الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168956 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

عنها.

وفي هذا الجزء من القصّة التي استعرضتها التوراة يمكن للمتتبّع ملاحظة ما يلي :

١ ـ لم يأت أحد متظلّما وشاكيا إلى داود ، وإنّما جاءه أحد أنبياء بني إسرائيل ، الذي هو مستشار داود في نفس الوقت ، وذكر له قصّة يستهدف منها وعظ داود ، والقصّة هي بشأن شخصين الأوّل غني والثاني فقير ، الغني يملك أعدادا كبيرة من الغنم والبقر ، أمّا الفقير فلا يملك سوى نعجة واحدة صغيرة ، والغني أخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأها لضيفه.

إلى هذا المقدار من القصّة لا يوجد أي تطرّق لتسوّر جدران المحراب وفزع داود وتخاصم الشخصين عنده ، إضافة إلى طلب العفو والمغفرة.

٢ ـ داودعليه‌السلام اعتبر الغني طاغية ويستحقّ القتل لماذا يقتل من أجل نعجة واحدة؟!

٣ ـ لماذا تسرّع داودعليه‌السلام في إصدار الحكم ، إذ قال : يجب على الغني أن يردّ النعجة بأربعة أضعاف؟

٤ ـ داود يعترف بذنبه مع زوجة أوريّا.

٥ ـ لماذا يعفو اللهعزوجل عنه وبهذه السهولة؟!

٦ ـ الله سبحانه وتعالى يذكر عقوبات عجيبة ستطال داود من الأفضل عدم ذكرها هنا.

٧ ـ هذه المرأة (مع ماضيها المشهور) هي امّ سليمانعليه‌السلام ! رغم أنّ نقل مثل هذه القصص مؤلم حقّا ، ولكن ما العمل ، إذ أنّ بعض الجهلة غير المطّلعين من المتأثّرين بالروايات الإسرائيليّة ، أساؤوا إلى تفسير القرآن الكريم الطاهر ، بإقحامهم مثل هذه الروايات فيه ، ولا يوجد أمامنا سبيل إلّا ذكر أجزاء من تلك القصص الفاضحة لردّها.

٤٨١

والآن نسأل :

١ ـ هل يمكن اتّهام نبي مدحه الباريعزوجل في قرآنه الكريم بعشر صفات عظيمة ، ودعا نبيّنا الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يستلهم من سيرته ، هل يمكن اتّهامه بتلك التهم.

٢ ـ هل تتطابق هذه الأراجيف مع آيات القرآن التالية :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) .

٣ ـ إذا ارتكب شخص عادي ـ وليس أحد الأنبياء ـ مثل هذا العمل الإجرامي للاعتداء على زوجة ضابط وفيّ وطاهر ومؤمن ومن خلال عملية خبيثة ، بماذا سيحكم الناس عليه وما هي عقوبته؟ فالفاسق يتنزّه عن هذا العمل الشنيع ، فكيف بنبي الله داود؟

وممّا يجدر ذكره أنّ التوراة لا تعتبر داود نبيّا ، وإنّما تعتبره ملكا عادلا له مكانة مرموقة ، وأنّه مشيّد المعبد الكبير لبني إسرائيل.

٤ ـ الطريف في الأمر أنّ كتاب (مزامير داود) هو أحد كتب التوراة ، وقد جمعت فيه مناجات وأحاديث داود ، فهل يمكن درج أحاديث ومناجاة مثل هذا الإنسان في طيّات الكتب السماوية؟

٥ ـ لو طرحت هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والإدراك ، لأعترف بأنّ قصص التوراة المحرّفة حاليا ما هي إلّا خرافات ، وأنّ أعداء نهج الأنبياء أو أشخاص جهلة غير مطّلعين صاغوا مثل هذه الخرافات ، فكيف يمكن أن تكون هذه الخرافات معيارا للبحث؟

نعم فعظمة القرآن المجيد تبرز من خلال خلوّه من هذه الخرافات.

٣ ـ الأحاديث الإسلامية وقصّة داودعليه‌السلام

الرّوايات والأحاديث الإسلاميّة كذّبت بشدّة تلك القصص الخرافية والقبيحة

٤٨٢

الواردة في التوراة.

ومن جملة تلك الأحاديث ، ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقول فيه : «لا اوتي برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أوريّا إلّا جلدته حدّين حدّا للنبوّة وحدّا للإسلام»(١) .

لماذا ، لأنّ المزاعم المذكورة تتّهم من جهة إنسانا مؤمنا بارتكاب عمل محرّم ، ومن جهة اخرى تنتهك حرمة مقام النبوّة ، ومن هنا حكم الإمام بجلد من يفتري عليهعليه‌السلام مرّتين (كلّ مرّة ٨٠ سوطا).

كما ورد حديث آخر لأمير المؤمنينعليه‌السلام يعطي نفس المعنى ، جاء فيه «من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستّين»(٢) .

وفي حديث آخر نقله الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي) عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «إنّ رضا الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، ألم ينسبوا داود إلى أنّه اتّبع الطير حتّى نظر إلى امرأة أوريّا فهواها ، وأنّه قدّم زوجها أمام التابوت حتّى قتل ثمّ تزوّج بها!»(٣) .

وأخيرا ، ورد حديث في كتاب (عيون الأخبار) في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات قال الرضاعليه‌السلام لابن الجهم : «وأمّا داود فما يقول من قبلكم فيه»؟

قال : يقولون : إنّ داود كان يصلّي في محرابه إذ تصوّر له إبليس على هيئة طير أحسن ما يكون من الطيور ، فقطع داود صلاته وقام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريّا بن حيان.

فأطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريّا تغتسل؟ فلمّا نظر إليها هواها ، وكان

__________________

(١) مجمع البيان ذيل آيات البحث.

(٢) تفسير الفخر الرازي ذيل آيات البحث.

(٣) الأمالي للشيخ الصدوق طبق ما نقله نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٦.

٤٨٣

قد أخرج أوريّا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريّا أمام التابوت فقدّم فظفر أوريّا بالمشركين فصعب ذلك على داود ، فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت فقدّم فقتل أوريّا وتزوج داود بامرأته.

قال : فضرب الرضاعليه‌السلام يده على جبهته وقال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، لقد نسبتم نبيّا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ثمّ بالفاحشة ، ثمّ بالقتل».

فقال : يا ابن رسول الله ، ما كانت خطيئته؟

فقال : «ويحك إنّ داودعليه‌السلام إنّما ظنّ أنّه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه ، فبعث اللهعزوجل إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقال :( خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) فعجّل داود على المدّعى عليه فقال :( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ) ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك ، ولم يقبل على المدّعى عليه فيقول له : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه ، ألا تسمع اللهعزوجل يقول :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ ) إلى آخر الآية.

فقال : يا ابن رسول الله ، فما قصّته مع أوريّا؟

قال الرضاعليه‌السلام : «إنّ المرأة في أيّام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبدا ، فأوّل من أباح اللهعزوجل له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داودعليه‌السلام فتزوّج بامرأة أوريّا لمّا قتل وانقضت عدّتها ، فذلك الذي شقّ على الناس من قتل أوريّا»(١) .

يستفاد من هذا الحديث أنّ مسألة أوريّا كانت لها جذور حقيقيّة بسيطة ، وأنّ داود نفّذ ما جاء في الرسالة الإلهيّة ، إلّا أنّ أعداء الله من جهة ، والجهلة من جهة

__________________

(١) عيون الأخبار طبق ما نقله نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٥.

٤٨٤

اخرى ، إضافة إلى مؤلّفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائما قصص عجيبة وكاذبة من جهة ثالثة ، اختلفوا سيقانا وأغصانا وأوراقا لهذه القصّة كي ينفّروا الإنسان من داود.

فأحدهم قال : لا يمكن أن يتمّ هذا الزواج ما لم تكن هنالك مقدّمات له؟

والآخر قال : يحتمل أنّ بيت أوريّا كان مجاورا لبيت داود!

وأخيرا لكي يؤكّدوا أنّ داودعليه‌السلام شاهد زوجة (أوريّا) اصطنعوا قصّة الطير ، وفي النهاية اتّهموا أحد أنبياء الله الكبار بارتكاب مختلف أنواع الذنوب الكبيرة والمخزية ، وتناقلتها ألسنة الجهلة والبلهاء ولو لا انّها مذكورة في الكتب المعروفة لكان من الخطأ ذكرها والتعرّض لها.

وبالطبع ، فإنّ هذه الرواية لا تختلف عن حديث أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لأنّ حديثه يشير إلى أنّها قصّة كاذبة مزيّفة تنسب ارتكاب الزنا وغيرها من المحرّمات ـ نعوذ بالله ـ إلى أحد الأنبياء الكبار.

