الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل3%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168834 / تحميل: 6104
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

سُورَة

فاطر

مكّية

وعَدَدُ آيَاتِها خَمس وأربعُون آية

٥
٦

سورة فاطر

محتوى السورة :

سمّيت هذه السورة بـ «فاطر» أو «الملائكة» لابتداء آياتها بآية ذكر فيها «فاطر» و «الملائكة». وهي من السور المكيّة ، مع أنّ البعض يستثني منها الآيات (٢٩ و ٣٢) ويعتبرها مدنية ، إلّا أنّنا لم نجد دليلا على صحّة هذا الاستثناء.

ولكونها مكية النّزول ، فانّ محتواها العام يعكس الملامح العامّة للسور المكية ، كالحديث في المبدأ والمعاد والتوحيد ، ودعوة الأنبياء ، وذكر نعم اللهعزوجل ومصير المجرمين يوم الجزاء.

ويمكن تلخيص آيات هذه السورة في خمسة أقسام :

١ ـ قسم مهم من آيات هذه السورة يتحدّث حول آثار عظمة الله في عالم الوجود ، وأدلّة التوحيد.

٢ ـ قسم آخر من آياتها يبحث في ربوبية الله وتدبيره لجميع امور العالم ، بالأخصّ امور الإنسان ، وعن خالقيته ورزاقيته ، وخلق الإنسان من التراب ومراحل تكامل الإنسان.

٣ ـ قسم آخر يتحدّث حول المعاد ونتائج الأعمال في الآخرة ، ورحمة الله الواسعة في الدنيا ، وسنّته الثابتة في المستكبرين.

٤ ـ قسم من الآيات يشير إلى مسألة قيادة الأنبياء وجهادهم الشديد والمتواصل ضدّ الأعداء المعاندين. ومواساة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الخصوص.

٥ ـ القسم الأخير منها يتعرّض للمواعظ والنصائح الإلهية فيما يخصّ المواضيع المذكورة أعلاه ، ويعتبر مكمّلا لها.

٧

بعض المفسّرين لخصّ جميع هذه السورة في موضوع واحد وهو : هيمنة وقهّارية الله في جميع الأمور(١) .

هذا الإعتبار وإن كان منسجما مع القسم الأعظم من آيات السورة ، إلّا أنّه لا يمكن إنكار وجود موضوعات مختلفة اخرى فيها.

فضيلة هذه السورة :

ورد في الحديث الشريف عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من قرأ سورة الملائكة ، دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنّة أنّ ادخل من أي الأبواب شئت»(٢) .

ومع الالتفات إلى ما نعلمه من أنّ أبواب الجنّة هي تلك العقائد والأعمال الصالحة التي سبّبت الوصول إلى الجنّة ، كما ورد في بعض الروايات من أنّ هناك بابا باسم «باب المجاهدين» أو أمثاله ، فيمكن أن تكون الرواية السالف ذكرها إشارة إلى أبواب القاعدة الاعتقادية الثلاثية الأساس «التوحيد ـ المعاد ـ النبوّة».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ «الحمدين : حمد سبأ ، وحمد فاطر ، من قرأهما في ليلة لم يزل في ليلته في حفظ الله وكلاءته ، فمن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه ، وأعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»(٣) .

ونقول كما قلنا سابقا بأنّ القرآن برنامج عمل ، وتلاوته بداية للتفكّر والإيمان الذي هو بدوره وسيلة للعمل بمحتوى الآيات ، وكلّ هذا الثواب العظيم يتحقّق بهذه الشروط «فتأمّل!!».

* * *

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، بداية سورة فاطر.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٩٩.

(٣) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٤٥ ، حديث ١.

٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) )

التّفسير

فاتح مغاليق الأبواب!

تبدأ هذه السورة ـ كما هو الحال في سورة الفاتحة وسبأ والكهف ـ بحمد الله والثناء عليه لخلقه هذا الكون الفسيح ، يقول تعالى :( الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

«فاطر» من مادّة «فطر» وأصله الشقّ طولا ، لأنّ خلق الموجودات يشبه شقّ

٩

ظلمة العدم وظهور نور الوجود ، استخدم هذا التعبير فيما يخصّ الخلق ، خصوصا إذا لا حظنا ما يقوله العلم الحديث من نظريات تشير إلى أنّ مجموعة عالم الوجود كانت في البدء كومة واحدة ثمّ انشقّت تدريجيّا عن بعضها.

