الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168976 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

والمجاهدين في سبيل الله ، أو صفوف المصلّين والعباد.

رغم أنّ القرائن تشير إلى أنّ المراد من كلمة «الصافات» هو الملائكة ، إضافة إلى أنّ بعض الروايات قد أشارت إلى ذلك المعنى(١) .

وليس هناك أي مانع من أن تشمل كلمة «الزاجرات» الملائكة الذين يطردون وساوس الشياطين من قلوب بني آدم ، والإنسان الذي يؤدّي واجب النهي عن المنكر.

و «التاليات» إشارة إلى كلّ الملائكة والجماعات المؤمنة التي تتلو آيات الله ، وتلهج بذكره تبارك وتعالى على الدوام.

هنا يطرح هذا السؤال : ظاهر هذه الآيات ـ وبمقتضى وجود العطف بحرف (الفاء) بين الجمل الثلاث ـ يبيّن أنّ الطوائف الثلاث جاءت الواحدة بعد الاخرى ، فهل أنّ هذا الترتيب جاء بحكم الواجب المترتّب على كلّ طائفة؟ أم كلّ حسب مقامه؟ أم لكلا الأمرين؟

من الواضح أنّ الاصطفاف والاستعداد قد جاءا كمرحلة اولى ، ثمّ جاءت ـ كمرحلة ثانية ـ عملية إزالة العراقيل من الطريق. أمّا إعلان الأوامر وتنفيذها فقد كانت بمثابة المرحلة الثالثة.

ومن جهة اخرى فإنّ المستعدّين لتنفيذ الأوامر الإلهيّة لهم مرتبة ، والذين يزيلون العراقيل لهم مرتبة أعلى ، أمّا الذين يتلون الأوامر وينفّذونها فلهم مرتبة أسمى من الجميع.

على أيّة حال فإنّ قسم الله سبحانه وتعالى بتلك الطوائف يوضّح عظم منزلتهم عند الباريعزوجل ، ويشير إلى حقيقة مفادها أنّ سالكي طريق الحقّ عليهم للوصول إلى غايتهم أن يجتازوا تلك المراحل الثلاث والتي تبدأ بتنظيم الصفوف ووقوف كلّ مجموعة في الصفّ المخصّص لها ، ومن ثمّ العمل على إزالة العراقيل

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ١٥ ، الدرّ المنثور ، المجلّد ٥ ، الصفحة ٢٧١.

٢٨١

من الطريق ، ورفع الموانع بالصوت العالي ، الصوت الذي يتناسب مع مفهوم الزجر ، ومن بعد تلاوة الآيات الإلهيّة والأوامر الربّانية على القلوب المتهيّئة لتنفيذ مضامين تلك الأوامر.

فالمجاهدون السالكون لطريق الحقّ ليس أمامهم من سبيل سوى اجتياز تلك المراحل الثلاث ، وبنفس الصورة على العلماء العاملين أن يستوحوا في جهودهم الجماعية ذلك البرنامج.

وممّا يذكر أنّ بعض المفسّرين فسّروا الآيات على أنّها تعود على المجاهدين ، والبعض الآخر أكّد عودتها على العلماء ، ولكن حصر مفهوم الآيات بالمجاهدين والعلماء فقط مستبعد بعض الشيء ، وإن أعطيت الآيات طابعا عامّا فإنّها ستكون أقرب للواقع ، وإذا اعتبرناها تخصّ الملائكة فإنّ الآخرين يمكنهم تنظيم حياتهم وفق مناهج الملائكة.

أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عند ما يصف بخطبته في نهج البلاغة الملائكة ، فإنّه يقسّمهم إلى مجموعات مختلفة ، ويقول : «وصافون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله»(١) .

أمّا آخر حديثنا عن الآيات الثلاث هذه ، فهو أنّ البعض يعتقد بأنّ القسم في هذه الآيات يعود إلى ذات الله ، وكلمة (ربّ) مقدّرة في جميع تلك الآيات ، حيث يكون المعنى كالتالي : وربّ الصافات صفّا ، وربّ الزاجرات زجرا ، وربّ التاليات ذكرا.

والذين فسّروا الآيات على هذا النحو ، فالظاهر أنّهم يعتقدون بأنّ العباد لا يحقّ لهم القسم بغير الله ، لذا فإنّ الله لا يقسم إلّا بذاته ، إضافة إلى أنّ القسم يجب أن يكون بشيء مهمّ ، ألا وهو ذات الله المقدّسة.

__________________

(١) الخطبة الاولى في نهج البلاغة.

٢٨٢

إلّا أنّ هؤلاء غفلوا عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ حساب الله لا علاقة له بالعباد ، فالله تعالى ـ من أجل توجيه الإنسان ـ يقسم بآيات «الآفاق» و «الأنفس» ودلائل قدرته في الأرض والسماء ، وذلك لكي يتفكّر الإنسان بتلك الآيات ، وعن طريقها يعرف ربّه.

وجدير بالذكر أنّ بعض آيات القرآن المجيد ، ومنها آيات سورة الشمس تقسم بموجودات الكون إلى جانب القسم بذات الله المقدّسة ، إذن فالتقدير هنا غير سديد ، إذ يقول القرآن الكريم :( وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ) (١) .

على أيّة حال ، فإنّ ظاهر الآيات ـ محلّ البحث ـ يدلّ على أنّ المجموعات الثلاث هي المقسم بها ، وتقدير الشيء هنا خلاف للظاهر ، ولا يمكن قبوله بغير دليل.

الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني ، أي القسم بالملائكة والإنس؟

الآية التالية توضّح ذلك وتقول :( إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ) .

قسم بتلك المقدّسات التي ذكرناها فإنّ الأصنام ستزول وتدمّر ، وإنّه ليس هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير لله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ) .

وهنا نطرح سؤالين :

١ ـ ما هي الضرورة لذكر «المشارق» بعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما ، رغم أنّ المشارق هي جزء منهما.

ويتّضح الجواب من خلال الالتفات إلى هذه النقطة وهي : إنّ المراد من «المشارق» هو الإشارة إلى مواقع شروق الشمس في أيّام السنة ، أو إلى مشارق

__________________

(١) سورة الشمس ، الآيات ٥ ـ ٧.

٢٨٣

النجوم المختلفة في السماء ، حيث أنّها جميعا لها نظام وبرنامج خاصّ بها ، إضافة إلى النظام السماوي والأرضي الذي يوضّح العلم والقدرة والتدبير المطلق للخالق.

فالشمس في كلّ يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو بعد يوم ، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية ، حيث أنّها لا تزيد ولا تقلّ بمقدار ١ من الثانية ، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين السنين.

كما أنّ هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.

إضافة إلى ذلك فإنّ الشمس لو لم تكن تتحرّك ضمن مسير تدريجي طوال العام ، لم يعد هناك وجود للفصول الأربعة وللنعم المختلفة التي تظهر خلال تلك الفصول ، وهذا دليل آخر على عظمة وتدبير الخالقعزوجل .

ومن المعاني الاخرى لكلمة «المشارق» ، هو أنّ الأرض لكونها كروية الشكل ، فإنّ كلّ نقطة عليها تعتبر بالنسبة إلى النقطة الاخرى إمّا مشرقا أو مغربا ، وبهذا فإنّ الآية تؤكّد كروية الأرض ووجود المشارق والمغارب (ولا مانع من تحقّق المعنيين في الآية المذكورة).

أمّا السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو : لماذا لم تأت كلمة «مغارب» في الآية في مقابل «المشارق» كما جاء في الآية (٤٠) من سورة المعارج( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) .

والجواب على هذا السؤال ، هو أنّ قسما من الكلام ينسخ قسما آخر لوجود القرينة ، وفي بعض الأحيان يأتيان معا ، وهنا ذكر كلمة «المشارق» قرينة على «المغارب» وهذا التنوّع يوضّح فصاحة القرآن وبلاغته.

فيما قال بعض المفسّرين : إنّ ذكر كلمة (المشارق) يتناسب مع شروق الوحي بواسطة الملائكة( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) على قلب النّبي الطاهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلّد ١٧.

٢٨٤

الآيات

( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) )

التّفسير

حفظ السماء من تسلّل الشياطين!

الآيات السابقة تحدّثت عن طوائف الملائكة المكلّفة بتنفيذ المهام الجسام ، والآيات التالية ـ موضوع البحث ـ ستتحدّث عن الطائفة المقابلة لها ، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدّمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجنّ ، وتتضمّن كذلك درسا في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) (١) فلو رفع أحدنا

__________________

(١) «الكواكب» هنا بدل من الزينة ، ويحتمل كونها عطف بيان ، والزينة هنا اسم مصدر وليست مصدرا ، حيث

٢٨٥

ببصره نحو السماء في إحدى الليالي المظلمة ، لتجسّم في بصره منظر جميل يسحر الإنسان.

