الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168923 / تحميل: 6110
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الآيات

( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) )

التّفسير

الحوار بين القادة والأتباع الضالّين :

الآيات السابقة استعرضت كيفية سوق ملائكة العذاب للظالمين ومن يعتقد اعتقادهم برفقة الأصنام والآلهة الكاذبة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، إلى مكان معيّن ، ومن ثمّ هدايتهم إلى صراط الجحيم.

واستمرارا لهذا الاستعراض يقول القرآن :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) (١) .

__________________

(١) (قفوهم) من مادّة (وقف) وأحيانا تأتي بصورة فعل متعد وتعني (التوقيف والحبس) ، وأحيانا اخرى تأتي

٣٠١

نعم عليهم أن يتوقّفوا ويجيبوا على مختلف الأسئلة التي تطرح عليهم ، ولكن عمّا ذا يسألون؟

قال البعض : يسألون عن البدع التي اختلقوها.

وقال البعض الآخر : يسألون عن أعمالهم القبيحة وأخطائهم.

والبعض أضاف : إنّهم يسألون عن التوحيد وقول لا إله إلّا الله.

وذهب آخرون : إنّهم يسألون عن النعم التي أنعمت عليهم ، وعن شبابهم وصحّتهم وأعمارهم وأموالهم ونحوها ، وهناك رواية يذكرها الشيعة والسنّة في أنّهم يسألون عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

وبالطبع فإنّ هذه التفاسير لا يوجد أي تناقض بينها ، لأنّ في ذلك اليوم يتمّ السؤال عن كلّ شيء ، عن العقائد وعن التوحيد والولاية ، وعن الحديث والعمل ، وعن النعم والمواهب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في إختيار الإنسان.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه ، وهو : كيف يساق أولئك أوّلا إلى صراط الجحيم ، ثمّ يؤمرون بالتوقّف لاستجوابهم؟

ألا ينبغي تقديم عملية إيقافهم ومساءلتهم على سوقهم إلى صراط الجحيم؟

هناك جوابان لهذا السؤال وهما :

أوّلا : كون أولئك من أهل جهنّم أمر واضح للجميع ، وحتّى لأنفسهم ، واستجوابهم إنّما يتمّ لإعلامهم بمقدار وحجم الذنوب والجرائم التي اقترفوها

ثانيا : طرح هذه الأسئلة عليهم لا لمحاكمتهم ، وإنّما ذلك لتوبيخهم ومعاقبتهم نفسيا.

وبالطبع فإنّ كلّ ذلك في حالة كون الأسئلة متعلّقة بما أوردنا آنفا ، أمّا إذا ارتبط

__________________

بصورة فعل لازم ، وتعني (التوقّف والوقوف) ومصدر الاولى هو وقفة ، ومصدر الثانية وقوف.

(١) الرواية هذه وردت في (الصواعق) عن أبي سعيد الخدري نقلا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما وردت عن الحاكم بن أبو القاسم الحسكاني في (شواهد التنزيل) نقلا عن رسول الله ، كذلك وردت في عيون أخبار الرضا نقلا عن الإمام الرضاعليه‌السلام .

٣٠٢

الحديث بالآية التالية والتي تسألهم عن عدم نصرتهم بعضهم البعض ، فهنا لا تبقى أيّة مشكلة في تفسير الآية ، ولكن هذا التّفسير لا يتطابق مع جاء في عدّة روايات بهذا الشأن ، إلّا إذا كان هذا السؤال جزء من أسئلة مختلفة.

على أيّة حال ، فعند ما يساق المجرمون إلى صراط الجحيم ، تكون أيديهم مقطوعة عن كلّ شيء وقاصرة عن تحصيل العون ، ويقال لهم : أنتم الذين كان أحدكم يلجأ إلى الآخر في المشكلات ويطلب العون منه ، لم لا ينصر بعضكم بعضا الآن( ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ) .

نعم ، فكلّ الدعائم التي تصوّرتم انّها دعامات مطمئنة في الدنيا أزيلت عنكم ، ولا يمكن أن يساعد بعضكم البعض ، كما أنّ آلهتكم ليسوا بقادرين على تقديم العون لكم ، لأنّهم عاجزون ومنشغلون بأنفسهم.

يقال أنّ (أبا جهل) نادى يوم معركة بدر «نحن جميع منتصر» ، والقرآن المجيد أعاد تكرار قوله في الآية (٤٤) من سورة القمر( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ) فيوم القيامة يسأل أبو جهل وأمثاله : لماذا لا يسعى بعضكم لمساعدة البعض الآخر؟ ولكن لا يمتلكون أي جواب لهذا السؤال ، سوى سكوتهم الدالّ على ذلّتهم.

الآية التي تليها تضيف : إنّهم في ذلك اليوم مستسلمون لأوامر الله وخاضعون له ، ولا يمكنهم إظهار المخالفة أو الاعتراض( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) (١) .

وهنا يبدأ كلّ واحد منهم بلوم الآخر ، ويسعى إلى إلقاء أوزاره على عاتق الآخر ، والتابعون يعتبرون رؤساءهم وأئمّتهم هم المقصّرون ، فيقابلونهم وجها لوجه ، ويبدأ كلّ منهم بسؤال الآخر ، كما تقول الآية :( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) .

__________________

(١) (استسلام) من مادّة (السلامة) ولكونها من باب (استفعال) فهي بمعنى طلب السلامة والتي عادة تكون ملازمة للانقياد والخضوع في مقابل قوّة أعظم.

٣٠٣

وهنا يقول التابعون لمتبوعيهم : إنّكم شياطين ، إذ كنتم تأتوننا بعنوان النصيحة والهداية والتوجيه وإرادة الخير والسعادة لنا ، ولكن لم يكن من وراء مجيئكم سوى المكر والضياع( قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ ) .

إذ أنّنا ـ بحكم فطرتنا ـ كنّا نسعى وراء الخير والطهارة والسعادة ، ولذا لبّينا دعوتكم ، لكنّنا لم نكن نعلم أنّكم تخفون وراء وجوهكم الخيّرة ظاهرا وجها آخر شيطانيا وقبيحا أوقعنا في الخطيئة ، نعم فكلّ الذنوب التي ارتكبناها أنتم مسئولون عنها ، لأنّنا لم نكن نملك شيئا سوى حسن النيّة وطهارة القلب ، وأنتم الشياطين الكذّابون لم يكن لديكم سوى الخداع والمكر.

كلمة (يمين) تعني (اليد اليمنى) أو (الجهة اليمنى) والعرب تعتبرها في بعض الأحيان كناية عن الخير والبركة والنصيحة ، وكلّ ما يرد إليهم من جهة اليمين يتفاءلون به ، ولذا فإنّ الكثير من المفسّرين يفسّرون( كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ ) على أنّها تظهر الخير والنصيحة كما ذكرنا ذلك أعلاه.

على أيّة حال ، الثقافة العامّة تعتبر العضو الأيمن أو الطرف الأيمن شريفا ، والأيسر غير شريف ، ولهذا السبب تستعمل اليمين للإحسان وعمل الخيرات.

وقد ذكرت مجموعة من المفسّرين تفسيرا آخر وهو : إنّ المقصود هو أنّكم أتيتمونا باعتمادكم على القدرة ، لأنّ الجهة اليمنى تكون عادة هي الأقوى ، وبهذا الدليل فإنّ أغلب الناس ينجزون أعمالهم المهمّة والصعبة باليد اليمنى ، لذا فقد أصبح هذا التعبير كناية عن «القدرة».

وهناك تفسيرات اخرى تعود إلى هذين التّفسيرات أعلاه ، ولكن لا شكّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وفي المقابل فإنّ المتبوعين والقادة لا يسكتون ، بل يجيبون تابعيهم بالقول :( قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) .

فلو لم تكن أهواؤكم منحرفة ، ولو لم تكونوا من طلّاب الشرّ والشيطنة ، لما

٣٠٤

اتّبعتمونا بإشارة واحدة ، ولماذا لم تستجيبوا لدعوة الأنبياء والصالحين؟ إذا فالخلل فيكم أنتم ، اذهبوا ولوموا أنفسكم والعنوها. ودليلنا واضح ، إذ لم تكن لنا أي سلطة عليكم ، ولم نضغط عليكم ونجبركم لعمل أي شيء( وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ) .

إنّما أنتم قوم طغاة ومعتدون ، وأخلاقكم وطبيعتكم الظالمة صارت سبب تعاستكم( بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ) .

وكم هو مؤلم أن يرى الإنسان قائده وإمامه الذي كان قد ارتبط به قلبيّا طوال عمره ، قد تسبّب في تعاسته وشقائه ثمّ يتبرّأ منه ، ويلقي كلّ الذنوب على عاتقه؟

في الحقيقة ، إنّ كلا المجموعتين صادقة في قولها ، فلا هؤلاء ، أبرياء ولا أولئك ، فالغواية والشيطنة كانت من أولئك ، وتقبل الغواية والاستسلام كان من هؤلاء.

فجدا لكم لا يؤدّي إلى نتيجة ، وهنا يعترف أئمّة الضلال بهذه الحقيقة ، ويقولون : بهذا الدليل ثبت أمر الله علينا ، وصدر حكم العذاب بحقّ الجميع ، وسينالنا جميعا عذاب الله( فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ ) .

إنّكم كنتم طاغين ، وهذا هو مصير الطغاة ، أمّا نحن فقد كنّا ضالّين ومضلّين.

فنحن أضللناكم كما كنّا نحن أنفسنا ضالّين( فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ) .

بناء على ذلك ما الذي يثير العجب في أن نكون جميعا شركاء في هذه المصائب وهذا العذاب؟

* * *

ملاحظتان

١ ـ السؤال أيضا عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

بالشكل الذي أشرنا إليه سابقا ، فإنّ روايات عديدة وردت في مصادر الشيعة وأهل السنّة بشأن تفسير هذه الآية( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) تبيّن أنّ من جملة

٣٠٥

القضايا التي يسأل عنها المجرمون يوم القيامة هو ما يتعلّق بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

فالشيخ «الطوسي» نقل في كتابه (الأمالي) عن أنس بن مالك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنّم لم يجز عليه إلّا من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب ، وذلك قوله تعالى :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) يعني عن ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام »(١) .

كما أكّد الكثير من كتب أهل السنّة على أنّ تفسير هذه الآية يخصّ السؤال بشأن ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وقد نقل هذه الرواية ابن عبّاس وأبي سعيد الخدري عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما نقلها رواة آخرون منهم :

ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ـ الصفحة ١٤٧.

