الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168965 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المستجدّة، أم في بحث السُنن والآداب الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة.

هل يمكن استفادة الجواز من دليل:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة) (1) ، والتدليل على شرعيّة الآداب والسُنن التي تُستحدث من قِبَل المتشرِّعة؟

هل يعطي هذا الدليل نوعاً من التخويل بيد المتشرِّعة؟ ثمّ ما هو محلّ هذه المنطقة من التشريع؟ هذا بحث مستقلّ، وسنرى أنّ هذه المنطقة التي فُوّض فيها التشريع تشمل بعض السُنن الاجتماعيّة المشروعة في دائرة معيّنة، في الوقت الذي مُنع التفويض في موارد أخرى.

أي سُوِّغ في بعض ومُنع في بعض آخر، وسوف نُبيّن أنّ هذه المنطقة هي نفس منطقة اتّخاذ الشعائر، وهي منطقة تطبيق العمومات أو العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع على المصاديق.

يُنقل أنّ الميرزا النوري (قدِّس سرّه) - صاحب كتاب مستدرك الوسائل - هو الذي شيّد سُنّة السير على الأقدام من النجف إلى كربلاء، بقصد زيارة سيّد الشهداء (عليه السلام) في الأربعين، وإن كانت الروايات تدلّ على العموم، مثل ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):(مَن أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشياً كتبَ الله له بكلّ خطوة ألف حسنةٍ، ومحى عنه ألف سيّئة، ورفعَ له ألف درجة..) (2) .

ولكن على صعيد سُنّة وطقس خاص: كالسير لزيارة النصف من رجب، والنصف من شعبان ونحو ذلك، قد تتفشّى وتنتشر سُنّة وعادة خاصّة

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) وسائل الشيعة 10: 342؛ كامل الزيارات: 133.

(2) من الجواب التفصيلي عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠١

لدى المؤمنين، فتُقرّر المشروعيّة بواسطة العموم الذي يشمل كلّ المصاديق، ويتناول المصاديق المحلّلة بالحلّيّة بالمعنى الأعم، أو قد يُعمّم تناوله للمحرّمة منها والمنجّزة كما مرّ.

خلاصة القول في النقطة الثالثة (1) :

إنّ الشارع إذا أمرَ بالمعنى العام الكلّي، فإنّه يُستفاد من ذلك التخيير أو الجواز الشرعي في التطبيق على الأفراد المتعدِّد، ومقتضى هذا التخيير والجواز هو التطبيق على الموارد والأفراد في الخصوصيّات المتعدّدة، مثل: ما إذا أمرَ الشارع بالصلاة، أو أمرَ ببرّ الوالدين، أو بمودّة ذوي القربى، أو أمرَ بفعل من الأفعال الكلّيّة، فيجوز تطبيق هذه الطبيعة الكلّيّة بالمعنى العام على أفراد الخصوصيّات في الموارد العديدة، باعتبار أنّ الشارع لم يُقيّد الفعل المأمور به بخصوصيّة أو بقيدٍ خاصّ معيّن، إلاّ أنّ هذا الجواز العقلي في تطبيق الطبيعة على الموارد والخصوصيات الكثيرة، لا يشمل موارد كون الأفراد محرّمة، فهذا الجواز والتخيير إنّما يُحدَّد بدائرة الأفراد المحلّلة.

فهذا حال العناوين الثانويّة التي تطرأ على المصاديق، ومثل: طروّ الصلاة على المصاديق قد يقال إنّها حالة ثانويّة، مثلاً: الصلاة حالة ثانويّة في الدار الغصبيّة، أو الصلاة في الأرض المخطورة، أو الأرض السبخة، على كلّ حال طروّ العنوان الكلّي على الأفراد المخصوصة يكون طروّاً ثانويّاً، والمفروض بمقتضى النقطة الأولى التي ذكرناها، وهي: أنّ للمكلّف التخيير في تطبيق الكلّي على موارد الأفراد العديدة، وبمقتضى النقطة الثانية ذكرنا

____________________

(1) من الجواب التفصيليّ عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠٢

أنّ الطبيعة الكلّيّة تكون حالة ثانويّة بالنسبة للأفراد وللخصوصيّات.

وبمقتضى النقطة الثالثة أيضاً، فالمفروض أنّ هذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا في جنبة الحكم، وهذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا يسوغ تطبيقه في الفرد الحرام؛ وإنّما يختصّ بدائرة الأفراد المحلّلة(1) .

وقد قرأتُ بعض كلمات الأعلام التي مؤدّاها: أنّ مثل إظهار الحزن والبكاء على مصاب الحسين (عليه السلام) إذا كان مصداقه لبس السواد - الذي هو مكروه في الصلاة مثلاً -، ومثل الشبيه وغيره، يسوغ اتّخاذه شعيرةً لإظهار الحزن على مصاب الحسين (عليه السلام)، فيُلاحظ في الكثير من فتاوى أساطين الفقه أنّهم سوّغوا اتّخاذها شعيرة، وحكموا بعدم الكراهة إذا كانت بعنوان الحزن، فانتهى البحث إلى ضرورة تحليل ضابطة التعارض وضابطة التزاحم؛ كي يتمّ تمحيص دائرة تطبيق العمومات للطبائع المأمور بها والمندوب إتيانها.

وإنّ دَيدن الفقهاء في الفتاوى المختصّة بالشعائر، والتي أشرنا إلى بعضها: هو التمييز بين التعارض والتزاحم للأدلّة ومعرفة الضابطة للتفرقة بينهما، حيث إنّه مع التعارض سوف يُزوى الدليل المبتلى بالتعارض عن التمسّك به كمستند ويسقط، وبعبارةٍ أخرى، سوف لا يكون مستنداً شرعيّاً، ولا مَدركاً شرعيّاً، وبالتالي ما يؤتى به من مصاديق تكون غير

____________________

(1) وقد ذهبَ بعض العلماء مثل: الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) وغيره إلى أكثر من ذلك، حيث عمّم دائرة تطبيق متعلّق الأمر على المصداق المحرّم فيما إذا كانت الحرمة غير منجّزة، بل يتناول العموم كذلك الفرد المحرّم المنجّز أيضاً، وإن امتنع الامتثال في الصورة الأخيرة؛ لكونه فاسداً، لبداهة امتناع التقرّب بالمصداق المحرّم.

١٠٣

شرعيّة.

وأمّا إذا بنينا على التزاحم، فلا يسبِّب ذلك سقوطاً للدليل، فيكون حكمه فعليّاً بفعليّة موضوعه، فيجوز الاستناد إليه شرعاً، فلابدّ من معرفة ضابطة التزاحم والتعارض في هذه النقطة الثالثة من الجهة الرابعة.

ضابطةُ التعارض والتزاحم

إنّ ثمرة هذه الضابطة هي معرفة الموارد التي ينعدمُ ويُلغى فيها الدليل، فيكون عملنا في المصداق بلا شرعيّة، ويُحكم عليه بالبدعيّة، بعكس ما إذا أثبتنا عدم التعارض ووجود الدليل بالفِعل، فيكون عملنا عملاً شرعيّاً ومستنِداً إلى مدارك شرعيّة.

وهذه الزاوية هي أحد الزوايا التي تدفع البدعيّة في المقام، وتُثبت الشرعيّة.

