الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168947 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه»(١) ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر «عبد الرحمن بن ملجم» لم يقل سوى «فزت وربّ الكعبة».

خلاصة القول : فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع ، إنسانا شجاعا شهما هادفا ، تمتلئ حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.

٣ ـ الدلائل العقليّة على المعاد :

فضلا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد ، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص ، فإنّ هناك أدلّة عقليّة واضحة أيضا على هذه المسألة ، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر :

أ ـ برهان الحكمة :

إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر ، فسيكون فارغا وبلا معنى تماما ، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا.

فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرّد نزولهم من بطون امّهاتهم ويموتون ، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر ، فسنواجه نفس الاضطراب والحيرة ، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاما أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كلّ هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة ، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر نسعى مدّة لتحصيل العلم والمعرفة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٥ صفحة ٥٢.

٢٦١

وحينما نبلغ درجة منه بعد اشتعال الرأس شيبا يستقبلنا الموت.

ثمّ لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والاستيقاظ المتكرّر يوميا ، واستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين ، لماذا؟

فهل حقّا إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة ، وكلّ هذه المقدّمات والمؤخّرات وكلّ هؤلاء الأساتذة والمعلّمين والمربّين وكلّ هذه المكتبات الضخمة وكلّ هذه الأمور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات ، كلّ ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟

هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة ، ويقدم بعضهم على الانتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية ، بل قد يفتخر به.

وكيف يمكن لمن يؤمن بالله وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون ارتباطها بحياة اخرى ذات قيمة وذات شأن؟

يقول تعالى :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) (١) . أيّ أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله ، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.

نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوما ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عند ما تعتبر هذه : «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم ، وجامعة للاستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم ، تماما كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في كلماته العميقة المعنى «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عاقبة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها ، مسجد أحبّاء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ،

__________________

(١) المؤمنون ، ١١٥.

٢٦٢

ومتجر أولياء الله»(١) .

خلاصة القول ، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الاعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) (٢) .

ب ـ برهان العدالة :

التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق ، يستنتج منه أنّ كلّ شيء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري ، يحكم نظام عادل دقيق ، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتّى الموت ، حركات القلب ، دوران الدم ، أجفان العين ، وكلّ جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق ، الذي يحكم العالم بأسره «وبالعدل قامت السموات والأرض»(٣) فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!

صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والإختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظلّ تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه ، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فما ذا سيكون؟!

ولو أنّ الظالمين الضالّين المضلّين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطئ فما ذا يقتضي العدل الإلهي؟! وصحيح أنّ بعضا من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم ـ على الأقل قسم منهم ـ ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحقّ. كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيّبة في الدنيا ، فهل من

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار كلمة ١٣١.

(٢) الواقعة ، ٦٢.

(٣) تفسير الصافي ، المجلّد الخامس ، صفحة ١٠٧.

٢٦٣

الممكن أن تكون كلا المجموعتين في كفّة عدالة الله سواء؟!

ويقول القرآن الكريم :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(١) وفي موضع آخر يقول تعالى :( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .(٢)

على كلّ حال ، فلا شكّ في تفاوت الناس وإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى ، كما أنّ محاكم «القصاص والثواب الدنيوية» و «محكمة الوجدان» و «الآثار الوضعية للذنوب» كلّ ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو ، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامّة تراعي بدقّة الخير أو الشرّ في حساباتها ، وإلّا فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبدا.

وبناء على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساو بالضرورة لوجود المعاد والقيامة ، القرآن الكريم يقول :( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(٣)

ويقول :( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .(٤)

ج ـ برهان الهدف :

على خلاف ما يتوهّمه المادّيون ، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفا من خلق الإنسان ، والذي يعبّر عنه الفلاسفة بـ «التكامل» وفي لسان القرآن والحديث فهو «القرب إلى الله» أو «العبادة»( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .(٥)

فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكلّ شيء؟!

__________________

(١) القلم ، ٣٥ و ٣٦.

(٢) ص ، ٢٨.

(٣) الأنبياء ، ٤٧.

(٤) يونس ، ٥٤.

(٥) الذاريات ، ٥٦.

٢٦٤

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمرّ فيه سير الإنسان التكاملي ، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم ، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمرّ سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.

الخلاصة : أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد ، وإذا قطعنا الارتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت ، فكلّ شيء سيتحوّل إلى ألغاز ، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.

د ـ برهان نفي الاختلاف :

لا شكّ أنّنا جميعا نتعذّب كثيرا من الاختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم ، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الاختلافات ، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الاختلافات هي من طبيعة الحياة. ويستفاد من عدّة دلائل بأنّه حتّى بعد قيام المهديعليه‌السلام ـ وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الاختلافات ـ ستبقى بعض الاختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ ، وكما يقول القرآن الكريم فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على اختلافاتهم إلى قيام القيامة :( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(١)

ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يقود كلّ شيء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الاختلافات حتما ، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادّة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها ، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والانكشاف ، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية ، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الاختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تامّ.

الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعدّدة من القرآن الكريم على هذه المسألة ، يقول تعالى في الآية (١١٣) من سورة البقرة :( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما

__________________

(١) المائدة ، ١٤.

٢٦٥

كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وفي الآيات (٣٨) و (٣٩) من سورة النحل يقول تعالى :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) .

٤ ـ القرآن ومسألة المعاد :

تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية ، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختصّت ببحث مسألة المعاد ، بعد الكثرة الكاثرة التي اختصّت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارة تكون بشكل استدلالات منطقية ، واخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق ـ كالاستدلالات المنطقية ـ ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

في القسم الأوّل ، أي الاستدلالات المنطقية ، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيرا على موضوع إمكانية المعاد ، إذ أنّ منكري المعاد غالبا ما يتوهّمون استحالته ، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اخرى.

ففي هذا القسم ، يلج القرآن الكريم طرقا متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلّها في نقطة واحدة ، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارة يجسّد للإنسان النشأة الاولى ، وبعبارة وجيزة ومعبّرة واضحة تقول الآية :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .(١)

__________________

(١) الأعراف ، ٢٩.

٢٦٦

وتارة يجسّد حياة وموت النبات ، وبعثه الذي نراه بامّ أعيننا كلّ عام ، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماما كالنبات :( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) .(١)

وفي موضع آخر يقول تعالى :( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ) .(٢)

وحينا يطرح مسألة قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٣)

وحينا آخر يعرض عملية انبعاث الطاقة واشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته ، وجعل النار في قلب الماء فيقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ) .(٤)

وتارة يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) .(٥)

وأخيرا فإنّ القرآن تارة يدلّل على البعث بالنوم الطويل ـ النوم الذي هو قرين الموت وأخوه ، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب ـ كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين ، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول :

__________________

(١) سورة ق ، ٩ ـ ١١.

(٢) فاطر ، ٩.

(٣) الأحقاف ، ٣٣.

(٤) سورة يس ، ٨٠.