آراء المفسّرين

بعض المفسّرين ذكروا آراء اخرى لقصّة داود ، رغم أنّها لا تتناسب مع ظاهر آيات القرآن المجيد ، فإنّنا نرى من الضروري الإشارة إلى بعضها لإكمال البحث :

منها : أنّ داودعليه‌السلام كان قد قسّم ساعات يومه وفق برنامج منظّم ، ولم يكن يسمح لأحد بمراجعته إلّا في الساعات المخصّصة للمراجعة ، وفي أحد الأيّام تسوّر شخصان المحراب وقد اتّفقا على قتل داود أثناء فترة عبادته لله سبحانه وتعالى ، تسوّرا سور المحراب ، ولكن عند ما وصلا بالقرب من سور المحراب شاهدوا الجند والحرس يحيطون به من كلّ جانب ، وخوفا من أن ينكشف أمرهما ، اختلقا قضيّة كاذبة ، وادّعيا أنّهما أتيا إلى داودعليه‌السلام ليحكم بينهما ، وشرحا القصّة التي تطرّق إليها القرآن الكريم ، وقد قضى داودعليه‌السلام بينهما ، ولكون الهدف من هذه

٤٨٥

اللعبة كان قتله ، فقد غضب وصمّم على الانتقام منهما ، ولم يمض إلّا وقت قصير حتّى ندم داود على تصميمه هذا واستغفر الله(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان (وأكثر المفسّرين تبعا للروايات إنّ هؤلاء الخصم الداخلين على داودعليه‌السلام كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه ، وستعرف حال الروايات لكن خصوصيات القصّة كتسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه ، وكذا تنبّهه بأنّه إنّما كان فتنة من الله له وليس واقعة عادية ، وقوله تعالى بعد :( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) الظاهر في أنّ الله ابتلاه بما ابتلي لينبّهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس ، كلّ ذلك يؤيّد كونهم من الملائكة وقد تمثّلوا في صورة رجال من الإنس.

(والمقصود من التمثّل هو عدم وجود هؤلاء الأشخاص واقعا وفي الخارج ، بل أنّ ذلك انعكس في ذهن داود وفي إدراكه).

وعلى هذا فالواقعة تمثّل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة واحدة ، يسألها آخر له تسع وتسعون نعجة ، وسألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة : (لقد ظلمك) إلخ وكان قولهعليه‌السلام ـ لو كان قضاء منجزا ـ حكما منه في ظرف التمثّل ، كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال وحكم فيهم بما حكم ، ومن المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثّل ، كما لا تكليف في عالم الرؤيا وإنّما التكليف في عالمنا المشهود ، وهو عالم المادّة ، ولم تقع الواقعة فيه ، ولا كان هناك متخاصمان ولا نعجة ولا نعاج إلّا في ظرف التمثّل ، فكانت خطيئة داودعليه‌السلام في هذا الظرف من التمثّل ولا تكليف هناك ، كخطيئة آدمعليه‌السلام في الجنّة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض وتشريع الشرائع وجعل التكاليف ، واستغفاره وتوبته ممّا صدر منه كاستغفار آدم وتوبته ممّا صدر منه ، وقد صرّح الله بخلافته في

__________________

(١) تفسير (الفخر الرازي) و (روح المعاني) ذكرا هذا الأمر كتوجيه وإرشاد ، فيما وافق (المراغي) في تفسيره على هذا الأمر.

٤٨٦

كلامه كما صرّح بخلافة آدمعليه‌السلام في كلامه)(١) .

ولكن من المسلّم به أنّ ظاهر الآيات يوضّح أنّ الشكوى والخصام كان من قبل أفراد حقيقيين لهم وجود ظاهري ، وفي هذه الحالة لم يكن قضاء داود ذنبا صادرا عنه ، خاصّة بعد أن استمع لأقوال أحدهم وحصل عنده علم ويقين في إعطاء الحكم ، رغم أنّ الآداب المستحبّة في القضاء توجب عليه أن يتأنّى في إصدار الحكم ولا يتعجّل ، واستغفاره إنّما كان لتركه العمل بالأولى.

وعلى أيّة حال ، لا توجد أيّة ضرورة لاعتبار وقوع حادثة التحكيم هذه في ظرف التمثّل أو لأجل تنبيه داودعليه‌السلام . والأفضل أن نحافظ على ظاهر الآيات وتفسيرها بالترتيب الآنف الذكر الذي حفظ ظاهر الآيات دون بروز أيّة مشاكل تمسّ مقام عصمة الأنبياء.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٧ ، ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

٤٨٧

الآيات

( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) )

التّفسير

احكم بالعدل ولا تتّبع هوى النفس :

نواصل استعراض قصّة داود ، ونقف هنا على أعتابها النهائية ، حيث إن آيات بحثنا هذا هي آخر الآيات الواردة في هذه السورة بشأن داود ، إذ تخاطبه بلهجة حازمة وبعبارات مفعمة بالمعاني ، شارحة له وظائفه ومسئولياته الجسيمة بعد أن

٤٨٨

وضحت مقامه الرفيع ، إذ تقول :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) .

محتوى هذه الآية التي تتحدّث عن مقام داود الرفيع والوظائف المهمّة التي كلّف بها ، تبيّن أنّ القصص الخيالية والكاذبة التي نسجت بشأن زواج داود من زوجة (أوريا) كلّها كاذبة ولا أساس لها من الصحّة.

فهل يمكن أن ينتخب الباريعزوجل شخصا ينظر إلى شرف المؤمنين والمقرّبين منه بعين خؤونة ويلوّث يده بدم الأبرياء ـ خليفة له في الأرض ، ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!

هذه الآية تضمّ خمس جمل كلّ واحدة منها تتحدّث عن حقيقة معيّنة :

الاولى : خلافة داود في الأرض ، فهل المقصود منها خلافته للأنبياء السابقين ، أمّ أنّها تعني خلافة الله؟ المعنى الثاني أنسب ويتطابق مع ما جاء في الآية (٣٠) من سورة البقرة :( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) .

بالطبع فإنّ المعنى الواقعي للخلافة لا يتعلّق بالله ، لأنّه يأتي في مورد وفاة شخص أو غيابه ، والمراد من الخلافة هنا هو أن يكون نائبا لله بين العباد ، والمنفّذ لأوامر الله سبحانه وتعالى في الأرض. هذه الجملة تبيّن أنّ الحكومة في الأرض يجب أن تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهيّة ، وأي حكومة لا تستلهم شرعيتها من الحكومة الإلهيّة فإنّها حكومة ظالمة وغاصبة.

الجملة الثانية : تأمر داود قائلة : بعد أن منحك الله سبحانه وتعالى هذه النعمة الكبيرة ، أي الخلافة ، فإنّك مكلّف بأن تحكم بين الناس بالحقّ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ ) .

وفي واقع الأمر فإنّ إحدى ثمار خلافة الله هي ظهور حكومة تحكّم بالحقّ ، ومن هذه الجملة يمكن القول أنّ حكومة الحقّ تنشأ ـ فقط ـ عن خلافة الله ، وأنّها

٤٨٩

النتيجة المباشرة لها.

أمّا الجملة الثالثة : فإنّها تشير إلى أهمّ خطر يهدّد الحاكم العادل ، ألا وهو اتّباع هوى النفس( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) .

نعم ، فهوى النفس ستار سميك يغطّي بصيرة الإنسان ، ويباعد بينه وبين العدالة.

لهذا فإنّ الجملة الرابعة تقول :( فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

فأينما وجد الضلال كان لهوى النفس ضلع في ذلك ، وأينما اتّبع هوى النفس فإنّ عاقبته الضلال.

فالحاكم الذي يتّبع هوى النفس ، إنّما يفرّط بمصالح وحقوق الناس لأجل مطامعه ، ولهذا السبب فإنّ حكومته تكون مضطربة ومصيرها الانهيار والزوال.

ومن الممكن أن يكون لـ (هوى النفس) معاني واسعة ، تضمّ في نفس الوقت هوى نفس الإنسان ، وهوى النفس عند كلّ الناس ، وهكذا فإنّ القرآن يحكم ببطلان المناهج الوضعيّة التي تستند على أفكار عامّة الناس في الحكم ، لأنّ نتيجة الإثنين هو الضلال والانحراف عن سبيل الله وصراط الحقّ.

واليوم نشاهد الآثار السيّئة لهذا النوع من التفكير في عالم يسمّى بالعالم المتطور والحديث ، فأحيانا نرى أشنع وأقبح الأعمال تأخذ شكلا قانونيا نتيجة الأخذ بآراء الناس ، ورائحة الفضيحة في هذا العالم قد أزكمت الأنوف ، والقلم يجلّ عن ذكرها.

صحيح أنّ أسس الحكومة مستندة على الجماهير ، وأنّ مشاركة الجميع فيها يحفظ أسسها ، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ رأي الأكثرية هو معيار الحقّ والباطل في كلّ شيء وفي كلّ مكان.

فالحكومة يجب أن يكون إطارها الحقّ ، ولتطبيق الحقّ لا بأس بالاستعانة بطاقات أفراد المجتمع ، وعبارة (الجمهورية الإسلامية) المتكوّنة من كلمتي (الجمهورية) و (الإسلامية) تعطي المعنى السابق ، وبعبارة اخرى فإنّ أصولها

٤٩٠

مستمدّة من نهج الإسلام ، وتنفيذ تلك الأصول يتمّ بمشاركة الجماهير.

وأخيرا فإنّ الجملة الخامسة تشير إلى أنّ كلّ ضلال عن سبيل الله لا ينفكّ عن نسيان يوم الحساب ، ومن ينسى يوم الحساب فإنّ عذاب الله الشديد ينتظره( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) .

ومن الطبيعي أنّ نسيان يوم القيامة هو مصدر الضلال ، وكلّ ضلال مرتبط بالنسيان ، وهذا المبدأ يوضّح التأثير التربوي في الاهتمام بالمعاد في حياة البشر.