وإطلاق كلمة «فاطر» على الله سبحانه وتعالى ، يعطي للكلمة مفهوما جديدا وأكثر وضوحا. نعم فنحن نحمد الله ونشكره على خالقيته ، لأنّ كلّ ما هو موجود منه تعالى ، وليس لأحد ممّن سواه شيء من ذاته(١) .

ولأنّ تدبير امور هذا العالم قد نيطت من قبل الباريعزوجل ـ بحكم كون عالمنا عالم أسباب ـ بعهدة الملائكة ، فالآية تنتقل مباشرة إلى الحديث في خلق الملائكة وقدراتها العظيمة التي وهبها الله إيّاها!

( جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

هنا تطرح ثلاثة أسئلة :

الأوّل : ما هي رسالة الملائكة التي ورد ذكرها في الآية؟ هل هي رسالة تشريعية وجلب الأوامر من الباري إلى الأنبياء ، أم أنّها رسالة تكوينية ، أي تحمّل مسئولية المأموريات المختلفة في عالم الخلق ، كما سترد الإشارة إليه لاحقا ، أم يقصد منه الاحتمالان؟

يتّضح من ملاحظة ما ورد في الجملة الاولى ، من الحديث حول خلق السموات والأرض ، وما ورد في الجملة الأخيرة من الحديث حول الأجنحة المتعدّدة للملائكة ، والتي تدلّ على قدرتهم ، وكذلك بملاحظة إطلاق مفهوم «الرسالة» بالنسبة إلى جميع الملائكة (يلاحظ أنّ الملائكة لفظة جمع لاقترانها بالألف واللام وتدلّ على العموم) يتّضح من ذلك كلّه أنّ المقصود من الرسالة

__________________

(١) فيما يخصّ معنى «فاطر» و «فطر» تحدّثنا في ذيل الآية العاشرة من سورة إبراهيم ، وكذلك في تفسير الآية (١٤) من سورة الأنعام.

١٠

مفهوم واسع يشمل كلا من «الرسالة التشريعيّة» و «الرسالة التكوينية».

إنّ إطلاق لفظه الرسالة على «الرسالة التشريعية» وإبلاغ الوحي إلى الأنبياء ورد في القرآن بكثرة ، وإطلاق هذه اللفظة أيضا على «الرسالة التكوينية» ليس بالقليل كذلك.

في الآية (٢١) من سورة يونس نقرأ( إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ) .

وفي الآية (٦١) من سورة الأنعام نقرأ( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) .

وفي الآية (٣١) من سورة العنكبوت ورد( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) .

وفي آيات اخرى من القرآن نرى أنّه قد عهد إلى الملائكة أيضا بمأموريات مختلفة عدّت من رسالاتهم أيضا ، وعليه فإنّ للرسالة مفهوما واسعا.

الثاني : ما هو المقصود بالأجنحة التي عبّر عنها بـ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) .

ليس من المستبعد أن يكون المقصود بالأجنحة هنا هو القدرة على الانتقال والتمكّن من الفعل ، بحيث يكون بعضهم أفضل من بعض وله قدرة أكبر.

وعليه فقد ذكرت لهم سلسلة من المراتب بالأجنحة ، فبعضهم له أربعة أجنحة (مثنى اثنان اثنان) ، والبعض له ستّة أجنحة ، والبعض ثمانية ، وهكذا.

«أجنحة» جمع (جناح) ما يستعين به الطائر على الطيران ، وهو بمثابة اليد في الإنسان ، ولأنّ الجناح في الطائر يستخدم كوسيلة مساعدة على الانتقال والحركة والفعّالية ، فقد استخدمت هذه الكلمة كناية عن وسيلة الحركة ذاتها وعامل القدرة والاستطاعة ، فمثلا يقال : إنّ فلانا احترقت أجنحته ، كناية عن فقدانه قدرة الحركة أو الإمكانية ، أو أنّ الإنسان يجب أن يطير بجناحي العلم والعمل ، والكثير من هذه التعبيرات التي تشير إلى المعنى المستعار لهذه الكلمة.

