الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 172183 / تحميل: 6317
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ملاحظتان

١ ـ ما هو المقصود من «ذات الصدور»؟

ورد هذا اللفظ بتفاوت يسير في أكثر من عشرة آيات من القرآن الكريم( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

لفظة «ذات» التي مذكّرها «ذو» في الأصل بمعنى «الصاحب» مع أنّها وردت لدى الفلاسفة بمعنى «العين والحقيقة وجوهر الأشياء» ، ولكن على ما قاله (الراغب) في مفرداته فإنّ هذا الاصطلاح لا وجود له في كلام العرب.

وبناء على ذلك فإنّ المقصود من جملة( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) أنّ الله يعلم صاحب ومالك القلوب ، وهي كناية لطيفة عن عقائد ونوايا الناس ، إذ أنّ الإعتقادات والنوايا عند ما تستقر في القلب تكون كأنّها مالك القلب ، والحاكم فيه ، ولهذا السبب تعدّ تلك العقائد والنوايا صاحبا ومالكا للقلب الإنساني.

وذلك تماما ما صاغه بعض كبار العلماء استفادة من هذا المعنى فقالوا : الإنسان آراؤه وأفكاره ، لا صورته وأعضاؤه»(١) .

٢ ـ لا سبيل للرجوع!

من المسلّم به أنّ القيامة والحياة بعد الموت مرحلة تكاملية نسبة إلى الدنيا ، وأنّ الرجوع إلى هذه الدنيا ليس معقولا ، فهل يمكننا العودة إلى الأمس؟ هل يمكن للوليد أن يعود إلى طي الأدوار الجنينية من جديد؟ وهل يمكن للثمرة التي قطفت من غصنها أن تعاد إليه مرّة ثانية؟ لهذا السبب فإنّ العودة إلى الدنيا غير ممكنة لأهل الآخرة.

وعلى فرض إمكانية تلك العودة فإنّ هذا الإنسان الكثير النسيان سوف لن يقوم بغير إدامة أعماله السابقة!

__________________

(١) المرحوم كاشف الغطاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها.

١٠١

ولا نذهب بعيدا ، فنحن مرّات عديدة وفي شرائط بعض الضائقات الحياتية ، نتّخذ قرارا مخلصا بيننا وبين الله على القيام بعمل ما أو ترك عمل ما ، ولكن بمجرّد تغيير تلك الشرائط يتغيّر قولنا وننسى قراراتنا ، إلّا إذا تحقّق لشخص ما تحوّل جدّي حقيقي ، لا تحوّل مشروط بتلك متعدّدة الشرائط التي بتغيّرها يعود إلى سابق حاله.

هذه الحقيقة وردت في آيات متعدّدة من القرآن المجيد ، من جملتها ما ورد في الآية (٢٨) من سورة الأنعام التي أشرنا إليها قبل قليل ، حيث تكذّب هؤلاء وتردّهم.

ولكن الآية (٥٣) من سورة الأعراف تكتفي فقط بأنّ هؤلاء الأفراد خاسرون ، ولكن لم تردّ بصراحة على طلبهم للعودة :( فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

نفس هذا المعنى ورد بشكل آخر في الآيات (١٠٧) و (١٠٨) من سورة المؤمنون :( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ) .

على كلّ حال ، فتلك مطالب غير ذات جدوى ، وأماني عديمة التحقّق ، ويحتمل أنّهم هم أيضا يعلمون ذلك ، ولكنّهم لشدّة العذاب وانسداد جميع المنافذ أمامهم يكرّرون هذه المطالب.

* * *

١٠٢

الآيات

( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) )

التّفسير

السماوات والأرض بيد القدرة الإلهية :

تنتقل الآيات إلى مرحلة اخرى من تشخيص عوامل ضعف وبطلان مناهج الكفّار والمشركين في التعامل أو التفكير لتكمل البحوث التي مرّت في الآيات السابقة ، فتقول أوّلا :( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ) .

١٠٣

«خلائف» هنا سواء كانت بمعنى خلفاء وممثّلي الله في الأرض ، أم بمعنى خلفاء الأقوام السابقين (وإن كان المعنى الثاني هنا أقرب على ما يبدو) فهي دليل على منتهى اللطف الإلهي على البشر حيث أنّه قيّض لهم جميع إمكانات الحياة.

أعطاهم العقل والشعور والإدراك ، أعطاهم أنواع الطاقات الجسدية ، ملأ للإنسان صفحة الأرض بمختلف أنواع النعم والبركات ، وعلّمه طريقة الاستفادة من تلك الإمكانات ، فكيف نسي الإنسان والحال هذه ولي نعمته الأصلي ، وراح يعبد آلهة خرافية ومصنوعة؟!

هذه الجملة في الحقيقة بيان لـ «توحيد الربوبية» الذي هو دليل على «توحيد العبادة». وهذه الجملة أيضا تنبيه للبشر جميعا ليعلموا بأن مكثهم ليس أبديّا ولا خالدا ، فكما أنّهم خلائف لأقوام آخرين ، فما هي إلّا مدّة حتّى ينتهي دورهم ويكون غيرهم خلائف لهم ، لذا فإنّ عليهم أن يتأمّلوا ويفكّروا ماذا يعملون خلال هذه المدّة القصيرة ، وكيف سيذكرهم التأريخ في هذا العالم؟

لذا تردف الآية قائلة :( فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً ) .

الجملتان الأخيرتان في الواقع تفسير الجملة( فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) فهما تقيمان دليلين على رجوع الكفر على صاحبه كالآتي :

الأوّل : إنّ هذا الكفر يؤدّي إلى غضب الله الذي أعطى كلّ هذه المواهب.

والثاني : أنّه علاوة على هذا الغضب الإلهي فإنّ هذا الكفر سوف لن يزيد الظالمين إلّا خسارة وضررا بإتلافهم رأس مالهم المتمثّل بأعمارهم ووجودهم ، وشرائهم للشقاء والانحطاط والظلمة ، وأي خسارة أكثر من هذه.

وكلّ واحد من هذين الدليلين كاف لشجب وإبطال ذلك المنهج الباطل في التعامل مع الحياة.

تكرار( لا يَزِيدُ ) بصيغة المضارع ، إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الإنسان

١٠٤

الميّال بالطبع إلى البحث عن الزيادة ، إذا سار في طريق التوحيد فسيزداد سعادة وكمالا ، وإذا سلك طريق الكفر فسوف يتعرّض لمزيد من غضب الباريعزوجل ويكون نصيبه الضرر والخسارة.

من الجدير بالذكر أيضا أنّ الغضب الإلهي ليس بمعنى الغضب الذي يحصل للإنسان ، لأنّ هذا الغضب في الإنسان عبارة عن نوع من الهيجان والانفعال الداخلي الذي يكون سببا في صدور أفعال قويّة وحادّة وخشنة ، وفي تعبئة كافّة طاقات الإنسان للدفاع أو الانتقام ، وأمّا بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى فليس لأيّ من هذه الآثار التي هي من خواص الموجودات المتغيّرة والممكنة أثر في غضبه ، فغضبه بمعنى رفع الرحمة ومنع اللطف الإلهي من شمول أولئك الذين ارتكبوا السيّئات.

الآية التالية ترد على المشركين بجواب قاطع حازم ، وتذكّرهم بأنّ الإنسان إذا اتّبع أمرا أو تعلّق بأمر ، فيجب أن يكون هناك دليل عقلي على هذا الأمر ، أو دليل نقلي ثابت ، وأنتم أيّها الكفّار حيث لا تملكون أيّا من الدليلين فليس لديكم سوى المكر والغرور.

تقول الآية الكريمة :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) (١) فهل خلقوا شيئا في الأرض. أم شاركوا الله في خلق السماوات؟!

ومع هذا الحال فما هو سبب عبادتكم لها ، لأنّ كون الشيء معبودا فرع كونه خالقا ، فما دمتم تعلمون أنّ خالق السماوات والأرض هو الله تعالى وحده ، فلن يكون هناك معبود غيره ، لأنّ توحيد الخالقية دليل على توحيد العبودية.

والآن بعد أن ثبت أنّكم لا تملكون دليلا عقليا على ادّعائكم ، فهل لديكم دليل

__________________

(١) جملة «أرأيتم» بمعنى : ألا ترون؟ أو : ألا تفكّرون؟ ولكن بعض المفسّرين يقولون بأنّها بمعنى «أخبروني». وقد أوردنا بحثا مطوّلا بهذا الخصوص في تفسير آية (٤٠) من سورة الأنعام.