والضابطة: هي أنّ كلّ مورد يكون فيه بين الدليلين تنافياً وتضادّاً وتنافراً في عالَم الجعل والتشريع، مثل: طلب النقيضين كما في (صلّ)، و(لا تصلِّ) فهنا يتحقّق التعارض، وبعبارةٍ أخرى: أن يكون التنافي بين الدليلين غالبيّاً، أو دائميّاً على صعيد التنظير والإطار لطبيعة متعلّق كلّ من الدليلين، سواء كانت النسبة نسبة عموم وخصوص من وجه، أو عموم و خصوص مطلق، أو تباين، سوف يكون تعارضاً، أمّا التزاحم فهو أنّ التنافي والتنافر بين الدليلين ليس ناشئاً من عالَم الجعل والتشريع، وإنّما يطرأ في عالَم الامتثال والتطبيق، أي أنّ التنافي هنا ينشأ بين الدليلين من باب الصدفة والاتّفاق، مثل: تصادف وجوب امتثال إنقاذ الغريق بالمرور على أرض مغصوبة.

١٠٤

هذه هي الضابطة بين التعارض والتزاحم.

وحالات العلاقة بين الأدلّة هي حالات عديدة جدّاً، وبعنوان الفهرسة فقط نذكر أنّ هناك وروداً وتوارداً وحكومة في مقام التنظير ومؤدّى الدليل، أي هناك تعارض وتزاحم ملاكي، وتزاحم امتثالي وحكومة في مقام الامتثال أو إحرازه.

وهذه حالات عديدة لكن لا تعنينا الآن، بل يُعنينا في المقام هو التفرقة بين التعارض وعدمه من الحالات الأخرى.

أمّا حالات عدم التعارض فلها بحث آخر، والمهمّ التثبّت من عدم وجود تعارض في البَين؛ لأنّ التعارض سوف يؤدّي إلى إزواء وإسقاط أحد الدليلين أو كلا الدليلين عن المورد، فسوف يكون المصداق والتطبيق في ذلك المورد خِلواً من الدليل ومجرّداً عن الشرعيّة.

إذاً، الاتفاقيّة في تنافي الدليلين على صعيد المؤدّى الفرضي، والدائميّة هي ضابطة التعارض وعدم التعارض، ولذلك نجد في العديد من موارد اجتماع الأمر والنهي - التي هي عموم من وجه - أنّهم لا يلتزمون بالتعارض لاتّفاقية التنافي وعدم دائميّته، وموارد التضادّ أيضاً، ومسألة التزاحم في الامتثال بين الحُكمين - كالصلاة وتطهير المسجد - هي مسألة التلازم الاتّفاقي بامتثال أحدهما لترك الآخر واتّفاق التقارن لدليلين في ظرف واحد، تكون النسبة شبيهة بعمومٍ وخصوص من وجه أيضاً، لكنّها اتّفاقيّة وليست بدائميّة.

وليست الدائميّة والاتفاقيّة بلحاظ الزمن - كما قد يتبادر في الذهن - بل المراد هو أنّ نفس مفاد الدليلين في أنفسهما - بغضّ النظر عن التطبيق الخارجي، وبغضّ النظر عن الممارسة الخارجيّة والمصداق الخارجي - يتحقّق بينها تنافي وتنافر. الدليلان في نفسيهما لو وضعتهما في بوتقة الدلالة وبوتقة التنظير والمفاد الفرضي، يحصل التنافي بينهما.

وتارةً الدليلان في نفسيهما في عالَم الدلالة وأُفق الدلالة وأُفق المفاد، أي بلحاظ الأجزاء الذاتيّة لماهيّة متعلّق الدليلين هناك نقطة تلاقي واتّحاد بين المتعلّقين، مع كون حكميهما متنافيين، أي بلحاظ إطار طبيعة كلّ من متعلّق الحُكمين، بغضّ النظر عن التطبيق والمصداق والممارسة الخارجيّة، نفس مؤدّى دلالة الدليلين ليس بينهما تنافٍ؛ وإنّما نَشأ التنافي من ممارسة خارجيّة، أي من وحدة الوجود لا من وحدة بعض أجزاء الماهيّة، فإن كان التنافي نشأ من ممارسة خارجيّة فيُقرّر أنّ التنافي اتفاقي، وإن كانت الممارسة طويلة الأمد في عمود الزمان، لكنّها ليست من شؤون الدلالة والتقنين وإنشاء القانون، فليس هناك تكاذب في الجعل، وأمّا إذا كانت بلحاظ نفس مؤدّى ماهيّة كلّ من المتعلّقين ودلالة الدليلين فهو من التعارض.

١٠٥

وإنّ مبنى المشهور شهرة عظيمة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم - مثل: الضرر، الحرج، الاضطرار، الإكراه، النسيان، وغيرها - نسبتها مع الأحكام الأوّليّة ليست نسبة التعارض، بل نسبة التزاحم، ويُعبّرون عنها بأنّها (حاكمة) على أدلّة الأحكام الأوّليّة، يعني حاكمة في صورة الدلالة، أو واردة في صورة الدلالة، لكنّ هذه الحكومة أو الورود في صورة الدلالة هي لُبّاً تزاحم.

ومن ثمرات هذه الضابطة التي تميّز التعارض عن عدم التعارض، والاتفاقيّة والدائميّة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم والأحكام الأوّليّة هي نسبة اتفاقيّة؛ لأنّ الضرر، أو الحرج، أو النسيان، أو الإكراه نشأ بسبب الممارسة الخارجيّة، وإلاّ ففي الفرض التقرّري لمعنى وماهيّة مؤدّى كِلا الدليلين، يتبيّن أنّه لا تصادُم بين دليل الإكراه أو الضرر - مثلاً - وبين أدلّة الأحكام الأوّليّة، وهذا دليل على أنّ التنافي ليس بسبب الدلالة؛ وإنّما هو بسبب الممارسة الخارجيّة وفي عالَم الامتثال.

بخلاف ما إذا كان التنافي والتصادم دائميّاً وغالبيّاً فهو تعارضي.

فبمقتضى النقطة الثانية: أنّ هذه العناوين الكلّيّة حالات ثانويّة في المصداق، لكنّ ملاكها أوّلي، فتكون ملاكاً أوّليّاً للمصاديق، وإن كانت حالات ثانويّة في المصداق، فكونها ثانويّة في المصداق، لا يُتوهّم ويُتخيّل منه أنّها ثانويّة واستثنائيّة وشاذّة الملاك، بل حكمها أوّلي؛ إنّما هي ثانويّة الموضوع، هذا بمقتضى النقطة الثانية.

١٠٦

وبمقتضى النقطة الثالثة: أنّ الشرعيّة باقية وإن كان المصداق حكمه الكراهة، فضلاً عن الاستحباب , وفضلاً عن الإباحة، وفضلاً عن الوجوب.

بل ولو كان المصداق محرّماً إذا كان غير منجزّ، ويكون حينئذٍ من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، سواء مع المندوحة أو بدونها(1) ، بل في تصوير بعض الأعلام ولو كان منجّزاً(2) بشرط الاتفاقيّة في التصادق.

والمفروض أنّ اتّخاذ الشعائر - وسُبل ووسائل الإنذار، والبثّ الديني ووسائل إعزاز وإعلاء الدين - اتفاقي بلحاظ تقرّر معنى ومؤدّى الدليلَين - دليل الشعائر ودليل الحرمة -؛ لأنّ التصادق بسبب الخارج، وهو ليس بدائمي.

فمن ثُمّ نقول في الجهة الرابعة، إنّنا لو سلّمنا بنظريّة القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، فلن ننتهي إلى النتيجة التي يأمل أن يصل إليها، وهي الحُكم على الشعائر المستجدّة المُستحدَثة بأنّها بدعة، بل يحكم عليها بمحض الدليل بالشرعيّة، لمَا بيّنّاه من الفَرق بين البدعيّة والشرعيّة.

وإنّ البدعيّة أحد ضوابطها إزواء الدليل وسقوط حجّيّته عن التأثير في ذلك

____________________

(1) إذا كان الأمر هو (صلّ)، والنهي (لا تغصب)، فمع المندوحة: أي مع فرض التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة وأداء الصلاة في مكان آخر (والمندوحة معناها: التمكّن والمجال والسعة)، لا يتحقّق التزاحم أصلاً.

