الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168835 / تحميل: 6104
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثُمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان ، قال سبحانه :( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ) .(١)

قال ابن عبّاس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به

وقد خُصّ بالكتاب المُنزَّل على نبيِّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصار له كالعَلَم ، كما أنّ التوراة لمّا أُنزل على موسىعليه‌السلام ، والإنجيل لمّا أُنزل على عيسىعليه‌السلام

قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قُرآناً من بين كتب اللّه ، لكونه جامعاً لثَمرَة كُتبِه ، بل لجمعه ثَمرَة جميع العلوم ، كما أشار تعالى إليه بقوله :( وَتَفصيلاً لكلِّ شيء ) .(٢)

وعلى هذا ، فالقرآن مِن قَرَأَ بمعنى : جمع ، ولكن يُحتمل أن يكون بمعنى القراءة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقُرآنَ الفَجْر ) (٣) ، أي : قراءته

الحلف بالكتاب :

حلف سبحانه بالكتاب مرَّتين وقال :

١ ـ( حم * والكتابِ المُبِين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرين ) (٤)

٢ ـ( حم * وَالكتابِ المُبِين * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) القيامة : ١٧ـ ١٨

(٢) الأنعام : ١٥٤

(٣) الإسراء : ٧٨

(٤) الدخان : ١ـ٣

(٥) الزخرف : ١ـ٣

٦١

فالمُقسَم به هو الكتاب ، والمُقسَم عليه في الآية الأولى قوله :( إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُباركة ) ، والصِلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنّه مُنزَّل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة

كما أنّ المُقسَم به في الآية الثانية هو الكتاب المبين ، والمُقسَم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربيّاً للتعقّل ، والصِلة بينهما واضحة

ووُصف الكتاب بالمُبين دون غيره ؛ لاَنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم ، كما جاء في الآيتين ، حيث قال :( إِنّا كُنّا مُنذرين ) ، وقال :( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) ، وهذا النوع من الغاية ، أي : الإنذار والتعقّل ، يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً ، لا مجهولاً ومعقداً

والكتاب في الأصل مصدر ، ثُمّ سُمّي المكتوب فيه كتاباً

إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب

بقي هنا الكلام في عظمة المُقسَم به

ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه ، حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة

وقد تكلّم غير واحد من المُفكّرين الغربيّين حول عظمة القرآن ، والأحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونَستنطِقه حتى يُبدي رأيه في حقِّ نفسه

أ ـ القرآن نور ينير الطريق لطلاّب السعادة ، قال سبحانه :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِين ) (١)

ب ـ إنّه هدى للمُتَّقين ، قال سبحانه : ( هُدىً لِلْمُتَّقين ) (٢) فهو وإن كان هدى لعامّة الناس ، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المُتَّقون ؛ ولذلك خصَّهم بالذِكر

ــــــــــــــــ

(١) المائدة : ١٥

(٢) البقرة : ٢

٦٢

ج ـ هو الهادي إلى الشريعة الأقوَم ، قال سبحانه :( إِنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتي هِي أَقْوم ) (١)

د ـ الغاية من إنزاله قيام الناس بالقِسط ، قال سبحانه :( وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ ) .(٢)

هـ ـ لا يتطرَّق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ، ولا في مضامينه ولا محتواه ، قال سبحانه :( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً ) (٣)

و ـ يحثّ الناس إلى التدبُّر والتفكّر فيه :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُباركٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) (٤)

ز ـ تبيان لكلّ شيء :( وَنَزلْنا عَليْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء ) (٥)

ح ـ نذير للعالمين :( تَبارَكَ الَّذي نَزَّل الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) (٦)

ط ـ فيه أحسن القَصص :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَص ) (٧)

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٩

(٢) الحديد : ٢٥

(٣) النساء : ٨٢

(٤) ص : ٢٩

(٥) النحل : ٨٩

(٦) الفرقان : ١

(٧) يوسف : ٣

٦٣

ي ـ ضُرب فيه للناس من كلِّ مَثل :( وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذا الْقُرآنِ لِلنّاسِ من كُلِّ مَثَل ) (١)

هذه نماذج من الآيات الّتي تصف القرآن ببعض الأوصاف

وللنبي والأئمّة المعصومين كلمات قيِّمة حول التعريف بالقرآن ، ننقل شذرات منها :

قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً ، فقال :( أيّها الناس ، إنّكم في دار هُدنة ، وأنتم على ظَهرِ سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يُبليان كلّ جديد ، ويُقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدّوا الجهاز لبُعد المُجاز )

فقام المُقداد بن الأسود وقال : يا رسول اللّه ، و ما دار الهُدنة ؟

قال : ( دار بلاغٍ وانقطاعٍ .

فإذا التبست عليكم الفِتن كقطع اللّيل المُظلِم ، فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافِع مُشفَّع وماحِل مُصدَّق ، ومَن جعله أَمامَه قادَه إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه ساقه إلى النار

وهو الدليل ، يدلُّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفَصل ليس بالهَزل ، وله ظَهْر وبَطْن ، فظاهره حكم وباطنه عِلم ، ظاهره أنيق وباطنه عَميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبه ولا تبلَى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمَن عرف الصِفة

فليَجل جال بَصَره ، وليبلغ الصِفة نظره ، ينج مَن عطب ، ويتخلَّص مَن نشب ، فإنّ التَفكُّر حياة قلبِ البصير ، كما يمشي المُستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحُسنِ التخلّص وقلَّة التربّص ) (٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكهف : ٥٤

(٢) الكافي : ٢/٥٩٩ ، كتاب فضل القرآن

٦٤

وقال الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصف القرآن :

( ثُمّ أنزلَ عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبُو توقُّده ،وبحراً لا يُدرك قعرُه ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا يَنزِفه المُستنزفون ، وعيون لا يُنضِبُها الماتِحُون ، ومناهل لا يَغيضُها الواردون ) (١)

إلى غير ذلك من الخُطب والكلم حول التعريف بالقرآن ، الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٨

٦٥

الفصل الخامس : القَسَمُ بالعَصْر

حلف سبحانه بالعصر مرّةً واحدة ، دون أن يقرنه بمُقسَمٍ به آخر ، وقال :( وَالعَصْر * إِنّ الإنْسانَ لَفي خُسْر ) (١)

تفسير الآيات :

العَصْر يُطلق ويراد منه تارة : الدَهر ، وجَمْعه عصور

وأُخرى : العَشيّ مقابل الغداة ، يُقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران : الليل والنهار ، كالقمرين للشمس و القمر

وثالثة : بمعنى الضَغْط ، فيكون مصدر عَصَرْتُ ، والمَعصور الشيء العصر ، والعُصارة نفاية ما يُعصَر ، قال سبحانه :( أَراني أَعْصِرُ خَمراً ) (٢) ، وقال :( وفيهِ يَعْصِرُون ) (٣) ، وقال :( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً ) (٤) أي : السُّحُب الّتي تعتصرُ بالمَطَر

ورابعة : بمعنى ما يُثير الغبار ، قال سبحانه :( فَأَصابَها إعصار ) (٥) .(٦)

والمُراد من الآية أحد المَعنيين الأوّليين :

الأوّل : الدَهر والزمان

الثاني : العَصْر مقابل الغداة

ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع ، كما هو واضح

ــــــــــــــــ

(١) العصر : ١ـ٢

(٢) يوسف : ٣٦

(٣) يوسف : ٤٩

(٤) النبأ : ١٤

(٥) البقرة : ٢٦٦

(٦) مفردات القرآن : مادّة عصر ، و مجمَع البيان : ٥/٥٣٥

٦٦

وإليك بيان المَعنَيين الأوّلين

١ ـ العَصْر : الدَهْر . وإنّما حلف به ؛ لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار

وقد نُسب ذلك القول إلى ابن عبّاس ، والكلبي ، والجبائي

قال الزَمخشري : وأقسَمَ بالزمان ؛ لما في مروره من أصناف العجائب(١)

ولعلّ المُراد من الدهر والزمان اللّذين يُفسِّرون بهما العصر هو تاريخ البشريّة ؛ وذلك لأنّه سبحانه جعل المُقسَم عليه كون الإنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصّة ، ومن المعلوم أنّ خسران الإنسان أنّه هو مِن تصرّم عُمْره ، ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مالٍ وقع في يده

وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة ، نأتي بنصِّها :

قال : وعن بعضِ السَلَف ، تعلّمتُ معنى السورة من بائع الثلج ، كان يصيح ويقول : ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا معنى أنّ الإنسان لفي خُسْر ؛ يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب ، فإذا هو خاسر(٢)

٢ ـ العصر : أحدُ طَرفَي النهار . وأقسم بالعَصر كما أَقسم بالضُحى ، وقال :( والضحى * واللَّيل إذا سَجى ) (٣) ، كما أقسم بالصبح وقال :( والصُّبح إِذا أَسفَر ) (١)

وإنّما أقسَمَ بالعَصرِ لأهمّيّته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المَعيشة وحياة البشر ، فالأعمال اليوميّة تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الإنسان إلى الراحة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٣/٣٥٧

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٣٢/٨٥

(٣) الضحى : ١ـ٢

٦٧

وهناك قولان آخران :

أ ـ المرادُ عَصْر الرسول ذلك لما تضمَّنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني ، إلاّ لمَن اتَّبع الحقّ وصبر عليه ، وهم المؤمنون الصالحون عملاً ، وهذا يؤكّد على أن يكون المراد من العصر عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو عصر بزوغ نجم الإسلام في المجتمع البشري ، وظهور الحقّ على الباطل

ب ـ المراد به وقت العصر وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسَمَ بها ، لفضلها ، بدليل قوله :( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى ) (٢) ، كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى :( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ ) (٣) هو صلاة العصر

أضف إلى ذلك ، أنّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبةِ تُختَم بها الأعمال.

ولا يخفى أنّ القول الأخير في غاية الضعف ؛ إذ لا صِلة بين القَسَم بصلاة العصر والمُقسَم عليه ، أعني :( الإنْسان لفي خُسر ) ، على أنّه لو كان المُقسَم به هو صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه وحذف المضاف ، مع عدم توفُّر قرينة عليه ؟! ومنه يظهر حال الوجه المُتقدّم عليه

والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى ؛ حيث أنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب ، أي : خسران الإنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه

ــــــــــــــــ

(١) المُدّثّر : ٣٤

(٢) البقرة : ٢٣٨

(٣) المائدة : ١٠٦

٦٨

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْر ) ، والمراد من الخسران هو : مضيّ أثمَن شيء لديه وهو عمره ، فالإنسانُ في كلّ لحظة يفقد رأس ماله ، بنحوٍ لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سُنَّة الحياة الدنيويّة ، حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأيُّ خسران أعظم من ذلك ؟!

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فأوضح من أن يخفى ؛ لاَنّ حقيقة الزمان حقيقة مُتصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر الإنسان ، فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج

ثُمّ أنّه سبحانه استثنى من الخسران مَن آمن وعمل صالحاً ، وتواصى بالحقِّ وتواصى بالصبر

ووجه الاستثناء واضح ؛ لأنّه بدَّلّ رأس ماله بشيء أغلى وأثمَن ، يستطيع أن يقوم مقام عمره المُنقضي ، فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة برضوانه سبحانه ونِعمه المادِّية والمعنويّة

يقول سبحانه :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١)

ــــــــــــــــ

(١) التوبة : ١١١

٦٩

الفصل السادس : القَسَم بالنَجْم

وردتْ كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور(١) ، وحلف به مرَّة واحدة وقال :( وَالنَّجمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٢) ، وهي من السور المكِّية

تفسير الآيات :

النَجْمُ في اللغة : الكوكب الطالِع ، وجمعه نُجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب

وأمّا ( هوى ) في قوله :( إِذا هَوى ) ، فيُطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ، وأُخرى على السقوط من علوٍ إلى سفل

ولكنّ تفسيره بسقوط النجم وغروبه لا يُساعده اللفظ ، وإنّما المُراد هو ميله

وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى ، أي : إذا مالَ

ثُمّ إنّ المراد من النجم أحد الأمرين :

أ ـ أمّا مُطلَق النجم ، فيشمل كافّة النجوم الّتي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه ، ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بها

ــــــــــــــــ

(١) وهي : النحل : ١٦ ، النجم : ١ ، الرحمن : ٦ ، الطارق : ٣

(٢) النجم : ١ـ٤

٧٠

ب ـ المراد هو نجم الشِعْرَى ، الّذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه :( وَانَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعرى ) (١)

ونظيره القول بأنّ المراد هو الثُريّا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستَّة منها واضحة وواحد خافت النور ، وبه تُختبر قوَّة البَصَرِ

وربّما فُسّر بالقرآن الّذي نزل على قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة ٢٣ سنة ؛ لنزوله نجوماً(٢) ، لكنّ لفظ الآية لا يُساعد على هذا المعنى ، فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامّة النجوم ، أو بنجم خاصِّ يهتدي به السائر

ويدلّ على ذلك أنّه قيَّد القَسَم بوقت هويِّه ، ولعلّ الوجه هو أنّ النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرضِ لا يهتدي به الساري ، لأنّه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيَّن بزواله جانب المغرب من المشرق(٣)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( ما ضَلَّ صاحِبكُمْ وَما غوى * وما ينطق عن الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحيٌ يُوحى )

جمع سبحانه هناك بين الضلال والغَيِّ فنفاهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقرآنُ يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ ) (٤)

ــــــــــــــــ

(١) النجم : ٤٩

(٢) انظر الميزان : ١٩/٢٧ ، مجمع البيان : ٥/١٧٢

(٣) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٧٩

(٤) المائدة : ١٠٥

٧١

كما يستعمل الغَيّ في مقابل الرُشد ، يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً ) (١)

والمُهمُّ بيان الفرق بين الضلالةِ والغواية ، فنقول :

ذكرَ الرازي : أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصَده طريقاً أصلاً ، والغِواية أن لا يكون له طريق مُستقيم إلى المقصَد يدلّك على هذا أنّك تقول للمؤمن الّذي ليس على طريق السَداد : إنّه سَفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضالّ ، والضالّ كالكافر ، والغاوي كالفاسق(٢)

وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهلٌ من اعتقادٍ فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني يُقال له : غَيّ(٣)

وعلى هذا ، فالآية بصَدَد بيان نفي الضلالة والغَي عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليردّ به التُهم المُوجّهة إليه من جانب أعدائه

وأمّا بيان الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ النجم عند الهوى والميل يهتدي به الساري ، كما أنّ النبي يهتدي به الناس ، أي : بقوله وفعله وتقريره

فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لأنّها هداية تكوينيّة ، وهكذا لا خطأ في هداية الوحي المُوحى إليه ، ولذلك قال :( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى )

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ١٤٦

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٨٠

(٣) مفردات الراغب : ٣٦٩

٧٢

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم

حَلَفَ سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم * إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم * فِي كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون ) (١)

تفسير الآيات :

المُراد من مواقع النجوم مساقِطها حيث تغيب

قال الراغب : الوقوع : ثبوت الشيء وسقوطه ، يُقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى ذلك يراد منه مطالِعها ومَغاربها ، يقال : مواقع الغَيث أي : مَساقِطه(٢)

ويدلُّ على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها ، أنّ اللّه سبحانه يُقسِم بالنجوم وطلوعها وجَريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ، كما في قوله تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس ) (٣) ، وقال :( وَالنَّجْم إِذا هَوى ) ، وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب )

ــــــــــــــــ

(١) الواقعة : ٧٥ـ ٧٩

(٢) مفردات الراغب : ٥٣٠ ، مادَّة وَقَعَ

(٣) التكوير : ١٥ـ ١٦ .