١٠٥

نقلي؟( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) .

كلّا ، فليس لديهم أي دليل أو بيّنة أو برهان واضح من الكتب الإلهية ، إذا فليس لديهم سوى المكر والخديعة( بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً ) .

وبتعبير آخر ، إذا كان لعبدة الأوثان وسائر المشركين من كلّ مجموعة وكلّ صنف ادّعاء بقدرة الأصنام على تلبية مطالبهم ، فعليهم أن يعرضوا نموذجا لخلقهم من الأرض ، وإذا كانوا يعتقدون أنّ تلك الأصنام مظهر الملائكة والمقدّسين في السماء ـ كما يدّعي البعض ـ فيجب أن يقيموا الدليل على أنّهم شركاء في خلق السماوات وان كانوا يعتقدون بأنّ هؤلاء الشركاء ليس لهم نصيب في الخلقة ، بل لهم مقام الشفاعة ـ كما يدّعي البعض ـ فيجب أن يأتوا بدليل على إثبات ذلك الادّعاء من الكتب السماوية.

والحال أنّهم لا يملكون أيّا من هذه البيّنات ، فهم مخادعون ظالمون ليس لهم سوى المكر وخديعة بعضهم البعض.

الجدير بالملاحظة أيضا هو المقصود بـ «الأرض والسموات» هنا هو مجموعة المخلوقات الأرضية والسماوية ، والتعبير بـ( ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ) و( شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) إشارة إلى أنّ المشاركة في السماوات إنّما يجب أن تكون عن طريق الخلق.

وتنكير «كتابا» ، مع استناده إلى الله سبحانه ، إشارة إلى أنّه ليس هنا أدنى دليل على ادّعائهم في أي من الكتب السماوية.

«بيّنة» إشارة إلى دليل واضح من تلك الكتب السماوية.

«ظالمون» تأكيد مرّة اخرى على أنّ «الشرك» «ظلم» واضح.

«غرور» إشارة إلى أنّ عبدة الأوثان أخذوا هذه الخرافات بعضهم من بعض ، وتلافقوها إمّا على شكل شائعات ، أو تقاليد من بعضهم الآخر.

وتنتقل الآية التي بعدها إلى الحديث عن حاكمية الله سبحانه وتعالى على

١٠٦

مجموعة السماوات والأرض ، وفي الحقيقة فإنّها تنتقل إلى إثبات توحيد الخالقية والربوبية بعد نفي شركة أي من المعبودات الوهمية في عالم الوجود فتقول :( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (١) .

فليس بدء الخلق ـ فقط ـ مرتبطا بالله ، فإنّ حفظ وتدبير الخلق مرتبط بقدرته أيضا ، بل إنّ الخلق له في كلّ لحظة خلق جديد ، وفيض الوجود يغمر الخلق لحظة بعد اخرى من مبدأ الفيض. ولو قطعت الرابطة بين الخلق وبين ذلك المبدأ العظيم الفيّاض ، فليس إلّا العدم والفناء.

صحيح أنّ الآية تؤكّد على مسألة حفظ نظام الوجود الموزون ، ولكن ـ كما ثبت من الأبحاث الفلسفيّة ـ فإنّ الممكنات محتاجة في بقائها إلى موجدها كاحتياجها إليه في بدء إيجادها ، وبذلك فإنّ حفظ النظام ليس سوى إدامة الخلق الجديد والفيض الإلهي.

الملفت للنظر أنّ الأجرام والكرات السماوية ، مع كونها غير مقيّدة بشيء آخر ، إلّا أنّها لم تبرح أماكنها أو مداراتها التي حدّدت لها منذ ملايين السنين ، دون أن تنحرف عن ذلك قيد أنملة ، كما نلاحظ ذلك في المجموعة الشمسية ، فالأرض التي نعيش عليها تواصل دورانها حول الشمس منذ ملايين بل مليارات السنين في مسيرها المحدّد والمحسوب بدقّة والذي يتحقّق من التوازن بين القوى الدافعة والجاذبة ، كما أنّها تدور في نفس الوقت حول نفسها ، ذلك بأمر الله.

وللتأكيد تضيف الآية قائلة :( وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) .

فلا الأصنام التي صنعتموها ولا الملائكة ، ولا غير ذلك ، لا أحد غير الله قادر على ذلك.

وفي ختام الآية ـ لكي يبقى طريق الأوبة والإنابة أمام المشركين الضالّين مفتوحا يقول تعالى محبّذا لهم التوبة في كلّ مرحلة من الطريق( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً

__________________

(١) جملة «أن تزولا» تقديرها «لئلا تزولا» أو «كراهة أن تزولا».

١٠٧

غَفُوراً ) .

فبمقتضى (حلمه) لا يتعجّل عقابهم ، وبمقتضى (غفرانه) يتقبّل توبتهم ـ بشرائطها ـ في أي مرحلة من مراحل مسيرهم ، وعليه فإنّ ذيل الآية يشير إلى وضع المشركين وشمول الرحمة الإلهية لهم في حال توبتهم وإنابتهم.

اعتبر بعض المفسّرين أنّ هذين الوصفين ذكرا لارتباطهما بموضوع حفظ السموات والأرض ، إذ أنّ زوالهما مصيبة عظيمة ، وبمقتضى حلم الله وغفرانه فإنّه لا يشمل الناس بمثل ذلك العذاب وتلك المصيبة ، وإن كانت أقوال وأعمال الكثير من هؤلاء الكفّار موجبة لإنزال ذلك العذاب ، كما ورد في الآيات ٨٨ إلى ٩٠ من سورة مريم( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ) .

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ جملة( وَلَئِنْ زالَتا ) ليست بمعنى أنّه «إذا زالت فليس أحد غير الله يحفظها» ، بل بمعنى «أنّها إذا شارفت على السقوط والزوال فإنّ الله وحده يستطيع حفظها ، وإلّا فلا معنى للحفظ بعد الزوال».

وقد حدث ـ على طول التاريخ البشري ـ مرارا أنّ علماء الفلك توقّعوا أنّ «النجم الفلاني» المذنّب أو غير المذنّب سيمرّ بمحاذاة الكرة الأرضية ويحتمل أن يصطدم بها ، هذه التوقّعات تدفع جميع الناس إلى القلق ، وفي هذه الشرائط يحسّ الجميع بأنّه في مثل حادث كهذا ، ليس في إمكان أحد أن يؤثّر شيئا ، بحيث لو انطلقت إحدى الكرات السماوية باتّجاه الكرة الأرضية واصطدمتا فيما بينهما بتأثير الجاذبية فلن يبقى للتمدّن البشري أثر ، وحتّى الموجودات الاخرى سوف لن يبقى لها أثر على سطح الأرض ، ولن تستطيع أيّة قدرة عدا قدرة الله منع مثل هذه الكارثة من الوقوع.

في مثل تلك الحالات يحسّ الجميع بالحاجة الماسّة والمطلقة إلى الله سبحانه وتعالى ، ولكن بمجرّد أن تزول احتمالات الخطر ، يلقي النسيان بظلاله على

١٠٨

الإنسان.

هذه الكارثة لا تقع فقط من مجرّد اصطدام السيارات مع بعضها ، بل إنّ أيّ انحراف بسيط لأيّ من السيارات ـ كالأرض مثلا ـ عن مسارها يؤدّي إلى وقوع فاجعة عظيمة.

* * *

ملاحظة

الصغير والكبير سيّان أمام قدرة الله!

الملفت للنظر أنّ الآيات أعلاه ذكرت أنّ السماوات تستند إلى قدرة الله في ثباتها وبقائها ، وفي آيات اخرى من القرآن ورد نفس التعبير فيما يخصّ حفظ الطيور حال طيرانها في السماء.( أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ففي موضع يشير إلى أنّ خلق السموات الواسعة دليل على وجوده تعالى ، وفي موضع آخر يعتبر خلق حشرة صغيرة كالبعوضة دليلا على ذلك.

حينا يقسم بالشمس لأنّها منبع عظيم للطاقة في عالم الوجود ، وحينا يقسم بفاكهة مألوفة كالتين.

كلّ ذلك إشارة إلى أنّه لا فرق بين كبير وصغير أمام قدرة الله.

أمير المؤمنين عليه أفضل الصلوات والسلام يقول : «وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء».