وكأنّ الكواكب تتحدّث معنا بلسانها الصامت ، لتكشف لنا أعن أسرار الخلق ، وأحيانا تكون شاعرة تنشد لنا أجمل القصائد الغزلية والعرفانية ، وإغماضها وتواريها ، ومن ثمّ إبراقها ولمعانها ، يوضّح أسرار العلاقة الموجودة بين العاشق والمعشوق.

حقّا إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال ، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه ، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان. (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع ، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية ـ أي تزيين السماء بالكواكب ـ بصورة أفضل).

ومن الجدير بالاهتمام قول الآية :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) في حين كانت الفرضيات الشائعة في ذلك الوقت في أذهان العلماء والمفكّرين هي أنّ السماء العليا هي التي تضمّ الكواكب (السماء الثامنة طبقا لفرضيات بطليموس).

وكما هو معروف فإنّ العلم الحديث دحض تلك الفرضيات. وعدم اتّباع القرآن لما جاء في تلك الفرضيات النادرة والمشهورة في ذلك الزمان معجزة حيّة لهذا الكتاب السماوي.

والنقطة الاخرى التي تلفت النظر هي أنّ ارتعاش نور الكواكب الجميل وغمزها للناظر يعود ـ من وجهة نظر العلم الحديث ـ إلى وجود القشرة الهوائية حول الأرض ، وهذا المعنى يتلاءم مع ما نصّت عليه الآية الكريمة( السَّماءَ الدُّنْيا ) .

__________________

غ جاء في الكتب الأدبية أينما وجدت نكرة بدل عن المعرفة فيجب مرافقتها بوصف ، وفي حالة العكس فإنّ الأمر غير واجب.

٢٨٦

أمّا في خارج جو الأرض فإنّ النجوم تبدو نقاط منيرة على وتيرة واحدة وليس لها ذلك التلألؤ ، على عكس ما يشاهد داخل جوّ الأرض.

أمّا الآية( وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ) (١) فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

كلمة (مارد) مشتقّة من (مرد) التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع ، كما يقال للشجرة التي تساقطت أوراقها كلمة (أمرد) وتطلق على الفتى الذي لا شعر في وجهه. وهنا المقصود من كلمة (مارد) هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

حفظ السماء من تسلّل الشياطين يتمّ بواسطة نوع من أنواع النجوم يطلق عليها اسم (الشهب) ، وسيشار إليها في الآيات القادمة.

ثمّ يضيف القرآن الكريم : إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم ، فكلّما حاولوا عمل شيء ما لسماع الحديث ، رشقوا بالشهب من كلّ جانب( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ) .

نعم إنّهم يطردون من السماء بشدّة ، وقد أعدّ لهم عذاب دائم ، كما جاء في قوله تعالى :( دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ) .

( لا يَسَّمَّعُونَ ) بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار «الملأ الأعلى» إلّا أنّه لا يسمح لهم بذلك.

( الْمَلَإِ الْأَعْلى ) ، تعني ملائكة السماوات العلى ، لأنّ كلمة (ملأ) تطلق في الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة ، وتعدّ في نظر الآخرين مجموعة متّحدة ومنسجمة ، كما تطلق هذه الكلمة على الأشراف والأعيان والدائرين في فلك

__________________

(١) (حفظا) على حدّ قول الكثير من المفسّرين مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير هو : وحفظناها حفظا. والبعض احتمل أنّها معطوفة على (بزينة) التي هي (مفعول له) ، وتقديرها إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا.

٢٨٧

مراكز القوى ، لأنّهم يعدّون في نظر الآخرين متّحدين أيضا ، ولكن عند ما يوصف الملأ بـ (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

«يقذفون» مشتقّة من (قذف) وتعني رمي الشيء إلى مكان بعيد ، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب ، التي سنتطرّق لها فيما بعد ، وهذا يوضّح أنّ الباريعزوجل لا يسمح للشياطين بالاقتراب من الملأ الأعلى.

«دحورا» مشتقة من (دحر) ـ على وزن (دهر) ـ وتعني طرد الشيء ودفعه ، أمّا كلمة (واصب) فإنّها تعني المرض المزمن ، وبصورة عامّة تعني الدائم والمستمر ، وفي بعض الأحيان تعني (الخالص)(١) .

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الاقتراب من السماء فحسب ، بل سيصيبهم في النهاية ـ مع ذلك ـ عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضا إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لاستراق السمع ، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك ، كما جاء في الآية الشريفة( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) .

«الخطفة» أي اختلاس الشيء بسرعة.

و «الشهاب» شيء مضيء متولّد من النار ، ويرى نوره في السماء على شكل خطّ ممتدّ.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوما ، وإنّما تشبه النجوم ، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء ، عند ما تدخل في مجال جاذبية الأرض ، تنجذب نحوها ، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض واحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

وكلمة «ثاقب» تعني النافذ والخارق ، وكأنّه يخترق العين بنوره الشديد ويثقبها ، وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كلّ شيء يصيبه ويحرقه.

__________________

(١) لقد تمّ بحث كلمة «واصب» أيضا في نهاية الآية (٥٢) من سورة النحل.

٢٨٨

وبهذا يكون هناك مانعان يحوّلان دون نفوذ الشياطين إلى السماء العليا :

الأوّل ، هو رشق الشياطين من كلّ جانب وطردهم ، والذي يتمّ على الظاهر بواسطة الشهب.

والثاني ، هو رشقهم بواسطة أنواع خاصّة من الشهب يطلق عليها اسم الشهاب الثاقب ، الذي يكون بانتظار كلّ شيطان يحاول التسلّل إلى الملأ الأعلى لاستراق السمع ، وهذا المعنى نجده أيضا في الآيتين (١٧) و (١٨) من سورة الحجر( وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) .

وفي الآية الخامسة من سورة الملك( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ) .

ولكن هل يجب الالتزام بظواهر هذه الآيات؟ أم أنّ هناك قرائن تجبرنا على تفسيرها بخلاف الظاهر ، كاستخدام الأمثال والتشبيه والكناية؟

هناك وجهات نظر مختلفة بين المفسّرين ، فالبعض منهم التزم بظاهر الآيات وبنفس المعاني التي استعرضت في بداية الأمر ، وقالوا : هناك طوائف من الملائكة تسكن السماء القريبة والبعيدة تعرف أخبار الحوادث التي ستقع في العالم الأرضي قبل وقوعها ، لذا تحاول مجموعة من الشياطين الصعود إلى السماء لاستراق السمع ومعرفة بعض الأخبار ، لكي تنقلها إلى عملائها في الأرض أي الذين يرتبطون بها ويعيشون بين الناس ، ولكن ما أن يحاولون الصعود يرشقون بالشهب التي تتّصف بأنّها كالنجوم المتحرّكة ، فتجبرهم على التراجع ، أو تصيبهم فتهلكهم.

ويقولون : من الممكن أن لا نفهم بصورة دقيقة ما تعنيه هذه الآيات في الوقت الحاضر ، إلّا أنّنا مكلّفون بحفظ ظواهرها ، وترك تفاصيلها للمستقبل.

وقد اختار هذا التّفسير العلّامة «الطبرسي» في (مجمع البيان) و «الآلوسي» في (روح المعاني) و «سيّد قطب» في (الظلال) ، إضافة إلى عدد آخر من المفسّرين.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الآيات المذكورة إنّما هي من قبيل الأمثال

٢٨٩

المضروبة تصوّر بها الحقائق الخارجة عن الحسّ في صورة المحسوس لتقريبها من الحسّ ، وهو القائلعزوجل :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) .(١)

وأضافوا : إنّ المراد من السماء التي تسكنها الملائكة ، عالم ملكوتي ذو أفق أعلى من عالمنا المحسوس ، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب ، هو أنّ هذه الشياطين كلّما حاولت الاقتراب من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخليفة والحوادث المستقبلية ، طردت من هناك بواسطة نور الملكوت الذي لا يطيقونه ، ورمتهم الملائكة بالحقّ الذي يبطل أباطيلهم.

وإيراده تعالى قصّة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب ، عقيب الإقسام بملائكة الوحي وحفظهم إيّاه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه(٢) .

ويحتمل أيضا أنّ السماء هنا هي كناية عن سماء الإيمان والمعنويات التي يحاول الشياطين النفوذ إليها ، إضافة إلى الانسلال إلى قلوب المؤمنين عن طريق الوساوس التي يبثّونها في قلوبهم ، إلّا أنّ الأنبياء والصالحين والأئمّة المعصومين من أهل البيت والسائرين على خطّهم الفكري والعملي يهاجمون الشياطين بالشهاب الثاقب الذي يمتلكونه ، ألا وهو العلم والتقوى ، ويمنعون الشياطين من الاقتراب من هذه السماء.

