الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168921 / تحميل: 6110
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الصفتين هو ذلك الاستعداد الذاتي وما هو موجود فيهم «بالقوّة». أي أنّ الإنذار يؤثّر فقط في أولئك الذين لهم أسماع واعية وقلوب مهيّأة ، فالإنذار يترك فيهم أثرين : الأوّل إتّباع الذكر والقرآن الكريم ، والآخر الإحساس بالخوف بين يدي الله والمسؤولية.

وبتعبير آخر فإنّ هاتين الحالتين موجودتان فيهم بالقوّة ، وإنّها تظهر فيهم بالفعل بعد الإنذار ، وذلك على خلاف الكفّار عمى القلوب الغافلين الذين لا يملكون اذنا صاغية وليسوا أهلا للخشية من الله أبدا.

هذه الآية كالآية من سورة البقرة حيث يقول تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

٢ ـ باعتقاد الكثير من المفسّرين أنّ المقصود من «الذكر» هو «القرآن المجيد».

لأنّ هذه الكلمة جاءت بهذه الصورة مرارا في القرآن الكريم لتعبّر عن هذا المعنى(١) ، ولكن لا مانع من أن يكون المقصود من هذه الكلمة أيضا المعنى اللغوي لها بمعنى مطلق التذكير ، بحيث يشمل كلّ الآيات القرآنية وسائر الإنذارات الصادرة عن الأنبياء والقادة الإلهيين.

٣ ـ «الخشية» كما قلنا سابقا ، بمعنى الخوف الممزوج بالإحساس بعظمة الله تعالى ، والتعبير بـ «الرحمن» هنا والذي يشير إلى مظهر رحمة الله العامّة يثير معنى جميلا ، وهو أنّه في عين الوقت الذي يستشعر فيه الخوف من عظمة الله ، يجب أن يكون هنالك أمل برحمته ، لموازنة كفّتي الخوف والرجاء ، اللذين هما عاملا الحركة التكاملة المستمرة.

الملفت للنظر أنّه ذكرت كلمة «الله» في بعض من الآيات القرآنية في مورد

__________________

(١) انظر النحل : ٤٤ وفصّلت : ٤١ ، والزخرف : ٤٤ والقمر : ٢٥ ، وفي نفس الوقت فإنّ لفظة «ذكر» تكرّرت في القرآن كثيرا بمعنى «التذكير المطلق».

١٤١

«الرجاء» والتي تمثّل مظهر الهيبة والعظمة( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (١) إشارة إلى أنّه يجب أن يكون الرجاء ممزوجا بالخوف ، والخوف ممزوجا بالرجاء على حد سواء (تأمّل!!).

٤ ـ التعبير بـ «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الاستدلال والبرهان ، إذ أنّ ذات الله سبحانه وتعالى غيب بالنسبة إلى حواس الإنسان ، ويمكن فقط مشاهدة جماله وجلاله سبحانه ببصيرة القلب ومن خلال آثاره تعالى.

كذلك يحتمل أيضا أنّ «الغيب» هنا بمعنى «الغياب عن عيون الناس» بمعنى أنّ مقام الخشية والخوف يجب أن لا يتّخذ طابعا ريائيا ، بل إنّ الخشية والخوف يجب أن تكون في السرّ والخفية.

بعضهم فسّر «الغيب» أيضا بـ «القيامة» لأنّها من المصاديق الواضحة للأمور المغيبة عن حسّنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

٥ ـ جملة «فبشّره» في الحقيقة تكميل للإنذار ، إذ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البدء ينذر ، وحين يتحقّق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله ، هنا يبشّره الباريعزوجل .

بماذا يبشّر؟ أوّلا يبشّره بشيء قد شغل فكره أكثر من أي موضوع آخر ، وهو تلك الزلّات التي ارتكبها ، يبشّره بأنّ الله العظيم سيغفر له تلك الزلّات جميعها ، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلّا الله سبحانه.

الملفت للنظر هو تنكير «المغفرة» و «الأجر الكريم» ونعلم بأنّ استخدام النكرة في مثل هذه المواضع إنّما هو للتدليل على الوفرة والعظم.

٦ ـ يرى بعض المفسّرين أنّ (الفاء) في جملة «فبشّره» للتفريع والتفضيل ، إشارة إلى أنّ (اتّباع التذكر والخشية) نتيجتها «المغفرة» و «الأجر الكريم» بحيث أنّ الاولى وهي المغفرة تترتّب على الأوّل ، والثانية على الثاني.

__________________

(١) الأحزاب ، ٢١.

١٤٢

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين والمصدّقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء ، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة ، تقول الآية الكريمة :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ) .

الاستناد إلى لفظة «نحن» إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا! وكذلك قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم ، ويبعث الروح في الأبدان من جديد؟ وليس نحيي الموتى فقط ، بل( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا وتحفظها إلى يوم الحساب.

جملة «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر ، أمّا التعبير «وآثارهم» فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي ، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).

كذلك يحتمل أيضا أن يكون المعنى هو أنّ «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال ذات الجنبة الشخصية ، و «آثارهم» إشارة إلى الأعمال التي تصبح سننا وتوجب الخير والبركات بعد موت الإنسان ، أو تؤدّي إلى الشرّ والمعاصي والذنوب. ومفهوم الآية واسع يمكن أن يشمل التّفسيرين.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) .

أغلب المفسّرين اعتبروا أنّ معنى «إمام مبين» هنا هو «اللوح المحفوظ» ذلك الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كلّ الأعمال والموجودات والحوادث التي في هذا العالم.

والتعبير بـ «إمام» ربّما كان بلحاظ أنّ هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائدا وإماما لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب ، أو لكونه معيارا لتقييم الأعمال

١٤٣

الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها.

الجدير بالملاحظة أنّ تعبير (إمام) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير عن «التوراة» حيث يقول سبحانه وتعالى :( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ) .

وإطلاق كلمة «إمام» في هذه الآية على «التوراة» يشير إلى المعارف والأحكام والأوامر الواردة في التوراة ، وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة بحقّ نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي كلّ هذه الأمور يمكن للتوراة أن تكون قائدا وإماما للخلق ، وبناء على ذلك فإنّ الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي في كلّ مورد استعمال.

* * *

مسألتان

١ ـ أنواع الكتب التي تثبت بها أعمال الناس

يستفاد من الآيات القرآنية الكريمة أنّ أعمال الإنسان تدون وتضبط في أكثر من كتاب ، حتّى لا يبقى له حجّة أو غدر يوم الحساب.

أوّلها : «صحيفة الأعمال الشخصية» التي تحصى جميع أعمال الفرد على مدى عمره( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (١) .

هناك حيث تتعالى صرخات المجرمين( يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .(٢) وهو الكتاب الذي يأخذه المحسنون في أيمانهم والمسيئون في شمائلهم ـ الحاقّة ١٩ و ٢٥.

ثانيا : «صحيفة أعمال الامّة» والتي تبيّن الخطوط الاجتماعية لحياتها ، كما

__________________

(١) الإسراء ، ١٤.

(٢) الكهف ، ٤٩.

١٤٤

يقول القرآن الكريم :( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) .(١)

وثالثها : «اللوح المحفوظ» وهو الكتاب الجامع ، ليس لأعمال جميع البشر من الأوّلين والآخرين فقط ، بل لجميع الحوادث العالمية ، وشاهد آخر على أعمال بني آدم في ذلك المشهد العظيم ، وفي الحقيقة فهو إمام لملائكة الحساب وملائكة الثواب والعقاب.

٢ ـ كلّ شيء أحصيناه

ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : «ائتوا بحطب ، فقالوا : يا رسول الله ، نحن بأرض قرعاء! قال : فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاءوا به حتّى رموا بين يديه ، بعضه على بعض ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . هكذا تجمع الذنوب ، ثمّ قال : إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ، فإنّ لكلّ شيء ، طالبا ، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين»(٢) .

هذا الحديث المؤثّر ، صورة معبّرة عن أنّ تراكم صغائر الذنوب والمعاصي يمكنه أن يولد نارا عظيمة اللهب.

في حديث آخر ورد أنّ «بني سلمة» كانوا في ناحية المدينة ، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد ، فنزلت هذه الآية( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ آثاركم تكتب» ـ أي خطواتكم التي تخطونها إلى المسجد ، وسوف تثابون عليها ـ فلم ينتقلوا(٣) .

__________________

(١) الجاثية ، ٢٨.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٨ ، ح ٢٥.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٢ ، نقل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري ، كما في صحيح الترمذي وجاء مثله في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضا ، وقد ذكره مفسّرون آخرون كالآلوسي والفخر الرازي والطبرسي والعلّامة الطباطبائي ـ أيضا ـ بتفاوت يسير.

١٤٥

اتّضح إذا أنّ مفهوم الآية واسع وشامل ، وله في كلّ من تلك الأمور التي ذكرناها مصداق.

وقد يبدو عدم انسجام ما ذكرنا مع ما ورد من «أهل البيت»عليهم‌السلام حول تفسير «إمام مبين» بأمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. كما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام : «لمّا أنزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا : يا رسول الله ، هو التوراة؟ قال : لا ، قالا : فهو الإنجيل؟ قال : لا ، قالا : فهو القرآن؟ قال : لا ، قال : فأقبل أمير المؤمنين عليعليه‌السلام فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو هذا ، إنّه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء»(١) .