إنّ هذه الأشياء جميعها تشير إلى شيء واحد ، وهو أنّ وجود الله سبحانه وتعالى ، وجود لا متناه من جميع الجهات ، والتدقيق في مفهوم «اللامتناهي» يثبت هذه الحقيقة بشكل تامه ، وهي أنّ مفاهيم مثل «الصعب» و «السهل» و «الصغير» و «الكبير» و «المعقّد» و «البسيط» لها معنى بحدود الموجودات المحدودة ـ فقط ـ

١٠٩

ولكن حينما يكون الحديث عن قدرة الله تعالى المطلقة فإنّ هذه المفاهيم تتغيّر بشكل كلّي وتقف جميعا في صفّ واحد بدون أدنى تفاوت فيما بينها «دقّق النظر!!».

* * *

١١٠

الآيات

( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) )

سبب النّزول

ورد في تفسير «الدرّ المنثور» و «روح المعاني» و «مفاتيح الغيب» وتفاسير اخرى : «بلغ قريشا قبل مبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذّبوهم ، فو الله لئن أتانا رسول

١١١

لنكوننّ أهدى من إحدى الأمم»(١) . فلمّا أشرقت شمس الإسلام من أفق بلادهم ، وجاءهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتاب السماوي ، رفضوا ، بل كذّبوا ، وحاربوا ، ومارسوا أنواع المكر والخديعة.

فنزلت الآيات أعلاه تلومهم وتوبّخهم على ادّعاءاتهم الفارغة.

التّفسير

استكبارهم ومكرهم سبب شقائهم :

تواصل هذه الآيات الحديث عن المشركين ومصيرهم في الدنيا والآخرة.

الآية الاولى تقول :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ) (٢) .

«أيمان» جمع «يمين» بمعنى القسم ، وفي الأصل فإنّ معنى اليمين هو اليد اليمنى ، واليمين في الحلف مستعار منها اعتبارا بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره من المصافحة باليمين عندها.

«جهد» : من «الجهاد» بمعنى السعي والمشقّة ، وبذا يكون معنى( جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) حلفوا واجتهدوا في الحلف على أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.

نعم ، فعند ما طالعوا صفحات التأريخ ، واطّلعوا على عدم وفاء وعدم شكر تلك الأقوام وجناياتهم بالنسبة إلى أنبيائهم وخصوصا اليهود ، تعجّبوا كثيرا وادّعوا لأنفسهم الادّعاءات وتفاخروا على هؤلاء بأن يكون حالهم أفضل منهم.

__________________

(١) أغلب التفاسير.

(٢) لأنّ «إحدى» جاءت بصيغة المفرد ، فمعنى الآية «أنّهم سيكونون أكثر اهتداء من واحدة من الأمم» وقد تكون الإشارة إلى اليهود (لأنّ صيغة المفرد في الجملة المثبتة ليس فيها معنى العموم) يبدو ذلك للوهلة الاولى ، ولكن كما أشار بعض المفسّرين فإنّ قرائن الحال تشير إلى أنّ المقصود من الآية العموم ، لأنّ الحديث في مقام المبالغة والتأكيد ، وتشير إلى ادّعائهم بأنّه في حال بعثة رسول إليهم فانّهم سيكونون أهدى من جميع الأمم السابقة.

١١٢

ولكن بمجرّد أن واجهوا محكّ التجربة ، ودخلوا كورة الامتحان المشتعلة ، وتحقّق طلبهم ببعثة نبيّ منهم ، تبيّن أنّهم من نفس تلك الطينة ، حيث أشار القرآن إلى ذلك بعد تلك الجملة الاولى من الآية بالقول :( فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) .

هذا التعبير يدلّل على أنّهم كانوا قبل بعثة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعلى خلاف ما يدّعون ـ بعيدين عن دين الله سبحانه وتعالى ، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة بينهم ، إلّا أنّهم لم يكونوا يحترمونها ، كذلك لم يكن لديهم أي اعتبار لما كان يمليه العقل من تصرفات. وبقيام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونيله من عقائدهم وأعرافهم وعصبيتهم الجاهلية ، ووقوع مصالحهم غير المشروعة في الخطر ، زادت الفاصلة بينهم وبين الحقّ ، نعم كانوا بعيدين عن الحقّ ، لكنّهم ازدادوا بعدا عن الحقّ بعد بعثة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة ، تقول : إنّ بعدهم عن الحقّ لأنّهم سلكوا طريق الاستكبار في الأرض ، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحقّ( اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ) (١) وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون( وَمَكْرَ السَّيِّئِ ) (٢) .

ولكن( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) .

جملة «لا يحيق» : الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب ، والجملة معناها «لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط» إشارة إلى أنّ الاحتيال قد يؤدّي ـ مؤقتا ـ

__________________

(١) أغلب المفسّرين قالوا بأنّ «استكبارا» هو «مفعول لأجله» من حيث التركيب النحوي وهي بيان لعلّة «النفور» وابتعادهم عن الحقّ ، و «مكر السيء» عطف على «استكبارا» في حين أنّ البعض الآخر قال : إنّها عطف على «نفورا».

(٢) «مكر السيئ» إضافة (للجنس) إلى (النوع) ، كما هو نقول : «علم الفقه» لأنّ (مكر) بمعنى (البحث عن حلّ) سواء كان خيرا أو شرّا ، لذا فإنّ هذه الكلمة تطلق كصفة لله سبحانه( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ) آل عمران ـ ٥٤ ، ولكن «السيء» تحصر المكر في نوع خاصّ منه ، وهو الاحتيال.

١١٣

إلى الإحاطة بالآخرين ، ولكنّه في النهاية يعود على صاحبه ، فهو مفضوح وضعيف وعاجز أمام خلق الله ، وسيندمون حتما أمام الله سبحانه وتعالى ، وذلك هو المصير المشؤوم الذي انتهى إليه مشركو مكّة.

هذه الآية في الحقيقة تريد القول بأنّهم لم يكتفوا فقط بالابتعاد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إنّهم استعانوا بكلّ قدرتهم واستطاعتهم لأجل إنزال ضربة قويّة به وبدعوته ، والسبب في كلّ ذلك لم يكن سوى الكبر والغرور وعدم الرضوخ للحقّ.

ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة ، وبجملة عميقة المعنى وبكلمات تهزّ المشاعر ، يقول تعالى :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ) (١) .

هذه الجملة القصيرة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام السالفة كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم فرعون ، حيث أصاب كلا منهم بلاء عظيم ، والقرآن الكريم أشار مرارا إلى جوانب من مصائر هؤلاء الأقوام المشؤومة والأليمة. وهنا وبتلك الجملة القصيرة جسّد جميع ذلك أمام بصيرة تلك الفئة في مكّة.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة :( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً ) . فكيف يمكن لله سبحانه وتعالى أن يعاقب قوما على أعمال معيّنة ، ثمّ لا يعاقب غيرهم الذين يسلكون نفس سلوكهم؟ أليس هو العدل الحكيم ، وكلّ ما يفعله بناء على حكمة وعدل تاميين؟!

فإنّ تغيير السنن يمكن تصوّره بالنسبة إلى من يمتلك اطّلاعا أو معرفة محدودة ، إذ يزداد معرفة بمرور الزمان يعرض عن سنّة سابقة ، أو يكون الإنسان عالما ، إلّا أنّه لا يتصرّف طبقا للحكمة والعدالة ، بل طبقا لميول خاصّة في نفسه ، ولكن الله سبحانه وتعالى منزّه عن جميع تلك الأمور ، وسنّته حاكمة على من يأتي كما كانت تحكم من مضى ، ولا تقبل التغيير أبدا.

__________________

(١) «نظر» و «انتظار» تأتي أحيانا لتشير إلى نفس المعنى. كما يقول الراغب.

١١٤

وقد أكّد القرآن الكريم في مواضع عديدة على قضيّة ثبات سنن الله وعدم تغيّرها ، وقد فصّلنا الحديث في ذلك في تفسير الآية (٦٢) من سورة الأحزاب ، وبالجملة فإنّ في هذا العالم ـ عالم التكوين التشريع ـ ثمّة قوانين ثابتة لا تتغيّر ، عبّر عنها القرآن الكريم «السنن الإلهيّة» والتي لا سبيل إلى تغيّرها.

هذه القوانين كما أنّها حكمت في الماضي فإنّها حاكمة اليوم وغدا. ومجازات المستكبرين الكفرة الذين لم تنفع بهم الموعظة الإلهية من هذه السنن ، ومنها أيضا نصرة أتباع الحقّ الذين لا ينثنون عن جدّهم وسعيهم المخلص ، هاتان السنّتان كانتا ولا تزالان ثابتتين أمس واليوم وغدا(١) .