عبد الرزاق الحنبلي في كشف الغمّة ـ الصفحة ٩٢.

العلّامة سبط ابن الجوزي في التذكرة ـ الصفحة ٢١.

الآلوسي في روح المعاني في نهاية هذه الآية.

أبو نعيم الأصفهاني في كفاية الخصال ـ الصفحة ٣٦٠ ، وغيرهم من الرواة(٢) . وبالطبع ، وكما قلنا مرارا ، فإنّ مثل هذه الروايات لا تحدّ من المفهوم الواسع للآيات ، بل تعكس ـ في الحقيقة ـ مصاديقها الواضحة ، بناء على ذلك فإنّه ليس هناك أي مانع من أن يسأل عن جميع العقائد ، لكن بما أنّ للولاية موقعا خاصّا في بحث العقائد فقد استند عليها.

وهناك نقطة جديرة بالاهتمام ، وهي أنّ الولاية لا تعني علاقة عادية أو اعتقادا جافّا ، وإنّما الهدف هو قبول قيادة الإمام عليعليه‌السلام في المسائل العقائدية والعلمية

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الرابع ، الصفحة ٤٠١.

(٢) لكسب المزيد من الاطلاع في هذا المجال يراجع إحقاق الحقّ ، المجلّد الثالث (الطبعة الجديدة) صفحة (١٠٤) ، والمراجعات ، الصفحة ٥٨ (المراجعة ١٢).

٣٠٦

والأخلاقية والاجتماعية بعد النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد عكست خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام وكلماته في نهج البلاغة نماذج من تلك المسائل المسائل التي يعدّ الإيمان بها والعمل على أساسها وسيلة مؤثّرة للخروج من صفّ أهل جهنّم والاستقرار على صراط الله المستقيم.

٢ ـ المتبوعون والتابعون الضالّون :

الآيات المذكورة أعلاه وآيات اخرى في القرآن الكريم ، تضمّنت إشارات ذات مغزى عن التخاصم الذي يقع بين الأتباع والمتبوعين يوم القيامة أو في جهنّم وهذا تحذير مفيد لكلّ من يضع عقله ودينه تحت تصرّف أئمّة الضلال.

ومع أنّ كلّ واحد يسعى في ذلك اليوم للتبرؤ من الآخر ، وحتّى أنّه يحاول إلقاء تبعات ارتكاب الذنب عليه ، ولكن بتلك الحال لا يستطيع أي واحد منهم إثبات براءته.

وشاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ أئمّة الغواية والضلال يقولون بصراحة لتابعيهم : إنّ سبب تأثيرنا عليكم هو وجود روح الطغيان في داخلكم( بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ) .

هذا الطغيان هيّأ لديكم أرضية التأثّر بإغوائنا ، وعبّر هذا الطريق تمكّنا من نقل الخرافات إليكم( فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ) .

التوجّه الدقيق لمعنى (أغوى) والمشتقّة من (غي) يوضّح الموضوع ، لأنّ كلمة (غيّ) كما يقول الراغب في (مفرداته) تعني الجهل الناشئ من المعتقدات الفاسدة ، إذ أنّ أئمّة الضلال بقوا بعيدين عن معرفة حقائق الوجود والحياة ، ونقلوا جهلهم ومعتقداتهم الفاسدة إلى تابعيهم الذين كانوا يحملون روح الطغيان في مقابل أمر الباريعزوجل .

وبهذا الدليل يعترفون هناك بأنّهم هم وتابعوهم يستحقّون العذاب ،( فَحَقَّ عَلَيْنا

٣٠٧

قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ ) .

وكلمة (ربّ) هنا لها مغزى كبير ، إذ أنّ الإنسان يصل إلى درجة بحيث أنّ الله الذي هو مالك ذلك الإنسان ومربّيه ولا يريد له سوى الخير والسعادة يأمر بالقائه في أشدّ العذاب!! وهذا أيضا من شؤون ربوبيته.

على أيّة حال فإنّ ذلك اليوم هو حقّا (يوم الحسرة) حيث يندم فيه أئمّة الضلال وتابعوهم على أفعالهم ، ولكن ما الفائدة؟ فليس هناك أي طريق للرجعة.

* * *

٣٠٨

الآيات

( فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) )

التّفسير

مصير أئمّة الضلال وأتباعهم :

الآيات السابقة بحثت موضوع التخاصم الذي يدور بين أئمّة الضلال وتابعيهم يوم القيامة قرب جهنّم ، أمّا الآيات أعلاه فقد وضّحت ـ في موضع واحد ـ مصير المجموعتين ، وشرحت أسباب تعاستهم بشكل يشخّص المرض ويصف الدواء الخاص لمعالجته.

ففي البداية تقول : إنّ التابع والمتبوع والإمام والمأموم مشتركون في ذلك اليوم

٣٠٩

بالعذاب الإلهي( فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) .

وبالطبع فإنّ اشتراكهم في العذاب لا يمنع من وجود اختلاف في المكان الذي سيلقون به جهنّم ، إضافة إلى اختلاف نوع العذاب الإلهي. إذ من الطبيعي أنّ الذي يتسبّب في انحراف الآلاف من البشر لا يتساوى عذابه مع فرد ضالّ عادي ، وهذه الآية تشبه الآية (٤٨) في سورة غافر والتي يقول فيها المستكبرون لضعفاء الإيمان بعد محاججة ومخاصمة تجري فيما بينهم : إنّنا جميعا في جهنّم ، لأنّ الله قد حكم بالعدل بين العباد( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ ) .

وهذه الآية لا تنافي الآية (١٣) من سورة العنكبوت ، والتي يقول فيها الباريعزوجل ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) أي إنّهم يحملون يوم القيامة أحمالهم الثقيلة ، وأحمالا اخرى أضيفت إلى أحمالهم الثقيلة ، وذلك أثر إغوائهم وإضلالهم للآخرين وتشجيعهم على ارتكاب الذنب.

وللتأكيد أكثر على تحقّق العذاب تقول الآية التي تلتها( إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) إنّ هذه هي سنّتنا ، السنّة المستمدّة من قانون العدالة.

ثمّ توضّح السبب الرئيسي الكامن وراء تعاسة أولئك ، وتقول :( إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) .

نعم ، إنّ التكبّر والغرور ، وعدم الانصياع للحقّ ، والعمل بالعادات الخاطئة والتقاليد الباطلة بإصرار ولجاجة ، والنظر إلى كلّ شيء باستخفاف واستحقار ، تؤدّي جميعا إلى انحراف الإنسان.

فروح الاستكبار يقابلها الخضوع والاستسلام للحقّ والذي هو الإسلام الحقيقي ، الاستكبار الذي هو أساس الظلام ، فيما أنّ الخضوع والاستسلام هو أساس السعادة.

والذي يثير الاهتمام أنّ بعض آيات القرآن الكريم توضّح بصورة مباشرة

٣١٠

العذاب الإلهي الذي سيعذّب به المستكبرون( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) .(١)

لكن هؤلاء برّروا ارتكابهم للذنوب الكبيرة بتبريرات أسوأ من ذنوبهم ، كقولهم : هل نترك آلهتنا وأصنامنا من أجل شاعر مجنون( وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ ) .

لقد أطلقوا على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمة (شاعر) لأنّ كلامه كان ينفذ إلى قلوبهم ويحرّك عواطفهم ، فأحيانا كان يتكلّم إليهم بكلام يفوق أفضل الأشعار وزنا ، في الوقت الذي لم يكن حديثه شعرا ، وكانوا يعتبرونه (مجنونا) لكونه لم يتلوّن بلون المحيط الذي يعيش فيه ، ووقف موقفا صلبا أمام العقائد الخرافية التي يعتقد بها المجتمع المتعصّب حينذاك ، الموقف الذي اعتبره المجتمع الضالّ في ذاك الوقت نوع من الانتحار الجنوني ، في الوقت الذي كان أكبر فخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هو عدم استسلامه للوضع السائد حينذاك.

وهنا تدخل القرآن لردّ ادّعاءاتهم التافهة والدفاع عن مقام الوحي ورسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عند ما قال :( بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ) .

فمحتوى كتابه من جهة ، وتوافق دعوته مع دعوات الأنبياء السابقين من جهة اخرى ، هي خير دليل على صدق حديثه.

وأمّا أنتم أيّها المستكبرون الضالّون ، فإنّكم ستذوقون العذاب الإلهي الأليم( إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ) .

ولا تتصوّروا أنّ الله منتقم ، وأنّه يريد الانتقام لنبيّه منكم ، كلّا ليس كذلك( وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

وحقيقة الأمر أنّ أعمالكم سوف تتجسّد أمامكم ، لتبقى معكم لتؤذيكم وتعذّبكم ، وجزاؤكم إنّما هو نتيجة أعمالكم وتكبّركم وكفركم وعدم إيمانكم بالله

__________________

(١) الأحقاف ، ٢٠.

٣١١

وزعمكم بأنّ آيات الله هي (شعر) ورسوله (مجنون) إضافة إلى ظلمكم وارتكابكم القبائح.

آخر آية في هذا البحث ، والتي هي ـ في الحقيقة ـ مقدّمة للبحث المقبل ، تستثني مجموعة من العذاب ، وهي ـ مجموعة عباد الله المخلصين( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) (١) .

وكلمة( عِبادَ اللهِ ) يمكنها لوحدها أن تبيّن ارتباط هذه المجموعة بالله سبحانه وتعالى ، وعند ما تضاف إليها كلمة مخلصين فإنّها تعطي لتلك الكلمة عمقا وحياة ، و «مخلص» (بفتح اللام) جاءت بصيغة اسم مفعول ، وتعني الشخص الذي أخلصه الله سبحانه وتعالى لنفسه ، أخلصه من كلّ أشكال الشرك والرياء ومن وساوس الشياطين وهوى النفس.

نعم فهذه المجموعة لا تحاسب على أعمالها ، وإنّما يعاملها الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه ، ويمنحها من الثواب بغير حساب.

* * *

ملاحظة

الإمعان في آيات القرآن الكريم يبيّن أنّ كلمة (مخلص) بكسر اللام ، قد استخدمت بكثرة في المواقع التي تتحدّث عن حالة الإنسان الذي يعيش مراحل بناء نفسه ، ولم يصل إلى التكامل ، أمّا كلمة (مخلص) بفتح اللام ، فتطلق على مرحلة وصل فيها الإنسان إلى مرتبة يصان فيها من نفوذ وساوس الشيطان إلى قلبه ، بعد أنّ اجتاز مرحلة جهاد النفس ومراحل المعرفة والإيمان ، كما أنّ القرآن ينقل عن إبليس الخطاب التالي لله سبحانه وتعالى( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

هذه الآية تكرّرت عدّة مرّات في القرآن ، وهي توضّح عظمة مقام المخلصين ،

__________________

(١) العبارة هذه (استثناء منقطع) من ضمير (تجزون) أو (لذائقو).