أمّا بدون المندوحة: فهي في فرض عدم التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة، فهنا يتحقّق التزاحم؛ لعدم إمكان امتثال الحُكمين معاً فيُقدّم الأهمّ منها.

(2) مثل: وجوب الصلاة وحرمة الغصب، غاية الأمر أنّ تنجّز الغصب يمانع من صحّة الصلاة، ولا يُمانع من شمول الأمر بالصلاة للفرد الغصبي، وقد ذهبَ إلى ذلك الميرزا القمّي (قدِّس سرّه).

١٠٧

المصداق في مجال التطبيق، أمّا إذا لم يسقط الدليل وشملَ وعمّ وتناول ذلك المصداق، فسوف يكون هناك تمام الشرعيّة وفقاً لمَا بيّنّاه عبر النقاط الثلاث الآنفة الذكر.

هذا تمام الكلام في الجواب التفصيليّ الأوّل عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف، وكما يظهر منه أنّه جوابٌ نقضي.

الجوابُ التفصيلي الثاني (1) :

عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العرف، وهو جواب مبنائي وحلّي لنقوض المعترِض: وهو أنّ القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة استندَ إلى عدّة أدلّة(2) ذكرناها سابقاً، مثل: استلزام ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنّ ذلك يستلزم اتّساع الشريعة، وغير ذلك من الوجوه التي استند إليها المُستدل.

ومن الواضح أنّ هذه الوجوه يمكن الردّ عليها بما يلي:

أوّلاً: تحريم الحلال وتحليل الحرام إن كان بمعنى أن يتّخذ المكلّف أو المتشرّعة فعلاً ومصداقاً خارجيّاً حراماً، أو يتّخذوه حلالاً من دون دليل شرعي، فحينئذٍ يصدق تحريم الحلال وبالعكس، ويثبت الاعتراض.

لكن إذا استندوا إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ حيث لا يُنسب التحريم والتحليل إليهم؛ وإنّما المحلّل والمحرّم هو المَدرك والدليل الشرعي.

مثلاً في باب النذر: قد يُحرّم الإنسان على نفسه الحلال بواسطة النذر

____________________

(1) الجواب الأوّل تراجعه بملاحظة ص 78 من هذا الكتاب.

(2) راجع ص 79 من هذا الكتاب.

١٠٨

لغرضٍ راجح.

وفي باب الاضطرار يُحلَّل الحرام فيما إذا كان الحرام مضطرّاً إليه وما شابه.

فهنا يستند إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ إذ يؤول ويؤوب في نهاية الأمر إلى أنّ التحليل والتشريع إنّما هو بيد الشارع وليس بيد المكلّف؛ لأنّ المفروض أنّه استندَ إلى دليل شرعي، وإلاّ سوف تجري هذه الشبهة - شبهة التحليل والتحريم - بغير ما أنزلَ الله سبحانه، حتّى في الصلاة إذا صلاّها الإنسان في مكانٍ مباح، والكون في المسجد، أو في البيت، أو في الصحراء، هذا الوجود والكون حلال، لكن بما أنّه مصداق للصلاة فيكون واجباً، فهل هذا تحريم للحلال؟!

أو هناك شيء محرّم، لكن بسبب الاضطرار أو غيره أصبح حلالاً، فتحليل الحرام هنا ليس من قِبَل المكلّف، كلاّ، التحريم هو من قِبَل الشارع.

التشريعُ بين التطبيق والبِدعة

وذكرنا أنّ بيت القصيد وعَصب البحث هو بحث إزواء وسقوط الدليل وعدم سقوطه، فإذا فرغنا وانتهينا من ذلك سوف تسهل بقيّة المباحث، مع الالتفات إلى النقاط الثلاث السابقة، إذ لابدّ لنا من إيصال الدليل وشموليّته للمصداق، هذا بالنسبة إلى تحريم الحلال و تحليل الحرام.

وأمّا بالنسبة إلى الدليل الآخر: من أنّ هذا فتح لباب التشريع وجعله بيد المكلّف والمتشرِّعة فلا يخفى ضعفه؛ لأنّ المتشرّعة لا يُفوّض إليهم التشريع، إذ

١٠٩

من المفروض أنّ باب التطبيق ليس فيه تفويض للتشريع، ومثاله الواضح في قوانين الدولة حينما يشكِّل دستور أوّلي مشتمل على قانون من القوانين الوضعيّة، مثلاً يشتمل الدستور على مائتي مادّة، ثُمّ بعد ذلك تُفوّض الدولة وتُنزّل تلك المواد الدستوريّة إلى المجالس النيابيّة في الشُعَب المختلفة، ثُمّ تتنزّل هذه القوانين المتوسطة الشُعبيّة إلى درجات أنزل، أي إلى الوزارات والإدارات المختلفة، فحينئذٍ يصبح هناك تعميم وزاري أنزل وأدون بتوسّط لوائح داخليّة، ثُمّ تُخوّل الوزارات المؤسّسات التجاريّة والاقتصاديّة والأندية السياسيّة والحقوقيّة والمؤسّسات.

كلّ ذلك حقيقته يرجع إلى نوع من التشريع، وهذا البعد الذي تُخوّله الوزارات إلى عموم شرائح المجتمع من فئات سياسيّة، أو تجاريّة، أو اقتصاديّة، أو حقوقيّة، أو غيرها، هذا التخويل ليس تشريعاً مذموماً، ولا يصدق عليه البدعة أو الإحداث في القانون أو التبديل في الشريعة، بل هو نوع من تطبيق القوانين، لكن ليس تطبيق القوانين الفوقانيّة جدّاً، ولا المتوسّطة، بل هو بمثابة تطبيق النازلة التحتانيّة على المصاديق.

فالمتشرّعة لا يُنشئون الأحكام الشرعيّة الفوقانيّة، بل الأحكام الفوقانيّة الكلّيّة هي على حالها، والذي يحصل من المتشرّعة هو تطبيق تلك القوانين الكلّيّة، والتطبيق ليس نوعاً من التشريع، بل هو نوع من الممارسة التي أذِن الشارع فيها، كما في موارد كثيرة حيث يأمر الشارع بعناوين عامّة ويُوكل جانب التطبيق ويُخوّله إلى المتشرّعة، سواء المتشرِّعة على صعيد فردي، أو على صعيد جماعات، أو على صعيد حاكم، وهكذا.

١١٠

وذكرنا أنّ هذا المقدار من التخويل في التشريع مع التطبيق لابدّ منه في أيّ قانون، حتّى في القوانين الوضعيّة(1) ، ولابدّ من الأخذ بالاعتبار أنّ القانون - مهما بلغَ من التنزّل - يبقى له جهة كلّيّة، وله جهة عامّة، وليس مخصوصاً بجزئي حقيقي ومصداق متشخّص فيبقى كلّيّاً ويبقى تنظيريّاً، وإذا بقي كذلك فمقام التطبيق الأخير لابدّ حينئذٍ من أن يكون بيد المكلّف، فجانب التطبيق ليس فيه نوع من التشريع المنكر، أو القبيح في حكم العقل، أو في حكم الوضع، بل هو نوع من التطبيق الذي لابدّ منه في كلّ القوانين.