ولقد وردت روايات بهذا الشأن في المصادر الإسلاميّة ، ومنها حديث مشهور عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام جاء فيه : «أيّها الناس ، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(١) .

أليس من الأفضل كتابة هذا الحديث بماء الذهب ، ووضعه أمام الجميع خاصّة الحكّام والقضاة والمسؤولين.

وفي رواية اخرى وردت عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، جاء فيها : «ثلاث موبقات : شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه»(٢) .

وتتمّة للبحث الذي استعرض حال داود وخلافته في الأرض ، تتطرّق الآيات لأهداف خلق عالم الوجود ، كي تشخّص أسباب الحكومة على الأرض التي هي جزء من ذلك العالم ، وجاء في قوله تعالى :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) .

هناك مسألة مهمّة تعدّ مصدرا لكلّ الحقوق ، وهي : ما الهدف من وجود الخلق؟

فعند ما ننظر إلى هذا العالم الوسيع ، ونوافق على أنّ هذا العالم الوسيع لم يخلقه الله عبثا ، نتابع الهدف من وراء ذلك الخلق ، الهدف الذي يمكن إيجازه في كلمات

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة (٤٢).

(٢) كتاب «الخصال» نقلا عن نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٥٣.

٤٩١

قصيرة وعميقة ، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أنّ الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ ، فعليها أن تثبت أسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان.

وبعبارة اخرى : إنّ الحقّ والعدل هما أساس عالم الوجود ، وعلى الحكومات أن تعمل وفق موازين الحقّ والعدالة.

الجملة الأخيرة من الآية السابقة التي تطرّقت إلى نسيان يوم الجزاء ، متطابقة بصورة كاملة مع الآية مورد بحثنا ، لأنّ هدف خلق العالم يوجب عدم نسيان يوم الجزاء والحساب ، وكما قلنا في بحث المعاد (في آخر سورة يس) لو لم يكن هناك يوم للحساب ، فإنّ خلق العالم يعدّ عبثا.

ونهاية هذه الآية تشير إلى خطوط واضحة تفصّل بين الإيمان والكفر ، وإعتقاد المذهب الإلحادي بعدم جدوى خلق العالم هو مثال للابتلاءات التي ابتلينا بها اليوم ، إذ أنّ اتّباع ذلك المذهب يعلنون بصراحة أنّ خلق العالم لا فائدة فيه ، ولا هدف يرتجى من ورائه ، فمن يفكّر هكذا كيف يتمكّن من تطبيق الحقّ والعدالة في حكومته؟!

الحكومة الوحيدة التي تستطيع تطبيق الحقّ والعدالة ، هي الحكومة التي تستلهم أفكارها ومعتقداتها من المبادئ الإلهيّة ، والتي تقول إنّ الباريعزوجل لم يخلق العالم عبثا وإنّما خلقه لأهداف وأغراض معيّنة ، كي تسير الحكومات وفق تلك الأهداف ، وإذا كان العالم الإلحادي قد وصل اليوم إلى طريق مسدود في شؤون الحكم والحرب والسلام وفي الإقتصاد والثقافة ، فالسبب الرئيسي يكمن في ابتعادهم عن هذا الأمر ، ولهذا فإنّ أسس حكوماتهم تقوم على الظلم والتسلّط ، فكم تكون الدنيا موحشة ورهيبة إذا أصبحت تدار وفق هذا النوع من التفكير العشوائي!

على أيّة حال ، فإنّ الباريعزوجل حكيم ، ومن غير الممكن أن يخلق هذا

٤٩٢

العالم من دون هدف ، فالعالم هذا مقدّمة لعالم آخر أكبر وأوسع من عالمنا هذا ، وهو أبدي وخالد يوضّح الأهداف الحقيقيّة وراء خلق عالم الدنيا.

الآية التالية تضيف :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (١) .

كما أنّ عدم وجود هدف من خلق العالم يعدّ أمرا مستحيلا ، فمن المستحيل أيضا المساواة بين الصالحين والطالحين ، لأنّ المجموعة الاولى كانت تخطو خطواتها وفق أهداف خلق العالم للوصول إلى الغاية النهائية ، بينما كانت المجموعة الثانية تسير باتّجاه مخالف لمسير المجموعة الاولى.

الواقع أنّ بحث المعاد بكافّة أبعاده قد تمّ تناوله في هذه الآية والآية التي سبقتها بشكل مستدلّ.

فمن جهة تقول : إنّ حكمة الخالق تقتضي أن يكون لخلق العالم هدف ، وهذا الهدف لا يتحقّق بعدم وجود عالم آخر ، لأنّ الأيّام القلائل التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا لا قيمة لها بالنسبة للهدف الرئيسي الكامن وراء خلق هذا العالم الواسع.

ومن جهة اخرى ، فإنّ حكمة وعدالة الباريعزوجل تفرض أن لا يتساوى المحسن والمسيء والعادل والظالم ، ولهذا كان البعث والثواب والعقاب والجنّة والنار.

وبغضّ النظر عن هذا ، فعند ما ننظر إلى ساحة المجتمع الإنساني في هذه الدنيا نشاهد الفاجر في مرتبة المؤمن ، والمسيء إلى جانب المحسن ، ولربّما في أكثر الأحيان نرى المفسدين المذنبين يعيشون في حالة من الرفاه والتنعّم أكثر من غيرهم ، فإذا لم يكن هناك عالم آخر بعد عالمنا هذا لتطبيق العدالة هناك ، فإن

__________________

(١) بعض المفسّرين قالوا : إنّ (أمّ) هنا تعطي معنى (بل) للاضراب ، وهنا احتمال آخر يقول : إنّ (أم) جاءت للعطف على استفهام محذوف ، وتقدير الآية هو (أخلقنا السموات والأرض باطلا أم نجعل المتّقين كالفجّار؟).

٤٩٣

وضع العالم هذا مخالف «للحكمة» و (للعدالة) ، وهذا هو دليل آخر على مسألة المعاد.

وبعبارة اخرى ، فلإثبات مسألة المعاد ـ أحيانا ـ يمكن الاستدلال عليها عن طريق برهان (الحكمة) وأحيانا اخرى عن طريق برهان (العدالة) ، فالآية السابقة استدلال بالحكمة ، والآية التي بعدها استدلال بالعدالة.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى موضوع يوضّح ـ في حقيقة الأمر ـ الهدف من الخلق ، إذ جاء في الآية الكريمة :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

فتعليماته خالدة ، وأوامره عميقة وأصيلة ، ونظمه باعثة للحياة وهادية للإنسان إلى الطريق المؤدّي إلى اكتشاف هدف الخلق.

فالهدف من نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصر ـ فقط ـ على تلاوته وتلفّظ اللسان به ، بل لكي تكون آياته منبعا للفكر والتفكّر وسببا ليقظة الوجدان ، لتبعث بدورها الحركة في مسير العمل.

كلمة (مبارك) تعني شيئا ذا خير دائم ومستمر ، أمّا في هذه الآية فإنّها تشير إلى دوام استفادة المجتمع الإنساني من تعليماته ، ولكونها استعملت هنا بصورة مطلقة ، فإنّها تشمل كلّ خير وسعادة في الدنيا والآخرة.

وخلاصة الأمر ، فإنّ كلّ الخير والبركة في القرآن ، بشرط أن نتدبّر في آياته ونستلهم منها ونعمل بها.

* * *

ملاحظتان

١ ـ التقوى والفجور أمام بعضهما البعض

في الآيات المذكورة أعلاه ، ورد الفساد في الأرض في مقابل الإيمان والعمل

٤٩٤

الصالح ، والفجور (الذي يعني تمزيق حجب الدين) في مقابل التقوى والورع.

هل أنّ هذين الإثنين ، يوضّحان حقيقة واحدة في عبارتين ، أم أنّهما يوضّحان موضوعين؟ من غير المستبعد أن يكون الاثنان تأكيدا لمعنى واحد ، لأنّ (المتّقين) هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح و (الفجّار) هم المفسدون في الأرض.

ويحتمل في أن تكون الجملة الاولى هي إشارة إلى الجوانب العملية والعقائدية لكلا الطرفين ، إذ تقارن بين أصحاب العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة وبين أصحاب العقائد الفاسدة والأعمال الخبيثة ، في حين أنّ الجملة الثانية تشير فقط إلى الجانب العملي.

ويحتمل أيضا أنّ (التقوى والفجور) شاهدان على كمال ونقص الإنسان ، والعمل الصالح والفساد في الأرض شاهدان على الجوانب الاجتماعية ، ولكن التأكيد يعدّ أنسب.

٢ ـ لمن تعني هذه الآيات؟

جاء في إحدى الروايات التي تفسّر قوله تعالى :( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) بأنّها إشارة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وأنصاره ، في حين أنّ بقيّة الآية( كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) إشارة إلى أعدائه(١) .

وجاء في حديث آخر نقله (ابن عساكر) عن ابن عباس ، في أنّ المقصودين في الآية( الَّذِينَ آمَنُوا ) «علي» و «حمزة» و «عبيدة» الذين واجهوا في معركة بدر كلا من «عتبة» و «الوليد» و «شيبة» ورموز جيش الكفر والشرك (وتمكّنوا من قتلهم في ساحة المعركة. فبهذا يكون عتبة والوليد وشيبة هم المقصودين في الآية

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الرابع ، الصفحة ٤٥٣ (الحديث ٣٧).