٣١٢

مقام يوسف الصدّيق بعد أن عبر ساحة الاختبار الكبيرة بنجاح ، وأمثاله من المخلصين( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) أي نحن أظهرنا البراهين ليوسف لنبعد عنه الفحشاء والسوء ، لأنّه من عبادنا المخلصين (سورة يوسف ـ ٢٤).

فمقام المخلصين لا يناله إلّا من انتصر في الجهاد الأكبر ، وشمله اللطف الإلهي بإزالة كلّ شيء غير خالص من وجوده ، ولا تبقى فيه سوى النفس الطاهرة الخالصة ـ كالذهب الخالص ـ عند إذابتها في أفران الحوادث والاختبار. وهنا فإنّ مكافأتهم لا تتمّ وفق معيار أعمالهم ، وإنّما معيار مكافأتهم هو الفضل والرحمة الإلهيّة.

والعلّامة الطباطبائي رحمة الله عليه يقول بهذا الشأن :

«يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ، إنّ كافّة الناس يأخذون مكافأة أعمالهم إلّا العباد المخلصين له ، لأنّهم يدركون بأنّهم عبيد الله ، والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة ولا عمل ، فهؤلاء لا يريدون إلّا ما أراده الله ولا يعملون إلّا له. ولكونهم من المخلصين ، فقد أخلصهم لنفسه ، ولا تعلّق لهم بشيء غير ذات الله تعالى. فقلوبهم خالية من حبّ الدنيا وزخارفها ، وليس فيها إلّا الله سبحانه.

ومن المعلوم أنّ من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعّمه بغير ما يلتذّ ويتنعّم به غيره ، وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه ، وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب ، ومن هنا يتأيّد أنّ المراد بقوله :( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) الإشارة إلى أنّ رزقهم في الجنّة رزق خاص لا يشبه غيره ، (وأنّهم يرزقون من مظاهر ذات الله الطاهرة ، وقلوبهم متعطّشة اشتياقا لله ، وغارقة في العشق والوصول إلى الله)(١) .

* * *

__________________

(١) الميزان ، المجلّد ١٧ ، الصفحة ١٤١.

٣١٣

الآيات

( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) )

التّفسير

جوانب من النعم لأهل الجنّة :

الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدّثت عن عباد الله المخلصين ، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض العطايا والنعم غير المحدودة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة ، ويمكن توضيحها في سبعة أقسام :

تقول الآية أوّلا : إنّ لهم رزقا معلوما ومعيّنا( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) .

فهل هذه هي خلاصة لتلك النعم التي ستبيّنها الآيات فيما بعد ، وتوضيح للنعم التي ستغدق عليهم بصورة خفيّة.

أو إشارة إلى نعم معنوية غير معروفة وغير قابلة للوصف ، تتصدّر نعم أهل

٣١٤

الجنّة.

بعض المفسّرين فسّرها بالشكل الأوّل ، فيما فسّرها آخرون بالشكل الثاني ، وتناسب البحث يتواءم مع المعنى الثاني ، وبهذا فإنّ النعمة الاولى من النعم السبع ـ التي وردت في آيات بحثنا ـ هي الهبات المعنوية والمتع الروحية ودرك مظاهر ذات الله ، وتناول الشراب الطاهر والغمرة في عشق الله. اللذّة التي لا يمكن أن يدركها العبد ما لم يتذوّقها ويعيش رحابها.

والسبب في أنّ العطايا المادّية في الجنّة قد ذكرت في آيات القرآن الكريم بالتفصيل والهبات المعنوية والملذّات الروحية استعرضت بصورة خفيّة ، فهو أنّ الأولى قابلة للوصف دون الثانية.

وأمّا بشأن معنى( رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) فلقد قيل عنها الكثير ، هل هي بمعنى معلوم الوقت ، أم بقاءه ودوامه ، أم سائر خصائصه؟ ولكن كما قلنا قبل قليل فانّ «معلوم» تعبير خفي ومجمل عن المواهب التي لا تقبل الوصف.

ثمّ ينتقل إلى بيان نعم اخرى ، ويعدّد قبل كلّ شيء بعض نعم الجنّة التي تقدّم لأهل الجنّة بكل احترام وتكريم( فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ) .

وليس بتلك الصورة التي يرمى فيها الطعام أمام الحيوان لتناوله ، وإنّما يقدّم لهم الطعام بكلّ احترام وكأنّهم ضيوف أعزّاء.

هنا نترك الحديث عن أنواع الفواكه التي تقدّم لأهل الجنّة باحترام وتجليل ، لنتطرّق إلى أماكنهم في الجنّة ، حيث أنّ القرآن الكريم يقول : إنّ أماكنهم في حدائق خضراء مملوءة بنعم الجنّة( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

فأي نعمة يتمنّونها موجودة هناك ، وكلّ ما يطلبون يجدونه أمامهم.

وأشارت الآيات إلى النعمة الرابعة ، وهي استئناس أهل الجنّة بمجالس السمر التي يعقدونها مع أصدقائهم في جوّ ملؤه الصفاء ، إذ يجلسون على سرر متقابلة وينظر كلّ منهم إلى الآخر( عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) .

٣١٥

يتذاكرون في كلّ شيء ، فمرّة تراهم يتحدّثون عن ماضيهم في الدنيا ، واخرى عن النعم العظيمة التي أغدقها عليهم الباريعزوجل في الآخرة ، وأحيانا يستعرضون صفات الجمال والجلال عند الله ، وفي أوقات يتحدّثون عن مقام الأولياء وكراماتهم ، ويتذاكرون قضايا اخرى قد لا ندركها نحن المسجونون في هذه الدنيا.

«سرر» هي جمع (سرير) وهي الأسرة التي يجلس عليها الناس في مجالس سمرهم ، كما أنّ لهذه الكلمة معان أوسع ، حتّى أنّها تطلق أحيانا على تابوت الميّت ، ويحتمل أن يكون إطلاق هذه التسمية على تابوت الميّت برجاء أن يكون التابوت مركب بهجة يسير به إلى الرحمة الإلهية وجنّة الخلد.

أمّا القسم الخامس فيتحدّث عن نعمة اخرى من النعم التي تغدق على أهل الجنّة ، إذ تطرّق إلى الشراب الطهور الذي يطاف به عليهم بكؤوس مملوءة بأنواع الخمور الطاهرة ، ومتى ما أرادوا فإنّهم يسقون من ذلك الخمر ليغرقوا في عالم من النشاط والروحية( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) .

وهذه الكؤوس ليست في مكان معيّن يذهبون إليها لأخذها ، وإنّما يطاف بها عليهم( يُطافُ عَلَيْهِمْ ) .

كلمة (كأس) يطلقها أهل اللغة على إناء الشراب المملوء ، فيما يطلقون كلمة (قدح) عليه إن كان خاليا ، وقال الراغب في مفرداته : الكأس الإناء بما فيه من الشراب.

أمّا كلمة (معين) مشتقّة من (معن) على وزن (صحن) وتعني الجاري ، إشارة إلى أنّ هناك عيونا جارية من الخمر الطاهر ، تملأ منها ـ في كلّ لحظة ـ الكؤوس ، ومن ثمّ يطاف بها على أهل الجنّة ، وهذه العيون الجارية من الخمر الطاهر لا تنضب ولا تفسد ، إضافة إلى أنّ الحصول عليها لا يحتاج إلى أي مشقّة أو تعب.

ثمّ ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب ، إذ يقول : إنّها بيضاء اللون

٣١٦

ومتلألئة وتعطي لذّة للشاربين بها( بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) .

وكلمة (بيضاء) اعتبرها بعض المفسّرين صفة لكؤوس الشراب ، فيما اعتبرها البعض الآخر صفة للشراب الطهور ، ويعني أنّ ذلك الشراب ليس كالأشربة الملوّنة في الدنيا ، بل إنّها أشربة طاهرة ، خالية من الألوان الشيطانية ، وبيضاء اللون شفّافة.

وبالطبع فإنّ المعنى الثاني أنسب لجملة( لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) .

الآية السابقة التي تطرّقت إلى الشراب والكؤوس ربّما تجلب إلى الأذهان مفاهيم اخرى ، أمّا الآية التي تليها فتطرد في جملة قصيرة كافّة تلك المفاهيم عن الأذهان( لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ) .

أي أنّ ذلك الخمر هو شراب طاهر لا يفسد العقل ، ولا يؤدّي إلى السكر والغفلة ، وإنّما يؤدّي إلى اليقظة والنشاط وفيه متعة للروح.

وكلمة (غول) على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشيء بصورة غير محسوسة ، ولهذا يقال في الأدب العربي لعمليات القتل التي تتمّ بصورة سريّة أو خفية بأنّه (قتل غيلة).

وكلمة (ينزفون) من مادّة (نزف) على وزن (حذف) وتعني فقدان الشيء تدريجيّا ، وعند ما تستخدم هذه الكلمة بشأن آبار المياه ، فإنّها تعطي معنى استخراج الماء من البئر تدريجيّا حتّى ينضب ، ويقال «نزيف الدم» وهو خروج الدم من الجسد تدريجيّا حتّى ينتهي تماما.

على أيّة حال ، فإنّ المقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيّا والوصول إلى حالة السكرة ، أمّا خمر الجنّة الطاهر فإنّه لا يسكر على الإطلاق ، إذ لا يذهب بالعقل ولا يسبّب أي مضارّ.

هاتان العبارتان تتطرّقان في آن واحد ـ بصورة ضمنية ودقيقة ـ إلى الشراب في عالم الدنيا والذي ينفذ إلى حياة الإنسان بصورة تدريجية وسرية ، ويوجد عنده حالات الفساد والضياع ، حيث أنّها لا تؤدّي بعقل الإنسان وأعصابه إلى

٣١٧

الدمار فحسب ، بل إنّ تأثيرها السلبي والذي لا يمكن إنكاره يمتدّ إلى جميع أعضاء جسم الإنسان ، إلى القلب وحتّى الشرايين ، وإلى المعدة والكلية والكبد ، وأحيانا تودي بحياة الإنسان وكأنّها تقتله غيلة ، وكذلك تأثيرها على عقل وذكاء الإنسان يشبه عملية سحب ماء البئر تدريجيّا حتّى يجفّ.