(٥) الحجّ ، ٥.

٢٦٧

( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) .(١)

تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد. علاوة على قصّة إبراهيم عليه‌السلام والطيور الأربعة (البقرة ـ ٢٦٠) وقصّة عزير (البقرة ـ ٢٥٩) وقصّة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة ـ ٧٣) ، والتي تشكّل كلّ واحدة منها نموذجا تأريخيا على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.

خلاصة القول ، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه ، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص ، حيّة ومقنعة بحيث أنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

وعلى قول البعض : فإنّ ألفا ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة المعاد ، لو جمعت وفسّرت لأصبحت وحدها كتابا ضخما.

٥ ـ المعاد الجسماني :

المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر ، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معا ، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به ، والحديث حول عودة الجسم.

جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط ، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب ، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط ، وبعد الموت يصبح الإنسان غير محتاج إليه فينزل الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.

ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم ، وهنا لا يقيّد البعض بعودة الجسم السابق ، ويقولون بأنّ الله قيّض للروح جسدا ، ولكن

__________________

(١) الكهف ، ٢١.

٢٦٨

شخصيّة الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده.

في حال أنّ المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح ترابا ويتلاشى ، يتلبّس بالحياة مرّة اخرى بأمر الله الذي يجمعه ويكسوه بالحياة ، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة.

إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّا ، بحيث يمكن القول قطعا بأنّ الذين يعتقدون باقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى اطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد ، وإلّا فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شكّ في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس ، توضّح هذه الحقيقة حيث حينما تساءل الإنسان :( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) أجابه القرآن بصراحة ووضوح :( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

إنّ كلّ تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضيّة ، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح ترابا متناثرا وضائعا في هذه الأرض؟( وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(١)

إنّهم يقولون :( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) (٢) . وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلا على الجنون أو الكذب على الله( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٣)

لهذا السبب فإنّ استدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموما تدور

__________________

(١) السجدة ، ١٠.

(٢) المؤمنون ، ٣٥.

(٣) سورة سبأ ، ٧.

٢٦٩

حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلا وشاهدا على هذا الادّعاء.

علاوة على أنّ القرآن الكريم يذكر مرارا وتكرارا بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنّة ، كلّها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضا ، وإلّا فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنّة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كلّ حال ، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر : فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساو لإنكار أصل المعاد.

علاوة على هذه الأدلّة النقلية ، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيرا ، لا شكّ أنّ الإعتقاد بالمعاد الجسماني سيثير أسئلة وإشكالات كثيرة ، منها شبهة الآكل والمأكول والتي ردّ عليها العلماء الإسلاميون والتي أوردنا تفصيلا عنها بشكل مختصر في المجلّد الثاني عند تفسير الآية (٢٦٠) من سورة البقرة.

٦ ـ الجنّة والنار

الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماما ولكنّه بشكل أكمل وأجمل ، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة ، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضا غير كاملة.

فوفقا لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر ، القرآن الكريم يقول :( فَلا تَعْلَمُ

٢٧٠

نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .(١)

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضا تتفاوت تماما مع الأنظمة في هذا العالم ، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات ، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتّى الجلد( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢) ( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٣) .

على كلّ حال ، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة ، وعادة فإنّ اللغة التي نتحدّث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك ، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقّن هو أنّ الجنّة هي مركز كلّ النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية ، وجهنّم هي مركز لكلّ أنواع العذاب الأليم المادّي والمعنوي أيضا.

أمّا بخصوص تفصيل ذلك فإنّ القرآن الكريم أورد جزئيات نحن نؤمن بها ، ولكن تفصيلها بدقّة غير ممكن بدون الرؤية والمعاينة. ولنا بحث حول هذا الخصوص في تفسير الآية (٣٣) من سورة آل عمران.

إلهي : آمنّا في الفزع الأكبر.

إلهي : لا تحاسبنا بعدلك ولكن حاسبنا بلطفك وعدلك ، فليس لدينا من الأعمال ما يوجب رضاك.

اللهم افعل بنا ما يرضيك عنّا ويجعلنا من الناجين آمين ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة يس

__________________

(١) السجدة ، ١٧.

(٢) سورة يس ـ ٦٥.

(٣) سورة فصلت ، ٢١.

٢٧١
٢٧٢

سورة

الصّافات

مكيّة

وعدد آياتها مائة واثنان وثمانون آية

٢٧٣
٢٧٤

سورة الصّافات

محتوى سورة الصّافات :

هذه السورة بحكم كونها من السور المكيّة ، فإنّها تمتلك كافّة خصائص السور المكيّة ، فهي تسلّط الأضواء على اصول المعارف والعقائد الإسلامية الخاصّة بالمبدأ والمعاد. وتتوعّد المشركين بأشدّ العقاب وذلك من خلال العبارات الحازمة والآيات القصيرة العنيفة الوقع ، وتوضّح ـ بالأدلّة القاطعة ـ بطلان عقائدهم.

بصورة عامّة يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام :

القسم الأوّل : يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن ، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

القسم الثّاني : يتحدّث عن الكافرين ، وإنكارهم للنبوّة والمعاد ، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة ، كما يستعرض الحوار الذي يدور بينهم في ذلك اليوم ، ويحملهم جميعا الذنب ، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم ، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنّة إضافة إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

القسم الثّالث : يشرح بصورة مختصرة تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) وبصورة ذات تأثير قوي ، كما يتحدّث هذا القسم بشكل مفصّل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته ، والهدف الرئيسي من وراء سرد قصص الأنبياء ـ مع ذكر بعض الشواهد العينية من تأريخهم ـ هو تجسيد حوادث تلك القصص

٢٧٥

وتصويرها بشكل محسوس وملموس.

القسم الرّابع : يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن اعتباره من أسوأ صور الشرك ، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين الله سبحانه وتعالى والجنّ والملائكة ، ويبيّن بطلان مثل هذه العقائد التافهة بعبارات قصيرة.

أمّا القسم الخامس والأخير : فيتناول في عدّة آيات قصار انتصار جيوش الحقّ على جيوش الكفر والشرك والنفاق ، وابتلاءهم ـ أي الكافرين والمشركين والمنافقين ـ بالعذاب الإلهي ، وتنزّه آيات هذا القسم الله سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه ، ثمّ تنتهي السورة بالحمد والثناء على الباريعزوجل .

فضيلة تلاوة سورة الصافات :

في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات اعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد كلّ جنّ وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرىء من الشرك ، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات في كلّ جمعة لم يزل محفوظا من كلّ آفة ، مدفوعا عنه كلّ بليّة في حياته الدنيا ، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق ، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ، ولا جبّار عنيد ، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله شهيدا ، وأماته شهيدا ، وأدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة»(٢) .

الثواب العظيم الذي يناله من يتلو سورة الصافات ، جاء نتيجة لما تحويه هذه

__________________

(١) مجمع البيان ، أوّل تفسير سورة الصافات.