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «أنا والله الإمام المبين ، أبيّن الحقّ من الباطل ، ورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

فمع أنّ بعض المفسّرين من أمثال «الآلوسي» ، قد إستاء كثيرا من عملية نقل أمثال هذه الروايات من طرق الشيعة ، ونسبهم لذلك إلى عدم المعرفة والاطلاع وعدم التمكّن من التّفسير ، إلّا أنّه بقليل من الدقّة يتّضح أنّ أمثال هذه الروايات لا تتنافى مع تفسير «الإمام المبين» بـ «اللوح المحفوظ». بلحاظ أنّ قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمقام الأوّل ، ثمّ يليه قلب وليّه ، ويعتبران مرآة تعكس ما في اللوح المحفوظ ، وإنّ الله سبحانه وتعالى يلهمهم القسم الأعظم ممّا هو موجود في اللوح المحفوظ ، وبذا يصبحان نموذجا من اللوح المحفوظ ، وعليه فإنّ إطلاق «الإمام المبين» عليهما ليس بالأمر العجيب ، لأنّهما فرع لذلك الأصل ، ناهيك عن أنّ وجود الإنسان الكامل ـ كما نعلم ـ يعتبر عالما صغيرا ينطوي على خلاصة العالم

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق ، باب معنى الإمام ، صفحة ٩٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٩.

١٤٦

الكبير ، وطبقا للشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

أتزعم أنّك جرم صغير؟

وفيك انطوى العالم الأكبر

والعجيب أنّ «الآلوسي» لا يستبعد هذا التّفسير مع إنكاره للرّوايات السالفة الذكر ، وعلى كلّ حال فليس من شكّ في كون المقصود من «الإمام المبين» هو «اللوح المحفوظ» فإنّ الروايات السالفة الذكر يمكن تطبيقها عليه «دقّق النظر!!».

* * *

١٤٧

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) )

التّفسير

واضرب لهم مثلا أصحاب القرية :

لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمؤمنين الصادقين ، والكفّار المعاندين ، تطرح هذه الآيات نموذجا من موقف الأمم السابقة بهذا الصدد ، إنّ هذه الآيات وبعضا من الآيات التالية لها ،

١٤٨

والتي تشكّل بمجموعها ثماني عشرة آية ، تتحدّث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين الذين بعثوا لهداية المشركين عبّاد الأوثان الذين سمّاهم القرآن الكريم( أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ) وكيف أنّهم نهضوا لمخالفة أولئك الأنبياء ، وتكذيبهم ، وكانت خاتمتهم أن أخذهم العذاب الأليم ، لتكون تنبيها لمشركي مكّة من جهة ، وتسلية للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم. على كلّ حال فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصّة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم ، بسبب تشابه ظروف تلك القصّة مع ظروف المسلمين في ذلك اليوم.

أوّلا تقول الآيات الكريمة :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) (١) .

«القرية» في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس ، وتطلق أحيانا على نفس الناس أيضا ، لذا فمفهومها يتّسع حتّى يشمل المدن والنواحي ، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مرارا على المدن المهمّة مثل «مصر» و «مكّة» وأمثالهما.

لكن ما اسم هذه القرية أو المدينة التي ذكرت في هذه الآية؟

المشهور بين المفسّرين أنّها «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام. وهي إحدى المدن الرومية المشهورة قديما ، كما أنّها ضمن منطقة نفوذ تركيا جغرافيا في الحال الحاضر ، وسنتعرض إلى تفصيل الحديث عنها في البحوث الآتية إن شاء الله ، وعلى كلّ حال فإنّه يظهر جيدا من آيات هذه السورة الكريمة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام ، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

__________________

(١) يعتقد البعض بأنّ «أصحاب القرية» مفعول أو للفعل «اضرب» و «مثلا» مفعول ثان مقدّم ، والبعض يقول : إنّها بدل عن «مثلا» ، ولكن الظاهر رجاحة الاحتمال الأوّل.

١٤٩

بعد ذلك العرض الإجمالي العام ، تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول :( إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) (١) .

أمّا من هم هؤلاء الرسل؟ هناك أخذ وردّ بين المفسّرين ، بعضهم قال : إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس» ، وبعضهم ذكر أسماء اخرى لهم.

وكذلك هناك أخذ ورد في أنّهم رسل الله تعالى ، أم أنّهم رسل المسيحعليه‌السلام (ولا منافاة مع قوله تعالى :( إِذْ أَرْسَلْنا ) إذ أنّ رسل المسيح رسله تعالى أيضا) ، مع أنّ ظاهر الآيات أعلاه ينسجم معه التّفسير الأوّل ، وإن كان لا فرق بالنسبة إلى النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالّين قبال دعوة الرسل ، القرآن الكريم يقول : إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذرّع بها الكثير من الكفّار دائما في مواجهة الأنبياء( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ) .

فإذا كان مقرّرا أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه ، فيجب أن يكون ملكا مقرّبا وليس إنسانا مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية ، والمحتمل أنّهم يعلمون بأنّ جميع الأنبياء على مدى التاريخ كانوا من نسل آدم ، من جملتهم إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، الذي عرف برسالته ، ومن المسلّم أنّه كان إنسانا ، وناهيك عن أنّه هل يمكن لغير الإنسان أن يدرك حاجات الإنسان ومشكلاته وآلامه؟

وثمّ لماذا أكّدت الآية أيضا على صفة «الرحمانية» لله؟ لعلّ ذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى ضمن نقله هذه الصفة في كلامهم يشعر بأنّ الجواب كامن في كلامهم ، إذ أنّ

__________________

(١) بعض المفسّرين قالوا بأنّ كلمة «إذ» هنا بدل عن «أصحاب القرية» ، وذهب آخرون بأنّها متعلّق لفعل محذوف تقديره «اذكر».

١٥٠

الله الذي شملت رحمته العالم بأسره لا بدّ أن يبعث الأنبياء والرسل لتربية النفوس والدعوة إلى الرشد والتكامل البشري.

كذلك يحتمل أيضا أن يكونوا قد أكّدوا على وصف الرحمانية لله ليقولوا بذلك أنّ الله الرحمن العطوف لا يثير المشاكل لعباده بإرسال الرسل والأنبياء ، بل إنّه يتركهم وشأنهم! وهذا المنطق الخاوي المتهاوي يتناسب مع مستوى تفكير هذه الفئة الضالّة.

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالّين ولم يضعفوا ، وفي جوابهم( قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) ومسئوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبيّن فحسب.

( وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

من المسلّم به أنّهم لم يكتفوا بمجرّد الادّعاء ، أو القسم بأنّهم من قبل الله ، بل إنّ ممّا يستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم ، وإلّا فلا مصداقية (للبلاغ المبين) ، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده ، وذلك لا يمكن تحقّقه إلّا من خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضا أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم ـ بإذن الله ـ كما كان لعيسىعليه‌السلام .

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات ، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة ، وانتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد( قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ) (١) .

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء ، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم ، أو كإنذارات إلهية لهم ،

__________________

(١) تقدّم الكلام عن «التطيّر» بالتفصيل في تفسير سورة الأعراف ، الآية ١٣١ ، وذيل الآية ٤٧ من سورة النمل.

١٥١

فكما نقل بعض المفسّرين فقد توقّف نزول المطر عليهم لملمدّة(١) ، ولكنّهم لم يعتبروا من ذلك ، بل إنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا بذلك ، بل إنّهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني ، وقالوا :( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هل أنّ «العذاب الأليم» هو تأكيد على مسألة الرجم ، أو زيادة المجازاة أكثر من الرجم وحده؟

يوجد احتمالان ، ولكن يبدو أنّ الاحتمال الثاني هو الأقرب ، لأنّ الرجم من أسوأ أنواع العذاب الذي قد ينتهي أحيانا بالموت ، ومن الممكن أن ذكر العذاب الأليم إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حدّ الموت ، أو أنّه علاوة على الرجم فإنّنا سنمارس معكم أنواعا اخرى من التعذيب التي كانت تستعمل قديما كإدخال الأسياخ المحمّاة في العيون أو صبّ الفلز المذاب في الفمّ وأمثالها.

بعض المفسّرين احتملوا أيضا أنّ (الرجم) هو تعذيب جسماني أمّا «العذاب الأليم» فهو عذاب معنوي روحي(٢) . ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل هو الأقرب.

أجل ، فلأنّ أتباع الباطل وحماة الظلم والفساد لا يملكون منطقا يمكنهم من المنازلة في الحوار ، فإنّهم يستندون دائما إلى التهديد والضغط والعنف ، غافلين عن أنّ سالكي طريق الله لن يستسلموا أمام أمثال هذه التهديدات ، بل سيزيدون من استقامتهم على الطريق ، فمنذ اليوم الأوّل الذي سلكت فيها أقدامهم طريق الدعوة إلى الله وضعوا أرواحهم على الأكف ، واستعدوا لأي نوع من الفداء والتضحية.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء :( قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ذيل الآيات محلّ البحث.

(٢) وذلك في حال كون «لنرجمنّكم» من مادّة «رجم» بمعنى السبّ والاتّهام والقذف.

١٥٢

فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم ، ورحلت بركات الله عنكم ، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم ، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة ، وليس في دعوتنا ، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات ، وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة( أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) جملة مستقلّة وقالوا : إنّ معناها هو «هل أنّ الأنبياء إذا جاءوا وذكروكم وأنذروكم يكون جزاؤهم تهديدهم بالعذاب والعقوبة وتعتبرون وجودهم شؤما عليكم؟ وما جلبوا لكم إلّا النور والهداية والخير والبركة. فهل جواب مثل هذه الخدمة هو التهديد والكلام السيء؟!(١) .

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) .

فإنّ مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز ، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحقّ ، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات ، وأخيرا ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهدّدون الهادفين إلى الخير بالموت ، وهذا أيضا بسبب التجاوز والإسراف.

وسوف نعود إلى شرح قصّة أولئك القوم ، وما جرى لهؤلاء الرسل ، بعد تفسير الآيات الباقية التي تكمل القصّة.

* * *

__________________

(١) التقدير هو «أئن ذكّرتم قابلتمونا بهذه الأمور» أو «أئن ذكّرتم علمتم صدق ما قلنا».

١٥٣

الآيات

( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) )

١٥٤

التّفسير

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.

تشرع هذه الآيات بالقول :( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) .

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه «حبيب النجّار» هو من الأشخاص الذين قيّض لهم الاستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم ، وكان مؤمنا ثابت القدم في إيمانه ، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء ، أسرع ـ كما يستشفّ من كلمة يسعى ـ وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما استطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعا في ذلك.

