الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168946 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

فقد بعث إليكم الأنبياء واحدا بعد واحد ، وحذّروكم من مثل هذا اليوم ومن مثل هذه النار ، ولكنّكم لم تأخذوا أقوالهم إلّا على محمل السخرية والاستهزاء( اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) (١) .

ثمّ يشير تعالى إلى شهود يوم القيامة الشهود الذين هم جزء من جسد الإنسان ، حيث لا مجال لإنكار شهادتهم ، فيقول تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

نعم ففي ذلك اليوم لا تكون أعضاء الإنسان طوع إرادته وميوله ، فهي بأجمعها تتخلّى عن امتثال أمره وتستسلم لأمر الله سبحانه ، ويا لها من محكمة عجيبة تلك المحكمة التي شهودها نفس أعضاء الإنسان. تلك الأعضاء التي كانت الوسائل لارتكاب المعاصي والذنوب.

ويحتمل أن تكون شهادة الأعضاء ، بسبب أنّ المجرمين حينما يرون بأنّهم سيصلون جهنّم جزاء أعمالهم ، يميلون إلى إنكار ما ارتكبوا ظنّا منهم أنّه يمكن الإفلات بإخفاء الحقائق والإنكار ، إلّا أنّ الأعضاء تبدأ هنا بالشهادة ، الأمر الذي يثير عجب أولئك المجرمين ووحشتهم ويغلق عليهم جميع طرق الفرار والخلاص.

أمّا عن كيفية نطق تلك الأعضاء ، فثمّة تفسيرات واحتمالات عديدة :

١ ـ إنّ الله سبحانه وتعالى يجعل في كلّ واحد من تلك الأعضاء القدرة على التكلّم والشعور ، وهي تقوم بنقل الحقيقة بصدق ، وما هو العجب في ذلك؟ فمن جعل في قطعة من اللحم المسمّاة «لسان» أو «مخ الإنسان» القدرة على النطق ، يستطيع أن يجعل هذه القدرة في سائر أعضاء البدن أيضا.

٢ ـ أنّ تلك الأعضاء لا تعطي الإدراك والشعور ، ولكن الله سبحانه وتعالى ينطقها ، وفي الحقيقة فإنّ تلك الأعضاء ستكون محلا لظهور الكلام ، وانكشاف

__________________

(١) «اصلوها» من (صلا) أصل الصّلي إيقاد النار ، ويقال صلي بالنار وبكذا ، أي بلي بها واصطلى بها.

٢٢١

الحقائق بإذن الله.

٣ ـ أنّ أعضاء البدن الإنساني تحتفظ بآثار الأعمال التي قامت بها في الدنيا ، إذ أنّ أي عمل في هذه الدنيا لا يفني ، بل إنّ آثاره ستبقى على كلّ عضو من البدن ، وفي الفضاء المحيط بها ، وفي ذلك اليوم الذي هو يوم الظهور والتجلّي ، ستظهر هذه الآثار على اليد والقدم وسائر الأعضاء ، وظهور تلك الآثار هو منزلة الشهادة. وهذا تماما كما يرد في لغتنا المعاصرة حينما نقول : «عينك تشهد على سهرك» ، أو «الجدران تبكي صاحب الدار».

وعلى كلّ حال ، فإنّ من المسلّمات شهادة الأعضاء في يوم القيامة ، ولكن هل أنّ كلّ عضو يكشف عن فعله فحسب ، أو يكشف عن كلّ الأعمال؟ فلا شكّ أنّ الاحتمال الأوّل هو الأنسب ، لذا فإنّ الآيات القرآنية الكريمة الاخرى تذكر شهادة الاذن والعين والجلد ، كما في الآية (٢٠) من سورة فصلت حين يقول تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أو ما ورد في الآية (٢٤) من سورة النور من قوله تعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

والجدير بالملاحظة أنّه تعالى في سورة النور يقول :( تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ) وفي الآية مورد البحث يقول :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ) ، ومن الممكن أن يكون ما يحصل هناك هو أن يختم على فم المجرم أوّلا لتشهد أعضاؤه ، وبعد أن يرى بنفسه شهادة أعضائه ، يفتح لسانه ، ولأنّه لا مجال للإنكار فإنّ لسانه أيضا يقرّ بالحقيقة.

وكذلك يحتمل أن يكون المقصود من كلام اللسان هو الكلام الداخلي الذي ينبعث منه كما في سائر الأعضاء ، وليس نطقه العادي.

آخر ما نريد قوله بخصوص موضوع تكلّم الأعضاء هو أنّ ذلك خاص بالمجرمين ، وإلّا فالمؤمنون حسابهم واضح ، لذا ورد في الحديث عن الباقرعليه‌السلام

٢٢٢

«ليست تشهد الجوارح على مؤمن ، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب ، فأمّا المؤمن فيعطي كتابه بيمينه ، قال اللهعزوجل :( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (١) .

الآية التالية تشير إلى أحد ألوان العذاب التي يمكن أن يبتلي الله تعالى بها المجرمين في هذه الدنيا ، تقول الآية الكريمة :( وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ ) (٢) .

وفي تلك الحالة التي يبلغ فيها الرعب الذروة عندهم :( فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) . فهم عاجزون حتّى عن العثور على الطريق إلى بيوتهم ، ناهيك عن العثور على طريق الحقّ وسلوك الصراط المستقيم!

وعقوبة مؤلمة اخرى لهم : انّنا لو أردنا لمسخناهم في مكانهم على شكل تماثيل حجرية فاقدة للروح والحركة ، أو على أشكال الحيوانات بحيث لا يستطيعون التقدّم إلى الأمام ، ولا الرجوع إلى الخلف :( لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ) (٣) .

«فاستبقوا الصراط» يمكن أن تكون بمعنى التسابق فيما بينهم للعثور على الطريق الذي يذهبون منه عادة ، أو بمعنى الانحراف عن الطريق وعدم العثور عليه ، على ضوء ما قاله بعض أرباب اللغة من أن «فاستبقوا الصراط» بمعنى «جاوزوه وتركوه حتّى ضلّوا»(٤) .

وعلى كلّ حال ، فطبقا للتفسير الذي قبل به أغلب المفسّرين الإسلاميين ، فإنّ الآيتين أعلاه ، تتحدّثان عن عذاب الدنيا ، وعن تهديد الكفّار والمجرمين بأنّ الله

__________________

(١) تفسير الصافي ، مجلّد ٤ ، صفحة ٢٥٨

(٢) «طمسنا» من طمس ـ على وزن شمس ـ بمعنى إزالة الأثر بالمحو ، هذه الإشارة إلى إزالة ضوء العين أو صورتها بشكل كلّي بحيث لا يبقى منها أثر.

(٣) «مكانتهم» بمعنى محل التوقّف ، وهي إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخرجهم عن إنسانيتهم في محل توقّفهم ، يغيّر أشكالهم ، ويفقدهم القدرة على الحركة ، تماما كالتمثال الخالي من الروح.

(٤) لسان العرب ـ قطر المحيط ـ المنجد «مادّة سبق».

٢٢٣

سبحانه وتعالى قادر على تعريضهم لمثل هذا العذاب في الدنيا ، ولكن للطفه ورحمته فإنّه يمتنع عن ذلك ، فقد ينتبه هؤلاء المعاندين ويرجعوا عن غيّهم إلى طريق الحقّ.

ولكن يوجد احتمال آخر أيضا ، وهو أنّ الآيات تشير إلى العقوبات الإلهيّة في يوم القيامة لا في الدنيا ، وفي الحقيقة فهو تعالى بعد أن أشار إلى «الختم على أفواههم» في الآية السابقة ، يشير هنا إلى نوعين آخرين من العقوبات التي لو شاء لأجراها عليهم :

الأوّل : الطمس على عيونهم بحيث لا يمكنهم رؤية «الصراط» أي طريق الجنّة.

الثاني : أنّ هؤلاء الأفراد بعد أن كانوا فاقدين للحركة في طريق السعادة فإنّهم يتحوّلون إلى تماثيل ميتة في ذلك اليوم ويظلّون حيارى في مشهد المحشر ، وليس لهم طريق للتقدّم أو للتراجع ، إنّ تناسب الآيات ـ طبعا ـ يؤيّد هذا التّفسير الأخير ، وإن كان أكثر المفسّرين قد اتّفقوا على قبول التّفسير السابق(١) .

الآية الأخيرة من هذه المجموعة تشير إلى وضع الإنسان في آخر عمره من حيث الضعف والعجز العقلي والجسمي ، لتكون إنذارا لهم وليختاروا طريق الهداية عاجلا ، ولتكون جوابا على الذين يلقون بمسؤولية تقصيرهم على قصر أعمارهم ، وكذلك لتكون دليلا على قدرة الله سبحانه وتعالى ، فالقادر على أن يعيد ذلك الإنسان القوي إلى ضعف وعجز الوليد الصغير قادر على مسألة المعاد بالضرورة ، وعلى الطمس على عيون المجرمين ومنعهم عن الحركة ، كذلك تقول الآية الكريمة :( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ) .

«ننكّسه» من مادّة «تنكيس» وهو قلب الشيء على رأسه. وهي هنا كناية عن

__________________

(١) ذكر صاحب تفسير «في ظلال القرآن» هذا التّفسير على انّه الوحيد ، في حين انّ التّفسير السابق اختاره كلّ من تفسير : مجمع البيان ـ التبيان ـ الميزان ـ الصافي ـ روح المعاني ـ روح البيان ـ القرطبي ـ التّفسير الكبير.