٧٣

ويرجح هذا القول أيضاً : أنّ النجوم حيث وقعت في القرآن ، فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى :( وَإدْبار النُّجوم ) (١) ، وقوله :( وَالشَّمْسُ وَالْقَمرُ وَالنُّجُوم ) (٢)

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَريم * في كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَّهَرُون )

وصفَ القرآن بصفاتٍ أربع :

أ ـ ( لقُرآنٌ كَريم ) والكريم هو البَهيّ الكثير الخير العظيم النفع ، وهو من كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله ـ أعني القرآن ـ مثله

وقال الأزهري : الكريم : اسم جامع لما يُحمَد ، فاللّه كريم يُحمَد فِعاله ، والقرآن كريم يُحمَد ؛ لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة

ب ـ( في كتابٍ مَكنُون ) ولعلّ المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة قوله :( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيد * في لَوحٍ مَحْفُوظ ) (٣) ويُحتمَل أن يكون المراد الكتاب الّذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه :( في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرةٍ * بِأَيدِي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَررَةٍ ) (٤)

ج ـ( لا يَمَسُّه إِلاّ المُطهَّرون ) فلو رجع الضمير إلى قوله :( لقُرآنٌ كَريم ) ، كما هو المتبادَر ، لأنّ الآيات بصَدَد وصفه وبيان منزلته ، فلا يمسّ المصحف إلاّ طاهر ، فيكون الإخبار بمعنى الإنشاء ، كما في قوله سبحانه :( وَالمُطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ٤٩

(٢) الحجّ : ١٨

(٣) البروج : ٢١ ـ ٢٢

(٤) عبس : ١٣ ـ ١٦

(٥) البقرة : ٢٢٨

٧٤

ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كتابٍ مَكنُون ) ، فيكون المعنى لا يمسّ الكتاب المَكنون إلاّ المطهَّرون

وربّما يُؤيَّد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وأنّ محلّه لا يصل إليه ، فلا يمسّه إلاّ المطهّرون ، فيستحيل على أخابثِ خلق اللّه وأنجسِهم أن يصلوا إليه أو يَمسُّوه ، قال تعالى :( وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُون ) (١)

د ـ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين ) وهذا هو الّذي يُركِّز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وأنّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر

وأمّا الصِلة بين القَسَمِ والمُقسَم به فهو واضح ؛ فلاَنّ النجوم بمواقعها ـ أي طلوعها وغروبها ـ يهتدي بها البشر في ظلمات البرِّ والبحر ، فالقرآن الكريم كذلك ، يهتدي به الإنسان في ظلمات الجهل والغَي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادَّة ، كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنويَّة في عالم المُجرَّدات

إكمال :

إنّه سبحانه قال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم ) ، فالمراد منه القَسَم بلا شكّ ، بشهادة أنّه قال بعده :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم ) ، فلو كان معنى الآية هو نفي القَسَم ، فلا يُناسب ما بعده ؛ حيث يصفه بأنّه حلف عظيم

وقد اختلف المفسِّرون في هذه الآيات ونظائرها إلى أقوال :

١ ـ ( لا ) زائدة ، مثلها قوله سبحانه :( لئلاّ يَعْلَم )

٢ ـ أصلها ( لأُقسِمُ ) بلام التأكيد ، فلمّا أُشبعَت فتحتها صارت ( لا ) كما في الوقف

٣ ـ ( لا ) نافية ، بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المُخاطَب ، ثُمّ الابتداء بالقَسَمِ ، كما نقول : لا واللّه ، لا صحَّة لقول الكفّار ، أُقسِم عليه

ــــــــــــــــ

(١) الشعراء : ٢١٠ـ٢١١

٧٥

ثُمّ إنّه سبحانه يصف هذا القَسَم بكونه عظيماً ، كما في قوله :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ، فقوله : ( عظيم ) وصف ( القَسَم ) ، أُخِّر لحفظِ فواصل الآيات

وهذا القَسَم هو القَسَم الوحيد الّذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم

فالحديث هنا هو حديث على الأبعاد ، أبعاد النجوم عنّا وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا وفي كلّ المَجرّات

ولأنّها كلّها تتحرَّك ، فإنّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الأُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الأُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المُعقَّدة الّتي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاصّ به ، وحفظته في علاقات متوازنة دقيقة مُحكمَة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغيَّر سُنَنها وقوانينها ، وهي لا تسير خَبطَ عَشواء ، أو في مساراتٍ متقاطعةٍ أو متعارضة ، بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم ، وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه(١)

يقول الفلكيُّون : إنّ من هذه النجوم والكواكب ـ الّتي تزيد على عدَّة بلايين نجم ـ ما يمكن روَيته بالعين المُجرَّدة ، وما لا يُرى إلاّ بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تَحسَّ به الأجهزة دون أن تراه

هذه كلّها تسبحُ في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجمٍ من مجال نجمٍ آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر ، إلاّ كما يُحتمَل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسّط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتّجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد ، وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً(٢)

ــــــــــــــــ

(١) أسرار الكون في القرآن : ١٩٢

(٢) اللّه والعلم الحديث : ٢٤

٧٦

الفصل الثامن : القَسَمُ بالسماءِ ذات الحُبُك

حَلَفَ سبحانه في سورة الذاريات بأُمورٍ خمسة ، وجعل للأربعة الأُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الأقسام جواباً آخر ، وبما أنّ المُقسَم عليه مُتعدِّد ؛ فصلنا القَسَم الخامس عن الأقسام الأربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القَسَمِ المُفرَد

قال سبحانه :( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (١)

ترى أنّه ذكر للأقسام الأربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله :( إِنّما تُوعَدُون لَصادِق * وانّ الدِّين لواقِع )

ثُمّ شرع بحلفٍ آخر ، وقال :( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ * إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) (٢)

فهناك قَسَم خامس وهو : ( والسماء ذات الحُبُك ) ، وله جواب خاصّ لا يمتّ لجواب الأقسام الأربعة ، وهو قوله :( إِنَّكُمْ لَفي قولٍ مختلِف )

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ ٦

(٢) الذاريات : ٧ـ ٨

٧٧

تفسير الآيات :

الحُبُك : جمع الحِباك ، كالكتب جمع كتاب ، تُستعمَل تارة في الطرائق ، كالطرائق الّتي تُرى في السماء ، وأُخرى في الشَعْرِ المجعد ، وثالثة في حُسن أثرِ الصنعة في الشيء واستوائه

قال الراغب :( والسَّماء ذات الحُبُك ) أي : ذات الطرائق ، فمن الناس مَن تصوّر منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرّة

ولعلّ المراد منه هو المعنى الأوّل ، أي : السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويؤيّده جواب القَسَم ، وهو اختلاف الناس وتشتُّت طرائقهم ، كما في قوله :( إنّكم لفي قولٍ مختلِف )

وربّما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث ، أي : أُقسم بالسماء ذات الحُسنِ والزينة ، نظير قوله تعالى :( إِنّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنيا بزِينةٍ الكَواكِب ) .(١)

ولكنّه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلفَ حالِف بالأمواج الجميلة الّتي ترتَسِم بالسُحب أو بالمجرّات العظيمة ، الّتي تبدو كأنّها تجاعيد الشَعْرِ على صفحة السماء ، ثُمّ يقول :( إِنّكم لفي قولٍ مختلِف ) ، أي : إنّكم متناقضون في الكلام

