الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168890 / تحميل: 6107
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

من جهة أخرى؟

إلى غير ذلك من الأبحاث الكثيرة والمتعدّدة.

هذه الأمور والاحتمالات التي طرحناها لم تُعرض ضمن بحث مستقلٍ منفرد ومتميّز في الكتب، أو الأبواب الفقهيّة.

وقد يجدها المتتبّع في طيّات كلمات الفقهاء وأبحاثهم هنا وهناك في موارد متفرّقة، ومواضع مختلفة.

مثلاً: قد يجدها المتتبّع في موضوع حرمة تنجيس القرآن أو وجوب تطهيره إذا لاقته النجاسة.

وفي بحث الوقف والصدقات وإحياء الموات، وقضيّة حُرمة المؤمن، وحُرمة الكعبة، وفي باب الحدود، في حكم سبّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - والعياذ بالله تعالى - أو هتك مقدّسات الدين، حيث يبحث العلماء في هذه الموارد عن الشعائر الدينيّة، وإنّ هتكها هل هو موجب للكفر أم لا؟

ومضافاً إلى ذلك، هناك بعض الكتب والرسائل التي أُلِّفت في بحث الشعائر الحسينيّة(1)، وقد ذكروا فيها بعض الضوابط الشرعيّة إلى حدّ ما، فمن الجدير مراجعة تلك الكتب وملاحظة الخطوط العامّة لهذا البحث، وما تتضمّنه من نقض وإبرام.

____________________

(1) نذكر - على سبيل المثال - بعض تلك الرسائل والمؤلّفات:

الشعائر الحسينيّة في الميزان الفقهي، لآية الله الشيخ عبد الحسين الحلّي (رحمه الله).

نصرة المظلوم، لآية الله الشيخ حسن المظفّر (رحمه الله).

الشعائر الحسينيّة، سماحة السيّد حسن الشيرازيّ (رحمه الله).

نجاة الأمّة في إقامة العزاء، الحاج السيّد محمّد رضا الحسيني الحائري.

الشعائر الحسينيّة سُنّة أم بدعة، الشيخ أحمد الماحوزي.

٢١

الجانبُ الرابع: إطار موضوع القاعدة

قد تُضافُ الشعائر إلى لفظ الجلالة (الله) فنقول: (شعائر الله)، كما في الآيات الكريمة(1) ، ومنها قوله تعالى:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) .

وأيضاً الشعائر أو الشعيرة أو الشعارة - على اختلاف هيئات المادّة - قد تضاف إلى المذهب، فيقال: شعائر المذهب.

وأيضاً، قد تضاف إلى الحسين (عليه السلام) باسم الشعائر الحسينيّة.

وأيضاً، قد تضاف إلى الدين، فتُعرف باسم شعائر الدين وشعائر الإسلام.

وسيتبيّن أنّ هذه الإضافات ما هي إلاّ تفريعات وتطبيقات لنفس القاعدة الواحدة، فيقال: شعائر الله، أو يقال: الشعائر الحسينيّة، أو يقال: شعائر المذهب، أو يقال: شعائر الإسلام، أو شعائر الدين، وهي - على كلّ حال - تبويبات وتصنيفات لذكر فروع لأصل واحد، أو تكون مرادفات لنفس المسمّى.

وسيظهر ما في هذا التعبير من نواحٍ تربويّة متعدّدة، وتفريعات لنكاتٍ فقهيّة مختلفة.

____________________

(1) المائدة: 2، الحج: 32، البقرة: 158.

(2) الحجّ: 32.

٢٢

الجانبُ الخامس:

جرياً على ديدن العلماء في تصنيف كلّ مسألة بإدراجها في باب من الأبواب الفقهية، ففي أيّ باب من الأبواب يمكن درج هذه القاعدة؟ هل في باب الفقه السياسي، أم في باب الفقه الاجتماعي، أم باب فقه القضاء، أم فقه المعاملات؟

وسيظهر خلال مراحل البحث: أنّ من خصائص هذه القاعدة وهذا الواجب الدينيّ العظيم، أنّ هذا الواجب ليس واجباً ملقى على عاتق رموز الدولة الإسلاميّة أو الحكومة فحسب، وليس مُلقى على عاتق المرجعيّة فقط، الّتي قد تُسمّى بالاصطلاح الأكاديمي الحديث حكومة المرجع، ولا على عاتق الهيئات الدينيّة دون غيرها.

وإنّما هذا الواجب - كما سيتبيّن - هو واجب كفائيّ يُلقى على عاتق عموم المسلمين، ويتحمّل مسؤوليّة إقامته جميع طبقات وشرائح المجتمع الإسلامي، ومن ثُمّ كان الأولَى إدراج هذه القاعدة في أبواب فقه الاجتماع، من قبيل: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا في خصوص الفقه السياسي، ولا في خصوص فقه الأبواب الأُخرى، بل يكون انضمامها تحت باب الفقه الاجتماعي هو الأنسب لهذه القاعدة.

هذه جوانب ذكرناها بعنوان ديباجة وتمهيد للبحث، أمّا بالنسبة إلى تبويب وتصنيف جهات البحث؛ فإنّ البحث سيقع - إن شاء الله تعالى - في مقامين رئيسيّين:

٢٣

المقامُ الأول

في عُموم قاعِدة الشَعائر الدينيّة

وهذا المقام يتألّف من الجهات التالية:

الجهة الأولى: الأدلّة الإجماليّة الواردة في هذه القاعدة.

الجهة الثانية: أقوال الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والمحدّثين حول قاعدة الشعائر الدينيّة.

الجهة الثالثة: البحث في معنى وماهيّة الموضوع، وهو الشعيرة والشعائر من الناحية اللُّغويّة.

الجهة الرابعة: كيفيّة تحقّق الموضوع، وهو الشعيرة والشعائر ومعالجة العديد من قواعد التشريع.

الجهة الخامسة: البحث في متعلّق الحكم لقاعدة الشعائر.

الجهة السادسة: نسبة حكم الشعائر مع العناوين الأوّليّة للأحكام من جهة، ومع العناوين الثانويّة للأحكام من جهة أُخرى.

الجهة السابعة: الموانع الطارئة على الشعائر، كالخرافة والاستهزاء والهتك والشنعة.

٢٤

المقامُ الثاني

الشَعائرُ الحُسينيّة

يقع البحث في خصوصيات الشعائر الحسينيّة، ودراسة قوّة وتماميّة الأدلّة الخاصّة الواردة فيها، وردّ الإشكالات والانتقادات التي وُجِّهت لها، وأُثيرَت حولها.

وهل يختلف حكمها عن الأحكام العامّة في الشعائر؟

أم هي تتضمّن الأحكام العامّة للشعائر وزيادة؟

ويقع البحث خلال الجهات الآتية:

الجهة الأولى: أهداف النهضة الحسينيّة.

الجهة الثانية: أدلّة الشعائر الحسينيّة.

الجهة الثالثة: أقسام الشعائر الحسينيّة.

الجهة الرابعة: الرواية في الشعائر الحسينيّة.

الجهة الخامسة: البكاء.

الجهة السادسة: الشعائر الحسينيّة والضرر.

الجهة السابعة: لبس السواد.

الجهة الثامنة: ضرورة لعن أعداء الدين.

الجهة التاسعة: العزاء والرثاء سُنّة قرآنيّة.