التّفسير المذكور أوردناه هناك كاحتمال ، وذكرنا بعض الدلائل والشواهد عليه في نهاية الآية (١٨) من سورة الحجرات.

هذه ثلاثة تفسيرات مختلفة للآيات مورد البحث والآيات المشابهة لها.

* * *

__________________

(١) العنكبوت ، ٤٣.

(٢) تلخيص من تفسير الميزان ، المجلّد السابع عشر ، الصفحة (١٢٥).

٢٩٠

الآيات

( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) )

التّفسير

الذين لا يقبلون الحقّ أبدا :

هذه الآيات تعالج قضيّة منكري البعث ، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباريعزوجل خالق السموات والأرض ، وتبدأ بالاستفسار منهم وتقول : اسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض :( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا ) .

نعم ، فنحن خلقناهم من مادّة تافهة ، من طين لزج :( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) .

فالمشركون الذين ينكرون المعاد ، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السموات والأرض والملائكة. إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السموات

٢٩١

والأرض والملائكة. إلّا أنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول : إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم ، يعدّ لا شيء ، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج.

«استفتهم» من مادّة «استفتاء» وتعني الحصول على معلومات جديدة.

وهذا التعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ وأصعب من خلق السماوات والملائكة ، فإنّهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح مثله من قبل.

«لازب» يقول البعض : إنّ أصلها كان (لازم) ، حيث استبدلت (الميم) (باء) وحاليا تستعمل بهذه الصورة ، على أيّة حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه ببعض ، يعني الملتصق لأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء ، وبعد فترة أضحى طينا متجمعا ذا رائحة نتنة ، ثمّ تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعدّدة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).

ثمّ يضيف القرآن الكريم :( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) .

نعم أنت تتعجّب لإنكارهم بالمعاد ، لأنّك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة جدّا ، وأمّا أصحاب القلوب السوداء فيعبدونها مستحيلة إلى حدّ أنّهم يستهزئون بها وينكرونها.

وما يمكن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل ـ فقط ـ وعدم المعرفة ، بل إنّها اللجاجة والعناد ، إذ أنّهم كلّما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهيّة لا يتذكّرون( وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ) .

والأنكى من ذلك ، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك ، لا يكتفون بالاستهزاء ، وإنّما يدعون الآخرين للاستهزاء أيضا( وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) .

( وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والانتقاص منها ،

٢٩٢

وإطلاقهم كلمة «سحر» على تلك المعجزات لكونها من جهة أعمالا خارقة للعادة ، ولا يمكن نكرانها. ومن جهة اخرى فإنّهم لم يكونوا راغبين للاستسلام لتلك المعاجز ، وكلمة السحر كانت الكلمة الوحيدة التي تعكس خبثهم وترضي أهواءهم النفسية ، وتوضّح في نفس الوقت اعترافهم بالتأثير الكبير للقرآن ولمعجزات النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

ملاحظتان

١ ـ يعتقد بعض المفسّرين أنّ عبارة «يستسخرون» تعني «يسخرون» ، ولا يوجد أي فرق بين العبارتين. في حين يؤكّد البعض الآخر على وجود اختلاف بين المعنيين ، بقولهم : إنّ «يستسخرون» جاءت من باب استفعال ، وتعني دعوة الآخرين إلى المشاركة في الاستهزاء ، وتشير إلى أنّهم لم يكتفوا لوحدهم بالاستهزاء بآيات القرآن المجيد ، وإنّما سعوا لإشراك الآخرين في ذلك ، كي تصير المسألة عامّة في المجتمع.

والبعض يعتبر هذا الاختلاف توكيد أكثر يستفاد من عبارة (يستسخرون).

فيما فسّر البعض الآخر هذه العبارة بأنّها «الإعتقاد بكون الشيء مثيرا للسخرية» ، ويعني أنّهم نتيجة انحرافهم الشديد كانوا في قرارة أنفسهم يعتقدون ـ تماما ـ أنّ هذه المعجزات ليست أكثر من سخرية ، ولكن المعنى الثاني يعدّ أكثر مناسبا من غيره.

٢ ـ عزا بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآية إلى قضيّة مفادها أنّ «ركانة» رجل من المشركين من أهل مكّة ، لقيه الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جبل خال يرعى غنما له ، وكان من أقوى الناس ، فقال له : يا ركانة أرأيت إنّ صرعتك أتؤمن بي؟

٢٩٣

قال : نعم. فصرعه ثلاثا ، ثمّ عرض عليه بعض الآيات ودعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت ، فلم يؤمن وجاء إلى مكّة فقال : «يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض». فنزلت فيه وفي أضرابه هذه الآية.

* * *

٢٩٤

الآيات

( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) )

التّفسير

هل نبعث من جديد؟

الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد ، وتواصل الردّ عليها ، فالآية الاولى تعكس استبعاد البعث من قبل منكريه ، بهذا النصّ( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) (١) (٢) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ٧٧.

(٢) هذه الآية هي بحالة جملة شرطية وشرطها (أإذا متنا) بينما جزاءها محذوف وجملة (أإنّا لمبعوثون) قرينة عليها ، لأنّ نفس هذه الجملة ـ طبقا للقواعد الأدبية ـ لا يمكن أن تكون جزاء.

٢٩٥

وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضا؟( أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) . فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقّية من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟

فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا ترابا في اليوم الأوّل ، ومن التراب خلقوا ، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة الله ، فعليهم أن يعرفوا أنّ الله كان قد أراهم قدرته ، وإن كانوا يشكّكون باستحالة التراب ، فقد أثبت ذلك من قبل ، وعلاوة على هذا فإنّ خلق السماوات والأرض بكلّ هذه العظمة لا تترك أي مجال للشكّ عند أحد في قدرة الباريعزوجل المطلقة.

ممّا يذكر أنّ منكري البعث صاغوا أقوالهم بشكل عبارات مؤكّدة (إذ أنّ جملة( أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) هي جملة اسمية استخدمت فيها (إن) و (لام) والتي تأتي كلّ منهما للتأكيد) وذلك لجهلهم ولجاجتهم.

وممّا يلفت النظر أنّ كلمة (التراب) قدّمت على (العظام) وهذا الأمر يحتمل أنّه يشير إلى إحدى النقاط الثلاث الآتية :

أوّلا : إنّ الإنسان بعد وفاته يصير عظاما في بداية الأمر ، ثمّ يتحوّل إلى تراب ، وبما أنّ إعادة التراب إلى الحياة يعدّ شيئا عجيبا ، لهذا قدّمت كلمة التراب.

ثانيا : عند اندثار أبدان الأموات ، في البداية تتحوّل اللحوم إلى تراب وتبقى إلى جانب العظام ، ولهذا فهناك تراب وعظام في آن واحد.

ثالثا : التراب يشير إلى أجساد الأجداد الأوّلين ، والعظام تشير إلى أبدان الآباء والتي لم تتحوّل بعد إلى تراب.

ثمّ يردّ القرآن على تساؤلاتهم بلهجة شديدة وعنيفة ، عند ما يقول للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم : نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلّاء ،( قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ ) (١) .

__________________

(١) (داخر) من مادّة (دخر) على وزن فخر (دخور) ، وكلتاهما تعطي معنى الذلّة والحقارة. الآية أعلاه فيها جملة

٢٩٦

فهل تتصوّرون أنّ عمليّة إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة ، أو هي عمل عسير على الله القادر والقوي؟ كلّا ، فإنّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم الله سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور ، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ ) .

(زجرة) مشتقّة من (زجر) وكما أشرنا إليها سابقا ، فإنّها تعني الطرد ، وأحيانا تأتي بمعنى الصرخة ، وهنا تفيد المعنى الثاني ، وهي إشارة إلى النفخة والصيحة الثانية لإسرافيل ، والتي سنتحدّث بشأنها في الآيات الأخيرة لسورة الزمر.

عبارة (ينظرون) تشير إلى نظر منكري البعث لساحة المحشر وهم مدهوشون ، أو النظر بعنوان انتظار العذاب ، وفي كلا الحالتين فإنّ المقصود ليس ـ فقط ـ عودتهم إلى الحياة ، وإنّما عودتهم إلى الشعور والنظر فور سماعهم الصيحة.

وتعبير( زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ) مع الالتفات إلى معنى الكلمتين ، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة ، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباريعزوجل ، إذ بصرخة واحدة (لملك البعث) المأمور بها تعود الحياة إلى حالتها الاولى.

وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم ، ويقولون : الويل لنا فهذا يوم الدين( وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

نعم ، فعند ما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها ، وعلى علامات العقاب فإنّهم ـ من دون أن يشعروا ـ يصرخون ويبكون ، ويعترفون بحقيقة البعث ، الاعتراف الذي يعجز عن إنقاذهم من العذاب ، أو تخفيف العقاب الذي ينتظرهم.

وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباريعزوجل أو من ملائكته : نعم ، اليوم هو

__________________

تقديرية هي جوابها ، والبقيّة شيء إضافي عليها كي يكتسب القول قاطعية أكثر ، فالتقدير سيكون هكذا (نعم إنّكم مبعوثون حال كونكم داخرين).

٢٩٧

يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون ، يوم فصل الحقّ عن الباطل ، وفصل المجرمين عن المتّقين ، ويوم المحكمة الإلهيّة الكبرى( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .

ومثل هذه العبارات وردت في آيات اخرى من آيات القرآن الكريم ، والتي تتناول يوم القيامة ، وتعتبره يوم الفصل ، وهي عبارات عجيبة ورهيبة؟!(١) .

الملاحظ ، هو أنّ الكافرين يوم القيامة يطلقون على هذا اليوم اسم يوم الجزاء( يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

فيما يطلق عليه الباريعزوجل في كتابه الحكيم اسم يوم الفصل( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ) .

إنّ الاختلاف بين التعبيرين يمكن أن يكون لهذا السبب ، وهو أنّ المجرمين لا يفكّرون إلّا بالجزاء والعقاب الذي سينالهم ، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم ، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل ، نعم يوم فصل صفوف المجرمين عن المتّقين ، كما جاء في الآية (٥٩) من سورة يس( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) فالأمر في ذلك اليوم موجّه إلى المجرمين أن انفصلوا عن المؤمنين ، فهنا ليست دار الدنيا التي تجمع بين المجرمين والمتّقين.

وكم يكون هذا المشهد رهيبا عند ما يشاهدون أقاربهم وأبناءهم ينفصلون عنهم لإيمانهم بالله ، ويتّجهون نحو جنان الخلد.

وعلاوة على أنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحقّ عن الباطل ، فيجب أن تتبيّن كلّ الخطوط المتضادّة والبرامج الحقيقيّة والكاذبة التي كانت مختلطة في عالم الدنيا في مكانها الخاصّ بها.

على أيّة حال ، إنّ ذلك اليوم ـ أي يوم الفصل ـ يعني أيضا يوم المحاكمة ، ففي

__________________

(١) الدخان ، الآية ٤٠ ، المرسلات ، الآيات ١٣ ، ١٤ ، ٣٨ ، النبأ الآية ، ١٧.

٢٩٨

ذلك اليوم يقضي الله العالم العادل بين عباده ويصدر أحكاما دقيقة بحقّهم ، وهنا يخزى المشركون.

إذن ، فطبيعة الدنيا هي اختلاط الحقّ بالباطل ، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل ، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل) والذي كرّر عدّة مرّات ، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار ، ولا يمكن تجنب عملية فصل الصفوف.

ثمّ يصدر الباريعزوجل أوامره إلى ملائكته المكلّفين بإرسال المجرمين إلى جهنّم أن( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ) .

نعم احشروهم وما كانوا يعبدون( مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) . (احشروا) مشتقّة من (حشر) ويقول الراغب في مفرداته : إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

وهذه الكلمة تأتي بمعنى «تجميع» في الكثير من الحالات.

على كلّ حال ، فالخطاب هنا إمّا أن يكون من جانب اللهعزوجل ، أو من طائفة من الملائكة إلى طائفة اخرى مكلّفة بسوق المجرمين إلى الجحيم والنتيجة واحدة.

(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين ، أو إلى من يعتقد اعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم ، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين ، حيث نقرأ في سورة الواقعة الآية(٧) ( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ) .

وبهذا يحشر المشركون مع المشركين والأشرار ، وذوو القلوب العمياء مع نظائرهم ، ثمّ يساقون إلى جهنّم.

أو أنّ المقصود من الأزواج هم الشياطين الذين كانوا يشابهونهم في الشكل والعمل.

المهمّ ، هو عدم وجود أي اختلاف بين هذه المعاني الثلاثة ، ومن الممكن أن

٢٩٩

تجتمع في مفهوم الآية.

جملة( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) تشير إلى آلهة المشركين ، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة ، وعبّرت عنها بـ( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) لكون أغلب تلك الآلهة موجودات عديمة الحياة وغير عاقلة ، وقد اصطلح عليها بهذا التعبير لأنّه يعطي طابع التغليب.

(الجحيم) تعني جهنّم ، وهي من مادّة (جحمة) على وزن (ضربة) وتعني شدّة تأجيج النار.

والملاحظ في الآية استخدامها عبارة( فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) حقّا كم هذه العبارة عجيبة؟ ففي أحد الأيّام ارشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه ، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم ، وهم مجبرون على القبول به ، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألما في أعماقهم.

* * *

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) )

التّفسير

إبراهيم عند المذبح :

بحثنا في الآيات السابقة انتهى عند هجرة إبراهيمعليه‌السلام من بابل بعد أن أدّى رسالته هناك ، وطلبه من الله أن يرزقه ولدا صالحا ، إذ لم يكن له ولد.

وأوّل آية في هذا البحث تتحدّث عن الاستجابة لدعاء إبراهيم ، إذ قالت الآية :( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) .

٣٦١

في الواقع إنّ ثلاثة بشائر جمعت في هذه الآية ، الاولى أنّه سيرزق طفلا ذكرا ، والثانية أنّ هذا الطفل يبلغ سنّ الفتوّة ، أمّا الثالثة فهي أنّ صفته حليم.

وكلمة (حليم) تعني الذي لا يعجّل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه ، وقيل : الذي لا يعجّل بالعقوبة ، والذي له روح كبيرة وهو متسلّط على أحاسيسه.

ويرى «الراغب» في مفرداته أنّ كلمة حليم تعني الضابط نفسه في لحظة الإثارة والغضب ، وبسبب كون هذه الحالة تنشأ من العقل والإدراك ، فإنّ كلمة وعكس تعني ـ أحيانا ـ العقل والإدراك.

ولكن المعنى الحقيقي لكلمة حليم هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه.

ويمكن الاستفادة من هذا الوصف في أنّ الله بشّر عبده إبراهيم في أنّه سيعطي ابنه إسماعيل عمرا يمكن وصفه فيه بالحليم ، كما أنّ الآيات التالية ستوضّح أنّ إسماعيل بيّن مرتبة حلمه أثناء قضيّة الذبح ، مثلما وضّح أبوه إبراهيم حلمه في أثناء قضيّة الذبح ، وأثناء إحراقه بالنار.

وكلمة (حليم) كرّرت (١٥) مرّة في القرآن المجيد ، وأغلبها وردت وصفا لله ، عدا ثلاث موارد جاءت في وصف إبراهيم وابنه إسماعيل من قبل القرآن الكريم ، والثالثة جاءت في وصف شعيب وعلى لسان الآخرين.

وكلمة (غلام) حسب إعتقاد البعض تطلق على كلّ طفل لم يصل بعد مرحلة الشباب ، والبعض يطلقها على الطفل الذي اجتاز عمره العشر سنوات ولم يصل بعد إلى سنّ البلوغ.

ويمكن الاستفادة من العبارات المختلفة الواردة بلغة العرب في أنّ كلمة (غلام) تطلق على الذكر الذي اجتاز مرحلة الطفولة ولم يصل بعد إلى مرحلة الشباب.

أخيرا ، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهيّة ، وأثلج قلب إبراهيم الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال ، اجتاز الطفل مرحلة الطفولة وأضحى

٣٦٢

غلاما. وهنا يقول القرآن :( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) .

يعني أنّه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف امور الحياة وإعانته على أموره.

وقال البعض : بأنّ (السعي) هنا يعني العمل لله والعبادة ، وبالطبع فإنّ كلمة (السعي) لها مفاهيم ومعان واسعة تشمل هذا المعنى أيضا ، ولكنّها لا يقتصر معناها عليه. و (معه) تدلّ على أنّه كان يساعد والده في امور الحياة.

على كلّ حال ، فقد ذهب جمع من المفسّرين : إنّ عمر إسماعيل كان (١٣) عاما حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحير ، والذي يدلّ على بدء إمتحان عسير آخر لهذا النّبي ذي الشأن العظيم ، إذ رأى في المنام أنّ الله يأمره بذبح ابنه الوحيد وقطع رأسه. فنهض من نومه مرعوبا ، لأنّه يعلم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة وليس من وساوس الشياطين ، وقد تكرّرت رؤيته هذه ليلتين أخريين ، فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فورا.