٢٢٤

الرجوع الكامل للإنسان إلى حالات الطفولة. فالإنسان منذ بدء خلقته ضعيف ، ويتكامل تدريجيّا ويرشد ، وفي أطواره الجنينية يشهد في كلّ يوم طورا جديدا ورشدا جديدا ، وبعد الولادة ـ أيضا ـ يستمرّ في مسيره التكاملي جسميا وروحيا وبسرعة ، وتبدأ القوى والاستعدادات التي أخفاها الله في أعماق وجوده بالظهور تدريجيّا الواحدة تلو الاخرى ، في طور الشباب ، ثمّ طور النضج ، ليبلغ الإنسان أوج تكامله الجسمي والروحي.

وهنا تنفصل الروح عن الجسد في تكاملها ونموّها ، فتستمر في تكاملها في حال أنّ الجسد يشرع بالنكوص ، ولكن العقل في النهاية يبدأ هو الآخر بالتراجع أيضا ، فيعود تدريجيّا ـ وأحيانا بسرعة ـ إلى مراحل الطفولة ، ويتساوق ذلك مع الضعف البدني أيضا ، مع الفارق طبعا ، فالآثار التي تتركها حركات وروحيات الأطفال على النفس هي الراحة والجمال والأمل ولهذا فهي مقبولة منهم ، ولكنّها من أهل الشيخوخة ، قبيحة ومنفّرة ، وفي بعض الأحيان قد تثير الشفقة والترحّم ، فالشيخوخة أيّام عصيبة حقّا ، يصعب تصوّر عمق آلامها.

في الآية(٥) سورة الحجّ أشار القرآن المجيد إلى هذا المعنى ، قائلا :( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) . لذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ من جاوز السبعين حيّا فهو «أسير الله في الأرض»(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ جملة( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) تشعّ تنبيها عجيبا بهذا الخصوص ، وتقول للبشر : إنّ هذه القدرة والقوّة التي عندكم لو لم تكن على سبيل «العارية» لما أخذت منكم بهذه البساطة. اعلموا أنّ فوقكم يد قدرة اخرى قادرة على كلّ شيء ، فقبل أن تصلوا إلى تلك المرحلة خلّصوا أنفسكم ، وقبل أن يتبدّل هذا النشاط

__________________

(١) ورد هذا الحديث في سفينة البحار مادّة (عمر).

٢٢٥

والجمال إلى موت وذبول. اجمعوا الورد من هذا الروض ، وتزوّدوا بالزاد من هذه الدنيا لطريق الآخرة البعيد ، لأنّه لم يمكنكم أداء أي عمل ذي قيمة في وقت الشيب والضعف والمرض. ولذا فإنّ من ضمن ما أوصى به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا ذرّ أنّه قال : «اغتنم خمسا : قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحّتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك»(١) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، مجلّد ٧٧ ، صفحة ٧٥ ، حديث ـ ٣.

٢٢٦

الآيتان

( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) )

التّفسير

انّه ليس بشاعر بل نذير!!

قلنا أنّ في هذه السورة بحوثا حيّة وجامعة حول اصول الإعتقادات : التوحيد ، والمعاد ، والنبوّة ، وتنتقل الآيات من بحث إلى آخر ضمن مقاطع مختلفة من الآيات.

طرحت في الآيات السابقة بحوث مختلفة حول التوحيد والمعاد ، وتعود هاتان الآيتان إلى البحث في مسألة النبوّة ، وقد أشارتا إلى أكثر الاتّهامات رواجا والتي أثيرت بوجه الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّت عليهم ردّا قويّا ، منها اتّهام الرّسول بكونه شاعرا ، فقالت :( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ) .

لماذا اتّهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الاتّهام مع أنّه لم يقل الشعر أبدا؟

كان ذلك بسبب الجاذبية الخاصّة للقرآن الكريم ونفوذه في القلوب ، الأمر الذي كان محسوسا للجميع ، بالإضافة إلى عدم إمكانية إنكار جمال ألفاظه

٢٢٧

ومعانيه وفصاحته وبلاغته ، وقد كانت جاذبية القرآن الكريم الخاصّة قد أثّرت حتّى في نفوس الكفّار الذين كانوا أحيانا يأتون إلى جوار منزل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكل خفي ليلا لكي يستمعوا إلى تلاوته للقرآن في عمق الليل.

وكم من الأشخاص الذين تولّعوا وعشقوا الإسلام لمجرّد سماعهم القرآن الكريم وأعلنوا إسلامهم في نفس المجلس الذي استمعوا فيه إلى بعض آياته.

وهنا حاول الكفّار من أجل تفسير هذه الظاهرة العظيمة ، ولغرض استغفال الناس وصرف أنظارهم من كون ذلك الكلام وحيا إلهيّا ، فأشاعوا تهمة الشعر في كلّ مكان ، والتي كانت بحدّ ذاتها تمثّل اعترافا ضمنيا بتميّز كلام القرآن الكريم.

وأمّا لماذا لا يليق بالرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون شاعرا ، فلأنّ طبيعة الشعر تختلف تماما عن الوحي الإلهي ، للأسباب التالية :

١ ـ إنّ أساس الشعر ـ عادة ـ هو الخيال والوهم ، فالشاعر غالبا ما يحلّق بأجنحة الخيال ، والحال أنّ الوحي يستمدّ وجوده من مبدأ الوجود ويدور حول محور الحقيقة.

٢ ـ الشعر يفيض من العواطف الإنسانية المتغيّرة ، وهي في حال تغيّر وتبدّل مستمرين ، أمّا الوحي الإلهي فمرآة الحقائق الكونية الثابتة.

٣ ـ لطافة الشعر تنبع في الغالب من الإغراق في التمثيل والتشبيه والمبالغة ، إلى درجة أن قيل «أحسن الشعر أكذبه» ، أمّا الوحي فليس إلّا الصدق.

٤ ـ الشاعر في أغلب الموارد وجريا وراء التزويق اللفظي يكون مجبرا على السعي وراء الألفاظ ، ممّا يضيع الكثير من الحقائق في الأثناء.

٥ ـ وأخيرا يقول أحد المفسّرين : إنّ الشعر مجموعة من الأشواق التي تحلّق منطلقة من الأرض باتّجاه السماء ، بينما الوحي حقائق نازلة من السماء إلى الأرض ، وهذان الاتّجاهان واضح تفاوتهما.

وهنا يجب أن لا ننسى تقدير مقام أولئك الشعراء الذين يسلكون هذا الطريق

٢٢٨

باتّجاه أهداف مقدّسة ، ويصونون أشعارهم من كلّ ما لا يرضي الله ، وعلى كلّ حال فإنّ طبيعة أغلب الشعراء كما أوردناه أعلاه.

لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في آخر سورة الشعراء :( وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ ) .(١)

طبعا فإنّ نفس هذه الآيات تشير في آخرها إلى الشعراء المؤمنين الذين يسخّرون فنّهم في سبيل أهدافهم السامية ، وهم مستثنون من ذلك التعميم ولهم حساب آخر.

ولكن على أيّة حال فإنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن أن يكون شاعرا ، وعند ما يقول تعالى :( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ) فمفهومه أنّه مجانب للشعر لأنّ جميع التعاليم النازلة إليه هي من الله تعالى.

والملفت للنظر أنّ التأريخ والروايات تنقل كثيرا من الأخبار التي تشير إلى أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما يريد الاستشهاد ببيت من الشعر ، فإنّه غالبا ما يقوله بطريقة منثورة.

فعن عائشة أنّها قالت : كان رسول الله يتمثّل ببيت أخي بني قيس فيقول :

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا

ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار

فيقول أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله فيقول : إنّي لست بشاعر وما ينبغي لي(٢) .

ثمّ يضيف تعالى في آخر الآية لنفي الشعر عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) .

والهدف هو الإنذار وإتمام الحجّة :( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى

__________________

(١) الشعراء ، ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

(٢) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٣٣.

٢٢٩

الْكافِرِينَ ) (١) .

نعم ، هذه الآيات «ذكر» ووسيلة تنبيه ، هذه الآيات «قرآن مبين» يوضّح الحقّ بلا أدنى تغطية أو غمط ، بل بقاطعية وصراحة ، ولذا فهو عامل انتباه وحياة وبقاء.

مرّة اخرى نرى القرآن الكريم يجعل (الإيمان) هو (الحياة) و (المؤمنين) هم (الأحياء) و (الكفّار) هم «الموتى» ، ففي جانب يذكر عنوان «حيّا» وفي الطرف المقابل عنوان «الكافرون» ، فهذه هي الحياة والموت المعنوي اللذان هما أعلى بمراتب من الموت والحياة الظاهريين. وآثارهما أوسع وأشمل ، فإذا كانت الحياة والمعيشة بمعنى «التنفّس» و «أكل الطعام» و «الحركة» ، فإنّ هذه الأعمال كلّها تقوم بها الحيوانات ، فهذه ليست حياة إنسانية ، الحياة الإنسانية هي تفتّح أزهار العقل والفهم والملكات الرقيقة في روح الإنسان ، وكذلك التقوى والإيثار والتضحية والتحكّم بالنفس ، والتحلّي بالفضيلة والأخلاق ، والقرآن ينمي هذه الحياة في وجود الإنسان.

والخلاصة : أنّ الناس ينقسمون حيال دعوة القرآن الكريم إلى مجموعتين : مجموعة حيّة يقظة تلبّي تلك الدعوة ، وتلتفت إلى إنذاراتها ، ومجموعة من الكفّار ذوي القلوب الميتة ، الذين لا تؤمل منهم أيّة استجابة أبدا ، ولكن هذه الإنذارات سبب في إتمام الحجّة عليهم ، وتحقّق أمر العذاب بحقّهم.