مِسكُ الختام: مآتم العزاء التي أقامها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين (عليه السلام).

هذا ما سنتطرّق إليه مفصّلاً فيما يأتي من البحوث - إن شاء الله تعالى - ونبدأ البحث في جهات المقام الأول:

٢٥

٢٦

المقامُ الأوّل الشَعائرُ الدينيّة

٢٧

٢٨

الجهةُ الأوّلى:الأدلّةُ الإجماليّة

٢٩

٣٠

في بداية كلّ بحث لابدّ أن يعثر الفقيه أو المجتهد على أدلّة معيّنة لعنوان البحث، وهذه الأدلّة حسب قواعد علم الفقه والأصول لها ثلاثة محاور، هي: الموضوع، والمحمول، والمتعلّق.

الموضوع: هو ما يُشار به إلى قيود الحُكم.

والمحمول: هو الحكم الشرعي، إمّا وجوب، أو حُرمة، أو مِلكيّة، أو غير ذلك، بمعنى الحُكم الشرعي الشامل للحُكم التكليفي وللحُكم الوضعي.

المتعلَّق: وهو الفعل المطلوب حصوله في الخارج إذا كان الحُكم وجوباً، أو الفعل اللازم تركه إذا كان الحكم حرمةً.

على سبيل المثال: في دليل: (إذا زالت الشمس فصلِّ)، نلاحظ هذه المَحاور الثلاثة كالآتي:

الموضوع: هو الزوال.

والمحمول: الحُكم وهو الوجوب.

والمتعلّق: وهو صلاة الظهر.

ومِحور الموضوع الذي هو قيود الوجوب، ويُطلق على قيود أيّ حكم تكليفي أو وضعي بأنّه: موضوع أصولي، أو موضوع فقهي، وفي مثالنا السابق يعتبر الزوال من قيود الوجوب.

٣١

فاللازم استعراض الأدلّة الواردة في قاعدة الشعائر وتقرير مفادها على ضوء هذا التثليث.

الطائفة الأولى من الأدلّة:

(1) -( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ) (1) .

قد ورد في الآية عموم لفظ الشعائر، وهو حُكم من الأحكام القرآنيّة، فلنتعرّف على موضوع ومتعلّق هذا المورد، وعلى حكمه أيضاً.

الموضوع: هو الشعائر(2) .

المتعلّق: هو التعظيم إن جُعِل الحُكم إيجابيّاً، أو التهاون إن جُعِل الحكم تحريميّاً.

الحُكم: حرمة التحليل وحرمة التهاون، ويمكن جعل الحُكم وجوب التعظيم.

(2) -( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) وقد يقال للموضوع: متعلّق المتعلّق، ففي مثال حرمة شرب الخمر؛ فإنّ الحُرمة تتعلّق بالشُرب، والشرب بدوره يتعلّق بالخمر، فالخمر يقال له: متعلّق متعلّق الحكم.. وهذا تابع لقاعدة أصوليّة محرّرة عند علماء الأصول تقول: إنّ متعلّق متعلّق الحُكم يكون موضوعاً للحُكم، سواء كان الحكم تكليفيّاً أم وضعيّاً. اعتمدَت عليها مدرسة الميرزا النائيني (رحمه الله)، إلاّ أنّ مشهور الطبقات المتقدِّمة من العلماء على خلاف ذلك، وهو الأصح.

٣٢

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) .

هذا المقطع من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ... ) ، أدرجهُ كثير من العلماء ضمن آيات الشعائر أيضاً، مع أنّه لم يرد فيه لفظة الشعائر، والوجه في ذلك: هو الاعتماد على قاعدة معروفة ومشهورة لدى أساطين الفقه.

وهي أنّ الموضوع أو المتعلّق كما يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته، كذلك يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته، كذلك يمكن الاستدلال له بما يشترك معه في الماهيّة النوعيّة أو الجنسيّة، أي المماثل أو المجانس، بشرط أن يكون الحُكم مُنصبّاً على تلك الماهيّة، وإلاّ كان التعدّي قياساً باطلاً، كما يمكن الاستدلال له بالدليل الذي يتضمّن جزء الماهيّة، كذلك يمكن الاستدلال له بما يدلّ على اللازم له أو الملزوم له، فتتوسّع دائرة دلالة الأدلّة الدالّة على المطلوب.

ففي هذه الآية الشريفة:

الموضوع: حُرمات الله.

المتعلّق: التعظيم.

الحكم: الوجوب، أي: وجوب التعظيم.

(3) -( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) .

____________________

(1) الحج: 27 - 30.

(2) الحج: 32.

٣٣

وهذه من أوضح الآيات على إثبات المطلوب، حيت تدلّ على محبوبيّة ورجحان التعظيم لشعائر الله، حسب التقسيم الثلاثي المذكور من الموضوع والمتعلّق والحُكم.

(4) -( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) .

هنا وردت (مِن) تبعيضيّة، والمعنى: أنّ البدن من مصاديق الشعائر.

(5) -( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (2) .

(6) -( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) (3) .

هذه الآية الشريفة تعرّضت للشعائر، ولكن بصيغة المشعر.

هذه الطائفة من الأدلّة وافية في المقام، وعلينا أن نسبر غَورها لنصل إلى المَحاور الأساسيّة فيها، ولنتعرّف على مفادها ودلالتها.

الطائفةُ الثانية من الأدلّة:

هذه الأدلّة لم يرد فيها لفظ (الشعائر)، إلاّ أنّ بعض العلماء والمحقّقين(4) ذهبوا إلى استفادة حُكم الشعائر منها، وهي:

____________________

(1) الحجّ: 36.

(2) البقرة: 158.

(3) البقرة: 198.

(4) الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) ضمن فتواه في كتاب (جامع الشتات) حول الشعائر الحسينيّة، والسيّد اليزدي (قدِّس سرّه) صاحب العروة في فتواه، والسيّد جمال الدين الگلبايكاني، أشاروا إلى وجود عمومات أخرى إضافةً لأدلّة الطائفة الأولى في المقام.

٣٤

(1) -( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) .

ومن سياق الآيات التي قبلها:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأَخِرِ.. ) .

وآية:( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ.. ) .

يُفهم أنّ الآيات بصدد بيان مسألة وجوب الجهاد، وضرورة المعرفة الحقّة والتوحيد ونشر الدين وتبليغه..

ثُمّ بعد ذلك تُبيّن الآية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) أهميّة النور الإلهي، ومحاولات أعداء الدين لإطفاء ذلك النور، ولكنّ الله سبحانه كتبَ على نفسه إحباط تلك المحاولات الشيطانيّة، ويأبى سبحانه إلاّ إتمام النور ونشر الصلاح والهدى.

ففي هذه الآية الشريفة:

الموضوع: هو نور الله سبحانه، وهو بدل لفظ (الشعائر) في آية( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) ، ونور الله سبحانه عام يشمل جميع الأحكام.

المتعلَّق: النشر والتبليغ والبيان، وهو بدل التعظيم في تلك الآية.

والحُكم: وهو الوجوب، وجوب النشر أو حرمة الإطفاء والكتمان.

فيكون هذا الدليل - كقضيّة شرعيّة - مرادفاً ومكافئاً للآية الشريفة:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

- وهذا يعني أنّنا لا نقتصر في إثبات هذه القاعدة على الآيات من الطائفة

____________________

(1) التوبة: 32.