ولكن الشراب الطهور الإلهي في يوم القيامة لا يحمل هذه الصفات(١) .

أمّا القسم السادس ، فإنّه يشير إلى الحور العين في جنّات النعيم( وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ ) ، أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن طرفهن عليهم فقط ، ولهذه الزوجات أعينا واسعة وجميلة.

(طرف) في الأصل تعني جفن العين ، وهذه الكلمة كناية عن النظر ، إذ أنّ أجفان العين تتحرّك عند ما ينظر الإنسان إلى شيء ما ، إذن فإنّ عبارة( قاصِراتُ الطَّرْفِ ) تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة ، كما أنّ هناك تفسيرات متعدّدة وردت بهذا الشأن يمكن درجها كالتالي :

الأوّل : هو أنّهن ينظرن إلى أزواجهنّ فقط ، ولا تمتد أبصارهنّ إلى سواهم.

والثاني : هذا التعبير كناية عن كونهنّ لا يعشقنّ إلّا أزواجهنّ ، وقلوبهم متيّمة بمحبّتهم ، ولا توجد محبّة اخرى في قلوبهنّ ، وهذا هو أكبر امتياز للمرأة التي تحبّ زوجها وتتأمّل به.

والتّفسير الثالث : هو أنّ لهنّ أعين سكرى ، هذه الحالة الخاصّة التي طالما وصف فيها الشعراء جمال العين في قصائدهم(٢) .

__________________

(١) الضميران (فيها) و (عنها) يعودان على «الخمر» التي لم ترد بصورة مباشرة في الجملة ، لكن ذلك يتّضح من سياق الكلام ، وكما هو معروف فإنّ الخمرة هي مؤنث مجازي و (عن) في (عنها) إنّما هي لبيان العلّة ، وتعني أنّ هذه الخمرة لا تسكر هؤلاء ولا تفقد عقلهم وشعورهم ، ويجب الالتفات إلى أنّ للخمر معنيان مشتركان ، إذ هي أحيانا تطلق على شراب يثير الفساد ويذهب بالعقل( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) (المائدة ـ ٩٠) ، وأحيانا تطلق على الشراب الطاهر الذي يعطي لعباد الله المخلصين في جنان الخلد( وَأَنْهارٌ ) ( مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) (محمّد ـ ١٥).

(٢) روح المعاني ، المجلّد ٣٣ ، صفحة ٨١.

٣١٨

وبالطبع فإنّ المعنى الأوّل والثاني يبدوان أنسب ، مع أنّه لا مانع من الجمع بين المعاني.

كلمة (عين) على وزن (سين) وجمعها (عيناء) وتعني المرأة ذات العين الواسعة.

وأخيرا ، فإنّ آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفا آخر لزوجات الجنّة ، إذ توضّح طهارتهنّ وقد استهن من خلال هذه العبارة( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) أي إنّهن نظيفات وظريفات ، وذوات أجسام بيضاء صافية كالبيض الذي كنه الريش في العشّ فلم تمسّه الأيدي ولم يصبه الغبار.

(بيض) جمع بيضة.

(مكنون) مشتقّة من (كن) على وزن (جنّ) وتعني المستور بالادّخار.

هذا التشبيه القرآني يتّضح بصورة جيّدة إذا نظر الإنسان إلى البيضة في اللحظة التي تنفصل فيها عن الدجاجة ، ولم تمسّها بعديد الإنسان لتستقرّ تحت جناح الدجاجة وريشها ، إذ تبدو عليها شفافية وصفاء عجيبان.

وبعض المفسّرين يرى بأنّ كلمة (مكنون) تعني المحتويات الداخلية للبيضة المختفية تحت القشرة ، وفي الواقع فإنّ التشبيه المذكور يشير إلى بيضة مطبوخة قد أزيلت قشرتها الخارجية لتوّها ، وقد بدا عليها البياض اللامع والنعومة واللطافة.

الملاحظ أنّ عبارات القرآن المجيد الخاصّة بتوضيح الحقائق ، عميقة ومفعمة بالمعاني ، فعبارة قصيرة ولطيفة واحدة توضّح حقائق كثيرة وبأسلوب لطيف.

* * *

ملاحظة

إلقاء نظرة عامّة على ما جاء في الآيات السابقة :

الهبات التي من الله تعالى بها على أهل الجنّة ـ المذكورة في الآيات السابقة ـ هي مجموعة من الهبات الماديّة والمعنوية ، ونستشف من عبارة( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ

٣١٩

مَعْلُومٌ ) أنّ أوّل هبة هي تلك المتعلّقة بالهبات المعنوية والروحية التي يعجز اللسان عن وصفها.

أمّا الأقسام الستّة الاخرى وهي الفواكه ، والشراب الطاهر ، والزوجات الصالحات ، والاحترام الكامل ، والمسكن الحسن ، والأصدقاء الجيدون في الجنّة ، فقد أعطت أبعادا مختلفة لنعم الجنّة ، والتي غالبا ما تمزج بالعطايا والمنح المادية والمعنوية.

لكن كلّ ما طرحناه كان بلغتنا التي لا تستطيع أبدا أن تعكس كلّ جوانب النعم في الجنّة ، ومن الطبيعي فإنّنا نحتاج إلى حواس سمع ونظر وإدراك اخرى ، إضافة إلى ألفاظ وجمل وكلام آخر ، كي نتمكّن من شرح هذه الأمور.

وبعبارة اخرى ، فإنّ حقيقة النعم التي تغدق على أهل الجنّة خفيّة عن أهل الدنيا ، إلّا إذا ذهبوا إلى هناك وشاهدوها عن قرب ليدركوها.

على أيّة حال ، فإنّ( عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) والذين وصلوا في علومهم وإيمانهم إلى مرحلة الكمال ، أعزّاء عند الله ، ويشملهم اللطف الإلهي بصورة غير محدودة ، ومهما تصوّرنا علو مقامهم ، فإنّهم أفضل وأعلى من ذلك.

* * *

٣٢٠

أخبرني أبو بكر أحمد بن محمّد بن عبد الواحد المروذي ، حدّثنا محمّد ابن عبد الله بن محمّد الحافظ ـ بنيسابور ـ قال : سمعت أبا حامد أحمد بن محمّد المُقرئ الفقيه الواعظ يقول : سمعت أبا العبّاس محمّد بن إسحاق الثقفي يقول : لمّا انصرف قتيبة بن سعيد إلى الري ، سألوه أنْ يحدّثهم فامتنع وقال : أُحدّثكم بعد أنْ حضر مجالسي أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعليّ بن المديني، وأبو بكر ابن أبي شيبة ، وأبو خيثمة ؟ ! قالوا له : فإنّ عندنا غلاماً يسرد كلّ ما حدّثت به مجلساً مجلساً ، قم يا أبا زرعة ، فقام أبو زرعة ، فسرد كلّ ما حدّث به قتيبة ، فحدّثهم قتيبة .

حدّثنا محمّد بن يوسف القطّان النيسابوري ـ لفظاً ـ أخبرنا محمّد بن عبد الله بن محمّد بن حمدَويه الحافظ قال : سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد الرّازي يقول : سمعت أبا عبد الله محمّد بن مسلم بن وارة يقول : كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور ، فقال رجلٌ مِن أهلِ العراق : سمعت أحمد بن حنبل يقول : صحّ مِن الحديث سبعمِئة ألف حديث وكسر ، وهذا الفتى : ـ يعني أبا زرعة ـ قد حفظ ستمِئة ألف .

أخبرنا أبو سعد الماليني ، حدّثنا عبد الله بن عدي قال : سمِعت الحسن ابن عثمان التستري يقول : كلّ حديثٍ لا يعرفه أبو زرعة الرّازي ليس له أصل .

حدّثني أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن علّي السوذرجاني ـ لفظاً ، بأصبهان ـ وأبو طالب يحيى بن عليّ بن الطيّب الدسكري ـ لفظاً ، بحلوان ـ قال يحيى حدّثنا ، وقال الآخر : أنبأنا أبو بكر ابن المُقرئ ، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن جعفر القزويني ـ بمصر ـ قال سمعت محمّد بن إسحاق الصاغاني يقول ـ في حديث ذكره مِن حديث الكوفة فقال : هذا أفادنيه أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم ، فقال له بعض مَن حضر : يا أبا بكر ، أبو زرعة مِن أولئك الحفّاظ الذين رأيتهم ؟ وذكر جماعة من الحفّاظ ، منهم الفلاس .

فقال : أبو زرعة أعلاهم ؛ لأنّه جمَع الحفظ مع التقوى والورع ، وهو يشبه بأبي عبد الله أحمد بن حنبل.

٣٢١

أخبرنا أبو نعيم الحافظ : حدّثنا الحسن بن محمّد الزعفراني ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن عمر ، حدّثنا أبو بكر ابن بحر ، حدّثنا محمّد بن الهيثم بن عليّ النسوي ، قال : لمّا أن قدِم حمدون البرذعي على أبي زرعة لكتابة الحديث، دخل عليه فرأى في داره أواني وفرشاً كثيراً ، قال : وكان ذلك لأخيه، فهمّ أنْ يرجع ولا يكتب عنه ، فلمّا كان من اللّيل رأى كأنّه على شط بركة، ورأى ظلّ شخص في الماء، فقال : أنت الذي زهدت في أبي زرعة ؟ ! أعلمت أنّ أحمد بن حنبل كان من الأبدال ، فلمّا أنْ مات أبدل الله مكانه أبا زرعة .

أخبرنا الماليني : أخبرنا عبد الله بن عيدي ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن سليمان القطّان، حدّثنا أبو حاتم الرّازي، حدّثني أبو زرعة عبدي الله بن عبد الكريم بن يزيد القرشي ، وما خلّف بعده مثله علماً وفهماً ، وصيانةً وحذقاً ، وهذا ما لا يُرتاب فيه ، ولا أعلم مِن المشرق والمغرب مَن كان يفهم من هذا الشأن مثله ، ولقد كان من هذا الأمر بسبيل .