* * *

__________________

(١) جملة «لينذر ...» متعلّقة بـ «ذكر» الواردة في الآية السابقة ، والبعض اعتبرها متعلّقة بـ «علمنا» أو «نزّلنا» تقديرا ، ولكن الاحتمال الأوّل هو الأنسب على ما يبدو.

٢٣٠

بحث

حياة وموت القلوب :

في الإنسان أنواع من الحياة والموت :

الأوّل : الحياة والموت النباتي الذي مظهره النمو والرشد والتغذية والتوالد ، وهو في هذا الشأن يشابه جميع النباتات.

الثاني : الحياة والموت الحيواني. وأبرز مظاهرها «الإحساس» و «الحركة» ، وهو مشترك في هاتين الصفتين مع جميع الحيوانات.

أمّا النوع الثالث من الحياة الخاصّ بالإنسان فقط ، فهو (الحياة الإنسانية والروحية). وهو ما قصدته الروايات بقولها «حياة القلوب». حيث أنّ المقصود بالقلب هنا «الروح والعقل والعواطف» الإنسانية.

ففي حديث أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حول القرآن يقول : «وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث ، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب»(١) .

وفي حديث آخر له عليه أفضل الصلاة والسلام يقول عن الحكمة والتعلّم : «واعلموا أنّه ليس من شيء إلّا ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلّا الحياة ، فإنّه لا يجد في الموت راحة ، وإنّما ذلك بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميّت وبصر للعين العمياء»(٢) .

وقال عليه الصلاة والسلام : «ألا وإنّ من البلاء الفاقة ، وأشدّ من الفاقة مرض البدن ، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب ، ألا وإنّ من صحّة البدن تقوى القلوب»(٣) .

ويقول عليه الصلاة والسلام : «ومن كثر كلامه كثر خطؤه ، ومن كثر خطؤه قلّ

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١١٠ ، ١٣٣ وكلمات قصار ٣٨٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٢٣١

حياؤه ، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه ، ومن قلّ ورعه مات قلبه»(١) .

ومن جهة اخرى فإنّ القرآن الكريم يشخّص للإنسان نوعا خاصّا من الإبصار والسماع والإدراك والشعور ، غير النظر والسماع والشعور الظاهري ، ففي الآية (١٧١) من سورة البقرة نقرأ :( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

وفي موضع آخر يقول تعالى :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) .(٢)

كذلك يقول سبحانه :( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) .(٣)

وحول مجموعة من الكافرين يعبّر تعبيرا خاصا فيقول تعالى :( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) .(٤)

وفي موضع أخر يقول تعالى :( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) .(٥)

من مجموع هذه التعبيرات وتعبيرات كثيرة اخرى شبيهة لها يظهر بوضوح أنّ القرآن يعدّ محور الحياة والموت ، هو ذلك المحور الإنساني والعقلاني ، إذ أنّ قيمة الإنسان تكمن في هذا المحور.

وفي الحقيقة فإنّ الحياة والإدراك والإبصار والسماع وأمثالها ، تتلخّص في هذا القسم من وجود الإنسان ، وإن اعتبر بعض المفسّرين هذه التعبيرات مجازية ، إذ أنّ ذلك لا ينسجم مع روح القرآن هنا ، لأنّ الحقيقة في نظر القرآن هي هذه التي يذكرها ، والحياة والموت الحيوانيان هما المجازيان لا غير.

إنّ أسباب الموت والحياة الروحية كثيرة جدّا ، ولكن القدر المسلّم به هو أنّ النفاق والكبر والغرور والعصبية والجهل والكبائر ، كلّها تميت القلب ، ففي مناجاة

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار كلمة ٣٤٥.

(٢) البقرة ـ ١٠.

(٣) البقرة ، ٧٤.

(٤) المائدة ، ٤١.

(٥) الأنعام ، ٣٦.

٢٣٢

التائبين التي تروى عن الإمام السجّادعليه‌السلام في الصحيفة السجادية ورد «وأمات قلبي عظيم جنايتي».

والآيات مورد البحث تأكيد على هذه الحقيقة.

فهل أنّ من يرضى من حياته فقط بأن يعيش غير عالم بشيء في هذه الدنيا ، ويجري دائما مدار العيش الرغيد الرتيب ، لا يعبأ بظلامة المظلوم ، ولا يلبّي نداء الحقّ ، يفكّر في نفسه فقط ، ويعتبر نفسه غريبا حتّى عن أقرب الأقرباء ، هل يعتبر مثل هذا إنسانا حيّا؟

وهل هي حياة تلك التي تكون حصيلتها كميّة من الغذاء المصروف ، وإبلاء بعض الألبسة ، والنوم والاستيقاظ المكرور؟ وإذا كانت تلك هي الحياة فما هو فرقها عن حياة الحيوان؟

إذا يجب أن نقرّ ونعترف بأنّ وراء هذه الحياة الظاهرية يكمن عقل وحقيقة أكّد عليها القرآن وتحدّث عنها.

الجميل أنّ القرآن يعتبر الموتى الذين كان لموتهم آثار الحياة الإنسانية أحياء ، ولكن الأحياء الذين ليس فيهم أي من آثار الحياة الإنسانية فانّهم في منطق القرآن الكريم أموات أذلّاء.

* * *

٢٣٣

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) )

( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) )

التّفسير

فوائد الأنعام للإنسان!!

يعود القرآن الكريم مرّة اخرى في هذه الآيات إلى مسألة التوحيد والشرك ، ويشير ـ ضمن تعداد قسم من آثار عظمة الله في حياة البشر ، وحلّ مشكلاتهم ورفع حاجاتهم ـ إلى ضعف وعجز الأصنام ، وبمقارنة واضحة يشطب على الشرك ويثبت بطلانه ، وفي نفس الوقت يثبت حقّانية خطّ التوحيد.

تقول الآية الكريمة الاولى :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ

٢٣٤

لَها مالِكُونَ ) (١) .

ولكي يستفيدوا بشكل جيّد من هذه الحيوانات :( وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ ) .

ولا تنتهي منافعها إلى هذا الحدّ ، بل( وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ ) وعليه( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) الشكر الذي هو وسيلة معرفة الله وتشخيص وليّ النعمة.

هنا يجب الالتفات إلى بعض الأمور :

١ ـ من بين النعم المختلفة التي تغمر الإنسان ، أشارت الآية إلى نعمة وجود الأنعام ، لأنّها تشكّل حضورا دائما في حياة الإنسان اليومية ، إلى حدّ أنّ حياة الإنسان اقترنت بها ، بحيث لو أنّها حذفت من صفحة حياة الإنسان فإنّ ذلك سيشكّل عقدة ومشكلة بالنسبة إلى معيشته وأعماله ، غير أنّ الإنسان لا يلتفت إلى أهمّيتها لأنّه تعوّد رؤيتها يوميا.

٢ ـ جملة( عَمِلَتْ أَيْدِينا ) كناية عن إعمال القدرة الإلهيّة بشكل مباشر ، إذ أنّ أهمّ الأعضاء التي يمارس بها الإنسان قدرته ويعبّر عنها هي يداه ، لهذا السبب كانت «اليد» كناية عن القدرة ، كأن يقول أحدهم : «إنّ المنطقة الفلانية في يدي» كناية عن أنّها تحت سيطرته ونفوذه ، ويقول القرآن في هذا الصدد( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) .(٢)

وذكر «الأيدي» هنا بصيغة الجمع إشارة إلى مظاهر متنوّعة لقدرة الباريعزوجل .

٣ ـ جملة( فَهُمْ لَها مالِكُونَ ) المبتدأ بفاء التفريع ، إشارة إلى أنّ الخلق مرتبط بقدرتنا ، وأمّا المالكية فقد فوّضناها إلى الإنسان ، وذلك منتهى اللطف الإلهي ،

__________________

(١) جملة «أو لم يروا ...» جملة معطوفة على سابقتها بواو العطف ، ولكن حين دخول الهمزة الاستفهامية على الجملة فإنّها تتصدّرها ، (والرؤية) هنا بمعنى المعرفة ، أو الإبصار.

(٢) الفتح ، ١٠.

٢٣٥

وعليه فلا محلّ للإشكال الذي ظهر لبعض المفسّرين نتيجة وجود «فاء التفريع» ، فالمعنى تماما كما نقول لشخص : هذا البستان زرعناه وأعمرناه ، استفد منه أنت ، وهذا منتهى إظهار المحبّة والإيثار.

٤ ـ جملة( وَذَلَّلْناها لَهُمْ ) إشارة إلى مسألة في غاية الأهمية ، وهي تذليل هذه الحيوانات للإنسان. فتلك الحيوانات القوية والتي تنسى في بعض الأحيان ذلك التذليل الإلهي ، وتثور وتغضب وتعاند فتصبح خطرة إلى درجة أنّ عشرات الأشخاص لا يمكنهم الوقوف أمامها. وفي حالاتها الاعتيادية فإنّ قافلة كاملة من الجمال يقودها تارة صبي لم يبلغ الحلم ، ويدفعها في الطريق الذي يرتئيه!

إنّه لأمر عجيب حقّا ، فإنّ الإنسان غير قادر على خلق ذبابة ، ولا حتّى ترويضها وتذليلها لخدمته ، أمّا الله القادر المنّان فإنّه خلق ملايين الملايين من الحيوانات المختلفة ، وذلّلها للإنسان لتكون في خدمته دوما.

٥ ـ جملة( فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ ) ـ مع الالتفات إلى أنّ (ركوبهم) صفة مشبّهة بمعنى (مركوبهم) ـ إشارة إلى أنّ الإنسان ينتخب قسما منها للركوب وقسما آخر للتغذّي. وإن كان لحم أغلب الحيوانات المشهورة حلال بنظر الإسلام ، إلّا أنّ الإنسان استفاد عمليّا من بعضها فقط للتغذية ، فمثلا لحم الحمير لا يستفاد منه إلّا في الضرورة القصوى.