٤٩٥

( كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) (١) .

الواضح من معنى هذه الرّوايات أنّها لا تحصر مفهوم الآية في أفراد معينين ، وإنّما هي بيان لأسباب النّزول ، أو أنّها مصداق واضح وبارز لهذه الآية.

* * *

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ١٧١.

٤٩٦

الآيات

( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) )

التّفسير

سليمانعليه‌السلام يستعرض قوّاته القتالية :

هذه الآيات تواصل البحث السابق بشأن داودعليه‌السلام .

فالآية الاولى تزفّ البشرى لداود في أنّه سيرزق بولد صالح هو سليمان ، وسيتولّى الحكم وأعباء الرسالة من بعده ، وتقول :( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

هذه الجملة تبيّن عظمة مقام سليمان ، ويحتمل كونها ردّا على الاتّهامات القبيحة والعارية من الصحّة الواردة في التوراة المحرّفة عن ولادة سليمان من زوجة أوريا ، والتي كانت شائعة في المجتمع قبل نزول القرآن.

فعبارة (وهبنا) من جهة و (نعم العبد) من جهة اخرى ، وللتعليل (إنّه أوّاب) أي

٤٩٧

(الشخص المطيع لله والممتثل لأوامره ، والذي يتوب إلى الباريعزوجل إثر أبسط غفلة أو زلّة) من جهة ثالثة ، كلّها تدلّ على عظمة مقام هذا النّبي الكبير.

وعبارة (إنّه أوّاب) هي نفس العبارة التي جاءت بحقّ والده داود في الآية (١٧) من نفس السورة ، ورغم أنّ كلمة (أوّاب) صيغة مبالغة وتعني كثير الرجوع وغير محدودة ، فإنّها هنا تعني العودة لطاعة الأمر الإلهي ، العودة إلى الحقّ والعدالة ، العودة من الغفلة وترك العمل بالأولى.

الآية التالية تبدأ بقصّة خيل سليمان ، التي فسّرت بأشكال مختلفة ، حيث أنّ البعض فسّرها بصورة سيّئة ومعارضة لموازين العقل ، حتّى أنّه لا يمكن إيرادها بشأن إنسان عادي ، فكيف ترد بحقّ نبي عظيم كسليمانعليه‌السلام .

ولكن المحقّقين بعد بحثهم في الدلائل العقليّة والنقلية أغلقوا الطريق أمام أمثال هذه التّفسيرات ، وقبل أن نخوض في الاحتمالات المختلفة الواردة ، نفسّر الآيات وفق ظاهرها أو (وفق أقوى احتمال ظاهري لها) لكي نوضّح أنّ القرآن الكريم خال من مثل هذه الادّعاءات المزيّفة التي فرضت على القرآن من قبل الآخرين.

إذ يقول القرآن :( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ) .

«صافنات» جمع (صافنة) وقال معظم اللغويين والمفسّرين : إنّها تطلق على الجياد التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع أحد قوائمها الإمامية قليلا ليمسّ الأرض على طرف الحافر ، وهذه الحالة تخصّ الخيول الأصلية التي هي على أهبّة الاستعداد للحركة في أيّة لحظة(١) .

«الجياد» جمع (جواد) وتعني الخيول السريعة السير ، وكلمة «جياد» مشتقّة في الأصل من (جود) ، والجود عند الإنسان يعني بذل المال ، وعند الخيول يعني سرعة سيرها. وبهذا الشكل فإنّ الخيول المذكورة تبدو كأنّها على أهبّة الاستعداد

__________________

(١) ويرى البعض : إنّ (صافنات) ، تستعمل للمذكّر والمؤنث ، ولهذا فإنّها لا تختّص بإناث الخيل.

٤٩٨

للحركة أثناء حالة توقّفها ، وإنّها سريعة السير أثناء عدوها.

ويستشف من الآية مع القرائن المختلفة المحيطة بها ، أنّه في أحد الأيّام وعند العصر استعرض سليمانعليه‌السلام خيوله الأصيلة التي كان قد أعدّه الجهاد أعدائه ، إذ مرّت تلك الخيول مع فرسانها أمام سليمانعليه‌السلام في استعراض منسّق ومرتّب. وبما أنّ الملك العادل وصاحب النفوذ عليه أن يمتلك جيشا قويّا ، والخيول السريعة إحدى الوسائل المهمّة التي يجب أن تتوفّر لدى ذلك الجيش ، فقد جاء هذا الوصف في القرآن بعد ذكر مقام سليمان باعتباره نموذجا من أعماله.

ولكي يطرد سليمان التصوّر عن أذهان الآخرين في أنّ حبّه لهذه الخيول القويّة ناتج من حبّة للدنيا ، جاء في قوله تعالى :( فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) انّي احبّ هذه الخيل من أجل الله وتنفيذ أمره ، وأريد الاستفادة منها في جهاد الأعداء.

لقد ورد أنّ العرب تسمّى «الخيل» خيرا ، وفي حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيه : «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة»(١) .

واستمرّ سليمانعليه‌السلام ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدّة لجهاد أعداء الله ، وهو يعيش حالة من السرور ، حتّى توارت عن أنظاره( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) .

كان هذا المشهد جميلا ولطيفا لقائد كبير مثل سليمان ، بحيث أمر بإعادة عرض الخيل مرّة اخرى( رُدُّوها عَلَيَ ) . وعند ما نفّذت أوامره بإعادة الخيل ، عمد سليمانعليه‌السلام إلى مسح سوقها وأعناقها( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) .

وبهذا الشكل أشاد بجهود مدربي تلك الخيول ، وأعرب لهم عن تقديره لها ، لأنّ من الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد ووجهه ورقبته وشعر رقبته ، أو يمسح على ساقه. وأبرز في نفس الوقت تعلّقه

__________________

(١) مجمع البيان في ذيل الآيات مورد بحثنا ، قال البعض : إنّ (خير) الواردة في الآية الآنفة الذكر تعني المال أو المال الكثير ، وهذا التّفسير من الممكن أن يتطابق مع التّفسير السابق ، لأنّ مصداق المال هنا هو الخيل.

٤٩٩

الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية ، وتعلّق سليمان الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب.

«طفق» باصطلاح النحويين من أفعال المقاربة ، وتأتي بمعنى «شرع».

«سوق» هي جمع (ساق) و (أعناق) جمع (عنق) ومعنى الآية هو أنّ سليمان شرع بمسح سوق الجياد وأعناقها.

ما ذكرناه بشأن تفسير هذه الآية يتطابق مع ما ذهب إليه بعض المفسّرين كالفخر الرازي ، كما تمّت الاستفادة من بعض ما ورد عن العالم الشيعي الكبير السيّد المرتضى ، إذ قال في كتابه (تنزيه الأنبياء) في باب نفي الادّعاءات الباطلة والمحرّمة التي ينسبها بعض المفسّرين ورواة الحديث إلى سليمان (إنّ الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه والثناء عليه فقال :( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) فلا يمكن أن يثني عليه بهذا الثناء ثمّ يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه ، وأنّه يتلّهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة ، والذي يقتضيه الظاهر أنّ حبّه للخيل وشغفه بها كان عن إذن ربّه وبأمره وبتذكيره إيّاه ، لأنّ الله تعالى قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء ، فلا ينكر أن يكون سليمانعليه‌السلام مأمورا بمثل ذلك)(١) .

أمّا العلّامة المجلسي فقد ذكر في كتابه (بحار الأنوار) في باب النبوّة ، تفسيرا لهذه الآيات يشابه كثيرا ما ذكر أعلاه(٢) .

على أيّة حال ـ وفق هذا التّفسير ـ لم يصدر من سليمان أي ذنب ، ولم يحدث أي خلل في ترتيب الآيات ، ولا تبدو أيّة مشكلة حتّى نعمد إلى توضيحها(٣) .

والآن نستعرض تفاسير اخرى لمجموعة من المفسّرين بشأن هذه الآيات وأشهرها ، ذلك التّفسير الذي يعود بالضمير في جملتي (توارت) و (ردّوها) إلى

__________________

(١) تنزيه الأنبياء ، الصفحة ٩٣.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد ١٤ ، الصفحة ١٠٤.

(٣) طبقا لهذا التّفسير فإنّ الضمير في عبارتي (توارت) و (ردّوها) يعود على الخيل الماهرة والحاذقة (الصافنات الجياد).

٥٠٠

(الشمس) التي لم ترد في تلك الآيات ، ولكنّهم استدلّوا عليها من كلمة (العشي) (التي تعني آخر النهار بعد الزوال) الموجودة في آيات بحثنا.

وبهذا الشكل فإنّ الآيات تعطي المفهوم التالي ، إنّ سليمان كان غارقا في مشاهدة الخيل والشمس قد غربت واستترت خلف حجاب الأفق ، فغضب سليمان كثيرا لأنّه لم يكن قد صلّى صلاة العصر ، فنادى ملائكة الله ، ودعاها إلى ردّ الشمس ، فاستجابت له الملائكة وردّتها إليه ، أي رجعت فوق الأفق ، فتوضّأ سليمان (المراد بمسح السوق والأعناق هو أداء الوضوء الذي كان حينذاك يعمل به وفق سنّة سليمان ، وبالطبع فإنّ كلمة (المسح) تأتي أحيانا في لغة العرب بمعنى الغسل) ثمّ صلّى.

