الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 581
المشاهدات: 160042
تحميل: 5228


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160042 / تحميل: 5228
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 14

مؤلف:
العربية

مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ) .

عن كيفية عودة عائلته إليه؟ وردت تفاسير متعدّدة ، أشهرها يقول : إنّهم كانوا أمواتا فأحياهم الله مرّة اخرى.

ولكن البعض قال : إنّهم كانوا قد تفرّقوا عنه أيّام ابتلائه بالمرض ، فجمعهم الله إليه بعد برئه.

ويحتمل أنّ جميعهم أو بعضهم ابتلي بمختلف أنواع الأمراض ، وقد شملتهم الرحمة الإلهية وعادت إليهم صحّتهم وعافيتهم ، ليجتمعوا مرّة اخرى حول أيّوب.

أمّا قوله تعالى :( وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) ، فإنّها إشارة إلى تناسلهم وزيادة عددهم إلى الضعف ، وبهذا إزداد عدد أبناء أيّوب إلى الضعف.

ورغم أنّ الآيات لا تتطرّق إلى إعادة أموال أيّوب إليه ، ولكن الدلائل كلّها تبيّن أنّ البارئعزوجل أعاد إليه أمواله وأكثر من السابق.

الذي يلفت النظر في آخر الآية ـ محلّ البحث ـ أنّ هدف إعادة النعم الإلهيّة على أيّوب تحدّد بأمرين :

الأوّل : (رحمة منّا) والتي كان لها صبغة فردية ، وفي الحقيقة إنّها مكافأة وجائزة من البارئعزوجل لعبده الصابر المقاوم أيّوب.

والثّاني : إعطاء درس لكلّ أصحاب العقول والفكر على طول التأريخ لأخذ العبر من أيّوب ، كي لا يفقدوا صبرهم وتحمّلهم عند تعرّضهم للمشاكل والحوادث الصعبة ، وأن لا ييأسوا من رحمة الله ، بل يزيدوا من أملهم وتعلّقهم به.

المشكلة الوحيدة التي بقيت لأيّوبعليه‌السلام هي قسمه بضرب زوجته ، إذ كان قد أقسم أيّام مرضه لئن برىء من مرضه ليجلدنّ امرأته مائة جلدة أو أقل لأمر أنكره عليها ، ولكن بعد ما برىء من مرضه رغب أيّوب في العفو عنها احتراما وتقديرا لوفائها ولخدماتها التي قدّمتها إليه أيّام مرضه ، ولكن مسألة القسم بالله كانت تحول دون ذلك.

٥٢١

وهنا شمل البارئعزوجل أيّوبعليه‌السلام مرّة اخرى بألطافه ورحمته ، وذلك عند ما أوجد حلّا لهذه المشكلة المستعصية على أيّوب( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) .

«ضغث» تعني ملء الكفّ من الأعواد الرقيقة ، كسيقان الحنطة والشعير أو الورد وما شابهها.

وعن الأمر الذي أنكرته زوجة أيّوب على زوجها والتي تدعى (ليا) بنت يعقوب ، فقد اختلف المفسّرون في تفسيره

فقد نقل عن (ابن عبّاس) أنّ الشيطان ظهر بصورته الطبيعية لزوجة أيّوب ، وقال لها : إنّي أعالج زوجك بشرط أن تقولي حينما يتعافى : إنّي الوحيد الذي كنت السبب في معافاته ، ولا أريد أيّ اجرة على معالجته الزوجة التي كانت متألّمة ومتأثّرة بشدّة لاستمرار مرض زوجها وافقت على الاقتراح ، وعرضته على زوجها أيّوب فيما بعد ، فتأثّر أيّوب كثيرا لوقوع زوجته في شرك الشيطان ، وحلف أن يعاقب زوجته.

وقال البعض إنّ أيّوب بعث زوجته لمتابعة عمل ما ، فتأخّرت في العودة إليه ، فتأثّر أيّوب الذي كان يعاني من آلام المرض ، وحلف أن يعاقب زوجته.

على أيّة حال ، فإنّ زوجته كانت تستحقّ الجزاء من هذا الجانب ، أمّا من جانب وفائها وخدمتها أيّوب طوال فترة مرضه فإنّه يجعلها تستحقّ العفو أيضا.

حقّا إنّ ضربها بمجموعة من سيقان الحنطة أو الشعير لا تعطي مصداقا واقعيا لحلفه ، ولكنّه نفّذ هذا الأمر لحفظ احترام اسم الله ، والحيلولة دون إشاعة مسألة انتهاك القوانين ، وهذا الأمر ينفّذ فقط بشأن الطرف الذي يستحقّ العفو ، وفي الموارد الاخرى التي لا تستحقّ العفو لا يجوز لأحد القيام بمثل هذا العمل(١) .

