الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168975 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) )

سبب النّزول

نقلت أغلب التفاسير عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «جاء أبيّ بن خلف (أو العاص بن وائل) فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثمّ قال : إذا كنّا عظاما ورفاتا إنّا لمبعوثون خلقا؟» فأنزل الله :( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

التّفسير

قلنا أنّ البحوث المختلفة حول المبدأ والمعاد والنبوّة في سورة (يس) التي هي قلب القرآن وردت بشكل مقاطع مختلفة ، فهذه السورة ابتدأت بمسألة النبوّة ، واختتمت بسبعة آيات تمثّل أقوى البيانات حول المعاد.

٢٤١

في البدء تأخذ بيد الإنسان وتشير له إلى بدء حياته في ذلك اليوم حيث كان نطفة مهينة لا غير وتدعوه إلى التأمّل والتفكّر ، فتقول :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) (١) . يا له من تعبير حيوي؟ فالآية تؤكّد أوّلا على مخاطبة الإنسان ، أيّا كان وأيّ إعتقاد كان يعتقد ، وعلى أيّ مستوى كان من العلم ، فهو يستطيع إدراك هذه الحقيقة.

ثمّ تتحدّث عن «النطفة» والتي هي لغويا بمعنى «الماء المهين» لكي يعلم هذا الإنسان المغرور المتكبّر ـ بقليل من التأمّل ـ ماذا كان في البدء؟ كما أنّ هذا الماء المهين لم يكن هو السبب في نشوئه وظهوره ، بل خليّة حيّة متناهية في الصغر ، لا ترى بالعين المجرّدة ، من ضمن آلاف بل ملايين الخلايا الاخرى التي كانت تسبح في ذلك الماء المهين ، وباتّحادها مع خلية صغيرة اخرى مستقرّة في رحم المرأة تكوّنت الخليّة البشرية الاولى ، ودخل الإنسان إلى عالم الوجود!

وتتواصل مراحل التكامل الجنيني الواحدة بعد الأخرى والتي هي ستّة مراحل كما نقلها القرآن الكريم في بداية سورة «المؤمنون» (النطفة ، العلقة ، المضغة ، العظام ، اكتساء العظام باللحم ، وتمثّل الخلق السوي). ثمّ إنّ الإنسان بعد الولادة كائن ضعيف جدّا ، لا يملك القدرة على شيء ، ثمّ يقطع مراحل نموّه بسرعة حتّى بلوغ الرشد الجسماني والعقلي.

نعم ، فهذا الموجود الضعيف العاجز ، يصبح قويّا إلى درجة أن يجيز لنفسه النهوض لمحاربة الدعوات الإلهيّة ، وينسى ماضيه ومستقبله ، ليكون مصداقا حيّا لقوله تعالى :( فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) . واللطيف أنّ هذا التعبير يتضمّن جنبتين ، إحداهما تمثّل جانب القوّة ، والاخرى جانب الضعف ، ويظهر أنّ القرآن الكريم أشار إليهما جميعا.

إنّ هذا العمل لا يكون إلّا من إنسان يملك عقلا وفكرا وشعورا واستقلالا

__________________

(١) «خصيم» بمعنى المصرّ على الخصومة والجدال ، و (الرؤية) بمعنى (العلم).

٢٤٢

وإرادة ، ونعلم بأنّ أهمّ مسألة في حياة الإنسان هي التكلّم والحديث الذي يهيّأ محتواه مسبقا في الذهن ، ثمّ يصبّ في قالب من العبارات ويطلق باتّجاه الهدف كالرصاص المنطلق من فوهة البندقية ، وهذا العمل لا يمكن حدوثه في أي كائن حي عدا الإنسان.

وبذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يجسّد قدرته في إعطاء هذا الماء المهين هذه القوّة العظيمة هذا من جانب.

ومن جانب آخر فإنّ الإنسان مخلوق مغرور وكثير النسيان ، فهو يستغلّ كلّ هذه النعم التي أولاها إيّاه ولي نعمته ضدّه في المجادلة والمخاصمة ، فيا له من مغفّل أحمق!!

ويكفي لمعرفة مدى غفلته وحمقه أنّه جاء :( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (١) .

المقصود من ضرب المثل هنا ، نفس المعنى بدون التشبيه والكناية. فالمقصود هو الاستدلال وذكر مصداق لإثبات مطلب معيّن. نعم فإنّ (أبيّ بن خلف أو اميّة بن خلف. أو العاص بن وائل) كان قد وجد قطعة متفسّخة من عظم لم يكن معلوما لمن؟ وهل مات موتا طبيعيا؟ أو في واحدة من حروب العصر الجاهلي المهولة؟ أو مات جوعا؟ وظنّ أنّه وجد فيه دليلا قويّا لنفي المعاد! فحمل تلك القطعة من العظم وذهب حانقا وفرحا في نفس الوقت وهو يقول : لأخصمن محمّدا.

فذهب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في عجلة من أمره ليقول له : قل لي من ذا الذي يستطيع أن يلبس هذا العظم البالي لباس الحياة من جديد؟ وفتّ بيده قسما من العظم وذرّه على الأرض ، واعتقد بأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيتحيّر في الجواب ولا يملك ردّا!!

__________________

(١) «رميم» من مادّة (رم) وهو إصلاح الشيء البالي ، و «الرّمّة» تختص بالعظم البالي ، و «الرّمّة» تختص بالحبل البالي ، (مفردات الراغب مادّة (رم) صفحة ٢٠٣).

٢٤٣

والجميل أنّ القرآن الكريم أجابه بجملة وجيزة مقتضبة وهي قوله تعالى :( وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) . وإن كان قد أردف مضيفا توضيحا أكثر.

فكأنّه يقول : لو لم تنس بدء خلقك لما استدللت بهذا الاستدلال الواهي الفارغ أبدا.

أيّها الإنسان الكثير النسيان ، عد قليلا إلى الوراء وانظر في خلقك ، كيف كنت نطفة تافهة وكلّ يوم أنت في لبس جديد من مراحل الحياة ، فأنت في حال موت وبعث مستمرين ، فمن جماد أصبحت رجلا بالغا ، وبكميّة من عالم النبات الجامد ، ومن عالم الحيوان الميّت أيضا أصبحت إنسانا ، ولكنّك نسيت كلّ ذلك وصرت تسأل : من يحيي العظام وهي رميم؟ ألم تكن أنت في البدء ترابا كما هو حال هذه العظام بعد تفسّخها؟!

لذا فإنّ الله سبحانه وتعالى يأمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقول لهذا المغرور الأحمق الناسي( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

فإذا كان بين يديك اليوم بقيّة من العظام المتفسّخة تذكّرك به ، فقد مرّ يوم لم تكن فيه شيئا ولا حتّى ترابا ، نعم ، أفليس سهلا على من خلقك من العدم أن يعيد الحياة إلى العظام المهترئة؟!

وإذا كنت تعتقد بأنّ هذه العظام بعد تفسّخها تصبح ترابا وتنتشر في الأصقاع ، فمن يستطيع عند ذلك أن يجمع تلك الأجزاء المبعثرة من نقاط انتشارها؟ فإنّ الجواب على ذلك أيضا واضح :( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

فمن كان له مثل هذا (العلم) وهذه (القدرة) فإنّ مسألة المعاد وإحياء الموتى لا تشكّل بالنسبة إليه أيّة مشكلة. فنحن نستطيع بقطعة من «المغناطيس» جمع برادة الحديد المبثوثة في كميّة من التراب وفي لحظات ، والله العالم القادر يستطيع كذلك بأمر واحد أن يجمع ذرّات بدن الإنسان من كلّ موضع كانت فيه من الكرة الأرضية. فهو العالم ليس بخلق الإنسان فقط ، بل هو العالم بنواياه وأعماله أيضا ،

٢٤٤

المحيط بكلّ شيء علما وهو على كلّ شيء قدير وعليه فإنّ الحساب على الأعمال والنوايا والإعتقادات المضمرة لا يشكلّ له.

وعليه فإنّ الحساب على الأعمال والنوايا والإعتقادات المضمرة لا يشكّل له تعالى أدنى مشكلة أيضا ، فكما ورد في الآية (٢٨٤) من سورة البقرة :( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) .

وكذلك حينما أظهر فرعون شكّا في قدرة الله على المعاد وإحياء القرون السابقة ، أجابه موسىعليه‌السلام :( قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) .(١)

* * *

__________________

(١) طه ، ٥٥.

٢٤٥

الآية

( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) )

التّفسير

تتابع هذه الآية البحوث المختلفة حول المعاد والإشارات العميقة المعنى حول مسألة إمكان المعاد ورفع أي استبعاد لذلك ، والآية أعلاه شرح أوسع وأوضح حول هذه المسألة ، تقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) ويا له من تعبير رائع ذلك الذي كلّما دقّقنا فيه أفاض علينا معاني أعمق وأدقّ؟!