وقيل : إنّ أوّل رؤيا له كانت في ليلة التروية ، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجّة ، كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة ، وليلة عيد الأضحى ، وبهذا لم يبق عنده أدنى شكّ في أنّ هذا الأمر هو من الله سبحانه وتعالى.

إمتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن ، إبراهيم الذي نجح في كافّة الامتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس ، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الابوّة جانبا والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة ، وهو الآن غلام يافع قوي.

ولكن قبل كلّ شيء ، فكّر إبراهيمعليه‌السلام في إعداد ابنه لهذا الأمر ، حيث( قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى ) .

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده ، والذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده ، رحّب بالأمر الإلهي بصدر

٣٦٣

واسع وطيبة نفس ، وبصراحة واضحة قال لوالده :( قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) .

ولا تفكّر في أمري ، فانّك( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) .

فما أعظم كلمات الأب والابن وكم تخفي في بواطنها من الأمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!

فمن جهة ، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (١٣) عاما بقضيّة الذبح ، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها ، حيث جعله هنا شخصيّة مستقلّة حرّة الإرادة.

فإبراهيم لم يقصد أبدا خداع ولده ، ودعوته إلى ساحة الامتحان العسير بصورة عمياء ، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضدّ النفس ، وجعله يستشعر حلاوة لذّة التسليم لأمر الله والرضى به ، كما استشعر حلاوتها هو.

ومن جهة اخرى ، عمد الابن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به ، إذ لم يقل له : اذبحني ، وإنّما قال له : افعل ما أنت مأمور به ، فإنّني مستسلم لهذا الأمر ، وخاصّة أنّه خاطب أباه بكلمة( يا أَبَتِ ) كي يوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرّة ، وأنّ أمر الله هو فوق كلّ شيء.

ومن جهة ثالثة ، أظهر أدبا رفيعا اتّجاه الله سبحانه وتعالى ، وأن لا يعتمد أحد على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط ، وإنّما يعتمد على إرادة ومشيئة الله ، وبعبارة اخرى : أن يطلب توفيق الاستعانة والاستقامة من الله.

وبهذا الشكل يجتاز الأب وابنه المرحلة الاولى من هذا الامتحان الصعب بانتصار كامل.

ماذا يدور في هذا الوسط؟ القرآن الكريم لم يفصل مجريات الحدث ، وركّز فقط على النقاط الحسّاسة في هذه القصّة العجيبة.

كتب البعض : إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي ، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته.

فعند ما أخذه والده للذبح وسط الجبال الجرداء والحارقة في أرض (منى) قال

٣٦٤

إسماعيل لوالده :

يا أبت ، أحكم من شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي ، أخاف أن يقلّل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله.

والدي العزيز اشحذ السكّين جيّدا ، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلا بالنسبة لي ولك.

والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم ، لأنّي أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.

ثمّ أضاف : أوصل سلامي إلى والدتي ، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدّئ من آلامها ، لأنّها ستشمّ رائحة ابنها منه ، وكلّما أحسّت بضيق القلب ، تضعه على صدرها ليخفّف الحرقة الموجودة في أعماقها.

قربت اللحظات الحسّاسة ، فالأمر الإلهي يجب أن ينفّذ ، فعند ما رأى إبراهيمعليه‌السلام درجة استسلام ولده للأمر الإلهي احتضنه وقبّل وجهه ، وفي هذه اللحظة بكى الاثنان ، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدّمة الشوق للقاء الله.

القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنّها مليئة بالمعاني ، فيقول تعالى :( فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) (١) .

مرّة اخرى تطرّق القرآن هنا باختصار ، كي يسمح للقارئ متابعة هذه القصّة بانشداد كبير.

قال البعض : إنّ المراد من عبارة( تَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) هو أنّه وضع جبين ولده ـ طبقا لاقتراحه ـ على الأرض ، حتّى لا تقع عيناه على وجه ابنه فتهيج عنده عاطفة الابوّة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي.

__________________

(١) (تلّه) من مادّة (تلّ) وتعني في الأصل المكان المرتفع ، و (تلّه للجبين) تعني أنّه وضع أحد جوانب وجه ابنه على مكان مرتفع من الأرض.

(جبين) تعني أحد جانبي الجبهة أو الوجه ، وطرفي الوجه أو الجبهة يقال لهما (جبينان).

٣٦٥

على أيّة حال كبّ إبراهيمعليه‌السلام ابنه على جبينه ، ومرّر السكّين بسرعة وقوّة على رقبة ابنه ، وروحه تعيش حالة الهيجان ، وحبّ الله كان الشيء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر ومن دون أي تردّد.

إلّا أنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة.

وهنا غرق إبراهيم في حيرته ، ومرّر السكّين مرّة اخرى على رقبة ولده ، ولكنّها لم تؤثّر بشيء كالمرّة السابقة.

نعم ، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين : اذبحي ، لكنّ الله الجليل يعطي أوامره للسكّين أن لا تذبحي ، والسكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباريعزوجل .

وهنا ينهي القرآن كلّ حالات الانتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة( وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

إذ نمنحهم توفيق النجاح في الامتحان ، ونحفظ لهم ولدهم العزيز ، نعم فالذي يستسلم تماما وبكلّ وجوده للأمر الإلهي ويصل إلى أقصى درجات الإحسان ، لا يمكن مكافأته بأقلّ من هذا.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) .

عمليّة ذبح الابن البارّ المطيع على يد أبيه ، لا تعدّ عمليّة سهلة وبسيطة بالنسبة لأب انتظر فترة طويلة كي يرزقه الله بهذا الابن ، فكيف يمكن إماتة قلبه تجاه ولده؟ والأكثر من ذلك استسلامه ورضاه المطلق ـ من دون أي انزعاج ـ لتنفيذ هذا الأمر ، وتنفيذه كافّة مراحل العملية من بدايتها إلى نهايتها ، بصورة لا يغفل فيها عن أي شيء من الاستعداد لعملية الذبح نفسيا وعمليّا.

والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر الله ، إذ استقبل أمر الذبح بصدر مفتوح واطمئنان يحفّه اللطف الإلهي ، واستسلام في مقابل هذا الأمر.

لذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ جبرئيل هتف «الله أكبر» «الله أكبر» أثناء

٣٦٦

عمليّة الذبح لتعجّبه.

فيما هتف إسماعيل «لا إله إلّا الله ، والله أكبر».

ثمّ قال إبراهيم «الله أكبر ولله الحمد»(١) .

وهذه العبارات تشبه التكبيرات التي نردّدها في يوم عيد الأضحى.

ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصا ، وتتحقّق أمنية إبراهيم في تقديم القربان لله ، بعث الله كبشا كبيرا إلى إبراهيم ليذبحه بدلا عن ابنه إسماعيل ، ولتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ وتأتي إلى أرض (منى)( وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) .

ما المراد بالذبح العظيم؟

هل أنّه يقصد منه الجانب الجسمي والظاهري؟

أو لأنّه كان فداء عن إسماعيل؟

أو لأنّه كان لله وفي سبيل الله؟

أو لأنّ هذه الاضحية بعثها الله تعالى إلى إبراهيم؟

المفسّرون قالوا الكثير بشأنها ، ولكن لا يوجد أي مانع يحول دون جمع كلّ ما هو مقصود أعلاه.

وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح ، هو اتّساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن ، وحاليا يذبح في كلّ عام أكثر من مليون اضحية تيمنّا بذلك الذبح العظيم وإحياء لذلك العمل العظيم.

«فديناه» مشتقّة من (الفداء) وتعني جعل الشيء مكان الشيء لدفع الضرر عنه ، لذا يطلق على المال الذي يدفع لإطلاق سراح الأسير (الفدية) كما تطلق (الفدية) على الكفّارة التي يخرجها بعض المرضى بدلا عن صيامهم.

وبشأن كيفية وصول الكبش العظيم إلى إبراهيمعليه‌السلام ، أعرب الكثير من

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير روح البيان.

٣٦٧

المفسّرين عن اعتقادهم في أنّ جبرئيل أنزله ، فيما قال البعض الآخر : إنّه هبط عليه من أطراف جبال (منى) ، ومهما كان فإنّ وصوله إلى إبراهيم كان بأمر من الله.

النجاح الذي حقّقه إبراهيمعليه‌السلام في الامتحان الصعب ، لم يمدحه الله فقط ذلك اليوم ، وإنّما جعله خالدا على مدى الأجيال( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) .