كما يلاحظ أنّ المقصود من تعبيرات مثل «العرش» و «الكرسي» و «اللوح» و

١١

«القلم» هي المفاهيم المعنوية لها ، وليس واقعها المادّي.

من الطبيعي أنّه لا يمكن حمل ألفاظ القرآن على غير معانيها الظاهرية بدون قرينة ، ولكن حيثما ظهر أثر لتلك القرائن فليس هناك مشكلة.

ورد في بعض الروايات أنّ «جبرئيل» رسول الوحي الإلهي ، له ستمائة جناح ، وكان يملأ ما بين الأرض والسماء حينما يلتقي به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

أو ما ورد في «نهج البلاغة» حينما تحدّث أمير المؤمنين عن عظمة الملائكة.

فقال : «ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم»(٢) .

أو أنّ هناك ملائكة ما بين شحمة آذانهم وعيونهم مسيرة خمسمائة عام من الطيران(٣) .

ومن الواضح انّ هذه التعبيرات لا يمكن حملها على البعد الجسماني والمادّي ، بل المراد بيان العظمة المعنوية وأبعاد القدرة.

ونعلم أنّ الجناح ـ عادة ـ يستفاد منه في جو الأرض ، لأنّ الأخيرة محاطة بغلاف غازي من الهواء الضاغط ، والطيور إنّما تستفيد من أمواج الهواء للطيران ، والارتفاع والانخفاض ، ولكن بمجرد خروجنا من المحيط الغازي للأرض حيث ينعدم الهواء فانّ الجناح ليس له أدنى تأثير في تحقيق الحركة ، ويكون حاله حال سائر الأعضاء.

ناهيك عن أنّ الملك الذي تكون أقدامه في أعماق الأرض ورأسه أعلى من أعلى السموات ، ليس له حاجة إلى الطيران الجسماني!!

البحث في هل أنّ «الملائكة» أجسام لطيفة أو من المجردات بحث آخر ،

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٤٩ ـ ح ٢٠.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة رقم ١.

(٣) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما نقله نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٤٩.

١٢

سنشير له في البحوث ان شاء الله. المقصود الآن هو أن نعلم أنّ الجناح والريش بالنسبة لها وسيلة الفعّالية والحركة والقدرة ، والذي عبّرت عنه القرائن المشار إليها أعلاه بقدر كاف ، بالضبط كما قلناه بالنسبة لـ «العرش» و «الكرسي» ، فانّ هاتين الكلمتين تشيران إلى قدرة الله في العالم من أبعاد مختلفة!!

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام «الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، وإنّما يعيشون بنسيم العرش»(١) .

السؤال الثالث : هل أنّ عبارة( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ) إشارة إلى زيادة أجنحة الملائكة؟ كما قال به بعض المفسّرين؟ أم أنّ لها معنى أوسع من ذلك بحيث يشمل عدا الزيادة في أجنحة الملائكة الزيادات التي تحصل في خلق الموجودات الاخرى؟

إطلاق الجملة من جهة ، ودلالة بعض الروايات التي جاءت في تفسير هذه الآيات من جهة اخرى ، يشير إلى أنّ المعنى الثاني هو الأنسب.

فمن جملة ما ورد ، حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الجملة أنّه قال : «هو الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والشعر الحسن».

ونقر في حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حسّنوا القرآن بأصواتكم فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا» وقرأ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ) .

بعد الحديث عن خالقية الله سبحانه وتعالى ، ورسالة الملائكة الذين هم واسطة الفيض الإلهي ، تنتقل الآيات إلى الحديث عن رحمة الله سبحانه ، والتي هي الأساس لكلّ عالم الوجود ، تقول الآية الكريمة :( ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

الخلاصة أنّ تمام خزائن الرحمة عنده ، وهو يشمل بها كلّ من يراه أهلا لها ، ويفتح أبوابها حيثما اقتضت حكمته ، ولن يستطيع الناس بأجمعهم أن يغلقوا ما

__________________

(١) في معنى «العرش» راجع شرحنا لهذه الكلمة في تفسير الآية (٥٤) من سورة الأعراف.