وكما نعلم فإنّ الآيات القرآنية لها معان متعدّدة من أبعاد مختلفة ـ فبعض معانيها واضح للغالبية من الناس في كلّ زمان ومكان ، وبعضها عميق يختصّ بفهمه البعض ، وأخيرا فإنّ بعضها الآخر يتمثّل فيه العمق الذي لا يستطيع سبر غوره إلّا الخواص من العبّاد ، وفي نفس الوقت فإنّ تلك المعاني لا تنافي بعضها البعض ، بل إنّها تجمع كلّها في قالب واحد وفي آن واحد. والآية مورد البحث هكذا تماما.

التّفسير الأوّل الذي قال به الكثير من المفسّرين القدماء. وهو بسيط وواضح

٢٤٦

يمكن فهمه واستيعابه من قبل الغالبية وهو : أنّ المراد هو شجر «المرخ والعفار» الذي كان العرب قديما يأخذون منهما على خضرتهما ، فيجعل العفار زندا أسفل ويجعل المرخ زندا أعلى ، فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله.

وفي الواقع فهو يمثّل الكبريت في عصرنا الحالي. والله سبحانه وتعالى يريد القول بأنّ الذي يستطيع إشعال النار من هذا الشجر الأخضر له القدرة على إلباس الموتى لباس الحياة.

فالماء والنار شيئان متضادّان ، فمن يستطيع جعلهما معا في مكان واحد ، قادر على جعل الحياة والموت معا في مكان واحد. فالذي يخلق (النار) في قلب (الماء) و (الماء) في قلب (النار) فمن المسلّم أنّ إحياء بدن الإنسان الميّت لا يشكّل بالنسبة له أدنى صعوبة.

وإذا خطونا خطوة أبعد من هذا التّفسير فسوف نصل إلى تفسير أدقّ وهو : أنّ خاصيّة توليد النار بواسطة خشب الأشجار ، لا تنحصر بخشب شجرتي «المرخ والعفار» بل إنّ هذه الخاصية موجودة في جميع الأشجار وجميع الأجسام الموجودة في هذا العالم وإن كان لشجرتي المرخ والعفار ـ لتوفّر خصائص فيها ـ استعداد أكثر من غيرهما على هذا الأمر.

خلاصة القول ، إنّ جميع خشب الأشجار إذا حكّ ببعضه بشكل متواصل فإنّه سيطلق شرر النار وحتّى (خشب الشجر الأخضر).

لهذا السبب تقع في بعض الأحيان حرائق هائلة في بعض الغابات المليئة بالأشجار ، لا يعرف لها سبب من قبل الإنسان ، إلّا أنّ هبوب الريح الشديدة التي تضرب أغصان الأشجار ببعضها بشدّة ممّا يؤدّي إلى انقداح شرر منها يؤدّي إلى اشتعال النار فيها ، وتساعد الريح الشديدة على سرعة انتشارها ، فالعامل الأصلي كان تلك الشرارة الناتجة عن الاحتكاك.

هذا التّفسير الأوسع ، هو الذي يوضّح عملية جمع الأضداد في الخلق. ويبسط

٢٤٧

مفهوم وجود (البقاء) في (الفناء) وبالعكس.

لكن ثمّة تفسير ثالث يعتبر أعمق بكثير من التّفسيرين السابقين. والذي ظهر إلى الواقع نتيجة جهود العلماء في عصرنا الحاضر وقد اخترنا أن نطلق عليه تسمية «انبعاث الطاقة».

وتوضيح ذلك كما يلي : إنّ من أهمّ الوظائف التي تقوم بها النباتات هي عملية «التركيب الضوئي» والتي تعتمد أساسا على أخذ غاز «ثاني اوكسيد الكربون» من الهواء ، والإفادة منه بواسطة «المادّة الخضراء» أو ما يسمّى «بالكلورفيل» لصنع الغذاء بمساعدة الماء وضوء الشمس. ذلك الغذاء الذي يؤدّي إلى تكوّن حلقات السليلوز في النباتات من ذوات الفلقتين ، ويكون ناتج عملية التركيب الضوئي الأوكسجين الذي يطلق في الهواء مرّة اخرى.

ولو نظرنا إلى العملية بطريقة اخرى فإنّ النباتات تأخذ الغاز (ثاني أوكسيد الكاربون) وتجزّئه أثناء عملها لتحتفظ بالكاربون مركّبا مع غيره من الماء لتكوّن الخشب وتطلق الأوكسجين.

والمهمّ هنا أنّ العلماء يقولون : بأن أيّة عملية تركيب كيمياوي تحتاج إلى طاقة ما لكي يتمّ ذلك التفاعل الكيمياوي ، أو أنّ ذلك التفاعل يؤدّي إلى إطلاق طاقة كناتج عنه. وبناء عليه فإنّ التفاعل الذي يتمّ نتيجة التركيب الضوئي إنّما يستفيد من الشمس كمصدر للطاقة لإتمام التفاعل.

وعليه فالشجرة إنّما تقوم بادّخار هذه الطاقة في الخشب الذي يتكوّن نتيجة لهذه العملية. وعند ما نقوم نحن بحرق هذا الخشب فإنّنا إنّما نقوم بإطلاق عقال هذه الطاقة المدّخرة. وبذا فإنّنا نقوم بإعادة تركيب (الكاربون) مع (الأوكسجين) لينتج (ثاني أوكسيد الكاربون) الذي ينطلق في الهواء مرّة اخرى ، بالإضافة إلى بخار الماء.

ولو تحدّثنا بلغة اخرى لقلنا : إنّ تلك الحرارة الناجمة عن اشتعال الحطب في

٢٤٨

المواقد البيتية القروية أو مواقد الفحم التي نستعملها في بيوتنا أحيانا للتدفئة في فصل الشتاء ، هي في الحقيقة حرارة ونور الشمس التي ادّخرت في خشب هذه الأشجار لسنوات ، وما جمعته الشجرة على مدى عمرها من الشمس تعيده دفعة واحدة بدون نقص.

ويقال إنّ كلّ الطاقات في الكرة الأرضية تعود إلى الشمس أساسا ، وواحد من مظاهره ما ذكرنا.

وهنا وحيث بلغنا «انبعاث الطاقات» نلاحظ أنّ النور والحرارة المبعثرة في الجو والتي تقوم الأشجار بجمعها في أخشابها لتنمو فإنّها لا تفنى أبدا. بل إنّها تتبدّل شكلا. وتختفي بعيدا عن أعيننا في كلّ ذرّة من ذرّات الخشب ، وعند ما نقوم بإيقاد النار بقطعة من الحطب ، فإنّ انبعاثها يبدأ ، وجميع ما كان في ذرّات الخشب من النور والحرارة وطاقة الشمس ، في تلك اللحظة ـ لحظة الحشر والنشر ـ تظهر من جديد. بدون أن ينقص منه حتّى بمقدار إضاءة شمعة واحدة (تأمّل بدقّة).

لا شكّ أنّ هذا المعنى كان خافيا على عوام الناس حين نزول الآية ، ولكن ـ كما قلنا ـ فإنّ هذا الموضوع لا يشكّل أدنى مشكلة ، لأنّ آيات القرآن لها معان متعدّدة وعلى مستويات مختلفة ، لاستعدادات متفاوتة ، ففي يوم يفهم من الآية معنى ، واليوم يفهم منها معنى أوسع ، ويمكن أنّ الأجيال القادمة تفهم منها معنى أوسع وأعمق ، وفي نفس الوقت فكلّ هذه المعاني صحيحة ومقبولة بشكل كامل ومجموعة كلّها في معنى الآية.

* * *

مسألتان

١ ـ شجر أخضر لماذا؟

يرد على الذهن أنّه لماذا عبّر القرآن هنا بالشجر الأخضر؟ في حين أنّ توليد

٢٤٩

النار من الخشب الطري والرطب يتمّ بصعوبة بالغة ، فكم كان جميلا لو عبّر عوضا عن ذلك «بالشجر اليابس» ، لكي ينسجم مع المعنى تماما!!؟

النكتة هنا هو أنّ الشجر الأخضر الحي فقط يستطيع القيام بعملية التركيب الضوئي ، وادّخار نور الشمس وحرارتها ، وأمّا الجذوع اليابسة للشجر لو بقيت مئات السنين متعرّضة للشمس فإنّها لن تستطيع زيادة الذخيرة الموجودة فيها.

وبناء عليه فإنّ (الشجر الأخضر) فقط يستطيع أن يصنع وقودا لنا ، ويمكنه الاحتفاظ وادّخار الحرارة والنور وزيادتها بصورة محوّرة ، ولكنّها بمحض جفافها ، فإنّ عملية التركيب الضوئي تتوقّف ، وتتعطّل معها عملية ادّخار الطاقة الشمسية.