إذ غدا إبراهيمعليه‌السلام «أسوة حسنة» لكلّ الأجيال ، و «قدوة» لكلّ الطاهرين ، وأضحت أعماله سنّة في الحجّ ، وستبقى خالدة حتّى تقوم القيامة ، إنّه أبو الأنبياء الكبار ، وإنّه أبو هذه الامّة الإسلامية ورسولها الأكرم محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولمّا امتاز به إبراهيمعليه‌السلام من صفات حميدة ، خصّة الباريعزوجل بالسلام( سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ) .

نعم ، إنّا كذلك نجزي ونثيب المحسنين( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) جزاء يعادل عظمة الدنيا ، جزاء خالد على مدى الزمان ، جزاء يجعل من إبراهيم أهلا لسلام اللهعزوجل عليه.

وعبارة( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) تثير الانتباه ، إذ أنّها أتت قبل عدّة آيات ، وتكرّرت ثانية هنا ، فهناك حتما علّة لهذا التكرار.

المرحلة الاولى ربّما كانت بسبب أنّ الله سبحانه وتعالى صادق على نجاح إبراهيم في الامتحان الصعب ، وأمضى نتيجة قبوله ، وهذه بحدّ ذاتها أهمّ مكافأة يمنحها الله سبحانه وتعالى لإبراهيم ، ثمّ تأتي قضيّة (الفدية بذبح عظيم) و (بقاء اسمه وسنّته خالدين على مدى التاريخ) و (إرسال الباريعزوجل سلامه وتحيّاته إلى إبراهيم) التي اعتبرت ثلاث نعم كبيرة منحها الله سبحانه وتعالى لعبده إبراهيم بعنوان أنّها مكافأة وجزاء للمحسنين.

* * *

٣٦٨

بحوث

١ ـ من هو ذبيح الله؟

اختلف المفسّرون بشأن الولد الذي امر إبراهيم بذبحه ، هل كان (إسماعيل أم إسحاق) الذي لقّب بذبيح الله؟ إذ أنّ هناك نقاشا بين المفسّرين ، فمجموعة تقول : إنّ (إسحاق) هو (ذبيح الله) فيما تعتبر مجموعة اخرى (إسماعيل) هو الذبيح ، التّفسير الأوّل أكّد عليه الكثير من مفسّري أهل السنّة ، فيما أكّد مفسّر والشيعة على أنّ إسماعيل هو الذبيح.

وظاهر آيات القرآن الكريم المختلفة تؤكّد على أنّ إسماعيل هو ذبيح الله ، وذلك للأسباب التالية :

أوّلا : في إحدى آيات القرآن الكريم نقرأ( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(١) هذه العبارة توضح بصورة جيّدة ، أنّ الله سبحانه وتعالى بشّر إبراهيم بولادة إسحاق بعد قضيّة الذبح ، نتيجة تضحياته ، ولهذا فإنّ قضيّة الذبح لا تخصّه أبدا ، إضافة إلى أنّ الباريعزوجل عند ما يبشّر أحدا بالنبوّة ، فذلك يعني بقاء ذلك الشخص حيّا ، وهذا لا يتناسب مع قضيّة الذبح التي خصّت غلاما.

ثانيا : نقرأ في الآية ٧١ من سورة هود ، قوله تعالى :( فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ) هذه الآية توضّح أنّ إبراهيم كان مطمئنا على بقاء ولده إسحاق ، وأنّ الله سيرزق إسحاق ولدا اسمه يعقوب ، وهذا يعني أنّ الذبح لا يشمله أبدا. فالذين اعتبروا إسحاق هو الذبيح ، يبدو أنّهم لم يأخذوا بنظر الإعتبار حقيقة هذه الآيات.

ونقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث موثوق ، جاء فيه : «أنا ابن الذبيحين» والمقصود من الذبيحين ، الأوّل هو والده (عبد الله) الذي كان أبوه عبد المطّلب قد

__________________

(١) الصافات ، ١١٢.

٣٦٩

نذر بذبحه تقرّبا إلى الله تعالى والذي (فداه) بأمر من الله بـ (١٠٠) بعير ، وقصّته معروفة ، والثاني هو (إسماعيل) لأنّ من الأمور الثابتة كون نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو من أبناء إسماعيل وليس من أبناء إسحاق(١) .

وورد في الدعاء الذي رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (يا من فدا إسماعيل من الذبح)(٢) .

وجاء في روايات اخرى عن الإمامين المعصومين الباقر والصادقعليهما‌السلام ، أنّهما أجابا على أسئلة تستفسر عن الذبيح ، فأجابا أنّه إسماعيل.

وجاء في حديث نقل عن الإمام الرضاعليه‌السلام «لو علم اللهعزوجل شيئا أكرم من الضأن لفدى به إسماعيل»(٣) .

خلاصة الأمر ، هو أنّ الروايات والأحاديث التي وردت بهذا الشأن كثيرة ، وإذا أردنا استعراضها جميعا ، فإنّ البحث يتّسع كثيرا.

وفي مقابل هذه الروايات الكثيرة المتناسبة مع ظاهر الآيات القرآنية ، هناك روايات شاذّة تدلّ على أنّ إسحاق هو المقصود (بذبيح الله) ولا تتطابق مع روايات المجموعة الاولى ولا مع ظاهر الآيات القرآنية.

وبغضّ النظر عمّا قيل ، فهناك قضيّة مسلّم بها ، وهي أنّ الطفل الذي جاء به إبراهيم مع امّه إلى مكّة المكرّمة بأمر من الله ثمّ تركهما هناك ، وساعده من بعد في بناء الكعبة المشرفة ، وأدّى مراسم الطواف والسعي هو إسماعيل ، وهذا يدلّ على أنّ الذبيح هو إسماعيل ، لأنّ عملية الذبح تكمل الأعمال المذكورة أعلاه.

ممّا يذكر أنّ كتاب (التوراة) الحالي والمعروف بالعهد القديم يؤكّد على أنّ الذبيح كان إسحاق.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٢١.

(٣) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٢٢.

٣٧٠

هنا يستشف أنّ بعض الروايات الإسلامية غير المعروفة والتي تؤكّد على أنّ إسحاق هو (ذبيح الله) متأثّرة ببعض الروايات الإسرائيلية ، ويحتمل أنّ اليهود وضعوها ، وذلك لأنّهم من ذريّة (إسحاق) ، وقد حاولوا نسب هذا الفخر لهم ، حتّى ولو كان عن طريق تزييف الوقائع والحقائق ، وسلبه من المسلمين الذين كان نبيّهم نبي الرحمة أحد أحفاد إسماعيل.

على أيّة حال ، فإنّ ظواهر آيات القرآن الكريم هي أقوى دليل لنا ، إذ توضّح بصورة كافية ، أنّ الذبيح هو إسماعيل ، رغم أنّه لا فرق بالنسبة لنا إن كان الذبيح إسماعيل أو إسحاق ، فالإثنان هما أبناء إبراهيمعليه‌السلام ، وكلاهما من أنبياء الله العظام ، ولكن الهدف هو توضيح هذه الحادثة التاريخية.

٢ ـ هل أنّ إبراهيم كان مكلّفا بذبح ابنه؟

من الأسئلة المهمّة الاخرى التي تطرح نفسها في هذا البحث ، والتي تثير التساؤل في أوساط المفسّرين ، هي : هل أنّ إبراهيم كان حقّا مكلّفا بذبح ابنه أم أنّه كان مكلّفا بتنفيذ مقدّمات الذبح؟

فإن كان مكلّفا بالذبح ، فكيف ينسخ هذا الحكم الإلهي قبل تنفيذ عمليّة الذبح ، في حين أنّ النسخ قبل العمل غير جائز ، وهذا المعنى ثابت في علم (اصول الفقه).

وإن كان مكلّفا بتنفيذ مقدّمات عملية الذبح ، فهذا لا يعتبر فخرا له. وما قيل من أنّ أهميّة المسألة نشأت من أنّ إبراهيم بعد تنفيذه لهذا الأمر وتهيئة مقدّماته كان ينتظر نزول أمر بشأن الذبح وكان هذا هو الامتحان الكبير له ـ فهو كلام غير جدير بالردّ.

باعتقادنا ، أنّ التقوّلات هذه ناشئة عن عدم التفريق بين الأوامر الامتحانية وغير الامتحانية ، فالأمر الصادر إلى إبراهيم هو أمر امتحاني ، وكما هو معروف فإنّ الأوامر الامتحانية لا تتعلّق فيها الإرادة الحقيقيّة بطبيعة العمل ، وإنّما الهدف

٣٧١

منها توضيح مقدار الاستعداد الموجود عند الإنسان الممتحن بالنسبة إلى طاعته للأوامر؟ كما أنّ الشخص الممتحن ليس له اطلاع بخفايا الأمور. وبهذا الشكل فإنّ عملية النسخ لم تحصل هنا حتّى تناقش قضيّة صحّتها ووقوعها قبل العمل.

