الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168960 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

ملاحظة

هل أنّ البشر الموجودين على الأرض هم من ذريّة نوح؟

فسّرت مجموعة من كبار المفسّرين الآية( وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) بأنّ كلّ أجيال البشر التي أتت بعد نوح هي من ذريته.

وقد نقل الكثير من المؤرّخين بقاء ثلاثة أولاد من ذريّة نوح هم (سام) و (حام) و (يافث) بعد الطوفان ، وكلّ القوميات الموجودة اليوم على الكرة الأرضية تنتهي إليهم.

وقد أطلق على العرق العربي والفارسي والرومي العرق السامي ، فيما عرف العرق التركي ومجموعة اخرى بأنّهم من أولاد «يافث» ، أمّا «حام» فإنّ ذريّته تنتشر في السودان والسند والهند والنوبة والحبشة ، كما أنّ الأقباط والبربر هم من ذريّته أيضا.

البحث في هذه المسألة ليس المراد منه معرفة إلى أي من أولاد نوح ينتسب كلّ عرق ، لأنّ المسألة بحدّ ذاتها هي مورد اختلاف بين الكثير من المؤرخين والمفسّرين ، ولكن المتوخّى من البحث هو : هل أنّ كلّ القوميات البشرية تعود في أصلها إلى أولاد نوح الثلاثة.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو : ماذا كان مصير المؤمنين الذين ركبوا السفينة مع نوح خلال الطوفان؟ وهل أنّهم جميعا ماتوا من دون أن يتركوا أي خلف لهم وإن كان لهم ذريّة ، فهل كانوا بنات تزوجنّ من أولاد نوح؟

هذه القضيّة من وجهة نظر التأريخ ما تزال غامضة.

على أيّة حال فإنّ هناك أحاديث وآيات قرآنية تشير إلى وجود أقوام وامم على الكرة الأرضية لا ينتهي أصلها إلى أولاد نوح.

منها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الباقرعليه‌السلام في توضيح الآية المذكورة أعلاه : «الحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عقبه ، وليس كلّ من في

٣٤١

الأرض من بني آدم من ولد نوحعليه‌السلام قال اللهعزوجل في كتابه :( احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) ، وقال اللهعزوجل أيضا :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) (١) .

وعلى هذا فإنّ انتهاء كلّ العروق الموجودة على الأرض إلى أبناء نوح أمر غير ثابت.

* * *

__________________

(١) هذا الحديث ورد المجلّد الرابع من التفسير نور الثقلين في الصفحة ٤٠٥ ، كما ورد في نهاية آيات البحث في تفسير الصافي.

٣٤٢

الآيات

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) )

التّفسير

خطّة إبراهيم الذكيّة في تحطيم الأصنام :

آيات بحثنا هذا تتناول بشيء من التفصيل حياة النّبي الشجاع إبراهيمعليه‌السلام محطّم الأصنام بعد آيات استعرضت جوانب من تاريخ نوحعليه‌السلام المليء بالحوادث.

ففي البداية تحدّثت القصّة عن تحطيم إبراهيم للأصنام ، والموقف الشديد الذي اتّخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم ، فيما يتطرّق القسم الآخر من القصّة للمشهد

٣٤٣

الكبير الذي يتمثّل في تضحيات إبراهيم الخليل وقضيّة ذبح ابنه إسماعيل ، والآيات التي تخصّ هذا القسم ذكرت هنا ـ فقط ـ بهذا التفصيل ، ولم تذكر في موضع آخر بهذا الشكل.

الآية الاولى ، ربطت بين قصّة إبراهيم وقصّة نوح بهذه الصورة( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) .

أي إنّ إبراهيم كان سائرا على خطى نوحعليه‌السلام في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص ، حيث إنّ الأنبياء يبلغون لفكر واحد ، وهم أساتذة جامعة واحدة ، وكلّ واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.

كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح ، رغم أنّ الفاصل الزمني بينهما كان كبيرا (قال بعض المفسّرين : إنّ الفاصل الزمني بينهما يقدر بـ ٢٦٠٠ سنة) ، إذ أنّ العلاقات الإيمانية ـ كما هو معروف ـ لا يؤثّر عليها الفاصل الزمني أدنى تأثير(١) .

بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل ، قال تعالى :( إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) .

حيث فسّر المفسّرون (قلب سليم) بعدّة صور ، أشارت كلّ واحدة منها إلى أحد أبعاد هذه المسألة.

القلب الطاهر من الشرك.

أو القلب الخالص من المعاصي والظلم والنفاق.

__________________

(١) بعض المفسّرين أرجعوا ضمير (شيعته) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين أنّ آيات القرآن الكريم تقول : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّبع ملّة إبراهيم ، علاوة على ذلك فإنّ هذا المرجع ليس له في الآيات السابقة واللاحقة ضمير يدلّ عليه ، ومن الممكن أنّهم تصوّروا أنّ تعبير الشيعة هو دليل على أفضلية نوح من إبراهيم ، في حين أنّ القرآن الكريم تحدّث عن شخصية سامية لإبراهيم ، لكن هذا التعبير خال من أيّة دلالة على هذه المسألة ، بل المقصود استمرار الخطّ الفكري والديني ، كما أنّ أفضلية رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة لكافّة الأنبياء لا تتنافى مع أتباعه لدين إبراهيم التوحيدي يقول القرآن ، في الآية ٩٠ من سورة الأنعام( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) .

٣٤٤

أو القلب الخالي من حبّ الدنيا ، لأنّ حبّ الدنيا هو مصدر كلّ الخطايا.

وأخيرا هو القلب الذي لا يوجد فيه شيء سوى الله.

في الحقيقة إنّ كلمة (سليم) مشتقّة من (السلامة) ، وعند ما تطرح السلامة.

بصورة مطلقة ، فإنّها تشمل أيضا السلامة من كلّ الأمراض الأخلاقية والعقائدية.

فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) ،(١) أي إنّ قلوبهم مصابة بنوع من أنواع المرض ، وإنّ الله سبحانه وتعالى أضاف أمراضا اخرى إلى ذلك المرض على أثر لجاجتهم وارتكابهم المزيد من الذنوب.

وأجمل من فسّر عبارة (القلب السليم) هو الإمام الصادقعليه‌السلام عند ما قال : «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه!»(٢) . حيث جمع بقوله كلّ الأوصاف المذكورة مسبقا.

وقد جاء في رواية اخرى للإمام الصادقعليه‌السلام «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم ، لأنّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النيّة لله في الأمور كلّها»(٣) .

واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة ، حيث نقرأ في سورة الشعراء ، وفي الآيات ٨٨ و ٨٩ على لسان النّبي الكبير إبراهيمعليه‌السلام قوله تعالى :( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٤) .

نعم ، من هنا تبدأ قصّة إبراهيم ذي القلب السليم ، والروح الطاهرة ، والإرادة الصلبة ، والعزم الراسخ ، مع قومه ، إذ كلّف بالجهاد ضدّ عباد الأصنام ، وبدأ بأبيه

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٠.

(٢) ورد في الكافي ونقله صاحب تفسير الصافي في ذيل الآية (٨٩) من سورة الشعراء.

(٣) المصدر السابق.

(٤) في مجال القلب السليم ورد بحث مشروح في ذيل الآيات (٨٨) و (٨٩) من سورة الشعراء (تحت عنوان القلب السليم وحده رأسمال النجاة) ص ٢٧٣.

٣٤٥

وعشيرته( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ ) ، ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟

أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات ، وأعطاه العقل أن يعظّم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟

ثمّ يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام ، ويقول :( أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ ) (١) .

استخدام كلمة (إفك) في هذه الآية ، والتي تعني الكذب العظيم أو القبيح ، توضّح حزم وقاطعية إبراهيمعليه‌السلام بشأن الأصنام.

واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة( فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميّا ، ونعمه تحيط بكم من كلّ جانب ، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون الله ، فهل تتوقّعون أنّه سيرحمكم وسوف لا يعذّبكم بأشدّ العذاب؟ كم هو خطأ كبير وضلال خطير؟!

عبارة( بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) تشير إلى أنّ كلّ العالم يدور في ظلّ ربوبيته تبارك وتعالى ، وقد تركتموه واتّجهتم صوب مجموعة من الظنون والأوهام الفارغة.

وجاء في كتب التأريخ والتّفسير ، أنّ عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنويا ، يهيّئون فيه الطعام داخل معابدهم ، ثمّ يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه ، ثمّ يخرجون جميعا إلى خارج المدينة ، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.

وبذلك خلت المدينة من سكّانها ، فاستغلّ إبراهيمعليه‌السلام هذه الفرصة الجيّدة لتحطيم الأصنام ، الفرصة التي كان إبراهيمعليه‌السلام ينتظرها منذ فترة طويلة ، ولم يكن راغبا في إضاعتها.

وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي

__________________

(١) في تركيب هذه الجملة ذكر المفسرون احتمالين : الأول : أن (إفكا) مفعول بـ لـ (تريدون) و (آلهة) بدله ، والآخر : أن (آلهة) مفعول به و (إفكا) مفعول لأجله تقدم للأهمية.

٣٤٦

النُّجُومِ ).

فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) .

وبهذا الشكل اعتذر عن مشاركتهم.

بعد اعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) .

وهنا يطرح سؤالان.

الأوّل : لماذا نظر إبراهيمعليه‌السلام في النجوم ، وما هو هدفه من هذه النظرة؟

والثاني : هل أنّه كان مريضا حقّا حينما قال : إنّني مريض؟ وما هو مرضه؟

جواب السؤال الأوّل ، مع أخذ اعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الإعتبار ، يتّضح أنّهم كانوا يستقرئون النجوم ، وحتّى أنّهم كانوا يقولون بأنّ أصنامهم كانت هياكل النجوم على الأرض ، ولهذا السبب فإنّهم يكنّون لها الاحترام لكونها تمثّل النجوم.

وبالطبع فإلى جانب استقرائهم للنجوم ، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم ، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم ، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة ، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيمعليه‌السلام بأنّه يقول بمثل قولهم ، نظر إلى السماء وقال حينذاك : إنّي سقيم ، فتركوه ظنّا منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

أمّا بعض كبار المفسّرين ، فقد احتملوا أنّه كان يريد من حركة النجوم تعيين الوقت الدقيق لمرضه ، لأنّه كان مصابا بحمى تعتريه في أوقات معيّنة ، ولكن الاحتمال الأوّل يعدّ مناسبا أكثر ، مع الأخذ بنظر الإعتبار معتقدات أهل بابل السائدة آنذاك.

فيما احتمل البعض الآخر أنّ نظرة إلى السماء هو التفكّر في أسرار الخلق ، رغم أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة

٣٤٧

النجوم توقّع الحوادث القادمة.

أمّا بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعدّدة :

منها : أنّه كان مريضا حقّا ، وحتّى إن لم يكن مريضا فإنّه لن يشارك في مراسم عيدهم ، فمرضه كان عذرا جيّدا لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام ، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنّه استخدم التورية ، كما أنّ استخدام التورية من قبل الأنبياء يعدّ عملا غير مناسب.

وقال البعض الآخر : إنّ إبراهيم لم يكن مصابا بمرض جسدي ، وإنّما روحه متعبة ، من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم ، فبهذا أوضح لهم الحقيقة ، رغم أنّهم تصوّروا شيئا آخر ، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.

واحتمل البعض أنّه استخدم التورية في كلامه معهم ، فمثلا يأتي شخص ويطرق باب البيت ، ويستفسر : هل فلان موجود في البيت ، فيأتيه الجواب : إنّه ليس هنا ، والمراد من هنا هو خلف باب البيت وليس البيت كلّه ، في حين أنّ السامع يفهم أنّه ليس موجودا في البيت ، (مثل هذه العبارات التي هي ليست بكذب وظاهرها يعطي مفهوما آخر يطلق عليها في الفقيه اسم «التورية») ومقصود إبراهيمعليه‌السلام انّني يمكن أنّ أمراض في المستقبل ، قال ذلك ليتخلّص منهم ويتركوه وحيدا.

ولكن التّفسير الأوّل والثاني أنسب حسب الظاهر.

وبهذه الطريقة بقي إبراهيمعليه‌السلام وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجّهين إلى خارجها ، فنظر إبراهيم حوله ونور الاشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه ، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها ، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها ، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

فذهب إلى معبد الأصنام ، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد ، ثمّ نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئا ، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم

٣٤٨

عبدتكم ، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوّع ، ما لكم لا تأكلون؟( فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) (١) .

ثمّ أضاف ، لم لا تتكلّمون؟ لم تعجز ألسنتكم عن النطق؟( ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) .

وبهذا استهزء إبراهيمعليه‌السلام بكلّ معتقداتهم الخرافية ، ومن دون أي شكّ فإنّه كان يعرف أنّها لا تأكل ولا تتحدّث ، وأنّها جماد. وأراد من وراء ذلك عرض حادثة تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.

بعد ذلك شمر عن ساعديه ، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكلّ ما لديه من قوّة( فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) .

والمراد من (اليمين) إمّا يد الإنسان اليمنى ، والتي ينجز الإنسان بها معظم أعماله ، أو أنّها كناية عن القدرة والقوّة ، ويمكن أن تجمع بين المعنيين.

على أيّة حال ، فإنّ انقضاض إبراهيمعليه‌السلام على الأصنام ، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة ، حيث لم يبق صنم على حالته الاولى ، فالأيدي والأرجل المحطّمة تفرّقت هنا وهناك داخل المعبد ، وكم كان منظر المعبد بالنسبة لعبدة الأصنام مؤثّرا ومؤسفا ومؤلما في نفس الوقت.

وبعد انتهائه من تحطيم الأصنام ، غادر إبراهيم ـ بكلّ هدوء واطمئنان ـ معبد الأصنام عائدا إلى بيته ليعدّ نفسه للحوادث المقبلة ، لأنّه كان يعلم أنّ عمله كان بمثابة انفجار هائل سيهزّ المدينة برمّتها ومملكة بابل بأجمعها ، وسيحدث موجة من الغضب العارم ، الموجة التي سيكون إبراهيمعليه‌السلام وحيدا في وسطها. إلّا أنّ له ربّا يحميه ، وهذا يكفيه.

وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم ، واتّجهوا فورا إلى معبدهم ، فشاهدوا مشهدا رهيبا وغامضا ، ومن شدّة رهبة المشهد تجمّد البعض في مكانه ، فيما فقد البعض الآخر عقله وهو ينظر بدهشة وتحيّر لجذاذ آلهته المنتشرة هنا

__________________

(١) (راغ) من مادّة (روغ) وتعني التوجّه والتمايل بشكل سرّي ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.

٣٤٩

وهناك ، تلك الأصنام التي خالوها ملجأ وملاذا لهم يوم لا ملجأ لهم ، أصبحت بلا ناصر ولا معين.

ثمّ تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد ، تحوّل إلى صراخ واستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟

ولم يمرّ وقت طويلا ، حتّى تذكّروا وجود شاب يعبد الله في مدينتهم اسمه إبراهيم ، كان يستهزئ بأصنامهم ، ويهدّد بأنّه أعدّ مخطّطا خطيرا لأصنامهم.

من هنا استدلّوا على أنّ إبراهيم هو الفاعل ، فأقبلوا عليه جميعا غاضبين( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) .

«يزفّون» مشتقّة من (زفّ) على وزن (كفّ) وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران ، ثمّ تستخدم للكناية عن (زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.

على أيّة حال ، المراد هنا هو أنّ عبدة الأصنام جاؤوا مسرعين إلى إبراهيم ، وسنقرأ تتمّة الأحداث في الآيات القادمة.

* * *

ملاحظات

١ ـ هل أنّ الأنبياء يستخدمون التورية؟

«التورية» ـ ويعبّر عنها أحيانا بلفظة (معاريض) ـ تعني أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده. فمثلا شخص يسأل آخر : متى رجعت من السفر؟ فيجيبه : قبل غروب الشمس ، في الوقت الذي كان قد عاد من سفره قبل الظهر ، فالسائل يفهم من ظاهر الكلام ، أنّه عاد قبل غروب الشمس بقليل ، في حين أنّه كان يقصد قبل الظهر ، لأنّ قبل الظهر يعدّ أيضا قبل غروب الشمس. أو شخص يسأل آخر : هل تناولت الطعام ، فيجيبه : نعم. فالسائل يفهم من الكلام أنّه تناول

٣٥٠

الطعام اليوم ، في حين أنّ قصد المجيب هو أنّه تناول الطعام يوم أمس.

مسألة هل أنّ التورية كذب أم لا؟ مطروحة في الكتب الفقهية ، فمجموعة من كبار العلماء ومنهم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه يعتقدون أنّ التورية ليست كذبا ، فلا العرف ولا الروايات تعدها كذبا ، وإنّما وردت بشأنها روايات تنفي عنها صفة الكذب ، إذ قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية قولي ليس هو هاهنا. فقالعليه‌السلام : لا بأس ليس بكذب»(١) .

والحقّ هو لزوم القول بالتفصيل ، ولا بدّ من وضع ضابطة كليّة : فإذا كان للفظ في اللغة والعرف معنيان ، والمخاطب تصوّر معنى خاصّا من تلك الكلمة ، في حين أنّ المتحدّث يقصد معنى آخر ، مثل هذا يعدّ تورية وليس بكذب ، حيث يستخدم لفظ مشترك المعاني يفهم منه المخاطب شيئا ، في حين أنّ المتحدّث يقصد منه معنى آخر.