وبناء على هذا فإنّ التعبير أعلاه ، يعتبر تجسيدا جميلا لعملية «انبعاث الطاقات» ومعجزة علمية خالدة للقرآن الكريم!

فضلا عن أنّنا إذا رجعنا إلى التّفسيرات الاخرى التي أشرنا إليها سابقا ، يبقى أيضا التعبير بـ «الشجر الأخضر» جميلا ومناسبا ، إذ أنّ الأشجار الخضراء عند احتكاكها ببعضها البعض تولّد شرارة تستطيع أن تكون مبعث نار كبيرة ، وهنا نقف إزاء عظمة قدرة الله في حفظه النار في قلب الماء ، والماء في قلب النار(١) .

٢ ـ الفرق بين الوقود والوقود :

«توقدون» من «وقود» ـ على زنة قبور ـ بمعنى اشتعال النار ـ و «الإيقاد» بمعنى إشعال النار ، و «الوقود» ـ على زنة ثمود ـ بمعنى الحطب المعدّ للإحراق.

وعليه فإنّ جملة( فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) إشارة إلى الحطب الذي تشتعل فيه النار ، لا ما تبدأ به النار بالاشتعال كالزناد أو عود الكبريت.

وبناء عليه فإنّ القرآن الكريم يقول : «إنّ الله سبحانه وتعالى جعل لكم من

__________________

(١) إذا اعتبرنا «من» في جملة «منه توقدون» بمعنى «به» فإنّ ذلك يتساوق مع التّفسيرات الاخرى.

٢٥٠

الشجر الأخضر حطبا توقدونه ، وهو القادر على إعادة الموتى إلى الحياة» وهذا التعبير ينسجم تماما مع ما قلناه من «بعث الطاقات» «تأمّل بدقّة»!!

وعلى كلّ حال ، فإنّ مسألة إشعال النار في خشب الأشجار مع أنّها مسألة بسيطة في نظرنا ، ولكن بقليل من الدقّة نعلم أنّها من أعجب المسائل ، لأنّ المواد التي يتشكّل منها خشب الأشجار في أغلبها ماء وتراب ، وكلاهما غير قابل للاشتعال ، فما هي تلك القدرة التي خلقت من الماء والتراب والهواء ـ وهي مواد ـ طاقة لا زالت حياة البشر ومنذ آلاف السنين مرتبطة بها بقوّة؟!

* * *

٢٥١

الآيات

( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣) )

التّفسير

هو المالك والحاكم على كلّ شيء!!

بعد ذكر دلائل المعاد والفات الأنظار إلى الخلق الأوّل ، ونشوء النار من الشجر الأخضر في الآيات السابقة ، تتابع الآية الاولى هنا بحث ذلك الموضوع من طريق ثالث وهو قدرة الله اللامتناهية ، فتقول الآية الاولى :( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) .

الجملة الاولى بشروعها (بالاستفهام الإنكاري) تطرح سؤالا على الوجدان اليقظ والعقل السليم كالآتي : ألم تتطلّعوا إلى تلك السماء المترامية العظيمة بكلّ ثوابتها وسيّاراتها العجيبة ، وبكلّ تلك المنظومات والمجرّات التي تشكّل كلّ زاوية منها دنيا واسعة هائلة؟ فالذي هو قادر على خلق كلّ هذه العوالم الخارقة

٢٥٢

في العظمة والمتناهية التنظيم والدقّة في قوانينها ، كيف لا يكون قادرا على إحياء الموتى؟

ولكون الجواب على هذا السؤال واضحا ، وكامنا في كلّ قلب وروح ، فإنّ الآية لا تنتظر الجواب ، إنّما تردف مضيّفة «بلى» وتتابع مؤكّدة على صفتين لله سبحانه وتعالى ـ الخالقية والعلم المطلق ـ وذلك في حقيقته دليل على الكلام المتقدّم ، فإذا كنتم تشكّون في قدرته على الخلق فهو «الخلّاق» (وهي صيغة مبالغة).

وإذا كان جمع هذه الذرّات يحتاج إلى علم أو معرفة فهو «العليم» المطلق.

أمّا على ماذا يعود الضمير في «مثلهم» فقد احتمل المفسّرون احتمالات عديدة ، ولكن أشهرها هو القول بعودة الضمير على «البشر» والمعنى : إنّ خالق السماء والأرض قادر على خلق مثل البشر.

وهنا يأتي السؤال التالي وهو لماذا لم يقل : قادر على أن يخلقهم من جديد ، بل قال:( بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ؟

وللإجابة على هذا السؤال ذكرت أجوبة كثيرة ، يبدو أقربها : أنّ بدن الإنسان عند ما يتحوّل ـ أو بالأحرى يتحلّل ـ إلى تراب ، فإنّه يفقد الصورة النهائية التي كان عليها ، وفي يوم القيامة عند ما يعاد خلق هذا الإنسان من جديد ، فإنّه سيخلق من نفس المواد ولكن بصورة جديدة تشبه الصورة القديمة ، بلحاظ أنّ عودة نفس الصورة القديمة ـ بالأخصّ إذا أخذنا في الإعتبار قيد الزمن ـ غير ممكن ، وخصوصا إذا علمنا ـ مثلا ـ أنّ الإنسان لا يحشر بجميع المواصفات والكيفية التي كان عليها سابقا ، فإنّ الشيبة والشيوخ ـ مثلا ـ يحشرون شبّانا ، والمعلولين يحشرون سالمين ، وهكذا.

وبتعبير آخر ، فإنّ بدن الإنسان كالطابوق الطيني غير المفخور ـ اللبن ـ الذي يمرّ عليه الزمان فيتهدّم ويصبح ترابا ، ثمّ يجمع من جديد وتصنع منه خميرة الطين ويوضع في قالب مرّة اخرى ويصنع لبنا جديدا مرّة اخرى. فهذا «اللبن» هو من

٢٥٣

جانب نفس «اللبن» القديم ومن جانب آخر «مثله» «مادّته هي نفس المادّة والصورة مثل الصورة السابقة» «دقّق النظر»(١) .

الآية اللاحقة تأكيد على ما ورد في الآيات السابقة ، وتأكيد على حقيقة أنّ أي خلق وإيجاد بالنسبة لله سبحانه وتعالى وقدرته سهل وبسيط ، وخلق السموات العظيمة والكرة الأرضية يعادل في سهولته إيجاد حشرة صغيرة ، فكلاهما بالنسبة له تعالى أمر هيّن بسيط ، يقول تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، فكلّ شيء مرتبط بأمره وإشارته فقط ، وذات بهذه القدرة كيف يشكّ في تمكّنها في إحياء الموتى؟!

وبديهي أنّ الأمر الإلهي هنا ليس أمرا لفظيا ، كما أنّ جملة «كن» ليست جملة يبيّنها الله سبحانه وتعالى بصورة لفظ ، لأنّه تعالى لا يحتاج إلى تلك الألفاظ ، بل المقصود هو مجرّد إرادته لإيجاد وإبداع شيء ، وإنّما استخدم التعبير بـ «كن» لأنّه ليس هناك تعبير أقصر وأصغر وأسرع يمكن تصوّره في التعبير عن تلك الحقيقة. نعم فإرادته لإيجاد شيء ووجود هذا الشيء هي عملية واحدة.

وبتعبير آخر : فإنّ الله سبحانه وتعالى ما إن يرد شيئا إلّا تحقّق فورا ، وليس بين إرادته ووجود ذلك الشيء أيّة فاصلة ، وعليه فإنّ «أمره» و «قوله» وجملة «كن» كلّها توضيح لمسألة الخلق والإيجاد. وكما ذكرنا فإنّ الأمر ليس لفظيّا أو قوليا ، بل كلّها توضيح للتحقّق السريع بوجود كلّ ما أراده سبحانه وتعالى.

وببيان أوضح ، انّ أفعال الله سبحانه وتعالى تمرّ بمرحلتين لا ثالث لهما ، مرحلة

__________________

(١) بعض المفسّرين أعادوا الضمير في «مثلهم» على السموات والأرض ، وقالوا بأنّ استعمال ضمير الجمع العاقل لوجود الموجودات العاقلة في الأرض والسماء كثير. البعض الآخر استنتج من استخدام كلمة «مثلهم» عدم ضرورة عودة عين الجسم بمواده التي كان يتشكّل منها في الدنيا ، لأنّ شخصية الإنسان تتعلّق بروحه ، وهذه الروح بأي مادّة تعلّقت تكون مثل الإنسان. ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الكلام لا ينسجم مع ظاهر آيات القرآن الكريم ـ حتّى أنّه لا ينسجم مع ظاهر الآيات مورد البحث ـ لأنّ القرآن الكريم يقول بصراحة في هذه الآيات : إنّه يخلق نفس تلك العظام المتفسّخة من جديد ويلبسها ثوب الحياة. «تأمّل!!».