مراتبُ تنزّل القانون

وهنا لفتة لا بأس من الإشارة إليها، وهي: أنّ بعض القوانين - سواء القانون الوضعي، أو القانون السماوي - يتكفّل الشارع أو المُقنّن بنفسه تنزيلها إلى

____________________

(1) وهنا قد يتبادر تساؤل، وهو: هل يمكن قياس التشريع الإلهي بالقانون الوضعي؟

والجواب: أنّ لغة القانون والاعتبار لغة ينطوي في مبادئها التصوّريّة والتصديقيّة، أنّها لغة موحّدة بين التقنين السماوي والوضعي إلاّ ما دلّ الدليل على الخلاف، ومن ثُمّ ترى علماء الأصول والفقهاء يبنون على وحدة معاني وماهيّات العناوين المستخدمة كآلة قانونيّة، في العرف العقلائي مع العرف الشرعي إلاّ ما استثناه الدليل، وبعبارة أخرى: كما أنّ الشارع لم يستحدث لغة لسانيّة جديدة في صعيد حواره مع الأُمّة المخاطَبة، فكذلك لم يستحدث لغة اعتباريّة قانونيّة جديدة في صعيد التخاطب القانوني التشريعي، وإن كانت تشريعات الشرع المبين مغايرة لتشريعات العرف البشري؛ فإنّ ذلك على صعيد المسائل التفصيليّة وتصديقاتها، لا على صعيد مبادئ اللغة القانونيّة: كمعنى الموضوع، ومعنى الحكم من الوجوب، والحرمة، والملكيّة، والصحّة، والبطلان، والحُجّيّة ونحوها.

١١١

درجات، وبعض المواد قد ترى أنّ الشارع قد أبقاها على وضعها الكلّي الفوقاني.

فالمواد الكلّيّة القانونيّة على أنحاء:

بعضها عمومات فوقانيّة جدّاً، وبعضها كلّيّات فوقانيّة متوسّطة، وبعضها كلّيّات تحتانيّة متنزّلة، فالمواد القانونيّة مختلفة المراتب، ومتفاوتة الدرجات.

وكيفيّة إيكال الشارع وتطبيقه لهذه المواد يختلف بحسب طبيعة المادّة وطبيعة المتعلّق لتلك المادة القانونيّة، وبحسب طبيعة الموضوع.

قاعدةُ اتّخاذ السُّنّة الحَسنة

فعلى ضوء ذلك، لا مانع عقلاً ولا شرعاً في تخويل المتشرِّعة في التطبيق لا سيّما في العمومات المتنزلّة، وبالمناسبة هنا نشير إلى معنى القاعدة المنصوصة المستفيضة عند الفريقين:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها) (1) ، وهو حديث نبوي مستفيض بين الفريقين العامّة والخاصّة، وهو قاعدة مسلّمة.

فما هو المائز بينها وبين قاعدة حرمة البدعة والبدعيّة؟

المائز والفارق: هو أنّ كلّ مورد يوجد فيه عموم يمكن أن يستند إليه المكلّف أو المتشرّعة، هذا أوّلاً،

وثانياً: يوكَل تطبيقه وإيقاعه إلى المكلّف أو إلى المتشرّعة، فيكون مشمولاً للحديث السابق:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة...) بخلاف البدعة التي هي في

____________________

(1) انظر: سُنن ابن ماجة 1: 74 / ح 203، المعجم الكبير للطبراني 2: 315 / ح 2312؛ و 22: 74 / ح 184.

١١٢

مورد إنشاء تشريع فردي أو اجتماعي، من دون الاستناد إلى دليل فوقاني، أو إلى عموم معيّن.

فالفارق بين مؤدّى:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة) وبين موارد حرمة البدعة: هو أنّ موارد حرمة البدعة لا يستند فيها إلى دليل، وتشريع معيّن، بينما في موارد السُنّة الحسنة وإنشاء العادات الدينيّة في المجتمع والأعراف ذات الطابع الاجتماعي، يستند فيها إلى دليل شرعي.

والعبارة الأخرى:(ومَن سَنّ سُنّة سيئة) (1) ، معناها ظاهر بمقتضى المقابلة، حيث يكون سبباً لنشر الرذائل بين الناس لدرجة تتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة، أي تطبيق الحرمة بشكل مُنتشر وكظاهرة اجتماعيّة، وهذا عليه الوزر المضاعف.

إذاً، استحداث سُنّة حَسنة بالشروط السابقة ليس بتفويض ممقوت أو مكروه؛ إنّما التفويض الباطل هو أن يشرِّع المتشرّعة تشريعاً ابتدائيّاً، ومن حصول هذا التفويض في التشريع المتنزّل في قاعدة الشعائر الدينيّة وفي قاعدة(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة) ، يُقرّر وجهان إضافيّان لأدلّة الولاية التشريعيّة للنبي والأئمّة (عليهم السلام) المنزِّلة للأصول التشريعيّة الإلهيّة.

لمحةٌ حول الولاية التشريعيّة

ولهذا البحث صلة ببحث منطقة الولاية التشريعيّة المفوّضة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام)، تمييزاً عن التشريع الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى.

____________________

(1) المصدر السابق.

١١٣

وهذا غير ما يُخوّل به المتشرّعة، الذي هو نوع تطبيقي محض في جانب المتشرّعة.

كما وردت في ذلك بعض الآيات مثل:( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) ، وقوله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وغيرها، والروايات العديدة التي تُثبت الولاية التشريعيّة لهم.

وللتفرقة بين المقامين لأجل بيان حقيقة التطبيق المسموح به للمتشرِّعة، تفريقاً له عمّا فُوّض به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام): هو أنّه في عالَم التقنين، سواء الوضعي ولغة القانون، أو لغة الشريعة السماويّة، أنّ العمومات الفوقانيّة يكون تنزّلها قهريّاً انطباقيّاً مصداقيّاً، وهناك بعض العمومات المسمّاة بالأصول القانونيّة والأصول والأُسس التشريعيّة، لا تتنزّل بنفسها بتنزّل قهري عقلي تكويني، بل لا تتنزّل هذه العمومات الفوقانيّة القانونيّة إلاّ بجعلٍ قانوني.

وهذه الظاهرة من ضروريّات القانون، هذا التشريع والجعل - الموجِب لتنزّل الأصول القانونيّة بمعنى تنزيل تشريعات الله عزّ وجلّ إلى تشريعات تنزّليّة - نظير ما هو موجود الآن في المجالس النيابيّة، إذ لا يمكن للمادّة الدستوريّة أن تُعطى بيد رئيس الوزراء، فضلاً عن أن تُعطى بيد موظف في الوزارة، وفضلاً عن أن تُعطى بيد عامّة المجتمع، بل المادّة الدستوريّة لابدّ لها من تنزيل بواسطة المجلس النيابي بعد أن ينزِّلها المجلس النيابي بتنزيلات عديدة، ثُمّ تُعطى بيد الوزير أو بيد رئيس الوزراء، ولابدّ أن تُنزّل بتوسّط الوزير والوزارة أيضاً إلى

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) الأحزاب: 21.

١١٤

الشُعَب الوزاريّة بتنزّلات أخرى، ثُمّ تُعطى بيد عامّة المجتمع، فهذا السِنخ من التنزّلات ليس من قبيل ما طرقَ أسماعنا وشاع في أذهاننا،من كونها تطبيقات قهريّة مصداقيّة عقليّة تكوينيّة، كلاّ، بل هي من قبيل تطبيقات جعليّة بجعول قانونيّة، إذ لابدّ من جعل قانوني ينزِّل هذه المادّة ويُعدّها للتطبيق، وبعض المواد القانونيّة تكون خاصيّتها كذلك، وبعضها لا تكون خاصيّتها كذلك.

والذي فُوّض إلى المكلّف أو المتشرّع هو غير سنخ ما يُوكل ويفوّض إلى النبي والأئمّة (عليهم السلام) في التشريع؛ إنّما هو سنخ تطبيقي ساذج بسيط، وهو تطبيق قهري تنزّلي عقلي، بخلاف المنطقة التي يُفوّض بها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إلى الأئمّة (عليهم السلام)، فتلك تحتاج إلى جعول وتقنينات أخرى تنزيليّة، نظير ما هو موجود في المجالس النيابيّة، نقول هو نظيره وليس هو عينه، إذ التمثيل إنّما هو من جهة لا من كلّ الجهات، وإلاّ فالمجالس النيابيّة تسمّى القوّة التشريعيّة، وهي التي يكون على كاهلها وفي عهدتها تنزيل المواد الدستوريّة، ثُمّ تُدلي بها إلى القوّة التنفيذيّة الإجرائيّة.

