ، عند ذلك يتّضح عظمة ما سيكتب ، وكم من العلوم يمكن كتابتها بهذا المقدار من الأقلام والحبر! سيّما مع ملاحظة مضاعفة ذلك بإضافة سبعة أبحر اخرى ، وكلّ واحد منها يعادل كلّ محيطات الأرض ، وبالأخصّ إذا علمنا أنّ عدد السبعة هنا لا يعني العدد ، بل للكثرة والإشارة إلى البحار التي لاعدّ لها ، فعند ذلك ستّتضح سعة علم اللهعزوجل وترامي أطرافه ، ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الأقلام والمحابر تنتهي ولكنّ علومه سبحانه لا تعرف النهاية.

هل يوجد تجسيد وتصوير للّانهاية أروع وأبلغ وأجمل من هذا التجسيد؟ إنّ هذا العدد حيّ وناطق إلى الحدّ الذي يصطحب معه أمواج فكر الإنسان إلى الآفاق اللامحدودة ، ويغرقها في الحيرة والهيبة والجلال.

إنّ الإنسان يشعر مع هذا البيان البليغ الواضح أنّ معلوماته مقابل علم الله كالصفر مقابل اللانهاية ، ويليق به أن يقول فقط : إنّ علمي قد أوصلني إلى أن أطّلع على جهلي ، فحتّى التشبيه بالفطرة من البحر لتبيان هذه الحقيقة لا يبدو صحيحا.

ومن جملة المسائل اللطيفة التي تلاحظ في الآية : أنّ الشجرة قد وردت بصيغة المفرد ، والأقلام قد وردت بصيغة الجمع ، وهذا تبيان لعدد الأقلام الكثيرة التي تنتج من شجرة واحدة بساقها وأغصانها.

وكذلك التعبير بـ (البحر) بصيغة المفرد مع (الف ولام) الجنس ليشمل كلّ البحار والمحيطات على وجه الأرض ، خاصّة وأنّ كلّ بحار العالم ومحيطاته متّصلة ببعضها ، وهي في الواقع بحكم بحر واسع.

والطريف في الأمر أنّه لا يتحدّث في مورد الأقلام عن أقلام إضافية ومساعدة ، أمّا فيما يتعلّق بالبحار فإنّه يتحدّث عن سبعة أبحر اخرى ، لأنّ القلم يستهلك قليلا أثناء الكتابة ، والذي يستهلك أكثر هو الحبر.

٦٤

انتخاب كلمة (سبع) للكثرة في لغة العرب ، ربّما كان بسبب أنّ السابقين كانوا يعتقدون أنّ عدد كواكب المنظومة الشمسية سبعة كواكب ـ وفي أنّ ما يرى اليوم بالعين المجرّدة من المنظومة الشمسية سبعة كواكب لا أكثر ـ ومع ملاحظة أنّ الأسبوع دورة زمانية كاملة تتكوّن من سبعة أيّام لا أكثر ، وأنّهم كانوا يقسّمون كلّ الكرة الأرضية إلى سبع مناطق ، وكانوا قد وضعوا لها اسم الأقاليم السبعة ، سيتّضح لماذا انتخب عدد السبعة كعدد كامل من بين الأعداد ، واستعمل لبيان الكثرة(١) .

بعد ذكر علم الله اللامحدود ، تتحدّث الآية الاخرى عن قدرته اللامتناهية ، فتقول :( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) .

قال بعض المفسّرين : أنّ جمعا من كفّار قريش كانوا يقولون من باب التعجّب والاستبعاد لمسألة المعاد : إنّ الله قد خلقنا بأشكال مختلفة ، وعلى مدى مراحل مختلفة ، فكنّا يوما نطفة ، وبعدها صرنا علقة ، وبعدها صرنا مضغة ، ثمّ أصبحنا تدريجيّا على هيئات وصور مختلفة ، فكيف يخلقنا الله جميعا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟! فنزلت الآية مورد البحث فأجابتهم.

إنّ هؤلاء كانوا غافلين في الحقيقة عن مسألة مهمّة ، وهي أنّ هذه المفاهيم كالصعوبة والسهولة ، والصغير والكبير يمكن تصوّرها من قبل موجودات لها قدرة محدودة كقدرتنا ، إلّا أنّها أمام قدرة الله اللامتناهية تكون متساوية ، فلا يختلف خلق إنسان واحد عن خلق جميع البشر مطلقا ، وخلق موجود ما في لحظة واحدة أو على مدى سنين طوال بالنسبة إلى قدرته المطلقة.