ومن الواضح انّ ذلك إذا اعتبرنا «منها» في كلا الجملتين «للتبعيض الإفرادي» ، أمّا لو اعتبرنا الاولى «للتبعيض الافرادي» والثانية «للتبعيض الأجزائي» يكون معنى الآية (بعض الحيوانات تنتخب للركوب وينتخب جزء من أجسامها للتغذية (إذ أنّ العظام وأمثالها غير قابلة للأكل).

٦ ـ( لَهُمْ فِيها مَنافِعُ ) إشارة إلى فوائد الحيوانات الكثيرة الاخرى التي تتحقّق للإنسان ، ومن جملتها الأصواف والأوبار التي تصنع منها مختلف الملابس والخيم والفرش ، والجلود التي تصنع منها الحقائب والملابس والأحذية ووسائل اخرى

٢٣٦

مختلفة ، وحتّى في عصرنا الحاضر الذي تميّزت فيه الصناعات التقليدية من منتجات الطبيعة لا زال الإنسان في مسيس الحاجة إلى الحيوانات من حيث التغذية ومن حيث الفوائد الاخرى كالألبسة ووسائل الحياة الاخرى. وحتّى بعض أنواع الأمصال واللقاحات ضدّ الأمراض التي يستفاد فيها من دماء بعض الحيوانات ، بل حتّى أنّ أتفه الأشياء الحيوانية وهي روثها أصبح ومنذ وقت طويل مورد استفادة الإنسان لتسميد المزارع وتغذية النباتات المثمرة.

٧ ـ( مَشارِبُ ) إشارة إلى الحليب الذي يؤخذ من تلك الدواب ويؤمّن مع منتجاته قسما مهمّا من المواد الغذائية للإنسان ، بشكل أضحّت فيه صناعة الحليب ومنتجاته تشكّل اليوم رقما مهمّا في صادرات وواردات الكثير من الدول ، ذلك الحليب الذي يشكّل غذاء للإنسان ، ويخرج من بين دم وفرث لبنا سائغا يلتذّ به الشاربون ، ويكون عاملا لتقوية الضعفاء.

٨ ـ جملة( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) جاءت بصيغة الاستفهام الاستنكاري ، وتهدف إلى تحريك الفطرة والعواطف الإنسانية لشكر هذه النعم التي لا تحصى ، والتي ورد جانب منها في الآيات أعلاه ، وكما نعلم فإنّ «لزوم شكر المنعم» أساس لمعرفة الله ، إذ أنّ الشكر لا يمكن أن يكون إلّا بمعرفة المنعم ، إضافة إلى أنّ التأمّل في هذه النعم وإدراك أنّ الأصنام ليس لها أدنى تأثير أو دخل فيها ، سيؤدّي إلى إبطال الشرك.

لذا فإنّ الآية التالية ، تنتقل إلى الحديث عن المشركين ووصف حالهم فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) .

فيا له من خيال باطل وفكر ضعيف؟ ذلك الذي يعتقد بهذه الموجودات الضعيفة التافهة التي لا تملك لنفسها ـ ناهيك عن الآخرين ـ ضرّا ولا نفعا ، ويجعلونها إلى جانب الله سبحانه وتعالى ويقرنونها به تعالى ، ويلجأون إليها لحلّ مشاكل حياتهم؟ نعم ، فهم يلجأون إليها لتكون عزّا لهم :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ

٢٣٧

عِزًّا ) .(١)

ويتوهّمون أنّها تشفع لهم عند الله( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) .

على كلّ حال ، فإنّ جميع هذه الأوهام نقش على الماء ، وكما يقول القرآن الكريم في الآية (١٩٢) من سورة الأعراف :( وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) .

وعليه تضيف الآية التالية : إنّ المعبودات لا تستطيع نصرة المشركين ، وسيكون هؤلاء المشركون جنودا مجنّدة يتقدّمونها إلى جهنّم :( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) .

ويا له من أمر أليم أن يصطف هؤلاء المشركون بصفوف تتقدّمها تلك الأصنام ليدخلوا جهنّم زمرا في ذلك اليوم العظيم ، دون أن يستطيعوا حلّ عقدة مشكلة واحدة من مشكلات هؤلاء المشركين في ذلك الموقف الرهيب.

التعبير بـ( مُحْضَرُونَ ) يكون عادة للتحقير ، لأنّ إحضار الأفراد دون أن يكون لموافقتهم أو عدمها أثر إنّما يدلّل على حقارتهم ، وبناء على هذا التّفسير فإنّ الضمير الأوّل «هم» في جملة( وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) يعود على «المشركين» ، والضمير الثاني يعود على «الأصنام» ، في حال أنّ بعض المفسّرين احتملوا العكس بحيث تكون الأصنام والأوثان هي التابعة للمشركين في يوم القيامة. وفي نفس الوقت فإنّهم ـ المشركين ـ ليس لهم في الأوثان أدنى أمل ، والظاهر أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه التعابير تصدق ـ فقط ـ على المعبودات الحيّة ذات الشعور كالشياطين والعصاة من الجنّ والإنس ، ولكن يحتمل أيضا أنّ الله سبحانه وتعالى يبعث الروح في تلك الأصنام والأوثان ويعطيها العقل والشعور لكي توبّخ

__________________

(١) مريم ، ٨١.

٢٣٨

هي أولئك الذين عبدوها في الدنيا ، وضمنا نقول إنّ هذه الأوثان الحجرية والخشبية ستكون هي الحطب الذي يؤجّج على أولئك المشركين نار جهنّم( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) .(١)

أخيرا ـ وفي آخر آية من هذه الآيات ، ولمواساة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتثبيت فؤاده إزاء مكر المشركين ، والفتن والأعمال الخرافية ـ تقول الآية الكريمة :

( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) تارة يقولون شاعر ، واخرى ساحر وأمثال ذلك من التهم( إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ) .

فلا تخفى علينا نواياهم ، ولا مؤامراتهم في الخفاء ، ولا جحودهم وتكذيبهم لآياتنا في العلن ، نعلم بكلّ ذلك ، ونحفظ لهم جزاءهم إلى يوم الحساب ، وستكون أنت أيضا في أمان من شرّهم في هذه الدنيا.

وبهذا الحديث الإلهي المواسي يمكن لكلّ مؤمن أيضا ـ مضافا إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يكون مطمئن القلب بأنّ كلّ شيء في هذا العالم هو بعين الله ، وسوف لن يصيبه شيء من مكائد الأعداء ، فهو تعالى لا يترك عباده المخلصين في اللحظات والمواقف العصيبة ، وهو دوما حام لهم وحافظ.

* * *

بحث

الثقافة التوحيدية تمنح عباد الله المؤمنين طريقة خاصّة في الحياة ، تبعدهم عن السبل الملوثة بالشرك القائمة على أساس عبادة الأوثان ، أو اللجوء إلى بعض البشر الضعاف.

وبصراحة ووضوح أكثر نقول : في عالمنا اليوم وحيث تتحكّم في البشرية قدرتان من الشرق والغرب ، فإنّ الدول الصغيرة ـ عادة ـ وكلّ ما عدا تلكم

__________________

(١) الأنبياء ، ٩٨.

٢٣٩

القدرتين ستفكّر لأجل حفظ نفسها والبقاء بالاتّكاء على إحدى تلك القدرتين الصنمين ، وتطلب حمايتها والإفادة من قدرتها ، في حال أنّ التجارب أثبتت أنّ هاتين القدرتين عند بروز المشاكل والحوادث المستعصية والاضطرابات لا تستطيع حلّ مشكلاتها ولا مشكلات من يدور في فلكها.

وما أجمل ما يقوله القرآن واصفا هذه الحالة :( وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) ، وهذا تحذير لجميع المسلمين وسالكي طريق التوحيد الخالص ، بأن يبتعدوا عن تلك الأصنام ، ويلجأوا إلى ظلّ اللطف الإلهي ، وأن يعتمدوا على أنفسهم ، وعلى طاقة الإيمان ، وأن لا يدعوا طريقا لهذه الأفكار الإشراكية الملوّثة تصل إلى فكرهم بحيث يلجأون إلى تلك القدرات ويستنجدونها في الملمّات ، وأن يطهّروا الثقافة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية من هذه الأفكار ، وأن يعلموا بأنّهم قد نالوا ضربات عديدة حتّى الآن نتيجة هذا المنطق ـ سواء أمام إسرائيل الغاصبة أو الأعداء الآخرين ـ في حال أنّه لو كان هذا الأصل القرآني الأصيل يحكم فيهم فإنّ حالهم لم تكن لتبلغ هذا المستوى من الهزيمة والانكسار ، آملين أن نصل إلى اليوم الذي نعيد فيه بناء أفكارنا حسب المفاهيم والمبادئ القرآنية ، وأن نعتمد على أنفسنا ، ونلجأ إلى ظلّ اللطف الإلهي فنعيش أعزّاء مرفوعي الرؤوس أحرارا إن شاء الله.

* * *

٢٤٠

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) )

سبب النّزول

نقلت أغلب التفاسير عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «جاء أبيّ بن خلف (أو العاص بن وائل) فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثمّ قال : إذا كنّا عظاما ورفاتا إنّا لمبعوثون خلقا؟» فأنزل الله :( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

التّفسير

قلنا أنّ البحوث المختلفة حول المبدأ والمعاد والنبوّة في سورة (يس) التي هي قلب القرآن وردت بشكل مقاطع مختلفة ، فهذه السورة ابتدأت بمسألة النبوّة ، واختتمت بسبعة آيات تمثّل أقوى البيانات حول المعاد.