مخاطبة الباريعزوجل عبده إبراهيم بعد الحادثة( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) إنّما جاءت بسبب إثبات مقدرته على ذبح ابنه العزيز ، واستعداده روحيّا لتنفيذ هذا الأمر ، ونجاحه في هذا الامتحان.

٣ ـ كيف يمكن أن تكون رؤيا إبراهيم حجّة؟

بشأن (الرؤيا) هناك كلام كثير ، ورد جزء يسير منه في تفسير سورة يوسف بعد الآية الرابعة.

لا بدّ هنا من الالتفات إلى أمر وهو : كيف اعتبر إبراهيم منامه حجّة ، واتّخذه معيارا لعمله؟

في الجواب على هذا السؤال ، يقال : إنّ رؤيا الأنبياء لا يمكن أن تكون رؤيا شيطانية ، وإنّها ليست ناشئة عن فعّالية قوّة وهمية ، وإنّما هي جانب من نظام النبوّة والوحي.

وبتعبير آخر : إنّ ارتباط الأنبياء مع الوحي يكون أحيانا بشكل إلقاء في القلب.

وأحيانا عن طريق مشاهدة الوحي.

وأحيانا عن طريق سماع أمواج صوتية ، بعثت بأمر من الله.

وأحيانا عن طريق المنام.

وبهذا الشكل لا يمكن وقوع أي خطأ أو اشتباه في رؤيتهم ، والذي يشاهدونه في منامهم هو كالذي يشاهدونه في يقظتهم.

وقيل : إنّ إبراهيم أمر عن طريق الوحي أثناء يقظته بأن ينفّذ ما يراه بشأن الذبح في المنام.

٣٧٢

وقيل أيضا : إنّ القرائن المختلفة التي كانت في هذا المنام ، ومنها تكراره ثلاث ليال متتالية ، أوجد عنده علما ويقينا بأنّ ما شاهده في المنام هو تكليف إلهي وليس أمرا آخر.

على أيّة حال ، يمكن أن تكون كلّ هذه التفاسير صحيحة ، ولا يوجد تناقض بينها ، كما أنّها لا تتعارض وظواهر آيات القرآن الكريم.

٤ ـ عدم تأثّر روح إبراهيم الكبيرة بوساوس الشيطان :

لأنّ إمتحان إبراهيم كان من أكبر الامتحانات على طول التاريخ ، إذ كان الهدف منه إخلاء قلبه في أيّ حبّ لغير الله ، وجعله متنوّرا ـ فقط ـ بعشق وحبّ الله ، فقد عمد الشيطان ـ كما جاء في بعض الروايات ـ إلى تكريس كلّ طاقاته لعمل شيء ما يحول دون خروج إبراهيم منتصرا من الامتحان.

فأحيانا كان يذهب إلى زوجته (هاجر) ويقول لها : أتعلمين بماذا يفكّر إبراهيم؟ إنّه يفكّر بذبح ولده إسماعيل اليوم!

فكانت تجيبه هاجر : اذهب ولا تتحدّث بأمر محال ، فإنّه أرحم من أن يقتل ولده ، فهل يمكن العثور في هذه الدنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟

الشيطان هنا يواصل وساوسه ، ويقول : إنّه يزعم بأنّ الله أمره بذلك.

فتجيبه هاجر : إذا كان الله قد أمره بذلك فعليه أن يطيع أوامر الله ، وليس هناك طريق آخر سوى الرضى والتسليم لأمر الله.

وأحيانا كان يذهب صوب (الولد) ليوسوس في قلبه ، لكنّه فشل أيضا إذ لم يحصل على أيّة نتيجة لأنّ إسماعيل كان كلّه قطعة من الرضى والتسليم لذلك الأمر.

وأخيرا اتّجه نحو الأب ، وقال له : يا إبراهيم إنّ المنام الذي رأيته هو منام شيطاني! لا تطع الشيطان!

٣٧٣

فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان والنبوّة ، وصاح به : ابتعد من هنا يا عدوّ الله(١) .

وورد في حديث آخر أنّ إبراهيم جاء في البداية إلى (المشعر الحرام) ليذبح ابنه هناك ، ولكن الشيطان تبعه ، فترك المحلّ وذهب إلى مكان (الجمرة الاولى) فتبعه الشيطان أيضا ، فرماه إبراهيم بسبع قطع من الحجارة ، وعند وصوله إلى (الجمرة الثانية) شاهد الشيطان أمامه أيضا فرماه بسبع قطع اخرى من الحجارة ، وحالما وصل إلى جمرة العقبة وشاهد الشيطان ثالثة رماه بسبع اخرى ، وبهذا جعل الشيطان ييأس منه إلى الأبد(٢) .

من هنا يتّضح أنّ وساوس الشياطين أثناء أداء الامتحان الكبير يتعدّد أشكالها ، إذ أنّها تعترض طريق الإنسان من عدّة جهات وتتلوّن بعدّة ألوان ، فلذا يجب على المؤمنين أن يكونوا كإبراهيم قادرين على تشخيص الشيطان ومعرفته بسرعة مهما كان متسترا بشكل من الأشكال ، وإغلاق كلّ طريق يحتمل أن يرد منه ورميه بالحجارة ، فما أعظم هذا الدرس!!

٥ ـ فلسفة التكبيرات في (منى):

وكما هو معروف فإنّ من الأعمال الواردة في الروايات الإسلامية بشأن عيد الأضحى ، هي التكبيرات الخاصّة التي يردّدها المسلمون بعد الصلاة ، سواء كانوا من المشاركين في مراسم الحجّ بمنى ، أو ممّن لم يشارك فيها من المسلمين في سائر بقاع الأرض. (غاية الأمر انّ الحجّاج في منى يكبّرون بعده صلاة أوّلها بعد صلاة الظهر من يوم العيد ، وفي المناطق الاخرى يكبّر المسلمون هذه التكبيرات بعد ١٠ صلوات).

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، المجلّد ٩ ، الصفحة ٣٢٦ ، في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.

(٢) تفسير (أبو الفتوح الرازي) المجلّد (٩) الصفحة (٣٢٦) في ذيل الآيات الخاصّة بالبحث.

٣٧٤

وكيفيّة هذه التكبيرات هي : (الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلّا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا). فعند ما نقارن بين هذا الأمر والحديث الذي ذكرناه سابقا ، تتّضح حقيقة هذه التكبيرات ، وهي أنّها مجموع تكبيرات جبرئيل وإسماعيل ووالده إبراهيم ، وشيء أضيف إليه.

وبعبارة اخرى فإنّ هذه العبارات تحيي في الأذهان خاطرة انتصار إبراهيم وابنه إسماعيل في الامتحان الكبير ، وتعطي العبر لكلّ المسلمين ، سواء كانوا في منى أو في غيرها.

وقد اتّضح من الروايات الإسلامية أنّ سبب تسمية أرض (منى) بهذا الاسم ، إنّما يعود إلى أنّ إبراهيم عند ما وصل إلى هذه الأرض ، بعد ما اجتاز ـ بنجاح ـ الامتحان الصعب ، نزل عليه جبرئيل وقال له : اطلب ما شئت من ربّ العالمين ، فتمنّى من الله أن يأمره بذبح كبش فدية عن ابنه إسماعيل ، وقد تحقّقت أمنيته هذه(١) .

٦ ـ الحجّ عبادة مهمّة تبني الإنسان :

السفر للحجّ ـ في الحقيقة ـ هو سفر عظيم ، إذ أنّه سفر إلهي ، وساحة واسعة لبناء النفس والجهاد الأكبر.

مراسم الحجّ توضّح ـ في الواقع ـ عبادة ممزوجة ـ بصورة عميقة ـ بخاطرات جهاد إبراهيم وابنه إسماعيل وزوجته هاجر ، فلو أغفلنا عن هذه النقطة أثناء مطالعتنا الأمور الخاصّة بأسرار الحجّ ، فإنّ الكثير من مراسمه ستبدو لنا كألغاز ، نعم إنّ مفتاح حلّ هذه الألغاز هو الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الامتزاج العميق.

فعند ما نأتي إلى مكان ذبح الأضاحي في أرضي (منى) نتعجّب لأيّ شيء تذبح هذه الأضاحي؟ فهل أنّ ذبح الحيوان يمكن أنّ يكون حلقة من مجموعة حلقات

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٢٠ ، الحديث ٦٨.

٣٧٥

العبادة؟

إلّا أنّنا عند ما نتذكّر إيثار إبراهيمعليه‌السلام الذي أراد ذبح أعزّ أعزّائه وأطيب ثمار عمره (إسماعيل) في تلك الأرض في سبيل الله ، العملية التي غدت سنّة فيما بعد وبعنوان ذبح الأضاحي في منى ، ندرك فلسفة هذا العمل.