وإذا كان تعجّب كفّار قريش من أنّه كيف يمكن فصل الأجساد عن بعضها وإرجاع كلّ منها إلى محلّه بعد أن كانت الطبائع مختلفة ، والإشكال متغايرة ، والشخصيات متنوّعة ، وذلك بعد أن تحوّل بدن الإنسان إلى تراب وتطايرت

__________________

(١) تحدّثنا حول (علم الله المطلق) في ذيل الآية (١٠٩) من سورة الكهف.

٦٥

ذرّات ذلك التراب؟! فإنّ علم الله اللامتناهي ، وقدرته اللامحدودة تجيبهم عن سؤالهم ، فإنّه قد جعل بين الموجودات روابط وعلاقات بحيث أنّ الواحد منها كالمجموعة ، والمجموعة كالواحد.

وأساسا فإنّ انسجام وترابط هذا العالم بشكل ترجع كلّ كثرة فيه إلى الوحدة ، وخلقة مجموع البشر تتّبع خلقة إنسان واحد.

وإذا كان تعجّب هؤلاء من قصر الزمان ، لأنّه كيف يمكن أن تطوى المراحل التي يطويها الإنسان خلال سنين طوال من كونه نطفة إلى مرحلة الشباب ، في لحظات قصيرة؟! فإنّ قدرة الله تجيب على هذا التساؤل أيضا ، فإنّنا نرى في عالم الأحياء أنّ أطفال الإنسان يحتاجون لمدّة طويلة ليتعلّموا المشي بصورة جيّدة ، أو يصبحوا قادرين على الاستفادة من كلّ أنواع الأغذية ، في حين أنّنا نرى الفراخ بمجرّد أن تخرج من البيضة تنهض وتسير ، وتأكل دونما حاجة حتّى للامّ ، وهذه الظاهرة تبيّن أنّ هذه الأمور لا تعني شيئا أمام قدرة اللهعزوجل .

إنّ ذكر كون الله «سميعا وبصيرا» في نهاية الآية قد يكون جوابا عن إشكال آخر من جانب المشركين ، وهو على فرض أنّ جميع البشر على اختلاف خلقتهم ، وبكلّ خصوصياتهم يبعثون ويحيون في ساعة واحدة ، لكن كيف ستخضع أعمالهم وكلامهم للحساب ، فإنّ الأعمال والأقوال امور تفنى بعد الوجود؟!

فيجيب القرآن بأنّ الله سميع وبصير ، قد سمع كلّ كلامهم ، ورأى كلّ أعمالهم ، علاوة على أنّ الفناء المطلق لا معنى ولا وجود له في هذا العالم ، بل إنّ أعمالهم وأقوالهم موجودة دائما.

وإذا تجاوزنا ذلك فإنّ الجملة أعلاه تهديد لهؤلاء المعاندين ، بأنّ الله سبحانه مطّلع على أقوالكم ومؤامراتكم ، بل وحتّى على ما في قلوبكم وضمائركم.

الآية التالية تأكيد وبيان آخر لقدرة الله الواسعة ، وقد وجّهت الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ

٦٦

سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) لخدمة الناس وتأمين احتياجاتهم( كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

«الولوج» في الأصل بمعنى «الدخول» ، ودخول الليل في النهار والنهار في الليل قد يكون إشارة إلى طول وقصر الليل والنهار التدريجي على مدار السنة ، حيث ينقص شيء من أحدهما تدريجيّا ، ويضاف على الآخر بصورة غير محسوسة ، لتتكوّن الفصول الأربعة للسنة بخصائصها وآثارها المباركة. (وليست هناك إلّا نقطتان على سطح الأرض لا يوجد فيهما هذا التغيير التدريجي والفصول الأربعة : إحداهما : النقطة الحقيقيّة للقطب الشمالي والجنوبي حيث يكون الليل هناك ستّة أشهر ، والنهار ستّة أشهر طوال السنة ، والاخرى خطّ الإستواء الدقيق حيث يتساوى ليله ونهاره كلّ السنة).