٢٤١

في البدء تأخذ بيد الإنسان وتشير له إلى بدء حياته في ذلك اليوم حيث كان نطفة مهينة لا غير وتدعوه إلى التأمّل والتفكّر ، فتقول :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) (١) . يا له من تعبير حيوي؟ فالآية تؤكّد أوّلا على مخاطبة الإنسان ، أيّا كان وأيّ إعتقاد كان يعتقد ، وعلى أيّ مستوى كان من العلم ، فهو يستطيع إدراك هذه الحقيقة.

ثمّ تتحدّث عن «النطفة» والتي هي لغويا بمعنى «الماء المهين» لكي يعلم هذا الإنسان المغرور المتكبّر ـ بقليل من التأمّل ـ ماذا كان في البدء؟ كما أنّ هذا الماء المهين لم يكن هو السبب في نشوئه وظهوره ، بل خليّة حيّة متناهية في الصغر ، لا ترى بالعين المجرّدة ، من ضمن آلاف بل ملايين الخلايا الاخرى التي كانت تسبح في ذلك الماء المهين ، وباتّحادها مع خلية صغيرة اخرى مستقرّة في رحم المرأة تكوّنت الخليّة البشرية الاولى ، ودخل الإنسان إلى عالم الوجود!

وتتواصل مراحل التكامل الجنيني الواحدة بعد الأخرى والتي هي ستّة مراحل كما نقلها القرآن الكريم في بداية سورة «المؤمنون» (النطفة ، العلقة ، المضغة ، العظام ، اكتساء العظام باللحم ، وتمثّل الخلق السوي). ثمّ إنّ الإنسان بعد الولادة كائن ضعيف جدّا ، لا يملك القدرة على شيء ، ثمّ يقطع مراحل نموّه بسرعة حتّى بلوغ الرشد الجسماني والعقلي.

نعم ، فهذا الموجود الضعيف العاجز ، يصبح قويّا إلى درجة أن يجيز لنفسه النهوض لمحاربة الدعوات الإلهيّة ، وينسى ماضيه ومستقبله ، ليكون مصداقا حيّا لقوله تعالى :( فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) . واللطيف أنّ هذا التعبير يتضمّن جنبتين ، إحداهما تمثّل جانب القوّة ، والاخرى جانب الضعف ، ويظهر أنّ القرآن الكريم أشار إليهما جميعا.

إنّ هذا العمل لا يكون إلّا من إنسان يملك عقلا وفكرا وشعورا واستقلالا

__________________

(١) «خصيم» بمعنى المصرّ على الخصومة والجدال ، و (الرؤية) بمعنى (العلم).

٢٤٢

وإرادة ، ونعلم بأنّ أهمّ مسألة في حياة الإنسان هي التكلّم والحديث الذي يهيّأ محتواه مسبقا في الذهن ، ثمّ يصبّ في قالب من العبارات ويطلق باتّجاه الهدف كالرصاص المنطلق من فوهة البندقية ، وهذا العمل لا يمكن حدوثه في أي كائن حي عدا الإنسان.

وبذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يجسّد قدرته في إعطاء هذا الماء المهين هذه القوّة العظيمة هذا من جانب.

ومن جانب آخر فإنّ الإنسان مخلوق مغرور وكثير النسيان ، فهو يستغلّ كلّ هذه النعم التي أولاها إيّاه ولي نعمته ضدّه في المجادلة والمخاصمة ، فيا له من مغفّل أحمق!!

ويكفي لمعرفة مدى غفلته وحمقه أنّه جاء :( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (١) .

المقصود من ضرب المثل هنا ، نفس المعنى بدون التشبيه والكناية. فالمقصود هو الاستدلال وذكر مصداق لإثبات مطلب معيّن. نعم فإنّ (أبيّ بن خلف أو اميّة بن خلف. أو العاص بن وائل) كان قد وجد قطعة متفسّخة من عظم لم يكن معلوما لمن؟ وهل مات موتا طبيعيا؟ أو في واحدة من حروب العصر الجاهلي المهولة؟ أو مات جوعا؟ وظنّ أنّه وجد فيه دليلا قويّا لنفي المعاد! فحمل تلك القطعة من العظم وذهب حانقا وفرحا في نفس الوقت وهو يقول : لأخصمن محمّدا.

فذهب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في عجلة من أمره ليقول له : قل لي من ذا الذي يستطيع أن يلبس هذا العظم البالي لباس الحياة من جديد؟ وفتّ بيده قسما من العظم وذرّه على الأرض ، واعتقد بأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيتحيّر في الجواب ولا يملك ردّا!!

__________________

(١) «رميم» من مادّة (رم) وهو إصلاح الشيء البالي ، و «الرّمّة» تختص بالعظم البالي ، و «الرّمّة» تختص بالحبل البالي ، (مفردات الراغب مادّة (رم) صفحة ٢٠٣).

٢٤٣

والجميل أنّ القرآن الكريم أجابه بجملة وجيزة مقتضبة وهي قوله تعالى :( وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) . وإن كان قد أردف مضيفا توضيحا أكثر.

فكأنّه يقول : لو لم تنس بدء خلقك لما استدللت بهذا الاستدلال الواهي الفارغ أبدا.

أيّها الإنسان الكثير النسيان ، عد قليلا إلى الوراء وانظر في خلقك ، كيف كنت نطفة تافهة وكلّ يوم أنت في لبس جديد من مراحل الحياة ، فأنت في حال موت وبعث مستمرين ، فمن جماد أصبحت رجلا بالغا ، وبكميّة من عالم النبات الجامد ، ومن عالم الحيوان الميّت أيضا أصبحت إنسانا ، ولكنّك نسيت كلّ ذلك وصرت تسأل : من يحيي العظام وهي رميم؟ ألم تكن أنت في البدء ترابا كما هو حال هذه العظام بعد تفسّخها؟!

لذا فإنّ الله سبحانه وتعالى يأمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقول لهذا المغرور الأحمق الناسي( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

فإذا كان بين يديك اليوم بقيّة من العظام المتفسّخة تذكّرك به ، فقد مرّ يوم لم تكن فيه شيئا ولا حتّى ترابا ، نعم ، أفليس سهلا على من خلقك من العدم أن يعيد الحياة إلى العظام المهترئة؟!

وإذا كنت تعتقد بأنّ هذه العظام بعد تفسّخها تصبح ترابا وتنتشر في الأصقاع ، فمن يستطيع عند ذلك أن يجمع تلك الأجزاء المبعثرة من نقاط انتشارها؟ فإنّ الجواب على ذلك أيضا واضح :( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

فمن كان له مثل هذا (العلم) وهذه (القدرة) فإنّ مسألة المعاد وإحياء الموتى لا تشكّل بالنسبة إليه أيّة مشكلة. فنحن نستطيع بقطعة من «المغناطيس» جمع برادة الحديد المبثوثة في كميّة من التراب وفي لحظات ، والله العالم القادر يستطيع كذلك بأمر واحد أن يجمع ذرّات بدن الإنسان من كلّ موضع كانت فيه من الكرة الأرضية. فهو العالم ليس بخلق الإنسان فقط ، بل هو العالم بنواياه وأعماله أيضا ،

٢٤٤

المحيط بكلّ شيء علما وهو على كلّ شيء قدير وعليه فإنّ الحساب على الأعمال والنوايا والإعتقادات المضمرة لا يشكلّ له.

وعليه فإنّ الحساب على الأعمال والنوايا والإعتقادات المضمرة لا يشكّل له تعالى أدنى مشكلة أيضا ، فكما ورد في الآية (٢٨٤) من سورة البقرة :( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) .

وكذلك حينما أظهر فرعون شكّا في قدرة الله على المعاد وإحياء القرون السابقة ، أجابه موسىعليه‌السلام :( قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) .(١)

* * *

__________________

(١) طه ، ٥٥.

٢٤٥

الآية

( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) )

التّفسير

تتابع هذه الآية البحوث المختلفة حول المعاد والإشارات العميقة المعنى حول مسألة إمكان المعاد ورفع أي استبعاد لذلك ، والآية أعلاه شرح أوسع وأوضح حول هذه المسألة ، تقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) ويا له من تعبير رائع ذلك الذي كلّما دقّقنا فيه أفاض علينا معاني أعمق وأدقّ؟!

وكما نعلم فإنّ الآيات القرآنية لها معان متعدّدة من أبعاد مختلفة ـ فبعض معانيها واضح للغالبية من الناس في كلّ زمان ومكان ، وبعضها عميق يختصّ بفهمه البعض ، وأخيرا فإنّ بعضها الآخر يتمثّل فيه العمق الذي لا يستطيع سبر غوره إلّا الخواص من العبّاد ، وفي نفس الوقت فإنّ تلك المعاني لا تنافي بعضها البعض ، بل إنّها تجمع كلّها في قالب واحد وفي آن واحد. والآية مورد البحث هكذا تماما.

التّفسير الأوّل الذي قال به الكثير من المفسّرين القدماء. وهو بسيط وواضح

٢٤٦

يمكن فهمه واستيعابه من قبل الغالبية وهو : أنّ المراد هو شجر «المرخ والعفار» الذي كان العرب قديما يأخذون منهما على خضرتهما ، فيجعل العفار زندا أسفل ويجعل المرخ زندا أعلى ، فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله.

وفي الواقع فهو يمثّل الكبريت في عصرنا الحالي. والله سبحانه وتعالى يريد القول بأنّ الذي يستطيع إشعال النار من هذا الشجر الأخضر له القدرة على إلباس الموتى لباس الحياة.