__________________

(١) نظير هذا المعنى ورد في باب الحدود الإسلامية وتنفيذها بحقّ المرضى المذنبين (كتاب الحدود أبواب حدّ الزنا).

٥٢٢

الآية الأخيرة في بحثنا هذا ـ التي هي بمثابة عصارة القصّة من أوّلها حتّى آخرها ـ تقول :( إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

ومن الواضح أنّ دعاء أيّوب البارئعزوجل ، وطلبه دفع الوساوس الشيطانية عنه ، ورفع البلاء والمرض عنه ، كلّ هذه لا تتنافى مع مقام صبره وتحمّله ، ذلك الصبر والتحمّل الذي استمرّ لمدّة سبع سنين ، وفي روايات اخرى لمدّة ثمانية عشر عاما ـ للأوجاع والأمراض والفقر والعسر واستمرار الشكر.

الذي يلفت النظر في هذه الآية أنها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب ، كلّ واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل.

أوّلا : مقام عبوديته.

ثانيا : صبره وتحمّله وثباته.

ثالثا : إنابته المتكرّرة إلى الله.

* * *

بحوث

١ ـ دروس مهمّة في قصّة أيّوب

رغم أنّ قصة هذا النّبي الصابر أدرجت في أربع آيات في هذه السورة ، إلّا أنّها وضّحت حقائق مهمّة ، منها :

أ ـ الامتحان الإلهي واسع وكبير جدّا ويشمل حتّى الأنبياء الكبار ، إذ يكون امتحانهم أشدّ وأصعب من الآخرين ، لأنّ طبيعة الحياة في هذه الدنيا بنيت على هذا الأساس ، ومن دون هذا الامتحان فإنّ الإمكانيات والطاقات الكامنة في الإنسان لا تتفجّر.

ب ـ الفرج بعد الشدّة نقطة اخرى تمكن في مجريات هذه القصّة ، فعند ما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كلّ جانب ، عليه أن لا ييأس

٥٢٣

ويفقد الأمل ، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه ، كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام : «عند تناهي الشدّة تكون الفرجة ، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء»(١) .

ج ـ مجريات هذه القصّة توضّح بصورة جيّدة بعض غايات البلاء والحوادث الصعبة في الحياة ، وتجيب على من يرى في وجود الآفات والبلايا تناقضا مع برهان النظم في بحوث التوحيد ، لأنّ وجود مثل هذه الحوادث الصعبة والشديدة في حياة الإنسان ـ من أنبياء الله الكبار وحتّى عموم الناس ـ يعدّ أمرا ضروريا ، فالامتحان ـ كما ذكرنا ـ يفجّر طاقات الإنسان الكامنة ، ويوصله في آخر الأمر إلى التكامل في وجوده.

لذا فقد ورد في الروايات الإسلامية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثمّ الذين يلونهم ، الأمثل فالأمثل»(٢) .

كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ في الجنّة منزلة لا يبلغها عبد إلّا بالابتلاء»(٣) .

د ـ أحداث هذه القصّة تعطي درسا في الصبر لكلّ المؤمنين الواقعيين الرساليين ، الصبر والتحمّل الذي يعقبه الظفر والإنتصار في كلّ المجالات ، ونيل المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند البارئعزوجل .

ه ـ أحيانا يكون إمتحان شخص ما ، هو إمتحان في نفس الوقت لأصدقائه وللمحيطين به ، كي يعرف حجم صداقتهم ومحبّتهم إيّاه ، ومقدار وفائهم له ، فعند ما فقد أيّوب أمواله وثرواته وصحّته تفرّق عنه أصحابه ، ولم يكتفوا بالابتعاد عنه ، وإنّما اتّحدت ألسنتهم مع ألسنة أعدائه في الشماتة به وإلقاء اللائمة عليه ، وكشفوا

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، الكلمة ٣٥١.

(٢) سفينة البحار مادّة (بلاء) المجلّد الأوّل ، الصفحة ١٠٥.

(٣) المصدر السابق.

٥٢٤

بفعلتهم هذه عن حقيقة أنفسهم ، وكما لاحظنا فإنّ أيّوب كان يتألّم من جراح ألسنتهم أكثر من تألّمه من مرضه ، والشعر المعروف يقول :

جراحات السنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

جراح الكلام ليس لها التئام.