(٢) تفسير مجمع البيان أوّل تفسير سورة الصافات ـ لقد ورد هذا الحديث في تفسير البرهان نقلا عن الشيخ الصدوق ، رحمة الله مع اختلاف بسيط.

٢٧٦

السورة المباركة ، فنحن ندرك أنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر ، ومن ثمّ الإعتقاد ، ومن بعد العمل. ومن دون شكّ فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة ، سيحفظ من شرّ الشياطين ، ويتطهّر من الشرك ، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي ، ويمارس أعمالا صالحة ، ويتّعظ من القصص الواقعية للأنبياء والأقوام الماضية ، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

وممّا يذكر فإنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاولى فيها.

* * *

٢٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) )

التّفسير

الملائكة المستعدّة لتنفيذ المهام :

هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم ، القسم المليء بالمعاني والمثير للتفكّر ، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في جوانب مختلفة من هذا العالم ، ويجعله متهيّئا لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ الله تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين ، وليس بحاجة إلى القسم ، إضافة إلى أنّ قسمه إن كان للمؤمنين ، فإنّهم مؤمنون به من دون قسم ، وإن كان للناكرين ، فإنّ أولئك لا يعتقدون بالقسم الإلهي.

ونلفت الانتباه إلى نقطتين لحلّ مشكلة القسم في كلّ آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاولى : أنّ القسم يأتي دائما بالنسبة إلى امور مهمّة وذات قيمة ، ولذلك فإنّ

٢٧٨

أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهميّة الأشياء المقسم بها. وهذا الأمر يدعو إلى التفكّر أكثر بالشيء المقسم به ، التفكّر الذي يكشف للإنسان عن حقائق جديدة.

الثانية : أنّ القسم يأتي للتأكيد ، وللدلالة على أنّ الأمور التي يقسم من أجلها هي امور جديّة ومؤكّدة.

وعلاوة على ذلك أنّ المتحدّث لو تحدّث بصورة حازمة ومؤكّدة ، فإنّ تأثير كلامه من الناحية النفسية سيكون أوقع على قلب المستمع ، كما أنّه يقوّي المؤمنين ويضعّف الكافرين.

على كلّ حال ، فإنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها الله تعالى(١) .

الأولى :( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) .

الثانية :( فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ) .

الثالثة :( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) .

فمن هي تلك الطوائف الثلاث؟ وعلى من أطلقت تلك الصفات؟ وما الهدف النهائي منها؟

المفسّرون قالوا الكثير بهذا الشأن ، إلّا أنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة ، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن ارتكاب المعاصي والذنوب ، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم. أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيرا طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي

__________________

(١) هذه العبارات الثلاث من جهة هي ثلاثة أقسام ، ومن جهة اخرى هي قسم واحد له ثلاث صفات.

٢٧٩

على الرسل(١) .

وممّا يلفت النظر أنّ «الصافات» هي جمع كلمة «صافّة» وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضا ، وتشير إلى مجموعة مصطفّة ، إذن فـ «الصافات» تعني الصفوف المتعدّدة(٢) .

وأمّا كلمة «الزاجرات» فإنّها مأخوذة من (الزجر) ويعني الصرف عن الشيء بالتخويف والصراخ ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كلّ منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

و «التاليات» من (التلاوة) وهي جمع كلمة (تال) وتعني طوائف مهمّتها تلاوة شيء ما(٣) .

ونظرا لكثرة واتّساع مفاهيم هذه الألفاظ ، فليس من العجب أن يطرح المفسّرون تفاسير مختلفة لها دون أن يناقض بعضها الآخر ، بل من الممكن أيضا أن تجتمع لتوضيح مفهوم هذه الآيات ، فمثلا المقصود من كلمة «الصافات» هو صفوف الملائكة المستعدّة لتنفيذ الأوامر الإلهيّة ، في عالم الخلق ، أو الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء في عالم التشريع ، وكذلك صفوف المقاتلين

__________________

(١) بالطبع وردت احتمالات اخرى في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ، «منها» ما يشير إلى صفوف جند الإسلام في ساحات الجهاد ، الذين يصرخون بالأعداء ويزجرونهم عن الاعتداء على حرمة الإسلام والقرآن ، والذين يتلون كتاب الله دائما ومن دون أي انقطاع ، وينوّرون قلوبهم وأرواحهم بنور تلاوته ، ومنها : أنّ بعض هذه الأوصاف الثلاثة هو إشارة إلى ملائكة اصطفّت بصفوف منظمة ، والقسم الآخر يشير إلى آيات القرآن التي تنهى الناس عن ارتكاب القبائح ، والقسم الثالث يشير إلى المؤمنين الذين يتلون القرآن في أوقات الصلاة وفي غيرها من الأوقات. ويستبعد الفصل بين هذه الأوصاف ، لأنّها معطوفة على بعضها البعض بحرف (الفاء) ، وهذا يوضّح أنّها أوصاف لطائفة واحدة. وقد ذكر العلّامة «الطباطبائي» في تفسيره الميزان هذا الاحتمال ، في أنّ الأوصاف الثلاثة هي تطلق على ملائكة مكلّفة بتبليغ الوحي الإلهي ، والاصطفاف في طريق الوحي لتوديعه ، وزجر الشياطين التي تقف في طريقه ، وفي النهاية تلاوة آيات الله على الأنبياء.

(٢) ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث «الصافات والزاجرات والتاليات» لأنّ موصوفها الجماعة ، وهي مؤنّث لفظي.

(٣) ممّا يذكر أنّ بعض اللغويين قالوا بأنّ جمع كلمة (تال) هو (تاليات) وجمع (تالية) (توال).

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

عنها.

وفي هذا الجزء من القصّة التي استعرضتها التوراة يمكن للمتتبّع ملاحظة ما يلي :

١ ـ لم يأت أحد متظلّما وشاكيا إلى داود ، وإنّما جاءه أحد أنبياء بني إسرائيل ، الذي هو مستشار داود في نفس الوقت ، وذكر له قصّة يستهدف منها وعظ داود ، والقصّة هي بشأن شخصين الأوّل غني والثاني فقير ، الغني يملك أعدادا كبيرة من الغنم والبقر ، أمّا الفقير فلا يملك سوى نعجة واحدة صغيرة ، والغني أخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأها لضيفه.

إلى هذا المقدار من القصّة لا يوجد أي تطرّق لتسوّر جدران المحراب وفزع داود وتخاصم الشخصين عنده ، إضافة إلى طلب العفو والمغفرة.

٢ ـ داودعليه‌السلام اعتبر الغني طاغية ويستحقّ القتل لماذا يقتل من أجل نعجة واحدة؟!

٣ ـ لماذا تسرّع داودعليه‌السلام في إصدار الحكم ، إذ قال : يجب على الغني أن يردّ النعجة بأربعة أضعاف؟

٤ ـ داود يعترف بذنبه مع زوجة أوريّا.

٥ ـ لماذا يعفو اللهعزوجل عنه وبهذه السهولة؟!

٦ ـ الله سبحانه وتعالى يذكر عقوبات عجيبة ستطال داود من الأفضل عدم ذكرها هنا.