وعلى سبيل المثال ، جاء في شرح حال «سعيد بن جبير» ، أنّ الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي سأل سعيد بالقول : ما هو تقييمك لي ، فأجابه سعيد : إنّك (عادل) ، ففرح جلاوزة الحجّاج ، في حين قال الحجّاج : إنّه بكلامه هذا كفّرني ، لأنّ أحد معاني (العادل) هو العدول من الحقّ إلى الباطل.

أمّا إذا كان للفظ معنى لغوي وعرفي واحد من حيث المفهوم ، والمتحدّث يترك المعنى الحقيقي ويستخدمه كمعنى مجازي من دون أن يذكر قرائن المجاز ، فمثل هذه التورية ـ من دون أيّ شكّ ـ حرام ، ولربّما تمكّنا بهذا التفصيل الجمع بين آراء مختلف الفقهاء.

ولكن ، يجب الانتباه إلى أنّه في بعض الأحيان حتّى في الموارد التي لا تكون فيها التورية مصداقا للكذب ، تكون للتورية أحيانا مفاسد ومضارّ وإيقاع الناس في الخطأ ، ومن هذا الباب قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الحرمة ، ولكن إن

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٥٨٠ ، (الباب ١٤١ في أبواب العشرة الحديث ٨).

٣٥١

لم تكن قد اشتملت على مفسدة ، ولم تكن مصداقا للكذب ، فليس هناك دليل على حرمتها. ورواية الإمام الصادقعليه‌السلام هي من هذا القبيل.

بناء على ذلك فإنّ عدم وجود الكذب في التورية ليس كافيا ، بل يجب أيضا أن لا تشتمل التورية على مفاسد ومضارّ اخرى. وبالطبع ففي الحالات التي تقتضي الضرورة فيها أن يقول الإنسان كذبا ، فمن المسلّم به جواز استعمال التورية ما دام هناك مجال لاستخدامها ، لكي لا يكون كلامه مصداقا للكذب.

لكن هل أنّ التورية جائزة أيضا للأنبياء ، أم لا؟

يجب القول : إنّه طالما كانت سببا في تزلزل ثقة الناس المطلقة فهي غير جائزة ، لأنّ الثقة المطلقة هذه هي رأسمال الأنبياء في طريق التبليغ ، وأمّا في موارد مثل ما ورد عن تمارض إبراهيمعليه‌السلام ونظره في النجوم ، ووجود هدف مهمّ في ذلك العمل ، دون أن تتسبّب في تزلزل أعمدة الثقة لدى مريدي الحقّ ، فلا تنطوي على أي إشكال.

٢ ـ إبراهيم والقلب السليم :

كما هو معروف فإنّ كلمة (القلب) تعني في الاصطلاح القرآني الروح والعقل ، ولهذا فإنّ (القلب السليم) يعني الروح الطاهرة السالمة الخالية من كافّة أشكال الشرك والشكّ والفساد.

والقرآن الكريم وصف بعض القلوب بـ (القاسية)( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) .(١)

وأحيانا وصفها بأنّها غير طاهرة ، كما ورد في (سورة المائدة ـ ٤١).

واخرى وصفها بالمريضة (سورة البقرة ـ ٦).

ورابعة وصفها بالقلوب المغلقة المختوم عليها (سورة التوبة ـ ٨٧).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١٣.

٣٥٢

وفي مقابل هذه القلوب طرح القلب السليم الخالي من العيوب المذكورة أعلاه ، حيث أنّه صاف ورقيق مليء بالعطف وسالم ولا ينحرف عن الحقّ ، القلب الذي وصف في الروايات بـ (حرم الله) إذ جاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله)(١) .

وهو القلب الذي يتمكّن من رؤية الحقائق الغيبية والنظر إلى الملكوت الأعلى ، إذ ورد في حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت»(٢) .

الملاحظ أنّ (القلب السليم) هو خير رأسمال للنجاة في يوم القيامة ، وبه التحق إبراهيمعليه‌السلام بملكوت ربّه وتسلّم أمر الرسالة.

نختتم هذا البحث بحديث آخر ، إذ ورد في الروايات «إنّ لله في عباده آنية وهو القلب فأحبّها إليه (أصفاها) و (أصلبها) و (أرقّها) : أصلبها في دين الله ، وأصفاها من الذنوب ، وأرقّها على الاخوان»(٣) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٢٥ ، باب حبّ الله الحديث ٢٧.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٥٩ ، باب القلب وصلاحه الحديث ٣٩.

(٣) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٥٦ ، باب القلب وصلاحه الحديث ٢٦.

٣٥٣

الآيات

( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) )

التّفسير

فشل مخطّطات المشركين :

بعد أن حطّم إبراهيم الأصنام ، استدعي إبراهيم بهذه التهمة إلى المحكمة ، وهناك سألوه وطلبوا منه الجواب عن اليد التي نفذت هذا الفعل في معبدهم ، وقد شرح القرآن الكريم في سورة الأنبياء الحادثة بصورة مفصّلة ، بينما اكتفى القرآن في آيات بحثنا بالإشارة لمقطع حسّاس واحد من مواقف إبراهيمعليه‌السلام وهو آخر كلامه معهم في مجال بطلان عقيدتهم في عبادة الأصنام( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) .

فهل هناك شخص عاقل يعبد شيئا من صنع يديه؟ وما هو الدافع لأي ذي شعور للسجود لشيء صنعه هو بنفسه؟ فأي عقل ومنطق يسمح بفعل هذا؟

٣٥٤

فالمعبود يجب أن يكون خالق الإنسان ، وليس صنيعة يده ، من الآن فكّروا واعرفوا معبودكم الحقيقي( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) .

فهو خالق الأرض والسماء ، ومالك الوقت والزمان ، ويجب السجود لهذا الخالق وحمده وعبادته.

إنّ هذه الحجّة كانت من الوضوح والقوّة إلى حدّ جعلتهم يقفون أمامها مبهوتين وغير قادرين على ردّها ودحضها.

و (ما) في عبارة( ما تَعْمَلُونَ ) هي (ما) الموصولة وليست (ما) المصدرية ، ومنها يراد القول ، إنّ الله خلقكم وكذلك ما تصنعون ، وعند ما يقال : إنّ الأصنام هي من صنع أو أعمل الإنسان ، فذلك يعني أنّ الإنسان أعطاها الشكل فقط ، وإلّا فالمادّة التي تصنع منها الأصنام هي من خلق الله أيضا.

صحيح ما يقال من أنّ هذه السجّادة وذلك البيت وتلك السيارة هي من صنع الإنسان ، ولكن المراد ليس أنّ الإنسان هو الذي خلق المواد الأوّلية لتلك الأشياء ، وإنّما الإنسان صاغ تلك المواد الأوّلية بشكل معيّن.

أمّا إذا اعتبرنا (ما) مصدرية ، فالعبارة تعني ما يلي : إنّ الله خلقكم وأعمالكم.

وبالطبع فإنّ المعنى هذا ليس خطأ ، وعلى خلاف ما يظنّه البعض ليس فيه ما يدلّ على الجبر ، لأنّ الأعمال التي نقوم بها رغم أنّها تتمّ بإرادتنا ، إلّا أنّ إرادة وقدرة التصميم وغيرها من القوى التي تنفذ من خلالها أفعالنا كلّها من الله سبحانه وتعالى ، وبهذا الشكل فإنّ الآية لا تقصد هذا الأمر ، وإنّما تقصد الأصنام ، وتقول : إنّ الله خلقكم أنتم والأصنام التي صنعتموها وصقلتموها. وجمال هذا الحديث يتجسّد هنا ، لأنّ البحث يخصّ الأصنام ولا يخصّ أعمال البشر.

في الحقيقة إنّ موضوع هذه الآية يشبه الموضوع الذي ورد في قصّة موسى والسحرة والتي تقول :( فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ) (١) ، فالمقصود هنا الأفعى التي هي

__________________

(١) الأعراف ، ١١٧.

٣٥٥

من صنع السحرة.

ومن المعروف أنّ الطغاة والجبابرة لا يفهمون لغة المنطق والدليل ، ولهذا لم تؤثّر عليهم الأدلّة والبراهين الظاهرية والقويّة التي بيّنها إبراهيمعليه‌السلام على قلوب الجبابرة الحاكمين في بابل حينذاك ، رغم أنّ مجموعات من أبناء الشعب المستضعف هناك استيقظت من غفلتها وآمنت بدعوة إبراهيمعليه‌السلام .

ولإيقاف انتشار منطق التوحيد بين أبناء مدينة بابل ، عمد الطغاة الذين أحسّوا بخطر انتشار على مصالحهم الخاصّة إلى استخدام منطق القوّة والنار ضدّ إبراهيمعليه‌السلام ، المنطق الذي لا يفهمون سواه. حيث هتفوا بالاعتماد على قدراتهم الدنيوية : أن ابنوا له بنيانا عاليا ، واشعلوا في وسطه النيران ثمّ ارموه فيه( قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) .