الجدير بالملاحظة أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية الحديث عن «عدم تبديل» السنن الإلهيّة ، الأحزاب ـ ٦٢ ، وفي البعض الآخر الحديث عن «عدم تحويل» السنن الإلهيّة ، سورة الإسراء ـ ٧٧ ، ولكن الآية مورد البحث أكّدت على الحالتين معا.

فهل أنّ هاتين الحالتين تعبير عن معنى واحد ، بحيث أنّهما ذكرتا معا للتأكيد ، أم أنّ كلا منهما يشير إلى معنى مستقل؟

بمراجعة أصل اللفظين يتّضح أنّهما إشارة إلى معنيين مختلفين : (تبديل) الشيء ، تعويضه بغيره كاملا ، بحيث يرفع الأوّل ويوضع الثاني ، ولكن (تحويل) الشيء ، هو تغيّر بعض صفات الشيء الأوّل من ناحية كيفية أو كمية مع بقائه.

وعليه فإنّ السنن الإلهية لا تقبل الاستبدال ولا التعويض الكامل ، ولا التغيير النسبي من حيث الشدّة والضعف أو القلّة والزيادة. من جملتها أنّ الله سبحانه وتعالى يوقع عقوبات متشابهة بالنسبة إلى الذنوب والجرائم المتشابهة ومن جميع الجهات ، لا أن يوقع العقاب على مجموعة ولا يوقعه على مجموعة اخرى. ولا أن يوقع عقابا أقلّ شدّة على مجموعة دون اخرى ، وهكذا قانون يستند إلى أصل

__________________

(١) لنا شرحا مفصّل بهذا الخصوص في سورتي الأحزاب والإسراء.

١١٥

ثابت ، لا يقبل التبديل ولا التحويل(١) .

آخر ما نريد التوقّف عنده هو أنّ الآية تضيف «سنّة» إلى لفظ الجلالة «الله» وفي موضع آخر من نفس الآية تضيف «سنّة» إلى «الأوّلين» ويظهر في بادئ الأمر وجود تنافي بين الحالتين ، ولكن الأمر ليس كذلك ، لأنّه في الحالة الاولى أضيفت «سنّة» إلى «الفاعل» ، وفي الحالة الثانية أضيفت «سنّة» إلى «المفعول به».

ففي الحالة الاولى تعبير عن مجري السنّة ، وفي الثانية عمّن أجريت عليه السنّة.

الآية التالية تدعو هؤلاء المشركين والمجرمين إلى مطالعة آثار الماضين والمصير الذي وصلوا إليه ، حتّى يروا بأمّ أعينهم في آثارهم ومواطنهم السابقة جميع ما سمعوه ، وبذا يتحوّل البيان إلى العيان. فتقول الآية الكريمة :( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

فإذا كانوا يتصوّرون أنّهم أشدّ قوّة من أولئك فهم على اشتباه عظيم تلك ، لأنّ الأقوام السالفة كانت أقوى منهم :( وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) .

فالفراعنة الذين حكموا مصر ، ونمرود الذي حكم بابل ودولا اخرى بمنتهى القدرة ، كانوا أقوياء إلى درجة لا يمكن قياسها مع قوّة مشركي مكّة.

إضافة إلى أنّ الإنسان مهما بلغ من القوّة والقدرة ، فإنّ قدرته وقوّته لا شيء إزاء قوّة الله ، لماذا؟ لأنّه( وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) (٢) فهو العليم القدير ، لا يخفى عليه شيء ، ولا يستعصي على قدرته شيء ، ولا يغلبه أحد ، فلو تصوّر هؤلاء المستكبرون الماكرون أنّهم يستطيعون

__________________

(١) جمع من المفسّرين فسّروا «تحويل» هنا بمعنى «نقل مكان العذاب» بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى ينقل عقوبته من شخص لينزلها على شخص آخر. ومع ملاحظة أنّ هذا التّفسير لا ينسجم على ما يبدو مع الآية أعلاه ، فالحديث ليس عن نقل العذاب من شخص إلى آخر ، بل عن عدم قبول السنن للزيادة والنقص أو التغيير والتبديل ، فكأنّ هؤلاء المفسّرين خلطوا بين كلمتي «تحوّل» و «تحويل» ، وقد ورد في بعض متون اللغة كمجمع البحرين «التحويل : تصيير الشيء على خلاف ما كان. والتحوّل : التنقّل من موضع إلى موضع».

(٢) جملة «ليعجزه» كما ذكرنا سابقا من مادّة «عجز» وهي هنا بمعنى : يجعله عاجزا ، لذا ففي كثير من المواضع جاءت بمعنى الفرار من قدرة الله ، أو بمعنى عدم التمكّن من شخص.

١١٦

الفرار من يد قدرته تعالى فهم مشتبهون أشدّ الاشتباه. وإذا لم ينفضوا أيديهم من تلك الأعمال السيّئة ، فسوف يلاقون نفس المصير الذي لقيه من كان قبلهم.

يمرّ بنا مرارا التعرّض لهذا الأمر في القرآن الكريم ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يدعو الكفّار والعاصين إلى «السير في الأرض» ومشاهدة آثار الأقوام الماضين ومصائرهم الأليمة.

ورد في الآية (٩) من سورة الروم( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

وورد شبيه هذا المعنى في سورة يوسف ـ ١٠٩ ، والحجّ ـ ٤٦ ، وغافر ٢١ و ٨٢ ، والأنعام ـ ١١ إلى غير ذلك.

هذا التأكيد المتكرّر دليل على التأثير الخاصّ لتلك المشاهدات في النفس الإنسانية ، فإنّ عليهم أن يروا بأعينهم ما قرءوه في التأريخ أو سمعوه ، ليذهبوا وينظروا عروش الفراعنة المحطّمة. وقصور الأكاسرة المدمّرة ، وقبور القياصرة الموحشة ، وعظام نمرود المتفسّخة ، وأرض قوم لوط وثمود الخالية ، ثمّ ليستمعوا إلى نصائحهم الصامتة ، وأنينهم من تحت التراب ، وينظروا بامّ أعينهم ماذا حلّ بهؤلاء.

* * *

١١٧

الآية

( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥) )

التّفسير

لو لا لطف الله ورحمته!

الآية مورد البحث وهي الآية الأخيرة من آيات سورة فاطر ، وبعد تلك البحوث الحادّة والتهديدات الشديدة التي مرّت في الآيات المختلفة للسورة ، تنهي هذه الآية السورة ببيان اللطف والرحمة الإلهيّة بالبشر ، تماما كما ابتدأت السورة بذكر افتتاح الله الرحمة للناس. وعليه فإنّ البدء والختام متّفقان ومنسجمان في توضيح رحمة الله.

زيادة على ذلك ، فإنّ الآية السابقة التي تهدّد المجرمين الكفّار بمصير الأقوام الغابرين ، تطرح كذلك السؤال التالي ، وهو إذا كانت السنّة الإلهية ثابتة على جميع الطغاة والعاصين ، فلما ذا لا يعاقب مشركو مكّة؟! وتجيب على السؤال قائلة :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ) ولا يمنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والتفكّر في

١١٨

مصيرهم وتهذيب أخلاقهم( ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) .

نعم لو أراد الله مؤاخذتهم على ذنوبهم لأنزل عليهم عقوبات متتالية ، صواعق ، وزلازل ، وطوفانات ، فيدمّر المجرمين ولا يبقى أثرا للحياة على هذه الأرض.( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ويعطيهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس.

هذا الحلم والإمهال الإلهي له أبعاد وحسابات خاصّة ، فهو إمهال إلى أن يحلّ أجلهم( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) (١) فانّه تعالى يرى أعمالهم ومطّلع على نيّاتهم.

هنا يطرح سؤالان ، جوابهما يتّضح ممّا ذكرناه أعلاه :

الأوّل : هل أنّ هذا الحكم العام( ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) يشمل حتّى الأنبياء والأولياء والصالحين أيضا؟

الجواب واضح ، لأنّ المعني بأمثال هذا الحكم هم الأغلبية والأكثرية منهم ، والرسل والأئمّة والصلحاء الذين هم أقلّية خارجون عن ذلك الحكم ، والخلاصة أنّ كلّ حكم له استثناءات ، والأنبياء والصالحون مستثنون من هذا الحكم. تماما مثلما نقول : إنّ أهل الدنيا غافلون وحريصون ومغرورون ، والمقصود الأكثرية منهم ، في الآية (٤١) من سورة الروم نقرأ( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) . فبديهي أن الفساد ليس نتيجة لأعمال جميع البشر ، بل هو نتيجة لأعمال أكثريتهم.