التعبير بـ «رجل» بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فردا عاديا ، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع ، وسلك طريقه فردا وحيدا. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعا عن الحقّ ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درسا بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام ، إلّا أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم ، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد.

التعبير بـ «أقصى المدينة» يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة ، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان ، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادة تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول

١٥٥

الحقّ والتصديق به ، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.

التعبير بـ «يا قوم» يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته ، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل ، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد ، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ) . فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل ، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية ، ولا يريدون منكم مالا ولا جاها ولا مقاما ، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة : لا يريدون منكم أجرا ولا أي شيء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مرارا فيما يخصّ الأنبياء العظام ، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم ، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات( وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) (١) .

ثمّ يضيف : إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون :( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) إشارة إلى أنّ عدم الاستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين : إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع ، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة ، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطؤ عن الاستجابة.

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل ، فيقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) .

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب ، وليس الأصنام التي لا

__________________

(١) الآيات : ١٠٩ ـ ١٢٧ ـ ١٤٥ ـ ١٦٤ ـ ١٨٠.

١٥٦

تضرّ ولا تنفع ، الفطرة السليمة تقول : يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة.

والتأكيد على «فطرني» لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضا وهو : إنّني حينما أرجع إلى الفطرة الأصيلة في نفسي ألاحظ بوضوح أنّ هناك صوتا يدعوني إلى عبادة خالقي ، دعوة تنسجم مع العقل ، فكيف أغضّ الطرف إذا عن دعوة تؤيّدها فطرتي وعقلي؟!

والملفت للنظر أنّه لا يقول : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ بل يقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيرا في النفوس وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

أي : لا تتصوّروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط ، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضا ، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث استدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام ، فيكمل قائلا :( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ ) .

هنا أيضا يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والاستعلاء عليهم ، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون : نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعا لنا أمام الله ، فكأنّه يقول : أيّة شفاعة؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم ، فما ذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات؟

التعبير بـ «الرحمن» هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب ، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة ، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريدون أحدا بضرّ ، إلّا إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من

١٥٧

رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.

ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر : إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكا لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد :( إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنبا إلى جنب خالق السموات والأرض!!

وعند ما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من استعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) .

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة( فَاسْمَعُونِ ) والجملة السابقة لها( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟

ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنّهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة ، والتعبير بـ «ربّكم» لا ينافي هذا المعنى أيضا ، إذ أنّ هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن الكفّار حينما تستعرض الاستدلالات التوحيدية(١) .

وجملة «فاسمعون» لا تنافي ما قلنا ، لأنّ هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتّباع قوله ، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال :( يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ) غافر ـ ٣٨.

ومن هنا يتّضح أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المخاطب في هذه الجملة هم أولئك الرسل ، والتعبير بـ «ربّكم» وجملة «فاسمعون» قرينة على ذلك ـ لا يقوم عليه دليل سليم.

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك ، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

__________________

(١) راجع الآيات ٣ و ٣٢ يونس ـ ٣ و ٥٢ هود ـ ٢٤ النمل ٢٩ ـ الكهف وغيرها.

١٥٨

نعم فإنّ حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالاستدلالات القويّة الدامغة ، واللفتات الخاصّة والنافذة إلى القلب ، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب ، بل إنّها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة ، بحيث أنّهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل انّهم رموه بالحجارة ، وهو يقول : اللهمّ اهد قومي ، حتّى قتلوه(١) .

وفي رواية اخرى أنّهم وطؤوه بأرجلهم حتّى مات(٢) .

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحقّ في آيات أخرى من القرآن الكريم( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .(٣)

والجدير بالذكر والملاحظة أنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنّة كان مقترنا باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن ، بحيث أنّ الفاصلة بين الإثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنّة بدلا عن شهادته ، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة!!

وواضح أنّ المقصود من الجنّة هنا ، هي (جنّة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الرّوايات أنّ الجنّة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين ، كما أنّ جهنّم ستكون نصيب المجرمين.

وعليه فإنّ هناك جنّة وجهنّم أخريين في عالم البرزخ ، وهما نموذج من جنّة وجهنّم يوم القيامة ، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «والقبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار»(٤) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٨ و ١٩.

(٢) تفسير التبيان ، ج ٨ ، ص ٤١٤.

(٣) آل عمران ، ١٦٩.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢١٨.

١٥٩

وما احتمله البعض من أنّ هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا المؤمن الشهم في يوم القيامة ، وأنّها تحوي جنبة مستقبلية ، فهو خلاف لظاهر الآية.

على كلّ حال فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة ، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان ، وهناك لم تكن له سوى امنية واحدة( قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) .

يا ليت قومي يعلمون بأي شيء( بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) (١) .

أي : ليست أنّ لهم عين تبصر الحقّ ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة ، فيروا ما حجب عنهم من النعمة والإكرام والاحترام من قبل الله ، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ

لو أنّهم يبصرون ويؤمنون ، ولكن يا حسرة!!

في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يخصّ هذا المؤمن «إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته»(٢) .

ومن الجدير بالملاحظة أنّه تحدّث أوّلا عن نعمة الغفران الإلهي ، ثمّ عن الإكرام ، إذ يجب أوّلا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب ، وحينها تأخذ محلّها على بساط القرب والإكرام الإلهي.

والجدير بالتأمّل أنّ الإكرام والاحترام والتجليل ، وإن كان من نصيب الكثير من العباد ، وأصولا فإنّه ـ أي الإكرام ـ يتعاظم مع «التقوى» جنبا إلى جنب ،( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (٣) . ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو شرط جاء في القرآن الكريم خاصا لمجموعتين :

__________________

(١) بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة احتمالات : إمّا مصدرية ، أو موصولة ، أو استفهامية ، ولكن يبدو أنّ احتمال كونها استفهامية بعيد ، ويبقى أنّ الأقرب كونها موصولة ، مع أنّ المعنى لا يختلف كثيرا حينما تكون مصدرية.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، ـ صفحة ٢٠.

(٣) الحجرات ، ١٣.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الفصل السابع

بعض مُنجَزَات الإمام المهدي (ع)

على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي

لعلَّ من الواضح أنَّ الاطِّلاع على التفاصيل الكاملة لهذه المـُنجزات مُتعذِّر تماماً لإنسان ما قبل الظهور، مهما كان عبقرياً، غير أنَّ المـُهمَّ هو مُحاولة الاطِّلاع على بعض هذه المـُنجزات في حدود ما تدلُّنا عليه القواعد العامة الإسلامية من ناحية، والأخبار الخاصة الدالة على هذه المـُنجزات في الدولة العالمية، من ناحية أخرى.

ونحن نبدأ بسرد الأخبار الخاصة أولاً من دون ترتيب، فإنَّ الخبر الواحد قد يحتوي على عدَّة مُنجزات يمتُّ كلٌّ منها إلى حقل من حقول الحياة، ثمَّ نتحدَّث بعد ذلك عن الفهم العام لها وترتيبها مُطبَّقة على القواعد العامة، ثمَّ نذكر لهذا الفصل خاتمتين:

إحداهما: حول المـُنجزات القضائية والعسكرية والفقهية للإمام المهدي.

والأخرى: حول المـُنجزات التي تُسمَّى بـ (العلمية) في الإصلاح الحديث، ونسرد عدداً من الأخبار الدالة على أنَّ المهدي يستعمل آخر مُنجزات العلم الحديث في دولته.

وينبغي أن يقع الكلام في هذا الفصل ضمن عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في إيراد الأخبار المـُتضمِّنة لأهمِّ ما ورد من مُنجزات الإمام في دولته على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، وقد تحدَّثت عن ذلك أخبار الفريقين بغزارة.

فمن أخبار العامة في ذلك:

ما أخرجه البخاري(1) ، بسنده عن أبي موسى عنه، عن النبي (ص) قال:

____________________

(1) ج2 ص136.

٥٤١

( ليأتينَّ على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثمَّ لا يجد أحداً يأخذها... ) الحديث.

وما أخرجه أيضاً(1) ، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله (ص) قال: ( لا تقوم الساعة... - وعدَّ علامات كثيرة حتى قال: - وحتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يهمَّ ربُّ المال مَن يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أربَ لي به ).

وما أخرجه مسلم(2) ، بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): ( والله، لينزلنَّ ابن مريم... - إلى أن قال: - ليدعونَّ إلى المال، فلا يقبله أحد ).

وما أخرجه أيضاً(3) ، بسنده عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (ص): ( من خلفائكم خليفة يحثو المال حثياً، لا يعدُّه عدَّاً ).

وفي خبر آخر، عن أبي سعيد، وجابر بن عبد الله، قالا: قال رسول الله (ص): ( يكون في آخر الزمان خليفة يُقسِّم المال ولا يعدُّه ).

وذكر له مسلم سندين، وأخرج الحاكم في مُستدركه(4) بهذا المضمون أكثر من حديث واحد.

وأخرجه الحاكم أيضاً(5) ، عن أبي سعيد في حديث النبي (ص) يقول فيه: (... فيبعث الله رجلاً من عترتي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، يرضى ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلاَّ أخرجته، ولا السماء من قطرها شيئاً إلاَّ صبَّته عليهم مدراراً... تتمنَّى الأحياء والأموات ممَّا صنع الله عزَّ وجلَّ بأهل الأرض من خيره ).

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه.

____________________

(1) ج9 ص74.

(2) ج1ص94.

(3) ج8ص185.

(4) ج4ص454.

(5) ج4ص465.

٥٤٢

وأخرجه أيضاً(1) ، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص ): ( يكون في أُمَّتي المهدي، إن قصر فسبع وإلاَّ فتسع، تنعم أُمَّتي فيه نعمةً لم ينعموا مثلها قطُّ، تؤتي الأرض أُكُلها لا تدخر عنهم شيئاً، والمال يومئذ كدوس، يقوم الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني. فيقول: خُذْ ).