أو إشارة إلى أنّ تبديل الليل بالنهار والنهار بالليل لوجود الغلاف الجوّي لا يحدث بصورة مفاجئة فيتعرّض الإنسان وكلّ الموجودات الحيّة للأخطار المختلفة حينئذ ، بل إنّ أشعّة الشمس تتوغّل من حيث طلوع الفجر في أعماق الظلام أوّلا ، ثمّ يتّسع ويزداد ضوء النهار حتّى يعمّ كلّ أرجاء السماء ، وعلى العكس تماما ممّا يحدث عند انتهاء النهار ودخول الليل.

وهذا الانتقال التدريجي والمنظّم بدقّة متناهية من مظاهر قدرة الله تعالى.

ومن الطبيعي أنّ هذين التّفسيرين لا يتنافيان ، ويمكن أن يجتمعا في معنى الآية وتفسيرها.

أمّا في مورد تسخير الشمس والقمر وسائر الكواكب السماوية للبشر ، فإنّ المراد ـ وكما قلنا سابقا أيضا ـ تسخيرها في سبيل خدمة الإنسان ، وبتعبير آخر فإنّ اللام في( سَخَّرَ لَكُمْ ) لام النفع لا الإختصاص ، وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد في شأن الشمس والقمر ، والليل والنهار ، والأنهار والبحار والسفن ، وكلّ هذه مبيّنة لعظمة شخصيّة الإنسان ، وسعة نعم الله عليه حيث أنّ كلّ الموجودات

٦٧

الأرضية والسماوية مسخّرة ومطيعة له بأمر الله تعالى ، ومع كلّ هذا التسخير فليس من الإنصاف أن يعصي الله سبحانه ولا يطيع أوامره(١) .

وجملة( كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) إشارة إلى أنّ هذا النظام الدقيق لا يستمرّ إلى الأبد ، بل إنّ له نهاية بانتهاء الدنيا ، وهو ما ذكر في سورة التكوير :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) .

إنّ ارتباط جملة( أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) بهذا البحث سيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفا ، لأنّ الله الذي جعل الشمس والقمر العظيمين خاضعين لنظام دقيق ، وعاقب بين الليل والنهار بذلك النظام الخاصّ آلاف وملايين السنين ، كيف يمكن أن تخفى عليه أعمال البشر؟ نعم إنّه يعلم الأعمال ، وكذلك يعلم النيّات والأفكار.

وتقول الآية الأخيرة ، كاستخلاص نتيجة جامعة كليّة( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) (٢) .

إنّ مجموع البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول كون الله خالقا ومالكا ، وعن علمه وقدرته اللامتناهيين ، أثبتت هذه الأمور ، وأنّ الحقّ هو الله وحده ، وكلّ شيء غيره زائل وباطل ومحدود ومحتاج ، والعلي والكبير الذي يسمو على كلّ شيء ، ويجلّ عن كلّ وصف ، هو ذاته المقدّسة ، وعلى قول الشاعر :

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل

ويمكن إيضاح هذا الكلام بالتعبير الفلسفي كما يلي :

__________________

(١) كان لنا بحث مفصّل حول تسخير الشمس والقمر والموجودات الاخرى للإنسان في ذيل الآية (٢) من سورة الرعد ، والآية (٣٢) من سورة إبراهيم.

(٢) «الباء» في (بأنّ الله هو الحقّ) بالرغم من أنّها تبدو في بادئ الأمر سببية ، وربّما اعتبر بعض المفسّرين كالآلوسي في روح المعاني مضمون هذه الآية سببا للمطالب السابقة ، إلّا أنّ سياق الآيات وذكر الصفات السابقة ـ أي الخالقية والمالكية والعلم والقدرة وعلاماتها في عالم الخلقة ـ ظاهر في أنّها جميعا كانت شاهدة على هذه النتيجة ، وبناء على هذا ، فإنّ محتوى هذه الآية نتيجة للآيات السابقة لا سببا لها.