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأوامر كانت قد صدرت ببناء أربعة جدران كبيرة ، ومن ثمّ إشعال النيران في داخلها ، وبناء الجدران الأربعة الكبيرة ، إنّما تمّ ـ كما يحتمل ـ للحئول دون امتداد النيران إلى خارجها ، ومنع وقوع أخطار محتملة قد تنجم عنها ، ولإيجاد جهنّم واقعية كتلك التي كان إبراهيم يتهدّد ويتوعّد عبدة الأوثان بها.

صحيح أنّ كميّة قليلة من الحطب كانت تكفي لحرق إنسان كإبراهيم ، لكنّهم فعلوا ذلك ليطفؤا غيظ قلوبهم من جرّاء تحطيم أصنامهم ، وبمعنى آخر الانتقام من إبراهيم بأشدّ ما يمكن ، لعلّهم بذلك يعيدون العظمة والابّهة لأصنامهم إضافة إلى أنّ عملهم هذا كان تخويفا وتحذيرا لمعارضيهم ، كي لا تتكرّر مثل هذه الحادثة مرّة اخرى في تأريخ بابل ، لذلك فقد أوقدوا نارا عظيمة.

«الجحيم» في اللغة هي النار التي تجتمع بعضها على بعض.

هذا ، وقد فسّر البعض «البنيان» بأنّه المنجنيق ، والمنجنيق ـ كما هو معروف ـ أداة لقذف الأشياء الثقيلة إلى مكان بعيد ، لكن أكثر المفسّرين انتخبوا التّفسير

٣٥٦

الأوّل ، أي أنّ البنيان هو ذلك البناء المكوّن من أربعة جدران كبيرة.

وآيات القرآن الكريم هنا لم تشر إلى دقائق وتفاصيل هذا الحادث الذي ورد في سورة الأنبياء ، وإنّما أنهت هذه الحادثة بخلاصة مركّزة ولطيفة( فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ ) .

(كيد) في الأصل تعني الاحتيال ، أكان بطريقة صحيحة أم غلط ، مع أنّها غالبا ما تستعمل في موارد مذمومة ، وبما أنّها جاءت بحالة النكرة هنا ، فإنّها تدلّ على عظمة الشيء وأهميّته ، وهي إشارة إلى المخطّط الواسع الذي وضعه طغاة بابل للقضاء على دعوة إبراهيم للناس بقوله وعمله ومحو آثارها.

نعم ، لقد وضعهم الله سبحانه وتعالى في أسفل السافلين ، فيما رفع إبراهيمعليه‌السلام إلى أعلى علّيين ، كما كان أعلى منطقا ، وجعله هو الأعلى في حادثة إشعال النيران ، وأعداءه الأقوياء هم الأخسرين ، فكانت النار عليه بردا وسلاما دون أن تحرق حتّى شعرة واحدة من جسد إبراهيمعليه‌السلام وخرج سالما من ذلك البحر الجهنّمي.

فإرادته تقتضي أن ينجي في يوم من الأيّام نوحا من «الغرق» ، وفي يوم آخر ينقذ إبراهيم من «الحرق» ، وذلك لكي يوضّح أنّ الماء والنار عبدان مطيعان له سبحانه وتعالى ومستجيبان لأوامره.

إبراهيمعليه‌السلام الذي نجا بإرادة الله من هذه الحادثة الرهيبة والمؤامرة الخطيرة التي رسمها أعداؤه له ، وخرج مرفوع الرأس منها ، صمّم على الهجرة إلى أرض بلاد الشام ، إذ أنّ رسالته في بابل قد انتهت ،( وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .

من البديهيات أنّ الله لا يحويه مكان ، والهجرة التي تتمّ في سبيله من المجتمع الملوّث الفاسد إلى المجتمع الطاهر الصافي ، فإنّها هجرة إلى الله.

فالهجرة إلى أرض الأنبياء والأولياء ومهبط الوحي الإلهي ، هي هجرة إلى الله ، مثلما يعرف السفر إلى مكّة المكرّمة بأنّه سفر إلى الله ، خاصّة وأنّ هجرة إبراهيمعليه‌السلام

٣٥٧

كانت من أجل تنفيذ واجب رسالي إلهي ، وأنّ الله كان هاديه ومرشده خلال السفر.

الآيات ـ هنا ـ عكست أوّل طلب لإبراهيمعليه‌السلام من الباريعزوجل ، إذ طلب الولد الصالح ، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّة الرسالي ، ويتمم ما تبقّى من مسيرته ، وذلك حينما قال :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إنّها حقّا لعبارة جميلة (الولد الصالح واللائق) الصالح من حيث الإعتقاد والإيمان ، والصالح من حيث القول والعمل ، والصالح من جميع الجهات.

والذي يلفت النظر أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان قد طلب من الله في إحدى المرّات أن يجعله من مجموعة الصالحين ، كما نقل القرآن ذلك عن إبراهيم ،( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(١)

فيما طلب من الله هنا أن يمنحه الولد الصالح ، حيث أنّ كلمة صالح تجمع كلّ الأشياء اللائقة والجيّدة في الإنسان الكامل.

فاستجاب الله لدعاء عبده إبراهيم ، ورزقه أولادا صالحين (إسماعيل وإسحاق) وذلك ما وضحته الآيات التالية في هذه السورة( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

وبخصوص إسماعيل يقول القرآن الكريم :( وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٢) .

* * *

بحثان

١ ـ خالق كلّ شيء :

وردت في آيات بحثنا أنّ إبراهيمعليه‌السلام خاطب عبدة الأصنام قائلا :( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) الشعراء ، ٨٣.

(٢) الأنبياء ، ٨٥ و ٨٦.

٣٥٨

وقد زعم البعض أنّ هذه الآيات تدلّ على ما جاء في مذهب الجبر الفاسد ، وذلك عند ما اعتبروا (ما) في عبارة( ما تَعْمَلُونَ ) (ما) المصدرية ، وقالوا : إنّ هذه الآية تعني أنّ الله خلقكم وأعمالكم ، وبما أنّ أعمالنا هي من خلق الله ، فإنّنا لا نمتلك الإختيار ، أي إنّنا مجبرون.

هذا الكلام لا أساس له من الصحّة لعدّة أسباب :

أوّلا : كما قلنا فإنّ المراد من( ما تَعْمَلُونَ ) هنا ، هي الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم ، وليست أعمال الإنسان ، ومن دون أي شكّ فإنّهم كانوا يأخذون المواد من هذه الأرض التي خلقها الله ، وينحتونها بالشكل الذي يروق لهم ، ولهذا فإنّ (ما) هنا هي (ما) الموصولة.

ثانيا : إذا كان مفهوم الآية كما تصوّر أولئك ، فإنّها تكون دليلا لصالح عبدة الأصنام ، وليس ضدّهم ، لأنّهم يستطيعون القول : صناعة الأصنام وعبادتها إنّما هو من خلق الله ، ونحن في هذه الحالة لسنا بمذنبين.

وثالثا : على فرض أنّ معنى الآية هو هكذا ، فليس هناك دليل على الجبر ، لأنّه مع الحرية والإرادة والاختيار فإنّ الله هو خالق أعمالنا ، لأنّ هذه الحرية والإرادة والقدرة على التصميم وكذلك القوى البدنية والفكرية الماديّة والمعنوية لم يعطها غير الله؟ إذا فالخالق هو ، مع أنّ الفعل هو باختيارنا نحن.

٢ ـ هجرة إبراهيمعليه‌السلام :

الكثير من الأنبياء هاجروا خلال فترة حياتهم من أجل أداء رسالتهم ، ومنهم إبراهيم الذي استعرضت آيات مختلفة في القرآن المجيد قضيّة هجرته ، ومنها ما جاء في سورة العنكبوت الآية (٢٦)( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

في الحقيقة ، إنّ أولياء الله عند ما كانوا يتّمون مهام رسالتهم في إحدى المناطق ،

٣٥٩

أو أنّهم كانوا يحسّون بأنّ المجتمع لا يتقبّل رسالتهم ، كانوا يهاجرون كي لا تتوقّف رسالتهم.

وهذه الهجرة كانت مصدر بركات كثيرة على طول تاريخ الأديان ، حتّى أنّ تاريخ الإسلام من الناحيتين الظاهرية والمعنوية يدور حول محور هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو لا الهجرة لكان الإسلام قد غرق ـ وإلى الأبد ـ في مستنقع عبدة الأصنام في مكّة. فالهجرة هي التي أعطت روحا جديدة للإسلام والمسلمين ، وغيّرت كلّ شيء لصالحهم ، وخطت للبشرية طريقا جديدا للسير عليه.