وقال ابن عدي : سمعت عبد الملك بن محمّد يقول : سمعت ابن خراش يقول : كان بيني وبين أبي زرعة موعد أنْ أُبكّر عليه فأُذاكره ، فبكّرت فمررت بأبي حاتم وهو قاعدٌ وحده ، فدعاني فأجلسني معه يُذاكرني حتّى أصبح النهار ، فقلت له : بيني وبين أبي زرعة موعد ، فجئت إلى أبي زرعة والناس عليه منكبّون ، فقال لي : تأخّرت عن الموعد ؟ قلت : بكّرت فمررت بهذا المستوحش فدعاني فرَحِمته لِوحدته ، وهو أعلا إسناداً منك ، وضربت أنت بالدست أو كما قال .

أخبرنا أبو منصور محمّد بن عيسى بن عبد العزيز البزّاز ـ بهمذان ـ حدّثنا صالح بن أحمد بن محمّد الحافظ قال : سمعت القاسم بن أبي صالح يقول : سمعت أبا حاتم الرّازي يقول : أبو زرعة إمام.

أخبرنا البرقاني : أخبرنا عليّ بن عمر الدارقطني ، أخبرنا الحسن بن رشيق ، حدّثنا عبد الكريم بن أبي عبد الرحمان النسائي عن أبيه ، ثمّ حدّثني الصوري ، أخبرنا الخصيب بن عبد الله قال : ناولني عبد الكريم ـ وكتب لي بخطّه ـ قال : سمعت أبي يقول : عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرّازي ثقةٌ.

٣٢٢

أخبرنا الماليني : أخبرنا عبد الله بن عدي قال : سمعت أبا يعلى الموصلي يقول : ما سمعنا بذكرِ أحدٍ في الحفظ إلاّ كان اسمه أكثر مِن رؤيته ، إلاّ أبو زرعة الرّازي ، فإنّ مشاهدته كانت أعم من اسمه ، وكان قد جمع حفظ الأبواب ، والشيوخ ، والتفسير ، وغير ذلك ، وكتبنا بانتخابه بواسط ستّة آلاف .

أخبرنا هناد بن هارون النسفي : أخبرنا محمّد بن أحمد بن محمّد بن سليمان الحافظ ـ ببخارى ـ أخبرنا أبو الأزهر ناصر بن محمّد بن النضر الأسدي ـ بكرمينية ـ قال سمعت أبا يعلى أحمد بن عليّ بن المثنّى يقول : رحلْتُ إلى البصرة لِلِقاء المشايخ أبي الربيع ، الزهراني ، وهدبة بن خالد ، وسائر المشايخ ، فبينا نحن قُعود في السفينة ، إذا أنا برجلٍ يسأل رجلاً فقال : ما تقول ـ رحمك الله ـ في رجلٍ حلف بطلاق امرأته ثلاثاً أنّك تحفظ مِئة ألف حديث ؟ فأطرق رأسه مليّاً ثمّ رفع فقال : اذهب يا هذا وأنت بارٌّ في يمينك ، ولا تعد إلى مثل هذا ، فقلت من الرجل ؟ فقيل لي : أبو زرعة الرّازي ، كان ينحدر معنا إلى البصرة .

أخبرنا الماليني : حدّثنا عبد الله بن عدي قال : سمعت أبي عدي بنعبد الله يقول : كنت بالري ـ وأنا غلام في البزّازين ـ فحلف رجلٌ بطلاقِ امرأته أنّ أبا زرعة يحفظ مِئة ألف حديث ، فذهب قومٌ إلى أبي زرعة بسبب هذا الرجل هل طلّقت امرأته أم لا ؟ فذهبْت معهم ، فذكر لأبي زرعة ما ذكر الرجل ، فقال : ما حمله على ذلك ؟ فقيل له :

٣٢٣

قد جرى الآن منه ذلك ، فقال أبو زرعة : قل له يمسك امرأته... ) (١) .

ترجمة أبي حاتم الرّازي

وكذلك أبو حاتم الرّازي المتوفّى سنة ٢٧٧ :

قال الذهبي : ( محمّد بن إدريس أبو حاتم الرّازي ، الحافظ ، سمع الأنصاري وعبيد الله بن موسى.

وعنه : د ، س ، ووَلَده عبد الرحمان بن أبي حاتم ، والمحاملي قال موسى بن إسحاق الأنصاري : ما رأيت أحفظ منه مات في شعبان سنة ٢٧٧ )(٢) .

وقال السمعاني : ( إمامُ عصره والمرجوع إليه في مشكلات الحديث ، مِن مشاهير العلماء المذكورين ، الموصوفين بالفضل والحفظ والرحلة ، ولقي العلماء )(٣) .

وقال ابن حجر: ( د ، س ، ق محمّد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي ، أبو حاتم الرّازي ، الحافظ الكبير ، أحد الأئمّة.... روى عنه : أبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير... وقال الحاكم أبو أحمد في الكنى : أبو

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد ١٠ / ٣٢٦ ـ ٣٣٧ .

(٢) الكاشف ٣ : ٦ / ٤٧٦١ .

(٣) الأنساب ٢ : ٢٧٩ .

٣٢٤

حاتم محمّد بن إدريس ، روى عنه : محمد بن إسماعيل الجعفي وابنه عبد الرحمان... ورفيقه أبو زرعة... وآخرون .

قال أبو بكر الخلال : أبو حاتم إمامٌ في الحديث ، روى عن أحمد مسائلَ كثيرةٌ وقعت إلينا متفرّقة ، كلّها غريب .

وقال ابن خراش : كان مِن أهل الأمانة والمعرفة .

وقال النسائي : ثقةٌ .

وقال اللاّلكائي : كان إماماً ، عالماً بالحديث ، حافظاً له ، متقناً متثبّتاً .

وقال الخطيب : كان أحد الأئمّة الحفّاظ الأثبات ، مشهوراً بالعلم ، مذكوراً بالفضل... مات بالري ٢٧٧ )(١) .

تكلّم الذهلي في البخاري

وممّن تكلّم في البخاري مِن الأئمّة الأعلام : محمّد بن يحيى الذهلي ، فقد قدح فيه وطعن ، وبدّعه في الدين ، ومنع من الكتابة عنه والحضور عنده ، قال السبكي بترجمة البخاري :

( قال أبو حامد ابن الشرقي : رأيت البخاري في جنازة سعيد بن مروان والذهلي يسأله عن الأسماء والكنى والعِلل ، ويمرّ فيه البخاري مثل السهم ، فما أتى على هذا شهر حتّى قال الذهلي : ألا مَن يختلف إلى مجلسه فلا يأتنا ، فإنّهم كتبوا إلينا من بغداد أنّه تكلّم في اللّفظ ، ونهيناه فلم ينته ، فلا تقربوه .

قلت : كان البخاري ـ على ما رُوي وسنحكي ما فيه ـ ممّن قال : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، وقال محمّد بن يحيى الذهلي : مَن زَعم أنّ لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو مُبتَدِع لا يُجالَس ولا يُكلَّم ، ومَن زعم أنّ القرآن مخلوقٌ فقد كفر ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) تهذيب التهذيب ٩ : ٢٨ ـ ٣٠ .

٣٢٥

وقال ابن حجر : ( قال أبو حامد ابن الشرقي : سمعت محمّد بن يحيى الذهلي يقول : القرآن كلامُ الله غير مخلوق ، ومَن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدِع لا يُجالَس ولا يُكلَّم ، ومَن ذهب بعد هذا إلى محمّد بن إسماعيل فاتّهموه ، فإنّه لا يحضر مجلسه إلاّ مَن كان على مذهبه )(١) .

نقد دفاع القوم عن البخاري

ثمّ إنّ القوم حاولوا تخليص البخاري مِن هذه الورطة ، فأتعبوا أنفسهم وجهدوا كثيراً... فقد جاء في كتاب( الطبقات ) بعد ما تقدَّم :

( وإنّما أراد محمّد بن يحيى ـ والعِلم عند الله ـ ما أراده أحمد بن حنبل كما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي ، مِن النّهي عن الخوض في هذا ، فلم يرد مخالفة البخاري ، وإنْ خالفه وزعم أنّ لفظه الخارج مِن بين شفة المحدّثين قديم ، فقد باء بإثمٍ عظيم ، والظنّ به خلاف ذلك ، وإنّما أراد هو وأحمد وغيرهما مِن الأئمّة النهي عن الخوض في مسائل الكلام ، وكلام البخاري عندنا محمولٌ على ذكر ذلك عند الاحتياج إليه ، فالكلام عند الاحتياج واجب ، والسكوت عنه عند عدم الاحتياج سنّة .

فافهم ذلك ودع خرافات المؤرّخين ، واضرب صفحاً عن تمويهات الضالّين ، الذين يظنّون أنّهم مُحدّثون وأنّهم عند السنّة واقفون ، وهُم عنها مبعدون .

وكيف يظنّ بالبخاري أنّه يذهب إلى شيء مِن أقوال المعتزلة ، وقد صحّ عنه فيما رواه الفربري وغيره أنّه قال : إنّي لأستجهل مَن لا يكفّر الجهميّة ، ولا يرتاب المنصف في أنّ محمّد بن يحيى الذهلي لحقته الحسد التي لم يسلم منها إلاّ أهل العصمة ، وقد سأل بعضهم البخاري عمّا بينه وبين محمّد بن يحيى فقال البخاري : كم يعتري محمّد بن يحيى الحسد في العلم ، والعلم رزقُ الله يعطيه مَن يشاء ، ولقد أطرف البخاري وأبان عن عظيم ذكائه حيث قال ـ وقد قال له أبو عمرو الخفّاف أنّ الناس خاضوا في قولك : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ـ يا أبا عمرو، أحفظ ما أقول لك ، مَن زعم مِن أهل نيسابور وقومس والري وهمدان ، وبغداد والكوفة والبصرة ، ومكّة والمدينة : أنّي قلت لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، فهو كذّاب ، فإنّي لم أقله ، إلاّ أنّي قلت : أفعال العباد مخلوقة .

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري : ٤٩٢ .

٣٢٦

قلت : تأمّل كلامه ما أذكاه ! ومعناه ـ والعلم عند الله ـ إنّي لم أقل لفظي بالقرآن مخلوق ، لأنّ الكلام في هذا خوض في مسائل الكلام وصفات الله التي لا ينبغي الخوض فيها إلاّ للضرورة ، ولكنّي قلت أفعال العباد مخلوقة ، وهو قاعدة مغنية عن تخصيص هذه المسألة بالذكر ، فإنّ كلّ عاقلٍ يعلم أنّ لفظنا مِن جملةِ أفعالنا ، وأفعالنا مخلوقة ، فألفاظنا مخلوقة .