وعلى كلّ حال ، فالمُقسَم عليه هو : التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم ، فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتهم عظاماً رميم ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبويّة ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو ممّا علّمه بشر ، أو هي من أساطير الأوَّلين

وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم ، إذ لا تعتمدون على دليلٍ خاصّ ، فانّ تناقض المُدَّعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ٦

٧٨

ثُمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الإعراض عن الإيمان بالمعاد ليس أمراً مختصَّاً بشخصٍ أو بطائفة ، بل هو شيمة كلّ مُخالِف للحقِّ يقول :( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) . (١)

والأفْك : الصَرف ، والضمير في ( عنه ) يرجع إلى الكتاب ، من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء ، أي : يُصرَف عن القرآن من صُرف وخالفَ الحقّ

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فقد ظهر ممّا ذكرنا ؛ لما عرفتَ من أنّ معنى الحُبُك هو الطرائق المختلفة المتنوِّعة ، فناسب أن يحلفَ به سبحانه على اختلافهم وتشتّت آرائهم ، في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته ، والكتاب الّذي أُنزل معه ، والمعاد الّذي يدعو إليه

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ٩

٧٩

القسم الثاني : القَسَم المُتَعدِّد

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم في سورة الصافّات

حلف سبحانه بالملائكة في السور الأربع التالية :

١ ـ الصافّات ، ٢ ـ الذاريات ، ٣ ـ المُرسلات ، ٤ ـ النازعات

وليس المُقسَم به هو لفظ المَلَكِ أو الملائكة ، وإنّما هو الصِفات البارزة للملائكة ، وأفعالها ، وإليك الآيات :

١ ـ( وَالصّافاتِ صَفّاً * فَالزّاجراتِ زَجْراً * فَالتّالياتِ ذِكراً *إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحد ) .(١)

٢ ـ( والذّارِياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً * إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادق * وَانَّ الدِّين لواقع ) (٢)

٣ ـ( وَالْمُرسَلات عُرفاً * فَالعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنّاشراتِ نَشْراً * فالفارِقات فَرقاً * فالمُلقِياتِ ذِكراً * عُذراً أَو نُذراً * إنّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) (٣)

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١ـ٤

(٢) الذاريات : ١ـ٦

(٣) المُرسَلات : ١ـ٧

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ) .

عن كيفية عودة عائلته إليه؟ وردت تفاسير متعدّدة ، أشهرها يقول : إنّهم كانوا أمواتا فأحياهم الله مرّة اخرى.

ولكن البعض قال : إنّهم كانوا قد تفرّقوا عنه أيّام ابتلائه بالمرض ، فجمعهم الله إليه بعد برئه.

ويحتمل أنّ جميعهم أو بعضهم ابتلي بمختلف أنواع الأمراض ، وقد شملتهم الرحمة الإلهية وعادت إليهم صحّتهم وعافيتهم ، ليجتمعوا مرّة اخرى حول أيّوب.

أمّا قوله تعالى :( وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) ، فإنّها إشارة إلى تناسلهم وزيادة عددهم إلى الضعف ، وبهذا إزداد عدد أبناء أيّوب إلى الضعف.

ورغم أنّ الآيات لا تتطرّق إلى إعادة أموال أيّوب إليه ، ولكن الدلائل كلّها تبيّن أنّ البارئعزوجل أعاد إليه أمواله وأكثر من السابق.

الذي يلفت النظر في آخر الآية ـ محلّ البحث ـ أنّ هدف إعادة النعم الإلهيّة على أيّوب تحدّد بأمرين :

الأوّل : (رحمة منّا) والتي كان لها صبغة فردية ، وفي الحقيقة إنّها مكافأة وجائزة من البارئعزوجل لعبده الصابر المقاوم أيّوب.

والثّاني : إعطاء درس لكلّ أصحاب العقول والفكر على طول التأريخ لأخذ العبر من أيّوب ، كي لا يفقدوا صبرهم وتحمّلهم عند تعرّضهم للمشاكل والحوادث الصعبة ، وأن لا ييأسوا من رحمة الله ، بل يزيدوا من أملهم وتعلّقهم به.

المشكلة الوحيدة التي بقيت لأيّوبعليه‌السلام هي قسمه بضرب زوجته ، إذ كان قد أقسم أيّام مرضه لئن برىء من مرضه ليجلدنّ امرأته مائة جلدة أو أقل لأمر أنكره عليها ، ولكن بعد ما برىء من مرضه رغب أيّوب في العفو عنها احتراما وتقديرا لوفائها ولخدماتها التي قدّمتها إليه أيّام مرضه ، ولكن مسألة القسم بالله كانت تحول دون ذلك.

٥٢١

وهنا شمل البارئعزوجل أيّوبعليه‌السلام مرّة اخرى بألطافه ورحمته ، وذلك عند ما أوجد حلّا لهذه المشكلة المستعصية على أيّوب( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) .

«ضغث» تعني ملء الكفّ من الأعواد الرقيقة ، كسيقان الحنطة والشعير أو الورد وما شابهها.

وعن الأمر الذي أنكرته زوجة أيّوب على زوجها والتي تدعى (ليا) بنت يعقوب ، فقد اختلف المفسّرون في تفسيره

فقد نقل عن (ابن عبّاس) أنّ الشيطان ظهر بصورته الطبيعية لزوجة أيّوب ، وقال لها : إنّي أعالج زوجك بشرط أن تقولي حينما يتعافى : إنّي الوحيد الذي كنت السبب في معافاته ، ولا أريد أيّ اجرة على معالجته الزوجة التي كانت متألّمة ومتأثّرة بشدّة لاستمرار مرض زوجها وافقت على الاقتراح ، وعرضته على زوجها أيّوب فيما بعد ، فتأثّر أيّوب كثيرا لوقوع زوجته في شرك الشيطان ، وحلف أن يعاقب زوجته.

وقال البعض إنّ أيّوب بعث زوجته لمتابعة عمل ما ، فتأخّرت في العودة إليه ، فتأثّر أيّوب الذي كان يعاني من آلام المرض ، وحلف أن يعاقب زوجته.

على أيّة حال ، فإنّ زوجته كانت تستحقّ الجزاء من هذا الجانب ، أمّا من جانب وفائها وخدمتها أيّوب طوال فترة مرضه فإنّه يجعلها تستحقّ العفو أيضا.

حقّا إنّ ضربها بمجموعة من سيقان الحنطة أو الشعير لا تعطي مصداقا واقعيا لحلفه ، ولكنّه نفّذ هذا الأمر لحفظ احترام اسم الله ، والحيلولة دون إشاعة مسألة انتهاك القوانين ، وهذا الأمر ينفّذ فقط بشأن الطرف الذي يستحقّ العفو ، وفي الموارد الاخرى التي لا تستحقّ العفو لا يجوز لأحد القيام بمثل هذا العمل(١) .

__________________

(١) نظير هذا المعنى ورد في باب الحدود الإسلامية وتنفيذها بحقّ المرضى المذنبين (كتاب الحدود أبواب حدّ الزنا).

٥٢٢

الآية الأخيرة في بحثنا هذا ـ التي هي بمثابة عصارة القصّة من أوّلها حتّى آخرها ـ تقول :( إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

ومن الواضح أنّ دعاء أيّوب البارئعزوجل ، وطلبه دفع الوساوس الشيطانية عنه ، ورفع البلاء والمرض عنه ، كلّ هذه لا تتنافى مع مقام صبره وتحمّله ، ذلك الصبر والتحمّل الذي استمرّ لمدّة سبع سنين ، وفي روايات اخرى لمدّة ثمانية عشر عاما ـ للأوجاع والأمراض والفقر والعسر واستمرار الشكر.

الذي يلفت النظر في هذه الآية أنها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب ، كلّ واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل.

أوّلا : مقام عبوديته.