وكذلك فإنّ الآية (٣٢) من نفس هذه السورة ، التي قسّمت الناس إلى ثلاث مجموعات «ظالم» و «مقتصد» و «سابق بالخيرات» شاهد آخر على هذا المعنى.

__________________

(١) جملة( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ) جملة شرطية ، وجزاؤها يقع في تقدير جواب الشرط هكذا «فإذا جاء أجلهم يجازى كلّ واحد بما عمل» ، وعليه فإنّ جملة «فإنّ الله» من قبيل «علّة الجزاء» وهي تقوم مقام المعلول المحذوف. ويحتمل كذلك أنّ الجزاء هو( لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) كما ورد في آيات اخرى من القرآن الكريم كالآية ٦١ من سورة النحل ، وعليه فإنّ جملة( فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) إشارة إلى أنّ الله يعرفهم جميعا ، ويعلم أيّا منهم أبلغ أجله لكي يأخذه بقدرته تعالى.

١١٩

وعليه فإنّ الآية أعلاه ليس فيها ما ينافي عصمة الأنبياء إطلاقا.

الثاني : هل أنّ التعبير بـ «دابّة» في الآية أعلاه يشير إلى شمول غير البشر ، أي أنّ تلك الدواب أيضا سوف تتعرّض للفناء نتيجة إيقاع الجزاء على البشر؟!

الجواب على هذا السؤال يتّضح إذا علمنا أنّ أصل فلسفة وجود الدواب هو تسخيرها لمنفعة الإنسان ، فإذا انعدم الإنسان من سطح الكرة الأرضية فليس من داع لوجود تلك الدواب(١) .

وأخيرا نختم هذا البحث بالحديث التالي الوارد عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «سبق العلم ، وجفّ القلم ، ومضى القضاء ، وتمّ القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل ، وبالسعادة من الله لمن آمن واتّقى ، وبالشقاء لمن كذّب وكفر ، وبالولاية من اللهعزوجل للمؤمنين ، وبالبراءة منه للمشركين» ثمّ قال : «إنّ اللهعزوجل يقول : يا ابن آدم ، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبقوّتي وعصمتي وعافيتي أدّيت إليّ فرائضي ، وأنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بذنبك منّي ، الخير منّي إليك واصل بما أوليتك به ، والشرّ منك إليك بما جنيت جزاء ، وبكثير من تسلّطي لك انطويت على طاعتي ، وبسوء ظنّك بي قنطت من رحمتي ، تلي الحمد والحجّة عليك بالبيان ، ولي السبيل عليك بالعصيان ، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان. لم أدع تحذيرك ولم آخذك عند غرّتك ، وهو قولهعزوجل :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) لم اكلّفك فوق طاقتك ، ولم احمّلك من الأمانة إلّا ما قرّرت بها على نفسك ، ورضيت لنفسي منك ما رضيت به لنفسك منّي ، ثمّ قالعزوجل :( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ

__________________

(١) «دابة» من مادة «دب» والدب والدبيب مشي خفيف ، ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر ، ويستعمل في كل حيوان وإن اختصت في التعارف بالخيل. وكذلك تطلق كلمة «الدواب» خاصة على الحيوانات التي تستعمل للركوب.

١٢٠

إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) (١) .

* * *

إلهي ، اجعلنا ممّن ينتفعون من الفرصة قبل فواتها ، فيرجعون إلى وجهك الكريم ، ونوّر ما مضى من أيّامنا بنور حسناتك ورضاك.

إلهي ، إذا لم تشملنا برحمتك فإنّ جهنّم التي أشعلناها بأعمالنا السيّئة ستمتدّ بألسنتها إلينا وتلقي بنا في لهواتها ، وإن لم تضيء قلوبنا بنور غفرانك فإنّ قلوبنا ستصبح مرتعا للشيطان اللعين.

إلهي ، أعذنا من كلّ شرك ، وأسرج مصباح الإيمان والتوحيد الخالص في أعماق قلوبنا وزوّدنا بالتقوى في أقوالنا وأعمالنا ، إنّك مجيب الدعاء.

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٧٠ الحديث ١٢٢.

١٢١
١٢٢

سورة

يس

مكّية

وعدد آياتها ثلاث وثمانون آية

١٢٣
١٢٤

سورة يس

محتوى السورة :

هذه السورة من السور المكّية ، لذا فهي من حيث النظرة الإجمالية لها نفس المحتوى العام للسور المكّية ، فهي تتحدّث عن التوحيد والمعاد والوحي والقرآن والإنذار والبشارة ، ويلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسيّة :

١ ـ تتحدّث السورة أوّلا عن رسالة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم وعن المؤمنين به ، وتستمر بذلك حتّى آخر الآية الحادية عشرة.

٢ ـ قسم آخر من هذه السورة يتحدّث عن رسالة ثلاثة من أنبياء الله ، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد ، وجهادهم المتواصل المرير ضدّ الشرك ، وهذا في الحقيقة نوع من التسلية والمواساة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضيح الطريق أمامه لتبليغ رسالته الكبرى.

٣ ـ قسم آخر منها ، والذي يبدأ من الآية ٣٣ وحتّى الآية ٤٤ ، مملوء بالنكات التوحيدية الملفتة للنظر ، وهو عرض معبّر عن الآيات والدلائل المشيرة إلى عظمة الله في عالم الوجود ، كذلك فإنّ أواخر السورة أيضا تعود إلى نفس هذا البحث التوحيدي والآيات الإلهية.

٤ ـ قسم مهمّ آخر من هذه السورة ، يتحدّث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلّة المختلفة عليه ، وكيفية الحشر والنشر ، والسؤال والجواب في يوم القيامة ، ونهاية الدنيا ، ثمّ الجنّة والنار ، وهذا القسم يتضمّن مطالب مهمّة ودقيقة جدّا.

١٢٥

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محرّكة ومحفّزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهّال ، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

الخلاصة ، أنّ الإنسان يواجه في هذه السورة بمشاهد مختلفة من الخلق والقيامة ، الحياة والموت ، الإنذار والبشارة ، بحيث تشكّل بمجموعها نسخة الشفاء ومجموعة موقظة من الغفلة.

فضيلة سورة «يس» :

سورة يس ـ بشهادة الأحاديث المتعدّدة التي وردت بهذا الخصوص ـ من أهمّ السور القرآنية ، إلى حدّ أنّ الأحاديث لقّبتها بـ «قلب القرآن» ففي حديث عن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ «إنّ لكلّ شيء قلبا ، وقلب القرآن يس»(١) .

وفي حديث عن أبي بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ لكلّ شيء قلبا وقلب القرآن يس ، فمن قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتّى يمسي ، ومن قرأها في ليلة قبل أن ينام وكلّ به ألف ملك يحفظونه من كلّ شيطان رجيم ومن كلّ آفة ...» الحديث(٢) .

كذلك نقرأ عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا «سورة تدعى في التوراة المعمة! قيل : وما المعمة؟ قال : تعم صاحبها خير الدنيا والآخرة» الحديث(٣) .

وهناك روايات اخرى عديدة بهذا الخصوص ، وردت في كتب الفريقين أعرضنا عن ذكرها حذرا من الإطالة.

لذا يجب الإقرار بأنّه ربّما لم تنل سورة من سور القرآن الاخرى كلّ هذه الفضائل الخاصّة بسورة يس.

__________________

(١) مجمع البيان ، مجلّد ٤ ، صفحة ٤١٣.

(٢) مجمع البيان ، مجلّد ٤ ، صفحة ٤١٣.

(٣) المصدر السابق.

١٢٦

وكما أشرنا سابقا فإنّ هذه الفضيلة والثواب لا ينالهما من يكتفي بقراءة الألفاظ ـ فقط ـ مشيحا عن مفاهيم السورة ، بل إنّ عظمة فضيلة هذه السورة إنّما هي لعظمة محتواها

محتوى يوقظ من الغفلة ويضخّ في النفس الإيمان ، ويولد روح المسؤولية ويدعو إلى التقوى ، بحيث أنّ الإنسان إذا تفكّر في هذه الآية وجعل ذلك التفكّر يلقي بظلاله على أعماله ، فإنّه يفوز بخير الدنيا والآخرة.