ولقد أفصح بهذا المعنى في رواية أُخرى صحيحة عنه ، رواها حاتم بن أحمد الكيدري فقال : سمعت مسلم بن الحجّاج ، فذكر الحكاية وفيها : أنّ رجلاً قام إلى البخاري فسأله عن اللّفظ بالقرآن فقال : أفعالنا مخلوقةٌ وألفاظنا من أفعالنا ، وفي الحكاية : أنّه وقع بين القوم إذ ذاك اختلاف على البخاري ، فقال بعضهم : قال لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، وقال آخرون : لم يقل .

قلت : فلم يكن الإنكار إلاّ على مَن تكلّم في القرآن ، فالحاصل ما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي ، من أنّ أحمد بن حنبل وغيره من السادات الموفّقين ، نهوا عن الكلام في القرآن جملةً ، وإنْ لم يُخالفوا في مسألة اللفظ فيما نظنّه فيهم إجلالاً لهم وفهماً مِن كلامهم في غير رواية ، ودفعاً لمحلّهم عن قول لا يشهد له معقول ولا منقول ، وهو أنّ الكرابيسي والبخاري وغيرهما مِن الأئمّة الموفّقين أيضاً أفصحوا بأنّ لفظهم مخلوقٌ لمّا احتاجوا إلى الإفصاح ، هذا إنْ ثبت عنهم الإفصاح بهذا ، وإلاّ فقد نقلنا لك قول البخاري أنّ مَن نقل عنه هذا فقد كذِب عليه .

٣٢٧

فإنْ قلت : إذا كان حقّاً لِمَ لا يفصح به ، قلت : سبحان الله ، قد أنبأناك أنّ السرّ فيه في الخوض في علم الكلام ، خشية أنْ يَجُرَّ الكلام فيه إلى ما لا ينبغي ، وليس كلّ علمٍ يُفصح به ، فاحفظ ما نُلقيه إليك واشدد عليه يدَيك ، ويعجبني ما أنشد الغزالي في منهاج العابدين لبعض أهل البيت(١) :

إِنّي لأَكتُم مِن عِلمي جَواهِرَهُ كي

لا يَرى الحقُّ ذي جَهلٍ فَيَفتَنِنا

يا رُبَّ جَوهَرِ عِلمٍ لَو أَبوحُ بِهِ

لقيلَ لي أَنتَ مِمَّن يَعبدُ الوَثَنا

وَلاسَتَحَلَّ رِجالٌ صَالِحُون دَمي

يَرَونَ أَقبَحَ ما يَأتونَهُ حَسَنا

وَقَد تَقَدَّمَ في هَذا أَبو حَسَنٍ

إِلى الحُسَينِ وَوَصّى قَلبَهُ الحَسنا

أقـول :

لكن كلام السبكي مُتهافت وركيك ، ألا ترى أنّه يُبادر إلى إنكار وقوع الخلاف بين الذهلي والبخاري ، ثمّ يرجع فيرمي الذهلي بالحسد للبخاري ، ثمّ تارةً يؤيّد القول بخلق التلفّظ بالقرآن ، وأُخرى ينكر أنْ يكون البخاري قائلاً بذلك !!

والحاصل : أنّه قد ذكر ثلاثة وجوه في الدفاع عن البخاري .

أحدها : عدم الخلاف بين الذهلي والبخاري في المسألة .

والثاني : إنّ ما قال الذهلي في البخاري ليس إلاّ عن الحسد له .

والثالث : إنّه لم يثبت عن البخاري القول بأنّ لفظي بالقرآن مخلوق .

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج العابدين : ٥ نسبه للإمام زين العابدينعليه‌السلام .

٣٢٨

لكن الأوّل واضح البطلان ، ولا سبيل لحمل كلام الذهلي في البخاري على أنّه إنّما كان نهياً عن الخوض في علم الكلام ، وكيف يقول هذا ؟ وهو ينقل عن الذهلي تكفير البخاري والردّ عليه والتكلّم فيه والمنع من الذهاب إليه والحضور عنده ؟ وكيف يدّعي عدم وقوع الخلاف ؟ وقد جاء في كتابه قبل هذا : ( قصّته مع محمّد بن يحيى الذهلي ) فقال : ( قال الحسن بن محمّد بن جابر : قال لنا الذهلي لمّا ورد البخاري بنيسابور : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاستمعوا منه ، فذهب الناس إليه واقبلوا على السماع منه ، حتّى ظهر الخلل في مجلس الذهلي ، فحسده بعد ذلك وتكلّم فيه... )(١) .

وذكر ابن حجر في مقدّمة شرح البخاري : ( ذكر ما وقع بينه وبين الذهلي في مسألة اللّفظ ، وما حصل له مِن المحنة بسبب ذلك وبراءته ممّا نسب إليه ) فقال :

( قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخه : قدِم البخاري بنيسابور سنة خمسٍ وثلاثين ، فأقام بها مدّة يحدّث على الدوام ، قال : سمعت محمّد بن حازم البزّار يقول : سمعت الحسن بن محمّد بن جابر يقول : سمعت محمّد بن يحيى يقول : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه .

قال : فذهب الناس إليه واقبلوا على السماع منه ، حتّى ظهر الخلل في مجلس محمّد بن يحيى .

قال : فتكلّم فيه بعد ذلك ) .

قال : ( وقال أبو أحمد ابن عدي : ذكر لي جماعة مِن المشايخ : أنّ محمّد ابن إسماعيل لمّا ورد نيسابور واجتمع الناس عنده ، حسده بعض شيوخ الوقت ، فقال لأصحاب الحديث : إنّ محمّد بن إسماعيل يقول : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، فلمّا حضر المجلس قام إليه رجلٌ فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول في اللّفظ بالقرآن ، مخلوقٌ هو أو غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يُجِبه ثلاثاً ، فألحّ عليه ، فقال البخاري : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، وأفعال العباد مخلوقة ، والامتحان بدعة ، فشغب الرجل وقال : قد قال لفظي بالقرآن مخلوق ) قال : ( وقال الحاكم : لمّا وقع بين البخاري وبين محمّد بن يحيى في مسألة اللّفظ ، انقطع الناس عن البخاري إلاّ مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة فقال الذهلي : ألا مَن قال باللّفظ فلا يحضرنا مجلسنا ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة للسبكي ٢ : ٢٢٨ .

٣٢٩

قال : ( قال الحاكم أبو عبد الله : سمعت محمّد بن صالح بن هاني يقول : سمعت أحمد بن مسلمة النيسابوري يقول : دخلت على البخاري فقلت : يا أبا عبد الله ، إنّ هذا الرجل مقبولٌ بخراسان خصوصاً في هذه المدينة ، وقد لجّ في هذا الأمر حتّى لا يقدر أحد أنْ يكلّمه ، فما ترى ؟ قال : فقبض على لحيته وقال :( .. وأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً ولا طلباً للرياسة ، وإنّما أبَت نفسي الرجوع إلى الوطن لغَلَبة المخالفين ، وقد قصدني هذا الرجل حسَداً لِمَا آتاني الله ثمّ قال لي : يا أبا أحمد ، إنّي خارج غداً لتتخلّصوا مِن حديثه لأجلي ) .

وقال الحاكم أيضاً عن الحافظ أبي عبد الله ابن الأخرم قال : ( لمّا قام مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة مِن مجلس محمّد بن يحيى بسببالبخاري قال الذهلي : لا يُساكنني هذا الرجل في البلد ، فخشي البخاري وسافر (١) .

وكيف يجتمع القول بعدم وقوع الخلاف مع دعوى حسد الذهلي للبخاري ؟

لكنّ دعوى الحسد أيضاً لا تحلّ المشكلة ، ولا تنفعهم بل تضرّهم ، لأُمور :

ترجمة الذهلي

الأوّل : جلالة قدر الذهلي وعظمته كما بتراجمه ، فقد ذكروا أنّه مِن مشايخ البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وآخرين من كبار الأئمّة ، وأنّ ابن أبي داود لقّبه بـ ( أمير المؤمنين في الحديث ) :

قال الذهبي : ( وعنه : خ والأربعة وابن خزيمة وأبو عوانة وأبو علي الميداني ، ولا يكاد البخاري يفصح باسمه لِما وقَع بينهما قال ابن أبي داود : حدّثنا محمّد بن يحيى ، وكان أمير المؤمنين في الحديث .

وقال أبو حاتم : هو إمامُ أهل زمانه توفّي ٢٥٨ وله ستّ وثمانون )(٢) .

وقال السمعاني : ( إمام أهل نيسابور في عصره ، ورئيس العلماء ومقدّمهم )(٣) .

وقال الصفدي : ( الإمام الذهلي ، مولاهم ، النيسابوري ، الحافظ ، سمع مِن خلقٍ كثير ، روى عنه الجماعة خلا مسلم ، قال : ارتحلت ثلاث رحلات

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري = مقدّمة فتح الباري : ٤٩٢ .

(٢) الكاشف ٣ : ٨٨ / ٥٢٧٤ .

(٣) الأنساب ٣ : ١٨١ .

٣٣٠

وأنفقت مِئةً وخمسين ألفا ً. قال النسائي : ثقةٌ مأمون قال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف : رأيت محمّد بن يحيى في المنام فقلت : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي قلت : ما فُعِل بحديثك ؟ قال : كُتِب بماء الذهب ورُفِع في عِلّيّين )(١) .

فهذ مقامات الذهلي ومنازله كما يقولون ، فكيف يصدّق مع هذا رميه بالحسد للبخاري ، وأنّ كلّ ما قاله فيه مِن التكفير وغيره هو عن الحسد له ؟ اللّهمّ إلاّ أنْ يلتجأ المدافعون عن البخاري إلى تكذيب هؤلاء المادحين للذهلي ، وهذه شناعةٌ عظيمة وداهيةٌ كبيرة بلا ارتياب ، فإنّه مصداق الهرب مِن المطر والوقوف تحت الميزاب !!

الأمر الثاني :

إنّ هذا الوجه ـ المُبطل للوجه السابق ـ لا ينفع القوم بل يضرّهم ؛ لأنّه إذا ثبت حسد الذهلي ـ كما ذكر السبكي ونصَّ عليه البخاري ـ وأنّه كان مِن أجل الرياسة وحبّ الدنيا ، توجّه الطعن إلى البخاري مرّةً أُخرى ، وصار دليلاً آخر على عدم احتياطه وتورّعه في الرواية والفتيا ؛ لأنّ الأُمور التي حكاها الحاكم والسبكي وابن حجر العسقلاني مثبتة ، لكون الذهلي فاسقاً ضالاًّ لا يجوز الأخذ منه والرواية عنه ، لكنّ البخاري قد أخرج عنه في صحيحه كما في( تهذيب الكمال ) (٢) و( تهذيب التهذيب) (٣) و( تقريب التهذيب ) (٤) و( الكاشف ) (٥) وغيرهما .