و ـ أحبّاء الله ليسوا من يذكر الله عند الرخاء ، وإنّما أحبّاء الله الواقعيون هم أولئك الذين يذكرون الله دائما في السرّاء والضرّاء ، وفي البلاء والنعمة ، وفي المرض والعافية ، وفي الفقر والغنى ، وإنّ تأثيرات الحياة الماديّة لا تترك على إيمانهم وأفكارهم أدنى أثر.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبته الخاصّة بوصف المتّقين التي بيّنها لصاحبه المخلص «همام» واستعرض فيها أكثر من (١٠٠) صفة للمتّقين ، قال في إحدى تلك الصفات :

«نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء».

ز ـ هذه القصّة أكّدت مرّة اخرى حقيقة أنّ فقدان الإمكانات الماديّة ، ونزول المصائب ، وحلول المشاكل والفقر ، لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف البارئعزوجل ، كما أنّ امتلاك الإمكانات الماديّة ليس دليلا على بعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى ، وإنّما يمكن أن يكون الإنسان عبدا مقرّبا لله مع امتلاكه للكثير من الإمكانات الماديّة ، بشرط أن لا يكون عبدا لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي ، وإنّ فقدها لا يفقد الصبر معها.

٢ ـ أيّوبعليه‌السلام في القرآن والتوراة

رغم أنّ البارئعزوجل أشاد بالروح الكبيرة لهذا النّبي الكبير الذي هو مظهر الصبر والتحمّل في قرآنه المجيد في أوّل القصّة الخاصة به وفي آخرها. فإنّ قصّة هذا النّبي الكبير ـ ممّا يؤسف له ـ لم تحفظ من أيدي الجهلة والأعداء ، حيث دسّوا فيها خرافات تافهة لا تليق بمقامه المحمود المنزّه عنها والمطهّر منها ، ومن تلك

٥٢٥

الخرافات القول بأنّ الدود غطّى بدنه أثناء فترة مرضه ، وتعفّن جسده ، بحيث أنّ أهل قريته ضاقوا به ذرعا وأخرجوه من قريتهم.

ودون أدنى شكّ ، فإنّ مثل هذه الروايات مزيّفة رغم ورودها في طيّات كتب الحديث ، لأنّ رسالة الأنبياء تفرض أن يكون النّبي المرسل ـ في أي زمان ـ بعيدا عن مثل تلك التقوّلات ، كي ينجذب إليه الناس برغبة وشوق ، وأن لا تتوفّر فيه أشياء تكون سببا لتنفّرهم فيه وابتعادهم عنه ، كالأمراض والعيوب الجسدية والأخلاق السيّئة ، لأنّها تتناقض مع فلسفة الرسالة ، فالقرآن المجيد يقول بشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية (١٥٩) من سورة عمران :( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) .

وهذه الآية دليل على أنّ النّبي يجب أن لا يكون بحالة تجعل المحيطين به يتفرّقون عنه. ولكن ورد في التوراة جزء خاص بأيّوب وقبل موضوع (مزامير داود) وهذا الجزء يشتمل على (٤٢) فصلا ، كلّ فصل يشرح مواضيع مختلفة ، وقد وردت في بعض الفصول مواضيع سيّئة وقبيحة ، ومنها ما ورد في الفصل الثالث والذي يقول : إنّ أيّوب كان كثير الشكوى ، في حين أنّ القرآن الكريم كان يعظّم ويشيّد بمقام صبره وتحمّله.

٣ ـ إطلاق صفة (أوّاب) على الأنبياء الكبار

ثلاثة أنبياء كبار أطلقت عليهم صفة (أوّاب) في هذه السورة ، وهم : داود وسليمان وأيّوب ، وفي سورة (ق) في الآية (٣٢) اطلق هذا الوصف على كلّ أهل الجنّة ، قوله تعالى :( هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) .

هذه العبارات تبيّن أنّ مقامه في المقام الأعلى ، وعند ما نرجع إلى مصادر اللغة نشاهد أنّ كلمة (أوّاب) مشتقّة من كلمة (أوب) وتعني الرجوع والعودة.

وهذا الرجوع والعودة (خاصّة وأنّ كلمة (أوّاب) هي اسم مبالغة تعني كثرة

٥٢٦

الرجوع وتكراره) يشير إلى أنّ الأوّابين حسّاسون جدّا تجاه الأسباب والعوامل التي تبعدهم عن الله ، كالرزق وبريق الزخارف الدنيوية في أعينهم ، ووساوس النفس والشيطان ، وإن ابتعدوا لحظة واحدة عن الله عادوا إليه بسرعة ، وإن غفلوا عنه لحظة تذكروه وسعوا في جبرانها.

هذه العودة يمكن أن تكون بمعنى العودة إلى طاعة أوامر الله واجتناب نواهيه ، أي أنّ أوامره هي مرجعهم وسندهم أينما كانوا.