وبعبارة واحدة : فالهجرة برنامج عام لكلّ مؤمن عند ما يشعر في وقت من الأوقات أنّ الجو الذي يعيش فيه غير متناسب مع أهدافه المقدّسة ، ويبدو كأنّه مستنقع عفن يفسد كلّ ما فيه ، فتكليفه الهجرة ، وعليه أن يحزم حقائب السفر ، وينتقل إلى مناطق أفضل ، فأرض الله واسعة.

والهجرة قبل أن تكون ذات طابع ذاتي خارجي ، فهي ذات طابع ذاتي داخلي ، ففي بداية الأمر يجب على القلب والروح هجر الفساد إلى الطهارة ، وهجر الشرك إلى الإيمان ، وهجر المعاصي إلى طاعة الله العظيم.

فالهجرة الداخلية هي بداية تغيّر الفرد والمجتمع ، ومقدّمة للهجرة الخارجية ، وقد بحث هذا الموضوع بصورة مفصّلة في هذا التّفسير وفي موضوع يتحدّث عن الإسلام والهجرة ، وذلك بعد الآية (١٠٠) في سورة النساء.

* * *

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

٥٠

يحل لعليعليه‌السلام في المسجد ما يحل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

سليم عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي يده عسيب(١) رَطب ونحن في مسجده، فجعل يضربنا ويقول: لا ترقدوا في المسجد.

قال جابر: فخرجنا وأراد عليعليه‌السلام أن يخرج معنا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أين تخرج يا أخي؟! إنه يحل لك في المسجد ما يحل لي. أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إن الله أمر موسى أن يبني مسجداً طاهراً طيباً لا يسكنه معه إلا هو وابناه شبر وشبير.

عليعليه‌السلام الذائد عن الحوض يوم القيامة

يا أخي، والذي نفسي بيده إنك لَلذائد عن حوضي بيدك كما يذود الرجل عن إبله الإبل الجربة، كأني أنظر إلى مقامك من حوضي معك عصى من عوسج.(٢)

____________________

١. العسيب: جريدة من النخل كُشِط خوصها.

٢. العوسج: شجيرة من فصيلة الباذنجانيات، أغصانه شائكة وأزهاره مختلفة الألوان.

٤٠١

٥١

يحل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل بيته فقط

سليم بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: كأني أنظر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بصحن مسجده يقول:

«ألا إنه لا يحل مسجدي لجنب ولا لحائض غيري وغير أخي وغير ابنتي ونسائي وخدمي وحشمي. ألا هل سمعتم؟ ألا هل بيَّنت لكم؟ ألا لا تضلوا»، ينادي بذلك نداءً.

٤٠٢

٥٢

عليعليه‌السلام صديق الأمة وفاروقها

وذكر سليم بن قيس أنه جلس إلى سلمان وأبي ذر والمقداد في إمارة عمر بن الخطاب، فجاء رجل من أهل الكوفة فجلس إليهم مسترشداً. فقالوا له: عليك بكتاب الله فألزِمه، وعلي بن أبي طالب فإنه مع الكتاب لا يفارقه.

وإنا نشهد أنا سمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «إن علياً مع القرآن والحق، حيثما دارَ دارَ.(١) إنه أول من آمن بالله وأول من يُصافحني يوم القيامة من أمتي،وهو الصديق الأكبر والفاروق بين الحق والباطل ، وهو وصيي ووزيري وخليفتي في أمتي ويقاتل على سنتي».

أبو بكر وعمر انتحلا اسم غيرهما!

فقال لهم الرجل: فما بال الناس يسمون أبا بكر الصديق وعمر الفاروق؟

فقالوا له(٢) :نحلهما الناس اسم غيرهما (٣) كما نحلوهما خلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإمرة المؤمنين ،

____________________

١. هكذا في النسخ بصيغة المفرد.

٢. من هنا إلى آخر الحديث في «الفضائل» هكذا:

فقالوا له: الناس تجهل حق عليعليه‌السلام . كما جهل خلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جهلا حق أمير المؤمنينعليه‌السلام . وما هما لهما باسم لأنهما اسم غيرهما. والله إن علياً هو الصديق الأكبر والفاروق الأزهر، والله إن علياً لخليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنه أمير المؤمنين أمرنا وأمرهم به رسول الله فسلمنا إليه - جميعاً وهما معاً - بإمرة المؤمنين والفاروق الأزهر وأنه الصديق الأكبر.

٣. أورد الكاندهلوي في حياة الصحابة: ج ٢ ص ٢٢ عن ابن شهاب قال: بلغنا أن أول من قال لعمر «الفاروق» أهل الكتاب.

٤٠٣

وما هو لهما باسم لأنه اسم غيرهما. إن علياً لخليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين. لقد أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمرهما معنا فسلَّمنا على عليعليه‌السلام بإمرة المؤمنين.(١)

____________________

١. ورد هذا الحديث في الإحتجاج للطبرسي بتفاوت كثير. ولذا نورد ما في الإحتجاج هيهنا:

قال سليم بن قيس: جلست إلى سلمان وأبي ذر والمقداد، فجاء رجل من أهل الكوفة فجلس إليهم مسترشداً، فقال له سلمان: عليك بكتاب الله فألزمه وعلي بن أبي طالبعليه‌السلام فإنه مع القرآن لا يفارقه، فإنا نشهد أنا سمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إن علياً يدور مع الحق حيث دار، وإن علياً هو الصديق والفاروق، يفرق بين الحق والباطل.

قال: فما بال القوم يسمون أبا بكر الصديق وعمر الفاروق؟

قال: نحلهما الناس اسم غيرهما كما نحلوهما خلافة رسول الله وإمرة المؤمنين. لقد أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمرهما معنا فسلمنا جميعاً على علي بن أبي طالبعليه‌السلام بإمرة المؤمنين.

٤٠٤

٥٣

الدافع لحرب الجمل وصفين عند عليعليه‌السلام

سليم قال: سمعت علياًعليه‌السلام يقول يوم الجمل ويوم الصفين:

إني نظرت فلم أجد إلا الكفر بالله والجحود بما أنزل الله تعالى، أو الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فاخترت الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على الكفر بالله والجحود بما أنزل الله ومعالجة الأغلال في نار جهنم، إذا وجدت أعواناً على ذلك.

إني لم أزل مظلوماً منذ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو وجدت قبل اليوم أعواناً على إحياء الكتاب والسنةكما وجدتهم اليوم لقاتلت ولم يسعني الجلوس.

٤٠٥

٥٤

أهل البيتعليهم‌السلام الشهداء على الناس

يحذر على الدين من ثلاثة رجال

سليم بن قيس قال: سمعت علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقول: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

احذروا على دينكمثلاثة رجال : رجل قرأ القرآن حتى إذا رآى عليه بهجته كأنَّ رداء للإيمان غيَّره إلى ما شاء الله، اخترط سيفه على أخيه المسلم ورماه بالشرك.

قلت: يا رسول الله، أيهما أولى بالشرك؟ قال: الرامي به منهما.

ورجل استخفَّته الأحاديث، كلما انقطعت أحدوثة كَذِب مثلها أطول منها. إن يدرك الدجال يتبعه.

ورجل آتاه الله عز وجل سلطاناً فزعم أن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، وكذب، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لا طاعة لمن عصى الله.

العصمة هي المناط في طاعة النبي والأئمةعليهم‌السلام

إنما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الأمر الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال:( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) ، لأن الله إنما أمر بطاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهمعصوم مطهرٌ لا يأمر بمعصية الله، وإنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهممعصومون مطهرون لا يأمرون بمعصية الله.

____________________

١. سورة النساء: الآية ٥٩.

٤٠٦

طريق أهل البيتعليهم‌السلام ينجي من الضلال

قال: ثم أقبل عليَّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام - حين فرغ من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - فقال: لا بد من رحى ضلالة، فإذا قامت طحنت وإن لطحنها روقاً وإن روقها حدَّتها وعلى الله فلُّها.

إن أبرار عترتي وطيِّب أُرومتي أحلم الناس صغاراً وأعلمهم كباراً. ألا وبنا يفرِّج الله الضيِّق والزمان الكلب، وعلى أيدينا يغيِّر الكذب.

ألا وإنا أهل بيت من حكم الله حكمنا وقول صادق سمعنا، فإن تتبعوا سبيلنا وتسلكوا طريقنا وآثارنا تهتدوا ببصائرنا، وإن تخالفونا تهلكوا، وإن تقتدوا بنا تجدونا على الكتاب أمامكم،وإن تخالفونا لم تضروا بذلك إلا أنفسكم .

إن الله يسأل الشهداء من أهل البيتعليهم‌السلام عن أهل زمانهم

إن الله سائل أهل كل زمان ويُدعى الشهداء عليهم في زمانهم منا،فمن صدق صدقناه ومن كذب كذبناه .(١) إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو المنذر الهادي الرسول إلى الجن والأنس إلى يوم القيامة، لا نبي بعده ولا رسول، ولا ينزل بعد القرآن كتاباً.