٧ ـ هذه المرأة (مع ماضيها المشهور) هي امّ سليمانعليه‌السلام ! رغم أنّ نقل مثل هذه القصص مؤلم حقّا ، ولكن ما العمل ، إذ أنّ بعض الجهلة غير المطّلعين من المتأثّرين بالروايات الإسرائيليّة ، أساؤوا إلى تفسير القرآن الكريم الطاهر ، بإقحامهم مثل هذه الروايات فيه ، ولا يوجد أمامنا سبيل إلّا ذكر أجزاء من تلك القصص الفاضحة لردّها.

٤٨١

والآن نسأل :

١ ـ هل يمكن اتّهام نبي مدحه الباريعزوجل في قرآنه الكريم بعشر صفات عظيمة ، ودعا نبيّنا الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يستلهم من سيرته ، هل يمكن اتّهامه بتلك التهم.

٢ ـ هل تتطابق هذه الأراجيف مع آيات القرآن التالية :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) .

٣ ـ إذا ارتكب شخص عادي ـ وليس أحد الأنبياء ـ مثل هذا العمل الإجرامي للاعتداء على زوجة ضابط وفيّ وطاهر ومؤمن ومن خلال عملية خبيثة ، بماذا سيحكم الناس عليه وما هي عقوبته؟ فالفاسق يتنزّه عن هذا العمل الشنيع ، فكيف بنبي الله داود؟

وممّا يجدر ذكره أنّ التوراة لا تعتبر داود نبيّا ، وإنّما تعتبره ملكا عادلا له مكانة مرموقة ، وأنّه مشيّد المعبد الكبير لبني إسرائيل.

٤ ـ الطريف في الأمر أنّ كتاب (مزامير داود) هو أحد كتب التوراة ، وقد جمعت فيه مناجات وأحاديث داود ، فهل يمكن درج أحاديث ومناجاة مثل هذا الإنسان في طيّات الكتب السماوية؟

٥ ـ لو طرحت هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والإدراك ، لأعترف بأنّ قصص التوراة المحرّفة حاليا ما هي إلّا خرافات ، وأنّ أعداء نهج الأنبياء أو أشخاص جهلة غير مطّلعين صاغوا مثل هذه الخرافات ، فكيف يمكن أن تكون هذه الخرافات معيارا للبحث؟

نعم فعظمة القرآن المجيد تبرز من خلال خلوّه من هذه الخرافات.

٣ ـ الأحاديث الإسلامية وقصّة داودعليه‌السلام

الرّوايات والأحاديث الإسلاميّة كذّبت بشدّة تلك القصص الخرافية والقبيحة

٤٨٢

الواردة في التوراة.

ومن جملة تلك الأحاديث ، ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقول فيه : «لا اوتي برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أوريّا إلّا جلدته حدّين حدّا للنبوّة وحدّا للإسلام»(١) .

لماذا ، لأنّ المزاعم المذكورة تتّهم من جهة إنسانا مؤمنا بارتكاب عمل محرّم ، ومن جهة اخرى تنتهك حرمة مقام النبوّة ، ومن هنا حكم الإمام بجلد من يفتري عليهعليه‌السلام مرّتين (كلّ مرّة ٨٠ سوطا).

كما ورد حديث آخر لأمير المؤمنينعليه‌السلام يعطي نفس المعنى ، جاء فيه «من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستّين»(٢) .

وفي حديث آخر نقله الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي) عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «إنّ رضا الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، ألم ينسبوا داود إلى أنّه اتّبع الطير حتّى نظر إلى امرأة أوريّا فهواها ، وأنّه قدّم زوجها أمام التابوت حتّى قتل ثمّ تزوّج بها!»(٣) .

وأخيرا ، ورد حديث في كتاب (عيون الأخبار) في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات قال الرضاعليه‌السلام لابن الجهم : «وأمّا داود فما يقول من قبلكم فيه»؟

قال : يقولون : إنّ داود كان يصلّي في محرابه إذ تصوّر له إبليس على هيئة طير أحسن ما يكون من الطيور ، فقطع داود صلاته وقام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريّا بن حيان.

فأطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريّا تغتسل؟ فلمّا نظر إليها هواها ، وكان

__________________

(١) مجمع البيان ذيل آيات البحث.

(٢) تفسير الفخر الرازي ذيل آيات البحث.

(٣) الأمالي للشيخ الصدوق طبق ما نقله نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٦.

٤٨٣

قد أخرج أوريّا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريّا أمام التابوت فقدّم فظفر أوريّا بالمشركين فصعب ذلك على داود ، فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت فقدّم فقتل أوريّا وتزوج داود بامرأته.

قال : فضرب الرضاعليه‌السلام يده على جبهته وقال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، لقد نسبتم نبيّا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ثمّ بالفاحشة ، ثمّ بالقتل».

فقال : يا ابن رسول الله ، ما كانت خطيئته؟

فقال : «ويحك إنّ داودعليه‌السلام إنّما ظنّ أنّه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه ، فبعث اللهعزوجل إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقال :( خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) فعجّل داود على المدّعى عليه فقال :( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ) ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك ، ولم يقبل على المدّعى عليه فيقول له : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه ، ألا تسمع اللهعزوجل يقول :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ ) إلى آخر الآية.

فقال : يا ابن رسول الله ، فما قصّته مع أوريّا؟

قال الرضاعليه‌السلام : «إنّ المرأة في أيّام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبدا ، فأوّل من أباح اللهعزوجل له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داودعليه‌السلام فتزوّج بامرأة أوريّا لمّا قتل وانقضت عدّتها ، فذلك الذي شقّ على الناس من قتل أوريّا»(١) .

يستفاد من هذا الحديث أنّ مسألة أوريّا كانت لها جذور حقيقيّة بسيطة ، وأنّ داود نفّذ ما جاء في الرسالة الإلهيّة ، إلّا أنّ أعداء الله من جهة ، والجهلة من جهة

__________________

(١) عيون الأخبار طبق ما نقله نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٥.

٤٨٤

اخرى ، إضافة إلى مؤلّفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائما قصص عجيبة وكاذبة من جهة ثالثة ، اختلفوا سيقانا وأغصانا وأوراقا لهذه القصّة كي ينفّروا الإنسان من داود.

فأحدهم قال : لا يمكن أن يتمّ هذا الزواج ما لم تكن هنالك مقدّمات له؟

والآخر قال : يحتمل أنّ بيت أوريّا كان مجاورا لبيت داود!

وأخيرا لكي يؤكّدوا أنّ داودعليه‌السلام شاهد زوجة (أوريّا) اصطنعوا قصّة الطير ، وفي النهاية اتّهموا أحد أنبياء الله الكبار بارتكاب مختلف أنواع الذنوب الكبيرة والمخزية ، وتناقلتها ألسنة الجهلة والبلهاء ولو لا انّها مذكورة في الكتب المعروفة لكان من الخطأ ذكرها والتعرّض لها.