وكلمة (أوّاب) التي جاءت في الآية العاشرة من سورة سبأ( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) والخاصّة بداود ـ أيضا ـ تعطي معنا آخر ، وهو ترديد الصوت ، إذ أنّ الأوامر صدرت إلى الجبال والطيور أن ردّدي الصوت مع داود ، ولهذا فإنّ (أوّاب) تعني كلّ من يردّد الأوامر الإلهيّة والتسبيح والحمد الذي تردّده كلّ موجودات الكون حسب قوانين الخلقة ، وممّا يذكر أنّ أحد معاني كلمة (أيّوب) هي (أوّاب).

* * *

٥٢٧

الآيات

( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) )

التّفسير

الأنبياء الستّة :

متابعة للآيات السابقة التي تطرّقت باختصار إلى حياة (داود) و (سليمان) وبصورة أكثر اختصارا لحياة (أيّوب) إذ بيّنت أهم النقاط البارزة في حياة هذا النّبي الكبير ، وتستعرض آيات بحثنا هذا أسماء ستّة من أنبياء الله ، وتوضّح بصورة مختصرة بعض صفاتهم البارزة التي يمكن أن تكون أنموذجا حيّا لكلّ بني الإنسان.

والذي يلفت الانتباه ، هو أنّ هذه الآيات استعرضت ستّ صفات مختلفة لأولئك الأنبياء الستّة ، ولكلّ صفة معناها ومفهومها الخاصّ بها.

ففي البداية تخاطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ

٥٢٨

وَيَعْقُوبَ ) .

مقام العبودية هو أوّل ميزة لأولئك الأنبياء ، وحقّا فإنّ كلّ شيء جمع في هذه الصفة فالعبودية لله تعني التبعية المطلقة له ، وتعني الاستسلام الكامل لإرادته ، والاستعداد لتنفيذ أوامره في كلّ الأحوال.

العبودية لله تعني عدم الاحتياج لغيره ، وعدم التوجّه لسواه ، والتكفير بلطفه ورحمته فقط ، هذا هو أوج تكامل الإنسان وأفضل شرف له.

ثمّ تضيف الآية :( أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ) .

إنّه لتعبير مثير للعجب؟ أصحاب الأيدي والأبصار! «أيدي» جمع (يد) ، و (أبصار) جمع (بصر).

الإنسان يحتاج إلى قوّتين لتحقيق أهدافه ، الاولى قوّة الإدراك والتشخيص ، والثانية حسن الأداء. وبعبارة اخرى : يجب عليه الاستفادة من (العلم) و (القدرة) للوصول إلى أهدافه.

وقد وصف البارئعزوجل أنبياءه بأنّهم ذوو إدراك وتشخيص وبصيرة قويّة ، وذوو قوّة وقدرة كافية لإنجاز أعمالهم.

إنّ هؤلاء الأنبياء على مستوى عال من المعرفة ، وأنّ مستوى علمهم بشريعة الله وأسرار الخلق وخفايا الحياة لا يمكن تحديده.

أمّا من حيث الإرادة والتصميم وحسن الأداء ، فإنّهم غير كسولين أو عاجزين أو ضعفاء ، بل هم أشخاص ذوو إرادة قويّة وتصميم راسخ ، إنّهم قدوة لكلّ السائرين في طريق الحقّ ، فبعد مقام العبودية الكامل لله تعالى ، لتسلّحوا بهذين السلاحين القاطعين.

وممّا يستنتج من هذا الحديث أنّه ليس المراد من اليد والعين أعضاء الحسّ التي يمتلكها غالبية الناس ، لأنّ هناك الكثيرين ممّن يمتلكون هذين العضوين لكنّهم لا يمتلكون الإدراك والشعور الكافي ، ولا القدرة على التصميم ، ولا حسن

٥٢٩

الأداء في العمل ، وإنّما هي كناية عن صفتين هما (العلم والقدرة).

أمّا الصفة الرابعة لهم فيقول القرآن بشأنها :( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) (١) .

نعم ، إنّهم يتطلّعون إلى عالم آخر ، وأفق نظرهم لا ينتهي عند الحياة الدنيا ولذّاتها المحدودة ، بل يتطّلعون إلى ما وراءها من حياة أبدية ونعيم دائم ، ولهذا يبذلون الجهد ويسعون غاية السعي لنيلها.

وعلى هذا فإنّ المراد من كلمة (الدار) هي الدار الآخرة ، لأنّه لا توجد دار غيرها ، وإن وجدت فما هي إلّا جسر أو ممرّ يؤدّي إلى الآخرة في نهاية الأمر.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون المراد من الدار هنا دار الدنيا ، وعبارة( ذِكْرَى الدَّارِ ) إشارة إلى الذكر الحسن الباقي لأولئك الأنبياء في هذه الدنيا ، وهذا الاحتمال مستبعد جدّا ، وخاصّة أنّ كلمة (الدار) جاءت بشكل مطلق ، وكذلك لا تتناسب مع كلمة (ذكرى).