ولكل أهل زمان هاد ودليل وإمام يهديهم ويدلُّهم ويرشدهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم؛ كلما مضى هاد خلَّف آخر مثله. هم مع الكتاب والكتاب معهم لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حوضه.

____________________

١. يمكن قراءة هذه الفقرة بالتشديد هكذا: فمن صدَّق صدَّقناه ومن كذَّب كذَّبناه.

٤٠٧

إنا أهل بيت دعا الله لنا أبونا إبراهيمعليه‌السلام فقال: «فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم»(١) ، فإيانا عنى الله بذلك خاصة.

ونحن الذين عنى الله: «يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون» إلى آخر السورة(٢) ، فرسول الله الشاهد علينا ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه.

ونحن الذين عنى الله بقوله: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس» إلى آخر الآية.(٣) فلكل زمان منا إمام شاهد على أهل زمانه.(٤)

____________________

١. سورة إبراهيم: الآية ٣٧.

٢. سورة الحج: الآيتان ٧٧ و ٧٨. والآية الثانية هكذا: «وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير».

٣. سورة البقرة: الآية ١٤٣، وتمام الآية هكذا: «... ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم».

٤. ورد الحديث في خصال الصدوق بصورة أخصر وبتفاوت، وهذا نص ما في الخصال:

سليم بن قيس قال: سمعت علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقول: احذروا على دينكم ثلاثة رجال: رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رأيت عليه بهجته اخترط سيفه على جاره ورماه بالشرك. قلت: يا أمير المؤمنين، أيهما أولى بالشرك؟ قال: الرامي.

ورجلاً استخفَّته الأحاديث، كلما حدث أحدوثةَ كذبٍ مدها بأطول منها.

ورجلاً آتاه الله عز وجل سلطاناً فزعم أن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، وكذب لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. لا ينبغي للمخلوق أن يكون حبه لمعصية الله، فلا طاعة في معصيته ولا طاعة لمن عصى الله، إنما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الأمر. إنما أمر الله عز وجل بطاعة الرسول لأنه معصوم مطهر لا يأمر بمعصيته وإنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهرون لا يأمرون بمعصيته.

٤٠٨

٥٥

اعترافات سعد بن أبي وقاص بشأن أمير المؤمنينعليه‌السلام

قال سليم بن قيس: لقيت سعد بن أبي وقاص وقلت له: إني سمعت علياًعليه‌السلام يقول: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «اتقوا فتنة الأُخَيْنِس (١) ،اتقوا فتنة سعد ، فإنه يدعو إلى خذلان الحق وأهله». فقال سعد: اللهمَّ إني أعوذ بك أن أبغض علياً أو يبغضني، أو أقاتل علياً أو يقاتلني، أو أعادي علياً أو يعاديني.

فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام على لسان سعد

إن علياً كانت له خصال لم تكن لأحد من الناس مثلها:

إنه صاحب براءة حين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنه لا يبلغ عني إلا رجل مني».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله له يوم غزاة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة، فإنه لا نبي بعدي».

وأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله بسد كل باب شارع إلى المسجد غير بابه؛ فجهد عمر أن يرخص له في كوة صغيرة قدر عينه فأبى ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال عند ذلك حمزة والعباس وجعفر: «سددت أبوابنا وتركت باب علي»؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أنا سددتها ولا فتحت بابه، ولكن الله سدها وفتح بابه ».

وآخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين كل رجلين من أصحابه، فقالعليه‌السلام له: آخيت بين كل رجلين من أصحابك وتركتني؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة».

____________________

١. «ج» خ ل: الأخنس، بمعنى المتأخر والمتنحي.

٤٠٩

غزوة خيبر على لسان سعد

وقال في يوم خيبر حين انهزم أبو بكر وعمر فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: «ما بال أقوام يلقون المشركين ثم يفرون؟ لأدفعنَّ الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بجبان ولا فرار ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه خيبراً».

فلما أصبحنا اجتمعنا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأريت رسول الله وجهي(١) فقال: «أين أخي، ادعوا لي علياً». فأتوه به، فإذا هو رَمِدٌ يقاد من رَمَده وعليه إزار وغبار الدقيق عليه وكان يطحن لأهله. فأمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فوضع رأسه في حجره وتفل في عينيه. ثم عقد له ودعا له، فما انثنى حتى فتح الله له وأتاه بصفية بنت حُيي بن أخطب، فأعتقها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها.

واقعة الغدير على لسان سعد

وأعظم من ذلك - يا أخا بني هلال(٢) -يوم غدير خم ، أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيده- وأنا أنظر إليه - رافعاً عضديه فقال: «ألست أولى بكم من أنفسكم»؟ فقالوا: بلى. قال: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمَّ وال من والاه وعاد من عاداه. ليبلغ الشاهد الغائب».

محاولة سعد بن أبي وقاص تبرير نفاقه

قال سليم: وأقبل عليَّ سعد فقال: إنما شككت ولست بقاتل نفسي! إن كان سبقني إلى فضل غبت عنه إني لم أزعم أني مخطئ ولا مسىء، بل هو على الحق.

____________________

١. قائل هذا الكلام سعد بن أبي وقاص.

٢. المخاطَب به سليم بن قيس الهلالي.

٤١٠

٥٦

المهاجرون والأنصار لم يواجهوا علياًعليه‌السلام في حروبه

قال: وذكر سليم: أنه لم يكن معطلحة والزبير رجل واحد من المهاجرين والأنصار، ولا معمعاوية رجل من المهاجرين والأنصار، ولا معالخوارج يوم النهروان أحد من المهاجرين والأنصار.

سعد يخبر عن رئيس الخوارج

قال: وسمعت سعداً وذكرالمخدج ، قال: فقال عليعليه‌السلام : قُتل شيطان الوهدة. قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «أُمُّه أمَةٌ لبني سليم وأبوه شيطان»!

٤١١

٥٧

ندامة الثلاثة المتخلفين عن عليعليه‌السلام

قال سليم بن قيس: وجلست يوماً إلى محمد بن مسلمة وسعد بن مالك وعبد الله بن عمر(١) ، فسمعتهم يقولون:لقد تخوَّفنا أن نكون قد هلكنا بتخلفنا عن نصرة علي وعن قتالنا معه الفئة الباغية.

فقلت: اللهمَّ إني قد سمعت علياًعليه‌السلام يقول: «أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين».

قال: فبكوا، ثم قالوا: صدق عليعليه‌السلام وبرَّ، ما قال على الله ولا على رسوله قط إلا الحق.فنستغفر الله من تخلفنا عنه وخذلاننا إياه .

____________________

١. هؤلاء الثلاثة هم الذين تخلفوا عن بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام والمسير معه إلى القتال. روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين: ص ٦٥ عن خفاف بن عبد الله قال: ثم تهيأ عليعليه‌السلام للمسير إلى البصرة وخفَّ معه المهاجرون والأنصار؛ وكره القتال معه ثلاثة نفر: سعد بن مالك (وهو ابن أبي وقاص) وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة.

وروى ابن أبي الحديد أن محمد بن مسلمة كان معهم (يوم بيعة أبي بكر) وأنه هو الذي كسر سيف الزبير. راجع البحار: ج ٨ طبع قديم ص ٥٩.

٤١٢

٥٨

احتجاجات أبان على الحسن البصري

التبرك بتراب أقدام أمير المؤمنينعليه‌السلام

سليم بن قيس، قال: سمعت سلمان يقول: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام :

«لولا أن تقول طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك مقالة تتبع أمتي آثار قدميك في التراب فيقبلونه ».(١)

فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام على لسان الحسن البصري

قال أبان: فحدثت الحسن بن أبي الحسن - وهو في بيت أبي خليفة(٢) - بهذا الحديث عن سليم عن سلمان. فقال الحسن: «والله لقد سمعت في علي حديثين ما حدثت بهما

____________________

١. ورد هذا الحديث في «ج» خ ل هكذا: سليم قال: سمعت سلمان يقول: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لعليعليه‌السلام : «لولا أن تقول أمتي فيك ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك مقالة تتبع أمتي آثار قدميك في التراب فيقبلونه».

روي في البحار: ج ٦٨ ص ١٣٧ بإسناده عن جابر قال: لما قدم عليعليه‌السلام على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح خيبر قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لولا أن يقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى للمسيح عيسى بن مريم لقلت اليوم فيك مقالاً لا تمر بملأ إلا أخذوا التراب من تحت رجليك ومن فضل طهورك يستشفون به...».

وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل ذلك بشأن عليعليه‌السلام في غزوة ذات السلاسل كما في البحار: ج ٢١ ص ٧٩.