وبالطبع ، فإنّ هذه الرواية لا تختلف عن حديث أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لأنّ حديثه يشير إلى أنّها قصّة كاذبة مزيّفة تنسب ارتكاب الزنا وغيرها من المحرّمات ـ نعوذ بالله ـ إلى أحد الأنبياء الكبار.

آراء المفسّرين

بعض المفسّرين ذكروا آراء اخرى لقصّة داود ، رغم أنّها لا تتناسب مع ظاهر آيات القرآن المجيد ، فإنّنا نرى من الضروري الإشارة إلى بعضها لإكمال البحث :

منها : أنّ داودعليه‌السلام كان قد قسّم ساعات يومه وفق برنامج منظّم ، ولم يكن يسمح لأحد بمراجعته إلّا في الساعات المخصّصة للمراجعة ، وفي أحد الأيّام تسوّر شخصان المحراب وقد اتّفقا على قتل داود أثناء فترة عبادته لله سبحانه وتعالى ، تسوّرا سور المحراب ، ولكن عند ما وصلا بالقرب من سور المحراب شاهدوا الجند والحرس يحيطون به من كلّ جانب ، وخوفا من أن ينكشف أمرهما ، اختلقا قضيّة كاذبة ، وادّعيا أنّهما أتيا إلى داودعليه‌السلام ليحكم بينهما ، وشرحا القصّة التي تطرّق إليها القرآن الكريم ، وقد قضى داودعليه‌السلام بينهما ، ولكون الهدف من هذه

٤٨٥

اللعبة كان قتله ، فقد غضب وصمّم على الانتقام منهما ، ولم يمض إلّا وقت قصير حتّى ندم داود على تصميمه هذا واستغفر الله(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان (وأكثر المفسّرين تبعا للروايات إنّ هؤلاء الخصم الداخلين على داودعليه‌السلام كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه ، وستعرف حال الروايات لكن خصوصيات القصّة كتسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه ، وكذا تنبّهه بأنّه إنّما كان فتنة من الله له وليس واقعة عادية ، وقوله تعالى بعد :( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) الظاهر في أنّ الله ابتلاه بما ابتلي لينبّهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس ، كلّ ذلك يؤيّد كونهم من الملائكة وقد تمثّلوا في صورة رجال من الإنس.

(والمقصود من التمثّل هو عدم وجود هؤلاء الأشخاص واقعا وفي الخارج ، بل أنّ ذلك انعكس في ذهن داود وفي إدراكه).

وعلى هذا فالواقعة تمثّل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة واحدة ، يسألها آخر له تسع وتسعون نعجة ، وسألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة : (لقد ظلمك) إلخ وكان قولهعليه‌السلام ـ لو كان قضاء منجزا ـ حكما منه في ظرف التمثّل ، كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال وحكم فيهم بما حكم ، ومن المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثّل ، كما لا تكليف في عالم الرؤيا وإنّما التكليف في عالمنا المشهود ، وهو عالم المادّة ، ولم تقع الواقعة فيه ، ولا كان هناك متخاصمان ولا نعجة ولا نعاج إلّا في ظرف التمثّل ، فكانت خطيئة داودعليه‌السلام في هذا الظرف من التمثّل ولا تكليف هناك ، كخطيئة آدمعليه‌السلام في الجنّة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض وتشريع الشرائع وجعل التكاليف ، واستغفاره وتوبته ممّا صدر منه كاستغفار آدم وتوبته ممّا صدر منه ، وقد صرّح الله بخلافته في

__________________

(١) تفسير (الفخر الرازي) و (روح المعاني) ذكرا هذا الأمر كتوجيه وإرشاد ، فيما وافق (المراغي) في تفسيره على هذا الأمر.

٤٨٦

كلامه كما صرّح بخلافة آدمعليه‌السلام في كلامه)(١) .

ولكن من المسلّم به أنّ ظاهر الآيات يوضّح أنّ الشكوى والخصام كان من قبل أفراد حقيقيين لهم وجود ظاهري ، وفي هذه الحالة لم يكن قضاء داود ذنبا صادرا عنه ، خاصّة بعد أن استمع لأقوال أحدهم وحصل عنده علم ويقين في إعطاء الحكم ، رغم أنّ الآداب المستحبّة في القضاء توجب عليه أن يتأنّى في إصدار الحكم ولا يتعجّل ، واستغفاره إنّما كان لتركه العمل بالأولى.

وعلى أيّة حال ، لا توجد أيّة ضرورة لاعتبار وقوع حادثة التحكيم هذه في ظرف التمثّل أو لأجل تنبيه داودعليه‌السلام . والأفضل أن نحافظ على ظاهر الآيات وتفسيرها بالترتيب الآنف الذكر الذي حفظ ظاهر الآيات دون بروز أيّة مشاكل تمسّ مقام عصمة الأنبياء.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٧ ، ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

٤٨٧

الآيات

( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) )

التّفسير

احكم بالعدل ولا تتّبع هوى النفس :

نواصل استعراض قصّة داود ، ونقف هنا على أعتابها النهائية ، حيث إن آيات بحثنا هذا هي آخر الآيات الواردة في هذه السورة بشأن داود ، إذ تخاطبه بلهجة حازمة وبعبارات مفعمة بالمعاني ، شارحة له وظائفه ومسئولياته الجسيمة بعد أن

٤٨٨

وضحت مقامه الرفيع ، إذ تقول :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) .

محتوى هذه الآية التي تتحدّث عن مقام داود الرفيع والوظائف المهمّة التي كلّف بها ، تبيّن أنّ القصص الخيالية والكاذبة التي نسجت بشأن زواج داود من زوجة (أوريا) كلّها كاذبة ولا أساس لها من الصحّة.

فهل يمكن أن ينتخب الباريعزوجل شخصا ينظر إلى شرف المؤمنين والمقرّبين منه بعين خؤونة ويلوّث يده بدم الأبرياء ـ خليفة له في الأرض ، ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!

هذه الآية تضمّ خمس جمل كلّ واحدة منها تتحدّث عن حقيقة معيّنة :

الاولى : خلافة داود في الأرض ، فهل المقصود منها خلافته للأنبياء السابقين ، أمّ أنّها تعني خلافة الله؟ المعنى الثاني أنسب ويتطابق مع ما جاء في الآية (٣٠) من سورة البقرة :( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) .

بالطبع فإنّ المعنى الواقعي للخلافة لا يتعلّق بالله ، لأنّه يأتي في مورد وفاة شخص أو غيابه ، والمراد من الخلافة هنا هو أن يكون نائبا لله بين العباد ، والمنفّذ لأوامر الله سبحانه وتعالى في الأرض. هذه الجملة تبيّن أنّ الحكومة في الأرض يجب أن تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهيّة ، وأي حكومة لا تستلهم شرعيتها من الحكومة الإلهيّة فإنّها حكومة ظالمة وغاصبة.

الجملة الثانية : تأمر داود قائلة : بعد أن منحك الله سبحانه وتعالى هذه النعمة الكبيرة ، أي الخلافة ، فإنّك مكلّف بأن تحكم بين الناس بالحقّ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ ) .