فمثلا ، الآية (٦٠) من هذه السورة تتحدّث حول عهد الله في التحذير من عبادة الشيطان( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

ومن الواضح أنّه حينما ينشغل الإنسان بهذا العهد الإلهي ـ تماما مثلما ورد في الأحاديث التي ذكرناها ـ سيكون في أمان من أي شيطان رجيم ، ولكن لو قرئت هذه الآية بلا رويّة ، وفي مقام العمل يكون من الأصدقاء المخلصين والأوفياء للشيطان ، فإنّه لن ينال ذلك الفخر الذي ذكرناه ، وهذا يصدق على آيات هذه السورة آية آية.

* * *

١٢٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠))

التّفسير

هذه السورة تبدأ ـ كما هو الحال في ثمان وعشرين سورة اخرى ـ بحروف مقطّعة وهي (ياء) و (سين).

وقد فصّلنا الحديث فيما يخصّ الحروف المقطّعة في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) ، ولكن فيما يخصّ سورة (يس) فتوجد تفسيرات اخرى أيضا لهذه الحروف المقطّعة.

١٢٨

من جملتها أنّ هذه الكلمة (يس) تتكوّن من «ياء» حرف نداء و «سين» أي شخص الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليه فيكون المعنى أنّه خطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتوضيح قضايا لاحقة.

وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ هذه الكلمة تمثّل أحد أسماء الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

ومنها أنّ المخاطب هنا هو الإنسان و «سين» إشارة له ، ولكن هذا الاحتمال لا يحقّق الانسجام بين هذه الآية والآيات اللاحقة ، لأنّ هذه الآيات تتحدّث إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده.

لذا نقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يس اسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدليل على ذلك قوله تعالى :( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) .

بعد هذه الحروف المقطّعة ـ وكما هو الحال في أغلب السور التي تبتدى بالحروف المقطّعة ـ يأتي الحديث عن القرآن المجيد ، فيورد هنا قسما بالقرآن ، إذ يقول :( وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) . الملفت للنظر أنّه وصف «القرآن» هنا بـ «الحكيم» ، في حين أنّ الحكمة عادة صفة للعاقل ، كأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي وعاقل ومرشد ، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر ، ويؤدّي إلى الصراط المستقيم الذي تشير إليه الآيات التالية.

بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأنّ يقسم ، ولكن الأقسام القرآنية تتضمّن ـ دائما ـ فائدتين أساسيتين : الاولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم ، والثانية بيان عظمة الشيء الذي يقسم به الله تعالى ، إذ أنّ القسم لا يكون عادة بأشياء ليست ذات قيمة.

الآية التي بعدها توضّح الأمر الذي من آجله أقسم الله تعالى في مقدّمة السورة

__________________

(١) نور الثقلين ، مجلد ٤ ، صفحة ٣٧٤ و ٣٧٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٥.

١٢٩

الكريمة :( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١) .

بعد ذلك تضيف الآية( تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) (٢) .

التأكيد على «العزيز» كصفة لله سبحانه وتعالى ، لأجل بيان قدرته سبحانه وتعالى في قبال كتاب كبير كهذا ، كتاب يقف معجزة شامخة على مرّ العصور والقرون ، ولن تستطيع أيّة قدرة مهما كانت أن تمحو أثره العظيم من صفحة القلوب.

والتأكيد على «رحيميته» لأجل بيان هذه الحقيقة وهي أنّ رحمته أوجبت أن تقيّض للبشر نعمة عظيمة كهذه.

بعض المفسّرين قالوا بأنّ هاتين الصفتين ذكرتا للإشارة إلى نوعين من ردود الفعل المحتملة من قبل الناس إزاء نزول ذلك الكتاب السماوي وإرسال النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو أنكروا وكذّبوا ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يهدّدهم بعزّته ، ولو دخلوا من باب التسليم والقبول ، فإنّ الله يبشّرهم برحمته الخاصّة.

وعليه فإنّ عزّته ورحمته إحداهما مظهر للإنذار والاخرى للبشارة ، وباقترانهما جعل هذا الكتاب السماوي العظيم في متناول البشرية.

هنا يطرح سؤال : هل يمكن إثبات حقّانية الرّسول أو الكتاب السماوي ، بواسطة قسم أو تأكيد؟

الجواب تستبطنه الآيات المذكورة ، لأنّها من جانب تصف القرآن بالحكيم ، مشيرة إلى أنّ حكمته ليست مخفية عن أحد ، وذلك دليل على حقّانيته.

__________________

(١) اختلف المفسّرون في تركيب جملة( عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) بعضهم قال «إنّها جار ومجرور» متعلّقان بـ «المرسلين» ، بحيث يكون المعنى «رسالتك على صراط مستقيم» وبعضهم قال : «إنّها خبر بعد خبر» والمعنى «إنّك مستقر على صراط مستقيم» ، والبعض الآخر اعتبروها (حال) منصوبة والمعنى «إنّك من المرسلين وحالك على صراط مستقيم» (من الطبيعي أن ليس هناك تفاوت كثير في المعنى).

(٢) «تنزيل» مفعول منصوب لفعل مقدّر والتقدير «نزل تنزيل العزيز الرحيم» ، كذلك فقد وردت احتمالات اخرى لإعراب هذه الجملة.

١٣٠

ومن جانب آخر فإنّ وصف الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه( عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، بمعنى أنّ محتوى دعوته يتّضح من سبيله القويم ، وماضيه أيضا دليل على أنّه لم يسلك في حياته سوى الطريق المستقيم.

وقد أشرنا في البحوث التي أوردناها حول أدلّة حقّانية الرسل ، إلى أنّ أحد أهمّ الطرق لإدراك حقّانية الرسل ، هو التحقّق والاطلاع على محتوى دعواتهم بشكل دقيق ، الأمر الذي يؤكّد دائما أنّها متوافقة ومنسجمة مع الفطرة والعقل والوجدان ، وقابلة للإدراك والتعقّل البشري ، إضافة إلى أنّ تأريخ حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّل على أنّه رجل أمانة وصدق ، وليس رجل كذب وتزوير هذه الأمور قرائن حيّة على كونه رسول الله ، والآيات أعلاه في الحقيقة تشير إلى كلا المطلبين ، وعليه فإنّ القسم والدعوى أعلاه لم يكونا بلا سبب أبدا.

ناهيك عن أنّه من حيث أدب المناظرة ، فإنّه لأجل النفوذ في قلوب المنكرين والمعاندين يجب أن تكون العبارات في طرحها أكثر إحكاما وحسما ومصحوبة بتأكيد أقوى ، كيما تستطيع التأثير في هؤلاء.

يبقى سؤال : وهو لماذا كان المخاطب في هذه الجملة شخص الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس المشركين أو عموم الناس؟

الجواب هو التأكيد على أنّك يا أيّها النّبي على الحقّ وعلى الصراط المستقيم ، سواء استجاب هؤلاء أو لم يستجيبوا ، لذا فإنّ عليك الاجتهاد في تبليغ رسالتك العظيمة ، ولا تعر المخالفين أدنى اهتمام.

الآية التالية تشرح الهدف الأصلي لنزول القرآن كما يلي( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) (١) أي إنّه لم يأت نذير لآبائهم.

__________________

(١) أعطى المفسّرون احتمالات مختلفة حول كون «ما» نافية أو غير ذلك ، أغلبهم قالوا بأنّها «نافية» ، وقد اعتمدنا ذلك نحن في تفسيرنا ، أوّلا : لأنّ جملة «فهم غافلون» دليل على ذلك المعنى ، فعدم وجود المنذر سبب للغفلة.

١٣١

من المسلّم أنّ المقصود بهؤلاء القوم هم المشركون في مكّة ، وإذا قيل أنّه لم تخل امّة من منذر ، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله ، علاوة على أنّه تعالى يقول في الآية (٢٤) من سورة فاطر( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) ؟

فنقول : إنّ المقصود من الآية ـ مورد البحث ـ هو المنذر الظاهر والنّبي العظيم الذي ملأ صيته الآفاق ، وإلّا فإنّ الأرض لم تخل يوما من حجّة لله على عباده ، وإذا نظرنا إلى الفترة من عصر المسيحعليه‌السلام إلى قيام الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجدها لم تخل من الحجّة الإلهية ، بل إنّها فترة من قيام اولي العزم ، يقول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام بهذا الخصوص «إنّ الله بعث محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدّعي نبوّة!»(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم كان تنبيه الناس الغافلين ، وإيقاظ النائمين ، وتذكيرهم بالمخاطر المحيطة بهم ، والذنوب والمعاصي التي ارتكبوها ، والشرك وأنواع المفاسد التي تلوّثوا بها ، نعم فالقرآن أساس العلم واليقظة ، وكتاب تطهير القلب والروح.