٢٥٤

الإرادة ومرحلة الإيجاد ، وهي التي عبّرت عنه الآية بشكل أمر في جملة «كن».

بعض المفسّرين القدماء توهّموا أنّ المعنى يشير إلى وجود قول ولفظ في عملية الإيجاد والخلق ، واعتبروا ذلك من أسرار الخلق غير المعروفة ، والظاهر أنّهم وقعوا في عقدة اللفظ ، وبقوا بعيدين عن المعنى ، وقاسوا أعمال الله على مقاييسهم البشرية.

وما أجمل ما قاله أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام في واحدة من خطبة التي أوردت في نهج البلاغة : «يقول لما أراد لما كونه كن فيكون(١) لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان ثانيا»(٢) .

ناهيك عن أنّنا لو افترضنا وجود لفظ أو قول في عملية الخلق فسنواجه إشكالين أساسيين :

الأوّل : أنّ (اللفظ) بحدّ ذاته مخلوق من مخلوقات الله ولأجل إيجاده يحتاج سبحانه إلى «كن» اخرى ، ونفس الكلام ينطبق على «كن» الثانية بحيث نصبح في عملية تسلسل غير منتهية.

الثاني : أنّ كلّ خطاب يحتاج إلى مخاطب ، وفي الوقت الذي لم يوجد فيه شيء حينذاك فكيف يخاطبه الله سبحانه وتعالى بالقول «كن» ، فهل أنّ المعدوم يمكن مخاطبته؟!

وقد ورد في آيات اخرى من القرآن الكريم نفس هذا المعنى بتعبيرات اخرى ، كما في الآية (١١٧) من سورة البقرة :( وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، وكذا في الآية (٤٠) من سورة النحل :( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ

__________________

(١) ورد في بعض النسخ «لمن أراد» ويبدو أن الأنسب هو النص الذي أوردناه «لما أراد».

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٨٦.

٢٥٥

فَيَكُونُ ) (١) .

الآية الأخيرة من هذه الآيات وهي في ذات الوقت آخر آية من سورة «يس» تنهي البحث في مسألة المبدأ والمعاد بشكل جميل وبطريقة الاستنتاج الكلّي فتقول :( فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ «ملكوت» من أصل «ملك» ـ على وزن حكم ـ بمعنى الحكومة والمالكية ، وإضافة (الواو) و (التاء) إليها للتأكيد والمبالغة ، يتّضح أنّ معنى الآية كما يلي : إنّ الحاكمية والمالكية المطلقة بدون أدنى قيد أو شرط بيد قدرته المطلقة ، وكذلك فإنّ الله سبحانه منزّه ومبرّأ عن أي عجز أو نقص في القدرة ، وبهذا الشكل فإنّ إحياء الموتى وإلباس العظام المتفسّخة لباس الحياة من جديد ، كلّ ذلك لن يشكّل لديه أيّة مشكلة ، ولذلك فاعلموا يقينا أنّكم إليه ترجعون وأنّ المعاد حقّ.

* * *

بحوث

لقد تقدّمت منّا الوعود بأن نتعرّض لبحث مركز في مسألة المعاد في ختام سورة (يس) وها نحن نفي بهذه الوعود ونشبع هذه المسألة بحثا من خلال ستّة مباحث لنعرضها للقرّاء الأعزّاء كما يلي :

١ ـ الإعتقاد بالمعاد أمر فطري :

إذا كان الإنسان قد خلق للفناء فيجب أن يكون عاشقا للفناء ، وأن يلتذّ بنهاية عمره وبموته في حين أنّنا نرى أنّ الموت بمعنى الفناء لم يكن سارا للإنسان في أي وقت ، وهو يفرّ منه بكلّ وجوده.

__________________

(١) هناك بحث آخر في تفسير جملة «كن فيكون» في تفسير الآية (١١٧) من سورة البقرة.

٢٥٦

إنّ السعي لإبقاء أجسام الموتى عن طريق التحنيط ، وبناء المقابر الخالدة كأهرام مصر ، والجري وراء ما يسمّى بماء الحياة ودواء الشباب وما يطيل العمر ، كلّ ذلك دليل على عشق الإنسان لمفهوم البقاء.

فإذا كنّا قد خلقنا للفناء فما معنى حبّ البقاء سوى أنّها علاقة شاغلة بلا جدوى ولا فائدة.

لا تنسوا أنّنا نتابع البحث في مسألة المعاد بعد الاتّفاق على الإعتقاد بوجود الله الحكيم العالم ، ونحن نعتقد بأنّ كلّ ما خلقه الله سبحانه وتعالى في وجودنا إنّما هو وفقا لحساب وغرض ، وبناء عليه فإنّ عشق البقاء لا بدّ أن يكون له حساب خاصّ ، منسجم مع الخلق والعالم بعد الدنيا.

وبتعبير آخر : فلو أنّ نظام الخلق أوجد فينا عطشا. فإنّ ذلك دليل على أنّ للماء وجودا في العالم الخارجي ، كذلك فإنّ وجود الغريزة الجنسية والميل إلى الجنس الآخر يدلّل على وجود الجنس الآخر في العالم الخارجي ، وإلّا فإنّ الانجذاب بدون أن يكون له مدلول وموضوع خارجي لا يتّفق مع حكمة الخلق.

ومن جهة اخرى فعند ما نبحث في التأريخ البشري منذ أيّام نشأة ذلك التأريخ فإنّنا نجد دلائل كثيرة على الإعتقاد الراسخ لدى الإنسان بالحياة بعد الموت.

فالآثار التي وصلت إلينا من البشر الغابرين ـ وحتّى إنسان ما قبل التأريخ ـ وبالأخصّ طريقة دفن الموتى ، وكيفية بناء القبور ، وحتّى دفن الأشياء المختلفة مع الموتى ، كلّها دليل على ما ترسّخ في وجدانهم من الإعتقاد بالحياة بعد الموت.

«صاموئيل كنيك» أحد علماء النفس المعروفين يقول : «إنّ التحقيقات الدقيقة تشير إلى أنّ المجموعات البشرية الاولى على سطح الأرض ، كانت لهم اعتقادات معيّنة ، لأنّهم كانوا يلحدون موتاهم بطريقة معيّنة في الأرض ، ويضعون معهم وسائل وآلات أعمالهم التي كانوا يمارسونها قبل الموت إلى جانبهم ، وبهذه

٢٥٧

الطريقة فإنّهم يثبتون اعتقادهم بوجود عالم ما بعد الموت»(١) .

فهؤلاء اعتقدوا بالحياة بعد الموت ، وإن كانوا قد سلكوا طريقا خاطئا في اعتقادهم كتوهّمهم أنّ تلك الحياة شبيهة بهذه الحياة تماما.

على كلّ حال ، فلا يمكن قبول أنّ ذلك الإعتقاد القديم مجرّد وهم أو نتيجة للتلقين والعادة.

ومن جهة ثالثة ، فإنّ وجود محكمة «الوجدان» ، دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد. فكلّ إنسان عند ما ينجز عملا حسنا فإنّه يستشعر في أعماقه وفي وجدانه الطمأنينة التي لا يمكن أحيانا وصفها بأي بيان أو كلام.

وعلى العكس عند ما يرتكب الذنوب وخصوصا الجنايات الكبرى ، فإنّه يستشعر عدم الراحة ، إلى حد تصل الحالة في البعض إلى الانتحار ، أو يسلّموا أنفسهم إلى المحاكم لنيل العقاب والتعلّق على أعواد المشانق.

كلّ ذلك دليل على عذاب الضمير والوجدان.

وللإنسان أن يسأل نفسه : كيف يمكن أن يكون عالم صغير كعالم النفس له تلك المحكمة ، ولا يكون لهذا العالم العظيم مثل هذا الوجدان وهذه المحكمة؟!

وبهذا الشكل يتّضح أنّ الإعتقاد بمسألة المعاد والحياة بعد الموت أمر فطري ، ومن عدّة طرق :

من طريق العشق البشري العام للبقاء.

ومن طريق وجود ذلك الإعتقاد بالحياة بعد الموت على طول التأريخ البشري.

ومن طريق وجود النموذج المصغّر لها في داخل الإنسان.

٢ ـ أثر الإعتقاد بالمعاد على حياة البشر :

إنّ الإعتقاد بعالم ما بعد الموت وبقاء آثار الأعمال البشرية ، وخلود الأعمال ـ

__________________

(١) علم الاجتماع (ساموئيل كنيك) صفحة ١٩٢ (مع قليل من التلخيص).