١٣

فتح ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، أو أن يفتحوا بابا أغلقه سبحانه وتعالى ، وهذا المفهوم في الحقيقة فرع مهم من بحث التوحيد حيث يتفرّع عنه فروع اخرى «تأمّل».

وقد ورد شبيه هذا المعنى في الآيات القرآنية الاخرى ، ففي الآية ١٠٧ ـ سورة يونس يقول تعالى :( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ التعبير بـ «يفتح» ـ من مادّة «فتح» ـ إشارة إلى وجود خزائن الرحمة الإلهية التي ورد ذكرها أيضا في آيات اخرى من القرآن الكريم ، والملفت للنظر أنّ هذه الخزائن بمجرّد فتحها تجري الرحمة على الخلائق بلا أدنى حاجة إلى شيء آخر ، وبدون أن يستطيع أحد منعها من ذلك.

وتقدّم مفهوم «فتح الرحمة» على «إمساكها» ، لأنّ رحمة الله تسبق غضبه دوما.

٢ ـ تعبير «الرحمة» له معنى واسع وشامل ، لكلّ المواهب الإلهيّة في الكون ، معنوية ومادية ، ولهذا السبب يحسّ المؤمن عند ما توصد أمامه جميع الأبواب بأنّ الرحمة تنساب في قلبه وروحه ، فيكون مسرورا وقانعا هادئا ومطمئنا ، حتّى وإنّ كان مأسورا في السجن.

وتارة ينعكس الحال ، وذلك حينما تكون جميع الأبواب الظاهرية مفتوحة أمام الإنسان ، ومع ذلك يحسّ في أعماقه بالضيق والضغط ويرى الدنيا على سعتها سجنا مظلما موحشا ، لمجرد عدم انفتاح باب الرحمة الإلهية في أعماقه. وهذا أمر محسوس وملموس للجميع.

٣ ـ استعمال صفتي «العزيز» و «الحكيم» لتوضيح قدرة الله سبحانه وتعالى

١٤

على «إرسال» و «إمساك» الرحمة ، وفي عين الحال إشارة إلى أنّ الفتح والإغلاق في أيّ وقت شاء تعالى إنّما هو على أساس الحكمة ، لأنّ قدرة الباري وحكمته مقرونتان.

وعلى كلّ حال فإنّ الانتفاع من محتوى هذه الآية ، يمنح الإنسان المؤمن هدوءا وسكينة ، ويجعله مقاوما لكلّ أنواع الحوادث ، ولا يخاف من المشاكل ، ويبعده عن الغرور في حال النجاح والفوز.

وتشير الآية التالية إلى «توحيد العبادة» على أساس «توحيد الخالقية والرازقية» فتقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) .

فكّروا مليا ما هو منشأ كلّ هذه المواهب والبركات والإمكانيات الحياتية التي قيّضت لكم( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) . فمن الذي يرسل عليكم من الشمس نورها الذي ينشر الحياة ، وحبّات المطر التي تحيي الموات ، والنسيم الذي ينعش الروح؟ ومن الذي يخرج لكم من الأرض معادنها وذخائرها وغذاءها وأنواع نباتاتها وثمارها وبركاتها الأخرى؟

فإذا علمتم أنّ مصدر كلّ هذه البركات هو الله ، فاعلموا أنّ :( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

وعليه فكيف تنحرفون عن طريق الحقّ إلى الباطل ، وتسجدون للأصنام بدلا من السجود لله سبحانه؟( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) .

«تؤفكون» : من مادّة «إفك» ، بمعنى «كلّ مصروف عن وجهه الذي يحقّ أن يكون عليه» ولذا قيل لكلّ حديث ينصرف عن الصدق في المقال إلى الكذب «إفك» وإن كان البعض يرى أنّ هذه الكلمة تطلق على الكذب الفاحش والتهمة الشنيعة.