ثمّ يتنبّأ القرآن الكريم بما يؤول إليه مصير الكفّار والمشركين فيقول تعالى :( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

احتمل المفسّرون هنا العديد من الاحتمالات في المراد من «القول» هنا.

الظاهر أنّه ذلك الوعيد الإلهي لكل أتباع الشيطان بالعذاب في جهنّم ، فمثله ما ورد في الآية (١٣) من سورة السجدة( وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ

__________________

الآية الثالثة من سورة السجدة ـ أيضا ـ شاهد على ذلك ، حيث يقول سبحانه وتعالى :( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) . وقال بعضهم بأنّ «ما» هنا موصولة ، بحيث يكون معنى الجملة «لتنذر قوما بالذي انذر آباؤهم». وبعض احتملوا أنّ «ما» مصدرية ، وعليه يكون معنى الجملة «لتنذر قوما بنفس الإنذار الذي كان لآبائهم» ، ولكن يبدو أنّ كلا الاحتمالين ضعيف.

(١) نهج البلاغة ، خ ٣٣ و ١٠٤.

١٣٢

الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) . كذلك في الآية (٧١) من سورة الزمر نقرأ( وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

على كلّ حال فإنّ ذلك يخصّ أولئك الذين قطعوا كلّ ارتباط لهم بالله سبحانه وتعالى ، وأغلقوا عليهم منافذ الهداية بأجمعها ، وأوصلوا عنادهم وتكبّرهم وحماقتهم إلى الحدّ الأعلى ، نعم فهم لن يؤمنوا أبدا ، وليس لديهم أي طريق للعودة ، لأنّهم قد دمّروا كلّ الجسور خلفهم.

في الحقيقة فإنّ الإنسان القابل للإصلاح والهداية هو ذلك الّذي لم يلوّث فطرته التوحيدية تماما بأعماله القبيحة وأخلاقه المنحرفة ، وإلّا فإنّ الظلمة المطلقة ستتغلّب على قلبه وتغلق عليه كلّ منافذ الأمل.

فاتّضح أنّ المقصود هم تلك الأكثرية من الرؤوس المشركة الكافرة الّتي لم تؤمن أبدا ، وكذلك كان ، فقد قتلوا في حروبهم ضدّ الإسلام وهم على حال الشرك وعبادة الأوثان ، وما تبقى منهم ظلّ على ضلاله إلى آخر الأمر.

وإلّا فإنّ أكثر مشركي العرب أسلموا بعد فتح مكّة بمفاد قوله تعالى :( يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) .(١)

ويشهد بذلك ما ورد في الآيات التالية التي تتحدّث عن وجود سدّ أمام وخلف هؤلاء وكونهم لا يبصرون. وأنّه لا ينفع معهم الإنذار أو عدمه(٢) .

الآية التي بعدها تواصل وصف تلك الفئة المعاندة ، فتقول :( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) أي مرفوعي الرأس لوجود الغلّ حول الأعناق.

«أغلال» جمع «غل» : من مادّة «غلل» ويعني تدرع الشيء وتوسطه ، ومنه

__________________

(١) سورة النصر ، الآية ٢.

(٢) بناء على ما عرضناه يتضح بأنّ الضمير في «أكثرهم» يعود على قادة القوم وليس على القوم ، وشاهد ذلك الآيات التالية لتلك الآية.

١٣٣

الغلل (على وزن عمل) للماء الجاري بين الشجر. و «الغل» الحلقة حول العنق أو اليدين وتربط بعد ذلك بسلسلة ، وبما أنّ العنق أو اليدين تقع في ما بينها فقد استعملت هذه المفردة في هذا المورد ، وحينا تكون الأغلال في العنق مربوطة بسلسلة مستقلّة عمّا تربط به أغلال الأيدي ، وحينا تكون جميعها مربوطة بسلسلة واحدة فيكون الشخص بذلك تحت ضغط شديد وفي محدودية وعذاب شديدين.

وإذا قيل لحالة العطش الشديد أو الحسرة والغضب «غلة» فإنّ ذلك لنفوذ تلك الحالة في داخل قلب وجسم الإنسان ، وأساسا فإنّ مادّة «غل» ـ على وزن جدّ ـ بمعنى الدخول أو الإدخال ، لذا قيل عن حاصل الكسب أو الزراعة وأمثالها «غلة»(١) .

وقد تكون حلقة «الغل» حول الرقبة عريضة أحيانا بحيث تضغط على الذقن وترفع الرأس إلى الأعلى ، من هنا فإنّ المقيّد يتحمّل عذابا فوق العذاب الذي يتحمّله من ذلك القيد بأنّه لا يستطيع مشاهدة أطرافه.

ويا له من تمثيل رائع حيث شبّه القرآن الكريم حال عبدة الأوثان المشركين بحال هذا الإنسان ، فقد طوّقوا أنفسهم بطوق «التقليد الأعمى» ، وربطوا ذلك بسلسلة «العادات والتقاليد الخرافية» فكانت تلك الأغلال من العرض والاتّساع أنّها أبقت رؤوسهم تنظر إلى الأعلى وحرمتهم بذلك من رؤية الحقائق ، وبذلك فإنّهم أسرى لا يملكون القدرة والفعّالية والحركة ، ولا قدرة الإبصار(٢) .

على أيّة حال فإنّ الآية الذي أعلاه ، تعتبر شرحا لحال تلك الفئة الكافرة في الدنيا وحالهم في عالم الآخرة الذي هو تجسيد لمسائل هذا العالم ، وليس من الغريب استخدام صيغة الماضي في تصوير حال الآخرة هنا ، فإنّ الكثير من الآيات

__________________

(١) مفردات الراغب ، وقطر المحيط ، ومجمع البحرين ، مادّة غل.

(٢) على ما أوردناه أصبح واضحا أنّ الضمير «هي» في جملة( فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ) يعود على «الأغلال» بحيث إنّها رفعت أذقانهم إلى الأعلى ، وجملة «فهم مقمحون» تفريع على ذلك. وما احتمله البعض من أنّ «هي» تعود على «الأيدي» التي لم يرد ذكرها في الآية ، يبدو بعيدا جدّا.

١٣٤

القرآنية الكريمة تتكلّم بصيغة الماضي حينما تتعرّض إلى الحوادث المسلّم بها في المستقبل للدلالة على مضارع متحقّق الوقوع ، وبذلك يمكن أن تكون إشارة إلى كلا المعنيين حالهم في الدنيا وحالهم في الآخرة.

جمع من المفسّرين ذكروا في أسباب نزول هذه الآية والآية التالية لها أنّهما نزلتا في (أبي جهل) أو (رجل من مخزوم) أو قريش ، الذين صمّموا مرارا على قتل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن الله سبحانه وتعالى منعهم من ذلك بطريقة إعجازية فكلّما أرادوا إنزال ضربة بالنّبي عميت عيونهم عن الإبصار أو أنّهم سلبوا القدرة على التحرّك تماما(١) .

ولكن سبب النّزول ذلك لا يمنع من عمومية مفهوم الآية وسعة معناها ، بحيث يشمل جميع أئمّة الكفر والمعاندين ، وفي الضمن فهي تعتبر تأييدا لما قلناه في تفسير( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) في أنّ المقصود بهم هم أئمّة الكفر والنفاق وليس أكثرية المشركين.

الآية التالية تتناول وصفا آخر لحالة تلك المجموعة ، وتمثيلا ناطقا عن عوامل وأسباب عدم تقبّلهم الحقائق فتقول :( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) وحوصروا بين هذين السدّين وأمسوا لا يملكون طريقا لا إلى الأمام ولا إلى الوراء ، آنئذ( فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) .

ويا له من تشبيه رائع!! فهم من جهة كالأسرى في الأغلال والسلاسل ، ومن جهة اخرى فإنّ حلقة الغلّ عريضة بحيث أنّها ترفع رؤوسهم إلى السماء ، وتمنعهم من أن يبصروا شيئا ممّا حولهم ، ومن جهة ثالثة فهم محاصرون بين سدود من أمامهم وخلفهم وممنوعون من سلوك طريقهم إلى الأمام أو إلى الخلف. ومن جهة رابعة( فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) إذ فقدت عيونهم كلّ قدرة على الإبصار.