ـــــــــــــــــــ

(١) الوافي بالوفيات ٥ : ١٨٦ / ٢٢٣٥ .

(٢) تهذيب الكمال ٢٦ : ٦٢٢ / ٥٦٨٦ .

(٣) تهذيب التهذيب ٩ : ٤٥٢ / ٨٤٣ .

(٤) تقريب التهذيب ٢ : ٢٢٦ / ٧١٩٣ .

(٥) الكاشف ٣ : ٨٨ / ٥٢٧٤ .

٣٣١

وكيف جاز له أنْ يُخرج عنه في كتابه الذي لم يُخرج فيه عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ؟

ومِن الطرائف أنْ يلتزم بالرواية عنه ، وإخراجها في كتابه ولو مع عدم التصريح باسمه ؟!

إنّه إنْ كان ثقةٌ يصلح للرواية عنه ، فالإخراج عنه مع إخفاء اسمه حسدٌ له مِن البخاري ، وإنْ كان مِن المجروحين عنده ، فالإخراج عنه بهذه الكيفيّة خيانةٌ وتدليس !!

الأمر الثالث :

إنّه إذا ثبت حسدُ الذهلي للبخاري وقدحه تضليله إيّاه ، وذمّ البخاري للذهلي وتكلّمه فيه ، توجّه إلى أهل السنّة ما أورده الشاه عبد العزيز الدهلوي في( التحفة الاثني عشريّة ) بعنوان الطعن على أهل الحق ، مِن وجود التكاذب والتحاسد بين قدماء الأصحاب وردّ بعضهم على البعض ، كتأليف هشام بن الحكم كتاباً في الردّ على هشام بن سالم الجواليقي ومؤمن الطاق .

يقول الدهلوي : ( والعجب ، إنّ قدماء الإماميّة وقدوتهم ، الذين تنتهي إليهم سلاسل أسانيد أهل الأخبار منهم ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم الجواليقي ، وصاحب الطاق ، قد وقع بينهم أشدّ التكاذب والتحاسد ، وكانوا يكذِّبون بعضهم بعضاً في الروايات الواقعة بينهم ، عن الأئمّة الثلاثة السجّاد والباقر والصادقعليهم‌السلام ويضلّلون ويكفّرون فيما بينهم ، كما أنّ لهشام ابن الحكم كتاباً في الردّ على الجواليقي وصاحب الطاق ذكر ذلك النجاشي ، فسقط جميع أخبارهم عن حيّز الاعتبار وتساقط بالتعارض )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) التحفة الاثني عشريّة : ١١٨ الباب الرابع .

٣٣٢

لكنّ المناظرة وردّ البعض على البعض في المسائل العلميّة أمرٌ ، والإهانة والتكذيب بل التضليل والتكفير أمرٌ آخر ، فهشام بن الحكم وضع كتاباً في الردّ على هشام بن سالم في مسالة اختلفا فيها ، أمّا ما كان بين الذهلي والبخاري فهو الحسد والتضليل والتكفير، كما هو صريح عبارات القوم ، وهو الذي ينتهي إلى سقوط أخبارهم عن حيّز الاعتبار وتساقطها بالتعارض .

وأمّا إنكار السبكي أنْ يكون البخاري قائلاً : لفظي بالقرآن مخلوق ، فليس إلاّ مكابرةً منه ؛ لأنّه بنفسه قد حكى ذلك عن البخاري ، كما أنّ ابن حجرٍ أيضاً رواه ، قال السبكي :

( قال محمّد بن يوسف الفربري : سمعت محمّد بن إسماعيل يقول : وأمّا أفعال العباد مخلوقة ، فقد ثنا عليّ بن عبد الله ، ثنا مروان بن معاوية ، ثنا أبو مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة قال : قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله يصنع كلّ صانع وصنعته ) .

وسمعت عبيد الله بن سعيد ، سمعت يحيى بن سعيد يقول : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة .

قال البخاري : حركاتهم وأصواتهم و أكسابهم وكتابتهم مخلوقة ، فأمّا القرآن المتلو المُثبت في المصاحف ، المسطور المكتوب المُوعى في القلوب ، فهو كلام الله ليس بمخلوق .

قال الله تعالى :( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..... ) .

وقال : يُقال فلانٌ حسنُ القراءة ورديُّ القراءة ، ولا يُقال حسنُ القرآن ولا رديّ القرآن ، وإنّما ينسب إلى العباد القراءة ؛ لأنّ القرآن كلام الربّ والقراءة فعل العبد ، وليس لأحدٍ أنْ يشرع في أمر بغير علم ، كما زعم بعضهم أنّ القرآن بألفاظنا وألفاظنا

٣٣٣

به ، شيء واحد ، والتلاوة هي المتلو ، والقراءة هي المقروء...)(١) .

وقال ابن حجر في( مقدمة فتح الباري ) :

( قال حاتم بن أحمد بن محمود : سمعت مسلم بن الحجّاج يقول : لمّا قدِم محمّد بن إسماعيل نيسابور ، ما رأيت عالماً ولا والياً فعَل به أهل نيسابور ما فعلوا به ، فاستقبلوه مِن مرحلتين من البلد أو ثلاث ، فقال محمّد بن يحيى الذهلي في مجلسه : مَن أراد أنْ يستقبل محمّد بن إسماعيل غداً فليستقبله ، فإنّي أستقبله ، فاستقبله محمّد بن يحيى وعامّة علماء نيسابور ، فدخل البلد .

فقال محمّد بن يحيى : لا تسألوه مِن شيء مِن الكلام ، فإنْ أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه ، وشمت بنا كلّ أباضيّ وجهميّ ومرجئ بخراسان ، فازدحم الناس على محمّد بن إسماعيل حتّى امتلأت الدار والسطوح ، فلمّا كان اليوم الثاني أو الثالث مِن يوم قدومه ، قام إليه رجلٌ فسأله عن اللّفظ بالقرآن ، فقال : أفعالنا مخلوقةٌ وألفاظنا من أفعالنا ، فقال : فوقع بين الناس اختلاف ؛ فقال بعضهم : قال لفظي بالقرآن مخلوق ، وقال بعضهم : لم يقل ، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتّى قام بعضهم إلى بعض قال : فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم )(٢)

وأيضاً قال ابن حجر : ( قال الحاكم : حدّثنا أبو بكر ابن أبي الهيثم ، ثنا الفربري قال : سمع محمّد بن إسماعيل يقول : أمّا أفعال العباد مخلوقة ، فقد حدّثنا عليّ ابن عبد الله ، ثنا مروان بن معاوية ، ثنا أبو مالك عن ربعي ، عن حذيفة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله يصنع كلّ صانع وصنعته ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة ٢ : ٣٢٨ ـ ٢٢٩ .

(٢) هدي الساري : ٤٩١ .

٣٣٤

قال : وسمعت عبيد الله بن سعيد ـ يعني أبا قدامة السرخسي ـ سمعت يحيى ابن سعي يقول : لا زلت أسع أصحابنا يقولون إنّ أفعال العباد مخلوقة وقال محمّد بن إسماعيل : حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة ، فأمّا القرآن المبين المكتوب في المصاحف الموعى في القلوب ، فهو كلام الله تعالى غير مخلوق( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... ) (١) .

وأمّا ما ذكره أخيراً في مقام الدفاع عن البخاري ، وأنّه ( ليس كلّ علمٍ يُفصح به ) فهو اعتراف بجواز التقيّة واستعمالها ، فلماذا يرمون أهل الحقّ ـ المستعملين التقيّة مِن حكّام الجور وعملائهم ـ بأنواع التُهم ؟ ويسمّون ( التقيّة ) بـ ( النفاق ) ؟

وعلى الجملة ، فإنّ قول البخاري بمقالة ( لفظي بالقرآن مخلوق ) وتضليل الذهلي إيّاه بهذا السبب ، أمرٌ ثابت لا ريب فيه ، وكذلك سائر علماء القوم ، يكفّرون مَن قال بذلك .

وهذا الذهبي ينصّ في غير موضع مِن تاريخه على أنّ هذه المقالة هي مذهب الجهميّة .

والعجب أنّ السبكي ينقل عن الذهبي هذا الكلام ـ بترجمة الحسين الكرابيسي ـ ويضطرب أمامه أشدّ الاضطراب .

قال السبكي : ( وممّا يدلّك أيضاً على ما نقوله ، وأنّ السلف لا ينكرون أنّ لفظنا حادثٌ ، وأنّ سكوتهم إنّما هو عن الكلام في ذلك ، لا عن اعتقاده : أنّ الرواة رَوَوا أنّ الحسين بلَغَه كلام أحمد فيه فقال : لأقولنّ مقالةً حتّى يقول

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري : ٤٩١ .

٣٣٥

أحمد بخلافها فيُكفّر ، فقال : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، وهذه الحكاية قد ذكرها كثير مِن الحنابلة ، وذكرها شيخنا الذهبي في ترجمة الإمام أحمد وفي ترجمة الكرابيسي ، فانظر إلى قول الكرابيسي فيها إنّ مخالفها يُكفّر ، والإمام أحمد ـ فيما نعتقده ـ لم يخالفها ، وإنّما أنكر أنْ يتكلّم في ذلك .

فإذا تأمّلت ما سطرناه ، ونظرت قول شيخنا في غير موضعٍ من تاريخه ، إنّ مسألة اللفظ ممّا يرجع إلى قولِ جهم ، عرفت أنّ الرجل لا يدري في هذه المضائق ما يقول ، وقد أكثر هو وأصحابه من ذك جهم بن صفوان ، وليس قصدهم إلاّ جعل الأشاعرة ـ الذين قدر الله لقدرهم أنْ يكون مرفوعاً ، ولزومهم للسنّة أنْ يكون مجزوماً به ومقطوعا ـ فرقةً جهميّة .