٦٨

إنّ الحقّ إشارة إلى الوجود الحقيقي الثابت ، وفي هذا العالم فإنّ الوجود الحقيقي القائم بذاته والثابت المستقرّ الخالد هو الله فقط ، وكلّ ما عداه لا وجود له بذاته وهو عين البطلان ، حيث إنّه يستمدّ وجوده عن طريق الارتباط بذلك الوجود الحقّ الدائم ، فإذا انقطع الفيض عنه لحظة فإنّه سيفنى ويمحى في ظلمات الفناء والعدم ، وبهذا فإنّه كلّما قوي ارتباط الموجودات الاخرى بوجود الله تعالى فإنّها تكتسب بتلك النسبة حقّا أكبر.

وعلى كلّ حال ، وكما قلنا سابقا ، فإنّ هذه الآيات مجموعة من عشر صفات من صفات الله تعالى ، وعشرة أسماء من أسمائه ، وتشتمل على أدلّة قويّة ـ لا يمكن إنكارها ـ وعلى بطلان كلّ أنواع الشرك ، ولزوم التوحيد في كلّ مراحل العبودية.

* * *

٦٩

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) )

التّفسير

في دوّامة البلاء!

يدور البحث والحديث في هاتين الآيتين أيضا عن نعم الله سبحانه ، وأدلّة التوحيد في الآفاق والأنفس ، فالحديث في الآية الاولى عن دليل النظام ، وفي الآية الثّانية عن التوحيد الفطري ، وهما في المجموع تكمّلان البحوث التي وردت في الآيات السابقة.

تقول الآية الاولى :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ (١) لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) .

__________________

(١) «الباء» في (بنعمة الله) يمكن أن تكون باء السببية ، أو باء المصاحبة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل هو الأنسب.

٧٠

لا شكّ أنّ حركة السفن على سطح المحيطات تتمّ بمجموعة من قوانين الخلقة : ـ فحركة الرياح المنتظمة من جهة.

ـ والوزن الخاصّ للخشب أو المواد التي تصنع منها تلك السفينة من جانب آخر.

ـ ومستوى كثافة الماء من جانب ثالث.

ـ ومقدار ضغط الماء على الأجسام التي تسبح فيه من جهة رابعة.

وحينما يحدث اختلال في واحد من هذه الأمور فإنّ السفينة إمّا أن تغرق وتنزل إلى قعر البحر ، أو تنقلب ، أو تبقى حائرة لا تهتدي إلى سبيل نجاتها في وسط البحر.

غير أنّ الله جلّ وعلا الذي أراد أن يجعل البحار الواسعة أفضل السبل وأهمّها لسفر البشر ، ونقل المواد التي يحتاجونها من نقطة إلى اخرى ، قد هيّأ ويسّر هذه الشروط والظروف ، وكلّ منها نعمة من نعمه تعالى.

إنّ عظمة قدرة الله سبحانه في ميدان المحيطات ، وصغر الإنسان مقابلها ، تبلغ حدّا بحيث إنّ كلّ البشر في العالم القديم ـ الذي كانت السفن تعتمد على الرياح في حركتها ـ لو اجتمعوا ليحرّكوا سفينة وسط البحر عكس اتّجاه ريح عاصف قويّة لما استطاعوا.

واليوم أيضا ، حيث حلّت المولّدات والمكائن العظيمة محلّ الهواء ، فإنّ هبوب العواصف قد يبلغ من الشدّة أحيانا بحيث يحرّك ويهزّ أعظم السفن ، وقد يحطّمها أحيانا.

والتأكيد الذي ورد في نهاية الآية على أوصاف (صبّار) و (شكور) إمّا أن يكون من باب أنّ الحياة الدنيا مجموعة من البلاء والنعمة ، وكلاهما طريق ومحلّ للاختبار ، حيث إنّ الصمود والتحمّل أمام الحوادث الصعبة ، والشكر على النعم يشكّلان مجمل ما يجب على الإنسان ، ولذا نقل كثير من المفسّرين عن الرّسول

٧١

الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر»(١) .

أو أن يكون إشارة إلى لزوم وجود هدف لأجل إدراك آيات الله العظيمة في ميدان الخلقة ، وهذا الهدف هو شكر المنعم المقترن بالصبر والتحمّل من أجل دقّة وتفحّص أكبر.

وبعد بيان نعمة حركة السفن في البحار ، والتي كانت ولا تزال أكبر وأنفع وسائل حمل ونقل البضائع والبشر ، أشارت هذه الآية إلى صورة اخرى لهذه المسألة ، فقالت :( وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) .