وأخرج أيضاً(2) عن ابن عباس، في حديث، قال: وأمَّا المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، كما مُلئت جوراً، تأمن البهائم والسباع، وتُلقي الأرض أفلاذ أكبادها.

قال: قلت: وما أفلاذ أكبادها؟

قال: أمثال الأسطوانة من الذهب والفضَّة.

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يُخرجاه.

وأخرج أيضاً(3) عن أبي سعيد: أنَّ رسول الله (ص) قال: ( يخرج في آخر أُمَّتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويُعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية وتعظم الأُمَّة... ) الحديث.

قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه.

وأخرج الترمذي(4) ، بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): ( تقيء الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأسطوان من الذهب والفضَّة - قال: - فيجيء السارق فيقول: في هذا قُطعت يدي. ويجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت. ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي. ثمَّ يُدعونه ولا يأخذون منه شيئاً ).

وأخرج القندوزي في الينابيع(5) ، عن الترمذي، عن أبي سعيد، عن النبي (ص) - في قصَّة المهدي -: (... فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني، أعطني، أعطني

____________________

(1) ج4 ص558.

(2) ج4ص514.

(3) ج4ص558.

(4) ج3ص334.

(5) ص517 ط النجف.

٥٤٣

- قال: - فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله ).

وأخرج أيضاً(1) ، عن أحمد والماوردي أنَّه (ص) قال: ( أبْشِروا بالمهدي! رجل من قريش من عترتي، يخرج في اختلاف من الناس وزلزال، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، ويرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، ويُقسِّم المال بالسويَّة، ويملأ قلوب أُمَّة محمد غناه ويسعهم عدله، حتى إنَّه يأمر مُنادياً فيُنادي: مَن له حاجة إلى المال يأتيه. فما يأتيه أحد، إلاَّ رجل واحد يأتيه، فيقول له المهدي: ائت السادن حتى يؤتيك.

فيأتيه فيقول: أنا رسول المهدي، أرسلني إليك لتُعطيني.

فيقول: اُحثُ. فيحثو، فلا يستطيع أن يحمله، فيخرج، فيندم، فيقول: أنا كنت أجْشع الأُمَّة نفساً، كلُّهم دُعيَ إلى هذا المال فتركوه غيري، فيردُّ عليه، فيقول السادن: إنَّا لا نقبل شيئاً أعطيناه... ) الحديث.

وقال في الينابيع(2) : وفي بعض الآثار... أنَّه يبلُغ سلطانه المشرق والمغرب، وتظهر له الكنوز، ولا يبقى في الأرض خراب إلاَّ يُعمَّر.

أقول: وانظر هذه المضامين في عدد آخر من المصادر العامة، كمسند أبي داود، وابن ماجة، وأحمد، والبيان للكنجي، والصواعق لابن حجر، ونور الإبصار للصبَّان، وإسعاف الراغبين للشبلنجي وغيرها.

وأمَّا أخبار المصادر الخاصة، فهي كما يلي:

فمن ذلك: ما أخرجه المفيد في الإرشاد(3) ، عن أبي جعفر (ع) أنَّه ذكر المهدي (ع) وخُطبته الأُولى في مسجد الكوفة، وقال: ( فإذا كانت الجمعة الثانية، سأله الناس أن يُصلِّي بهم الجمعة، فيأمر أن يُخطَّ له مسجد على الغريِّ، ويُصلِّي بهم هناك، ثمَّ يأمر مَن يحفر من ظهر مشهد الحسين (ع) نهراً يجري إلى الغريَّين، حتى ينزل الماء في النجف،

____________________

(1) ص562 وما بعدها، وانظر الحاوي للسيوطي ج2 ص124.

(2) ص563.

(3) ص341.

٥٤٤

ويعمل على فوهته القناطير والأرحاء، فكأنِّي بالعجوز على رأسها مِكْتَل فيه بُرٌّ، تأتي تلك الأرحاء فتطحنه بلا كري ).

وأخرج عن المفضل بن عمر(1) ، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( إذا قام قائم آل محمد (ع) بَنى في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب، واتَّصلت بيوت أهل الكوفة بنهري كربلاء ).

وأخرج عنه(2) قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( إنَّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربِّها... - إلى أن قال: - وتُظهر الأرض من كنوزها حتى يراها الناس على وجهها، ويطلب الرجل منكم مَن يصله بماله ويأخذ منه زكاته، فلا يجد أحداً يقبل منه ذلك، واستغنى الناس بما رزقهم الله من فضله ).

وأخرج(3) عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (ع): ( إذا قام القائم (ع)، هدم المسجد الحرام حتى يردَّه إلى أساسه، وحوَّل المقام إلى الموضع الذي كان فيه ).

وأخرج أيضاً(4) عنه، عن أبي جعفر (ع) في حديث طويل أنَّه قال: ( إذا قام القائم (ع) سار إلى الكوفة، فهدم بها أربعة مساجد، ولم يبقَ مسجد على وجه الأرض له شرف إلاَّ هدمها وجعلها جماء، ووسَّع الطريق الأعظم، وكسر كل جناح خارج في الطريق، وأبطل الكنف والميازيب إلى الطرقات، لا ويترك بدعة إلاَّ أزالها ولا سنَّة إلاَّ أقامها ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(5) ، بسنده عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( إنَّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربِّها، واستغنى الناس... ويبني في ظهر الكوفة مسجداً له ألف

____________________

(1) ص342.

(2) نفس الصفحة.

(3) ص343.

(4) ص344.

(5) ص280، وكذلك الخبر الذي يليه.

٥٤٥

باب، وتتَّصل بيوت الكوفة بنهر كربلاء بالحيرة، حتى يخرج الرجل يوم الجمعة على بغلة سفواء يريد الجمعة فلا يُدركها ).

وفي حديث آخر، عن أبي جعفر (ع) يقول فيه: (... فيخرج إلى الغريِّ، فيخطُّ مسجداً له ألف باب، يسع الناس عليه أصيص، ويبعث فيحفر من خلف قبر الحسين (ع) لهم نهراً يجري إلى الغريِّين، حتى ينبذ في النجف، ويعمل على فوهته قناطر وأرحاء على السبيل، وكأنِّي بالعجوز وعلى رأسها مِكْتل فيه بُرٌّ حتى تطحنه بكربلاء ).

وأخرج أيضاً(1) ، بسنده عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: ( ما تستعجلون بخروج القائم؟ فوالله، ما لباسه إلاَّ الغليظ، وما طعامه إلاَّ الشعير الجَشِب ).

وأخرج الراوندي في الخرايج والجرايج(2) نحوه، في حديث طويل عن علي بن الحسين (ع).

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(3) ، والطبرسي في إعلام الورى(4) ، عن محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (ع) يقول: ( القائم منَّا، منصور بالرعب، مؤيَّد بالنصر، تُطوى له الأرض، وتظهر له الكنوز... ولا يبقى في الأرض خراب إلاَّ عُمِّر ).

وأخرج الطبرسي أيضاً(5) ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سمعت رسول الله يقول: ( إنَّ ذا القرنين كان عبداً صالحاً... - إلى أن قال: - وإنَّ الله سيُجري سنَّته في القائم من وُلْدي... ويُظهر الله له كنوز الأرض ومعادنها وينصره بالرعب، ويملأ الأرض به عدلاً وقسطاً، كما مُلئت جوراً وظلماً ).

وأخرج أيضاً(6) ، عن علي بن عقبة عن أبيه، قال:

____________________

(1) ص 277.

(2) ص196.

(3) انظر المصدر المخطوط.

(4) ص433.

(5) ص413.

(6) ص432.

٥٤٦

وأخرج المجلسي في البحار(1) ، قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه - في حديث -: (... ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم، حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلاَّ على النبات وعلى رأسها زينتها، لا يُهيجها سبع ولا تخافه ).

فهذه نُخبة من الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الصدد.

وكثرة الأخبار بهذا الصدد تُنتِج لنا أمرين:

الأمر الأول: اتِّضاح مدى اهتمام قادة الإسلام - النبي (ص) فمن بعده - إيضاح خصائص دولة المهدي وما يقوم به من أعمال، وما يُنتجه من خيرات، كيف لا؟ وهو يُمثِّل القمَّة لجهودهم والثمرة الطيِّبة لأعمالهم، والنتيجة الكبرى للتخطيط الإلهي الطويل.

الأمر الثاني: إنَّنا نستطيع بهذا السرد أن نؤدِّي حساب كل حادثة من الحوادث المنقولة بشكل أكثر وأدقّ، ونوفِّر لها المـُثبتات بشكل أكثر؛ لوضوح أنَّ الروايات كلَّما زادت على الحادثة الواحدة، كانت آكد وأوضح في الذهن، وأقوى ثبوتاً من الناحية التاريخية.

والآن، لابدَّ أن نأخذ كل رواية من الروايات العامة المنقولة من هذه الأخبار، لنرى مقدار ثبوتها وموافقتها للقواعد العامة والقرائن المـُثبتة، وذلك ضمن الجهات الآتية:

الجهة الثانية (*) : المسلك الشخصي للإمام المهدي بصفته رئيساً للدولة العالمية العادلة، وهو ما صرَّحت به بعض هذه الأخبار، من أنَّ لباسه الخشن الغليظ، وطعامه الشعير

____________________

(1) ج13 ص182.

* هكذا وردت في الكتاب من غير ذكر الجهة الأُولى. [ الشبكة ]

٥٤٧

الجَشِب، وفي الخبر إيراد القسم على ذلك.

وهذا هو المسلك الصحيح لرئيس الدولة الإسلامية العادلة على طول الخطِّ، فإنَّه قد أخذ الله تعالى على كل إمام عادل يتولَّى الحكم الفعلي في المجتمع، أن يعيش في طعامه ولباسه على شكل أو أسلوب أقلِّ أفراد شعبه، والحِكْمَة من ذلك، أوضح من أن تخفى، وهو أن لا يدعوه المنصب الكبير والمال الوفير إلى تناسي الفقراء من أبناء شعبه ومحكوميه.