والبعض الآخر احتمل أنّ المراد هو ذكرهم الحسن والجميل في دار الآخرة ، وهذا مستبعد أيضا.

وعلى أيّة حال ، فلعلّ الإنسان يتذكّر الآخرة بين حين وآخر ، خاصّة عند وفاة أحد أصدقائه أو مشاركته في مراسم التشييع أو مجالس الفاتحة ، وهذا الذكر ليس خالصا وإنّما هو مشوب بذكر الدنيا ، أمّا عباد الله المخلصون فإنّ لهم توجّها خالصا وعميقا ومستمرا بالنسبة للدار الآخرة ، فهي على الدوام تتراءى أمام أعينهم ، وعبارة (خالصة) في الآية إشارة إلى هذا المعنى.

الصفتان الخامسة والسادسة جاءتا في الآية التالية( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ

__________________

(١) (ذكرى الدار) من الممكن أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف ، وتقدير العبارة (هي ذكر الدار) ، ومن الممكن أن تكون بدلا من (خالصة).

٥٣٠

الْأَخْيارِ ) (١) .

إنّ إيمانهم وعملهم الصالح كانا السبب في اصطفاء البارئعزوجل لهم من بين الناس لأداء مهام النبوّة وحمل الرسالة ، وعملهم الصالح وصل إلى درجة. استحقّوا بحقّ إطلاق كلمة (الأخيار) عليهم ، فأفكارهم سليمة ، وأخلاقهم رفيعة ، وتصرفاتهم وأعمالهم طوال حياتهم متّزنة ، ولهذا السبب فإنّ بعض المفسّرين يستفيدون من هذه العبارة وأنّ الله سبحانه وتعالى اعتبر أولئك أخيارا من دون أي قيد وشرط ، كدليل على عصمة الأنبياء ، لأنّه متى ما كان وجود الإنسان كلّه خيرا ، فمن المؤكّد أنّه معصوم(٢) .

عبارة (عندنا) مليئة بالمعاني العميقة ، وتشير إلى أنّ اصطفاءهم واعتبارهم من الأخيار لم يتمّ وفق تقييم الناس لهم ، التقييم الذي لا يخلو من التهاون وغضّ النظر عن كثير من الأمور ، وإنّما تمّ بعد التحقّق من كونهم أهلا لذلك وبعد تقييمهم ظاهريا وباطنيا.

وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى مقام ثلاثة أنبياء بارزين ، تشير الآية التالية ، إلى ثلاثة آخرين ، إذ تقول :( وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) .

فكلّ واحد منهم كان مثالا وأسوة في الصبر والاستقامة وطاعة أوامر البارئعزوجل ، خاصّة «إسماعيل» الذي كان على استعداد كامل للتضحية بروحه في سبيل الله ، ولهذا السبب اطلق عليه لقب (ذبيح الله) وهو الذي ساهم مع والده إبراهيمعليه‌السلام في بناء الكعبة الشريفة وتثبيت أسس التجمّع العظيم الذي يتمّ في موسم الحجّ كلّ عام.

واستعراض آيات القرآن الكريم لحياة أولئك العظام ليستلهم منها

__________________

(١) (مصطفين) (بفتح الفاء) جمع مصطفى ، وفي الأصل كانت (مصطفيين) حذفت ياؤها الاولى فأصبحت (مصطفين).

(٢) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد ٢٦ ، الصفحة ٢١٧.

٥٣١

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّ المسلمين العبر ، ومطالعة حياة أمثال هؤلاء الرجال العظام توجّه حياة الإنسان ، وتبعث فيه روح التقوى والتضحية والإيثار ، وتجعله في نفس الوقت صابرا صامدا أمام المشاكل والحوادث الصعبة.

عبارة( كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) تشير إلى أنّ الأنبياء الثلاثة (إسماعيل ، واليسع ، وذو الكفل) تنطبق عليهم كافّة الصفات التي وصف بها الأنبياء الثلاثة السابقون (إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب) الذين أطلقت عليهم الآية السابقة صفة (الأخيار) ، كما أنّ (الخير المطلق) له معان واسعة تشمل (النبوّة) و (الدار الآخرة) و (مقام العبوديّة) و (العلم والقدرة).