«الظللّ» جمع ظلّة ، وقد ذكر المفسّرون لها عدّة معان :

ـ فيقول الراغب في مفرداته : الظلّة سحابة تظلّ ، وأكثر ما تقال لما يستوخم ويكره.

ـ والبعض اعتبرها بمعنى المظلّة الكبيرة ، من مادّة الظلّ.

ـ والبعض اعتبرها بمعنى الجبل.

وبالرغم من أنّ هذه المعاني ـ من حيث تعلّقها بالآية مورد البحث ـ لا تختلف كثيرا عن بعضها ، إلّا أنّه بملاحظة أنّ هذه الكلمة قد وردت مرارا في القرآن بمعنى السحاب الذي يظلّ ، وبملاحظة أنّ تعبير (غشيهم) يناسب معنى السحاب أكثر ، فيبدو أنّ هذا التّفسير هو الأقرب.

أي إنّ أمواج البحر العظيمة تهيج فتحيط بهم كأنّ سحابا قد أظلّهم بظلّ مرعب مهول.

هنا يجد الإنسان نفسه ضعيفا وعاجزا رغم كلّ تلك القوى والإمكانيات الظاهرية التي أعدّها لنفسه ، ويجد يده قاصرة عن كلّ شيء ومكان ، وتقف كلّ الوسائل العادية والماديّة عن العمل ، ولا يبقى له أي بصيص أمل إلّا النور الذي

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، والقرطبي ، والفخر الرازي ، والصافي.

٧٢

يشعّ من أعماق روحه وفطرته ، فيزيح عن قلبه حجب الغفلة ، ويقول له : هل يوجد أحد يستطيع إنقاذك؟

نعم ، إنّه الذي تطيع أوامره أمواج البحر أنّه خالق الماء والهواء والتراب.

هنا يحيط التوحيد الخالص بكلّ قلبه ويغمره ، ويعتقد بأنّ الدين والعبادة مختصّة به سبحانه.

ثمّ تضيف الآية إنّ الله سبحانه لمّا نجّاهم من الهلكة انقسم الناس قسمين :( فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) (١) . وهؤلاء وفوا بعهدهم ولم ينقضوه ، ولم ينسوا منّة الله عليهم في تلك اللحظات الحسّاسة.

أمّا القسم الثّاني فإنّهم نسوا كلّ ذلك ، واستولى جيش الشرك والكفر على معسكر قلوبهم.

واعتبر بعض المفسّرين الآية أعلاه إشارة إلى إسلام «عكرمة بن أبي جهل» ، إذ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عفا عن جميع الناس عند فتح مكّة غير أربعة نفر أحدهم عكرمة بن أبي جهل ، إذ أهدر دمهم ، وأمر بقتلهم حيثما وجدوا ، لأنّهم لم يتركوا أيّ سيّئة أو جريمة ضدّ الإسلام والمسلمين إلّا عملوها ، ولذلك اضطرّ عكرمة إلى الفرار من مكّة ، فتوجّه إلى البحر الأحمر وركب السفينة ، فأخذت بأطرافه ريح عاصف ، فقال بعض أهل السفينة لبعضهم الآخر : تعالوا نترك الأصنام ونتضرّع إلى الله وحده ونسأله لطفه ، فإنّ آلهتنا هذه لا تنفع شيئا!

فقال عكرمة : إذا لم ينقذنا غير توحيدنا في البحر ، فلن ينقذنا في البرّ سواه أيضا ، اللهمّ إنّ أعطيك عهدا ـ إذا نجّيتني من هذه المحنة ـ لآتينّ محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبايعه ، فإنّي أعلم أنّه كريم عفوّ.

وأخيرا نجا ، وأتى إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

__________________

(١) «مقتصد» من مادّة قصد ، بمعنى الاعتدال في العمل ، والوفاء بالعهد.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث ، ووردت هذه الحادثة في (اسد الغابة في معرفة الصحابة) ج ٤ ، صفحة ٥ بتفاوت

٧٣

وقد ورد في التواريخ الإسلامية أنّ عكرمة قد أصبح في صفّ المسلمين الحقيقيين ، واستشهد في معركة اليوموك أو أجنادين.