٢٥٨

سواء كانت خيرا أو شرّا ـ يترك أثره العميق على فكر وأعصاب وجسد الإنسان ، ويمكنه أن يكون عاملا مؤثّرا في التشجيع على الأعمال الحسنة.

إنّ تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت في إصلاح الأفراد الفاسدين والمنحرفين وتشجيع الأفراد المضحّين والمجاهدين ، أكثر بكثير من تأثير المحاكم والعقوبات المعمول بها عادة في الدنيا ، للمزايا التي يتمتّع بها ذلك الإيمان عن المحاكم العادية ، ففي محكمة المعاد لا وجود لإعادة النظر ، ولا أثر للاضطهاد الفكري على صاحبها ، ولا فائدة من إعطاء وثائق كاذبة ومزوّرة ، ولا تستغرق ـ عبر روتينها ـ مدّة من الزمن.

القرآن الكريم يقول :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (١) .

كذلك يقول تعالى :( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٢) .

كذلك قوله تعالى :( لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (٣) .

وإنّ حسابه تعالى سريع وحاسم كما نقلت بعض الروايات : «إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّها في مقدار لمح البصر»(٤) .

ولهذا السبب فقد اعتبر القرآن الكريم أنّ سبب الكثير من الذنوب هو نسيان يوم الجزاء ، فقال تعالى :( فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (٥) .

حتّى أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ الإنسان إذا كان معتقدا بالقيامة فإنّه يمتنع عن القيام بالكثير من الأعمال المخالفة ، فقد ورد في وصفه تعالى لمن يخسرون

__________________

(١) البقرة ، ٤٨.

(٢) يونس ، ٥٤.

(٣) إبراهيم ، ٥١.

(٤) مجمع البيان ، المجلّد ١ ، صفحة ٢٩٨ ، تفسير سورة البقرة الآية ٢٠٢.

(٥) السجدة ، ١٤.

٢٥٩

الميزان في البيع قوله تعالى :( أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) (١) .

والحماسة الخالدة لمجاهدي الإسلام سابقا وحاضرا في ميادين الجهاد ، والتضحية والفداء والإيثار الذي يظهره الكثير من المسلمين في الدفاع عن بلدان الإسلام وعن المحرومين والمستضعفين ، يدلّل على أنه بجميعه انعكاس لحالة الإعتقاد بالحياة الخالدة في الدار الآخرة ، وقد دلّت الدراسات من قبل المفكّرين ، والتجارب المختلفة على أنّ تلك المظاهر لا يمكن أن تكون ـ في المقياس الواسع الشامل ـ إلّا عن طريق العقيدة بالحياة بعد الموت.

فإنّ المجاهد الذي منطقه( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) (٢) . أي الوصول إلى إحدى السعادتين إمّا النصر أو الشهادة ، وهو قطعا مجاهد لا يقبل الهزيمة.

إنّ الموت الذي يبعث على الوحشة لدى كثير من الناس ، وحتّى أنّهم يحاذرون من ذكر اسمه أو كلّ ما يذكّر به ، ليس موحشا ولا قبيحا قطّ بالنسبة إلى المعتقدين بالحياة بعد الموت ، بل إنّه بالنسبة إليهم نافذة على عالم رحيب ، وتحطّم القفص الدنيوي وكسر القيود المادّية التي تأسر الروح ، وبلوغ الحريّة المطلقة.

إنّ مسألة المعاد تعتبر الخطّ الفاصل بين الإلهيين والمادّيين ، لوجود نظرتين مختلفتين هنا:

فالمادّي يرى الموت فناء مطلقا ، ويفرّ منه بكلّ وجوده ، لأنّ كلّ شيء سينتهي به.

والإلهي يرى الموت ولادة جديدة ، وولوجا في عالم واسع كبير مشرق ، والانطلاق في السماء اللامحدودة. ومن الطبيعي فإنّ المعتقدين بهذا المذهب لا يفسحون المجال للخوف والوحشة للدخول إلى أنفسهم عند سلوكهم طريق

__________________

(١) المطفّفين ، ٤.

(٢) التوبة ، ٥٢.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

والمجاهدين في سبيل الله ، أو صفوف المصلّين والعباد.

رغم أنّ القرائن تشير إلى أنّ المراد من كلمة «الصافات» هو الملائكة ، إضافة إلى أنّ بعض الروايات قد أشارت إلى ذلك المعنى(١) .

وليس هناك أي مانع من أن تشمل كلمة «الزاجرات» الملائكة الذين يطردون وساوس الشياطين من قلوب بني آدم ، والإنسان الذي يؤدّي واجب النهي عن المنكر.

و «التاليات» إشارة إلى كلّ الملائكة والجماعات المؤمنة التي تتلو آيات الله ، وتلهج بذكره تبارك وتعالى على الدوام.

هنا يطرح هذا السؤال : ظاهر هذه الآيات ـ وبمقتضى وجود العطف بحرف (الفاء) بين الجمل الثلاث ـ يبيّن أنّ الطوائف الثلاث جاءت الواحدة بعد الاخرى ، فهل أنّ هذا الترتيب جاء بحكم الواجب المترتّب على كلّ طائفة؟ أم كلّ حسب مقامه؟ أم لكلا الأمرين؟

من الواضح أنّ الاصطفاف والاستعداد قد جاءا كمرحلة اولى ، ثمّ جاءت ـ كمرحلة ثانية ـ عملية إزالة العراقيل من الطريق. أمّا إعلان الأوامر وتنفيذها فقد كانت بمثابة المرحلة الثالثة.

ومن جهة اخرى فإنّ المستعدّين لتنفيذ الأوامر الإلهيّة لهم مرتبة ، والذين يزيلون العراقيل لهم مرتبة أعلى ، أمّا الذين يتلون الأوامر وينفّذونها فلهم مرتبة أسمى من الجميع.

على أيّة حال فإنّ قسم الله سبحانه وتعالى بتلك الطوائف يوضّح عظم منزلتهم عند الباريعزوجل ، ويشير إلى حقيقة مفادها أنّ سالكي طريق الحقّ عليهم للوصول إلى غايتهم أن يجتازوا تلك المراحل الثلاث والتي تبدأ بتنظيم الصفوف ووقوف كلّ مجموعة في الصفّ المخصّص لها ، ومن ثمّ العمل على إزالة العراقيل

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ١٥ ، الدرّ المنثور ، المجلّد ٥ ، الصفحة ٢٧١.

٢٨١

من الطريق ، ورفع الموانع بالصوت العالي ، الصوت الذي يتناسب مع مفهوم الزجر ، ومن بعد تلاوة الآيات الإلهيّة والأوامر الربّانية على القلوب المتهيّئة لتنفيذ مضامين تلك الأوامر.

فالمجاهدون السالكون لطريق الحقّ ليس أمامهم من سبيل سوى اجتياز تلك المراحل الثلاث ، وبنفس الصورة على العلماء العاملين أن يستوحوا في جهودهم الجماعية ذلك البرنامج.

وممّا يذكر أنّ بعض المفسّرين فسّروا الآيات على أنّها تعود على المجاهدين ، والبعض الآخر أكّد عودتها على العلماء ، ولكن حصر مفهوم الآيات بالمجاهدين والعلماء فقط مستبعد بعض الشيء ، وإن أعطيت الآيات طابعا عامّا فإنّها ستكون أقرب للواقع ، وإذا اعتبرناها تخصّ الملائكة فإنّ الآخرين يمكنهم تنظيم حياتهم وفق مناهج الملائكة.

أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عند ما يصف بخطبته في نهج البلاغة الملائكة ، فإنّه يقسّمهم إلى مجموعات مختلفة ، ويقول : «وصافون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله»(١) .

أمّا آخر حديثنا عن الآيات الثلاث هذه ، فهو أنّ البعض يعتقد بأنّ القسم في هذه الآيات يعود إلى ذات الله ، وكلمة (ربّ) مقدّرة في جميع تلك الآيات ، حيث يكون المعنى كالتالي : وربّ الصافات صفّا ، وربّ الزاجرات زجرا ، وربّ التاليات ذكرا.

والذين فسّروا الآيات على هذا النحو ، فالظاهر أنّهم يعتقدون بأنّ العباد لا يحقّ لهم القسم بغير الله ، لذا فإنّ الله لا يقسم إلّا بذاته ، إضافة إلى أنّ القسم يجب أن يكون بشيء مهمّ ، ألا وهو ذات الله المقدّسة.

__________________

(١) الخطبة الاولى في نهج البلاغة.

٢٨٢

إلّا أنّ هؤلاء غفلوا عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ حساب الله لا علاقة له بالعباد ، فالله تعالى ـ من أجل توجيه الإنسان ـ يقسم بآيات «الآفاق» و «الأنفس» ودلائل قدرته في الأرض والسماء ، وذلك لكي يتفكّر الإنسان بتلك الآيات ، وعن طريقها يعرف ربّه.