وفي واقع الأمر فإنّ إحدى ثمار خلافة الله هي ظهور حكومة تحكّم بالحقّ ، ومن هذه الجملة يمكن القول أنّ حكومة الحقّ تنشأ ـ فقط ـ عن خلافة الله ، وأنّها

٤٨٩

النتيجة المباشرة لها.

أمّا الجملة الثالثة : فإنّها تشير إلى أهمّ خطر يهدّد الحاكم العادل ، ألا وهو اتّباع هوى النفس( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) .

نعم ، فهوى النفس ستار سميك يغطّي بصيرة الإنسان ، ويباعد بينه وبين العدالة.

لهذا فإنّ الجملة الرابعة تقول :( فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

فأينما وجد الضلال كان لهوى النفس ضلع في ذلك ، وأينما اتّبع هوى النفس فإنّ عاقبته الضلال.

فالحاكم الذي يتّبع هوى النفس ، إنّما يفرّط بمصالح وحقوق الناس لأجل مطامعه ، ولهذا السبب فإنّ حكومته تكون مضطربة ومصيرها الانهيار والزوال.

ومن الممكن أن يكون لـ (هوى النفس) معاني واسعة ، تضمّ في نفس الوقت هوى نفس الإنسان ، وهوى النفس عند كلّ الناس ، وهكذا فإنّ القرآن يحكم ببطلان المناهج الوضعيّة التي تستند على أفكار عامّة الناس في الحكم ، لأنّ نتيجة الإثنين هو الضلال والانحراف عن سبيل الله وصراط الحقّ.

واليوم نشاهد الآثار السيّئة لهذا النوع من التفكير في عالم يسمّى بالعالم المتطور والحديث ، فأحيانا نرى أشنع وأقبح الأعمال تأخذ شكلا قانونيا نتيجة الأخذ بآراء الناس ، ورائحة الفضيحة في هذا العالم قد أزكمت الأنوف ، والقلم يجلّ عن ذكرها.

صحيح أنّ أسس الحكومة مستندة على الجماهير ، وأنّ مشاركة الجميع فيها يحفظ أسسها ، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ رأي الأكثرية هو معيار الحقّ والباطل في كلّ شيء وفي كلّ مكان.

فالحكومة يجب أن يكون إطارها الحقّ ، ولتطبيق الحقّ لا بأس بالاستعانة بطاقات أفراد المجتمع ، وعبارة (الجمهورية الإسلامية) المتكوّنة من كلمتي (الجمهورية) و (الإسلامية) تعطي المعنى السابق ، وبعبارة اخرى فإنّ أصولها

٤٩٠

مستمدّة من نهج الإسلام ، وتنفيذ تلك الأصول يتمّ بمشاركة الجماهير.

وأخيرا فإنّ الجملة الخامسة تشير إلى أنّ كلّ ضلال عن سبيل الله لا ينفكّ عن نسيان يوم الحساب ، ومن ينسى يوم الحساب فإنّ عذاب الله الشديد ينتظره( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) .

ومن الطبيعي أنّ نسيان يوم القيامة هو مصدر الضلال ، وكلّ ضلال مرتبط بالنسيان ، وهذا المبدأ يوضّح التأثير التربوي في الاهتمام بالمعاد في حياة البشر.

ولقد وردت روايات بهذا الشأن في المصادر الإسلاميّة ، ومنها حديث مشهور عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام جاء فيه : «أيّها الناس ، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(١) .

أليس من الأفضل كتابة هذا الحديث بماء الذهب ، ووضعه أمام الجميع خاصّة الحكّام والقضاة والمسؤولين.

وفي رواية اخرى وردت عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، جاء فيها : «ثلاث موبقات : شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه»(٢) .

وتتمّة للبحث الذي استعرض حال داود وخلافته في الأرض ، تتطرّق الآيات لأهداف خلق عالم الوجود ، كي تشخّص أسباب الحكومة على الأرض التي هي جزء من ذلك العالم ، وجاء في قوله تعالى :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) .

هناك مسألة مهمّة تعدّ مصدرا لكلّ الحقوق ، وهي : ما الهدف من وجود الخلق؟

فعند ما ننظر إلى هذا العالم الوسيع ، ونوافق على أنّ هذا العالم الوسيع لم يخلقه الله عبثا ، نتابع الهدف من وراء ذلك الخلق ، الهدف الذي يمكن إيجازه في كلمات

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة (٤٢).

(٢) كتاب «الخصال» نقلا عن نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٥٣.

٤٩١

قصيرة وعميقة ، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أنّ الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ ، فعليها أن تثبت أسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان.

وبعبارة اخرى : إنّ الحقّ والعدل هما أساس عالم الوجود ، وعلى الحكومات أن تعمل وفق موازين الحقّ والعدالة.

الجملة الأخيرة من الآية السابقة التي تطرّقت إلى نسيان يوم الجزاء ، متطابقة بصورة كاملة مع الآية مورد بحثنا ، لأنّ هدف خلق العالم يوجب عدم نسيان يوم الجزاء والحساب ، وكما قلنا في بحث المعاد (في آخر سورة يس) لو لم يكن هناك يوم للحساب ، فإنّ خلق العالم يعدّ عبثا.

ونهاية هذه الآية تشير إلى خطوط واضحة تفصّل بين الإيمان والكفر ، وإعتقاد المذهب الإلحادي بعدم جدوى خلق العالم هو مثال للابتلاءات التي ابتلينا بها اليوم ، إذ أنّ اتّباع ذلك المذهب يعلنون بصراحة أنّ خلق العالم لا فائدة فيه ، ولا هدف يرتجى من ورائه ، فمن يفكّر هكذا كيف يتمكّن من تطبيق الحقّ والعدالة في حكومته؟!

الحكومة الوحيدة التي تستطيع تطبيق الحقّ والعدالة ، هي الحكومة التي تستلهم أفكارها ومعتقداتها من المبادئ الإلهيّة ، والتي تقول إنّ الباريعزوجل لم يخلق العالم عبثا وإنّما خلقه لأهداف وأغراض معيّنة ، كي تسير الحكومات وفق تلك الأهداف ، وإذا كان العالم الإلحادي قد وصل اليوم إلى طريق مسدود في شؤون الحكم والحرب والسلام وفي الإقتصاد والثقافة ، فالسبب الرئيسي يكمن في ابتعادهم عن هذا الأمر ، ولهذا فإنّ أسس حكوماتهم تقوم على الظلم والتسلّط ، فكم تكون الدنيا موحشة ورهيبة إذا أصبحت تدار وفق هذا النوع من التفكير العشوائي!

على أيّة حال ، فإنّ الباريعزوجل حكيم ، ومن غير الممكن أن يخلق هذا

٤٩٢

العالم من دون هدف ، فالعالم هذا مقدّمة لعالم آخر أكبر وأوسع من عالمنا هذا ، وهو أبدي وخالد يوضّح الأهداف الحقيقيّة وراء خلق عالم الدنيا.

الآية التالية تضيف :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (١) .