إذاً، لا بدّ من تخويل تشريعي في المجلس النيابي، إذ إنّ بعض الكلّيّات الفوقانيّة الأمّ لا يمكن أن تتنزّل إلى عامّة المكلّفين وعامّة المجتمع بتوسّط نفس المادّة الدستوريّة، فلابدّ من تفويض مرجع ومصدر له صلاحيّة تشريعيّة، وهذا اصطلاح في علم الأصول، وهو أنّ لدينا عمومات فوقانيّة تختلف عن العمومات الفوقانيّة الرائجة، التي هي تتنزّل بتنزّل قهري تطبيقي، هناك عمومات فوقانيّة لا تتنزّل إلاّ بجعول تطبيقيّة.

١١٥

بعضُ الفوارق بين صلاحيّة التفويض للأئمّة (عليهم السلام) والقوانين الوضعيّة

وهذا - كما يُقال - تشبيه من جهة وليس من جميع الجهات كل جهة، إذ هناك عدّة من الفوارق، نُشير إلى جملة منها:

الأوّل: إنّ الدستور بتمامه ليس إلاّ بعض أبواب الفقه في فروع الدين، فضلاً عن أصول ومعارف الدين.

الثاني: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة يمكن نسخها بمصوّبات المجالس النيابيّة اللاحقة، فضلاً عن المصوّبات القانونيّة الوزاريّة، وهذا بخلاف التشريعات النبويّة؛ فإنّها لا تنسخ من غيره، وكذلك سُنن وأحكام المعصوم لا تنسخ من غير المعصوم.

الثالث: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة لا تعدو الأنظار الظنّيّة القابلة للخطأ والصواب، بخلاف تشريعات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوصي؛ فإنّها من عين العصمة والعلم اللدنّي.

وغيرها من الفوارق المذكورة في مظانّها.

فهذه هي العمومات الفوقانيّة التي لا تتنزّل إلاّ بجعول تنزيليّة أخرى(1) ، وهي غير التطبيق الساذج الذي أُوكلَ إلى عامّة المكلّفين، الذي هو تطبيق محض ليس فيه أيّ شائبة جعل أو تشريع أو ولاية تشريعيّة، بل هو نوع من التطبيق الساذج.

____________________

(1) وقد ذكرهُ الأستاذ المحاضر بشرح مفصّل في خاتمة كتابه (العقل العملي) ص: 377.

١١٦

فهذا جواب المحذور الثاني الذي ذكره المُستدل.

وإلاّ لكان كلّ تطبيقات وأداء العمومات الكلّيّة من قِبَل المتشرّعة نوعاً من التشريع، فيخلط بين ما هو مشروع وما هو تشريع، وبين ما هو بدعة وما هو شرعي، فلابدّ من معرفة الفرق بين الشرعي والبدعيّة.

ويفرِّط القائل بحماية الدين من البِدَع، والمتشدّد بقاعدة البدعة بتوهّم حراسة الشريعة، حيث يقع في المحذور الذي حاولَ الفرار منه؛ لأنّ طمس الشرعيّات هو نوع من البدعة وضربٌ من الإحداث في الدين.

وينبغي المحافظة على حدود الفوارق بين هذين الأمرين، ومعرفة الفيصل بين ما هو شرعي وبين ما هو بدعي؛ لأنّ طغيان البدعي على الشرعي هو بحدّ ذاته بدعةٌ أيضاً.

تعريفُ البدعة

البدعة لها تعاريف عديدة، منها: النسبة إلى الله ما لم يشرّعه، أو النسبة إليه ما لم يأمر به وينهى عنه، أو ما لم يحكم به.

أو هي: إدخال في الدين ما ليس في الدين.

وهذا المعنى الأخير لا يمكن الإلمام به إلاّ بعد الإحاطة بكلّ شؤون التشريع، كي نعلم أنّ التشريع منتفي أو غير منتفٍ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع البدعة عدم التشريع وعدم الجعل الشرعي.

فليس من السهولة أن نعرف موارد البدعة، من دون الإلمام بكلّ عالَم القانون ومشجّرة التشريع وشؤونهما المختلفة.

١١٧

ومن دون معرفة كافية - وعلى مستوى واسع وعميق - بالشريعة وبموازينها وأُسسها وقوانينها، ليس من السهل إطلاق البدعيّة على موردٍ من الموارد.

وما نحن فيه هو إعطاء حقّ تطبيق المعاني والعناوين الكلّيّة الواردة في الأدلّة العامّة بيد المتشرِّعة، وهذا لا يمتّ إلى البدعة بأيّ صلة.

جواب المحذور الثالث:

والمحذور الثالث الذي ذكره القائل كدليل على أنّ قاعدة الشعائر الدينيّة لا بدّ أن تكون حقيقة شرعيّة وليست حقيقة لغويّة: هو استلزام اتساع الشريعة وزيادتها عمّا كانت عليه، إذ سوف تتبدّل رسومها - لا سمحَ الله - وتتبدّل أعلامها وملامحها، حيث تُتّخذ شعائر كثيرة ومتنوّعة إلى حدّ تطغى معه على ما هي عليه الشريعة من ثوابت ومن حالة أوّليّة.

هذا هو المحذور، وهو ليس دليلاً على أنّها حقيقة شرعيّة، بل هو دليل على أنّها حقيقة لغويّة، والسرّ في ذلك: هو أنّ هذا الاتّساع والتضخّم والانتشار الذي يتخوّف ويحذر منه المستدل، على قسمين:

أ) إن كان اتّساعاً وانتشاراً للشريعة، فهذا ممّا تدعو إليه نفس الآيات القرآنيّة التي ذكرناها، والدالّة على نفس قاعدة الشعائر الدينيّة، وقد صنّفناها من أدلّة الصنف الثاني، مثل آية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ... ) فالله عزّ وجل يريد أن يتمّ نوره، أن يبثّه وأن ينشره، وكذلك آية:( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ... ) فالله سبحانه وتعالى يريد إظهار الدين.

وكذلك:( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) يريد

١١٨

السموّ والعلو ورفرفة المعالم والأعلام الدينيّة، وهذا الانتشار لابدّ منه، ولابدّ أنّ له آليّاته المتنوّعة وأساليبه المختلفة، ومن أساليبه اتّخاذ الشعائر التي تؤدّي إلى اتّساع رقعة الدين وكثرة الملتزمين به، وزيادة تفاعلهم وانجذابهم إلى رسوم الدين وطقوسه.

ب) وإن كان معنى اتّساع الدين على حساب زوال الثوابت، وسبباً لإعطاء التنازلات تلو التنازلات في الأحكام الشرعيّة، فهذا المعنى لا ريب في بطلانه، وهذا يجب أن يُجعل محذوراً ومانعاً.

لكنّ الكلام في أنّ الشعائر المتّخذة هل هي من النوع الأوّل أم من النوع الثاني؟ هل هي توجب طمس الثوابت في الدين، أم هي بالعكس توجب اتّساع تلك الثوابت وانتشارها في ضمن متغيّرات مختلفة؟

الثابتُ والمتغيّر في الشريعة

فالبحث يقع في تقرير الفرق بين الثابت والمتغيّر.

أو قل - بالعبارة الاصطلاحيّة -: القضيّة الشرعيّة - مهما كانت - تشتمل على محمول وعلى موضوع، ومصاديق الموضوع متعدّدة ومستجدّة ومتغيّرة.