ثانيا : صبره وتحمّله وثباته.

ثالثا : إنابته المتكرّرة إلى الله.

* * *

بحوث

١ ـ دروس مهمّة في قصّة أيّوب

رغم أنّ قصة هذا النّبي الصابر أدرجت في أربع آيات في هذه السورة ، إلّا أنّها وضّحت حقائق مهمّة ، منها :

أ ـ الامتحان الإلهي واسع وكبير جدّا ويشمل حتّى الأنبياء الكبار ، إذ يكون امتحانهم أشدّ وأصعب من الآخرين ، لأنّ طبيعة الحياة في هذه الدنيا بنيت على هذا الأساس ، ومن دون هذا الامتحان فإنّ الإمكانيات والطاقات الكامنة في الإنسان لا تتفجّر.

ب ـ الفرج بعد الشدّة نقطة اخرى تمكن في مجريات هذه القصّة ، فعند ما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كلّ جانب ، عليه أن لا ييأس

٥٢٣

ويفقد الأمل ، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه ، كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام : «عند تناهي الشدّة تكون الفرجة ، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء»(١) .

ج ـ مجريات هذه القصّة توضّح بصورة جيّدة بعض غايات البلاء والحوادث الصعبة في الحياة ، وتجيب على من يرى في وجود الآفات والبلايا تناقضا مع برهان النظم في بحوث التوحيد ، لأنّ وجود مثل هذه الحوادث الصعبة والشديدة في حياة الإنسان ـ من أنبياء الله الكبار وحتّى عموم الناس ـ يعدّ أمرا ضروريا ، فالامتحان ـ كما ذكرنا ـ يفجّر طاقات الإنسان الكامنة ، ويوصله في آخر الأمر إلى التكامل في وجوده.

لذا فقد ورد في الروايات الإسلامية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثمّ الذين يلونهم ، الأمثل فالأمثل»(٢) .

كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ في الجنّة منزلة لا يبلغها عبد إلّا بالابتلاء»(٣) .

د ـ أحداث هذه القصّة تعطي درسا في الصبر لكلّ المؤمنين الواقعيين الرساليين ، الصبر والتحمّل الذي يعقبه الظفر والإنتصار في كلّ المجالات ، ونيل المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند البارئعزوجل .

ه ـ أحيانا يكون إمتحان شخص ما ، هو إمتحان في نفس الوقت لأصدقائه وللمحيطين به ، كي يعرف حجم صداقتهم ومحبّتهم إيّاه ، ومقدار وفائهم له ، فعند ما فقد أيّوب أمواله وثرواته وصحّته تفرّق عنه أصحابه ، ولم يكتفوا بالابتعاد عنه ، وإنّما اتّحدت ألسنتهم مع ألسنة أعدائه في الشماتة به وإلقاء اللائمة عليه ، وكشفوا

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، الكلمة ٣٥١.

(٢) سفينة البحار مادّة (بلاء) المجلّد الأوّل ، الصفحة ١٠٥.

(٣) المصدر السابق.

٥٢٤

بفعلتهم هذه عن حقيقة أنفسهم ، وكما لاحظنا فإنّ أيّوب كان يتألّم من جراح ألسنتهم أكثر من تألّمه من مرضه ، والشعر المعروف يقول :

جراحات السنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

جراح الكلام ليس لها التئام.

و ـ أحبّاء الله ليسوا من يذكر الله عند الرخاء ، وإنّما أحبّاء الله الواقعيون هم أولئك الذين يذكرون الله دائما في السرّاء والضرّاء ، وفي البلاء والنعمة ، وفي المرض والعافية ، وفي الفقر والغنى ، وإنّ تأثيرات الحياة الماديّة لا تترك على إيمانهم وأفكارهم أدنى أثر.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبته الخاصّة بوصف المتّقين التي بيّنها لصاحبه المخلص «همام» واستعرض فيها أكثر من (١٠٠) صفة للمتّقين ، قال في إحدى تلك الصفات :

«نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء».

ز ـ هذه القصّة أكّدت مرّة اخرى حقيقة أنّ فقدان الإمكانات الماديّة ، ونزول المصائب ، وحلول المشاكل والفقر ، لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف البارئعزوجل ، كما أنّ امتلاك الإمكانات الماديّة ليس دليلا على بعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى ، وإنّما يمكن أن يكون الإنسان عبدا مقرّبا لله مع امتلاكه للكثير من الإمكانات الماديّة ، بشرط أن لا يكون عبدا لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي ، وإنّ فقدها لا يفقد الصبر معها.

٢ ـ أيّوبعليه‌السلام في القرآن والتوراة

رغم أنّ البارئعزوجل أشاد بالروح الكبيرة لهذا النّبي الكبير الذي هو مظهر الصبر والتحمّل في قرآنه المجيد في أوّل القصّة الخاصة به وفي آخرها. فإنّ قصّة هذا النّبي الكبير ـ ممّا يؤسف له ـ لم تحفظ من أيدي الجهلة والأعداء ، حيث دسّوا فيها خرافات تافهة لا تليق بمقامه المحمود المنزّه عنها والمطهّر منها ، ومن تلك

٥٢٥

الخرافات القول بأنّ الدود غطّى بدنه أثناء فترة مرضه ، وتعفّن جسده ، بحيث أنّ أهل قريته ضاقوا به ذرعا وأخرجوه من قريتهم.

ودون أدنى شكّ ، فإنّ مثل هذه الروايات مزيّفة رغم ورودها في طيّات كتب الحديث ، لأنّ رسالة الأنبياء تفرض أن يكون النّبي المرسل ـ في أي زمان ـ بعيدا عن مثل تلك التقوّلات ، كي ينجذب إليه الناس برغبة وشوق ، وأن لا تتوفّر فيه أشياء تكون سببا لتنفّرهم فيه وابتعادهم عنه ، كالأمراض والعيوب الجسدية والأخلاق السيّئة ، لأنّها تتناقض مع فلسفة الرسالة ، فالقرآن المجيد يقول بشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية (١٥٩) من سورة عمران :( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) .

وهذه الآية دليل على أنّ النّبي يجب أن لا يكون بحالة تجعل المحيطين به يتفرّقون عنه. ولكن ورد في التوراة جزء خاص بأيّوب وقبل موضوع (مزامير داود) وهذا الجزء يشتمل على (٤٢) فصلا ، كلّ فصل يشرح مواضيع مختلفة ، وقد وردت في بعض الفصول مواضيع سيّئة وقبيحة ، ومنها ما ورد في الفصل الثالث والذي يقول : إنّ أيّوب كان كثير الشكوى ، في حين أنّ القرآن الكريم كان يعظّم ويشيّد بمقام صبره وتحمّله.

٣ ـ إطلاق صفة (أوّاب) على الأنبياء الكبار

ثلاثة أنبياء كبار أطلقت عليهم صفة (أوّاب) في هذه السورة ، وهم : داود وسليمان وأيّوب ، وفي سورة (ق) في الآية (٣٢) اطلق هذا الوصف على كلّ أهل الجنّة ، قوله تعالى :( هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) .

هذه العبارات تبيّن أنّ مقامه في المقام الأعلى ، وعند ما نرجع إلى مصادر اللغة نشاهد أنّ كلمة (أوّاب) مشتقّة من كلمة (أوب) وتعني الرجوع والعودة.

وهذا الرجوع والعودة (خاصّة وأنّ كلمة (أوّاب) هي اسم مبالغة تعني كثرة

٥٢٦

الرجوع وتكراره) يشير إلى أنّ الأوّابين حسّاسون جدّا تجاه الأسباب والعوامل التي تبعدهم عن الله ، كالرزق وبريق الزخارف الدنيوية في أعينهم ، ووساوس النفس والشيطان ، وإن ابتعدوا لحظة واحدة عن الله عادوا إليه بسرعة ، وإن غفلوا عنه لحظة تذكروه وسعوا في جبرانها.