أمّا (اليسع) فقد ورد اسمه مرتين في القرآن المجيد ، إحداها في هذه السورة ، والاخرى في الآية (٨٦) من سورة الأنعام ، وما جاء في القرآن الكريم يوضّح أنّه من الأنبياء الكبار ومن الذين يقول عنهم القرآن في آياته :( وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) .(١)

البعض يعتقد أنّ (اليسع) هو (يوشع بن نون) أحد أنبياء بني إسرائيل المعروفين ، وقد دخلت الألف واللام على اسمه كما أبدلت الشين بالسين ، ودخول الألف واللام على الاسم غير العربي (وهذا اسم عبري) أمر غير جديد ، فمثلها مثل (إسكندر) التي تلفظ وتكتب بالعربية (الإسكندر) إذ هو نوع من التقريب.

في حين أنّ البعض يعتبرها كلمة عربية مشتقّة من (يسع) والتي هي فعل مضارع مشتقّ من (وسعت) ولتحويله إلى اسم أضيف إليه الألف واللام.

الآية (٨٦) من سورة الأنعام بيّنت أنّه من ذريّة إبراهيم ، ولكن لم تبيّن إن كان من أنبياء بني إسرائيل ، أم لا؟

أمّا فصل الملوك في كتاب التوراة فقد جاء فيه أنّ اسمه (اليشع) بن (شافات) ، ومعنى (اليشع) في اللغة العبرية هو (الناجي) فيما تعني (الشافات) (القاضي).

__________________

(١) الأنعام ـ ٨٦.

٥٣٢

وقد اعتبر قسم آخر أنّه (الخضر) ولم يتوفّر بعد أيّ دليل واضح على هذا القول.

واعتبر قسم آخر أنّه (ذو الكفل) وهذا الكلام مخالف بوضوح لما جاء في الآية مورد بحثنا ، لأنّ ذا الكفل معطوفا على اليسع.

وعلى أيّة حال ، فإنّ اليسع هو نبي له مقام رفيع وذو استقامة ، وما ذكرناه بشأنه كاف للاستلهام منه.

وأمّا (ذو الكفل) فهو أيضا معروف بأنّه أحد أنبياء الله ، وذكره ورد مع أنبياء آخرين في الآية (٨٥) من سورة الأنبياء ، وجاء بالضبط بعد اسم إسماعيل وإدريس. والبعض يعتقد أنّه من أنبياء بني إسرائيل ، وأنّه من أبناء أيّوب واسمه الحقيقي (بشر) أو (بشير) أو (شرف) والبعض يرى أنّه (حزقيل) وذو الكفل هو لقب اطلق عليه(١) .

وحول تسمية (ذي الكفل) بهذا الاسم (الكفل يعني النصيب) ويعني (الكفالة والتعهّد) وردت عدّة تفاسير ، منها :

قال البعض : إنّه سمّي بذي الكفل لأنّ الله سبحانه وتعالى أنزل عليه نصيبا وافرا من الثواب وشمله برحمته الواسعة.

وقال بعضهم : لأنّه التزم بتعهّده بقيام الليل بالعبادة ، وصيام النهار ، وعدم السخط من قضاء الله ، وبهذا اطلق عليه هذا اللقب.

وبعض آخر قال : سمّي بذي الكفل لأنّه تكفّل بمجموعة من أنبياء بني إسرائيل ، وأنقذهم من ملوك زمانهم الجبّارين.

وعلى أيّة حال ، فإنّ ما في حوزتنا اليوم من معلومات عن نبي الله ذي الكفل

__________________

(١) أعلام القرآن وتفسير القرطبي وتفسير روح البيان وتفسير الميزان ، كلّ منها أشارت إلى جزء من الموضوع المذكور أعلاه.

٥٣٣

يدلّ على استقامته في طريق طاعة وعبادة الله ، ومقاومة الجبابرة ، وأنّه نموذج بارز ليومنا الحاضر وما بعده ، رغم أنّ البعد الزمني بيننا وبينهم يحول دون المعرفة الدقيقة لتفاصيل أحوالهم.

* * *

٥٣٤

الآيات

( هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) )

التّفسير

هذا ما وعد به المتّقون :

آيات هذه السورة انتقلت بنا إلى شكل آخر من الحديث ، إذ أخذت تقارن بين المتّقين والعصاة المتجبّرين ، وتشرح مصير كلّ منهما يوم القيامة ، وهي بصورة عامّة تكمل بحوث الآيات السابقة.

في البداية ، وكخلاصة لشرح حال الأنبياء السابقين والنقاط المضيئة في حياتهم ، تقول الآية :( هذا ذِكْرٌ ) (١) .

نعم ، لم يكن الهدف من بيان مقاطع من تأريخ أولئك الأنبياء الرائع والمثير سرد بعض القصص ، وإنّما الهدف الذكر والتذكّر ، كما أكّدت عليه بداية هذه السورة( ص

__________________

(١) قال بعض المفسرين في تفسير هذه العبارة : إن المراد من الذكر الجميل هم الأنبياء السابقون.