واعلم أنّ جهماً شرٌّ مِن المعتزلة ـ كما يدريه مَن ينظر الملل والنحل ويعرف عقائد الفِرَق ـ بل هو شرّ مِن القائلين بها ؛ لمشاركته إيّاهم فيما قالوه وزيادته عليهم بطامّات ، فما كفى الذهبي أنْ يشير إلى اعتقاد ما يتبرّأ العقلاء عن قوله ، من قدم الألفاظ الجارية على لسانه ، حتّى ينسب هذه العقيدة إلى مثل الإمام أحمد بن حنبل وغيره مِن السّادات ، ويدّعي أنّ المُخالف فيها يرجع إلى قول جهم ، فليته درى ما يقول ، والله يغفر لنا وله ، ويتجاوز عمّن كان السبب في خوض مثل الذهبي في مسائل هذا الكلام ، وإنّه ليعزّ عليّ الكلام في ذلك .

ولكن كيف يسعنا السكوت ؟ وقد ملأ شيخنا تاريخه بهذه العظائم التي لو وقف عليها العاميّ لأضلّته ضلالاً مبيناً ، ولقد يعلم الله منّي كراهيّة الإزراء لشيخنا ، فإنّه مُفيدنا ومعلّمنا ، وهذا النور اليسير الحديثي الذي عرفناه منه استفدناه ، ولكن أرى أنّ التنبيه على ذلك حتمٌ لازمٌ في الدين )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة ٢ : ١١٨ ـ ١٢٠ .

٣٣٦

قول البخاري بخلق الإيمان

وكما قال البخاري بخلق التلفّظ بالقرآن ، كذلك قال بخلق الإيمان ، وهو كفرٌ عند الجمهور وخاصةً الحنفيّة منهم ، يقول صاحب كتاب( الفصول والأحكام ) وهو حفيد صاحب( الهداية ) ما هذا نصّه :

( مَن قال بخلق القرآن فهو كافر ، وكذا مَن قال بخلق الإيمان فهو كافر ورُوي عن بعض السلف أنّه روى عن أبي حنيفة : إنّ الإيمان غير مخلوق وسئل الشيخ الإمام أبو بكر محمّد بن الفضل عن الصّلاة خلف مَن يقول بخلق الإيمان قال : لا تصلّوا خلفه وذكر أبو سهل بن عبد الله ـ وهو أبو سهل الكبير ـ عن كثير مِن السلف : إنْ من قال : القرآن مخلوقٌ فهو كافر ، ومن قال : الإيمان مخلوقٌ فهو كافر .

وحُكي أنّه وقعَت هذه المسألة بفرغانة ، فأُتي بمَحضر منها إلى أئمّة بخارى ، فكتب فيه الشيخ الإمام أبو بكر ابن حامد ، والشيخ الإمام أبو حفص الزاهد ، والشيخ الإمام أبو بكر الإسماعيلي : إنّ الإيمان غير مخلوق ، ومَن قال بخلقه فهو كافر .

وقد خرج كثير مِن الناس مِن بخارى ، منهم محمّد بن إسماعيل صاحب الجامع ، بسبب قولهم : الإيمان مخلوق ) .

ترجمة صاحب الفصول

وصاحب كتاب( الفصول والأحكام ) من العلماء الأعلام المرموقين بين الفقهاء الحنفيّة ، وقد ترجم له الكفوي حيث قال : ( الشيخ الإمام أبو الفتح زين الدين ، صاحب الفصول العادية ، عبد الرحيم بن أبي بكر عماد الدين بن برهان الدين صاحب الهداية عليّ بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني الرشداني .

تفقّه على أبيه عماد الدين ابن صاحب الهداية ، وعلى صاحب مطلع المعاني حسام الدين العلياري ، تلميذ الشيخ الإمام مجد الدين المفتي صاحب الفصول محمّد بن محمود الأسروشني ، وهو تلميذ القاضي الإمام ظهير الدين الحسن بن عليّ المرغيناني ، وهو أخذ العلم عن برهان الدين عبد العزيز بن عمر ابن مازه ، عن شمس الأئمّة السرخسي ، عن

٣٣٧

شمس الأئمّة الحلواي ، عن أبي عليّ النسفي ، عن أبي بكر محمّد بن الفضل ، عن الأُستاذ عبد الله السندمولي ، عن أبي عبد الله بن أبي حفص الكبير ، عن محمّد ، عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى .

رأيت في آخر فصوله : يقول جالب هذه الخصائل النفيسة ، وكاتب هذه المسائل الأنيسة ، أبو الفتح بن أبي بكر بن عليّ بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني نسباً ، والسمرقندي منشأً ، بعد تقديم الحمد لله والصلاة على محمّد عبده ونبيّه ، والثناء عليه وعلى آله في صباح كلّ يوم وعشيّة إلى آخر كلامه .

ثمّ قال : نجزت كتابته في أواخر شعبان سنة إحدى وخمسين وستّمئة )(١) .

تصريح ابن دحية بانحراف البخاري عن أهل البيت

وقد كان ما لاقاه البخاري من الإهانة والتضليل ، من كبار الأئمّة ، كأبيزرعة وأبي حاتم والذهلي وأئمّة بخارى ، جزاءً لانحرافه عن أمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين عليهم‌السلام ، وإزرائه لهم وكتمانه فضائلهم ومناقبهم في دار الدنيا ، الأمر الذي صرَّح به العلاّمة ذو النسبين ابن دحية في كتاب ( شرح أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) حيث قال :

( ترجم البخاري في صحيحه في وسط المغازي ما هذا نصّه : بعث عليّ ابن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجّة الوداع : حدّثني أحمد بن عثمان قال : ثنا شريح بن مسلمة قال : ثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق قال : حدّثني أبي ، عن أبي إسحاق سمعت البراء : بعثنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليم ، ثمّ بعث عليّاً بعد ذلك مكانه فقال : مر أصحاب خالد ، مَن شاء منهم أن يُعقّب معك فليُعَقِّب ، ومَن شاء فليقبل ، فكنت ممّن عَقَّب معه قال : فغنمت أَوَاقي ذات عدد .

ـــــــــــــــــــ

(١) كتائب أعلام أخبار من فقهاء مذهب النعمان المختار ـ مخطوط .

٣٣٨

حدّثني محمّد بن بشار قال : ثنا روح بن عبادة قال : ثنا عليّ بن سويد ابن منجوق ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس ، وكنت أبغض عليّاً ، وقد اغتسل ، فقلت لخالد : ألا ترى إلى هذا ، فلمّا قدمنا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرت له ذلك ، فقال :( يا بريدة ، أتبغض عليّاً )؟ فقلت : نعم قال :( لا تبغضه ، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك ) .

قال ذو النسبين رحمه الله :

أورده البخاري ناقصاً مُبتّراً كما ترى ، وهي عادته في إيراد الأحاديث التي مِن هذا القبيل ، وما ذاك إلاّ لسوء رأيه في التنكّب عن هذه السبيل .

وأورده الإمام أحمد بن حنبل كاملاً محقّقاً ، إلى طريق الصحّة فيه موفّقاً ، فقال فيما حدّثني القاضي العدل ، بقيّة مشايخ العراق ، تاج الدين أبو الفتح محمّد بن أحمد بن المندائي ـ قراءة عليه ، بواسط العراق ـ بحقّ سماعه على الثقة الرئيس أبي القاسم ابن الحصين ، بحقّ سماعه على الثقة الواعظ أبي عليّ الحسين ابن المذهب ، بحق سماعه على الثقة أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي ، بحقّ سماعه مِن الإمام أبي عبد الرحمان عبد الله ، بحق سماعه على أبيه إمام أهل السنّة أبي عبد الله أحمد بن حنبل قال : ثنا يحيى بن سعيد ، ثنا عبد الجليل قال : انتهيت إلى حلقةٍ فيها أبو مِجلَز وابنا بريدة ، فقال عبد الله ابن بريدة : أبغضتُ عليّاً بغضاً لم أبغضه أحداً قط .

قال : وأحببت رجلاً لم أُحبّه إلاّ على بغضه عليّاً قال : بعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ، وما أصحبه إلاّ على بغضه عليّاً قال : فأصبنا سبياً قال : فكتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابعث علينا مَنْ يخمّسه قال : فبعث إلينا عليّاً ، وفي السبي وصيفة هي أفضل مَن في السبي ، قال : فخمّس وقسّم ، فخرج ورأسه يقطر ، فقلنا : يا أبا الحسن ، ما هذا ؟ قال : ألم ترَوا إلى الوصيفة التي كانت في السبي ، فإنّي قسّمت وخمّست فصارت في الخُمس ، ثمّ صارت في أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ صارت في آل عليّ ووقعْت بها .

٣٣٩

قال : فكتب الرجل إلى نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلت : ابعثني ، فبعثني مصدّقاً قال : فجعلت اقرأ الكتاب وأقول : صدَق صدَق ، فأمسَك يدي والكتاب قال :( أتبغض عليّاً )؟ قال : قلت : نعم قال :( فلا تبغضه ، وإنْ كنت تحبّه فازدد لهُ حبّاً ، فو الذي نفس محمّدٍ بيده ، لنصيب آل عليّ في الخُمس أفضل مِن وصيفة ) . قال : فما كان مِن الناس أحد بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إليّ مِن عليّ .

قال عبد الله : فو الذي لا إله غيره ، ما بيني وبين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

في هذا الحديث غير أبي بريدة )(١) .

وقال ابن دحية في موضعٍ آخر من كتابه المذكور ، بعد نقل حديثٍ عن مسلم :

( بدأنا بما أورده مسلم ؛ لأنّه أورده بكماله ، وقطّعه البخاري وأسقط منه على عادته كما ترى ، وهو ممّا عِيب عليه في تصنيفه على ما جرى ، ولا سيّما إسقاطه لذكر عليّرضي‌الله‌عنه ) .

ترجمة أبي الخطّاب ابن دحية

ولا يخفى أنّ أبا الخطّاب ابن دحية مِن أكبر علماء القوم وأشهر حفّاظهم .

قال ابن خلّكان بترجمته :

( أبو الخطّاب عُمر بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن الجميل بن فَرَح بن خلف بن قَومِس بن مُزْلال بن مَلاّل بن بدر بن دِحْية بن فروة الكلبي ، المعروف بذي النسَبَين ، الأندلسي البلنسي الحافظ نقلتُ نسبَه على هذه الصّورة من خطّه .

كان يذكر أنّ أُمّه : أمة الرحمان بنت أبي عبد الله بن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( رضي الله عنهم ) ، فلهذا كان يكتب بخطّه : ذو النّسبين بين دحية والحسين ، وكان يكتب أيضاً سبط أبي البسام ، إشارة إلى ذلك .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستكفى في أسماء النبيّ المصطفى ـ مخطوط .

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581