هذه العودة يمكن أن تكون بمعنى العودة إلى طاعة أوامر الله واجتناب نواهيه ، أي أنّ أوامره هي مرجعهم وسندهم أينما كانوا.

وكلمة (أوّاب) التي جاءت في الآية العاشرة من سورة سبأ( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) والخاصّة بداود ـ أيضا ـ تعطي معنا آخر ، وهو ترديد الصوت ، إذ أنّ الأوامر صدرت إلى الجبال والطيور أن ردّدي الصوت مع داود ، ولهذا فإنّ (أوّاب) تعني كلّ من يردّد الأوامر الإلهيّة والتسبيح والحمد الذي تردّده كلّ موجودات الكون حسب قوانين الخلقة ، وممّا يذكر أنّ أحد معاني كلمة (أيّوب) هي (أوّاب).

* * *

٥٢٧

الآيات

( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) )

التّفسير

الأنبياء الستّة :

متابعة للآيات السابقة التي تطرّقت باختصار إلى حياة (داود) و (سليمان) وبصورة أكثر اختصارا لحياة (أيّوب) إذ بيّنت أهم النقاط البارزة في حياة هذا النّبي الكبير ، وتستعرض آيات بحثنا هذا أسماء ستّة من أنبياء الله ، وتوضّح بصورة مختصرة بعض صفاتهم البارزة التي يمكن أن تكون أنموذجا حيّا لكلّ بني الإنسان.

والذي يلفت الانتباه ، هو أنّ هذه الآيات استعرضت ستّ صفات مختلفة لأولئك الأنبياء الستّة ، ولكلّ صفة معناها ومفهومها الخاصّ بها.

ففي البداية تخاطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ

٥٢٨

وَيَعْقُوبَ ) .

مقام العبودية هو أوّل ميزة لأولئك الأنبياء ، وحقّا فإنّ كلّ شيء جمع في هذه الصفة فالعبودية لله تعني التبعية المطلقة له ، وتعني الاستسلام الكامل لإرادته ، والاستعداد لتنفيذ أوامره في كلّ الأحوال.

العبودية لله تعني عدم الاحتياج لغيره ، وعدم التوجّه لسواه ، والتكفير بلطفه ورحمته فقط ، هذا هو أوج تكامل الإنسان وأفضل شرف له.

ثمّ تضيف الآية :( أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ) .

إنّه لتعبير مثير للعجب؟ أصحاب الأيدي والأبصار! «أيدي» جمع (يد) ، و (أبصار) جمع (بصر).

الإنسان يحتاج إلى قوّتين لتحقيق أهدافه ، الاولى قوّة الإدراك والتشخيص ، والثانية حسن الأداء. وبعبارة اخرى : يجب عليه الاستفادة من (العلم) و (القدرة) للوصول إلى أهدافه.

وقد وصف البارئعزوجل أنبياءه بأنّهم ذوو إدراك وتشخيص وبصيرة قويّة ، وذوو قوّة وقدرة كافية لإنجاز أعمالهم.

إنّ هؤلاء الأنبياء على مستوى عال من المعرفة ، وأنّ مستوى علمهم بشريعة الله وأسرار الخلق وخفايا الحياة لا يمكن تحديده.

أمّا من حيث الإرادة والتصميم وحسن الأداء ، فإنّهم غير كسولين أو عاجزين أو ضعفاء ، بل هم أشخاص ذوو إرادة قويّة وتصميم راسخ ، إنّهم قدوة لكلّ السائرين في طريق الحقّ ، فبعد مقام العبودية الكامل لله تعالى ، لتسلّحوا بهذين السلاحين القاطعين.

وممّا يستنتج من هذا الحديث أنّه ليس المراد من اليد والعين أعضاء الحسّ التي يمتلكها غالبية الناس ، لأنّ هناك الكثيرين ممّن يمتلكون هذين العضوين لكنّهم لا يمتلكون الإدراك والشعور الكافي ، ولا القدرة على التصميم ، ولا حسن

٥٢٩

الأداء في العمل ، وإنّما هي كناية عن صفتين هما (العلم والقدرة).

أمّا الصفة الرابعة لهم فيقول القرآن بشأنها :( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) (١) .

نعم ، إنّهم يتطلّعون إلى عالم آخر ، وأفق نظرهم لا ينتهي عند الحياة الدنيا ولذّاتها المحدودة ، بل يتطّلعون إلى ما وراءها من حياة أبدية ونعيم دائم ، ولهذا يبذلون الجهد ويسعون غاية السعي لنيلها.

وعلى هذا فإنّ المراد من كلمة (الدار) هي الدار الآخرة ، لأنّه لا توجد دار غيرها ، وإن وجدت فما هي إلّا جسر أو ممرّ يؤدّي إلى الآخرة في نهاية الأمر.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون المراد من الدار هنا دار الدنيا ، وعبارة( ذِكْرَى الدَّارِ ) إشارة إلى الذكر الحسن الباقي لأولئك الأنبياء في هذه الدنيا ، وهذا الاحتمال مستبعد جدّا ، وخاصّة أنّ كلمة (الدار) جاءت بشكل مطلق ، وكذلك لا تتناسب مع كلمة (ذكرى).

والبعض الآخر احتمل أنّ المراد هو ذكرهم الحسن والجميل في دار الآخرة ، وهذا مستبعد أيضا.

وعلى أيّة حال ، فلعلّ الإنسان يتذكّر الآخرة بين حين وآخر ، خاصّة عند وفاة أحد أصدقائه أو مشاركته في مراسم التشييع أو مجالس الفاتحة ، وهذا الذكر ليس خالصا وإنّما هو مشوب بذكر الدنيا ، أمّا عباد الله المخلصون فإنّ لهم توجّها خالصا وعميقا ومستمرا بالنسبة للدار الآخرة ، فهي على الدوام تتراءى أمام أعينهم ، وعبارة (خالصة) في الآية إشارة إلى هذا المعنى.

الصفتان الخامسة والسادسة جاءتا في الآية التالية( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ

__________________

(١) (ذكرى الدار) من الممكن أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف ، وتقدير العبارة (هي ذكر الدار) ، ومن الممكن أن تكون بدلا من (خالصة).

٥٣٠

الْأَخْيارِ ) (١) .

إنّ إيمانهم وعملهم الصالح كانا السبب في اصطفاء البارئعزوجل لهم من بين الناس لأداء مهام النبوّة وحمل الرسالة ، وعملهم الصالح وصل إلى درجة. استحقّوا بحقّ إطلاق كلمة (الأخيار) عليهم ، فأفكارهم سليمة ، وأخلاقهم رفيعة ، وتصرفاتهم وأعمالهم طوال حياتهم متّزنة ، ولهذا السبب فإنّ بعض المفسّرين يستفيدون من هذه العبارة وأنّ الله سبحانه وتعالى اعتبر أولئك أخيارا من دون أي قيد وشرط ، كدليل على عصمة الأنبياء ، لأنّه متى ما كان وجود الإنسان كلّه خيرا ، فمن المؤكّد أنّه معصوم(٢) .

عبارة (عندنا) مليئة بالمعاني العميقة ، وتشير إلى أنّ اصطفاءهم واعتبارهم من الأخيار لم يتمّ وفق تقييم الناس لهم ، التقييم الذي لا يخلو من التهاون وغضّ النظر عن كثير من الأمور ، وإنّما تمّ بعد التحقّق من كونهم أهلا لذلك وبعد تقييمهم ظاهريا وباطنيا.

وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى مقام ثلاثة أنبياء بارزين ، تشير الآية التالية ، إلى ثلاثة آخرين ، إذ تقول :( وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) .