وجدير بالذكر أنّ بعض آيات القرآن المجيد ، ومنها آيات سورة الشمس تقسم بموجودات الكون إلى جانب القسم بذات الله المقدّسة ، إذن فالتقدير هنا غير سديد ، إذ يقول القرآن الكريم :( وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ) (١) .

على أيّة حال ، فإنّ ظاهر الآيات ـ محلّ البحث ـ يدلّ على أنّ المجموعات الثلاث هي المقسم بها ، وتقدير الشيء هنا خلاف للظاهر ، ولا يمكن قبوله بغير دليل.

الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني ، أي القسم بالملائكة والإنس؟

الآية التالية توضّح ذلك وتقول :( إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ) .

قسم بتلك المقدّسات التي ذكرناها فإنّ الأصنام ستزول وتدمّر ، وإنّه ليس هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير لله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ) .

وهنا نطرح سؤالين :

١ ـ ما هي الضرورة لذكر «المشارق» بعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما ، رغم أنّ المشارق هي جزء منهما.

ويتّضح الجواب من خلال الالتفات إلى هذه النقطة وهي : إنّ المراد من «المشارق» هو الإشارة إلى مواقع شروق الشمس في أيّام السنة ، أو إلى مشارق

__________________

(١) سورة الشمس ، الآيات ٥ ـ ٧.

٢٨٣

النجوم المختلفة في السماء ، حيث أنّها جميعا لها نظام وبرنامج خاصّ بها ، إضافة إلى النظام السماوي والأرضي الذي يوضّح العلم والقدرة والتدبير المطلق للخالق.

فالشمس في كلّ يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو بعد يوم ، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية ، حيث أنّها لا تزيد ولا تقلّ بمقدار ١ من الثانية ، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين السنين.

كما أنّ هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.

إضافة إلى ذلك فإنّ الشمس لو لم تكن تتحرّك ضمن مسير تدريجي طوال العام ، لم يعد هناك وجود للفصول الأربعة وللنعم المختلفة التي تظهر خلال تلك الفصول ، وهذا دليل آخر على عظمة وتدبير الخالقعزوجل .

ومن المعاني الاخرى لكلمة «المشارق» ، هو أنّ الأرض لكونها كروية الشكل ، فإنّ كلّ نقطة عليها تعتبر بالنسبة إلى النقطة الاخرى إمّا مشرقا أو مغربا ، وبهذا فإنّ الآية تؤكّد كروية الأرض ووجود المشارق والمغارب (ولا مانع من تحقّق المعنيين في الآية المذكورة).

أمّا السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو : لماذا لم تأت كلمة «مغارب» في الآية في مقابل «المشارق» كما جاء في الآية (٤٠) من سورة المعارج( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) .

والجواب على هذا السؤال ، هو أنّ قسما من الكلام ينسخ قسما آخر لوجود القرينة ، وفي بعض الأحيان يأتيان معا ، وهنا ذكر كلمة «المشارق» قرينة على «المغارب» وهذا التنوّع يوضّح فصاحة القرآن وبلاغته.

فيما قال بعض المفسّرين : إنّ ذكر كلمة (المشارق) يتناسب مع شروق الوحي بواسطة الملائكة( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) على قلب النّبي الطاهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلّد ١٧.

٢٨٤

الآيات

( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) )

التّفسير

حفظ السماء من تسلّل الشياطين!

الآيات السابقة تحدّثت عن طوائف الملائكة المكلّفة بتنفيذ المهام الجسام ، والآيات التالية ـ موضوع البحث ـ ستتحدّث عن الطائفة المقابلة لها ، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدّمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجنّ ، وتتضمّن كذلك درسا في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) (١) فلو رفع أحدنا

__________________

(١) «الكواكب» هنا بدل من الزينة ، ويحتمل كونها عطف بيان ، والزينة هنا اسم مصدر وليست مصدرا ، حيث

٢٨٥

ببصره نحو السماء في إحدى الليالي المظلمة ، لتجسّم في بصره منظر جميل يسحر الإنسان.

وكأنّ الكواكب تتحدّث معنا بلسانها الصامت ، لتكشف لنا أعن أسرار الخلق ، وأحيانا تكون شاعرة تنشد لنا أجمل القصائد الغزلية والعرفانية ، وإغماضها وتواريها ، ومن ثمّ إبراقها ولمعانها ، يوضّح أسرار العلاقة الموجودة بين العاشق والمعشوق.

حقّا إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال ، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه ، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان. (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع ، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية ـ أي تزيين السماء بالكواكب ـ بصورة أفضل).

ومن الجدير بالاهتمام قول الآية :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) في حين كانت الفرضيات الشائعة في ذلك الوقت في أذهان العلماء والمفكّرين هي أنّ السماء العليا هي التي تضمّ الكواكب (السماء الثامنة طبقا لفرضيات بطليموس).

وكما هو معروف فإنّ العلم الحديث دحض تلك الفرضيات. وعدم اتّباع القرآن لما جاء في تلك الفرضيات النادرة والمشهورة في ذلك الزمان معجزة حيّة لهذا الكتاب السماوي.

والنقطة الاخرى التي تلفت النظر هي أنّ ارتعاش نور الكواكب الجميل وغمزها للناظر يعود ـ من وجهة نظر العلم الحديث ـ إلى وجود القشرة الهوائية حول الأرض ، وهذا المعنى يتلاءم مع ما نصّت عليه الآية الكريمة( السَّماءَ الدُّنْيا ) .

__________________

غ جاء في الكتب الأدبية أينما وجدت نكرة بدل عن المعرفة فيجب مرافقتها بوصف ، وفي حالة العكس فإنّ الأمر غير واجب.

٢٨٦

أمّا في خارج جو الأرض فإنّ النجوم تبدو نقاط منيرة على وتيرة واحدة وليس لها ذلك التلألؤ ، على عكس ما يشاهد داخل جوّ الأرض.

أمّا الآية( وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ) (١) فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

كلمة (مارد) مشتقّة من (مرد) التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع ، كما يقال للشجرة التي تساقطت أوراقها كلمة (أمرد) وتطلق على الفتى الذي لا شعر في وجهه. وهنا المقصود من كلمة (مارد) هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

حفظ السماء من تسلّل الشياطين يتمّ بواسطة نوع من أنواع النجوم يطلق عليها اسم (الشهب) ، وسيشار إليها في الآيات القادمة.

ثمّ يضيف القرآن الكريم : إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم ، فكلّما حاولوا عمل شيء ما لسماع الحديث ، رشقوا بالشهب من كلّ جانب( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ) .

نعم إنّهم يطردون من السماء بشدّة ، وقد أعدّ لهم عذاب دائم ، كما جاء في قوله تعالى :( دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ) .

( لا يَسَّمَّعُونَ ) بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار «الملأ الأعلى» إلّا أنّه لا يسمح لهم بذلك.

( الْمَلَإِ الْأَعْلى ) ، تعني ملائكة السماوات العلى ، لأنّ كلمة (ملأ) تطلق في الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة ، وتعدّ في نظر الآخرين مجموعة متّحدة ومنسجمة ، كما تطلق هذه الكلمة على الأشراف والأعيان والدائرين في فلك

__________________

(١) (حفظا) على حدّ قول الكثير من المفسّرين مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير هو : وحفظناها حفظا. والبعض احتمل أنّها معطوفة على (بزينة) التي هي (مفعول له) ، وتقديرها إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا.

٢٨٧

مراكز القوى ، لأنّهم يعدّون في نظر الآخرين متّحدين أيضا ، ولكن عند ما يوصف الملأ بـ (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

«يقذفون» مشتقّة من (قذف) وتعني رمي الشيء إلى مكان بعيد ، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب ، التي سنتطرّق لها فيما بعد ، وهذا يوضّح أنّ الباريعزوجل لا يسمح للشياطين بالاقتراب من الملأ الأعلى.

«دحورا» مشتقة من (دحر) ـ على وزن (دهر) ـ وتعني طرد الشيء ودفعه ، أمّا كلمة (واصب) فإنّها تعني المرض المزمن ، وبصورة عامّة تعني الدائم والمستمر ، وفي بعض الأحيان تعني (الخالص)(١) .

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الاقتراب من السماء فحسب ، بل سيصيبهم في النهاية ـ مع ذلك ـ عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضا إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لاستراق السمع ، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك ، كما جاء في الآية الشريفة( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) .

«الخطفة» أي اختلاس الشيء بسرعة.