* * *

١٥

«بحث»

الملائكة في القرآن الكريم :

تعرّض القرآن الكريم كثيرا لذكر الملائكة فقد تحدّثت آيات عديدة عن صفات ، خصائص ، مأموريات ، ووظائف الملائكة. حتّى أنّ القرآن الكريم جعل الإيمان بالملائكة مرادفا للإيمان بالله والأنبياء والكتب السماوية ، ممّا يدلّل على أهميّة هذه المسألة الأساسية.

( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) .(١)

وممّا لا شكّ فيه أنّ وجود الملائكة من الأمور الغيبية التي لا يمكن إثباتها بتلك الصفات والخصائص إلّا بالأدلّة النقلية ، ويجب الإيمان بها على أنه إيمان بالغيب.

وبالجملة يطرح القرآن الكريم خصائص الملائكة كما يلي :

١ ـ الملائكة موجودات عاقلة لها شعور ، وهم عباد مكرمون من عباد الله( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ) (٢) .

٢ ـ مطيعون لأوامر الله ولا يعصونه أبدا :( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٣) .

٣ ـ أنّ لهم وظائف مهمّة وكثيرة التنوّع كلّفوا بها من قبل الباريعزوجل .

مجموعة تحمّل العرش( وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) (٤) .

مجموعة تدبّر الأمر( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (٥) .

__________________

(١) البقرة ، ٢٨٥.

(٢) الأنبياء ، ٢٦.

(٣) الأنبياء ، ٢٧.

(٤) الحاقة ، ١٧.

(٥) النازعات ، ٥.

١٦

واخرى لقبض الأرواح( ... حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) (١) .

وآخرون يراقبون أعمال البشر( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) (٢) .

مجموعة تحفظ الإنسان من المخاطر والحوادث( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) (٣) .

واخرى مأمورة بإحلال العذاب والعقوبة على أقوام معيّنة( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) (٤)

وآخرون يمدّون المؤمنين حال الحرب( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) (٥) .

وأخيرا مجموعة لتبليغ رسالات الوحي وإنزال الكتب السماوية للأنبياء( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) .(٦)

ولو أردنا الاسترسال في ذكر وظائف الملائكة لطال البحث واتّسع.

٤ ـ الملائكة دائمو التسبيح والتقديس لله سبحانه وتعالى( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) (٧) .

٥ ـ وبناء على أنّ الإنسان بحسب استعداده للتكامل يمكنه أن يكون أعلى مقاما وأشرف موضعا من الملائكة فقد سجدت الملائكة بدون استثناء لخلق آدم ،

__________________

(١) الأعراف ، ٣٧.

(٢) الإنفطار ، ١٠ ـ ١٣.

(٣) الأنعام ، ٦١.

(٤) هود ، ٧٧.

(٥) الأحزاب ، ٩.

(٦) النحل ، ٢.

(٧) الشورى ، ٥.

١٧

وعدّوا آدم معلّما لهم «الآيات ٣٠ ـ ٣٤ سورة البقرة».

٦ ـ إنّ الملائكة يظهرون بصورة الإنسان للأنبياء وغير الأنبياء ، كما نقرأ في الآية (١٧) من سورة مريم :( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) .

كذلك يذكر القرآن الكريم تجلّيهم بصورة إنسان لإبراهيم ولوط (هود ـ ٦٩ و ٧٧) كما أنّه يستفاد من أواخر تلك الآيات أنّ قوم لوط أيضا رأوهم بتلك الصورة الإنسانية السوية «هود ـ ٧٨».

فهل أنّ ذلك الظهور بالشكل الإنساني ، له واقع عيني ، أم هو بصورة تمثّل وتصرّف في قوّة الإدراك؟ ظاهر الآيات القرآنية يشير إلى المعنى الأوّل ، وإن كان بعض من كبار المفسّرين قد اختار المعنى الثاني.