٣٥

الأولى من الأدلّة، بل يمكن الاستدلال أيضاً بما يفيد مفادها أيضاً.

(2) -( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَال ) (1) بملاحظة الآيات التي تسبق هذه الآية من سورة النور، وهي:( وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (2) من سياق هذه الآيات، يظهر أنّ المراد من لفظة( فِي بُيُوتٍ... ) : هي البيوت التي فيها نور الله، والمراكز التي تكون مصادر إشعاع الدين، ومحالّ نشر الهداية والحق، ومحطّات بيان أحكام الدين الحنيف.

وهذه (البيوت) النوريّة والباعثة للنور، شاء الله وأراد أن تُرفع وتُكرّم، وأن تُبجّل وتُحترم، وينبغي أن يستمرّ ويدوم فيها ذِكر الله وعبادته وطاعته.

فهذه الآية من سورة النور، مرادفة لآية تعظيم الشعائر(3) ، ولآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالآية الشريفة تدلّ على وجوب نشر ورفع كلّ موطن ومركز ومحلّ يتكفّل ببيان أحكام الله وتعاليم رسالة السماء، المكنّى عنه في الآية الشريفة بنور الله.

____________________

(1) النور: 36.

(2) النور: 34 - 35.

(3)( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: 32.

٣٦

ومن ذلك يظهر أنّ الشعائر لا تختصّ بباب دون آخر، فهي لا تختصّ بمناسك الحجّ، ولا بالعبادات.

وإنّما تشمل كلّ ما فيه نشر لأحكام الدين، وتعمّ جميع ما به بيان وتبليغ للمعارف الإسلاميّة المختلفة.

(3) -( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (1) .

هذه الآية تدلّ على أنّ حفظ الدين وحفظ ذِكر الله سبحانه، وكذلك حفظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو قوام الدين، وحفظ ذِكر أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم العِدل الآخر للقرآن، كلّ ذلك يُعتبر من الأغراض الشرعيّة العُليا للحق سبحانه وتعالى.

(4) -( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2) .

بتقريب أنّ كلّ ما يؤول إلى إعلاء كلمة الله سبحانه وإزهاق كلمة الكافرين، فهو من الأغراض الشرعيّة والمقاصد الدينيّة.

(5) -( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (3) .

تُقرِّر الآية الكريمة وجوب التفقّه على المسلمين بعد الهجرة، ثُمّ الرجوع إلى بلادهم ووجوب التبليغ والإنذار، مُقدّمةً لحصول حالة الحذر، فهذا الإنذار

____________________

(1) الحجر: 9.

(2) التوبة: 4.

(3) التوبة: 122.

٣٧

لنشر معالم الدين وترسيخ قواعده يُبيّن في الواقع ماهيّة الشعائر.

فهذه الآية (آية الإنذار) بمنزلة المُبيّن والمفسِّر لأحد أركان ماهيّة العناوين التي وردت في الألسنة الأخرى من الأدلّة، وهو التبليغ والنشر للدين الحنيف.

(6) -( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1) .

لسان هذه الآية، يوضِّح بُعداً آخر في حقيقة الشعائر، حيث تتضمّن في متعلّقها جنبة أخرى غير الأحكام الأوّليّة، ألا وهي جنبة ازدياد العلو والسُموّ للإسلام والمسلمين، وهذه غير جهة الإعلام، وإن كانت هي أحد نتائج الإعلام والنشر والإنذار.

فالبُعد الآخر الذي تتضمّنه قاعدة الشعائر الدينيّة: هو جنبة إعلاء كلمة الله سبحانه، وإعزاز كلمة المسلمين.

وقد توفّرت الأدلّة في إثبات ذلك بقدر وافٍ.

الطائفةُ الثالثة من الأدلّة:

وقد استُدلّ أيضاً على هذه القاعدة بما وردَ في الأبواب الخاصّة من الأدلّة، مثل: أدلّة خاصّة في مناسك الحج، أو أدلّة خاصّة في الشعائر الحسينيّة وغير ذلك، مثل: قول الصادق (عليه السلام):(رحمَ الله مَن أحيا أمرَنا) (2) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(يا علي، مَن عمّر قبوركم، وتَعاهدها، فكأنّما أعانَ

____________________

(1) النساء: 141.

(2) بحار الأنوار 2: 151: 30.

٣٨

سليمان بن داوود على بناء بيت المَقدس) (1) وما شابه ذلك.

أو ما ورد على لسان العقيلة زينب الكبرى (عليها السلام) بالنسبة لعزاء سيّد الشهداءصلى‌الله‌عليه‌وآله :(وسيوكِّل الله مَن يُجدّد له العزاء في كلّ عام) (2) تلك العناوين خاصّة في أبواب خاصّة.

وهذا اللسان الثالث من الأدلّة هو عبارة عن أحكام خاصّة في الموارد الأخرى، التي مفادها هو عين مفاد الشعائر، من لزوم البثّ والإعلان.

فزبدة القول: إنّ لدينا ثلاثة أشكال من الأدلّة:

الأوّل: أدلّة عامّة وردَ فيها لفظ الشعائر.

الثاني: أدلّة عامّة ومطلقه يظهر منها جانب الإعلام والإعلاء للدين.

الثالث: أدلّة مختصّة ببعض الأبواب، وتكون مرادفة لتعظيم الشعائر ولنشر الدين وإعلاء كلمته.

____________________

(1) بحار الأنوار 100: 120: 22.

(2) بحار الأنوار 44: 292.

٣٩

الجهةُ الثانية أقوالُ العامّة والخاصّة حول هذه القاعدة

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

(الشمس) التي لم ترد في تلك الآيات ، ولكنّهم استدلّوا عليها من كلمة (العشي) (التي تعني آخر النهار بعد الزوال) الموجودة في آيات بحثنا.

وبهذا الشكل فإنّ الآيات تعطي المفهوم التالي ، إنّ سليمان كان غارقا في مشاهدة الخيل والشمس قد غربت واستترت خلف حجاب الأفق ، فغضب سليمان كثيرا لأنّه لم يكن قد صلّى صلاة العصر ، فنادى ملائكة الله ، ودعاها إلى ردّ الشمس ، فاستجابت له الملائكة وردّتها إليه ، أي رجعت فوق الأفق ، فتوضّأ سليمان (المراد بمسح السوق والأعناق هو أداء الوضوء الذي كان حينذاك يعمل به وفق سنّة سليمان ، وبالطبع فإنّ كلمة (المسح) تأتي أحيانا في لغة العرب بمعنى الغسل) ثمّ صلّى.

البعض ممّن ليس لديهم الاطلاع الكافي تحدّثوا بأكثر من هذا ، ونسبوا أمورا سيّئة ومحرّمة اخرى إلى هذا النّبي الكبير ، عند ما قالوا : إنّ المقصود من جملة( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) هو أنّه أمر بضرب سوق وأعناق الخيل بالسيف ، أو أنّه نفّذ هذا الأمر بشخصه ، لأنّها شغلته عن ذكر الله والصلاة.

طبيعي أنّ بطلان التّفسير الأخير لا يخفى على أحد ، لأنّ الخيول لا ذنب لها كي يقتلها سليمان بحدّ السيف ، فإن كان هناك ذنب فقد ارتكبه هو ، لأنّه كان غارقا في مشاهدة خيله ، ونسي صلاته.