فالذبح إشارة إلى اجتياز كلّ شيء في سبيل التوجّه إلى الله ، وهو مظهر لإخلاء القلب من كلّ شيء عدا ذكر الله ، ويمكن استمداد التربية الكافية من هذه المناسك ، إذا تجسّد لنا مشهد ذبح إسماعيل ، ومعنويات الأب وابنه إسماعيل أثناء عملية الذبح ، وهذا المشهد يجعل معنويات الإنسان تسطع بأنوارها(١) .

أمّا أثناء توجّهنا إلى رمي الجمرات (وهي ثلاثة أعمدة مبنية من الحجر يرميها الحجّاج أثناء تأديتهم لمراسم الحجّ ، وفي كلّ مرّة يرمون سبعة أحجار عليها وفق مراسم خاصّة) فيتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي : ماذا يعني رمي هذا المقدار من قطع الحجارة على عمود من الحجر لا روح فيه؟ وأي مشكلة سيحلّ هذا العمل؟

إلّا أنّنا عند ما نتذكّر أنّها تمثّل جهاد الموحّد إبراهيم ضدّ وساوس الشيطان الذي ظهر له ثلاث مرّات في الطريق ، وهو مصمّم على أن يثني إبراهيم عن عزمه في ساحة الجهاد الأكبر ، وكلّما ظهر له رماه بالحجر ، فإنّ محتوى هذه الشعيرة يتوضّح أكثر.

فمعنى هذه الشعيرة هو أنّكم طوال فترة عمركم تعيشون في ساحة الجهاد الأكبر ضدّ وساوس الشيطان ، وإن لم ترموا هذا الشيطان وتبعدوه عنكم فلن تنتصروا أبدا.

وإن كنتم تنتظرون أن يشملكم الله بلطفه ورحمته ، كما شمل إبراهيم بذلك

__________________

(١) ممّا يوسف له أنّ مراسم ذبح الأضاحي في عصرنا الحالي لا تتمّ بالشكل المطلوب ، ولذا على علماء الإسلام أن يبذلوا الجهد لإنقاذ هذه المراسم العظيمة ، وبهذا الشأن وبخصوص فلسفة الحجّ أوردنا بحوثا مفصّلة في ذيل الآية (٣٨) من سورة الحجّ.

٣٧٦

وبعث إليه بالسلام وأبقى رسالته وذكراه خالدتين في العالمين ، عليكم أن تسيروا على خطاه.

وفور ما نصل إلى الصفا والمروة ونشاهد أفواجا أفواجا من الناس تنساب من هذا التل الصغير إلى ذلك التل الأصغر ، وتعود مرّة اخرى من هنا إلى هناك ، وتكرّر هذا العمل من دون أن تحصل على شيء ، وأحيانا تهرول وأحيانا اخرى تمشي ، ومن الطبيعي أن يثير هذا العمل العجب ، فما ذا يفعل هؤلاء هنا ، وما هي المفاهيم التي يحملها هذا العمل؟

إلّا أنّنا لو رجعنا إلى الوراء ، واستذكرنا الجهود التي بذلتها تلك المرأة المؤمنة (هاجر) لإنقاذ حياة ابنها الرضيع (إسماعيل) في تلك الأرض القاحلة والحارقة ، وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى أعطاها ما تريد بعد جهدها وسعيها ، عند ما فجّر عين زمزم من تحت رجلي ولدها الرضيع ، فجأة ترجع بنا عجلة الزمن إلى الوراء ، ويكشف لنا عن الحجب ، ونشاهد أنفسنا في تلك اللحظة واقفين قرب هاجرعليها‌السلام ، فنشترك معها في السعي والجهد ، لأنّ الذي لا يسعى ولا يبذل الجهد في سبيل الله ، لا يصل إلى نتيجة.

وبسهولة نستطيع تلخيص ما قلناه ، وهو أنّ الحجّ يجب أن يقترن بتعلّم هذه الرموز ، وتتجسّد ذكريات إبراهيم وابنه وزوجته خطوة خطوة ، كي يدرك الحاجّ فلسفة الحجّ وتشعّ أنوار آثاره الأخلاقية العميقة في نفوس الحجيج ، فبدون تلك المعاني والدروس يكون الحجّ مجرّد قشر ليس أكثر.

* * *

٣٧٧

الآيات

( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) )

التّفسير

إبراهيم ذلك العبد المؤمن :

الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصّة إبراهيم وابنه وتكملها ، وفي الحقيقة إنّها دليل يوضّح ما مضى ، وفي نفس الوقت هي نتيجة له.

في البداية تصف الآية القرآنية الكريمة إبراهيم( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) .

وفي الواقع إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل ، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كلّ وجوده وكيانه وحتّى ابنه العزيز البارّ ، في صحن الإخلاص فداء لربّه سبحانه وتعالى.

نعم كلّ هذه هي من ثمار الإيمان ، وتجلّياته ، وما أعجب هذه الثمار

٣٧٨

والتجلّيات!!

هذا التعبير يعطي أبعادا أوسع وأعمّ لما جرى لإبراهيم وابنه ، ويخرج هذه المجريات من بعدها الشخصي والخاص ، ويوضّح أنّه أينما كان الإيمان كان هناك إيثار وحبّ وفداء وعفو ، وأنّ إبراهيم كان يختار كلّ ما يختاره الله ويريد كلّ ما أراده الله ، وكلّ مؤمن يستطيع أن يكون كذلك.

ثمّ تتناول هذه الآيات نعمة اخرى من النعم التي وهبها الله تعالى لإبراهيم( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

فبالانتباه إلى الآية( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) التي ذكرناها في مقدّمة هذه الأحداث ، يتّضح بصورة جيّدة أنّ هاتين البشارتين تتعلّقان بولدين ، وبما أنّ البشرى الأخيرة وفق ما جاء في الآية تخصّ (إسحاق) ، فإنّ (الغلام الحليم) بالتأكيد هو (إسماعيل) فالذين يصرّون على أنّ الذبيح هو (إسحاق) عليهم أن يعرفوا أنّهم اعتبروا الآيتين تشيران إلى موضوع واحد مع هذا التفاوت ، وهو أنّ الآية الاولى بشّرت بالولد والآية الثانية بشّرت بالنبوّة ، ولكن هذا المعنى مستبعد جدّا ، والآيات المذكورة أعلاه تبيّن بوضوح أنّ البشارتين تتعلّقان بولدين.

على أيّة حال فإنّ بشرى النبوّة تكشف عن أنّ إسحاق يجب أن يبقى حيّا وأن يؤدّي تكاليف ومهمّة النبوّة ، وهذا لا يتلاءم مع قضيّة الذبح.

مرّة اخرى سنتطرّق إلى عظمة مرتبة الصالحين ، إذ وصفت الآية الكريمة إسحاق بأنّه (يجب أن يصبح نبيّا وأن يكون من الصالحين) فكم هي رفيعة مرتبة الصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟

الآية الأخيرة تتحدّث عن البركة التي أنزلها الباري جلّ وعلا على إبراهيم وابنه إسحاق( وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ ) .

ولكن البركة في أي شيء؟ لم يرد بهذا الشأن أي توضيح ، وكما هو معلوم فإنّ

٣٧٩

الفعل عند ما يأتي بصورة مطلقة ومن دون أي قيد أو شرط ، فإنّه يعطي معنى عاما ، فبهذا تكون البركة شاملة لكلّ شيء ، في الحياة ، في الأجيال القادمة ، في التأريخ ، والرسالة ، وفي كلّ شيء.

فكلمة (بركة) مشتقّة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير ، وعند ما يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير).

وتدريجيّا أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لمّا كان خيره باقيا وثابتا مبارك.

ومن هنا يتّضح أنّ الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهيّة على إبراهيم وإسحاق وعلى اسرتهم ، وإحدى البركات التي أنعم الله بها على إبراهيم وإسحاق أن جعل كلّ أنبياء بني إسرائيل من ذريّة إسحاق ، في حين أنّ نبي الإسلام العظيم هو من ذريّة إسماعيل.

وهذه البركات لا تشمل كلّ أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته ، وإنّما تشمل ـ فقط ـ المؤمنين والمحسنين منهم ، إذ تقول الآية في آخرها( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) .

كلمة (محسن) جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله ، وهل يتصوّر أنّ هناك إحسان وعمل حسن أرفع من هذا؟

و (ظالم) جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب.

وعبارة (لنفسه) إشارة إلى الكفر وارتكاب الذنوب يعدّ أوّلا ظلم للنفس ، الظلم الواضح والمكشوف.

فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء ، وتقول لهم : إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للافتخار ، إن لم ترافقها

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581