فالماء والنار شيئان متضادّان ، فمن يستطيع جعلهما معا في مكان واحد ، قادر على جعل الحياة والموت معا في مكان واحد. فالذي يخلق (النار) في قلب (الماء) و (الماء) في قلب (النار) فمن المسلّم أنّ إحياء بدن الإنسان الميّت لا يشكّل بالنسبة له أدنى صعوبة.

وإذا خطونا خطوة أبعد من هذا التّفسير فسوف نصل إلى تفسير أدقّ وهو : أنّ خاصيّة توليد النار بواسطة خشب الأشجار ، لا تنحصر بخشب شجرتي «المرخ والعفار» بل إنّ هذه الخاصية موجودة في جميع الأشجار وجميع الأجسام الموجودة في هذا العالم وإن كان لشجرتي المرخ والعفار ـ لتوفّر خصائص فيها ـ استعداد أكثر من غيرهما على هذا الأمر.

خلاصة القول ، إنّ جميع خشب الأشجار إذا حكّ ببعضه بشكل متواصل فإنّه سيطلق شرر النار وحتّى (خشب الشجر الأخضر).

لهذا السبب تقع في بعض الأحيان حرائق هائلة في بعض الغابات المليئة بالأشجار ، لا يعرف لها سبب من قبل الإنسان ، إلّا أنّ هبوب الريح الشديدة التي تضرب أغصان الأشجار ببعضها بشدّة ممّا يؤدّي إلى انقداح شرر منها يؤدّي إلى اشتعال النار فيها ، وتساعد الريح الشديدة على سرعة انتشارها ، فالعامل الأصلي كان تلك الشرارة الناتجة عن الاحتكاك.

هذا التّفسير الأوسع ، هو الذي يوضّح عملية جمع الأضداد في الخلق. ويبسط

٢٤٧

مفهوم وجود (البقاء) في (الفناء) وبالعكس.

لكن ثمّة تفسير ثالث يعتبر أعمق بكثير من التّفسيرين السابقين. والذي ظهر إلى الواقع نتيجة جهود العلماء في عصرنا الحاضر وقد اخترنا أن نطلق عليه تسمية «انبعاث الطاقة».

وتوضيح ذلك كما يلي : إنّ من أهمّ الوظائف التي تقوم بها النباتات هي عملية «التركيب الضوئي» والتي تعتمد أساسا على أخذ غاز «ثاني اوكسيد الكربون» من الهواء ، والإفادة منه بواسطة «المادّة الخضراء» أو ما يسمّى «بالكلورفيل» لصنع الغذاء بمساعدة الماء وضوء الشمس. ذلك الغذاء الذي يؤدّي إلى تكوّن حلقات السليلوز في النباتات من ذوات الفلقتين ، ويكون ناتج عملية التركيب الضوئي الأوكسجين الذي يطلق في الهواء مرّة اخرى.

ولو نظرنا إلى العملية بطريقة اخرى فإنّ النباتات تأخذ الغاز (ثاني أوكسيد الكاربون) وتجزّئه أثناء عملها لتحتفظ بالكاربون مركّبا مع غيره من الماء لتكوّن الخشب وتطلق الأوكسجين.

والمهمّ هنا أنّ العلماء يقولون : بأن أيّة عملية تركيب كيمياوي تحتاج إلى طاقة ما لكي يتمّ ذلك التفاعل الكيمياوي ، أو أنّ ذلك التفاعل يؤدّي إلى إطلاق طاقة كناتج عنه. وبناء عليه فإنّ التفاعل الذي يتمّ نتيجة التركيب الضوئي إنّما يستفيد من الشمس كمصدر للطاقة لإتمام التفاعل.

وعليه فالشجرة إنّما تقوم بادّخار هذه الطاقة في الخشب الذي يتكوّن نتيجة لهذه العملية. وعند ما نقوم نحن بحرق هذا الخشب فإنّنا إنّما نقوم بإطلاق عقال هذه الطاقة المدّخرة. وبذا فإنّنا نقوم بإعادة تركيب (الكاربون) مع (الأوكسجين) لينتج (ثاني أوكسيد الكاربون) الذي ينطلق في الهواء مرّة اخرى ، بالإضافة إلى بخار الماء.

ولو تحدّثنا بلغة اخرى لقلنا : إنّ تلك الحرارة الناجمة عن اشتعال الحطب في

٢٤٨

المواقد البيتية القروية أو مواقد الفحم التي نستعملها في بيوتنا أحيانا للتدفئة في فصل الشتاء ، هي في الحقيقة حرارة ونور الشمس التي ادّخرت في خشب هذه الأشجار لسنوات ، وما جمعته الشجرة على مدى عمرها من الشمس تعيده دفعة واحدة بدون نقص.

ويقال إنّ كلّ الطاقات في الكرة الأرضية تعود إلى الشمس أساسا ، وواحد من مظاهره ما ذكرنا.

وهنا وحيث بلغنا «انبعاث الطاقات» نلاحظ أنّ النور والحرارة المبعثرة في الجو والتي تقوم الأشجار بجمعها في أخشابها لتنمو فإنّها لا تفنى أبدا. بل إنّها تتبدّل شكلا. وتختفي بعيدا عن أعيننا في كلّ ذرّة من ذرّات الخشب ، وعند ما نقوم بإيقاد النار بقطعة من الحطب ، فإنّ انبعاثها يبدأ ، وجميع ما كان في ذرّات الخشب من النور والحرارة وطاقة الشمس ، في تلك اللحظة ـ لحظة الحشر والنشر ـ تظهر من جديد. بدون أن ينقص منه حتّى بمقدار إضاءة شمعة واحدة (تأمّل بدقّة).

لا شكّ أنّ هذا المعنى كان خافيا على عوام الناس حين نزول الآية ، ولكن ـ كما قلنا ـ فإنّ هذا الموضوع لا يشكّل أدنى مشكلة ، لأنّ آيات القرآن لها معان متعدّدة وعلى مستويات مختلفة ، لاستعدادات متفاوتة ، ففي يوم يفهم من الآية معنى ، واليوم يفهم منها معنى أوسع ، ويمكن أنّ الأجيال القادمة تفهم منها معنى أوسع وأعمق ، وفي نفس الوقت فكلّ هذه المعاني صحيحة ومقبولة بشكل كامل ومجموعة كلّها في معنى الآية.

* * *

مسألتان

١ ـ شجر أخضر لماذا؟

يرد على الذهن أنّه لماذا عبّر القرآن هنا بالشجر الأخضر؟ في حين أنّ توليد

٢٤٩

النار من الخشب الطري والرطب يتمّ بصعوبة بالغة ، فكم كان جميلا لو عبّر عوضا عن ذلك «بالشجر اليابس» ، لكي ينسجم مع المعنى تماما!!؟

النكتة هنا هو أنّ الشجر الأخضر الحي فقط يستطيع القيام بعملية التركيب الضوئي ، وادّخار نور الشمس وحرارتها ، وأمّا الجذوع اليابسة للشجر لو بقيت مئات السنين متعرّضة للشمس فإنّها لن تستطيع زيادة الذخيرة الموجودة فيها.

وبناء عليه فإنّ (الشجر الأخضر) فقط يستطيع أن يصنع وقودا لنا ، ويمكنه الاحتفاظ وادّخار الحرارة والنور وزيادتها بصورة محوّرة ، ولكنّها بمحض جفافها ، فإنّ عملية التركيب الضوئي تتوقّف ، وتتعطّل معها عملية ادّخار الطاقة الشمسية.

وبناء على هذا فإنّ التعبير أعلاه ، يعتبر تجسيدا جميلا لعملية «انبعاث الطاقات» ومعجزة علمية خالدة للقرآن الكريم!

فضلا عن أنّنا إذا رجعنا إلى التّفسيرات الاخرى التي أشرنا إليها سابقا ، يبقى أيضا التعبير بـ «الشجر الأخضر» جميلا ومناسبا ، إذ أنّ الأشجار الخضراء عند احتكاكها ببعضها البعض تولّد شرارة تستطيع أن تكون مبعث نار كبيرة ، وهنا نقف إزاء عظمة قدرة الله في حفظه النار في قلب الماء ، والماء في قلب النار(١) .

٢ ـ الفرق بين الوقود والوقود :

«توقدون» من «وقود» ـ على زنة قبور ـ بمعنى اشتعال النار ـ و «الإيقاد» بمعنى إشعال النار ، و «الوقود» ـ على زنة ثمود ـ بمعنى الحطب المعدّ للإحراق.

وعليه فإنّ جملة( فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) إشارة إلى الحطب الذي تشتعل فيه النار ، لا ما تبدأ به النار بالاشتعال كالزناد أو عود الكبريت.

وبناء عليه فإنّ القرآن الكريم يقول : «إنّ الله سبحانه وتعالى جعل لكم من

__________________

(١) إذا اعتبرنا «من» في جملة «منه توقدون» بمعنى «به» فإنّ ذلك يتساوق مع التّفسيرات الاخرى.

٢٥٠

الشجر الأخضر حطبا توقدونه ، وهو القادر على إعادة الموتى إلى الحياة» وهذا التعبير ينسجم تماما مع ما قلناه من «بعث الطاقات» «تأمّل بدقّة»!!

وعلى كلّ حال ، فإنّ مسألة إشعال النار في خشب الأشجار مع أنّها مسألة بسيطة في نظرنا ، ولكن بقليل من الدقّة نعلم أنّها من أعجب المسائل ، لأنّ المواد التي يتشكّل منها خشب الأشجار في أغلبها ماء وتراب ، وكلاهما غير قابل للاشتعال ، فما هي تلك القدرة التي خلقت من الماء والتراب والهواء ـ وهي مواد ـ طاقة لا زالت حياة البشر ومنذ آلاف السنين مرتبطة بها بقوّة؟!