وأحيانا فإنّ قتل الخيل إسراف إضافة إلى كونه جريمة ، فكيف يمكن أن يصدر مثل هذا العمل المحرّم من نبي ، أمّا الروايات التي وردت من المصادر الإسلاميّة بشأن هذه الآية فإنّها تنفي ـ بشدّة ـ هذه التهمة الموجّهة إلى سليمانعليه‌السلام .

أمّا التفاسير السابقة التي قالت بنسيان سليمان وغفلته عن أداء صلاة العصر ، فهي موضع السؤال التالي ، هل يمكن لنبي معصوم أن ينسى واجبا مكلّفا به؟ رغم أنّ استعراضه للخيول كان واجبا آخر مكلّفا به ، إلّا إذا كانت الصلاة ـ كما قال

٥٠١

البعض ـ صلاة مندوبة أو مستحبّة ، ونسيانها لا يسبّب أيّة مشاكل ، ولكن إن كانت صلاة نافلة فلا ضرورة إذن لردّ الشمس.

إذا انتهينا من هذا ، فهناك إشكالات اخرى وردت بشأن هذا التّفسير.

١ ـ كلمة (الشمس) لم تأت بصورة صريحة في الآيات ، في حين أنّ الخيل( الصَّافِناتُ الْجِيادُ ) جاء ذكرها صريحا ، ونرى من المناسب أن نعود بالضمير على شيء صرّحت به الآيات.

٢ ـ عبارة( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) ظاهرها يعني أنّ حبّ هذه الخيل إنّما هو ناشئ من ذكر وطاعة أمر الله ، في حين ـ طبقا للتفسير الأخير ـ تعطي كلمة (عن) معنى (على) ويكون معنى العبارة ، إنّي آثرت حبّ الخيل على حبّ ربّي ، وهذا المعنى مخالف لظاهر الآية.

٣ ـ الأعجب من كلّ ذلك هي عبارة( رُدُّوها عَلَيَ ) التي تحمل صفة الأمر ، فهل يمكن أن يخاطب سليمان الباريعزوجل أو ملائكته بصيغة الأمر ، أن ردّوا عليّ الشمس ، كما يخاطب عبيده أو خدمه.

٤ ـ قضيّة ردّ الشمس ، رغم أنّها في مقابل قدرة الباريعزوجل تعدّ أمرا يسيرا ، إلّا أنّها تواجه بعض الإشكالات بحيث جعلتها أمرا لا يمكن قبوله من دون توفّر أدلّة واضحة عليها.

٥ ـ الآيات المذكورة أعلاه تبدأ بمدح وتمجيد سليمان ، في حين أنّ التّفسير الأخير لها يعطي معنى الذمّ والتحقير.

٦ ـ إذا كانت الصلاة المتروكة واجبة ، فتعليلها يعدّ أمرا صعبا ، أمّا إذا كانت نافلة فلا داعي لردّ الشمس.

السؤال الوحيد المتبقّي هنا ، هو أنّ هذا التّفسير ورد في عدّة روايات في مصادر الحديث ، وإذا دقّقنا جيّدا في إسناد هذه الأحاديث ، يتّضح لنا أنّها جميعا

٥٠٢

تفتقد السند الموثوق المعتبر ، وأنّ أكثر هذه الروايات موضوعة.

أليس من الأفضل صرف النظر عن تلك الروايات غير الموثوقة ، وإرجاع علمها إلى أصحابها ، وتقبّل كلّ ما يبيّنه ظاهر الآيات بذهنية صافية ومتفتّحة ، لنريح أنفسنا من عناء الإشكالات الفارغة.

* * *

٥٠٣

الآيات

( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) )

التّفسير

الامتحان الصعب لسليمان وملكه الواسع :

هذه الآيات تتحدّث عن أحداث اخرى من قصّة سليمان ، وتبيّن أنّ الإنسان مهما امتلك من قوّة وقدرة ، فإنّها ليست منه ، بل إنّ كلّ ما عنده هو من الله سبحانه وتعالى ، هذا الموضوع يزيل حجب الغرور والغفلة عن عين الإنسان ، ويجعله يشعر بصغر حجمه قياسا إلى هذا الكون.

القسم الأوّل من الآيات يتطرّق إلى أحد الامتحانات التي امتحن الله بها عبده

٥٠٤

سليمان ، الامتحان في ترك العمل بالأولى ، وكيف توجّه بعدها سليمان بقلب خاشع إلى الله سبحانه وتعالى طالبا منه العفو والتوبة لتركه العمل بالأولى.

إيجاز محتوى الآيات ، سمح مرّة اخرى لنا سجي قصص الخيال أن ينسجوا قصصا خيالية وهمية اخرى ، ويلصقوا التّهم بهذا النّبي الكبير ما لا يليق بالنّبوة ، ويتنافى مع مقام العصمة ، ويتنافى أساسا مع المنطق والعقل ، وهذا بحدّ ذاته إمتحان للمحقّقين في علوم القرآن ، فلو أنّنا اكتفينا بما تطرحه آيات القرآن لما بقيت ثغرة لنفوذ الخرافات والأباطيل.

الآية الاولى في بحثنا هذا تقول :( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ) .

«الكرسي» يعني الأريكة ذات الأرجل القصيرة ، ويبدو أنّه كان للسلاطين نوعان من الكراسي ، الأوّل : له أرجل قصيرة يستخدم في الأوقات العادية ، والثاني : له أرجل أطول يستخدمها السلاطين في اجتماعاتهم الرسمية ، ويطلق على الأوّل اسم (كرسي) وعلى الثاني اسم (عرش).

«الجسد» يعني الجسم الذي لا روح فيه ، وكما يقول الراغب في مفرداته : إنّ لها مفهوما أكثر محدودية من مفهوم الجسم ، لأنّ كلمة الجسد لا تطلق على غير الإنسان إلّا نادرا ، ولكن كلمة الجسم لها طابع عام.

يستفاد من هذه الآيات بصورة عامّة أنّ موضوع إمتحان سليمان كان بواسطة جسد خال من الروح القي على كرسيّه وأمام عينيه ، أمر لم يكن يتوقّعه ، وآماله كانت متعلّقة بشيء آخر ، والقرآن لا يعطي تفصيلات اخرى في هذا المجال.

وقد أورد المفسّرون والمحدّثون تفسيرات متعدّدة في هذا المجال ، أفضلها وأوضحها ما يلي :

إنّ سليمانعليه‌السلام كان متزوجا من عدّة نساء ، وكان يأمل أن يرزق بأولاد صالحين شجعان ليساعدوه في إدارة شؤون البلاد وجهاد الأعداء ، فحدّث نفسه

٥٠٥

يوما قائلا : لأطوفنّ على نسائي كي ارزق بعدد من الأولاد لعلّهم يساعدونني في تحقيق أهدافي ، ولكونه غفل عن قول (إن شاء الله) بعد تمام حديثه مع نفسه ، تلك العبارة التي تبيّن توكّل الإنسان على الله سبحانه وتعالى في كلّ الأمور والأحوال ، فلم يرزق سوى ولد ميّت ناقص الخلقة جيء به والقي على كرسي سليمانعليه‌السلام .

سليمانعليه‌السلام غرق ـ هنا ـ في تفكير عميق ، وتألّم لكونه غفل عن الله لحظة واحدة واعتمد على قواه الذاتية ، فتاب إلى الله وعاد إليه.