البعض ممّن ليس لديهم الاطلاع الكافي تحدّثوا بأكثر من هذا ، ونسبوا أمورا سيّئة ومحرّمة اخرى إلى هذا النّبي الكبير ، عند ما قالوا : إنّ المقصود من جملة( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) هو أنّه أمر بضرب سوق وأعناق الخيل بالسيف ، أو أنّه نفّذ هذا الأمر بشخصه ، لأنّها شغلته عن ذكر الله والصلاة.

طبيعي أنّ بطلان التّفسير الأخير لا يخفى على أحد ، لأنّ الخيول لا ذنب لها كي يقتلها سليمان بحدّ السيف ، فإن كان هناك ذنب فقد ارتكبه هو ، لأنّه كان غارقا في مشاهدة خيله ، ونسي صلاته.

وأحيانا فإنّ قتل الخيل إسراف إضافة إلى كونه جريمة ، فكيف يمكن أن يصدر مثل هذا العمل المحرّم من نبي ، أمّا الروايات التي وردت من المصادر الإسلاميّة بشأن هذه الآية فإنّها تنفي ـ بشدّة ـ هذه التهمة الموجّهة إلى سليمانعليه‌السلام .

أمّا التفاسير السابقة التي قالت بنسيان سليمان وغفلته عن أداء صلاة العصر ، فهي موضع السؤال التالي ، هل يمكن لنبي معصوم أن ينسى واجبا مكلّفا به؟ رغم أنّ استعراضه للخيول كان واجبا آخر مكلّفا به ، إلّا إذا كانت الصلاة ـ كما قال

٥٠١

البعض ـ صلاة مندوبة أو مستحبّة ، ونسيانها لا يسبّب أيّة مشاكل ، ولكن إن كانت صلاة نافلة فلا ضرورة إذن لردّ الشمس.

إذا انتهينا من هذا ، فهناك إشكالات اخرى وردت بشأن هذا التّفسير.

١ ـ كلمة (الشمس) لم تأت بصورة صريحة في الآيات ، في حين أنّ الخيل( الصَّافِناتُ الْجِيادُ ) جاء ذكرها صريحا ، ونرى من المناسب أن نعود بالضمير على شيء صرّحت به الآيات.

٢ ـ عبارة( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) ظاهرها يعني أنّ حبّ هذه الخيل إنّما هو ناشئ من ذكر وطاعة أمر الله ، في حين ـ طبقا للتفسير الأخير ـ تعطي كلمة (عن) معنى (على) ويكون معنى العبارة ، إنّي آثرت حبّ الخيل على حبّ ربّي ، وهذا المعنى مخالف لظاهر الآية.

٣ ـ الأعجب من كلّ ذلك هي عبارة( رُدُّوها عَلَيَ ) التي تحمل صفة الأمر ، فهل يمكن أن يخاطب سليمان الباريعزوجل أو ملائكته بصيغة الأمر ، أن ردّوا عليّ الشمس ، كما يخاطب عبيده أو خدمه.

٤ ـ قضيّة ردّ الشمس ، رغم أنّها في مقابل قدرة الباريعزوجل تعدّ أمرا يسيرا ، إلّا أنّها تواجه بعض الإشكالات بحيث جعلتها أمرا لا يمكن قبوله من دون توفّر أدلّة واضحة عليها.

٥ ـ الآيات المذكورة أعلاه تبدأ بمدح وتمجيد سليمان ، في حين أنّ التّفسير الأخير لها يعطي معنى الذمّ والتحقير.

٦ ـ إذا كانت الصلاة المتروكة واجبة ، فتعليلها يعدّ أمرا صعبا ، أمّا إذا كانت نافلة فلا داعي لردّ الشمس.

السؤال الوحيد المتبقّي هنا ، هو أنّ هذا التّفسير ورد في عدّة روايات في مصادر الحديث ، وإذا دقّقنا جيّدا في إسناد هذه الأحاديث ، يتّضح لنا أنّها جميعا

٥٠٢

تفتقد السند الموثوق المعتبر ، وأنّ أكثر هذه الروايات موضوعة.

أليس من الأفضل صرف النظر عن تلك الروايات غير الموثوقة ، وإرجاع علمها إلى أصحابها ، وتقبّل كلّ ما يبيّنه ظاهر الآيات بذهنية صافية ومتفتّحة ، لنريح أنفسنا من عناء الإشكالات الفارغة.

* * *

٥٠٣

الآيات

( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) )

التّفسير

الامتحان الصعب لسليمان وملكه الواسع :

هذه الآيات تتحدّث عن أحداث اخرى من قصّة سليمان ، وتبيّن أنّ الإنسان مهما امتلك من قوّة وقدرة ، فإنّها ليست منه ، بل إنّ كلّ ما عنده هو من الله سبحانه وتعالى ، هذا الموضوع يزيل حجب الغرور والغفلة عن عين الإنسان ، ويجعله يشعر بصغر حجمه قياسا إلى هذا الكون.

القسم الأوّل من الآيات يتطرّق إلى أحد الامتحانات التي امتحن الله بها عبده

٥٠٤

سليمان ، الامتحان في ترك العمل بالأولى ، وكيف توجّه بعدها سليمان بقلب خاشع إلى الله سبحانه وتعالى طالبا منه العفو والتوبة لتركه العمل بالأولى.

إيجاز محتوى الآيات ، سمح مرّة اخرى لنا سجي قصص الخيال أن ينسجوا قصصا خيالية وهمية اخرى ، ويلصقوا التّهم بهذا النّبي الكبير ما لا يليق بالنّبوة ، ويتنافى مع مقام العصمة ، ويتنافى أساسا مع المنطق والعقل ، وهذا بحدّ ذاته إمتحان للمحقّقين في علوم القرآن ، فلو أنّنا اكتفينا بما تطرحه آيات القرآن لما بقيت ثغرة لنفوذ الخرافات والأباطيل.

الآية الاولى في بحثنا هذا تقول :( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ) .

«الكرسي» يعني الأريكة ذات الأرجل القصيرة ، ويبدو أنّه كان للسلاطين نوعان من الكراسي ، الأوّل : له أرجل قصيرة يستخدم في الأوقات العادية ، والثاني : له أرجل أطول يستخدمها السلاطين في اجتماعاتهم الرسمية ، ويطلق على الأوّل اسم (كرسي) وعلى الثاني اسم (عرش).

«الجسد» يعني الجسم الذي لا روح فيه ، وكما يقول الراغب في مفرداته : إنّ لها مفهوما أكثر محدودية من مفهوم الجسم ، لأنّ كلمة الجسد لا تطلق على غير الإنسان إلّا نادرا ، ولكن كلمة الجسم لها طابع عام.

يستفاد من هذه الآيات بصورة عامّة أنّ موضوع إمتحان سليمان كان بواسطة جسد خال من الروح القي على كرسيّه وأمام عينيه ، أمر لم يكن يتوقّعه ، وآماله كانت متعلّقة بشيء آخر ، والقرآن لا يعطي تفصيلات اخرى في هذا المجال.

وقد أورد المفسّرون والمحدّثون تفسيرات متعدّدة في هذا المجال ، أفضلها وأوضحها ما يلي :

إنّ سليمانعليه‌السلام كان متزوجا من عدّة نساء ، وكان يأمل أن يرزق بأولاد صالحين شجعان ليساعدوه في إدارة شؤون البلاد وجهاد الأعداء ، فحدّث نفسه

٥٠٥

يوما قائلا : لأطوفنّ على نسائي كي ارزق بعدد من الأولاد لعلّهم يساعدونني في تحقيق أهدافي ، ولكونه غفل عن قول (إن شاء الله) بعد تمام حديثه مع نفسه ، تلك العبارة التي تبيّن توكّل الإنسان على الله سبحانه وتعالى في كلّ الأمور والأحوال ، فلم يرزق سوى ولد ميّت ناقص الخلقة جيء به والقي على كرسي سليمانعليه‌السلام .

سليمانعليه‌السلام غرق ـ هنا ـ في تفكير عميق ، وتألّم لكونه غفل عن الله لحظة واحدة واعتمد على قواه الذاتية ، فتاب إلى الله وعاد إليه.

وهناك تفسير آخر يمكن طرحه بعد التّفسير الأوّل وهو : إنّ الله سبحانه وتعالى امتحن سليمان بمرض شديد ، بحيث طرحه على كرسيه كجسد بلا روح من شدّة المرض ، وعبارة (جسد بلا روح) مألوفة ودارجة في اللغة العربية إذ تطلق على الإنسان الضعيف والعليل.

وفي نهاية الأمر تاب سليمان إلى الله ، وأعاد الله إليه صحّته ، وعاد كما كان قبل مرضه (والمراد من (أناب) هنا عودة الصحّة والعافية إليه).

بالطبع هناك إشكال ورد على هذا التّفسير إذ أنّ عبارة (ألقينا) كان يجب أن تأتي بصورة (ألقيناه) حتّى تتناسب مع التّفسير المذكور أعلاه ، يعني أنّا ألقينا سليمان على كرسيّه جسدا بلا روح ، في حين أنّ هذه العبارة لم ترد في الآية بتلك الصورة ، وتقديرها مخالف للظاهر.

عبارة (أناب) في هذا التّفسير جاءت بمعنى عودة الصحّة والعافية إليه ، وهذا أيضا مخالف للظاهر ، أمّا إذا اعتبرنا أنّ معنى (أناب) هو التوبة والعودة إلى الله ، فإنّها لا تلحق أي ضرر بالتّفسير ، ولهذا فإنّ الشيء الوحيد المخالف لظاهر الآية ـ هنا ـ هو حذف ضمير عبارة (ألقيناه).