كما أنّ عدم وجود هدف من خلق العالم يعدّ أمرا مستحيلا ، فمن المستحيل أيضا المساواة بين الصالحين والطالحين ، لأنّ المجموعة الاولى كانت تخطو خطواتها وفق أهداف خلق العالم للوصول إلى الغاية النهائية ، بينما كانت المجموعة الثانية تسير باتّجاه مخالف لمسير المجموعة الاولى.

الواقع أنّ بحث المعاد بكافّة أبعاده قد تمّ تناوله في هذه الآية والآية التي سبقتها بشكل مستدلّ.

فمن جهة تقول : إنّ حكمة الخالق تقتضي أن يكون لخلق العالم هدف ، وهذا الهدف لا يتحقّق بعدم وجود عالم آخر ، لأنّ الأيّام القلائل التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا لا قيمة لها بالنسبة للهدف الرئيسي الكامن وراء خلق هذا العالم الواسع.

ومن جهة اخرى ، فإنّ حكمة وعدالة الباريعزوجل تفرض أن لا يتساوى المحسن والمسيء والعادل والظالم ، ولهذا كان البعث والثواب والعقاب والجنّة والنار.

وبغضّ النظر عن هذا ، فعند ما ننظر إلى ساحة المجتمع الإنساني في هذه الدنيا نشاهد الفاجر في مرتبة المؤمن ، والمسيء إلى جانب المحسن ، ولربّما في أكثر الأحيان نرى المفسدين المذنبين يعيشون في حالة من الرفاه والتنعّم أكثر من غيرهم ، فإذا لم يكن هناك عالم آخر بعد عالمنا هذا لتطبيق العدالة هناك ، فإن

__________________

(١) بعض المفسّرين قالوا : إنّ (أمّ) هنا تعطي معنى (بل) للاضراب ، وهنا احتمال آخر يقول : إنّ (أم) جاءت للعطف على استفهام محذوف ، وتقدير الآية هو (أخلقنا السموات والأرض باطلا أم نجعل المتّقين كالفجّار؟).

٤٩٣

وضع العالم هذا مخالف «للحكمة» و (للعدالة) ، وهذا هو دليل آخر على مسألة المعاد.

وبعبارة اخرى ، فلإثبات مسألة المعاد ـ أحيانا ـ يمكن الاستدلال عليها عن طريق برهان (الحكمة) وأحيانا اخرى عن طريق برهان (العدالة) ، فالآية السابقة استدلال بالحكمة ، والآية التي بعدها استدلال بالعدالة.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى موضوع يوضّح ـ في حقيقة الأمر ـ الهدف من الخلق ، إذ جاء في الآية الكريمة :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

فتعليماته خالدة ، وأوامره عميقة وأصيلة ، ونظمه باعثة للحياة وهادية للإنسان إلى الطريق المؤدّي إلى اكتشاف هدف الخلق.

فالهدف من نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصر ـ فقط ـ على تلاوته وتلفّظ اللسان به ، بل لكي تكون آياته منبعا للفكر والتفكّر وسببا ليقظة الوجدان ، لتبعث بدورها الحركة في مسير العمل.

كلمة (مبارك) تعني شيئا ذا خير دائم ومستمر ، أمّا في هذه الآية فإنّها تشير إلى دوام استفادة المجتمع الإنساني من تعليماته ، ولكونها استعملت هنا بصورة مطلقة ، فإنّها تشمل كلّ خير وسعادة في الدنيا والآخرة.

وخلاصة الأمر ، فإنّ كلّ الخير والبركة في القرآن ، بشرط أن نتدبّر في آياته ونستلهم منها ونعمل بها.

* * *

ملاحظتان

١ ـ التقوى والفجور أمام بعضهما البعض

في الآيات المذكورة أعلاه ، ورد الفساد في الأرض في مقابل الإيمان والعمل

٤٩٤

الصالح ، والفجور (الذي يعني تمزيق حجب الدين) في مقابل التقوى والورع.

هل أنّ هذين الإثنين ، يوضّحان حقيقة واحدة في عبارتين ، أم أنّهما يوضّحان موضوعين؟ من غير المستبعد أن يكون الاثنان تأكيدا لمعنى واحد ، لأنّ (المتّقين) هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح و (الفجّار) هم المفسدون في الأرض.

ويحتمل في أن تكون الجملة الاولى هي إشارة إلى الجوانب العملية والعقائدية لكلا الطرفين ، إذ تقارن بين أصحاب العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة وبين أصحاب العقائد الفاسدة والأعمال الخبيثة ، في حين أنّ الجملة الثانية تشير فقط إلى الجانب العملي.

ويحتمل أيضا أنّ (التقوى والفجور) شاهدان على كمال ونقص الإنسان ، والعمل الصالح والفساد في الأرض شاهدان على الجوانب الاجتماعية ، ولكن التأكيد يعدّ أنسب.

٢ ـ لمن تعني هذه الآيات؟

جاء في إحدى الروايات التي تفسّر قوله تعالى :( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) بأنّها إشارة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وأنصاره ، في حين أنّ بقيّة الآية( كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) إشارة إلى أعدائه(١) .

وجاء في حديث آخر نقله (ابن عساكر) عن ابن عباس ، في أنّ المقصودين في الآية( الَّذِينَ آمَنُوا ) «علي» و «حمزة» و «عبيدة» الذين واجهوا في معركة بدر كلا من «عتبة» و «الوليد» و «شيبة» ورموز جيش الكفر والشرك (وتمكّنوا من قتلهم في ساحة المعركة. فبهذا يكون عتبة والوليد وشيبة هم المقصودين في الآية

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الرابع ، الصفحة ٤٥٣ (الحديث ٣٧).

٤٩٥

( كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) (١) .

الواضح من معنى هذه الرّوايات أنّها لا تحصر مفهوم الآية في أفراد معينين ، وإنّما هي بيان لأسباب النّزول ، أو أنّها مصداق واضح وبارز لهذه الآية.

* * *

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ١٧١.

٤٩٦

الآيات

( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) )

التّفسير

سليمانعليه‌السلام يستعرض قوّاته القتالية :

هذه الآيات تواصل البحث السابق بشأن داودعليه‌السلام .

فالآية الاولى تزفّ البشرى لداود في أنّه سيرزق بولد صالح هو سليمان ، وسيتولّى الحكم وأعباء الرسالة من بعده ، وتقول :( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

هذه الجملة تبيّن عظمة مقام سليمان ، ويحتمل كونها ردّا على الاتّهامات القبيحة والعارية من الصحّة الواردة في التوراة المحرّفة عن ولادة سليمان من زوجة أوريا ، والتي كانت شائعة في المجتمع قبل نزول القرآن.

فعبارة (وهبنا) من جهة و (نعم العبد) من جهة اخرى ، وللتعليل (إنّه أوّاب) أي

٤٩٧

(الشخص المطيع لله والممتثل لأوامره ، والذي يتوب إلى الباريعزوجل إثر أبسط غفلة أو زلّة) من جهة ثالثة ، كلّها تدلّ على عظمة مقام هذا النّبي الكبير.