أمّا قَولبة عنوان الموضوع، وهيكل عنوان الموضوع والمحمول فيظلّ ثابتاً.

وهذه أحد الضوابط المهمّة جدّاً في التمييز بين الثابت والمتغيّر، أو في تمييز ما هو دائم في الشريعة وما هو متغيّر، المتغيّر في الحقيقة هو المصاديق.

كما في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) في وصفه للقرآن الكريم أنّه(يجري كما

١١٩

يجري الشمس والقمر) (1) ، يعني باعتبار اختلاف المصاديق وتنوّعها وتكثّرها، سواء مصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق للحكم (قد مرّ بنا سابقاً أنّ القضيّة الشرعيّة تشتمل على ثلاثة محاور: محو الموضوع، محور المتعلّق، محور المحمول)(2) .

فمصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق متكثّرة ومتعدّدة، ومستجدّة حسب كثرة الموارد وتعدّد البيئات.

مثل:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (3) .

فالقوّة سواء كانت ضمن أساليب القتال القديمة أو الحديثة، القوّة مصاديقها متعدّدة، لكنّ وجوب إعداد القوّة هو ثابت في الشريعة.

فالشاهد أنّ أحد ضوابط تمييز الثابت عن المتغيّر هي: أنّ جانب المحمول وعنوان الموضوع يظلّ ثابتاً، غاية الأمر أنّ مصاديق آليّات الموضوع تختلف.

ففي مقام الجواب عن المحذور السابق - وهو اتّساع الشرعيّة - إن كان بمعنى شموليّة موضوعاتها وشموليّة قوانينها، فهذا لا ضير فيه، بل لا بدّ من الانتشار والاتّساع، أمّا بمعنى زوال القضايا الأوّليّة، وزوال جنبة الحكم وتغيّره، فهذا

____________________

(1) بحار الأنوار 92: 97، نقلاً عن كتاب بصائر الدرجات، بسنده عن فضيل بن يسّار قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية:(ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن) فقال:(ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم ) نحن نعلمه) .

(2) راجع ص72 من هذا الكتاب.

(3) الأنفال: 60.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ الدنيا إنّما هي دار إمتحان وابتلاء ، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة ، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان الغنى والفقر ، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتّع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة ، أم أنّه يطأ كلّ ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق ممّا تفضّل الله به عليه ، أم لا؟

ورغم أنّ البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصّة كاليهود ، أو المشركين في مكّة ، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهيّة ، ولكن يبدو أنّ للآية مفهوما عامّا يمكن أن تكون له مصاديق في كلّ عصر وزمان ، وإن كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامّة يتشبّثون بها على مرّ العصور ، وهي قولهم : إذا كان الله هو الرازق إذا لماذا تريدون منّا أن نعطي الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلما ذا تريدون منّا إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أنّ نظام التكوين قد يوجب شيئا ، ويوجب نظام التشريع شيئا غيره.

فنظام التكوين ـ بإرادة الله ـ أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها مسخّرة للبشر ، وأن يعطي البشر حريّة انتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم ، وفي نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كلّ جانب.

ونظام التشريع أوجب قوانين خاصّة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس ، وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق ، وذلك الإنسان الذي لديه الأهلية والاستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض ، إنّما يبلغ ذلك المقام الرفيع من هذا الطريق ، فبالزكاة تطهر النفوس ، وبالإنفاق ينتزع البخل من القلوب ، ويتحقّق التكافؤ ، وتقلّ الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد في المجتمعات.

وذلك تماما كما يقول شخص : لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلّم غيرنا؟ فلو شاء الله

٢٠١

سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع ، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلّم! فهل يقبل ذلك عاقل(١) ؟

جملة( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر ، في حين يمكن أن يكتفي بالضمير ، إشارة إلى أنّ هذا المنطق الخرافي والتعلّل إنّما ينبع من الكفر!

ولسان حال المؤمنين بقولهم :( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) إشارة إلى أنّ المالك الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ، وإن كانت تلك الأموال أمانة في أيدينا أو أيديكم لأيّام ، ويا لهم من بخلاء أولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!

أمّا جملة :( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فلتفسيرها توجد احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أنّها تتمّة ما قاله الكفّار للمؤمنين.

الثاني : أنّه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفّار.

الثالث : أنّه تتمّة ما قاله المؤمنون للكفّار.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب ، لأنّه يتّصل مباشرة بحديث الكفّار السابق ، وفي الحقيقة إنّهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.

* * *

__________________

(١) بعض المفسّرين احتمل التّفسير التالي وهو : أنّ العرب كانوا مشهورين بالضيافة في ذلك الزمان ، وما كانوا يمتنعون عن الإنفاق ، وكان هدف الكفّار هو الاستهزاء بالمؤمنين الذين كانوا ينسبون الأشياء والأمور جميعها إلى المشيئة الإلهية ، فكانوا يقولون لهم : إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغني الفقراء فما الحاجة إلى إنفاقنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الذي أوردناه هو الأنسب (راجع التبيان ، وتفسير القرطبي ، وروح المعاني).

٢٠٢

الآيات

( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) )

التّفسير

صيحة النشور!

بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفّار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة ، تتعرّض هذه الآيات إلى الحديث عن استهزائهم بالقيامة ، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافا إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

٢٠٣

تقول الآية الكريمة الاولى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) . فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة ، فمعنى هذا أنّكم لستم صادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم ، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى :( ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) .

فكلّ ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم ، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب ، ليتخلّف وراءها صمت مطبق ، وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.

وفي حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم»(١) .

جملة «ما ينظرون» هنا بمعنى «ما ينتظرون» ، فكما يقول (الراغب) في مفرداته «النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمّل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، وهو الرويّة ، والنظر الانتظار».

«صيحة» صاح : رفع الصوت ، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت ، وصيح الثوب كذلك ، ويقال : بأرض فلان شجر قد صاح ، إذا طال فتبيّن للناظر لطوله ، ودلّ على نفسه بصوته.

«يخصّمون» من مادّة «خصم» بمعنى النزاع.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٢٧. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير «القرطبي» و «روح المعاني» وغيرهما.

٢٠٤

أمّا فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك ، ولكن من الواضح أنّ المقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والأمور المعيشية الاخرى ، ولكن البعض يرى : إنّه تخاصم في أمر «المعاد» ، والمعنى الأوّل أنسب على ما يبدو ، وإن كان اعتبار شمول الآية لكلا المعنيين ، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الضمائر المتعدّدة في الآية جميعها تعود على مشركي مكّة الذين كانوا يشكّكون في أمر المعاد ، ويستهزئون بذلك بقولهم : متى تقوم الساعة؟

ولكن المسلّم به أنّ الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء ، بل نوعهم «نوع البشر الغافلين عن أمر المعاد» لأنّهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبدا «تأمّل بدقّة»!!

على كلّ حال ، فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع ، وهذا أوّلا. وأمّا ثانيا فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه ، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كلّ شيء وتنتهي الدنيا بأسرها.

لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا :( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) .

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله ، يحاول جاهدا أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله ، ثمّ يقوم بإنجاز بعض الأمور المعلّقة ، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصيّة أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الأمور الاخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضا فهل بقي أحد حيّا ليستمع الوصيّة؟ أو يجتمع الأولاد مع امّهم على سرير الأب ـ مثلا ـ ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبدا ، فلا إمكان لأي من هذه

٢٠٥

الأمور.

وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضا.

ثمّ تشير الآيات إلى مرحلة اخرى ، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) .

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد ، وتنتفض من القبر بشرا سويّا ، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة ، وكما أنّهم ماتوا جميعا بصيحة واحدة ، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد ، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى ، ولا حياتهم كذلك ، تماما كما هو الحال في جمع الجنود في الجيوش ، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعا من فرشهم ويخرجون من خيمهم ، ويقفون في صفّ واحد ، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.