القصص الكاذبة والقبيحة التي تحدّثت عن فقدان خاتم سليمان ، وعثور أحد الشياطين عليه ، وجلوس ذلك الشيطان على عرش سليمان ، كما ورد في بعض الكتب التي لا يستبعد أن يكون مصدرها هو كتاب (التلمود) اليهودي المليء

٥٠٦

بالخرافات الإسرائيلية بما لا يتناسب مع العقل والمنطق.

وهذه القصص ـ في حقيقة الأمر ـ دليل انحطاط أفكار مبتدعيها ، ولهذا فإنّ المحقّقين المسلمين أينما ذكروها أعلنوا بصراحة زيفها وكونها مجرّد اختلاقات ، وقالوا : إنّ مقام النبوّة والحكومة الإلهية غير مرتبط بالخاتم ، ولم يستردّ الباريعزوجل النبوّة من أحد أنبيائه بعد أنّ بعثه بها ، حتّى يبعث الشيطان بصورة نبي ليجلس مكان سليمان (٤٠) يوما يحكم فيها بين الناس ويقضي بينهم(١) .

على أيّة حال ، فإنّ القرآن الكريم ـ من خلال الآية التالية ـ يكرّر الحديث بصورة مفصّلة حول قضيّة توبة سليمان التي وردت في آخر عبارة تضمّنتها الآية السابقة :( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) .

* * *

هنا يطرح سؤالان :

١ ـ هل يستشفّ البخل من طلب سليمانعليه‌السلام

ذكر المفسّرون أجوبة كثيرة على هذا السؤال ، الكثير منها لا يتطابق مع ظاهر الآيات ، والجواب الذي يبدو أكثر تناسبا ومنطقية من بقيّة التفاسير هو أنّ سليمان طلب من الباريعزوجل أن يهب له ملكا مع معجزات خاصّة ، كي يتميّز ملكه عن بقيّة الممالك ، لأنّنا نعرف أنّ لكلّ نبي معجزة خاصّة به ، فموسىعليه‌السلام معجزته العصا واليد البيضاء ، ومعجزة إبراهيمعليه‌السلام عدم إحراق النار له بعد أن القي فيها ، ومعجزة صالحعليه‌السلام الناقة الخاصّة به ، ومعجزة نبيّنا الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو القرآن المجيد ، وسليمان كان ملكه مقترنا بالمعجزات الإلهيّة ، كتسخير الرياح والشياطين له مع

__________________

(١) وللإيضاح أكثر في أنّ كتب اليهود هي مصدر مثل هذه الخرافات ، يراجع كتاب (أعلام القرآن) موضوع سليمان في القصص الصفحة ٣٩٢.

٥٠٧

مميّزات اخرى.

وهذا الأمر لا يعدّ عيبا أو نقصا بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من الله أن يؤيّدهم بمعجزة خاصّة ، كي يبرهنوا للناس على صدق نبوّتهم ، ولهذا فلا يوجد أي مانع في أن يطلب الآخرون ملكا أوسع وأكبر من ملك سليمان ، ولكن لا تتوفّر فيه الخصائص التي أعطيت لسليمان.

والدليل على هذا الكلام الآيات التالية ، والتي هي ـ في الحقيقة ـ تعكس استجابة البارئعزوجل لطلب سليمان ، وتتحدّث عن تسخير الرياح والشياطين لسليمان ، وكما هو معروف فإنّ هذا الأمر هو من خصائص ملك سليمان.

ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثاني الذي يقول ، وفقا لعقائدنا نحن المسلمون ، فإنّ ملك المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) سيكون ملكا عاليا ، وبالنتيجة سيكون أوسع من ملك سليمان. لأنّ ملك المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مع سعته وخصائصه التي تميّزه عن بقيّة الممالك ، فإنّه يبقى من حيث الخصائص مختلفا عن ملك سليمان ، وملك سليمان يبقى خاصّا به. خلاصة الأمر أنّ الحديث لم يختّص بزيادة ونقصان وتوسعة ملكه وطلب الإختصاص به ، وإنّما اختصّ الحديث بكمال النبوّة والذي يتمّ بوجود معجزات خصوصية ، لتميّزه عن نبوّة الأنبياء الآخرين ، وسليمان كان طلبه منحصرا في هذا المجال.

ولقد ورد في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام في ردّه على سؤال يقول : إنّ دعوة سليمان فيها بخل ، إذ جاء في الحديث أنّ أحد المقرّبين عن الإمام الكاظمعليه‌السلام وهو علي بن يقطين سأل الإمامعليه‌السلام قائلا : أيجوز أن يكون نبي اللهعزوجل بخيلا؟

فقال : «لا».

فقلت له : فقول سليمانعليه‌السلام :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) ما وجهه ومعناه؟

٥٠٨

فقال : «الملك ملكان : ملك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس ، وملك مأخوذ من قبل الله تعالى كملك آل إبراهيم وملك طالوت وذي القرنين ، فقال سليمانعليه‌السلام : هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول إنّه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار النّاس ، فسخّر اللهعزوجل له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، وجعل غدوّها شهرا ورواحها شهرا ، وسخّر اللهعزوجل له الشياطين كلّ بناء وغوّاص ، وعلّم منطق الطير ومكّن في الأرض ، فعلم الناس في وقته وبعده أنّ ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل والمالكين بالغلبة والجور.

قال : فقلت له : فقول رسول الله : «رحم الله أخي سليمان بن داود ما كان أبخله»؟

فقال : «لقولهعليه‌السلام وجهان : أحدهما : ما كان أبخله بعرضه وسوء القول فيه ، والوجه الآخر يقول : ما كان أبخله إن كان أراد ما كان يذهب إليه الجهّال»(١) .

الآيات التالية تبيّن ـ كما قلنا ـ موضوع استجابة الله سبحانه وتعالى لطلب سليمان ومنحه ملكا يتميّز بامتيازات خاصّة ونعم كبيرة ، يمكن إيجازها في خمسة أقسام :

١ ـ تسخير الرياح له بعنوان واسطة سريعة السير ، كما تقول الآية :( فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ) .

من الطبيعي أنّ الملك الواسع الكبير يحتاج إلى واسطة اتّصال سريعة ، كي يتمكّن صاحب ذلك الملك من تفقّد كلّ مناطق مملكته بسرعة في الأوقات الضرورية ، وهذا الامتياز منحه الباريعزوجل لسليمانعليه‌السلام .

أمّا كيف كانت الرياح تطيع أوامره؟

وبأي سرعة كانت تسير؟

وعلى أي شيء كان سليمان وأصحابه يركبون أثناء انتقالهم من مكان إلى آخر عبر الرياح؟

__________________

(١) كتاب علل الشرائع ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٥٩.

٥٠٩

وما هي العوامل التي كانت تحفظهم من السقوط ومن انخفاض وارتفاع ضغط الهواء ، وغيرها من المشاكل.

خلاصة الأمر : ما هي هذه الواسطة السريّة وذات الأسرار الخفيّة التي كانت موضوعة تحت تصرّف سليمان في ذلك العصر؟

تفاصيل هذه التساؤلات ليست واضحة بالنسبة لنا ، وكلّ ما نعرفه أنّ تلك الأمور الخارقة توضع تحت تصرّف الأنبياء لتسهّل لهم القيام بمهامهم. وهذه القضايا ليست بقضايا عادية ، وإنّما هي نعم خارقة ومعجزات ، وهذه الأشياء تعدّ شيئا بسيطا في مقابل قدرة الباريعزوجل ، وما أكثر المسائل التي نعرف أصلها في الوقت الذي لا نعرف أي شيء عن جزئياتها.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : كيف يمكن أن تتطابق عبارة (رخاء) الواردة في هذه الآية ، والتي تعني (اللين) مع عبارة (عاصفة) والتي تعني الرياح الشديدة والواردة في الآية (٨١) من سورة الأنبياء :( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ) .

لهذا السؤال جوابان :

الأوّل : وصف الرياح بالعاصفة لبيان سرعة حركتها ، ووصفها بالرخاء لبيان حركتها الهادئة والرتيبة ، أي إنّ سليمان وأصحابه لم يكونوا يشعرون بأيّ انزعاج من جرّاء حركة الرياح السريعة ، فهي كالوسائل السريعة السير الموجودة حاليا ، التي يشعر الإنسان معها كأنّه جالس في إحدى غرف بيته ، بينما تسير به تلك الوسيلة بسرعة عالية جدّا.

وقد ذكر بعض المفسّرين جوابا آخر على ذلك السؤال ، وهو : إنّ هاتين الآيتين تشيران إلى نوعين من الرياح سخّرهما الله سبحانه وتعالى لسليمان ، إحداهما كانت سريعة السير ، والثانية بطيئة.

٢ ـ النعمة الاخرى التي أنعمها البارئعزوجل على عبده سليمانعليه‌السلام ، هي

٥١٠

تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرّف سليمان لتنجز له بعض الأعمال التي يحتاجها( وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) (١) .

أي إنّ مجموعة منها منشغلة في البرّ ببناء ما يحتاج إليه سليمان من أبنية ، واخرى منشغلة بالغوص في البحر.