فكلّ واحد منهم كان مثالا وأسوة في الصبر والاستقامة وطاعة أوامر البارئعزوجل ، خاصّة «إسماعيل» الذي كان على استعداد كامل للتضحية بروحه في سبيل الله ، ولهذا السبب اطلق عليه لقب (ذبيح الله) وهو الذي ساهم مع والده إبراهيمعليه‌السلام في بناء الكعبة الشريفة وتثبيت أسس التجمّع العظيم الذي يتمّ في موسم الحجّ كلّ عام.

واستعراض آيات القرآن الكريم لحياة أولئك العظام ليستلهم منها

__________________

(١) (مصطفين) (بفتح الفاء) جمع مصطفى ، وفي الأصل كانت (مصطفيين) حذفت ياؤها الاولى فأصبحت (مصطفين).

(٢) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد ٢٦ ، الصفحة ٢١٧.

٥٣١

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّ المسلمين العبر ، ومطالعة حياة أمثال هؤلاء الرجال العظام توجّه حياة الإنسان ، وتبعث فيه روح التقوى والتضحية والإيثار ، وتجعله في نفس الوقت صابرا صامدا أمام المشاكل والحوادث الصعبة.

عبارة( كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) تشير إلى أنّ الأنبياء الثلاثة (إسماعيل ، واليسع ، وذو الكفل) تنطبق عليهم كافّة الصفات التي وصف بها الأنبياء الثلاثة السابقون (إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب) الذين أطلقت عليهم الآية السابقة صفة (الأخيار) ، كما أنّ (الخير المطلق) له معان واسعة تشمل (النبوّة) و (الدار الآخرة) و (مقام العبوديّة) و (العلم والقدرة).

أمّا (اليسع) فقد ورد اسمه مرتين في القرآن المجيد ، إحداها في هذه السورة ، والاخرى في الآية (٨٦) من سورة الأنعام ، وما جاء في القرآن الكريم يوضّح أنّه من الأنبياء الكبار ومن الذين يقول عنهم القرآن في آياته :( وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) .(١)

البعض يعتقد أنّ (اليسع) هو (يوشع بن نون) أحد أنبياء بني إسرائيل المعروفين ، وقد دخلت الألف واللام على اسمه كما أبدلت الشين بالسين ، ودخول الألف واللام على الاسم غير العربي (وهذا اسم عبري) أمر غير جديد ، فمثلها مثل (إسكندر) التي تلفظ وتكتب بالعربية (الإسكندر) إذ هو نوع من التقريب.

في حين أنّ البعض يعتبرها كلمة عربية مشتقّة من (يسع) والتي هي فعل مضارع مشتقّ من (وسعت) ولتحويله إلى اسم أضيف إليه الألف واللام.

الآية (٨٦) من سورة الأنعام بيّنت أنّه من ذريّة إبراهيم ، ولكن لم تبيّن إن كان من أنبياء بني إسرائيل ، أم لا؟

أمّا فصل الملوك في كتاب التوراة فقد جاء فيه أنّ اسمه (اليشع) بن (شافات) ، ومعنى (اليشع) في اللغة العبرية هو (الناجي) فيما تعني (الشافات) (القاضي).

__________________

(١) الأنعام ـ ٨٦.

٥٣٢

وقد اعتبر قسم آخر أنّه (الخضر) ولم يتوفّر بعد أيّ دليل واضح على هذا القول.

واعتبر قسم آخر أنّه (ذو الكفل) وهذا الكلام مخالف بوضوح لما جاء في الآية مورد بحثنا ، لأنّ ذا الكفل معطوفا على اليسع.

وعلى أيّة حال ، فإنّ اليسع هو نبي له مقام رفيع وذو استقامة ، وما ذكرناه بشأنه كاف للاستلهام منه.

وأمّا (ذو الكفل) فهو أيضا معروف بأنّه أحد أنبياء الله ، وذكره ورد مع أنبياء آخرين في الآية (٨٥) من سورة الأنبياء ، وجاء بالضبط بعد اسم إسماعيل وإدريس. والبعض يعتقد أنّه من أنبياء بني إسرائيل ، وأنّه من أبناء أيّوب واسمه الحقيقي (بشر) أو (بشير) أو (شرف) والبعض يرى أنّه (حزقيل) وذو الكفل هو لقب اطلق عليه(١) .

وحول تسمية (ذي الكفل) بهذا الاسم (الكفل يعني النصيب) ويعني (الكفالة والتعهّد) وردت عدّة تفاسير ، منها :

قال البعض : إنّه سمّي بذي الكفل لأنّ الله سبحانه وتعالى أنزل عليه نصيبا وافرا من الثواب وشمله برحمته الواسعة.

وقال بعضهم : لأنّه التزم بتعهّده بقيام الليل بالعبادة ، وصيام النهار ، وعدم السخط من قضاء الله ، وبهذا اطلق عليه هذا اللقب.

وبعض آخر قال : سمّي بذي الكفل لأنّه تكفّل بمجموعة من أنبياء بني إسرائيل ، وأنقذهم من ملوك زمانهم الجبّارين.

وعلى أيّة حال ، فإنّ ما في حوزتنا اليوم من معلومات عن نبي الله ذي الكفل

__________________

(١) أعلام القرآن وتفسير القرطبي وتفسير روح البيان وتفسير الميزان ، كلّ منها أشارت إلى جزء من الموضوع المذكور أعلاه.

٥٣٣

يدلّ على استقامته في طريق طاعة وعبادة الله ، ومقاومة الجبابرة ، وأنّه نموذج بارز ليومنا الحاضر وما بعده ، رغم أنّ البعد الزمني بيننا وبينهم يحول دون المعرفة الدقيقة لتفاصيل أحوالهم.

* * *

٥٣٤

الآيات

( هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) )

التّفسير

هذا ما وعد به المتّقون :

آيات هذه السورة انتقلت بنا إلى شكل آخر من الحديث ، إذ أخذت تقارن بين المتّقين والعصاة المتجبّرين ، وتشرح مصير كلّ منهما يوم القيامة ، وهي بصورة عامّة تكمل بحوث الآيات السابقة.

في البداية ، وكخلاصة لشرح حال الأنبياء السابقين والنقاط المضيئة في حياتهم ، تقول الآية :( هذا ذِكْرٌ ) (١) .

نعم ، لم يكن الهدف من بيان مقاطع من تأريخ أولئك الأنبياء الرائع والمثير سرد بعض القصص ، وإنّما الهدف الذكر والتذكّر ، كما أكّدت عليه بداية هذه السورة( ص

__________________

(١) قال بعض المفسرين في تفسير هذه العبارة : إن المراد من الذكر الجميل هم الأنبياء السابقون.

٥٣٥

وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) .

فالهدف هو إيقاظ الأفكار ، ورفع المستوى العلمي ، وزيادة قوّة المقاومة والصمود لدى المسلمين الذي نزلت إليهم هذه الآيات(١) .

ثمّ أخرجت الأمور من طابعها الخاصّ وبيان أوضاع وأحوال الأنبياء ، إلى طابعها العامّ ، لتشرح بصورة عامّة مصير المتّقين ، إذ تقول :( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) (٢) .

بعد هذه الآية القصيرة ذات المعاني الخفيّة والتي توضّح تماما حال المتّقين بصورة مختصرة ، يعمد القرآن المجيد مجدّدا إلى اتّباع أسلوبه الخاص ، وهو أسلوب الإيجاز والتفصيل ، ليشرح ما فاز به المتّقون( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ) (٣) .

«جنّات» إشارة إلى حدائق الجنّة ، و (عدن) تعني الاستقرار والثبات ، ولهذا اطلق على المنجم الذي تحوي أعماقه أنواع الفلزات والمواد الثمينة كلمة (معدن).

وعلى أيّة حال فالعبارة هنا تشير إلى خلود حدائق الجنّة.