وتضيف الآية في النهاية( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) .

(ختّار) من الختر ، بمعنى نقض العهد ، وهذه الكلمة صيغة مبالغة ، لأنّ المشركين والعاصين يتوجّهون إلى الله مرارا ، ويقطعون على أنفسهم العهود ، وينذرون النذور ، إلّا أنّهم بمجرّد أن يهدأ طوفان الحوادث ينقضون عهودهم بصورة متلاحقة ، ويكفرون بنعم الله عليهم.

إنّ تعبير «ختّار» و «كفور» الذي ورد في نهاية هذه الآية ، هو في الحقيقة مقابل تعبير «صبّار» و «شكور» الذي ورد في نهاية الآية السابقة ـ فالكفران في مقابل الشكر ، ونقض العهد في مقابل الصبر والثبات على العهد ـ لأنّ الوفاء بالعهد لا يتمّ إلّا من قبل الثابتين الصامدين أولئك الذين إذا توهّج الإيمان الفطري في أعماق أرواحهم فلا يدعون هذا النور الإلهي ينطفئ مرّة اخرى وتتكاثف عليه الحجب.

* * *

__________________

يسير.

٧٤

الآيتان

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤) )

التّفسير

سعة علم الله :

في هاتين الآيتين اللتين هما آخر آيات سورة لقمان ، تلخيص للمواعظ والنصائح السابقة ولأدلّة التوحيد والمعاد ، وتوجيه الناس إلى الله واليوم الآخر وتحذير من الغرور الناشئ من الدنيا والشيطان ، ثمّ الحديث عن سعة علم الله سبحانه وشموله لكلّ شيء ، فتقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ) .

٧٥

إنّ الدستور الأوّل هو التوجّه إلى المعاد ، فالدستور الأوّل يحيي في الإنسان قوّة المراقبة ، والثّاني ينمّي روح الثواب والعقاب ، ولا شكّ أنّ الإنسان الذي يعلم أنّ شخصا خبيرا ومطّلعا على كلّ أعماله يراه ويعلم به ويسجّل كلّ أعماله ، ومن ناحية اخرى يعلم أنّ محكمة عادلة ستتشكّل للتحقيق في كلّ جزئيات أعماله ، لا يمكن أن يتلوّث بأدنى فساد ومعصية.

جملة( لا يَجْزِي ) من مادّة الجزاء ، و «الجزاء ، و «الجزاء» ورد بمعنيين من الناحية اللغوية :

أحدهما : المكافأة والمعاقبة مقابل شيء ، كما يقال : جزّاه الله خيرا.

والآخر : الكفاية والنيابة والتحمّل للشيء عن الآخرين ، كما جاء في الآية مورد البحث :( لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ) .

ومن الممكن أن يعود كلا المعنيين إلى أصل واحد ، لأنّ الثواب والعقاب يحلّان محلّ العمل وينوبان عنه ، وهما بمقداره أيضا ـ تأمّلوا ذلك ـ.

على كلّ حال ، فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه ، ومبتلى بمعطيات أعماله وآثارها إلى درجة أنّه لا ينظر إلى أحد ولا يهتمّ به ، حتّى وإن كان أبوه ، أو ابنه الذي كانت تربطه به أقرب الروابط ، فلا يفكّر أحد بآخر مطلقا.

وهذه الآية نظير ما ورد في بداية سورة الحجّ في الحديث حول القيامة والزلزلة :( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) .

وممّا يستحقّ الانتباه أنّه يعبّر بـ( لا يَجْزِي ) في مورد الأب ، وهي صيغة المضارع ، أمّا في شأن الابن فإنّه يعبّر باسم الفاعل (جاز) وهذا التفاوت في التعبير لعلّه من باب التنوّع في الكلام ، أو إشارة إلى واجب ومسئولية الابن تجاه الأب ، لأنّ اسم الفاعل يؤدّي معنى الدوام والتكرار أكثر.

وبتعبير آخر ، فإنّ المتوقّع من العواطف الأبوية أن يتحمّل الأب مقدارا من العذاب عن ابنه ، كما كان في الدنيا يتحمّل المصاعب والمشاكل في سبيله ، لكن من

٧٦

الابن أن يتحمّل مصائب الأب أكثر وفاء لحقوق الابوّة المترتّبة عليه ، في حين أن أيّا منهما لا يتحمّل أدنى مشكلة عن الآخر ، وكلّ منهما مشغول بأعماله ، وحائر في أمره ونفسه.