وهذا المسلك هو الذي طبَّقه رسول الله (ص) على نفسه، حين تولَّى رئاسة الدولة الإسلامية بعد فتح مكَّة، واتَّخذه الخلفاء الأوائل الذين حكموا بعده إلى عصر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

وكذلك سوف يكون الإمام المهدي (ع) حين يُمارس الحُكم العالمي العادل؛ لأنَّه سيكون من الواجب عليه أن يكون في عيشه مُماثلاً لأقلِّ فرد جائع ومسكين في العالم كله.

وسيكون أيضاً على هذا المسلك أصحابه الخاصة، الذين يوزِّعهم حكَّاماً على الأرض؛ لأنَّ الفرد منهم سيكون رئيساً عادلاً لمنطقة من الأرض، فيجب عليه أن يكون في حياته مُماثلاً لأقلِّ فرد في منطقته.

وقد سبق أن سمعنا في أخبار بيعة الإمام في المسجد الحرام لأول مرَّة، أنَّه (ع) يشترط على هؤلاء الخاصة شروطاً، يعود عدد منها إلى الحفاظ والتقيد من الناحية الشخصية، والعدد الآخر إلى العدل في المسلك الاجتماعي.

ففيما يعود إلى الناحية الشخصية يشترط عليهم أن (... لا يتمنطقوا بالذهب، ولا يلبسوا الخزَّ، ولا يلبسوا الحرير، ولا يلبسوا النعال الصرارة... ويلبسون الخشن من الثياب، ويوسِّدون التراب على الخدود، ويأكلون الشعير ويرضون بالقليل ) الخ الخبر(1) .

وحيث لا يكون ذلك واجباً على كل المسلمين، نعرف أنَّ الإمام المهدي (ع) إنَّما يشترط ذلك عليهم باعتبارهم سيُصبحون بعد فترة غير طويلة ريثما فتح العالم واستتباب الدولة العادلة، حكَّاماً على أقاليم الأرض، أو مشاركين في الحكومة المركزية معه. وهذا المضمون من الواضح في القواعد الإسلامية العامة، بحيث لا يحتاج إلى خبر خاص يُعرب عنه.

وأمَّا الخبر الوارد بهذا الصدد، والذي سمعناه يقول: ( فوالله، ما لباسه إلاَّ الغليظ،

____________________

(1) انظر الملاحم والفتن ص122.

٥٤٨

وما طعامه إلاَّ الشعير الجَشِب... )، فهو بالرغم من مُطابقته لهذه القواعد العامة يواجه سؤالين، لابدَّ من عرضهما مع مُحاولة الجواب عنهما.

السؤال الأول: أنَّ ما تقتضيه القواعد العامة، هو أن يعيش الرئيس في حياته الخاصة كأقلِّ فرد من محكوميه، وبعد أن نعرف طبقاً للروايات المـُستفيضة عموم الرفاه، وكثرة المال في دولة المهدي العالمية، نعرف نتيجةً لذلك أنَّ الواجب عليه سيتغيَّر؛ لأنَّ أقلَّ الأفراد في العالم سيعيش مرفَّهاً عالي الدخل، فيكون للإمام المهدي (ع) أن يتوسَّع في حياته الخاصة إلى حدٍّ كبير، وكذلك أصحابه الخاصُّون تماماً؟

وجواب ذلك من عدَّة وجوه، نذكر منها اثنتين:

الوجه الأول: أنَّ الرواية لم تدلَّ على بقاء هذا المسلك للمهدي (ع) طيلة أيام حكمه، بل يكفي في صدقها كونه على ذلك فترة من الزمن في أول حكمه؛ لأنَّ العدل إنَّما يؤثِّر تدريجاً في نشر الرفاه في الأرض، والسعادة بين أبناء البشر أجمعين، وما لم يعمَّ الرفاه كل العالم بشكل حقيقي كامل، يبقى الفرد البائس موجوداً في بعض زويا العالم بطبيعة الحال، وما دام هذا الفرد موجوداً، يبقى المسلك المـُشار إليه في الرواية واجباً على الإمام المهدي (ع).

الوجه الثاني: إنَّنا نحتمل - على أقلِّ تقدير - أنَّ تدريجية تأثير العدل في نشر الرفاه في العالم بكامله، سوف تستمرُّ طيلة حياة المهدي شخصياً، وإنَّما سيتحقَّق هذا الهدف الكبير بعده طبقاً لنظامه الذي يسنُّه هو (ع) للحكَّام العالميين الذين يخلفونه، ومن الصحيح أنَّ الأعم الأغلب من مناطق العالم ستكون مرفَّهة؛ ومن هنا يكتسب العالم كلُّه سِمة الرفاه والسعادة، في حياة المهدي، غير أنَّه من الممكن وجود الفرد البائس في مناطق نائية أو مُتخلفة حضارياً من العالم، الأمر الذي يُحتِّم عليه بقاؤه على هذا المسلك طيلة حياته، وإنَّما تستطيع الدولة العالمية العادلة اجتثاث ذلك، على أيدي خلفائه.

السؤال الثاني: أنَّ الرواية تقول: ( ما تستعجلون بخروج القائم؟! فوالله، ما لباسه إلاَّ الغليظ، وما طعامه إلاَّ الشعير الجَشِب )، مع أنَّ هذا المسلك الحياتي الذي يتَّخذه لا يُنافي استعجال ظهوره (ع)؛ لأمرين:

أحدهما: إنَّ الفرد المؤمن يتمنَّى ظهور الإمام (ع) لأجل المصلحة العامة، وهي

٥٤٩

تطبيق العدل في العالم كله، وتنفيذ الهدف الرئيس من خلق البشرية، حتى وإن أوجب ذلك اتخاذ الفرد مسلك الزهد والتقشُّف، أو أوجب الإجهاز على مصالحه الشخصية.

ثانيهما: إنَّ الفرد لو كان يتمنَّى ظهور الإمام (ع)، من أجل مصالحه الشخصية لرفع ظلاماته وترفيه عيشه، فهذا متوفِّر له على أيِّ حال، لما عرفناه من أنَّ هذا المسلك خاص غير عام، وسيكون الفرد الاعتيادي مُرفَّهاً سعيداً طيلة حياة المهدي (ع) وما بعده، ولن يكون هذا الفرد مسؤولاً عن اتخاذ ذلك المسلك؛ لأنَّه لا يكون مُمارساً للحكم في أيِّ منطقة من الأرض.

ومعه؛ يكون مؤدَّى الاستفهام الاستنكاري حين يقول: ( ما تستعجلون بخروج القائم؟!... )، غامضاً مجهول القصد.

وجواب ذلك: إنَّنا ينبغي أن نفهم مَن هم المـُخاطبون بقوله: ( ما تستعجلون... )، لننطلق من ذلك إلى الجواب.

ولا شكَّ أنَّ الإمام أبا عبد الله الصادق (ع) كان يُخاطب قواعده الشعبية بهذا لكلام، تلك المجموعة التي كانت تُعاني من الظلم الأُموي والعباسي أشدَّ العذاب، وكان الفرد منهم ينتظر خروج القائم (ع) من أجل رفع الظلامات وتطبيق العدل، ومن ثمَّ من أجل الحصول على السعادة والرفاه، وهذه المجموعة تنقسم إلى قسمين رئيسين:

القسم الأول: خاصة الإمام الصادق (ع) وطلاَّبه المـُرتفعو الدرجة في العلم والإيمان.

القسم الثاني: الشعب الاعتيادي الموالي للأئمة المعصومين (ع)، والفرد من كلا القسمين يتمنَّى ظهور القائم المهدي بسرعة... وخطاب الإمام الصادق واستنكاره لذلك يمكن أن يشملهما معاً، فيكون لكل قسم فكرته الخاصة في الجواب.

أما القسم الأول، فمن الواضح أنَّه لو حصل التمنِّي وظهر المهدي (ع) يومئذ - بغضِّ النظر عن شرائط الظهور وعلاماته التي كان يجهلها الفرد منهم -، فإنَّ المهدي (ع) سوف يخصُّ أفراد هذا القسم بالاهتمام، ولن يجد غيرهم في التوزيع على مناطق العالم حكَّاماً وقضاةً، وإذا أصبحوا حاكمين كانوا مشمولين لوجوب مسلك التقشُّف كما قلنا.

ومن ثَمَّ لم يحصل السبب المـُهمُّ في التمنِّي لسرعة الظهور، وهو الحصول على الحياة المرفَّهة السعيدة، فكان الاستفهام الاستنكاري عليهم من قِبل الإمام الصادق (ع) في محلِّه جدَّاً؛ لانطلاق جملة منهم من زاوية المصلحة الخاصة في هذا التمنِّي، كما يعرفه الإمام

٥٥٠

الصادق نفسه من أصحابه.

وأمَّا القسم الثاني من الأفراد، فإنَّ الفرد الاعتيادي يومئذ باعتبار بساطته في الإيمان والعلم نسبياً، وعدم مروره بعصور التمحيص الطويلة، التي تصرَّمت بعد ذلك، يتخيَّل نفسه كامل الإيمان عميق الفهم، ويتوقَّع من المهدي (ع) - لو ظهر يومئذ - أن يُقرِّبه ويُمجِّد به؛ ومن هنا نعود إلى نفس التسلسل الفكري الذي عرفناه في القسم الأول.

إنَّ هذا الفرد الاعتيادي، لو حصل ما يتمنَّى وظهر المهدي (ع)، فإن أبعده واعتبره فرداً اعتيادياً من شعبه، فسوف يحصل على الرفاه إلاَّ أنَّ توقُّعه القُرب من المهدي (ع) سوف يتخلَّف، وهي صدمة عنيفة بلا شكٍّ، وأمَّا إذا قرَّبه المهدي (ع) إليه، واعتبره خاصته، فقد حصل توقُّعه من إمامه، إلاَّ أنَّه سيُرسِل هذا الفرد حاكماً في بعض أقاليم العالم، على أحسن تقدير، ومعه يكون مشمولاً لوجوب الزهد والتقشُّف، ولن يحصل على مصلحته الخاصة بحال، ومعه يكون الاستفهام الاستنكاري من قِبل الإمام الصادق (ع) في محلِّه تماماً.