و «الشهاب» شيء مضيء متولّد من النار ، ويرى نوره في السماء على شكل خطّ ممتدّ.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوما ، وإنّما تشبه النجوم ، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء ، عند ما تدخل في مجال جاذبية الأرض ، تنجذب نحوها ، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض واحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

وكلمة «ثاقب» تعني النافذ والخارق ، وكأنّه يخترق العين بنوره الشديد ويثقبها ، وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كلّ شيء يصيبه ويحرقه.

__________________

(١) لقد تمّ بحث كلمة «واصب» أيضا في نهاية الآية (٥٢) من سورة النحل.

٢٨٨

وبهذا يكون هناك مانعان يحوّلان دون نفوذ الشياطين إلى السماء العليا :

الأوّل ، هو رشق الشياطين من كلّ جانب وطردهم ، والذي يتمّ على الظاهر بواسطة الشهب.

والثاني ، هو رشقهم بواسطة أنواع خاصّة من الشهب يطلق عليها اسم الشهاب الثاقب ، الذي يكون بانتظار كلّ شيطان يحاول التسلّل إلى الملأ الأعلى لاستراق السمع ، وهذا المعنى نجده أيضا في الآيتين (١٧) و (١٨) من سورة الحجر( وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) .

وفي الآية الخامسة من سورة الملك( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ) .

ولكن هل يجب الالتزام بظواهر هذه الآيات؟ أم أنّ هناك قرائن تجبرنا على تفسيرها بخلاف الظاهر ، كاستخدام الأمثال والتشبيه والكناية؟

هناك وجهات نظر مختلفة بين المفسّرين ، فالبعض منهم التزم بظاهر الآيات وبنفس المعاني التي استعرضت في بداية الأمر ، وقالوا : هناك طوائف من الملائكة تسكن السماء القريبة والبعيدة تعرف أخبار الحوادث التي ستقع في العالم الأرضي قبل وقوعها ، لذا تحاول مجموعة من الشياطين الصعود إلى السماء لاستراق السمع ومعرفة بعض الأخبار ، لكي تنقلها إلى عملائها في الأرض أي الذين يرتبطون بها ويعيشون بين الناس ، ولكن ما أن يحاولون الصعود يرشقون بالشهب التي تتّصف بأنّها كالنجوم المتحرّكة ، فتجبرهم على التراجع ، أو تصيبهم فتهلكهم.

ويقولون : من الممكن أن لا نفهم بصورة دقيقة ما تعنيه هذه الآيات في الوقت الحاضر ، إلّا أنّنا مكلّفون بحفظ ظواهرها ، وترك تفاصيلها للمستقبل.

وقد اختار هذا التّفسير العلّامة «الطبرسي» في (مجمع البيان) و «الآلوسي» في (روح المعاني) و «سيّد قطب» في (الظلال) ، إضافة إلى عدد آخر من المفسّرين.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الآيات المذكورة إنّما هي من قبيل الأمثال

٢٨٩

المضروبة تصوّر بها الحقائق الخارجة عن الحسّ في صورة المحسوس لتقريبها من الحسّ ، وهو القائلعزوجل :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) .(١)

وأضافوا : إنّ المراد من السماء التي تسكنها الملائكة ، عالم ملكوتي ذو أفق أعلى من عالمنا المحسوس ، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب ، هو أنّ هذه الشياطين كلّما حاولت الاقتراب من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخليفة والحوادث المستقبلية ، طردت من هناك بواسطة نور الملكوت الذي لا يطيقونه ، ورمتهم الملائكة بالحقّ الذي يبطل أباطيلهم.

وإيراده تعالى قصّة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب ، عقيب الإقسام بملائكة الوحي وحفظهم إيّاه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه(٢) .

ويحتمل أيضا أنّ السماء هنا هي كناية عن سماء الإيمان والمعنويات التي يحاول الشياطين النفوذ إليها ، إضافة إلى الانسلال إلى قلوب المؤمنين عن طريق الوساوس التي يبثّونها في قلوبهم ، إلّا أنّ الأنبياء والصالحين والأئمّة المعصومين من أهل البيت والسائرين على خطّهم الفكري والعملي يهاجمون الشياطين بالشهاب الثاقب الذي يمتلكونه ، ألا وهو العلم والتقوى ، ويمنعون الشياطين من الاقتراب من هذه السماء.

التّفسير المذكور أوردناه هناك كاحتمال ، وذكرنا بعض الدلائل والشواهد عليه في نهاية الآية (١٨) من سورة الحجرات.

هذه ثلاثة تفسيرات مختلفة للآيات مورد البحث والآيات المشابهة لها.

* * *

__________________

(١) العنكبوت ، ٤٣.

(٢) تلخيص من تفسير الميزان ، المجلّد السابع عشر ، الصفحة (١٢٥).

٢٩٠

الآيات

( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) )

التّفسير

الذين لا يقبلون الحقّ أبدا :

هذه الآيات تعالج قضيّة منكري البعث ، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباريعزوجل خالق السموات والأرض ، وتبدأ بالاستفسار منهم وتقول : اسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض :( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا ) .

نعم ، فنحن خلقناهم من مادّة تافهة ، من طين لزج :( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) .

فالمشركون الذين ينكرون المعاد ، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السموات والأرض والملائكة. إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السموات

٢٩١

والأرض والملائكة. إلّا أنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول : إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم ، يعدّ لا شيء ، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج.

«استفتهم» من مادّة «استفتاء» وتعني الحصول على معلومات جديدة.

وهذا التعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ وأصعب من خلق السماوات والملائكة ، فإنّهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح مثله من قبل.

«لازب» يقول البعض : إنّ أصلها كان (لازم) ، حيث استبدلت (الميم) (باء) وحاليا تستعمل بهذه الصورة ، على أيّة حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه ببعض ، يعني الملتصق لأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء ، وبعد فترة أضحى طينا متجمعا ذا رائحة نتنة ، ثمّ تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعدّدة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).

ثمّ يضيف القرآن الكريم :( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) .

نعم أنت تتعجّب لإنكارهم بالمعاد ، لأنّك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة جدّا ، وأمّا أصحاب القلوب السوداء فيعبدونها مستحيلة إلى حدّ أنّهم يستهزئون بها وينكرونها.

وما يمكن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل ـ فقط ـ وعدم المعرفة ، بل إنّها اللجاجة والعناد ، إذ أنّهم كلّما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهيّة لا يتذكّرون( وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ) .

والأنكى من ذلك ، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك ، لا يكتفون بالاستهزاء ، وإنّما يدعون الآخرين للاستهزاء أيضا( وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) .

( وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والانتقاص منها ،

٢٩٢

وإطلاقهم كلمة «سحر» على تلك المعجزات لكونها من جهة أعمالا خارقة للعادة ، ولا يمكن نكرانها. ومن جهة اخرى فإنّهم لم يكونوا راغبين للاستسلام لتلك المعاجز ، وكلمة السحر كانت الكلمة الوحيدة التي تعكس خبثهم وترضي أهواءهم النفسية ، وتوضّح في نفس الوقت اعترافهم بالتأثير الكبير للقرآن ولمعجزات النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

ملاحظتان

١ ـ يعتقد بعض المفسّرين أنّ عبارة «يستسخرون» تعني «يسخرون» ، ولا يوجد أي فرق بين العبارتين. في حين يؤكّد البعض الآخر على وجود اختلاف بين المعنيين ، بقولهم : إنّ «يستسخرون» جاءت من باب استفعال ، وتعني دعوة الآخرين إلى المشاركة في الاستهزاء ، وتشير إلى أنّهم لم يكتفوا لوحدهم بالاستهزاء بآيات القرآن المجيد ، وإنّما سعوا لإشراك الآخرين في ذلك ، كي تصير المسألة عامّة في المجتمع.

والبعض يعتبر هذا الاختلاف توكيد أكثر يستفاد من عبارة (يستسخرون).

فيما فسّر البعض الآخر هذه العبارة بأنّها «الإعتقاد بكون الشيء مثيرا للسخرية» ، ويعني أنّهم نتيجة انحرافهم الشديد كانوا في قرارة أنفسهم يعتقدون ـ تماما ـ أنّ هذه المعجزات ليست أكثر من سخرية ، ولكن المعنى الثاني يعدّ أكثر مناسبا من غيره.

٢ ـ عزا بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآية إلى قضيّة مفادها أنّ «ركانة» رجل من المشركين من أهل مكّة ، لقيه الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جبل خال يرعى غنما له ، وكان من أقوى الناس ، فقال له : يا ركانة أرأيت إنّ صرعتك أتؤمن بي؟

٢٩٣

قال : نعم. فصرعه ثلاثا ، ثمّ عرض عليه بعض الآيات ودعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت ، فلم يؤمن وجاء إلى مكّة فقال : «يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض». فنزلت فيه وفي أضرابه هذه الآية.