٢. أبو خليفة الحجاج بن أبي عتاب الديلمي العبدي البصري هو الذي آوى إليه عدد ممن هرب من ظلم الحجاج الثقفي.

٤١٣

أحداً قط». فحدَّث بتسليم الملائكة عليه وحديث يوم أحُد.(١) فوجدتهما في صحيفة سليم بعد ذلك يرويهما عن عليعليه‌السلام أنه سمعهما منه.

أكاذيب الحسن البصري لتبرير نفاقه

قال أبان: فلما حدثنا بهذين الحديثين خلوت به وتفرق القوم غيري وغير أبي خليفة، وبتُّ ليلتي إذ ذاك عنده. فقال الحسن تلك الليلة: لولا رواية يرويها الناس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لظننت أن الناس كلهم هلكوا منذ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله غير عليعليه‌السلام وشيعته.

قلت: يا با سعيد،وأبو بكر وعمر ؟! قال: نعم.

____________________

١. روي في البحار: ج ٣٩ ص ٩ بإسناده عن ابن عباس أنه قال: انتدب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الناس ليلة بدر إلى الماء. فانتدب عليعليه‌السلام فخرج وكانت ليلة باردة ذات ريح وظلمة. فخرج بقِربته، فلما كان إلى القليب لم يجد دلواً. فنزل إلى الجب تلك الساعة فملأ قربته ثم أقبل. فاستقبلَته ريح شديدة، فجلس حتى مضت، ثم قام. ثم مرت به أخرى فجلس حتى مضت، ثم قام. ثم مرت به أخرى فجلس حتى مضت.

فلما جاء قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما حبسك يا أبا الحسن؟ قال: لقيت ريحاً ثم ريحاً ثم ريحاً شديدة، فأصابتني قشعريرة. فقال: أتدري ما كان ذلك يا علي؟ فقال: لا. فقال: ذاك جبرئيل في ألف من الملائكة وقد سلَّم عليك وسلَّموا. ثم مر ميكائيل في ألف من الملائكة فسلَّم عليك وسلَّموا. ثم مرَّ إسرافيل في ألف من الملائكة فسلَّم عليك وسلَّموا.

وروي في البحار: ج ٢٠ ص ٨٥ أنه أشار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم أحُد إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم عليعليه‌السلام فهزمهم، ثم أشار إلى قوم آخر فحمل عليهم فهزمهم، ثم أشار إلى قوم آخر فحمل عليهم فهزمهم، ثم أشار إلى قوم آخر فحمل عليهم فهزمهم. فجاء جبرئيل: فقال: يا رسول الله، لقد عجبت الملائكة وعجبنا معها من حسن مواساة علي لك بنفسه. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : وما يمنعه من هذا وهو مني وأنا منه. فقال جبرئيل: وأنا منكما.

وروي في البحار: ج ٢٠ ص ٧٢ عن ابن مسعود أنه قال: انهزم الناس يوم أحُد إلا علي وحده. فقلت: إن ثبوت عليعليه‌السلام في ذلك المقام لعجبٌ! قال: إن تعجَّبتَ منه فقد تعجَّبَت الملائكة. أما علمت أن جبرئيل قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء: «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي».

وروي في البحار: ج ٢٠ ص ٦٩ أن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال يوم الشورى: نشدتكم بالله، هل فيكم أحد وقفت الملائكة معه يوم أحُد حين ذهب الناس غيري؟ قالوا: لا.

٤١٤

قلت: وما تلك الرواية يا با سعيد؟ قال: قول حذيفة «قوم ينجون ويهلك أتباعهم». قيل: وكيف ذلك يا حذيفة؟ قال: «قوم لهم سوابق أحدثوا أحداثاً فتبعهم على أحداثهم قوم ليست لهم سوابق. فنجا أولئك بسوابقهم وهلك الأتباع بأحداثهم».(١) وقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر - حين استأذنه في قتل حاطب بن أبي بلتعة(٢) - فقال: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى عصبة أهل بدر فأشهد ملائكته: إني قد غفرت لهم فليعملوا ما شاءوا». وحديث جابر بن عبد الله الأنصاري: أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر الموجبتين. قالوا: يا رسول الله، ما تعني بالموجبتين؟ قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار». فلست أرجو لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير النجاة إلا بهذه الروايات والسلامة.

قلت: أتجعل حدث أبي بكر وعمر مثل حدث عثمان وطلحة والزبير، إن كان الأمر لعليعليه‌السلام دونهم من الله ورسوله؟

فقال: يا أحمق، لا تقولنَّ «إن كان»!هو والله لعلي دونهم ، وكيف لا يكون له دونهم بعد الخصال الأربع؟ ولقد حدثني عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الثقات ما لا أحصي.

قلت: وما هذه الخصال الأربع؟

قال: قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصبه إياه يوم غدير خم.

وقوله في غزوة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة»، ولو كان غير النبوة لاستثناه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد علمنا يقيناً أن الخلافة غير النبوة.

وخطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آخر خطبة خطبها للناس ثم دخل بيته فلم يخرج حتى قبضه الله إليه: «أيها الناس، إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وأهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كهاتين - وجمع بين سبابتيه - لا كهاتين - وجمع بين سبابته والوسطى - لأن إحديهما

____________________

١. لا يخفى أن هذه الرواية من الموضوعات التي تمسَّك بها الحسن البصري لتوجيه نفاقه.

٢. حاطب بن أبي بلتعة الخالفي اللخمي المتوفى سنة ٣٠، قد مر قصته في الحديث ١٥ من هذا الكتاب.

٤١٥

قدام الأخرى فتمسكوا بهما لا تضلوا ولا تولوا. لا تقدِّموهم فتهلكوا؛ ولا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم.

ولقد أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر وعمر - وهما سابعا سبعة - أن يسلِّموا على عليعليه‌السلام بإمرة المؤمنين.

ولعمري لئن جاز لنا - يا أخا عبد القيس(١) - أن نستغفر لعثمان وطلحة والزبير - وقد بلغ من حدثهم ما قد ظهر لنا - إنه ليسعنا أن نستغفر لهما.

فأما طلحة والزبير، فإنهما بايعا علياًعليه‌السلام - وأنا شاهد - طائعين غير مكرهين. ثم نكثا بيعتهما وسفكا الدماء التي قد حرم الله رغبة في الدنيا وحرصاً على الملك، وليس ذنب بعد الشرك بالله أعظم من سفك الدماء التي حرم الله.

وأما عثمان فأدنى السفهاء وباعد الأتقياء وآوى طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيِّر أولياء الله أبا ذر وقوماً صالحين وجعل المال دولة بين الأغنياء وحكم بغير ما أنزل الله، وكانت أحداثه أكثر وأعظم من أن تحصى، وأعظمهماتحريق كتاب الله ؛وأفظعها صلاته بمنى أربعاً خلافاً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .(٢)

____________________

١. المخاطَب به أبان بن أبي عياش الذي كان من موالي يني عبد القيس. راجع المقدمة.

٢. راجع عن تحريق عثمان المصاحف: الحديث ١١ من هذا الكتاب.

وروي في البحار: ج ٨ طبع قديم ص ٣١٢، والغدير: ج ٨ ص ١٠١ عن تاريخ الطبري وغيره: أنه حج عثمان بالناس في سنة ٢٩ فضرب بمنى فسطاطاً، فكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى وأتم الصلاة بها وبعرفة. فذكر الواقدي بالإسناد عن ابن عباس قال: إن أول ما تكلم الناس في عثمان ظاهراً أنه صلى بالناس بمنى في ولايته ركعتين حتى إذا كانت السادسة أتمها، فعاب على ذلك غير واحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتكلم في ذلك من يريد أن يكثر عليه حتى جاءه عليعليه‌السلام فيمن جاءه فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد. أوَلا عهدت نبيك يصلي ركعتين ثم أبا بكر، ثم عمر، وأنت صدراً من ولايتك. فما أدري ما يرجع إليه؟ فقال: رأي رأيته!!

راجع عن مثالب عثمان: بحار الأنوار: ج ٨ (طبع قديم) ص ٣٢٣ - ٣٠١، والغدير: ج ٨ ص ٣٨٧ - ٩ و ج ٩ ص ٦٩ - ٣.

٤١٦

قلت: أصلحك الله، فترحمك عليه وتفضيلك إياه؟

قال: إنما أصنع ذلك ليسمع بذلك أوليائه الطغاة العتاة الجبابرة الظلمة،الحجاج وابن زياد قبله وأبوه . أما علمت أنهم من اتهموه في بغض عثمان وحب عليعليه‌السلام وأهل بيته نفوه ومثلوا به وقتلوه؟ وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليس للمؤمن أن يذل نفسه». قلت: وما إذلاله لنفسه؟ قال: يتعرَّض من البلاء لما لا يقوى عليه ولا يقوم به.