وعبارة (إنّه أوّاب) هي نفس العبارة التي جاءت بحقّ والده داود في الآية (١٧) من نفس السورة ، ورغم أنّ كلمة (أوّاب) صيغة مبالغة وتعني كثير الرجوع وغير محدودة ، فإنّها هنا تعني العودة لطاعة الأمر الإلهي ، العودة إلى الحقّ والعدالة ، العودة من الغفلة وترك العمل بالأولى.

الآية التالية تبدأ بقصّة خيل سليمان ، التي فسّرت بأشكال مختلفة ، حيث أنّ البعض فسّرها بصورة سيّئة ومعارضة لموازين العقل ، حتّى أنّه لا يمكن إيرادها بشأن إنسان عادي ، فكيف ترد بحقّ نبي عظيم كسليمانعليه‌السلام .

ولكن المحقّقين بعد بحثهم في الدلائل العقليّة والنقلية أغلقوا الطريق أمام أمثال هذه التّفسيرات ، وقبل أن نخوض في الاحتمالات المختلفة الواردة ، نفسّر الآيات وفق ظاهرها أو (وفق أقوى احتمال ظاهري لها) لكي نوضّح أنّ القرآن الكريم خال من مثل هذه الادّعاءات المزيّفة التي فرضت على القرآن من قبل الآخرين.

إذ يقول القرآن :( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ) .

«صافنات» جمع (صافنة) وقال معظم اللغويين والمفسّرين : إنّها تطلق على الجياد التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع أحد قوائمها الإمامية قليلا ليمسّ الأرض على طرف الحافر ، وهذه الحالة تخصّ الخيول الأصلية التي هي على أهبّة الاستعداد للحركة في أيّة لحظة(١) .

«الجياد» جمع (جواد) وتعني الخيول السريعة السير ، وكلمة «جياد» مشتقّة في الأصل من (جود) ، والجود عند الإنسان يعني بذل المال ، وعند الخيول يعني سرعة سيرها. وبهذا الشكل فإنّ الخيول المذكورة تبدو كأنّها على أهبّة الاستعداد

__________________

(١) ويرى البعض : إنّ (صافنات) ، تستعمل للمذكّر والمؤنث ، ولهذا فإنّها لا تختّص بإناث الخيل.

٤٩٨

للحركة أثناء حالة توقّفها ، وإنّها سريعة السير أثناء عدوها.

ويستشف من الآية مع القرائن المختلفة المحيطة بها ، أنّه في أحد الأيّام وعند العصر استعرض سليمانعليه‌السلام خيوله الأصيلة التي كان قد أعدّه الجهاد أعدائه ، إذ مرّت تلك الخيول مع فرسانها أمام سليمانعليه‌السلام في استعراض منسّق ومرتّب. وبما أنّ الملك العادل وصاحب النفوذ عليه أن يمتلك جيشا قويّا ، والخيول السريعة إحدى الوسائل المهمّة التي يجب أن تتوفّر لدى ذلك الجيش ، فقد جاء هذا الوصف في القرآن بعد ذكر مقام سليمان باعتباره نموذجا من أعماله.

ولكي يطرد سليمان التصوّر عن أذهان الآخرين في أنّ حبّه لهذه الخيول القويّة ناتج من حبّة للدنيا ، جاء في قوله تعالى :( فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) انّي احبّ هذه الخيل من أجل الله وتنفيذ أمره ، وأريد الاستفادة منها في جهاد الأعداء.

لقد ورد أنّ العرب تسمّى «الخيل» خيرا ، وفي حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيه : «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة»(١) .

واستمرّ سليمانعليه‌السلام ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدّة لجهاد أعداء الله ، وهو يعيش حالة من السرور ، حتّى توارت عن أنظاره( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) .

كان هذا المشهد جميلا ولطيفا لقائد كبير مثل سليمان ، بحيث أمر بإعادة عرض الخيل مرّة اخرى( رُدُّوها عَلَيَ ) . وعند ما نفّذت أوامره بإعادة الخيل ، عمد سليمانعليه‌السلام إلى مسح سوقها وأعناقها( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) .

وبهذا الشكل أشاد بجهود مدربي تلك الخيول ، وأعرب لهم عن تقديره لها ، لأنّ من الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد ووجهه ورقبته وشعر رقبته ، أو يمسح على ساقه. وأبرز في نفس الوقت تعلّقه

__________________

(١) مجمع البيان في ذيل الآيات مورد بحثنا ، قال البعض : إنّ (خير) الواردة في الآية الآنفة الذكر تعني المال أو المال الكثير ، وهذا التّفسير من الممكن أن يتطابق مع التّفسير السابق ، لأنّ مصداق المال هنا هو الخيل.

٤٩٩

الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية ، وتعلّق سليمان الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب.

«طفق» باصطلاح النحويين من أفعال المقاربة ، وتأتي بمعنى «شرع».

«سوق» هي جمع (ساق) و (أعناق) جمع (عنق) ومعنى الآية هو أنّ سليمان شرع بمسح سوق الجياد وأعناقها.

ما ذكرناه بشأن تفسير هذه الآية يتطابق مع ما ذهب إليه بعض المفسّرين كالفخر الرازي ، كما تمّت الاستفادة من بعض ما ورد عن العالم الشيعي الكبير السيّد المرتضى ، إذ قال في كتابه (تنزيه الأنبياء) في باب نفي الادّعاءات الباطلة والمحرّمة التي ينسبها بعض المفسّرين ورواة الحديث إلى سليمان (إنّ الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه والثناء عليه فقال :( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) فلا يمكن أن يثني عليه بهذا الثناء ثمّ يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه ، وأنّه يتلّهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة ، والذي يقتضيه الظاهر أنّ حبّه للخيل وشغفه بها كان عن إذن ربّه وبأمره وبتذكيره إيّاه ، لأنّ الله تعالى قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء ، فلا ينكر أن يكون سليمانعليه‌السلام مأمورا بمثل ذلك)(١) .

أمّا العلّامة المجلسي فقد ذكر في كتابه (بحار الأنوار) في باب النبوّة ، تفسيرا لهذه الآيات يشابه كثيرا ما ذكر أعلاه(٢) .

على أيّة حال ـ وفق هذا التّفسير ـ لم يصدر من سليمان أي ذنب ، ولم يحدث أي خلل في ترتيب الآيات ، ولا تبدو أيّة مشكلة حتّى نعمد إلى توضيحها(٣) .

والآن نستعرض تفاسير اخرى لمجموعة من المفسّرين بشأن هذه الآيات وأشهرها ، ذلك التّفسير الذي يعود بالضمير في جملتي (توارت) و (ردّوها) إلى

__________________

(١) تنزيه الأنبياء ، الصفحة ٩٣.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد ١٤ ، الصفحة ١٠٤.

(٣) طبقا لهذا التّفسير فإنّ الضمير في عبارتي (توارت) و (ردّوها) يعود على الخيل الماهرة والحاذقة (الصافنات الجياد).

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581