والغرض الرئيسي من هذا الاستفهام سيكون هو أنَّ تمنِّي الظهور، لا ينبغي أن يكون من زوايا المصلحة الخاصة أساساً، وإنَّما يجب أن ينطلق من زاوية المصلحة العامة، التي هي تطبيق العدل العالمي، وتنفيذ الغرض الإلهي... وإلاَّ كان من المتوقَّع تخلُّف هذه المصلحة الخاصة أساساً.

الجهة الثالثة: في السياسة الزراعية التي يتَّبعها الإمام المهدي (ع) في دولته.

نستطيع أن نُحيط علماً ببعض نتائجها وأساليبها من الأخبار السابقة، حيث نصَّت على أنَّ الأرض تُؤتي أُكُلها لا تدخر منه شيئاً، وهو كناية عن أنَّ إنبات الأرض للنبات سيكون إلى أكبر حدٍّ ممكن يتحمَّله وجه البسيطة ( حتى تمشي المرأة بين العراق والشام، لا تضع قدميها إلاَّ على النبات، ومن يخفى عليه حال هذه الصحراء التي تتوسَّط العراق والأردن والشام ونجد... إنَّها صحراء ضخمة موحِشة وجافَّة، لكنَّها ستُصبح يانعة بالأشجار والثمار في أقلِّ مدَّة ممكنة.

وما هذا إلاَّ مثال واحد من العالم كله، وإنَّما نصَّت عليه الأخبار، باعتبار قربه إلى أذهان المجتمع السامع لهذه النصوص في عصر صدورها، وليس ذلك باعتبار الانحصار.

فإذاً دولة المهدي (ع) عالمية، وجهوده وجهود المـُخلصين في دولته، شاملة لكل العالم على حدٍّ سواء، فمن الطبيعي أن نتصوَّر أنَّ هذه الصحراء ليست هي الصحراء الوحيدة التي

٥٥١

ستُصبح خضراء، وإنَّما ستخضرُّ كل الصحاري في العالم، بما فيها الربع الخالي، والصحراء الكبرى في شمال إفريقيا وغيرها.

وإذا كان هذا هو شأن الصحاري، فما هو شأن الأراضي التي كانت خصبة منذ عهد ما قبل الظهور، وما هو مقدار إنتاجها وإسباغ النعمة منها. إنَّ هذا لا يمكن لمـُفكِّر بشري سابق على الظهور أن يُقدِّره.

وعلى أيِّ حال، فما هو العنصر المـُسبِّب لهذا الانقلاب الزراعي الشامل؟ نستطيع أن نوعز - بعد عنصر التساوق بين التشريع والتكوين الذي الذي سنتحدَّث في جهة قادمة من هذا الفصل - نستطيع أن نوعزه إلى الإخلاص الحقيقي في العمل.

فمن السخف أن يُقال: إنَّ البشرية متَّجهة نحو المجاعة، وإنَّ زيادة النسل يؤدِّي حتماً إلى قلَّة الأرزاق في العالم، إنَّ ذلك إنَّما يتحقَّق، حين يكون الإخلاص ضئيلاً والتشريع ظالماً، كما هو الحال في عصر ما قبل الظهور، وأمَّا حين توجد الدولة المـُخلصة والتشريع العادل والأيدي العاملة المـُجدَّة والعمل المـُنظَّم عالمياً، فسوف يمكنه أن يحفظ للبشرية أرزاقهم مهما تزايدت وتكاثرت، بل يمكنها أن تزيد الإنتاج إلى أضعاف الدخل الفردي لكل البشر، بشكل لا مثيل له في ما سبق من تاريخ.

وأمَّا المنهج التفصيلي التشريعي والعملي، الذي يتَّبعه المهدي (ع) في دولته لنيل هذه النتائج الزراعية الرائعة، فالتعرُّف عليه موكول إلى وعي ما بعد الظهور، وإنَّما المـُستطاع التعرُّف على بعض فقراته من خلال ما بين أيدينا من قواعد وأخبار، وهذا ما سنتوفَّر عليه في الكتاب القادم من هذه الموسوعة.

إنَّ نفس الأخبار التي سمعناها تُعطينا بعض الحقائق التي تُفيدنا بهذا الصدد، فالإمام المهدي (ع) سيأمر بحفر نهر خلال الصحراء الواقعة بين كربلاء والنجف، حتى ينزل الماء في النجف، ويعمل على فوهته القناطير - يعني الجسور والأرحاء - وهو جمع أرحية، وهي المطحنة القديمة للحبِّ؛ ومن هنا قال في الرواية: ( فكأنِّي بالعجوز على رأسها مِكْتَل فيه بُرٌّ، تأتي تلك الأرحاء فتطحنه بلا كري )، أي بدون أجرة.

فإذا علمنا أنَّ ذلك ليس إلاَّ مُجرَّد مثال، ذُكِر طبقاً للفهم القديم، استطعنا أن نتصوَّر مقدار الأنهر والقنوات ممدودة في الصحراء للريِّ، ومقدار التجهيز الآلي الزراعي المـُباح التصرُّف فيه للناس مجَّاناً؛ ليُساعد على سرعة الإنتاج وضخامته، وعلى سرعة التوزيع والتسويق.

٥٥٢

وستؤدِّي هذه الثورة الزراعية طبقاً لأيدولوجية الدولة المهدوية، إلى عدَّة نتائج مُهمَّة، نفهم بعضها:

منها: توفُّر الأطعمة والثمار لدى الناس، مع رخص قيمتها السوقية، بل توفُّرها مجَّاناً للكثير من الناس.

ومنها: توفير العمل المـُنتج للعديد من الأيدي العاملة، وبالتالي إشباع الملايين من العوائل التي كانت فقيرة ومُضطهدة في عهد ما قبل الظهور.

ومنها: توفير الفرص الكبيرة لإزجاء الحاجات الحياتية مجَّاناً، وبدون عوض.

وبذلك نستطيع أن نتصوُّر حصول النتيجة المـُهمَّة الكبرى المطلوبة، وهي توفير السعادة والرفاه في ربوع المجتمع البشري.

الجهة الرابعة: في السياسة العُمرانية في دولة المهدي (ع).

ونحن نرى نتائج السياسة واضحة فيما سمعنا من الأخبار، فبيوت الكوفة سوف تتَّصل بكربلاء والحيرة، ويكون الجميع بلدةً واحدةً، وهي من السعة بحيث لو ركب شخص بغلة سفواء - أي سريعة السير - من صبح يوم الجمعة قاصداً المسجد الذي تُقام فيه صلاة الجمعة ظهراً لأجل حضور هذه الصلاة، لم يُدركها، وإذا كان هذا الشخص قد توجَّه من أحد أطراف هذه المدينة، فالمسجد على أيِّ حال، ليس في طرفها الآخر، بل في وسطها؛ ومن هنا نعرف أنَّ هذه المسافة التي يمشيها هذه الرجل ببغلته السريعة، ليست إلاَّ قسماً من البلدة، ولا يُمثِّل أكثرها فضلاً عن جميعها.

وهذا أيضاً من التنبُّؤات الطريفة في الأخبار، فإنَّ سعةَ المـُدن بهذا المقدار، لم تكن معروفة بأيِّ حال في الزمن القديم، بل لعلَّ مُجرَّد تصوُّرها كان فوق الخيال، وأما الآن، فهو يُعتبر أمراً طبيعياً، خاصة في العواصم الأخرى، كيف والكوفة ستُصبح عاصمة للعالم كله، تحت راية الدولة المهدوية؟! فمن الطبيعي لها أن تتَّسع بهذا المقدار.

ولعلَّنا نستطيع أن نفهم من هذا، مقدار تركيز الدولة واهتمامها بالعُمران في سائر البلدان، وليس في العاصمة فقط، فلئن كانت العاصمة بالتحديد الذي سمعناه، يزيد طولها على الثمانين كيلو متراً، فليكن غيرها مقارباً لذلك أو بمقدار نصفه مثلاً... حسب

٥٥٣

ظروف كل بلدة وموقعها الجغرافي وأهمِّيتها الاجتماعية.

وستنال المساجد اهتماماً خاصاً من قِبل الإمام المهدي (ع)، باعتبارها مراكز إسلامية رئيسية.

فالمسجد الحرام الذي فيه الكعبة المـُشرّفة في مكّة المـُكرَّمة، سوف يشطب على كل توسيعاته، ويهدمها ويردُّ المسجد إلى أساسه الذي كان عليه في صدر الإسلام؛ احتراماً لهذا الأساس الذي كان في زمن رسول الله (ص)، وستترتَّب على هذا التغيير بعض النتائج التي قد نُشير إليها في خاتمة هذا الفصل.

ويُحوِّل المهدي (ع) مقام إبراهيم من موضعه الحالي، ويردَّه إلى مكانه الذي كان عليه مُلاصقاً للكعبة المـُشرّفة، بعد أن كان قد فُصِل عنها عدَّة أمتار، ولا زال مفصولاً عنها إلى العصر الحاضر.

إنَّ فكرة مقام إبراهيم - أساساً - تعني المكان الذي وقف عليه إبراهيم الخليل (ع) حين بنى الكعبة المـُشرّفة، وبطبيعة الحال يقف الباني إلى جنب الجدار الذي يبنيه، ولا معنى أن يقف بعيداً عنه بعدَّة أمتار، ومعه الموضع الطبيعي لمقام إبراهيم هو جوار الكعبة المـُشرَّفة، كما تقتضيه طبائع الأشياء.