وهناك تفسير آخر يمكن طرحه بعد التّفسير الأوّل وهو : إنّ الله سبحانه وتعالى امتحن سليمان بمرض شديد ، بحيث طرحه على كرسيه كجسد بلا روح من شدّة المرض ، وعبارة (جسد بلا روح) مألوفة ودارجة في اللغة العربية إذ تطلق على الإنسان الضعيف والعليل.

وفي نهاية الأمر تاب سليمان إلى الله ، وأعاد الله إليه صحّته ، وعاد كما كان قبل مرضه (والمراد من (أناب) هنا عودة الصحّة والعافية إليه).

بالطبع هناك إشكال ورد على هذا التّفسير إذ أنّ عبارة (ألقينا) كان يجب أن تأتي بصورة (ألقيناه) حتّى تتناسب مع التّفسير المذكور أعلاه ، يعني أنّا ألقينا سليمان على كرسيّه جسدا بلا روح ، في حين أنّ هذه العبارة لم ترد في الآية بتلك الصورة ، وتقديرها مخالف للظاهر.

عبارة (أناب) في هذا التّفسير جاءت بمعنى عودة الصحّة والعافية إليه ، وهذا أيضا مخالف للظاهر ، أمّا إذا اعتبرنا أنّ معنى (أناب) هو التوبة والعودة إلى الله ، فإنّها لا تلحق أي ضرر بالتّفسير ، ولهذا فإنّ الشيء الوحيد المخالف لظاهر الآية ـ هنا ـ هو حذف ضمير عبارة (ألقيناه).

القصص الكاذبة والقبيحة التي تحدّثت عن فقدان خاتم سليمان ، وعثور أحد الشياطين عليه ، وجلوس ذلك الشيطان على عرش سليمان ، كما ورد في بعض الكتب التي لا يستبعد أن يكون مصدرها هو كتاب (التلمود) اليهودي المليء

٥٠٦

بالخرافات الإسرائيلية بما لا يتناسب مع العقل والمنطق.

وهذه القصص ـ في حقيقة الأمر ـ دليل انحطاط أفكار مبتدعيها ، ولهذا فإنّ المحقّقين المسلمين أينما ذكروها أعلنوا بصراحة زيفها وكونها مجرّد اختلاقات ، وقالوا : إنّ مقام النبوّة والحكومة الإلهية غير مرتبط بالخاتم ، ولم يستردّ الباريعزوجل النبوّة من أحد أنبيائه بعد أنّ بعثه بها ، حتّى يبعث الشيطان بصورة نبي ليجلس مكان سليمان (٤٠) يوما يحكم فيها بين الناس ويقضي بينهم(١) .

على أيّة حال ، فإنّ القرآن الكريم ـ من خلال الآية التالية ـ يكرّر الحديث بصورة مفصّلة حول قضيّة توبة سليمان التي وردت في آخر عبارة تضمّنتها الآية السابقة :( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) .

* * *

هنا يطرح سؤالان :

١ ـ هل يستشفّ البخل من طلب سليمانعليه‌السلام

ذكر المفسّرون أجوبة كثيرة على هذا السؤال ، الكثير منها لا يتطابق مع ظاهر الآيات ، والجواب الذي يبدو أكثر تناسبا ومنطقية من بقيّة التفاسير هو أنّ سليمان طلب من الباريعزوجل أن يهب له ملكا مع معجزات خاصّة ، كي يتميّز ملكه عن بقيّة الممالك ، لأنّنا نعرف أنّ لكلّ نبي معجزة خاصّة به ، فموسىعليه‌السلام معجزته العصا واليد البيضاء ، ومعجزة إبراهيمعليه‌السلام عدم إحراق النار له بعد أن القي فيها ، ومعجزة صالحعليه‌السلام الناقة الخاصّة به ، ومعجزة نبيّنا الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو القرآن المجيد ، وسليمان كان ملكه مقترنا بالمعجزات الإلهيّة ، كتسخير الرياح والشياطين له مع

__________________

(١) وللإيضاح أكثر في أنّ كتب اليهود هي مصدر مثل هذه الخرافات ، يراجع كتاب (أعلام القرآن) موضوع سليمان في القصص الصفحة ٣٩٢.

٥٠٧

مميّزات اخرى.

وهذا الأمر لا يعدّ عيبا أو نقصا بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من الله أن يؤيّدهم بمعجزة خاصّة ، كي يبرهنوا للناس على صدق نبوّتهم ، ولهذا فلا يوجد أي مانع في أن يطلب الآخرون ملكا أوسع وأكبر من ملك سليمان ، ولكن لا تتوفّر فيه الخصائص التي أعطيت لسليمان.

والدليل على هذا الكلام الآيات التالية ، والتي هي ـ في الحقيقة ـ تعكس استجابة البارئعزوجل لطلب سليمان ، وتتحدّث عن تسخير الرياح والشياطين لسليمان ، وكما هو معروف فإنّ هذا الأمر هو من خصائص ملك سليمان.

ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثاني الذي يقول ، وفقا لعقائدنا نحن المسلمون ، فإنّ ملك المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) سيكون ملكا عاليا ، وبالنتيجة سيكون أوسع من ملك سليمان. لأنّ ملك المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مع سعته وخصائصه التي تميّزه عن بقيّة الممالك ، فإنّه يبقى من حيث الخصائص مختلفا عن ملك سليمان ، وملك سليمان يبقى خاصّا به. خلاصة الأمر أنّ الحديث لم يختّص بزيادة ونقصان وتوسعة ملكه وطلب الإختصاص به ، وإنّما اختصّ الحديث بكمال النبوّة والذي يتمّ بوجود معجزات خصوصية ، لتميّزه عن نبوّة الأنبياء الآخرين ، وسليمان كان طلبه منحصرا في هذا المجال.

ولقد ورد في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام في ردّه على سؤال يقول : إنّ دعوة سليمان فيها بخل ، إذ جاء في الحديث أنّ أحد المقرّبين عن الإمام الكاظمعليه‌السلام وهو علي بن يقطين سأل الإمامعليه‌السلام قائلا : أيجوز أن يكون نبي اللهعزوجل بخيلا؟

فقال : «لا».

فقلت له : فقول سليمانعليه‌السلام :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) ما وجهه ومعناه؟

٥٠٨

فقال : «الملك ملكان : ملك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس ، وملك مأخوذ من قبل الله تعالى كملك آل إبراهيم وملك طالوت وذي القرنين ، فقال سليمانعليه‌السلام : هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول إنّه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار النّاس ، فسخّر اللهعزوجل له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، وجعل غدوّها شهرا ورواحها شهرا ، وسخّر اللهعزوجل له الشياطين كلّ بناء وغوّاص ، وعلّم منطق الطير ومكّن في الأرض ، فعلم الناس في وقته وبعده أنّ ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل والمالكين بالغلبة والجور.

قال : فقلت له : فقول رسول الله : «رحم الله أخي سليمان بن داود ما كان أبخله»؟

فقال : «لقولهعليه‌السلام وجهان : أحدهما : ما كان أبخله بعرضه وسوء القول فيه ، والوجه الآخر يقول : ما كان أبخله إن كان أراد ما كان يذهب إليه الجهّال»(١) .

الآيات التالية تبيّن ـ كما قلنا ـ موضوع استجابة الله سبحانه وتعالى لطلب سليمان ومنحه ملكا يتميّز بامتيازات خاصّة ونعم كبيرة ، يمكن إيجازها في خمسة أقسام :

١ ـ تسخير الرياح له بعنوان واسطة سريعة السير ، كما تقول الآية :( فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ) .