* * *

٢٥١

الآيات

( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣) )

التّفسير

هو المالك والحاكم على كلّ شيء!!

بعد ذكر دلائل المعاد والفات الأنظار إلى الخلق الأوّل ، ونشوء النار من الشجر الأخضر في الآيات السابقة ، تتابع الآية الاولى هنا بحث ذلك الموضوع من طريق ثالث وهو قدرة الله اللامتناهية ، فتقول الآية الاولى :( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) .

الجملة الاولى بشروعها (بالاستفهام الإنكاري) تطرح سؤالا على الوجدان اليقظ والعقل السليم كالآتي : ألم تتطلّعوا إلى تلك السماء المترامية العظيمة بكلّ ثوابتها وسيّاراتها العجيبة ، وبكلّ تلك المنظومات والمجرّات التي تشكّل كلّ زاوية منها دنيا واسعة هائلة؟ فالذي هو قادر على خلق كلّ هذه العوالم الخارقة

٢٥٢

في العظمة والمتناهية التنظيم والدقّة في قوانينها ، كيف لا يكون قادرا على إحياء الموتى؟

ولكون الجواب على هذا السؤال واضحا ، وكامنا في كلّ قلب وروح ، فإنّ الآية لا تنتظر الجواب ، إنّما تردف مضيّفة «بلى» وتتابع مؤكّدة على صفتين لله سبحانه وتعالى ـ الخالقية والعلم المطلق ـ وذلك في حقيقته دليل على الكلام المتقدّم ، فإذا كنتم تشكّون في قدرته على الخلق فهو «الخلّاق» (وهي صيغة مبالغة).

وإذا كان جمع هذه الذرّات يحتاج إلى علم أو معرفة فهو «العليم» المطلق.

أمّا على ماذا يعود الضمير في «مثلهم» فقد احتمل المفسّرون احتمالات عديدة ، ولكن أشهرها هو القول بعودة الضمير على «البشر» والمعنى : إنّ خالق السماء والأرض قادر على خلق مثل البشر.

وهنا يأتي السؤال التالي وهو لماذا لم يقل : قادر على أن يخلقهم من جديد ، بل قال:( بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ؟

وللإجابة على هذا السؤال ذكرت أجوبة كثيرة ، يبدو أقربها : أنّ بدن الإنسان عند ما يتحوّل ـ أو بالأحرى يتحلّل ـ إلى تراب ، فإنّه يفقد الصورة النهائية التي كان عليها ، وفي يوم القيامة عند ما يعاد خلق هذا الإنسان من جديد ، فإنّه سيخلق من نفس المواد ولكن بصورة جديدة تشبه الصورة القديمة ، بلحاظ أنّ عودة نفس الصورة القديمة ـ بالأخصّ إذا أخذنا في الإعتبار قيد الزمن ـ غير ممكن ، وخصوصا إذا علمنا ـ مثلا ـ أنّ الإنسان لا يحشر بجميع المواصفات والكيفية التي كان عليها سابقا ، فإنّ الشيبة والشيوخ ـ مثلا ـ يحشرون شبّانا ، والمعلولين يحشرون سالمين ، وهكذا.

وبتعبير آخر ، فإنّ بدن الإنسان كالطابوق الطيني غير المفخور ـ اللبن ـ الذي يمرّ عليه الزمان فيتهدّم ويصبح ترابا ، ثمّ يجمع من جديد وتصنع منه خميرة الطين ويوضع في قالب مرّة اخرى ويصنع لبنا جديدا مرّة اخرى. فهذا «اللبن» هو من

٢٥٣

جانب نفس «اللبن» القديم ومن جانب آخر «مثله» «مادّته هي نفس المادّة والصورة مثل الصورة السابقة» «دقّق النظر»(١) .

الآية اللاحقة تأكيد على ما ورد في الآيات السابقة ، وتأكيد على حقيقة أنّ أي خلق وإيجاد بالنسبة لله سبحانه وتعالى وقدرته سهل وبسيط ، وخلق السموات العظيمة والكرة الأرضية يعادل في سهولته إيجاد حشرة صغيرة ، فكلاهما بالنسبة له تعالى أمر هيّن بسيط ، يقول تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، فكلّ شيء مرتبط بأمره وإشارته فقط ، وذات بهذه القدرة كيف يشكّ في تمكّنها في إحياء الموتى؟!

وبديهي أنّ الأمر الإلهي هنا ليس أمرا لفظيا ، كما أنّ جملة «كن» ليست جملة يبيّنها الله سبحانه وتعالى بصورة لفظ ، لأنّه تعالى لا يحتاج إلى تلك الألفاظ ، بل المقصود هو مجرّد إرادته لإيجاد وإبداع شيء ، وإنّما استخدم التعبير بـ «كن» لأنّه ليس هناك تعبير أقصر وأصغر وأسرع يمكن تصوّره في التعبير عن تلك الحقيقة. نعم فإرادته لإيجاد شيء ووجود هذا الشيء هي عملية واحدة.

وبتعبير آخر : فإنّ الله سبحانه وتعالى ما إن يرد شيئا إلّا تحقّق فورا ، وليس بين إرادته ووجود ذلك الشيء أيّة فاصلة ، وعليه فإنّ «أمره» و «قوله» وجملة «كن» كلّها توضيح لمسألة الخلق والإيجاد. وكما ذكرنا فإنّ الأمر ليس لفظيّا أو قوليا ، بل كلّها توضيح للتحقّق السريع بوجود كلّ ما أراده سبحانه وتعالى.

وببيان أوضح ، انّ أفعال الله سبحانه وتعالى تمرّ بمرحلتين لا ثالث لهما ، مرحلة

__________________

(١) بعض المفسّرين أعادوا الضمير في «مثلهم» على السموات والأرض ، وقالوا بأنّ استعمال ضمير الجمع العاقل لوجود الموجودات العاقلة في الأرض والسماء كثير. البعض الآخر استنتج من استخدام كلمة «مثلهم» عدم ضرورة عودة عين الجسم بمواده التي كان يتشكّل منها في الدنيا ، لأنّ شخصية الإنسان تتعلّق بروحه ، وهذه الروح بأي مادّة تعلّقت تكون مثل الإنسان. ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الكلام لا ينسجم مع ظاهر آيات القرآن الكريم ـ حتّى أنّه لا ينسجم مع ظاهر الآيات مورد البحث ـ لأنّ القرآن الكريم يقول بصراحة في هذه الآيات : إنّه يخلق نفس تلك العظام المتفسّخة من جديد ويلبسها ثوب الحياة. «تأمّل!!».

٢٥٤

الإرادة ومرحلة الإيجاد ، وهي التي عبّرت عنه الآية بشكل أمر في جملة «كن».

بعض المفسّرين القدماء توهّموا أنّ المعنى يشير إلى وجود قول ولفظ في عملية الإيجاد والخلق ، واعتبروا ذلك من أسرار الخلق غير المعروفة ، والظاهر أنّهم وقعوا في عقدة اللفظ ، وبقوا بعيدين عن المعنى ، وقاسوا أعمال الله على مقاييسهم البشرية.

وما أجمل ما قاله أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام في واحدة من خطبة التي أوردت في نهج البلاغة : «يقول لما أراد لما كونه كن فيكون(١) لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان ثانيا»(٢) .

ناهيك عن أنّنا لو افترضنا وجود لفظ أو قول في عملية الخلق فسنواجه إشكالين أساسيين :

الأوّل : أنّ (اللفظ) بحدّ ذاته مخلوق من مخلوقات الله ولأجل إيجاده يحتاج سبحانه إلى «كن» اخرى ، ونفس الكلام ينطبق على «كن» الثانية بحيث نصبح في عملية تسلسل غير منتهية.

الثاني : أنّ كلّ خطاب يحتاج إلى مخاطب ، وفي الوقت الذي لم يوجد فيه شيء حينذاك فكيف يخاطبه الله سبحانه وتعالى بالقول «كن» ، فهل أنّ المعدوم يمكن مخاطبته؟!

وقد ورد في آيات اخرى من القرآن الكريم نفس هذا المعنى بتعبيرات اخرى ، كما في الآية (١١٧) من سورة البقرة :( وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، وكذا في الآية (٤٠) من سورة النحل :( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ

__________________

(١) ورد في بعض النسخ «لمن أراد» ويبدو أن الأنسب هو النص الذي أوردناه «لما أراد».

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٨٦.

٢٥٥

فَيَكُونُ ) (١) .

الآية الأخيرة من هذه الآيات وهي في ذات الوقت آخر آية من سورة «يس» تنهي البحث في مسألة المبدأ والمعاد بشكل جميل وبطريقة الاستنتاج الكلّي فتقول :( فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ «ملكوت» من أصل «ملك» ـ على وزن حكم ـ بمعنى الحكومة والمالكية ، وإضافة (الواو) و (التاء) إليها للتأكيد والمبالغة ، يتّضح أنّ معنى الآية كما يلي : إنّ الحاكمية والمالكية المطلقة بدون أدنى قيد أو شرط بيد قدرته المطلقة ، وكذلك فإنّ الله سبحانه منزّه ومبرّأ عن أي عجز أو نقص في القدرة ، وبهذا الشكل فإنّ إحياء الموتى وإلباس العظام المتفسّخة لباس الحياة من جديد ، كلّ ذلك لن يشكّل لديه أيّة مشكلة ، ولذلك فاعلموا يقينا أنّكم إليه ترجعون وأنّ المعاد حقّ.