وهو أيضاً يهدم في الكوفة، أربعة مساجد من دون تجديد، على ما هو ظاهر الأخبار، باعتبارها لم تُبنَ على التقوى، الذي هو الشرط الأساسي لمشروعية بناء المسجد في الإسلام، فإذا بنى على غير التقوى وجب هدمه لا محالة، ولم تكن قبل ظهور المهدي (ع) قوَّة مؤمنة قادرة على ذلك، ومن ثَمَّ وجب على دولة المهدي المـُبادرة إلى إزالة آثار الانحراف والعدوان.

وأمَّا المسجد الذي يأمر المهدي (ع) ببنائه في ظهر الكوفة، أي خلفها من ناحية النجف، فهو الذي له ألف باب، وقد دلَّ على وجوده عدد من الأخبار، وهذا الرقم وإن لم يكن مقصوداً بنفسه، إلاَّ أنَّه يدلُّ على كثرة كبيرة جدَّاً من الأبواب، تلك الكثرة المـُستلزمة لسعة ضخمة في المسجد.

فإنَّنا لو فرضنا هذا لمسجد مُربَّعاً، وكان في كل ضلع منه مئتان وخمسون باب، وكان بين كل باب وباب عشرة أمتار على الأقل، لأنَّ طول الضلع ألفي متر وخمسمئة متر، وهذا معناه أنَّ سعة المسجد لا تقلُّ عن ستِّ ملايين وربع من الأمتار المربَّعة، وهو مسجد لم

٥٥٤

يسبق له مثيل قبل عهد الظهور يُبنى؛ لكي يُناسب الوضع الإسلامي في الدولة العالمية.

وإنَّما تنبثق الحاجة إلى ذلك، باعتبار صلاة الجمعة التي يُقيمها الإمام (ع) في كل أسبوع، والتي يجب شرعاً أن يحضرها الأعمُّ الأغلب من الذكور من سكَّان العاصمة، وما حواليها من الضواحي، إلى جانب كل مَن يرغب بالحضور للتشرُّف بالصلاة من خلف الإمام المهدي (ع)، وثمَّ سوف يكون التجمُّع كبيراً جدَّاً بحيث يمكن أن يجمعهم جامع الكوفة الكبير الذي يخطب فيه لأول مرَّة كما سمعنا، فاقتضت المصلحة إيجاد مثل هذا المسجد الضخم ليسدَّ هذه الحاجة الإسلامية المـُلحَّة.

ومن هنا ذكرت الأخبار، أنَّ الإمام المهدي (ع) في أوَّل جمعة من وروده إلى العراق يخطب خُطبته الأُولى هناك، وهي التي سبق أن تعرَّضنا لها قال الخبر: ( فإذا كانت الجمعة الثانية، قال الناس: يا بن رسول الله، الصلاة خلفك تُضاهي الصلاة خلف رسول الله (ص)، والمسجد لا يسعنا.

فيقول: أنا مُرتاد لكم.

فيخرج إلى الغريِّ، فيخطُّ مسجداً له ألف باب، يسع الناس )(1) .

والمسجد الذي لا يسع المـُصلِّين، هو جامع الكوفة الكبير الذي كان أمير المؤمنين (ع) يُصلِّي فيه، والغريُّ هو النجف الأشرف الواقع جنوب الكوفة، وقوله: ( مرتاد لكم )، أي طالب ومُترقَّب لإجابة طلبكم.

ومن هنا نعرف أنَّ هذا المسجد يكون من أولى مُنجزاته العمرانية في العالم.

وهو يهتمُّ في كل مسجد أن يُطبِّق عليه الحكم الإسلامي الصحيح، حتى لو كان الحكم استحباباً غير إلزامي، حيث ينبغي أن يتربَّى المجتمع تدريجياً على الالتزام بالواجبات والمـُستحبَّات معاً، ليبلغ في نهاية المطاف درجة العصمة المطلوبة، فهو (ع) يهدم كل مسجد عالي البناء، ويقتصر منه على المقدار الراجح في الشريعة العادلة، قال الخبر: ( ولم يبقَ على وجه الأرض له شرف إلاَّ هدمها وجعلها جماء ).

ومن جملة الأعمال العُمرانية للمهدي (ع) في دولته - كما في الخبر - أنَّه يُوسِّع الطريق الأعظم، والمراد به الطريق الذي بين بلدتين، وليس في الخبر إشارة إلى طريق مُعيَّن، وإنَّما المراد أنَّه يقوم بتوسيع الطُّرقات المـُهمَّة التي تصل بين المدن عموماً.

____________________

(1) انظر غيبة الشيخ ص281، وإعلام الورى ص430.

٥٥٥

وإنَّنا في عصرنا الحاضر لنُدرك أهمِّيَّة هذا التوسيع، وجسامة العمل المـُنتج له أكثر من أيِّ وقت مضى.

ومن تشريعاته العُمرانية أنَّه يمنع الأجنحة إلى الطُّرقات، ويهدم الموجود منها.

والجناح في اللغة هو الروشن أو الكوَّة(1) ، فيكون المراد بها الشبابيك التي تُطلُّ من المنازل على الطُّرق، فتكشف ما في داخل المنزل ما لا يصحُّ كشفه في الشريعة العادلة، فيكون من الواجب إزالتها، وإبدال سبب التهوية بشيء جديد.

وقد يُفهم من الجناح أمر آخر، وهو البروز الذي يجعل عادة في البناء إلى جانب الطريق أو الشارع، أمَّا عن طريق الأعمدة أو بدونها، وهذا أنسب باستعارة الجناح ذوقاً، وإن لم يُنصَّ عليه لغةً، والمفهوم تقليدياً أنَّ المهدي (ع) يُحرِّم هذا النوع من البناء... غير أنَّه ليس من معاني الجناح لغةً.

ومن تشريعاته العُمرانية - كما نصَّ الخبر -: أنَّه يُبطل أي يمنع الكُنُف والمآزيب إلى الطُّرقات، والكُنُف بضمَّتين جمع كنيف، وهو البالوعة، والمراد بها مواسير المياه القذرة.

والمآزيب جمع ميزاب وهو معروف، وكلاهما مُستعمل بكثرة في عصرنا الحاضر، وهما موجبان لاتِّساخ الطُّرق وإزعاج المارَّة؛ ومن هنا يقوم الإمام (ع) بمنعها... ولابدَّ لأهل البيوت من تصريف مياههم بأساليب أكثر نظافة وتهذيباً.

الجهة الخامسة: في أهمَّية التعدين في الدولة المهدوية.

نصَّت الأخبار الواردة بطرق الفريقين، بأنَّ الأرض تُظهر معادنها وكنوزها على سطحها حتى يراها الناس، وتُلقي بأفلاذ أكبادها كأمثال الأُسطوانات من الذهب والفضَّة.

وهذا يمكن فَهْمه على أساس إعجازي، بمعنى يفترض أنَّ ظهور المعادن على سطح الأرض يكون عن طريق المعجزة، تأييداً من الله تعالى للمهدي ودولته.

وهذا الفهم المـُحتمل، على ما سوف يأتي... إلاَّ أنَّه ليس فَهْماً مُنحصراً، بل يمكن تقديم فَهْمٍ آخر، لا يكون الفهم الإعجازي بالقبول منه على أقل تقدير.

وهو أن نفهم الشكل الطبيعي لظهور المعادن، وهو استخراجها بالآلة، عن طريق تخطيط مُعيَّن، واهتمام خاصٍّ من قِبل الدولة، حتى تتوفَّر المعادن بأيدي الكثيرين للقيام بها في الصناعات، وإزجاء مُختلف الحاجات.

____________________

(1) انظر اقرب الموارد.

٥٥٦

ولا يخفانا في هذا الصدد، أنَّ تطبيق الحُكم الإسلامي على المعادن يجعلها مملوكة للأفراد لا للدولة، بخلاف القوانين الوضعية التي تعتبرها جميعاً ملكاً للدولة، كما أنَّه يجعلها مُنتشرة بأيدي الآلاف لا بأيدي عدد قليل من الناس.

وذلك، بأن نفترض أنَّ الدولة المهدوية هي التي توفِّر آلات الاستخراج الضخمة، مع تطبيق الحُكم الإسلامي القائل: إنَّ كل مَن استخرج شيئاً من المعدن يجب عليه أن يدفع خُمسه إلى الفقراء، وهو يملك المقدار الباقي، فيُنتج أنَّ آلاف العمَّال العاملين في المعادن سوف يملكون كمِّيات ضخمة من المعدن المـُستخرَج، وملايين من الفقراء سوف تنسدُّ حاجاتهم عن طريق دفع خُمس المقدار المـُستخرَج إليهم.

فإذا ضممنا إلى ذلك الحُكم الإسلامي القائل: بأنَّه لا يجوز للمـُستخرِج أن يزيد مقدار ما يستخرجه وما يملكه من المعدن، على قوت سنته، عرفنا أنَّه ليس من حقِّ أيِّ فرد من العاملين في المعدن أن يُثرى على حساب الآخرين، وإنَّما بمُجرَّد أن تصل ثروته إلى حدٍّ مُعيَّن، يفي بحاجته السنوية له ولعياله بما يُناسب حاله اجتماعياً، منعته الدولة عن الحصول على مقدار الزائد من المعدن، فإمَّا أن يعتزل العمل ويسمح لغيره بالاستخراج، لكي يملك من المعدن بهذا المقدار أيضاً، أو أن يعمل ويكون الناتج للدولة مباشرة.

وعلى أيِّ حال، فالدولة تملك الكمِّية الفائضة من المعادن عن كمِّيات العمَّال، وهي كمِّيات كبيرة، قد تزيد على ما ملكه العمَّال جميعاً بأضعاف كثيرة، وهذه الكمِّيات تستخدمها الدولة في صناعاتها وسدِّ احتياجات العمل فيها.

ومن هنا؛ تكون المعادن تحت الحُكم العادل قد أفادت - بطريق مباشر وغير مباشر - ملايين الناس، وأغنت ملايين العوائل في العالم.

الجهة السادسة: في السياسة المالية للدولة المهدوية، كما أشارت الأخبار، واقتضتها القواعد الإسلامية العامة.