«أجداث» جمع «جدث» وهو القبر ، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية ، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديدا من نفس المواد السابقة.

واستخدام صيغة الماضي في الفعل «نفخ» إشارة إلى عدم وجود أدنى شكّ في وقوع مثل هذا الأمر ، وكأنّه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.

«ينسلون» من مادّة «نسل» والنسل الانفصال عن الشيء ـ كما يقول الراغب في المفردات ويضيف ـ يقال : نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان ، و ومنه نسل إذا عدا ، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.

وقوله تعالى :( رَبِّهِمْ ) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلّها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

وعلى كلّ حال ، فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ نهاية هذا العالم وبداية

٢٠٦

العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقّعة ، وسوف نتعرّض إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (٦٨) من سورة الزمر إن شاء الله.

تضيف الآية التالية :( قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) .

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلّا من الاعتراف الواضح الصريح بالحقائق ، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ففي البدء يستغربون انبعاثهم ويتساءلون عمّن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنّهم يلتفتون بسرعة ويتذكّرون بأنّ أنبياء الله الصادقين ، وعدوهم بمثل هذا اليوم ، فيجيبون أنفسهم قائلين:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) ولكن وا أسفاه إنّنا كنّا نستهزئ بكلّ ذلك!

! وعليه فإنّ هذه الجملة هي بقيّة حديث هؤلاء المتكبّرين الكفرة بالمعاد والبعث ، ولكن البعض ذهب إلى أنّ حديث الملائكة أو المؤمنين ، وذلك على ما يبدو خلاف ظاهر الآية ، ولا داعي ولا ضرورة له ، لأنّ اعتراف الكفّار والمنكرين للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية ، ففي الآية (٩٧) من سورة الأنبياء( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ التعبير بـ «مرقد»(١) يوضّح أنّهم في عالم البرزخ كانوا بحالة شبيهة بالنوم العميق ، وكما ذكرنا في تفسير الآية (١٠٠) من سورة «المؤمنون» ، فإنّ البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم ، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات

__________________

(١) يأتي تارة بمعنى اسم مكان ، واخرى اسم للنوم ، أي مصدر ميمي.

٢٠٧

الرفيعة ، أو الكفّار الموغلين في الكفر والجحود فإنّ البرزخ بالنسبة إليهم عالم واضح المعالم ، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.

احتمل بعضهم أيضا أنّ هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أنّ العذاب في البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.

ثمّ تقول الآية لبيان سرعة النفخة :( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) .

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت ، كما كان الأمر عند هلاكهم ، فالصيحة الاولى للموت ، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

واستخدام تعبير «الصيحة» والتأكيد عليها بـ «واحدة» وكذلك التعبير بـ «إذا» في مثل هذه الموارد ، إنّما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقّع ، والتعبير بـ( هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) بصيغة الجملة الاسمية دليل على الوقوع السريع لهذا المقطع من القيامة.

واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب ، وكأن هذه الصيحة تقول : يا أيّها الناس النائمون ، أيّتها الأتربة المتناثرة ، أيّتها العظام المهترئة! انهضوا انهضوا واستعدّوا للحساب والجزاء فما أجمل الآيات القرآنية ، وما أروع إنذاراتها المعبّرة!!

* * *

٢٠٨

الآيات

( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) )

التّفسير

أصحاب الجنّة فاكهون!

هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر ، ثمّ ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفّار الطالحين ، فتقول الآية الكريمة الاولى :( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) .

فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئا ، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئا ، ولن يكون هنالك أدنى ظلم أو اضطهاد لأحد حتّى بمقدار رأس الإبرة.

ثمّ تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيّا عليها فتقول :( وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

إنّ ظاهر الآية ـ ومن دون تقدير مضمر ـ يهدف إلى القول بأنّ جزاءكم جميعا

٢٠٩

هو نفس أعمالكم ، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!

وبعبارة اخرى : فإنّ الأعمال الحسنة والسيّئة التي قمتم بها في هذه الدنيا سترافقكم في ذلك العالم أيضا ، ونفس تلك الأعمال ستتجسّد هناك وترافقكم في جميع مراحل الآخرة ، في المحشر وبعد نهاية الحساب.

فهل أنّ تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟

وهل أنّ تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟

ومن هنا يتّضح أن لا معنى للظلم أساسا في مشهد يوم القيامة ، وإذا كان يحدث في الدنيا بين البشر أن تتحقّق العدالة حينا ويقع الظلم أحيانا كثيرة ، فذلك لعدم إمكان ربط الأعمال بفاعليها.

جمع من المفسّرين تصوروا أنّ الجملة الأخيرة أعلاه تتحدّث عن الكفّار والمسيئين الذين سيرون عقابا على قدر أعمالهم ، دون أن تشمل المؤمنين ، بلحاظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.

ولكن بملاحظة ما يلي ينحلّ هذا الاشتباه ، وهو أنّ الحديث هنا هو حديث عن العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الاستحقاق ، وهذا لا ينافي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله ، فهذه مسألة «تفضل» وتلك مسألة «استحقاق».

ثمّ تنتقل الآيات لتتعرّض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة ، وقبل كلّ شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول :( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) .

«شغل» : ـ على وزن سرر ـ و «شغل» ـ على وزن لطف ـ : كليهما بمعنى العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه ، سواء كان ممّا يبعث على المسرّة أو الحزن ، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك ، يمكن استنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه

٢١٠

والمنصرف تماما عن التفكير في أي قلق أو ترقّب ، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه ، وحتّى أنّه ينسى تماما هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية ، تلك المواقف التي لو لا نسيانها فإنّها حتما ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب ، وبناء على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على انشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر(١) .

وبعد التعرّض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاخرى ، ينتقل إلى ذكر بقيّة النعم فيقول تعالى :( هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ) (٢) .

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنّة ، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

وأمّا ما احتمله البعض من أنّها بمعنى «النظائر» كما في الآية ـ ٢٢ سورة الصافات( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ) الآية فيبدو بعيدا. خصوصا أنّ (أرائك) جمع «أريكة» وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة(٣) .

التعبير بـ «ظلال» إشارة إلى أنّ أشجار الجنّة تظلّل الأسرة والتخوت التي يجلس عليها المؤمنون في الجنّة ، أو إشارة إلى ظلال قصورهم ، وكلّ ذلك يدلّل على وجود الشمس هناك ، ولكنّها ليست شمسا مؤذية ، نعم فإنّ لهم في ذلك الظلّ الملائم لأشجار الجنّة سرورا ونشاطا عظيمين.

__________________

(١) يرى «الراغب» في مفرداته بأنّ «فاكهة» تطلق على كلّ أنواع الثمار والفواكه ، و «فاكه» الحديث الذي يأنس به الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى «ابن منظور» في لسان العرب أنّ «فكاه» بمعنى المزاح ، و «فاكه» يطلق على الإنسان المرح.

(٢) هناك احتمالات عديدة في إعراب الجملة ، وأفضلها أنّ «هم» مبتدأ ، و «متكئون» خبر ، و «على الأرائك» متعلّق به ، و «في ظلال» متعلّق به أيضا أو متعلّق بمحذوف.

(٣) لسان العرب ـ مفردات الراغب ـ مجمع البيان ـ القرطبي ـ روح المعاني ـ وتفاسير اخرى.

٢١١

إضافة إلى ذلك فإنّ( لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ) .

يستفاد من آيات القرآن الاخرى أنّ غذاء أهل الجنّة ليس الفاكهة فقط ، ولكن تعبير الآية يدلّل على أنّ الفاكهة ـ وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيرا عن فاكهة الدنيا ـ هي أعلى غذاء لهم ، كما أنّ الفاكهة في الدنيا ـ كما يقول المتخصّصون ـ أفضل وأعلى غذاء للإنسان.