من الطبيعي أنّ الملك الواسع الكبير يحتاج إلى واسطة اتّصال سريعة ، كي يتمكّن صاحب ذلك الملك من تفقّد كلّ مناطق مملكته بسرعة في الأوقات الضرورية ، وهذا الامتياز منحه الباريعزوجل لسليمانعليه‌السلام .

أمّا كيف كانت الرياح تطيع أوامره؟

وبأي سرعة كانت تسير؟

وعلى أي شيء كان سليمان وأصحابه يركبون أثناء انتقالهم من مكان إلى آخر عبر الرياح؟

__________________

(١) كتاب علل الشرائع ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٥٩.

٥٠٩

وما هي العوامل التي كانت تحفظهم من السقوط ومن انخفاض وارتفاع ضغط الهواء ، وغيرها من المشاكل.

خلاصة الأمر : ما هي هذه الواسطة السريّة وذات الأسرار الخفيّة التي كانت موضوعة تحت تصرّف سليمان في ذلك العصر؟

تفاصيل هذه التساؤلات ليست واضحة بالنسبة لنا ، وكلّ ما نعرفه أنّ تلك الأمور الخارقة توضع تحت تصرّف الأنبياء لتسهّل لهم القيام بمهامهم. وهذه القضايا ليست بقضايا عادية ، وإنّما هي نعم خارقة ومعجزات ، وهذه الأشياء تعدّ شيئا بسيطا في مقابل قدرة الباريعزوجل ، وما أكثر المسائل التي نعرف أصلها في الوقت الذي لا نعرف أي شيء عن جزئياتها.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : كيف يمكن أن تتطابق عبارة (رخاء) الواردة في هذه الآية ، والتي تعني (اللين) مع عبارة (عاصفة) والتي تعني الرياح الشديدة والواردة في الآية (٨١) من سورة الأنبياء :( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ) .

لهذا السؤال جوابان :

الأوّل : وصف الرياح بالعاصفة لبيان سرعة حركتها ، ووصفها بالرخاء لبيان حركتها الهادئة والرتيبة ، أي إنّ سليمان وأصحابه لم يكونوا يشعرون بأيّ انزعاج من جرّاء حركة الرياح السريعة ، فهي كالوسائل السريعة السير الموجودة حاليا ، التي يشعر الإنسان معها كأنّه جالس في إحدى غرف بيته ، بينما تسير به تلك الوسيلة بسرعة عالية جدّا.

وقد ذكر بعض المفسّرين جوابا آخر على ذلك السؤال ، وهو : إنّ هاتين الآيتين تشيران إلى نوعين من الرياح سخّرهما الله سبحانه وتعالى لسليمان ، إحداهما كانت سريعة السير ، والثانية بطيئة.

٢ ـ النعمة الاخرى التي أنعمها البارئعزوجل على عبده سليمانعليه‌السلام ، هي

٥١٠

تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرّف سليمان لتنجز له بعض الأعمال التي يحتاجها( وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) (١) .

أي إنّ مجموعة منها منشغلة في البرّ ببناء ما يحتاج إليه سليمان من أبنية ، واخرى منشغلة بالغوص في البحر.

وبهذا الشكل فإنّ الله وضع تحت تصرّف سليمان قوّة مستعدّة لتنفيذ ما يحتاج إليه ، فالشياطين ـ التي من طبيعتها التمرّد والعصيان ـ سخّرت لسليمان لتبني له ، ولتستخرج المواد الثمينة من البحر.

ومسألة تسخير الشياطين لسليمان وتنفيذها لما يحتاج إليه ، لم ترد في هذه الآية فقط ، وإنّما وردت في عدّة آيات من آيات القرآن المجيد ، ولكن في بعض الآيات ـ كالآية التي هي مورد بحثنا والآية (٨٢) من سورة الأنبياء استخدمت كلمة (الشياطين) فيها ، فيما استخدمت كلمة (الجنّ) في الآية (١٢) من سورة سبأ.

وكما قلنا سابقا فإنّ (الجنّ) موجودات مخفية عن أنظارنا ، ولها عقول وشعور وقدرة ، وبعضها مؤمن وبعضها الآخر كافر ، ولا يوجد هناك أي مانع من أن توضع ـ بأمر من الله ـ تحت تصرّف بعض الأنبياء ، لتنجز له بعض الأعمال.

وهناك احتمال وارد أيضا ، وهو أنّ كلمة الشياطين لها معنى واسع قد يشمل حتّى العصاة من البشر ، وقد استخدم هذا المعنى في الآية (١١٢) من سورة الأنعام ، وبهذا الترتيب فإنّ الله سبحانه وتعالى منح سليمان قوّة جعلت حتّى المتمردّين العصاة ينصاعون لأوامره.

٣ ـ النعمة الاخرى التي أنعمها الباريعزوجل على سليمان ، هي سيطرته على مجموعة من القوى التخريبيّة ، لأنّ هناك من بين الشياطين من لا فائدة فيه ، ولا سبيل أمام سليمان سوى تكبيلهم بالسلاسل ، كي يبقى المجتمع في أمان من

__________________

(١) (الشياطين) معطوفة على (الريح) والتي هي مفعول (سخّرنا) ، و (كلّ بنّاء وغوّاص) بدل من الشياطين.

٥١١

شرورهم ، كما جاء في القرآن المجيد( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) (١) .

«مقرّنين» مشتقّة من (قرن) وهي تشير إلى ربط الأيدي والأرجل أو الرقاب بالسلاسل.

«أصفاد» جمع (صفد) على وزن (مطر) وتعني القيود التي تكبّل بها أيدي السجناء.

وقال البعض : إنّ عبارة( مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) تعني الجامعة التي تجمع بين الرقبة واليدين ، وهذا المعنى قريب من معنى «مقرنين» اللغوي وأكثر مناسبة له.

وهناك رأي آخر محتمل ، وهو أنّ المقصود من هذه العبارة هو أنّ كلّ مجموعة منهم مغلولة بسلسلة واحدة.

وهنا يطرح هذا السؤال : إن كان المراد من الشياطين هم شياطين الجنّ ، فإنّ أولئك لهم جسم شفّاف لا يتناسب مع استخدام الأغلال والسلاسل والقيود.

لهذا قال البعض : إنّها كناية عن اعتقال ومنع تلك الشياطين من أداء أي نشاط تخريبي ، وإن كان المقصود من الشياطين هم المتمردون والعصاة من بني آدم فإنّ الأغلال والقيود تبقى محافظة على مفهومها الأصلي ، أي إنّ استخدامها هنا وارد.

٤ ـ النعمة الرابعة التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على نبيّه سليمان هي إعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد ، ومنعها عمّن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة ،( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

عبارة( بِغَيْرِ حِسابٍ ) إمّا أن تكون إشارة إلى أنّ البارئعزوجل قد أعطى لسليمان صلاحيات واسعة لن تكون مورد حساب أو مؤاخذة ، وذلك لصفة العدالة التي كان يتمتّع بها سليمان في مجال استخدام تلك الصلاحيات ، أو أنّ العطاء الإلهي لسليمان كان عظيما بحيث أنّه مهما منح منه فإنّه يبقى عظيما وكثيرا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه العبارة تخصّ ـ فقط ـ الشياطين المقرنين

__________________

(١) «آخرين» معطوفة على (كلّ بنّاء) وهي بمثابة مفعول (سخّرنا) ، و (مقرنين) صفة لـ (آخرين).