* * *

بحوث

لقد تقدّمت منّا الوعود بأن نتعرّض لبحث مركز في مسألة المعاد في ختام سورة (يس) وها نحن نفي بهذه الوعود ونشبع هذه المسألة بحثا من خلال ستّة مباحث لنعرضها للقرّاء الأعزّاء كما يلي :

١ ـ الإعتقاد بالمعاد أمر فطري :

إذا كان الإنسان قد خلق للفناء فيجب أن يكون عاشقا للفناء ، وأن يلتذّ بنهاية عمره وبموته في حين أنّنا نرى أنّ الموت بمعنى الفناء لم يكن سارا للإنسان في أي وقت ، وهو يفرّ منه بكلّ وجوده.

__________________

(١) هناك بحث آخر في تفسير جملة «كن فيكون» في تفسير الآية (١١٧) من سورة البقرة.

٢٥٦

إنّ السعي لإبقاء أجسام الموتى عن طريق التحنيط ، وبناء المقابر الخالدة كأهرام مصر ، والجري وراء ما يسمّى بماء الحياة ودواء الشباب وما يطيل العمر ، كلّ ذلك دليل على عشق الإنسان لمفهوم البقاء.

فإذا كنّا قد خلقنا للفناء فما معنى حبّ البقاء سوى أنّها علاقة شاغلة بلا جدوى ولا فائدة.

لا تنسوا أنّنا نتابع البحث في مسألة المعاد بعد الاتّفاق على الإعتقاد بوجود الله الحكيم العالم ، ونحن نعتقد بأنّ كلّ ما خلقه الله سبحانه وتعالى في وجودنا إنّما هو وفقا لحساب وغرض ، وبناء عليه فإنّ عشق البقاء لا بدّ أن يكون له حساب خاصّ ، منسجم مع الخلق والعالم بعد الدنيا.

وبتعبير آخر : فلو أنّ نظام الخلق أوجد فينا عطشا. فإنّ ذلك دليل على أنّ للماء وجودا في العالم الخارجي ، كذلك فإنّ وجود الغريزة الجنسية والميل إلى الجنس الآخر يدلّل على وجود الجنس الآخر في العالم الخارجي ، وإلّا فإنّ الانجذاب بدون أن يكون له مدلول وموضوع خارجي لا يتّفق مع حكمة الخلق.

ومن جهة اخرى فعند ما نبحث في التأريخ البشري منذ أيّام نشأة ذلك التأريخ فإنّنا نجد دلائل كثيرة على الإعتقاد الراسخ لدى الإنسان بالحياة بعد الموت.

فالآثار التي وصلت إلينا من البشر الغابرين ـ وحتّى إنسان ما قبل التأريخ ـ وبالأخصّ طريقة دفن الموتى ، وكيفية بناء القبور ، وحتّى دفن الأشياء المختلفة مع الموتى ، كلّها دليل على ما ترسّخ في وجدانهم من الإعتقاد بالحياة بعد الموت.

«صاموئيل كنيك» أحد علماء النفس المعروفين يقول : «إنّ التحقيقات الدقيقة تشير إلى أنّ المجموعات البشرية الاولى على سطح الأرض ، كانت لهم اعتقادات معيّنة ، لأنّهم كانوا يلحدون موتاهم بطريقة معيّنة في الأرض ، ويضعون معهم وسائل وآلات أعمالهم التي كانوا يمارسونها قبل الموت إلى جانبهم ، وبهذه

٢٥٧

الطريقة فإنّهم يثبتون اعتقادهم بوجود عالم ما بعد الموت»(١) .

فهؤلاء اعتقدوا بالحياة بعد الموت ، وإن كانوا قد سلكوا طريقا خاطئا في اعتقادهم كتوهّمهم أنّ تلك الحياة شبيهة بهذه الحياة تماما.

على كلّ حال ، فلا يمكن قبول أنّ ذلك الإعتقاد القديم مجرّد وهم أو نتيجة للتلقين والعادة.

ومن جهة ثالثة ، فإنّ وجود محكمة «الوجدان» ، دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد. فكلّ إنسان عند ما ينجز عملا حسنا فإنّه يستشعر في أعماقه وفي وجدانه الطمأنينة التي لا يمكن أحيانا وصفها بأي بيان أو كلام.

وعلى العكس عند ما يرتكب الذنوب وخصوصا الجنايات الكبرى ، فإنّه يستشعر عدم الراحة ، إلى حد تصل الحالة في البعض إلى الانتحار ، أو يسلّموا أنفسهم إلى المحاكم لنيل العقاب والتعلّق على أعواد المشانق.

كلّ ذلك دليل على عذاب الضمير والوجدان.

وللإنسان أن يسأل نفسه : كيف يمكن أن يكون عالم صغير كعالم النفس له تلك المحكمة ، ولا يكون لهذا العالم العظيم مثل هذا الوجدان وهذه المحكمة؟!

وبهذا الشكل يتّضح أنّ الإعتقاد بمسألة المعاد والحياة بعد الموت أمر فطري ، ومن عدّة طرق :

من طريق العشق البشري العام للبقاء.

ومن طريق وجود ذلك الإعتقاد بالحياة بعد الموت على طول التأريخ البشري.

ومن طريق وجود النموذج المصغّر لها في داخل الإنسان.

٢ ـ أثر الإعتقاد بالمعاد على حياة البشر :

إنّ الإعتقاد بعالم ما بعد الموت وبقاء آثار الأعمال البشرية ، وخلود الأعمال ـ

__________________

(١) علم الاجتماع (ساموئيل كنيك) صفحة ١٩٢ (مع قليل من التلخيص).

٢٥٨

سواء كانت خيرا أو شرّا ـ يترك أثره العميق على فكر وأعصاب وجسد الإنسان ، ويمكنه أن يكون عاملا مؤثّرا في التشجيع على الأعمال الحسنة.

إنّ تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت في إصلاح الأفراد الفاسدين والمنحرفين وتشجيع الأفراد المضحّين والمجاهدين ، أكثر بكثير من تأثير المحاكم والعقوبات المعمول بها عادة في الدنيا ، للمزايا التي يتمتّع بها ذلك الإيمان عن المحاكم العادية ، ففي محكمة المعاد لا وجود لإعادة النظر ، ولا أثر للاضطهاد الفكري على صاحبها ، ولا فائدة من إعطاء وثائق كاذبة ومزوّرة ، ولا تستغرق ـ عبر روتينها ـ مدّة من الزمن.

القرآن الكريم يقول :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (١) .

كذلك يقول تعالى :( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٢) .

كذلك قوله تعالى :( لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (٣) .

وإنّ حسابه تعالى سريع وحاسم كما نقلت بعض الروايات : «إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّها في مقدار لمح البصر»(٤) .

ولهذا السبب فقد اعتبر القرآن الكريم أنّ سبب الكثير من الذنوب هو نسيان يوم الجزاء ، فقال تعالى :( فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (٥) .

حتّى أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ الإنسان إذا كان معتقدا بالقيامة فإنّه يمتنع عن القيام بالكثير من الأعمال المخالفة ، فقد ورد في وصفه تعالى لمن يخسرون

__________________

(١) البقرة ، ٤٨.

(٢) يونس ، ٥٤.

(٣) إبراهيم ، ٥١.

(٤) مجمع البيان ، المجلّد ١ ، صفحة ٢٩٨ ، تفسير سورة البقرة الآية ٢٠٢.

(٥) السجدة ، ١٤.

٢٥٩

الميزان في البيع قوله تعالى :( أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) (١) .

والحماسة الخالدة لمجاهدي الإسلام سابقا وحاضرا في ميادين الجهاد ، والتضحية والفداء والإيثار الذي يظهره الكثير من المسلمين في الدفاع عن بلدان الإسلام وعن المحرومين والمستضعفين ، يدلّل على أنه بجميعه انعكاس لحالة الإعتقاد بالحياة الخالدة في الدار الآخرة ، وقد دلّت الدراسات من قبل المفكّرين ، والتجارب المختلفة على أنّ تلك المظاهر لا يمكن أن تكون ـ في المقياس الواسع الشامل ـ إلّا عن طريق العقيدة بالحياة بعد الموت.

فإنّ المجاهد الذي منطقه( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) (٢) . أي الوصول إلى إحدى السعادتين إمّا النصر أو الشهادة ، وهو قطعا مجاهد لا يقبل الهزيمة.

إنّ الموت الذي يبعث على الوحشة لدى كثير من الناس ، وحتّى أنّهم يحاذرون من ذكر اسمه أو كلّ ما يذكّر به ، ليس موحشا ولا قبيحا قطّ بالنسبة إلى المعتقدين بالحياة بعد الموت ، بل إنّه بالنسبة إليهم نافذة على عالم رحيب ، وتحطّم القفص الدنيوي وكسر القيود المادّية التي تأسر الروح ، وبلوغ الحريّة المطلقة.

إنّ مسألة المعاد تعتبر الخطّ الفاصل بين الإلهيين والمادّيين ، لوجود نظرتين مختلفتين هنا:

فالمادّي يرى الموت فناء مطلقا ، ويفرّ منه بكلّ وجوده ، لأنّ كلّ شيء سينتهي به.

والإلهي يرى الموت ولادة جديدة ، وولوجا في عالم واسع كبير مشرق ، والانطلاق في السماء اللامحدودة. ومن الطبيعي فإنّ المعتقدين بهذا المذهب لا يفسحون المجال للخوف والوحشة للدخول إلى أنفسهم عند سلوكهم طريق

__________________

(١) المطفّفين ، ٤.

(٢) التوبة ، ٥٢.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581