٧ ـ يستفاد من الروايات أنّ أعداد الملائكة كثيرة بحيث انّه لا يمكن مقايسة أعدادهم بالبشر بأي شكل من الأشكال ، فحينما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام : هل الملائكة أكثر أم بنو آدم؟ قال : «والذي نفسي بيده لملائكة الله في السموات أكثر من عدد التراب في الأرض ، وما في السماء موضع قدم إلّا وفيها ملك يسبّحه ويقدّسه ، ولا في الأرض شجرة ولا مدر إلّا وفيها ملك موكّل بها يأتي الله كلّ يوم بعملها والله أعلم بها ، وما منهم أحد إلّا ويتقرّب كلّ يوم إلى الله بولايتنا أهل البيت ، ويستغفر لمحبّينا ويلعن أعداءنا ، ويسأل الله أن يرسل عليهم العذاب إرسالا»(١) .

٨ ـ الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يتزوجون ، فقد ورد عن الإمام الصادق في حديث طويل قوله : «إنّ الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، وإنّما يعيشون بنسيم العرش»(٢) .

٩ ـ لا ينامون ولا يضعفون ولا يغفلون ، ففي الحديث عن أمير المؤمنين علي

__________________

(١) بحار الأنوار ، الجزء ٥٩ ، صفحة ١٧٦ حديث ٧.

(٢) المصدر السابق ، صفحة ١٧٤ ـ حديث ٤. وقد نقلت روايات متعدّدة في هذا الشأن فراجع.

١٨

بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام «وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك ، فليس فيهم فترة ولا عندهم غفلة ، ولا فيهم معصية هم أعلم خلقك بك ، ولا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، لم يسكنوا الأصلاب ولم تضمّهم الأرحام» الحديث(١) .

١٠ ـ إنّ لهم مقامات ، ومراتب متفاوتة( ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) (٢) .

وكذلك نقرأ في الحديث المذكور عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «وإنّ لله ملائكة ركعا إلى يوم القيمة ، وإنّ لله ملائكة سجدا إلى يوم القيامة»(٣) .

ولمزيد نقرأ في الحديث المذكور عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «وإنّ لله ملائكة ركعا إلى يوم القيامة ، وإنّ الله ملائكة سجدا إلى يوم القيامة» ٣.

ولمزيد الاطلاع على أوصاف الملائكة وأصنافهم يراجع كتاب «السماء والعالم» من بحار الأنوار ، أبواب الملائكة (المجلد ٥٩ ـ الصفحات ١٤٤ ـ إلى ٣٢٦) وكذلك نهج البلاغة الخطب (١ و ٩١ ـ خطبة الأشباح ـ و ١٠٩ و ١٧١).

هل أنّ الملائكة بتلك الأوصاف التي ذكرناها ، موجودات مجردة أم مادية؟

لا شكّ أنّ من غير الممكن أن تكون الملائكة بهذه الأوصاف من هذه المادّة الكثيفة ، ولكن لا مانع من أن تكون أجساما لطيفة الخلق ، أجساما فوق هذه المادّة المألوفة لنا.

إثبات (التجرد المطلق) للملائكة من الزمان والمكان والجزئية ، ليس بالأمر الهيّن ، والوصول إلى تلك النتيجة ليس وراءه كثير فائدة ، المهمّ هو أن نعرف الملائكة بالصفات التي وردت في القرآن والروايات الثابتة. وأنّها من الموجودات العلوية الراقية عند الله في مقامها ومكانتها ، ولا نعتقد لها بغير مقام العبودية لله سبحانه ، وأن نعلم بأنّ الإعتقاد بأنّها شريكة مع الله في أمر الله الخلق أو في العبادة كفر

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ١٧٥ ، ج ٦.

(٢) الصافات ، ١٦٤ ـ ١٦٦.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٥٩ ، صفحة ١٧٤ ـ حديث ٤.

١٩

محض وشرك بيّن.

نكتفي بهذا القدر من التفصيل حول الملائكة ونوكّل التفاصيل الأكثر إلى الكتب التي كتبت بهذا الشأن.

ونرى في الكثير من عبارات «التوراة» لدى الحديث عن الملائكة عبارة «الآلهة» وهو تعبير مشرك ومن علائم تحريف التوراة الحالية ، ولكن القرآن الكريم نقي من هذه التعبيرات ، لأنّه لا يرى لها سوى مقام العبودية والعبادة لله تعالى وإطاعة أوامره ، وحتّى أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته يتفوّق الإنسان الكامل على الملائكة في المرتبة والمقام.

* * *

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581