وبهذا الشكل فإنّ الله وضع تحت تصرّف سليمان قوّة مستعدّة لتنفيذ ما يحتاج إليه ، فالشياطين ـ التي من طبيعتها التمرّد والعصيان ـ سخّرت لسليمان لتبني له ، ولتستخرج المواد الثمينة من البحر.

ومسألة تسخير الشياطين لسليمان وتنفيذها لما يحتاج إليه ، لم ترد في هذه الآية فقط ، وإنّما وردت في عدّة آيات من آيات القرآن المجيد ، ولكن في بعض الآيات ـ كالآية التي هي مورد بحثنا والآية (٨٢) من سورة الأنبياء استخدمت كلمة (الشياطين) فيها ، فيما استخدمت كلمة (الجنّ) في الآية (١٢) من سورة سبأ.

وكما قلنا سابقا فإنّ (الجنّ) موجودات مخفية عن أنظارنا ، ولها عقول وشعور وقدرة ، وبعضها مؤمن وبعضها الآخر كافر ، ولا يوجد هناك أي مانع من أن توضع ـ بأمر من الله ـ تحت تصرّف بعض الأنبياء ، لتنجز له بعض الأعمال.

وهناك احتمال وارد أيضا ، وهو أنّ كلمة الشياطين لها معنى واسع قد يشمل حتّى العصاة من البشر ، وقد استخدم هذا المعنى في الآية (١١٢) من سورة الأنعام ، وبهذا الترتيب فإنّ الله سبحانه وتعالى منح سليمان قوّة جعلت حتّى المتمردّين العصاة ينصاعون لأوامره.

٣ ـ النعمة الاخرى التي أنعمها الباريعزوجل على سليمان ، هي سيطرته على مجموعة من القوى التخريبيّة ، لأنّ هناك من بين الشياطين من لا فائدة فيه ، ولا سبيل أمام سليمان سوى تكبيلهم بالسلاسل ، كي يبقى المجتمع في أمان من

__________________

(١) (الشياطين) معطوفة على (الريح) والتي هي مفعول (سخّرنا) ، و (كلّ بنّاء وغوّاص) بدل من الشياطين.

٥١١

شرورهم ، كما جاء في القرآن المجيد( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) (١) .

«مقرّنين» مشتقّة من (قرن) وهي تشير إلى ربط الأيدي والأرجل أو الرقاب بالسلاسل.

«أصفاد» جمع (صفد) على وزن (مطر) وتعني القيود التي تكبّل بها أيدي السجناء.

وقال البعض : إنّ عبارة( مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) تعني الجامعة التي تجمع بين الرقبة واليدين ، وهذا المعنى قريب من معنى «مقرنين» اللغوي وأكثر مناسبة له.

وهناك رأي آخر محتمل ، وهو أنّ المقصود من هذه العبارة هو أنّ كلّ مجموعة منهم مغلولة بسلسلة واحدة.

وهنا يطرح هذا السؤال : إن كان المراد من الشياطين هم شياطين الجنّ ، فإنّ أولئك لهم جسم شفّاف لا يتناسب مع استخدام الأغلال والسلاسل والقيود.

لهذا قال البعض : إنّها كناية عن اعتقال ومنع تلك الشياطين من أداء أي نشاط تخريبي ، وإن كان المقصود من الشياطين هم المتمردون والعصاة من بني آدم فإنّ الأغلال والقيود تبقى محافظة على مفهومها الأصلي ، أي إنّ استخدامها هنا وارد.

٤ ـ النعمة الرابعة التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على نبيّه سليمان هي إعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد ، ومنعها عمّن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة ،( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

عبارة( بِغَيْرِ حِسابٍ ) إمّا أن تكون إشارة إلى أنّ البارئعزوجل قد أعطى لسليمان صلاحيات واسعة لن تكون مورد حساب أو مؤاخذة ، وذلك لصفة العدالة التي كان يتمتّع بها سليمان في مجال استخدام تلك الصلاحيات ، أو أنّ العطاء الإلهي لسليمان كان عظيما بحيث أنّه مهما منح منه فإنّه يبقى عظيما وكثيرا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه العبارة تخصّ ـ فقط ـ الشياطين المقرنين

__________________

(١) «آخرين» معطوفة على (كلّ بنّاء) وهي بمثابة مفعول (سخّرنا) ، و (مقرنين) صفة لـ (آخرين).

٥١٢

بالأصفاد ، وتخاطب سليمان بأنّه يستطيع إطلاق سراح أي منهم (إن رأى في ذلك صلاحا ، وإبقاء من يشاء في قيوده إن رأى الصلاح في ذلك.

إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد ، لأن لا يتلاءم مع ظاهر كلمة (عطائنا).

٥ ـ والنعمة الخامسة والأخيرة التي منّ الله سبحانه وتعالى بها على سليمان ، هي المراتب المعنوية اللائقة التي شملته ، كما ورد في آخر آية من آيات بحثنا( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ) .

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ هي الردّ المناسب على أولئك الذين يدنّسون قدسية أنبياء الله العظام بادّعاءات باطلة وواهية يستقونها من كتاب التوراة الحالي المحرّف ، وبهذا الشكل فإنّها تبرئ ساحته من كلّ تلك الاتّهامات الباطلة والمزيّفة ، وتشيد بمرتبته عند البارئعزوجل ، حتّى أنّ عبارة( حُسْنَ مَآبٍ ) التي تبشّره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند الله ، هي ـ في نفس الوقت ـ إشارة إلى زيف الادّعاءات المحرّفة التي نسبتها كتب التوراة إليه ، والتي تدّعي أنّ سليمان انجرّ في نهاية الأمر إلى عبادة الأصنام إثر زواجه من امرأة تعبد الأصنام ، وعمد إلى بناء معبد للأصنام ، إلّا أنّ القرآن الكريم ينفي ويدحض كلّ تلك البدع والخرافات.

* * *

ملاحظتان

١ ـ الحقائق التي تبيّنها لنا قصّة سليمان

من دون أيّ شكّ ، إنّ القرآن الكريم يهدف من ذكر تاريخ الأنبياء إتمام برامج التربية من خلال عكس عين الحقائق في هذه القصص.

ومن جملة الأمور التي رسمتها قصّة سليمان ، ما يلي :

أ: إنّ إمساكه بزمام امور مملكة قويّة ذات إمكانيات ماديّة واقتصاديّة واسعة

٥١٣

وحضارة ساطعة لا تتنافى مع المقامات المعنوية والقيم الإلهية والإنسانية ، كما ذكرت ذلك الآيات المذكورة أعلاه بعد انتهائها من سرد النعم الماديّة التي أجزلها الله على سليمان ، إذ يقول القرآن المجيد :( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ) .

وفي حديث ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال فيه : «أرأيتم ما اعطي سليمان بن داود من ملكه؟ فإنّ ذلك لم يزده إلّا تخشعا ، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعا لربّه»(١) !

ب : لإدارة شؤون مملكته كبيرة مترامية الأطراف ، يجب توفّر وسيلة سريعة للاتّصال ، كما ينبغي الاستفادة من الطاقات المختلفة ، والحيلولة دون نفوذ القوى المخرّبة ، والاهتمام بالقضايا العمرانية ، والحصول على الأموال عن طريق استخراج الثروات من البرّ والبحر ، ووضع الإمكانات تحت تصرّف الولاة والعمّال المناسبين والجديرين بتسلّم المناصب ، كلّ هذه الأمور عكستها قصّة سليمان بصورة واضحة.

ج : الاستفادة من القوى البشرية بأقصى حدّ ممكن ، بل ويمكن الاستفادة حتّى من الشياطين ، إذ يمكن توجيهها وإرشادها للطريق الصحيح ، وغلّ وتصفيد المتبقّي منها الذي لا يستفاد منه.

٢ ـ سليمان في القرآن والتوراة

القرآن المجيد وصف نبي الله سليمان في الآيات المذكورة أعلاه بأنّه إنسان طاهر وصاحب قيم ومدبّر وعادل.

في حين وصفه كتاب التوراة الحالي المحرّف (والعياذ بالله) بأنّه رجل فاجر مطيع لهوى نفسه وذو نقاط ضعف كثيرة. والعجيب في الأمر أنّه استعرض إلى جانب هذه الصفات الكاذبة والمزيّفة مناجاة سليمان لربّه وأشعاره الدينيّة وأمثاله

__________________

(١) روح البيان ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٣٩.

٥١٤

وحكمه ، والتي تشهد على أنّه رجل حكيم وحرّ ، وهذا تناقض عجيب يشاهد في كتاب التوراة المحرّف الحالي.

ولمن يريد الاطلاع أكثر بهذا الشأن يمكنه مراجعة تفسير الآيات ١٢ و ١٣ و ١٤ من سورة سبأ ، والذي جاء تحت عنوان (صور سليمان في القرآن وكتاب التوراة الحالي المحرّف).

* * *

٥١٥

الآيات

( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) )

التّفسير

حياة أيّوب المليئة بالحوادث والعبر :

الآيات السابقة تحدّثت عن سليمانعليه‌السلام وعن القدرة التي منحها إيّاه البارئعزوجل ، والتي كانت بمثابة البشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمسلمي مكّة الذين كانوا يعيشون تحت ضغوط صعبة.