وتحذّر الآية في النهاية البشر من شيئين ، فتقول :( إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) أي الشيطان.

في الواقع ، يلاحظ هنا نهيان في مقابل الأمرين اللذين كانا في بداية الآية ، فإنّ الإنسان إذا نمت فيه مسألة التوجّه إلى الله ، والخوف من الحساب والجزاء ، فلا يخاف عليه من الانحراف والفساد ، إلّا من طريقين :

أحدهما : أن تغلب زخارف الدنيا وزبرجها الحقائق في عينيه بصور اخرى ، وتسلب منه القدرة على التشخيص ، لأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ الخطايا وأساسها.

والآخر : أن تخدعه وساوس الشيطان وتغرّه ، وتبعده عن المبدأ والمعاد.

فإذا أغلق طريقي نفوذ المعصية والذنب هذين ، فسوف لا يهدّده أيّ خطر ، وعلى هذا فإنّ الدساتير والبنود الأربعة أعلاه تمثّل مجموعة كاملة من برنامج نجاة وخلاص الإنسان.

وفي آخر آية من هذه السورة ، وبمناسبة البحث الذي جاء في الآية السابقة حول يوم القيامة ، يدور الكلام عن العلوم المختّصة بالله سبحانه ، فتقول :( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ) ومطّلع على جميع جزئياته وتفاصيله

( وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) .

فكأنّ مجموع هذه الآية جواب عن سؤال يطرح في باب القيامة ، وهو نفس السؤال الذي سأل المشركون به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مرارا وتكرارا ، وقالوا :( مَتى هُوَ ) ؟(١) ، فيجيبهم القرآن عن سؤالهم ، ويقول : لا يعلم أحد بموعد قيام القيامة إلّا الله

__________________

(١) الإسراء ، ٥١.

٧٧

سبحانه ، وطبقا لصريح آيات اخرى ، فإنّ الله أخفى هذا العلم عن الجميع :( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها ) (١) ، وذلك كي لا يحيط الغرور والغفلة بأطراف البشر.

ثمّ تقول الآية : إنّ مسألة القيامة ليست هي المسألة الوحيدة الخافية عليكم ، ففي حياتكم اليومية ، ومن بين أقرب المسائل المرتبطة بحياتكم ومماتكم ، مسائل كثيرة تجهلونها

أنتم لا تعلمون زمان نزول قطرات المطر ، والتي ترتبط بها حياة كلّ الكائنات الحيّة ، وإنّما تتوقّعونها على أساس الحدس والظنّ والتخمين.

وكذلك زمان تكوّنكم في بطون الامّهات وخصائص الجنين فلا علم لأحد منكم بذلك.

ومستقبلكم القريب ، أي حوادث الغد ، وكذلك مكان موتكم وتوديعكم للحياة ، خاف على الجميع.

فإذا كنتم جاهلين بهذه المسائل القريبة من حياتكم والمتّصلة بها ، فلا مجال للعجب من عدم علمكم بلحظة قيام القيامة(٢) .

ونقل في الدرّ المنثور : أنّ رجلا يقال له «الوراث» ، من بني «مازن بن حفصة» ، جاء إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا محمّد ، متى تقوم الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فما ذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية(٣) .

* * *

__________________

(١) سورة طه ، ١٥.

(٢) صحيح أنّ جملة (ينزل الغيث) في الآيات أعلاه لا تتحدّث عن مسألة علم الله ـ ولهذا السبب فإنّ البعض اعتبر هذه الجملة استثناء من بين هذه الجمل ، وجعلها مبيّنة لقدرة الله لا علمه ، إلّا أنّ انسجام الجمل الخمس مع بعضها من جهة ، والروايات المتعدّدة التي وردت في نهج البلاغة وكتب اخرى ـ وسنشير إليها قريبا ـ من جهة اخرى ، قرينة على أنّها ترتبط بعلم الله أيضا.

(٣) تفسير الدرّ المنثور ، طبقا لنقل تفسير الميزان ، الجزء ، ١٦ صفحة ٢٤١.