٥١٢

بالأصفاد ، وتخاطب سليمان بأنّه يستطيع إطلاق سراح أي منهم (إن رأى في ذلك صلاحا ، وإبقاء من يشاء في قيوده إن رأى الصلاح في ذلك.

إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد ، لأن لا يتلاءم مع ظاهر كلمة (عطائنا).

٥ ـ والنعمة الخامسة والأخيرة التي منّ الله سبحانه وتعالى بها على سليمان ، هي المراتب المعنوية اللائقة التي شملته ، كما ورد في آخر آية من آيات بحثنا( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ) .

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ هي الردّ المناسب على أولئك الذين يدنّسون قدسية أنبياء الله العظام بادّعاءات باطلة وواهية يستقونها من كتاب التوراة الحالي المحرّف ، وبهذا الشكل فإنّها تبرئ ساحته من كلّ تلك الاتّهامات الباطلة والمزيّفة ، وتشيد بمرتبته عند البارئعزوجل ، حتّى أنّ عبارة( حُسْنَ مَآبٍ ) التي تبشّره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند الله ، هي ـ في نفس الوقت ـ إشارة إلى زيف الادّعاءات المحرّفة التي نسبتها كتب التوراة إليه ، والتي تدّعي أنّ سليمان انجرّ في نهاية الأمر إلى عبادة الأصنام إثر زواجه من امرأة تعبد الأصنام ، وعمد إلى بناء معبد للأصنام ، إلّا أنّ القرآن الكريم ينفي ويدحض كلّ تلك البدع والخرافات.

* * *

ملاحظتان

١ ـ الحقائق التي تبيّنها لنا قصّة سليمان

من دون أيّ شكّ ، إنّ القرآن الكريم يهدف من ذكر تاريخ الأنبياء إتمام برامج التربية من خلال عكس عين الحقائق في هذه القصص.

ومن جملة الأمور التي رسمتها قصّة سليمان ، ما يلي :

أ: إنّ إمساكه بزمام امور مملكة قويّة ذات إمكانيات ماديّة واقتصاديّة واسعة

٥١٣

وحضارة ساطعة لا تتنافى مع المقامات المعنوية والقيم الإلهية والإنسانية ، كما ذكرت ذلك الآيات المذكورة أعلاه بعد انتهائها من سرد النعم الماديّة التي أجزلها الله على سليمان ، إذ يقول القرآن المجيد :( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ) .

وفي حديث ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال فيه : «أرأيتم ما اعطي سليمان بن داود من ملكه؟ فإنّ ذلك لم يزده إلّا تخشعا ، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعا لربّه»(١) !

ب : لإدارة شؤون مملكته كبيرة مترامية الأطراف ، يجب توفّر وسيلة سريعة للاتّصال ، كما ينبغي الاستفادة من الطاقات المختلفة ، والحيلولة دون نفوذ القوى المخرّبة ، والاهتمام بالقضايا العمرانية ، والحصول على الأموال عن طريق استخراج الثروات من البرّ والبحر ، ووضع الإمكانات تحت تصرّف الولاة والعمّال المناسبين والجديرين بتسلّم المناصب ، كلّ هذه الأمور عكستها قصّة سليمان بصورة واضحة.

ج : الاستفادة من القوى البشرية بأقصى حدّ ممكن ، بل ويمكن الاستفادة حتّى من الشياطين ، إذ يمكن توجيهها وإرشادها للطريق الصحيح ، وغلّ وتصفيد المتبقّي منها الذي لا يستفاد منه.

٢ ـ سليمان في القرآن والتوراة

القرآن المجيد وصف نبي الله سليمان في الآيات المذكورة أعلاه بأنّه إنسان طاهر وصاحب قيم ومدبّر وعادل.

في حين وصفه كتاب التوراة الحالي المحرّف (والعياذ بالله) بأنّه رجل فاجر مطيع لهوى نفسه وذو نقاط ضعف كثيرة. والعجيب في الأمر أنّه استعرض إلى جانب هذه الصفات الكاذبة والمزيّفة مناجاة سليمان لربّه وأشعاره الدينيّة وأمثاله

__________________

(١) روح البيان ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٣٩.

٥١٤

وحكمه ، والتي تشهد على أنّه رجل حكيم وحرّ ، وهذا تناقض عجيب يشاهد في كتاب التوراة المحرّف الحالي.

ولمن يريد الاطلاع أكثر بهذا الشأن يمكنه مراجعة تفسير الآيات ١٢ و ١٣ و ١٤ من سورة سبأ ، والذي جاء تحت عنوان (صور سليمان في القرآن وكتاب التوراة الحالي المحرّف).

* * *

٥١٥

الآيات

( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) )

التّفسير

حياة أيّوب المليئة بالحوادث والعبر :

الآيات السابقة تحدّثت عن سليمانعليه‌السلام وعن القدرة التي منحها إيّاه البارئعزوجل ، والتي كانت بمثابة البشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمسلمي مكّة الذين كانوا يعيشون تحت ضغوط صعبة.

آيات بحثنا هذا تتحدّث عن أيّوب الذي كان أنموذجا حيّا للصبر والاستقامة ، وذلك لتعطي درسا لمسلمي ذلك اليوم ويومنا الحاضر وغدا ، درسا في مقاومة مشاكل وصعاب الحياة ، ولتدعوهم إلى الاتّحاد والتعاون ، كما وضّحت العاقبة المحمودة للصبر والصابرين.

٥١٦

وأيّوب هو ثالث نبي من أنبياء الله تستعرض هذه السورة (سورة ص) جوانب من حياته ، وهي بذلك تدعو رسولنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تذكّر هذه القصّة ، وحكايتها للمسلمين ، كي يصبروا على المشاكل الصعبة التي كانت تواجههم ، ولا ييأسوا من لطف ورحمة الله.

اسم «أيّوب» أو قصّته وردت في عدّة سور من سور القرآن المجيد ، منها الآية (١٦٣) في سورة النساء ، والآية (٨٤) في سورة الأنعام التي ذكرت اسمه في قائمة أنبياء الله الآخرين ، وبيّنت وأثبتت مقام نبوّته ، بخلاف كتاب التوراة الحالي الذي لم يعتبره من الأنبياء ، وإنّما اعتبره أحد عباد الله المحسنين والأثرياء وذا عيال كثيرين.

كما أنّ الآيات (٨٣) و (٨٤) في سورة الأنبياء استعرضت بصورة مختصرة جوانب من حياة أيّوبعليه‌السلام ، أمّا آيات بحثنا هذه فإنّها تستعرض حياته بصورة مفصّلة أكثر من أيّ سورة اخرى من خلال أربعة آيات :

فالاولى تقول :( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ) .

«نصب» على وزن (عسر) ، و (نصب) على وزن (حسد) ، وكلاهما بمعنى البلاء والشرّ.

هذه الآية تبيّن أوّلا علوّ مقام أيّوب عند الباريعزوجل ، وذلك من خلال كلمة «عبدنا» ، وثانيا فإنّها تشير بصورة خفيّة إلى الابتلاءات الشديدة التي لا تطاق ، وإلى الألم والعذاب الذي مسّ أيّوبعليه‌السلام .