٥٣٥

وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) .

فالهدف هو إيقاظ الأفكار ، ورفع المستوى العلمي ، وزيادة قوّة المقاومة والصمود لدى المسلمين الذي نزلت إليهم هذه الآيات(١) .

ثمّ أخرجت الأمور من طابعها الخاصّ وبيان أوضاع وأحوال الأنبياء ، إلى طابعها العامّ ، لتشرح بصورة عامّة مصير المتّقين ، إذ تقول :( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) (٢) .

بعد هذه الآية القصيرة ذات المعاني الخفيّة والتي توضّح تماما حال المتّقين بصورة مختصرة ، يعمد القرآن المجيد مجدّدا إلى اتّباع أسلوبه الخاص ، وهو أسلوب الإيجاز والتفصيل ، ليشرح ما فاز به المتّقون( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ) (٣) .

«جنّات» إشارة إلى حدائق الجنّة ، و (عدن) تعني الاستقرار والثبات ، ولهذا اطلق على المنجم الذي تحوي أعماقه أنواع الفلزات والمواد الثمينة كلمة (معدن).

وعلى أيّة حال فالعبارة هنا تشير إلى خلود حدائق الجنّة.

وعبارة( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ) إشارة إلى أنّهم لا يتكلّفون حتّى بفتح أبواب الجنّة ، إذ أنّها تنفتح بدون عناء لاستقبال أهل الجنّة ، إذ أنّ الجنّة بانتظارهم ، وعند ما تراهم تفتح لهم أبوابها وتدعوهم للدخول إليها.

ثمّ تبيّن الهدوء والسكينة التي تحيط بأهل الجنّة ، إذ تقول :( مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ ) (٤) . أي إنّهم متكئون على سرر فيها ، وقد هيّئت

__________________

(١) مجموعة من المفسّرين اعتبرت (هذا ذكر) إشارة إلى أنّ كلّ ما قيل بشأن الأنبياء من ذكر خير وثناء جميل كان إشارة إلى أولئك ، فيما تستعرض الآيات التالية مرتبتهم في الآخرة ، ولكن هذا المعنى مستبعد ، وظاهر الآيات لا يتناسب مع ما ذكرناه أعلاه.

(٢) «مآب» تعني المرجع ، وإضافة (حسن) إلى (مآب) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف.

(٣) «جنّات عدن» بدل أو عطف بيان (مآب).

(٤) الضمير (فيها) يعود في كلا الحالتين على (جنّات عدن) ووصف الفاكهة بأنّها كثيرة دليل على وصف (الشراب) بهذا الوصف. (متكئين) حال للضمير (لهم).

٥٣٦

لهم مختلف أنواع الفاكهة والأشربة ، وإنّهم متى ما طلبوها فإنّها تأتيهم في الحال.

وهنا يطرح سؤال هو : هل أنّ هناك من يحمل تلك الفاكهة ، والأشربة ويقدّمها لأهل الجنّة ، أم أنّها تأتيهم من دون أن يحملها أحد إليهم؟

كلا الاحتمالين واردان.

والتأكيد على «الفاكهة» و «الشراب» لعلّه إشارة إلى أنّ الفاكهة هي أكثر غذاء أهل الجنّة رغم وجود أنواع اخرى من الغذاء ذكر في بعض آيات القرآن المجيد ، كما هو الحال في عالم الدنيا إذ أنّ الفاكهة تشكّل أفضل وأسلم غذاء للإنسان.

صفة (كثيرة) تشير إلى وجود أنواع مختلفة من الفاكهة ، وأنواع متعدّدة أيضا من الشراب الطاهر الذي يتوفّر في الجنّة ، وذلك ما أشارت إليه أيضا آيات مختلفة في القرآن المجيد.

بعد هذا تتطرّق الآيات للزوجات الصالحات في الجنّة ، إذ تقول :( وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ) .

«الطرف» جفن العين ، وأحيانا يأتي بمعنى النظر ، ووصف آخر نساء الجنّة بقاصرات الطرف (أي ذوات النظرات القصيرة) يشير إلى اقتصار نظرهنّ على أزواجهنّ فقط ، وحبّهن وعشقهنّ لهم وعدم تفكيرهم بسواهم ، وهذه من أفضل مزايا وحسنات الزوجات.

وقال مفسّرون آخرون : إنّها تعني التغطية بالخمار الذي يضفي على العين جمالا.

ولا يوجد مانع يحول بين جمع المعنيين.