آيات بحثنا هذا تتحدّث عن أيّوب الذي كان أنموذجا حيّا للصبر والاستقامة ، وذلك لتعطي درسا لمسلمي ذلك اليوم ويومنا الحاضر وغدا ، درسا في مقاومة مشاكل وصعاب الحياة ، ولتدعوهم إلى الاتّحاد والتعاون ، كما وضّحت العاقبة المحمودة للصبر والصابرين.

٥١٦

وأيّوب هو ثالث نبي من أنبياء الله تستعرض هذه السورة (سورة ص) جوانب من حياته ، وهي بذلك تدعو رسولنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تذكّر هذه القصّة ، وحكايتها للمسلمين ، كي يصبروا على المشاكل الصعبة التي كانت تواجههم ، ولا ييأسوا من لطف ورحمة الله.

اسم «أيّوب» أو قصّته وردت في عدّة سور من سور القرآن المجيد ، منها الآية (١٦٣) في سورة النساء ، والآية (٨٤) في سورة الأنعام التي ذكرت اسمه في قائمة أنبياء الله الآخرين ، وبيّنت وأثبتت مقام نبوّته ، بخلاف كتاب التوراة الحالي الذي لم يعتبره من الأنبياء ، وإنّما اعتبره أحد عباد الله المحسنين والأثرياء وذا عيال كثيرين.

كما أنّ الآيات (٨٣) و (٨٤) في سورة الأنبياء استعرضت بصورة مختصرة جوانب من حياة أيّوبعليه‌السلام ، أمّا آيات بحثنا هذه فإنّها تستعرض حياته بصورة مفصّلة أكثر من أيّ سورة اخرى من خلال أربعة آيات :

فالاولى تقول :( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ) .

«نصب» على وزن (عسر) ، و (نصب) على وزن (حسد) ، وكلاهما بمعنى البلاء والشرّ.

هذه الآية تبيّن أوّلا علوّ مقام أيّوب عند الباريعزوجل ، وذلك من خلال كلمة «عبدنا» ، وثانيا فإنّها تشير بصورة خفيّة إلى الابتلاءات الشديدة التي لا تطاق ، وإلى الألم والعذاب الذي مسّ أيّوبعليه‌السلام .

ولم يرد في القرآن الكريم شرحا مفصّلا لما جرى على أيّوبعليه‌السلام ، وإنّما نقرأ في كتب الحديث المعروفة والتفاسير تفاصيل هذه القصّة.

ففي تفسير نور الثقلين نقرأ أنّ أبا بصير سأل الإمام الصادق عن بليّة أيّوب التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علّة كانت؟ (لعلّ السائل كان يظنّ أنّ أيّوب ابتلي بما ابتلي

٥١٧

به لمعصية ارتكبها) فأجابعليه‌السلام

بقوله : «لنعمة أنعم اللهعزوجل عليه بها في الدنيا وأدّى شكرها ، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش ، فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيّوبعليه‌السلام حسده إبليس ، فقال : يا ربّ ، إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلّا بما أعطيته من الدنيا ، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليه شكر نعمة أبدا ، فسلّطني على دنياه حتّى تعلم أنّه لم يؤدّ إليك شكر نعمة أبدا».

(ولكي يوضّح البارئعزوجل إخلاص أيّوب للجميع ، ويجعله نموذجا حيّا للعالمين حتّى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء ، سمح الباريعزوجل للشيطان في أن يتسلّط على دنيا أيّوب).

«فقال له الباريعزوجل : قد سلّطتك على ماله وولده ، قال : فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولدا إلّا أعطبه (أي أهلكه) فازداد أيّوب لله شكرا وحمدا. قال : فسلّطني على زرعه يا ربّ ، قال : قد فعلت ، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق ، فازداد أيّوب لله شكرا وحمدا ، فقال : يا ربّ سلّطني على غنمه ، فسلّطه على غنمه فأهلكها ، فازداد أيّوب لله شكرا وحمدا ، فقال : يا ربّ سلّطني على بدنه فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه ، فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه ، فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره».

(ولكن وقعت حادثة كسرت قلبه وجرحت روحه جرحا عميقا ، وذلك عند ما زارته مجموعة من رهبان بني إسرائيل).

«وقالوا له : يا أيّوب لو أخبرتنا بذنبك لعلّ الله كان يهلكنا إذا سألناه ، وما نرى ابتلاك بهذا الابتلاء الذي لم يبتل به أحد إلّا من أمر كنت تستره؟ فقال أيّوبعليه‌السلام : وعزّة ربّي لم أرتكب أي ذنب ، وما أكلت طعاما إلّا ويتيم أو ضعيف يأكل معي»(١) .

__________________

(١) هذه الرواية وردت في تفسير نور الثقلين نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم ، ونفس المضمون ورد في (تفسير القرطبي) و (الفخر الرازي) و (الصافي) وغيرها مع اختلاف بسيط.

٥١٨

حقّا إنّ شماتة أصحابه كانت أكثر ألما عليه من أيّة مصيبة اخرى حلّت به ، ورغم هذا لم يفقد أيّوب صبره ، ولم يلوّث شكره الصافي كالماء الزلال بالكفر ، وإنّما توجّه إلى البارئعزوجل وذكر العبارة التي ذكرناها آنفا ، أي قوله تعالى :( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ) ولكونه خرج من الامتحان الإلهي بنتيجة جيّدة ، فتح الباريعزوجل ـ مرّة اخرى ـ أبواب رحمته على عبده الصابر المتحمّل أيّوب ، وأعاد عليه النعم التي افتقدها الواحدة تلو الاخرى ، لا بل أكثر ممّا كان يمتلك من المال والزرع والغنم والأولاد ، وذلك كي يفهم الجميع العاقبة الحسنة للصبر والتحمّل والشكر.

بعض كبار المفسّرين ، احتملوا أنّ الوساوس التي وسوس بها الشيطان في قلب أيّوب هي المقصودة من أذى وعذاب الشيطان لأيّوب ، إذ كان يقول له أحيانا : لقد طالت فترة مرضك ، ويبدو أنّ ربّك قد نسيك!

وأحيانا كان يقول له : ما زلت تشكر الله رغم أنّه أخذ منك النعم العظيمة والسلامة والقوّة والقدرة!

يحتمل أنّهم ذكروا هذا التّفسير لكونهم يستبعدون إمكانية تسلّط الشيطان على الأنبياء كأيّوب ، ولكن مع الانتباه إلى أنّ هذه السلطة : أوّلا : كانت بأمر من الله.

وثانيا : محدودة ومؤقتة. وثالثا : لامتحان هذا النّبي الكبير ورفع شأنه ، فلا إشكال في ذلك.

على أيّة حال ، قيل : إنّ فترة ألمه وعذابه ومرضه كانت سبع سنين ، وفي رواية اخرى قيل : إنّها كانت (١٨) سنة ، وحالته وصلت إلى حدّ بحيث تركه أصحابه وحتّى أقرب المقربين إليه ، عدا زوجته التي صمدت معه وأظهرت وفاءها له. وهذا شاهد على وفاء بعض الزوجات!

وأشدّ ما آذى وآلم روح أيّوبعليه‌السلام من بين ذلك الأذى والعذاب الذي مرّ به ، هو شماتة أعدائه ، لذا فقد جاء في إحدى الروايات أنّ أيّوبعليه‌السلام سئل بعد ما عافاه

٥١٩

الله ، أيّ شيء كان أشدّ عليك ممّا مرّ؟ فقال : شماتة الأعداء.

في النهاية خرج أيّوبعليه‌السلام سالما من بودقة الامتحان الإلهي ، ونزول الرحمة الإلهيّة عليه يبدأ من هنا ، إذ صدر إليه الأمر( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ) .

«اركض» مشتقّة من (ركض) على وزن (فقر وتعني دكّ الأرض بالرجل ، وأحيانا تأتي بمعنى الركض ، وهنا تعطي المعنى الأوّل.

فالله الذي فجّر عين زمزم في صحراء يابسة وحارقة تحت أقدام الطفل الرضيع إسماعيل ، هو الذي أصدر أمرا بتفجّر عين باردة لأيّوب ليشرب منها ويغتسل بمائها للشفاء من كافّة الأمراض التي أصابته (الظاهرية والباطنية).

ويرى البعض أنّ تلك العين عبارة عن ماء معدني صالح للشرب ، وفيه شفاء لكلّ الأمراض ، ومهما كان فإنّه من لطف الله ورحمته النازلة على نبيّه الصابر المقاوم أيّوبعليه‌السلام .

(مغتسل) يعني الماء الذي يغسل به ، وقال البعض : إنّها تعني محل الغسل ، لكنّ المعنى الأوّل أصحّ.

وعلى أيّة حال ، فإنّ وصف ذلك الماء بالبارد ، قد يكون إشارة إلى التأثيرات الخاصّة التي يتركها الماء البارد على سلامة الجسم ، وذلك ما أثبته الطبّ الحديث اليوم. إضافة إلى أنّه إشارة لطيفة إلى أنّ كمال ماء الغسل يتمّ إن كان طاهرا ونظيفا كماء الشرب.

والشاهد على هذا ما جاء في الروايات من استحباب شرب جرعة من الماء قبل الاستحمام به(١) .

النعمة المهمّة الاولى التي أعيدت على أيّوب هي العافية والشفاء والسلامة ، أمّا بقيّة النعم التي أعيدت عليه ، فاستعرضها القرآن المجيد( وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد الأول ، الباب الثالث عشر من أبواب آداب الحمام الحديث ١٣.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581