ولم يرد في القرآن الكريم شرحا مفصّلا لما جرى على أيّوبعليه‌السلام ، وإنّما نقرأ في كتب الحديث المعروفة والتفاسير تفاصيل هذه القصّة.

ففي تفسير نور الثقلين نقرأ أنّ أبا بصير سأل الإمام الصادق عن بليّة أيّوب التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علّة كانت؟ (لعلّ السائل كان يظنّ أنّ أيّوب ابتلي بما ابتلي

٥١٧

به لمعصية ارتكبها) فأجابعليه‌السلام

بقوله : «لنعمة أنعم اللهعزوجل عليه بها في الدنيا وأدّى شكرها ، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش ، فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيّوبعليه‌السلام حسده إبليس ، فقال : يا ربّ ، إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلّا بما أعطيته من الدنيا ، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليه شكر نعمة أبدا ، فسلّطني على دنياه حتّى تعلم أنّه لم يؤدّ إليك شكر نعمة أبدا».

(ولكي يوضّح البارئعزوجل إخلاص أيّوب للجميع ، ويجعله نموذجا حيّا للعالمين حتّى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء ، سمح الباريعزوجل للشيطان في أن يتسلّط على دنيا أيّوب).

«فقال له الباريعزوجل : قد سلّطتك على ماله وولده ، قال : فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولدا إلّا أعطبه (أي أهلكه) فازداد أيّوب لله شكرا وحمدا. قال : فسلّطني على زرعه يا ربّ ، قال : قد فعلت ، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق ، فازداد أيّوب لله شكرا وحمدا ، فقال : يا ربّ سلّطني على غنمه ، فسلّطه على غنمه فأهلكها ، فازداد أيّوب لله شكرا وحمدا ، فقال : يا ربّ سلّطني على بدنه فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه ، فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه ، فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره».

(ولكن وقعت حادثة كسرت قلبه وجرحت روحه جرحا عميقا ، وذلك عند ما زارته مجموعة من رهبان بني إسرائيل).

«وقالوا له : يا أيّوب لو أخبرتنا بذنبك لعلّ الله كان يهلكنا إذا سألناه ، وما نرى ابتلاك بهذا الابتلاء الذي لم يبتل به أحد إلّا من أمر كنت تستره؟ فقال أيّوبعليه‌السلام : وعزّة ربّي لم أرتكب أي ذنب ، وما أكلت طعاما إلّا ويتيم أو ضعيف يأكل معي»(١) .

__________________

(١) هذه الرواية وردت في تفسير نور الثقلين نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم ، ونفس المضمون ورد في (تفسير القرطبي) و (الفخر الرازي) و (الصافي) وغيرها مع اختلاف بسيط.

٥١٨

حقّا إنّ شماتة أصحابه كانت أكثر ألما عليه من أيّة مصيبة اخرى حلّت به ، ورغم هذا لم يفقد أيّوب صبره ، ولم يلوّث شكره الصافي كالماء الزلال بالكفر ، وإنّما توجّه إلى البارئعزوجل وذكر العبارة التي ذكرناها آنفا ، أي قوله تعالى :( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ) ولكونه خرج من الامتحان الإلهي بنتيجة جيّدة ، فتح الباريعزوجل ـ مرّة اخرى ـ أبواب رحمته على عبده الصابر المتحمّل أيّوب ، وأعاد عليه النعم التي افتقدها الواحدة تلو الاخرى ، لا بل أكثر ممّا كان يمتلك من المال والزرع والغنم والأولاد ، وذلك كي يفهم الجميع العاقبة الحسنة للصبر والتحمّل والشكر.

بعض كبار المفسّرين ، احتملوا أنّ الوساوس التي وسوس بها الشيطان في قلب أيّوب هي المقصودة من أذى وعذاب الشيطان لأيّوب ، إذ كان يقول له أحيانا : لقد طالت فترة مرضك ، ويبدو أنّ ربّك قد نسيك!

وأحيانا كان يقول له : ما زلت تشكر الله رغم أنّه أخذ منك النعم العظيمة والسلامة والقوّة والقدرة!

يحتمل أنّهم ذكروا هذا التّفسير لكونهم يستبعدون إمكانية تسلّط الشيطان على الأنبياء كأيّوب ، ولكن مع الانتباه إلى أنّ هذه السلطة : أوّلا : كانت بأمر من الله.

وثانيا : محدودة ومؤقتة. وثالثا : لامتحان هذا النّبي الكبير ورفع شأنه ، فلا إشكال في ذلك.

على أيّة حال ، قيل : إنّ فترة ألمه وعذابه ومرضه كانت سبع سنين ، وفي رواية اخرى قيل : إنّها كانت (١٨) سنة ، وحالته وصلت إلى حدّ بحيث تركه أصحابه وحتّى أقرب المقربين إليه ، عدا زوجته التي صمدت معه وأظهرت وفاءها له. وهذا شاهد على وفاء بعض الزوجات!

وأشدّ ما آذى وآلم روح أيّوبعليه‌السلام من بين ذلك الأذى والعذاب الذي مرّ به ، هو شماتة أعدائه ، لذا فقد جاء في إحدى الروايات أنّ أيّوبعليه‌السلام سئل بعد ما عافاه

٥١٩

الله ، أيّ شيء كان أشدّ عليك ممّا مرّ؟ فقال : شماتة الأعداء.

في النهاية خرج أيّوبعليه‌السلام سالما من بودقة الامتحان الإلهي ، ونزول الرحمة الإلهيّة عليه يبدأ من هنا ، إذ صدر إليه الأمر( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ) .

«اركض» مشتقّة من (ركض) على وزن (فقر وتعني دكّ الأرض بالرجل ، وأحيانا تأتي بمعنى الركض ، وهنا تعطي المعنى الأوّل.

فالله الذي فجّر عين زمزم في صحراء يابسة وحارقة تحت أقدام الطفل الرضيع إسماعيل ، هو الذي أصدر أمرا بتفجّر عين باردة لأيّوب ليشرب منها ويغتسل بمائها للشفاء من كافّة الأمراض التي أصابته (الظاهرية والباطنية).

ويرى البعض أنّ تلك العين عبارة عن ماء معدني صالح للشرب ، وفيه شفاء لكلّ الأمراض ، ومهما كان فإنّه من لطف الله ورحمته النازلة على نبيّه الصابر المقاوم أيّوبعليه‌السلام .

(مغتسل) يعني الماء الذي يغسل به ، وقال البعض : إنّها تعني محل الغسل ، لكنّ المعنى الأوّل أصحّ.

وعلى أيّة حال ، فإنّ وصف ذلك الماء بالبارد ، قد يكون إشارة إلى التأثيرات الخاصّة التي يتركها الماء البارد على سلامة الجسم ، وذلك ما أثبته الطبّ الحديث اليوم. إضافة إلى أنّه إشارة لطيفة إلى أنّ كمال ماء الغسل يتمّ إن كان طاهرا ونظيفا كماء الشرب.

والشاهد على هذا ما جاء في الروايات من استحباب شرب جرعة من الماء قبل الاستحمام به(١) .

النعمة المهمّة الاولى التي أعيدت على أيّوب هي العافية والشفاء والسلامة ، أمّا بقيّة النعم التي أعيدت عليه ، فاستعرضها القرآن المجيد( وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد الأول ، الباب الثالث عشر من أبواب آداب الحمام الحديث ١٣.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581