وعبارة( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ) إشارة إلى أنّهم لا يتكلّفون حتّى بفتح أبواب الجنّة ، إذ أنّها تنفتح بدون عناء لاستقبال أهل الجنّة ، إذ أنّ الجنّة بانتظارهم ، وعند ما تراهم تفتح لهم أبوابها وتدعوهم للدخول إليها.

ثمّ تبيّن الهدوء والسكينة التي تحيط بأهل الجنّة ، إذ تقول :( مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ ) (٤) . أي إنّهم متكئون على سرر فيها ، وقد هيّئت

__________________

(١) مجموعة من المفسّرين اعتبرت (هذا ذكر) إشارة إلى أنّ كلّ ما قيل بشأن الأنبياء من ذكر خير وثناء جميل كان إشارة إلى أولئك ، فيما تستعرض الآيات التالية مرتبتهم في الآخرة ، ولكن هذا المعنى مستبعد ، وظاهر الآيات لا يتناسب مع ما ذكرناه أعلاه.

(٢) «مآب» تعني المرجع ، وإضافة (حسن) إلى (مآب) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف.

(٣) «جنّات عدن» بدل أو عطف بيان (مآب).

(٤) الضمير (فيها) يعود في كلا الحالتين على (جنّات عدن) ووصف الفاكهة بأنّها كثيرة دليل على وصف (الشراب) بهذا الوصف. (متكئين) حال للضمير (لهم).

٥٣٦

لهم مختلف أنواع الفاكهة والأشربة ، وإنّهم متى ما طلبوها فإنّها تأتيهم في الحال.

وهنا يطرح سؤال هو : هل أنّ هناك من يحمل تلك الفاكهة ، والأشربة ويقدّمها لأهل الجنّة ، أم أنّها تأتيهم من دون أن يحملها أحد إليهم؟

كلا الاحتمالين واردان.

والتأكيد على «الفاكهة» و «الشراب» لعلّه إشارة إلى أنّ الفاكهة هي أكثر غذاء أهل الجنّة رغم وجود أنواع اخرى من الغذاء ذكر في بعض آيات القرآن المجيد ، كما هو الحال في عالم الدنيا إذ أنّ الفاكهة تشكّل أفضل وأسلم غذاء للإنسان.

صفة (كثيرة) تشير إلى وجود أنواع مختلفة من الفاكهة ، وأنواع متعدّدة أيضا من الشراب الطاهر الذي يتوفّر في الجنّة ، وذلك ما أشارت إليه أيضا آيات مختلفة في القرآن المجيد.

بعد هذا تتطرّق الآيات للزوجات الصالحات في الجنّة ، إذ تقول :( وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ) .

«الطرف» جفن العين ، وأحيانا يأتي بمعنى النظر ، ووصف آخر نساء الجنّة بقاصرات الطرف (أي ذوات النظرات القصيرة) يشير إلى اقتصار نظرهنّ على أزواجهنّ فقط ، وحبّهن وعشقهنّ لهم وعدم تفكيرهم بسواهم ، وهذه من أفضل مزايا وحسنات الزوجات.

وقال مفسّرون آخرون : إنّها تعني التغطية بالخمار الذي يضفي على العين جمالا.

ولا يوجد مانع يحول بين جمع المعنيين.

كلمة (أتراب) تعني (الأقران) ، وهو وصف لنساء الجنّة ، فاقتران عمر الزوج والزوجة ـ أي تساويهما ـ يضاعف من المحبّة بين الزوجين ، أو أنّه صفة لنساء أهل الجنّة ، وإنّهنّ جميعا شابات وفي عمر واحد(١) .

__________________

(١) (أتراب) جمع (ترب) على وزن (شعر).

٥٣٧

الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى النعم السبع التي يغدقها البارئعزوجل على أهل الجنّة ، والتي وردت في الآيات السابقة ، قال تعالى :( هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ) .

وعد لا يخلف ، ويبعث في نفس الوقت على النشاط لمضاعفة الجهد ، نعم إنّه وعد من الله العظيم.

وللتأكيد على خلود هذه النعم ، جاء في قوله تعالى :( إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ) (١) .

أي أنّ النعم في الجنان خالدة ولا تنفد ولا تزول كما في الحياة الدنيا ، وأنّها تزداد دائما من خزائن الله المملوءة وغير المحدودة ، ولا يظهر عليها أي نقص ، لأنّ الله أراد ذلك.

* * *

__________________

(١) (نفاد) تعني (فناء) وإبادة ، و (اللام) في (لرزقنا) جاءت للتأكيد.

٥٣٨

الآيات

( هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) )

التّفسير

وهذه هي عاقبة الطغاة!

الآيات السابقة استعرضت النعم السبع وغيرها من النعم التي يغدقها البارئعزوجل على عباده المتّقين ، أمّا آيات بحثنا فإنّها تستخدم أسلوب المقارنة الذي كثيرا ما استخدمه القرآن الكريم ، لتوضيح المصير المشؤوم والعقوبات المختلفة التي ستنال الطغاة والعاصين ، قال تعالى :( هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) (١) .

__________________

(١) كلمة (هذا) مبتدأ وخبرها محذوف ، وتقديرها هو (هذا الذي ذكرناه للمتّقين).

٥٣٩

فالمتّقون لهم (حسن مآب) ، ولهؤلاء العاصين الطغاة (شرّ مآب).

ثمّ تعمد آيات القرآن المجيد إلى الاستفادة من أسلوب الإيجاز والتفصيل ، إذ تقول :( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ ) (١) . أي إنّ جهنّم هي المكان المشؤوم الذي سيردونه ، وإنّهم سيحترقون بنيرانها ، فيا لها من فراش سيء.

والظاهر أنّ عبارة (يصلونها) (أي يدخلون في جهنّم ويحترقون بنيرانها) يراد منها بيان أن لا يتصوّر أحدهم أنّه سيرى جهنّم من مسافة بعيدة ، أو أنّه سيستقرّ بالقرب منها ، كلّا ، بل إنّه سيرد إلى داخلها ، ولا يتصوّر أحدهم أنّه سيعتاد على نار جهنّم ومن ثمّ يستأنس بها ، كلّا ، فإنّه يحترق فيها على الدوام.

«مهاد» كما قلنا من قبل ، تعني الفراش المهيّأ للنوم والاستراحة ، كما تطلق على سرير الطفل.

وبالطبع فإنّ الفراش هو مكان استراحة ، ويجب أن يكون مناسبا ـ في كلّ الأحوال ـ لوضع الشخص وملائما لرغبته ، ولكن كيف سيكون حال الذين خصّصت لهم نار جهنّم فراشا؟!

ثمّ تتطرّق الآيات إلى أنواع اخرى من العذاب الإلهي ، إذ تقول :( هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) (٢) . أي يجب عليهم أن يشربوا الحميم والغسّاق.

«الحميم» هو الماء الحارّ الشديد الحرارة ، والذي هو أحد أنواع أشربة أهل جهنّم ، ويقابل (الشراب الطهور) الذي ذكرته الآيات السابقة المخصّص لأهل الجنّة.

وكلمة (غسّاق) من (غسق) على وزن (رمق) وتعني شدّة ظلمات الليل. أمّا ابن عبّاس فقد فسّرها بأنّها شراب بارد جدّا (بحيث إنّ برودته تحرق وتجرح أحشاء

__________________

(١) (جهنّم) عطف بيان أو بدل من (شرّ مآب) ، و (يصلونها) حال لها.

(٢) هذه الجملة في الأصل كانت هكذا (هذا حميم وغسّاق فليذوقوه) ، وللتأكيد وضعت عبارة (فليذوقوه) بين المبتدأ والخبر. بعض المفسّرين احتملوا أنّ (هذا) خبر لمبتدأ محذوف كما أنّ (حميم وغسّاق) كذلك ، ولكن يبدو أنّ الاحتمال الأوّل أدقّ وألطف.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581