تأمّلوا مليّا ماذا ينتظر ممّن هو على تلك الحال؟ ما هو مقدار إدراكه للحقائق؟

__________________

(١) تفسير الآلوسي ، المجلّد ٢٢ ، صفحة ١٩٩.

١٣٥

ماذا يمكنه أن يبصر؟ وكيف يمكنه أن ينقل خطاه؟ فكذلك حال المستكبرين المعاندين العمي الصمّ في قبال الحقائق!!

لهذا فإنّه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة( وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) . فمهما كان حديثك نافذا في القلوب ومهما كان أثر الوحي السماوي ، فإنّه لن يؤثّر ما لم يجد الأرضية المناسبة ، فلو سطعت الشمس آلاف السنين على أرض سبخة ، ونزلت عليها مياه الأمطار المباركة ، وهبّت عليها نسائم الربيع على الدوام ، فليس لها أن تنبت سوى الشوك والتبن ، لأنّ قابلية القابل شرط مع فاعلية الفاعل.

* * *

بحوث

١ ـ فقدان وسائل المعرفة

يحتاج الإنسان للتعرّف على العالم الخارجي إلى الاستفادة من وسائل وأدوات تسمّى «وسائل المعرفة».

قسم منها «باطنية» والقسم الآخر «ظاهرية».

العقل والوجدان والفطرة من وسائل المعرفة الباطنية ، والحواس الظاهرية كالأبصار والأسماع وأمثالها وسائل المعرفة الظاهرية.

وقد أعطى الله هذه الوسائل القدرة على الاشتداد شيئا فشيئا إذا استفيد منها على وجه صحيح حتّى تتمكّن من تشخيص الحقائق بصورة أفضل وأدق.

أمّا إذا استغلّت بطريقة خاطئة ، أو لم يتمّ الاستفادة منها أصلا ، فإنّها تضطرب بشكل كلّي وتعكس الحقائق بشكل مقلوب ، تماما كالمرآة الصافية إذا غطّاها غبار غليظ أو أنّها تخرّشت بحيث أضحت لا تعكس الصورة عليها ، أو أنّها تعكس ما لا ينطبق على الواقع.

١٣٦

هذه الأعمال المغلوطة والمواقف المنحرفة هي التي تصادر وسائل المعرفة من الإنسان ، ولهذا السبب فإنّ المقصّر الأصلي هو الإنسان ، وهو الذي جنى على نفسه.

الآيات أعلاه تشبيه معبّر عن هذه المسألة المهمّة والمصيرية ، فهي تشبه المستكبرين والمتعصّبين والأنانيين والمنافقين بالمقيدين بالأغلال والسلاسل من جهة ، سلاسل الكبر والهوس والغرور والتقليد الأعمى الذي وضعوه على أعناقهم وأياديهم. وبأولئك المحاصرين بين سدّين منيعين لا يمكن عبورهما.

ومن جهة اخرى فإنّ أعينهم مغلقة ولا تبصر.

الغلّ والسلاسل وحدها تكفي لمنعهم من الحركة ، والسدّان العظيمان أيضا وحدهما كافيان لمنعهم من الفعّالية ، انعدام البصر وحده أيضا عامل مستقل.

هذان السدّان عاليان ومتقاربان إلى حدّ أنّهما وحدهما كافيان لسلبهم القدرة على الإبصار ، كما أنّهما كافيان لسلبهم قدرة الحركة. وقد كرّرنا القول بأنّ الإنسان تبقى هدايته ممكنة ما لم يصل إلى تلك المرحلة ، أمّا حينما يبلغ تلك المرحلة ، فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام أيضا وقرءوا له جميع الكتب السماوية ، فلن يؤثّر ذلك فيه.

وذلك ما تمّ التأكيد عليه ، سواء في آيات القرآن أو الروايات ، وهو أنّ الإنسان إذا زلّت قدمه أو ارتكب ذنبا فعليه أو يتوب فورا ويتوجّه إلى الله ، وأن يبتعد عن التسويف والتأخير ، والإصرار والتكرار ، ومن أجل أن لا يصل إلى تلك المرحلة عليه أن ينظف صدأ القلب ، ويدمّر السدود والموانع الصغيرة قبل أن تتحوّل إلى سدود كبيرة وعظيمة ، ويحتفظ بمساره وتكامله وينفض الغبار عن عينيه لكي يتمكّن من الإبصار.

١٣٧

٢ ـ السدود من الأمام والخلف

طرح بعض المفسّرين هذا السؤال ، وهو أنّ المانع الأساسي من استمرار الحركة هو السدّ الذي يكون أمام الإنسان ، فما معنى السدّ من الخلف؟

وأجاب بعضهم قائلا : «إنّ الإنسان له هداية فطرية ووجدانية ـ وهداية نظرية استدلالية ـ فكأنّه تعالى يقول :( جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) » أي : حرمناهم من سلوك سبيل الهداية النظرية وجعلنا( مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) أي : منعناهم من العودة إلى الهداية الفطرية(١) .

وقال البعض الآخر : انّ السدّ من بين أيديهم إشارة إلى الموانع التي تمنعهم من الوصول إلى الآخرة وسلوك طريق السعادة الخالدة ، وأمّا السدّ من خلفهم فهو الذي يصدّهم عن تحصيل السعادة الدنيوية(٢) .

كذلك يحتمل التّفسير التالي أيضا ، وهو إنّ السالك إذا انسدّ الطريق الذي قدّامه فقد فاته المقصد ولكنّه يرجع ليبحث عن طريق آخر يوصله إلى المقصد ، فإذا أغلق الطريق من خلفه ومن قدّامه فسوف يكون محروما من الوصول إلى المقصد حتما.

وفي الثنايا يتّضح الجواب أيضا على السؤال التالي : وهو لماذا لم يذكر السدود عن اليمين والشمال؟ ذلك لأنّ الإنسان لا يصل إلى المقصد الذي أمامه بالسير يمينا أو شمالا ، إضافة إلى أنّ السدّ عادة يبنى في مكان يكون طرفاه الأيمن والأيسر مغلقين ، والممر الوحيد هو مكان السدّ الذي ينغلق هو الآخر بوجوده ، فيكون الإنسان في حصار كامل عمليّا.

٣ ـ الحرمان من السير الآفاقي والأنفسي

هناك طريقان معروفان لمعرفة الله ، الأوّل التأمّل والتفكّر في آثار الله في جسم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي الكبير ، تفسير الآيات مورد البحث مجلّد ٢٦ ، ص ٤٥.

(٢) تفسير القرطبي ، تفسير الآيات مورد البحث ، مجلّد ١٥ ، ص ١٠.

١٣٨

الإنسان وروحه ، وتلك «الآيات الأنفسية» ، والثاني التأمّل في الآيات الخارجية الموجودة في الأرض والسماء والثوابت والسيارات من الكواكب ، والجبال والبحار. وتلك تسمّى «الآيات الآفاقية» وقد أشار القرآن إليهما في الآية (٥٣) من سورة فصّلت( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) . وحينما يفقد الإنسان قدرة المعرفة ، فإنّه يغلق عليه طريق مشاهدة الآيات الأنفسية والآفاقية على حدّ سواء.

في الآيات الماضية وفي جملة( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) إشارة إلى المعنى الأوّل ، لأنّ الأغلال ترفع رؤوسهم إلى الأعلى بحيث أنّهم لا يملكون القدرة على رؤية أنفسهم ، وكذلك فإنّ السدود أمامهم وخلفهم تمنعهم من رؤية ما حولهم ، بحيث أنّهم مهما نظروا فلن يبصروا غير السدود ، وبذا يحرمون من مشاهدة الآيات الآفاقية.

* * *

١٣٩

الآيتان

( إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) )

التّفسير

من هم الذين يتقبّلون إنذارك؟

كان الحديث في الآيات السابقة عن مجموعة لا تملك أي استعداد لتقبّل الإنذارات الإلهيّة ويتساوى عندهم الإنذار وعدمه ، أمّا هذه الآيات فتتحدّث عن فئة اخرى هي على النقيض من تلك الفئة ، وذلك لكي يتّضح المطلب بالمقارنة بين الفئتين كما هو أسلوب القرآن.

تقول الآية الاولى من هذه المجموعة( إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) .

هنا ينبغي الالتفات إلى امور :

١ ـ ذكرت في هذه الآية صفتان لمن تؤثّر فيهم مواعظ وإنذارات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وهي «أتباع الذكر» و «الخشية من الله في الغيب». لا شكّ أنّ المقصود من هاتين

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581