«يدعون» أي يطلبون ، والمعنى أنّ كلّ ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه ، فما يتمنّوه من شيء يحصل ويتحقّق على الفور.

يقول العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان : العرب يستخدمون هذا التعبير في حالة التمنّي ، فيقول : «ادع عليّ ما شئت» أي تمنّ عليّ ما شئت

وعليه فإنّ كلّ ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ ، والله عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كلّ ذلك ، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) (١) .

هذا النداء الذي تخفّ له الروح ، فيملؤها بالنشاط ، هذا النداء المملوء بمحبّة الله ، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اخرى. نعم فسماع نداء المحبوب ، النداء الندي بالمحبّة ، المعطّر باللطف ، يغمر سكّان الجنّة بالحبور الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا ، بل ويفيض عليه.

ففي رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنّة ، وذلك قول الله تعالى :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال فينظر إليهم وينظرون إليه

__________________

(١) اختلف حول إعراب «قولا» وأنسب ما ذكر هو اعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره «يقول قولا».

٢١٢

فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم»(١) .

نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب ، ورؤية لطفه ، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة ، بل بالعالم أجمع ، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم ، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام «لو حجبت عنه ساعة لمتّ»(٢) .

الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة ، هو سلام مستقيم بلا واسطة ، سلام منه تعالى ، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه ، ويا لها من نعمة عظيمة!!

* * *

ملاحظة

أنواع «السلام» المنثور على أهل الجنّة

الجنّة هي «دار السلام» كما ورد في الآية (٢٥) من سورة يونس حيث نقرأ :( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) .

وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك ، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (٣) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، مجلّد ٢٣ ، صفحة ٣٥.

(٢) روح البيان ، مجلّد ٧ ، صفحة ٤١٦.

(٣) الرعد ، ٢٤.

٢١٣

ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) .(١)

وعند ما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.

وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(٢) ويسلّم بعضهم على بعض( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) .(٣)

وأخيرا ، أسمى وأعظم سلام هو سلام اللهعزوجل ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) .

الخلاصة :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) .(٤)

والسلام ليس لفظا فحسب ، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة ، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.

* * *

__________________

(١) الأعراف ، ٤٦.

(٢) النحل ، ٣٢.

(٣) إبراهيم ، ٢٣.

(٤) الواقعة ، ٢٦.

٢١٤

الآيات

( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) )

التّفسير

لماذا عبدتم الشيطان؟!

مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنّة ، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلا : يخاطبون في ذلك اليوم خطابا تحقيريا( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلونتم بلونهم تارة ، واستفدتم من حيثيتهم واعتبارهم ، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

هذا في الحقيقة هو تحقّق للوعد الإلهي الوارد في الآية (٢٨) من سورة ص حيث يقول الباريعزوجل :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ

٢١٥

فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .

وعلى كلّ حال ، فظاهر الآية هو التمييز في العرض بين المجرمين والمؤمنين ، وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل احتمالات اخرى من جملتها : تفريق صفوف المجرمين أنفسهم إلى مجموعات فيما بينهم ، أو انفصال المجرمين عن شفعائهم ومعبوداتهم ، أو انفصال المجرمين كلّ واحد عن الآخر ، بحيث يكون ذلك العذاب الناتج عن الفراق مضافا على عذاب الحريق في جهنّم.

ولكن شمولية الخطاب لجميع المجرمين ، ومحتوى جملة «وامتازوا» تقوّي المعنى الأوّل الذي أشرنا إليه.

الآية التالية تشير إلى لوم الله تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلا :( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا العهد الإلهي أخذ على الإنسان من طرق مختلفة ، وكرّر على مسمعه مرّات ومرّات :( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (١)

جرى هذا التحذير وبشكل متكرّر على لسان الأنبياء والرسل :( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (٢) .

وكذلك في الآية (١٦٨) من سورة البقرة نقرأ :( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد أخذ على الإنسان في عالم التكوين ، وبلسان إعطاء العقل له ، إذ أنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنّة ، وأقسم على إغواء

__________________

(١) الأعراف ، ٢٧.

(٢) الزخرف ، ٦٢.

٢١٦

أبنائه من بعده.

ومن جانب ثالث فقد أخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهيّة للناس على التوحيد ، وانحصار الطاعة في الله سبحانه ، وبهذا لم تتحقّق التوصية الإلهية هذه بلسان واحد ، بل بعدّة ألسنة وأساليب ، وامضى هذا العهد والميثاق.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «العبادة» الواردة الإشارة إليها في جملة( لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) بمعنى «الطاعة» ، لأنّ العبادة لا تنحصر بمعنى الركوع والسجود فقط ، بل إنّ من مصاديقها الطاعة. كما ورد في الآية (٤٧) من سورة «المؤمنون»( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) وفي الآية (٣١) من التوبة نقرأ :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ) .

والجميل أنّه ورد في رواية عن الصادقعليه‌السلام تعليقا على الآية بقوله : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(١) .

وعن الصادقعليه‌السلام أيضا أنّه قال : «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده»(٢) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(٣) .

الآية التالية تأكيد أشدّ وبيان لوظيفة بني آدم ، تقول الآية الكريمة :( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

أخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان ، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل ، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه!؟ هذا من جانب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٨٩ ، حديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩١ ، حديث ٨ و ٩.

(٣) المصدر السابق.

٢١٧

ومن جانب آخر ، أخذ عليه العهد بطاعة الله سبحانه وتعالى ، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم ، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر ، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ لو كان في وسط صحراء قاحلة محرقة ، وكانت حياته وحياة عياله في معرض خطر قطّاع الطرق والضواري ، فأهمّ ما يفكّر به هو العثور على الطريق المستقيم الآمن الذي يؤدّي إلى المقصد ، الطريق السريع والأسهل للوصول إلى منزل النجاة.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمنا بأنّ الدنيا ليست بدار القرار ، إذ أنّ الطريق لا يرسم لأحد إلّا لمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى :( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) .

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟ آثار مدنهم المدمّرة أمام أعينكم ، والعاقبة المؤلمة التي وصلوا إليها واضحة لكلّ من يمتلك القليل من التعقّل والتفكّر.

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟ ولا زلتم تتّخذونه صديقا بل قائدا ووليّا وإماما!!

«الجبلّ» الجماعة تشبيها بالجبل في العظم (كما يقول الراغب في مفرداته).

و «كثيرا» للتأكيد على كثرة من اتّبع الشيطان من كافّة المستويات الاجتماعية في كلّ مجتمع.

ذكر بعضهم أنّ «الجبلّ» بحدود عشرة آلاف نفر ، أو أكثر ، وما دون ذلك لا يكون جبلّا(١) ، ولكن البعض الآخر لم يلتزم بتلك الأرقام(٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدّة من عدوّ

__________________

(١) انظر روح المعاني والفخر الرازي.

(٢) المصدر السابق.

٢١٨

خطر كهذا ، لا يتورّع عن أي شيء ، ولا يرحم أي إنسان أبدا ، وقرابينه في كلّ زاوية ومكان هلكى صرعى ، فلا ينبغي له أن يغفل عنه طرفة عين أبدا ، ولنقرأ ما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام :

«فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوّ الله ، أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ، وأغرق إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ، فقال : ربّ بما أغويتني لازينّن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٢ (القاصعة).

٢١٩

الآيات

( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) )

التّفسير

يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!

تعرّضت الآيات السابقة ، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهيّة وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.

هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضا.

نعم ، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنّم للمجرمين الكافرين يذكّرهم الله بوعده ، والآية تشير إلى ذلك فتقول :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581