وقد سمعت علياًعليه‌السلام يروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم قتل عثمان وهو يقول: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن التقية من دين الله، ولا دين لمن لا تقية له.والله لولا التقية ما عبد الله في الأرض في دولة إبليس ». فقال له رجل: وما دولة إبليس؟ قالعليه‌السلام : «إذا ولّى الناس إمام ضلالة فهي دولة إبليس على آدم، وإذا ولّيهم إمام هدى فهي دولة آدم على إبليس ».

ثم همس إلى عمار ومحمد بن أبي بكر همسة وأنا أسمع، فقال: «ما زلتم منذ قبض نبيكم في دولة إبليس بترككم إياي واتباعكم غيري».

كيف بايع الناس علياًعليه‌السلام بعد قتل عثمان

ثم هرب من الناس ثلاثة أيام، فطلبوه فأتوه في خُصَّ(١) لبني النجار فقالوا: إنا قد تشاورنا في هذا الأمر ثلاثة أيام فما وجدنا أحداً من الناس أحق بها منك، فننشدك الله في أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تضيع وأن يلي أمرها غيرك. فبايعوه وكان أول من بايعه طلحة والزبير، ثم جاءا إلى البصرة يزعمان أنهما بايعا مكرهين، وكذبا.

ثم أتاه رجل من مَهْرَة(٢) - ومحمد بن أبي بكر بجنبه - فقال له عليعليه‌السلام - وأنا أسمع -: يا أخا مهرة، أجئت لتبايع؟ قال: نعم. قال: تبايعني على أنرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبض والأمر لي، فانتزى علينا ابن أبي قحافة ظلماً وعدواناً. ثم انتزى علينا بعده عمر ؟ قال: نعم. فبايعه على ذلك طائعاً غير مكره.

____________________

١. الخُصَّ: البيت من قصب أو شجر.

٢. «مَهرة»: بلاد مقفرة في جزيرة العرب تقع بين حضرموت وعمان.

٤١٧

قال: فقلت للحسن: أفبايع الناس كلهم على هذا؟ قال: لا، إنما بايع من أمن ووثق به على هذا.

يا أخا عبد القيس، ولئن جاز لنا أن نستغفر لعثمان وقد ركب ما ركب من الكبائر والأمور القبيحة، إنه ليجوز لنا أن نستغفر لهما وقد عوفيا من الدماء وعفا في ولايتهما وكفا وأحسنا السيرة، ولم يعملا بمثل عمل عثمان من الجور والتخليط، ولا بمثل ما عمله طلحة والزبير من نكثهما البيعة وما سفكا من الدماء إرادة الدنيا والملك،وقد سمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينهى عما ركبا وعما أتيا فتركا أمر الله وأمر رسوله بعد الحجة والبينة استخفافاً بأمر الله وأمر رسوله.

ولئن قلت يا أخا عبد القيس: «إن أبا بكر وعمر قد سمعا ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عليعليه‌السلام »، فلقد سمع ذلك عثمان وطلحة والزبير ثم ركبوا ما ركبوا من الحرب وسفك الدماء وعوفيا من ذلك!

أبو بكر وعمر أول من أسس الضلالة في الأمة

ولئن قلت: «إنهما أول من فتح ذلك وسنَّه وأدخلا الفتنة والبلاء على الأمة بانتزائهما على ما قد علما يقيناً أنه لا حق لهما فيه وأن الله جعله لغيرهما، وأنهما سلَّما على عليعليه‌السلام بإمرة المؤمنين، ثم قالا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين أمرهما بالتسليم عليه: أمن الله ومن رسوله؟ قال: نعم، من الله ومن رسوله»،إن في ذلك لمقالاً .(١)

لقد قال لي أبو ذر - حين حدثني بتسليمهما على عليعليه‌السلام بإمرة المؤمنين، هو والمقداد وسلمان -: سمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «ما ولَّت أمة قط أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا ».

____________________

١. جواب لقوله «لئن قلت:...» أي لئن قلت هكذا فهذا كلام في محله.

٤١٨

اعتراف جميع الصحابة بخلافة عليعليه‌السلام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

يا أخا عبد القيس، إن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وجميع أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونوا يشكُّون ولا يختلفون ولا يتنازعون بينهم أن علي بن أبي طالبعليه‌السلام كان أولهم إسلاماً وأكثرهم علماً وأعظمهم عناء في الجهاد في سبيل الله ومبارزة الأقران ووقايته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه.

وأنه لم ينزل برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شديدة ولا كربة ولا مبارزة قرن وفتح حصن إلا قدَّمه فيها ثقة به ومعرفة بفضله وأنه أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه أحبهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه وصي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأنه قد كان له كل يوم وكل ليلة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خلوة ودخلة إليه، إذا سأله أعطاه وإذا سكت ابتدأه. وأنه لم يحتج إلى أحد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في علم ولا فقه، وأن جميعهم كانوا يحتاجون إليه وهو لا يحتاج إلى أحد.

وأن له من السوابق والمناقب وما أنزل فيه من القرآن ما ليس لأحد منهم، وأنه كان أجودهم كفاً وأسخاهم نفساً وأشجعهم لقاء. وما خصلة من خصال الخير له فيها نظير ولا شبيه ولا كفو، في زهده في الدنيا ولا في اجتهاده.

فمما خصه الله به أن أخذ على الناسبالفصل الأول (١) مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ،فلم يسبقه أحد منهم إلى خير ،ولم يؤمِّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحداً قط عليه ولم يتقدم أمامه أحد في صلاة قط .

____________________

١. إن الحسن البصري قسَّم حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام على فصلين: الفصل الأول جهاده في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والفصل الآخر صبره وجهاده بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٤١٩

الجواب عن قضية صلاة أبي بكر عند وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

قال أبان: قلت: يا أبا سعيد، أليس أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر أن يصلي بالناس؟

فقال: أين يذهب بك يا أبان؟ إن علياًعليه‌السلام لم يكن مع الناس الذين أمر أبا بكر أن يصلي بهم، وإنما كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يمرضه ويوصي إليه ويصلي بصلاته. ثم لم يتم ذلك لأبي بكر، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخَّر أبا بكر وصلى بالناس.(١)

____________________

١. في «ب» هكذا: والله لقد خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخَّر أبا بكر عن المحراب فصلى بالناس.

روي في البحار: ج ٢٨ ص ١١٠ طبع قديم ص ٢٥ عن حذيفة بن اليمان أنه قال عند ذكر وقائع الأيام الأخيرة من عمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كان بلال مؤذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤذن بالصلاة في كل وقت صلاة، فإن قدر على الخروج تحامل وخرج وصلى بالناس وإن هو لم يقدر على الخروج أمر علي بن أبي طالبعليه‌السلام فصلى بالناس وكان علي بن أبي طالبعليه‌السلام والفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك.

فلما أصبح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من ليلته تلك - التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يد أسامة - أذَّن بلال ثم أتاه يخبره كعادته، فوجده قد ثقل، فمنع من الدخول إليه. فأمرت عائشة صهيباً أن يمضي إلى أبيها فيعلمه: «أنَّ رسول الله قد ثقل في مرضه وليس يطيق النهوض إلى المسجد وعلي بن أبي طالب قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس. فاخرج أنت إلى المسجد فصلِّ بالناس فإنها حال تهنئك وحجة لك بعد اليوم»!

قال: فلم تشعر الناس - وهم في المسجد ينتظرون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو علياًعليه‌السلام يصلي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه - إذ دخل أبو بكر المسجد وقال: «إن رسول الله قد ثقل وقد أمرني أن أصلي بالناس»!! فقال له رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : وأنى لك ذلك وأنت في جيش أسامة، ولا والله لا أعلم أحداً بعث إليك ولا أمرك بالصلاة.

ثم نادى الناس بلال، فقال: على رِسْلكم رحمكم الله لأستأذن رسول الله في ذلك. ثم أسرع حتى أتى الباب فدقَّه دقاً شديداً، فسمعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: ما هذا الدق العنيف؟ فانظروا ما هو؟ قال: فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فإذاً بلال. فقال: ما وراءك يا بلال؟ فقال: إن أبا بكر قد دخل المسجد وقد تقدم حتى وقف في مقام رسول الله وزعم أن رسول الله أمره بذلك. فقال: أوَليس أبو بكر مع جيش أسامة؟ هذا هو والله الشر العظيم، طرق البارحة المدينة لقد أخبرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك.

ودخل الفضل وأدخل بلالاً معه، فقال: ما وراءك يا بلال؟ فأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الخبر. فقال: «أقيموني، أقيموني، أخرجوا بي إلى المسجد. والذي نفسي بيده قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن». ثم خرج معصوب الرأس يتهادى بين عليعليه‌السلام والفضل بن العباس ورجلاه يجران في الأرض حتى دخل المسجد

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581