٧٨

بحوث

١ ـ أنواع الغرور والخدع!

إنّ الآيات أعلاه تحذّر من الانخداع والاغترار بزخارف الحياة الدنيا وبهارجها ، ثمّ تتحدّث عن خدع الشيطان ومكائده ، وتعلن عن خطورته ، لأنّ الناس عدّة أقسام :

فبعضهم ضعيف وعاجز إلى الحدّ الذي يكفي لخداعه والتغرير به مجرّد رؤية زخارف الدنيا.

أمّا القسم الذي يمتلك مقاومة أكثر ، فلا بدّ أن تزداد الوساوس الشيطانية لازدياد مقاومتهم ، ويتّحد لإضلالهم وخداعهم الشيطان الداخلي والخارجي. وتعبيرات الآية أعلاه تحذير لأفراد كلا الفئتين.

وممّا يجدر ذكره أنّ (الغرور) على وزن «جسور» يعني كلّ موجود خدّاع ، وإنّما فسّروها بالشيطان لأنّه مصداقها الواضح في الحقيقة ، وإلّا فإنّ كلّ إنسان خدّاع ، وكلّ كتاب مضلّ ، وأيّ مقام ومنصب يوسوس ، وكلّ موجود يخدع الإنسان ويضلّه فإنّه يدخل في المفهوم الواسع لهذه الكلمة ، اللهمّ إلّا أن نعطي للشيطان من سعة المعنى بحيث يشمل كلّ المعاني المتقدّمة ، ولهذا فإنّ الراغب في مفرداته يقول : فالغرور كلّ ما يغرّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان ، وقد فسّر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين.

وقد فسّرها البعض بالدنيا لخداعها وغرورها ، كما نقرأ في نهج البلاغة : «تغرّ وتضرّ وتمرّ»(١) .

٢ ـ خداع الدنيا

لا شكّ أنّ كثيرا من مظاهر الحياة الدنيا غارّة ومضلّة ، وقد تشغل الإنسان بها

__________________

(١) وردت جملة (تغرّ وتضرّ وتمرّ) في شأن الدنيا في نهج البلاغة في باب الحكم القصار لأمير المؤمنينعليه‌السلام : ٤١٥.

٧٩

أحيانا حتّى يغفل عن كلّ شيء ، ولا يشتغل إلّا بها ، ولذلك نقرأ في بعض الروايات عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما سأله بعضهم : أيّ الناس أثبت رأيا؟ قال : «من لم يغرّه الناس من نفسه ، ولم تغرّه الدنيا بتشويقها»(١) .

ولكن ، ومع هذه الحال ، فإنّ في طيّات مشاهد هذه الدنيا الخدّاعة المختلفة ، مشاهد وحوادث ناطقة معبّرة عن زوال هذا العالم ، وكون زخارفه وزبارجه جوفاء خالية بأبلغ تعبير وأوضحه ، تلك الحوادث تستطيع أن توقظ كلّ إنسان عاقل ، بل وتجعل الأغبياء عاقلين حكماء.

ففي حديث : أنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام سمع رجلا يذمّ الدنيا وكان يعدّها خدّاعة ، فقالعليه‌السلام : «أيّها الذامّ للدنيا المغترّ بغرورها ، المخدوع بأباطيلها ، أتغترّ بالدنيا ثمّ تذمّها؟

أنت المتجرّم عليها ، أم هي المتجرّمة عليك؟

متى استهوتك؟ أم متى غرّتك؟ أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع امّهاتك تحت الثرى ...؟!

إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها ، مسجد أحبّاء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله ...»(٢) .

٣ ـ هذه العلوم الخمسة مختصّة بالله

إنّ أسلوب الآية أعلاه يحكي أنّ العلم بالقيامة ، ونزول المطر ، ووضعيّة الجنين في رحم الامّ ، والأمور التي سيقوم بها الإنسان في المستقبل ، ومحلّ موته منحصر بالله ، ولا سبيل للآخرين إلى العلم بذلك ، إضافة إلى هذا فإنّ الرّوايات الواردة في

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ، وفقا لنقل نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢١٧.

(٢) نهج البلاغة ، الحكم القصار ، جملة ١٣١.

٨٠