كلمة (أتراب) تعني (الأقران) ، وهو وصف لنساء الجنّة ، فاقتران عمر الزوج والزوجة ـ أي تساويهما ـ يضاعف من المحبّة بين الزوجين ، أو أنّه صفة لنساء أهل الجنّة ، وإنّهنّ جميعا شابات وفي عمر واحد(١) .

__________________

(١) (أتراب) جمع (ترب) على وزن (شعر).

٥٣٧

الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى النعم السبع التي يغدقها البارئعزوجل على أهل الجنّة ، والتي وردت في الآيات السابقة ، قال تعالى :( هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ) .

وعد لا يخلف ، ويبعث في نفس الوقت على النشاط لمضاعفة الجهد ، نعم إنّه وعد من الله العظيم.

وللتأكيد على خلود هذه النعم ، جاء في قوله تعالى :( إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ) (١) .

أي أنّ النعم في الجنان خالدة ولا تنفد ولا تزول كما في الحياة الدنيا ، وأنّها تزداد دائما من خزائن الله المملوءة وغير المحدودة ، ولا يظهر عليها أي نقص ، لأنّ الله أراد ذلك.

* * *

__________________

(١) (نفاد) تعني (فناء) وإبادة ، و (اللام) في (لرزقنا) جاءت للتأكيد.

٥٣٨

الآيات

( هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) )

التّفسير

وهذه هي عاقبة الطغاة!

الآيات السابقة استعرضت النعم السبع وغيرها من النعم التي يغدقها البارئعزوجل على عباده المتّقين ، أمّا آيات بحثنا فإنّها تستخدم أسلوب المقارنة الذي كثيرا ما استخدمه القرآن الكريم ، لتوضيح المصير المشؤوم والعقوبات المختلفة التي ستنال الطغاة والعاصين ، قال تعالى :( هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) (١) .

__________________

(١) كلمة (هذا) مبتدأ وخبرها محذوف ، وتقديرها هو (هذا الذي ذكرناه للمتّقين).

٥٣٩

فالمتّقون لهم (حسن مآب) ، ولهؤلاء العاصين الطغاة (شرّ مآب).

ثمّ تعمد آيات القرآن المجيد إلى الاستفادة من أسلوب الإيجاز والتفصيل ، إذ تقول :( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ ) (١) . أي إنّ جهنّم هي المكان المشؤوم الذي سيردونه ، وإنّهم سيحترقون بنيرانها ، فيا لها من فراش سيء.

والظاهر أنّ عبارة (يصلونها) (أي يدخلون في جهنّم ويحترقون بنيرانها) يراد منها بيان أن لا يتصوّر أحدهم أنّه سيرى جهنّم من مسافة بعيدة ، أو أنّه سيستقرّ بالقرب منها ، كلّا ، بل إنّه سيرد إلى داخلها ، ولا يتصوّر أحدهم أنّه سيعتاد على نار جهنّم ومن ثمّ يستأنس بها ، كلّا ، فإنّه يحترق فيها على الدوام.

«مهاد» كما قلنا من قبل ، تعني الفراش المهيّأ للنوم والاستراحة ، كما تطلق على سرير الطفل.

وبالطبع فإنّ الفراش هو مكان استراحة ، ويجب أن يكون مناسبا ـ في كلّ الأحوال ـ لوضع الشخص وملائما لرغبته ، ولكن كيف سيكون حال الذين خصّصت لهم نار جهنّم فراشا؟!

ثمّ تتطرّق الآيات إلى أنواع اخرى من العذاب الإلهي ، إذ تقول :( هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) (٢) . أي يجب عليهم أن يشربوا الحميم والغسّاق.

«الحميم» هو الماء الحارّ الشديد الحرارة ، والذي هو أحد أنواع أشربة أهل جهنّم ، ويقابل (الشراب الطهور) الذي ذكرته الآيات السابقة المخصّص لأهل الجنّة.

وكلمة (غسّاق) من (غسق) على وزن (رمق) وتعني شدّة ظلمات الليل. أمّا ابن عبّاس فقد فسّرها بأنّها شراب بارد جدّا (بحيث إنّ برودته تحرق وتجرح أحشاء

__________________

(١) (جهنّم) عطف بيان أو بدل من (شرّ مآب) ، و (يصلونها) حال لها.

(٢) هذه الجملة في الأصل كانت هكذا (هذا حميم وغسّاق فليذوقوه) ، وللتأكيد وضعت عبارة (فليذوقوه) بين المبتدأ والخبر. بعض المفسّرين احتملوا أنّ (هذا) خبر لمبتدأ محذوف كما أنّ (حميم وغسّاق) كذلك ، ولكن يبدو أنّ الاحتمال الأوّل أدقّ وألطف.

٥٤٠