وأول ما يواجهنا في الأخبار المـُستفيضة من الفريقين، هو ما نصَّت عليه من وفرة المال وكثرته، بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وأنَّ الأفراد كلَّهم يكونون من الغنى المالي، بحيث قد يكون للرجل زكاة أو صدقة، فيبحث عن الفقير لكي يُعطيها فلا يجد، فيعرضها على الناس فيرفضون أخذها استغناءً، وأنَّ الإمام المهدي (ع) يعرض الأموال أمام الناس، ويُعلن التوزيع المجَّاني، لكي يحمل كل فرد منهم ما يستطيع حمله، إلاَّ أنَّ الناس لا يرغبون به ولا يأخذون منه شيئاً،

٥٥٧

غير واحد يأتي ويأخذ ثمَّ يندم؛ لأنَّه أصبح الوحيد الطامع بالمال، ثمَّ يُحاول إرجاعه فيرفض طلبه.

وكلا هاتين الصورتين المعروضتين في الأخبار، صريحتان في شمول الغنى المالي الواسع لكل الناس في المجتمع، وأنَّ المال والذهب والفضَّة والأحجار الكريمة قد سقطت عن الرغبة الاجتماعية، باعتبار توفُّرها كالماء والتراب.

هذا، ولكنَّ هذه الأخبار تواجه بعض الأسئلة يحسن عرضها ومُحاولة الجواب عليها، وسنذكر كل سؤال في ناحية مُستقلَّة.

الناحية الأُولى: ما سبب تكدُّس المال وكثرته في الدولة المهدوية، سواء على مستوى الدولة أم الأفراد؟

وللجواب على ذلك عدَّة أُطروحات مُحتملة، لا بدَّ من عرضها وتمحيصها.

الأُطروحة الأُولى: توفُّر المال عن طريق المعجزة، ببركة الإمام (ع) ودعائه.

ولكنَّ هذه الأُطروحة لا تتمُّ لعدَّة اعتراضات، نذكر منها اثنين.

أولاً: إنَّها خلاف قانون المعجزات؛ من حيث إنَّه مهما أمكن توفُّر المال بالطريق الطبيعي لم يجز حمله على الوجود بسبب إعجازي، وإمكان فَهْم توفُّر المال بالطريق الطبيعي واضح، بعد الاطِّلاع على الأُطروحتين التاليتين.

ثانياً: إنَّ السياق العام لهذه الأخبار التي تذكر تكدُّس المال وكثرته، يُشير إلى عدالة النظام واستقامة الأمور إلى حدٍّ يتوفَّر المال بهذه الكثرة، ومن الواضح أنَّ افتراض توفُّر المال عن طريق المعجزة يُنافي هذا السياق، لإمكان وجود المعجزة - مع اقتضاء المصلحة - في أشدِّ الأنظمة ظلماً وفساداً.

وبتعبير آخر: إنَّ المال سوف يكون نتيجةً للمعجزة لا للنظام العادل، وهو خلاف ظاهر الأخبار؛ ومعه لا تكون هذه الأُطروحة صحيحة.

الأُطروحة الثانية: إنَّ المال يتوفَّر لدى الدولة، عن طريق ما تقوم به في الزراعة والصناعة والتعدين وغيرها من استثمارات، توجب توفُّر المال للدولة والفرد معاً.

وبهذه المشاريع يتوفَّر لدى الدولة المهدوية العالمية الاكتفاء الذاتي، بل زيادة المـُنتجات على الحاجات من ناحية، ويتوفَّر فيها زيادة على ذلك كمِّيَّة ضخمة من النقد، ليس لها مُنفِّذ ومصدر للصرف مُعيَّن، فإنَّ مصادر استهلاك المال - مهما تعدَّدت - فهي تعود إلى الحاجة،

٥٥٨

فحين تكون الحاجة مُنتفية في كل العالم، والدولة واحدة، والأمن مُستتبٌّ، والأُخوَّة عامة بين البشر، والحاجات الأوَّلية والثانوية والتربوية كلها مُستوفات، فيكون المال الزائد بلا مصدر مُعيَّن للصرف.

نعم، يمكن أن يذخر هذا المال لإنقاذ أيِّ منطقة من العالم، قد تُصبح محتاجة نتيجةً لظروف طبيعية طارئة، كالفيضان، أو الزلازل، أو الوباء أو غيرها، إلاَّ أنَّ نسبة حدوث ذلك سوف يكون أقلَّ بكثير من نسبة تزايد المال وتوفُّر النقد.

وهذه الأُطروحة صحيحة لا مانع من القول بصحَّتها.

الأُطروحة الثالثة: إنَّ توفُّر المال يكون عن طريق السيطرة على البنوك الكبرى في العالم، حيث يُعتبر أكثر المال الذي خُزِن فيها مغضوباً وحراماً غير مشروع لمَن سُجِّلت باسمه، من الناحية الإسلامية.

ومن ثَمَّ تقوم الدولة المهدوية بعدَّة خطوات في هذا الطريق، أهمُّها تأسيس نظام مصرفي جديد، قائم على الإيمان بحرمة الربح الربوي من ناحية، وعلى عدم تقبُّل المال ما لم يُحرز كونه مالاً حلالاً من الناحية الإسلامية لصاحبه، من ناحية ثانية.

ثمَّ تقوم الدولة بجرد البنوك التي كانت في عصر ما قبل الظهور، وتصفية حساب الأموال المذخورة فيها، فإن كانت الشرائط الجديدة غير مُتوفِّرة، أُخرج المال من البنك وصادرته الدولة؛ باعتبار كونه مجهول المالك، وهو يعود إلى الدولة الإسلامية في حُكم الإسلام، وإذا ثبت في مال أنَّه مُسجَّل لغير مالكه الحقيقي أُعيد إلى المالك.

إلاَّ أنَّ الأموال التي تحصل عليها الدولة عن هذا الطريق كثيرة، وقد تَرْبُو على عشرات الملايين، وإن كانت هناك كمِّيَّات ضخمة أُخرى، تبقى مُسجَّلة لأصحابها، باعتبارها مُستجمعة للشرائط المطلوبة.

وهذه الأُطروحة أيضاً لا مانع من القول بصحَّتها.

والظاهر أنَّ الدولة تحصل على الأموال عن كلا الطريقين، المـُبيَّنين في الأُطروحتين الثانية والثالثة، والمـُعتقَد أنَّ الأموال الفائضة نتيجةً للأُطروحة الثانية، ستكون أكثر بكثير من الأموال التي تحصل عليها الدولة نتيجةً للأُطروحة الثالثة، بالرغم من كثرتها في نفسها؛ ومعه تكون العمدة في كثرة الأموال هو الأُطروحة الثانية.

٥٥٩

الناحية الثانية: ما هو الهدف الذي يتوخَّاه الإمام المهدي (ع) من عرض الأموال للناس وتوزيعها عليهم مجَّاناً، كما أخبرتنا الأخبار؟

ويمكن أن نتصوَّر لذلك إحدى أُطروحتين مُحتملتين:

الأُطروحة الأُولى: أنَّ كمِّيَّة ضخمة من المال - كما سمعنا - تبقى من دون أن يتوقَّع لها مُنفِّذ مُعيَّن؛ ومن هنا يكون من المنطقي أن تُرصد للمـُحتاجين أفراداً ومجتمعات، على طول الخطِّ، يأخذ منها المحتاج - أيَّاً كان - بدون مقابل وبدون شروط، وبدون تحديد كمِّيَّة مُعيَّنة، مادام المقدار معقولاً ومنطقياً.

غير أنَّ الأخبار دلَّت - بوضوح - على عدم إقدام الناس للحصول على شيء من هذا المال؛ لعدم وجود المحتاج بأيِّ شكل من أشكاله في الدولة المهدوية العادلة، حتى إنَّ هذا الفرد الذي يأخذ المال ثمَّ يندم عليه، سيكون دافعه للأخذ هو الطمع وليس الحاجة؛ ومن هنا أمكنه التفكير بإرجاعه بدون حرج.

الأُطروحة الثانية: إنَّ دولة المهدي (ع) بعد أن تستتبَّ أساليبها وبرامجها في إغناء الناس وإسعادهم، حتى لا يبقى فقير على الإطلاق ولا مُشتاق على المال أصلاً، عندئذ تتعلَّق المصلحة ببيان ذلك، وإيضاحه أمام البشر أجمعين والتاريخ، وذلك بالقيام بتخطيط مُعيَّن مؤقَّت، وهو أن تُعدَّ الأموال الفائضة، ويُعلَن في الناس إعلاناً عاماً، بأنَّ مَن يريد أن يحصل على المال، فإنَّه يستطيع بمقدار ما يشاء، وحين لا يقبل الناس على أخذ المال، غير واحد فقط، يثبت بالضرورة أنَّ جميع الأفراد قد أصبحوا أغنياء ومُرفَّهين إلى حدٍّ انقطعت أطماعهم وتحقَّقت كل آمالهم.

فإذا استطعنا أن نتصوَّر أنَّ هذا التخطيط المـُعيَّن في كثير من بُلدان العالم، يبدأ به المهدي (ع) في العاصمة المركزية، ويُطبِّقه الحُكَّام المـُوزَّعون على الأرض كلٌّ في إقليمه... وإذا كانت الاستجابة من الناس هي نفسها أو مُقاربة في كل البلدان، حتى التي كانت مُعتادة على الجَشَع الرأسمالي... حينئذ نستطيع أن نُدرك كيف ولماذا أصبحت هذه التجربة هي المزيَّة الرئيسية للإمام المهدي (ع)، لم يستطع أحد قبله على الإطلاق أن يؤدِّيها، أو أن يُفكِّر فيها، فضلاً عن أن ينجح في أدائها... مهما كانت دعاوى العقائد المـُنحرفة السابقة على الظهور، ذات ضجيج وعجيج.

ومن هنا؛ نصَّت جملة من الأخبار على هذه المزيَّة بالتعيين، ولم تصف المهدي (ع) إلاَّ بها، كالذي أخرجه مسلم: ( يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعدُّه ). وما

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581