* * *

٢٩٤

الآيات

( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) )

التّفسير

هل نبعث من جديد؟

الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد ، وتواصل الردّ عليها ، فالآية الاولى تعكس استبعاد البعث من قبل منكريه ، بهذا النصّ( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) (١) (٢) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ٧٧.

(٢) هذه الآية هي بحالة جملة شرطية وشرطها (أإذا متنا) بينما جزاءها محذوف وجملة (أإنّا لمبعوثون) قرينة عليها ، لأنّ نفس هذه الجملة ـ طبقا للقواعد الأدبية ـ لا يمكن أن تكون جزاء.

٢٩٥

وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضا؟( أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) . فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقّية من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟

فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا ترابا في اليوم الأوّل ، ومن التراب خلقوا ، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة الله ، فعليهم أن يعرفوا أنّ الله كان قد أراهم قدرته ، وإن كانوا يشكّكون باستحالة التراب ، فقد أثبت ذلك من قبل ، وعلاوة على هذا فإنّ خلق السماوات والأرض بكلّ هذه العظمة لا تترك أي مجال للشكّ عند أحد في قدرة الباريعزوجل المطلقة.

ممّا يذكر أنّ منكري البعث صاغوا أقوالهم بشكل عبارات مؤكّدة (إذ أنّ جملة( أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) هي جملة اسمية استخدمت فيها (إن) و (لام) والتي تأتي كلّ منهما للتأكيد) وذلك لجهلهم ولجاجتهم.

وممّا يلفت النظر أنّ كلمة (التراب) قدّمت على (العظام) وهذا الأمر يحتمل أنّه يشير إلى إحدى النقاط الثلاث الآتية :

أوّلا : إنّ الإنسان بعد وفاته يصير عظاما في بداية الأمر ، ثمّ يتحوّل إلى تراب ، وبما أنّ إعادة التراب إلى الحياة يعدّ شيئا عجيبا ، لهذا قدّمت كلمة التراب.

ثانيا : عند اندثار أبدان الأموات ، في البداية تتحوّل اللحوم إلى تراب وتبقى إلى جانب العظام ، ولهذا فهناك تراب وعظام في آن واحد.

ثالثا : التراب يشير إلى أجساد الأجداد الأوّلين ، والعظام تشير إلى أبدان الآباء والتي لم تتحوّل بعد إلى تراب.

ثمّ يردّ القرآن على تساؤلاتهم بلهجة شديدة وعنيفة ، عند ما يقول للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم : نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلّاء ،( قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ ) (١) .

__________________

(١) (داخر) من مادّة (دخر) على وزن فخر (دخور) ، وكلتاهما تعطي معنى الذلّة والحقارة. الآية أعلاه فيها جملة

٢٩٦

فهل تتصوّرون أنّ عمليّة إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة ، أو هي عمل عسير على الله القادر والقوي؟ كلّا ، فإنّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم الله سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور ، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ ) .

(زجرة) مشتقّة من (زجر) وكما أشرنا إليها سابقا ، فإنّها تعني الطرد ، وأحيانا تأتي بمعنى الصرخة ، وهنا تفيد المعنى الثاني ، وهي إشارة إلى النفخة والصيحة الثانية لإسرافيل ، والتي سنتحدّث بشأنها في الآيات الأخيرة لسورة الزمر.

عبارة (ينظرون) تشير إلى نظر منكري البعث لساحة المحشر وهم مدهوشون ، أو النظر بعنوان انتظار العذاب ، وفي كلا الحالتين فإنّ المقصود ليس ـ فقط ـ عودتهم إلى الحياة ، وإنّما عودتهم إلى الشعور والنظر فور سماعهم الصيحة.

وتعبير( زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ) مع الالتفات إلى معنى الكلمتين ، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة ، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباريعزوجل ، إذ بصرخة واحدة (لملك البعث) المأمور بها تعود الحياة إلى حالتها الاولى.

وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم ، ويقولون : الويل لنا فهذا يوم الدين( وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

نعم ، فعند ما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها ، وعلى علامات العقاب فإنّهم ـ من دون أن يشعروا ـ يصرخون ويبكون ، ويعترفون بحقيقة البعث ، الاعتراف الذي يعجز عن إنقاذهم من العذاب ، أو تخفيف العقاب الذي ينتظرهم.

وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباريعزوجل أو من ملائكته : نعم ، اليوم هو

__________________

تقديرية هي جوابها ، والبقيّة شيء إضافي عليها كي يكتسب القول قاطعية أكثر ، فالتقدير سيكون هكذا (نعم إنّكم مبعوثون حال كونكم داخرين).

٢٩٧

يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون ، يوم فصل الحقّ عن الباطل ، وفصل المجرمين عن المتّقين ، ويوم المحكمة الإلهيّة الكبرى( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .

ومثل هذه العبارات وردت في آيات اخرى من آيات القرآن الكريم ، والتي تتناول يوم القيامة ، وتعتبره يوم الفصل ، وهي عبارات عجيبة ورهيبة؟!(١) .

الملاحظ ، هو أنّ الكافرين يوم القيامة يطلقون على هذا اليوم اسم يوم الجزاء( يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

فيما يطلق عليه الباريعزوجل في كتابه الحكيم اسم يوم الفصل( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ) .

إنّ الاختلاف بين التعبيرين يمكن أن يكون لهذا السبب ، وهو أنّ المجرمين لا يفكّرون إلّا بالجزاء والعقاب الذي سينالهم ، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم ، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل ، نعم يوم فصل صفوف المجرمين عن المتّقين ، كما جاء في الآية (٥٩) من سورة يس( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) فالأمر في ذلك اليوم موجّه إلى المجرمين أن انفصلوا عن المؤمنين ، فهنا ليست دار الدنيا التي تجمع بين المجرمين والمتّقين.

وكم يكون هذا المشهد رهيبا عند ما يشاهدون أقاربهم وأبناءهم ينفصلون عنهم لإيمانهم بالله ، ويتّجهون نحو جنان الخلد.

وعلاوة على أنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحقّ عن الباطل ، فيجب أن تتبيّن كلّ الخطوط المتضادّة والبرامج الحقيقيّة والكاذبة التي كانت مختلطة في عالم الدنيا في مكانها الخاصّ بها.

على أيّة حال ، إنّ ذلك اليوم ـ أي يوم الفصل ـ يعني أيضا يوم المحاكمة ، ففي

__________________

(١) الدخان ، الآية ٤٠ ، المرسلات ، الآيات ١٣ ، ١٤ ، ٣٨ ، النبأ الآية ، ١٧.

٢٩٨

ذلك اليوم يقضي الله العالم العادل بين عباده ويصدر أحكاما دقيقة بحقّهم ، وهنا يخزى المشركون.

إذن ، فطبيعة الدنيا هي اختلاط الحقّ بالباطل ، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل ، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل) والذي كرّر عدّة مرّات ، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار ، ولا يمكن تجنب عملية فصل الصفوف.

ثمّ يصدر الباريعزوجل أوامره إلى ملائكته المكلّفين بإرسال المجرمين إلى جهنّم أن( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ) .

نعم احشروهم وما كانوا يعبدون( مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) . (احشروا) مشتقّة من (حشر) ويقول الراغب في مفرداته : إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

وهذه الكلمة تأتي بمعنى «تجميع» في الكثير من الحالات.

على كلّ حال ، فالخطاب هنا إمّا أن يكون من جانب اللهعزوجل ، أو من طائفة من الملائكة إلى طائفة اخرى مكلّفة بسوق المجرمين إلى الجحيم والنتيجة واحدة.

(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين ، أو إلى من يعتقد اعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم ، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين ، حيث نقرأ في سورة الواقعة الآية(٧) ( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ) .

وبهذا يحشر المشركون مع المشركين والأشرار ، وذوو القلوب العمياء مع نظائرهم ، ثمّ يساقون إلى جهنّم.

أو أنّ المقصود من الأزواج هم الشياطين الذين كانوا يشابهونهم في الشكل والعمل.

المهمّ ، هو عدم وجود أي اختلاف بين هذه المعاني الثلاثة ، ومن الممكن أن

٢٩٩

تجتمع في مفهوم الآية.

جملة( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) تشير إلى آلهة المشركين ، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة ، وعبّرت عنها بـ( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) لكون أغلب تلك الآلهة موجودات عديمة الحياة وغير عاقلة ، وقد اصطلح عليها بهذا التعبير لأنّه يعطي طابع التغليب.

(الجحيم) تعني جهنّم ، وهي من مادّة (جحمة) على وزن (ضربة) وتعني شدّة تأجيج النار.

والملاحظ في الآية استخدامها عبارة( فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) حقّا كم هذه العبارة عجيبة؟ ففي أحد الأيّام ارشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه ، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم ، وهم مجبرون على القبول به ، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألما في أعماقهم.

* * *

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581